ترجمات المادة
الوصف المفصل
البرهان في وجوب اللجوء إلى الواحد الديان
عبد الله بن عبد الرحمن السعد
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد.
فإن مما انتشر بين الناس وذاع، دعاء غير الله - سبحانه وتعالى -، فيما لا يقدر عليه إلا الله - عز وجل - في قضاء الحاجات وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات وشفاء الأمراض ورزق الأولاد وهذا لا شك أنه محرم في دين الإسلام؛ بل هو من دين الجاهلية ومن الشرك بالله - عز وجل.
والدليل على بطلان ذلك من عشرة أوجه:
أولاً: أن الله - عز وجل - نهى عن دعاء غيره فقال لنبيه الكريم ﷺ ]وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ[ [يونس: 106].
وقال - عز وجل: ]وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [ [الأحقاف: 5، 6]
وقال تعالى: ]وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا[ [الجن: 18] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ثانيا: أن الله - عز وجل - أمر بدعائه وحده دون ما سواه فقال: ]وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [[غافر: 60]
وقال: ]وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلهُمْ يَرْشُدُونَ[ [البقرة: 186]
وقوله: ]أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [ [النمل: 62] أي: هل هناك مع الله أحد يستطيع على ذلك سواه؟! الجواب: لا، بل هو المتفرد وحده بذلك.
وقوله: ]قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ[[الأعراف: 29]
وقوله: ]هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[[غافر: 65]
وقوله: ]ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ[[الأعراف: 55-65].
روى الترمذي من حديث قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني عن ابن عباس قال: كنت خلف النبي ﷺ فقال: «يا غلام أني معلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استنعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف».
وإسناده جيد، قال الترمذي حديث حسن صحيح.
ثالثًا: بين الله - عز جل - في كتابه العظيم أن من دعى غير الله - تعالى - فقد وقع بالكفر والشرك بالله - عز وجل - فقال تعالى :]وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ[[المؤمنون: 117] فمن فعل ذلك فهو من الكافرين كما في الآية الكريمة.
وقوله تعالى: ]وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ[[الأحقاف: 5، 6] فبين - عز وجل - أنه لا اظلم ممن فعل ذلك وهو دعاء غير الله.
وقوله تعالى: ]قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا[[الجن: 20] أي: لا أشرك به في دعاء غيره من المخلوقين.
رابعا: أن الله - عز وجل - بين أن الخلق مهما بلغوا من المكانة عنده فهم لا يقدرون على شيء، إلا ما أقدرهم عليه، وأنهم فقراء إليه، وهم بشر مثلهم ويعتريهم ما يعتري البشر، فيأكلون ويشربون ويمرضون ويموتون.
فقال تعالى: ]يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ[ [فاطر: 15] .
وقال تعالى عن موسى عليه السلام: ]رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ[ [القصص: 24].
وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ]وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ[ [الشعراء: 80] .
وحكي عن عيسى عليه السالم وأمه أنهما كانا يأكلان الطعام فقال: ]مَا الْمَسِيحُ بْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ[ [المائدة: 75].
وقال: ]قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ بْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [[المائدة: 17]
وقال: ]وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ [[الفرقان: 20]
وقال عن نبيه محمد ﷺ ]إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ[ [الزمر: 3]
وقال: ]وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ[[الكهف: 23]
وقال: ]قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا[ [الكهف: 110] بل أخبر تعالى أن بعض الأنبياء قد قتله قومه فقال: ]أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُـكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ[[البقرة: 87].
فالذي نصل إليه الدعاء لا يكون إلا له، لأنه هو الرب القادر على كل شيء والمتفرد بذلك دون ما سواه من الخلق.
قال تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[[الأعراف: 194]
وقال: ]يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ[[الحج: 73]
وقال: ]وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا[[الفرقان: 65].
خامسا: أن الله - عز وجل - أخبر أن الأنبياء والرسل الكرام - عليهم الصلاة والسلام - والصالحين من عباده بل والملائكة أنهم لا يدعون غير الله - عز وجل - في جميع أمورهم ومختلف أحوالهم، فالواجب اتباعهم والاقتداء بهم.
فقال - تعالى - عن نبيه يونس - عليه السلام - لما كان في بطن الحوت ]وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ[[الأنبياء: 87، 88]
وقال: ]وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ[[الأنبياء: 89 -90]
وقال تعالى عن نبيه أيوب إذا دعاه فقال: ]وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ[[الأنبياء: 83، 84]
وقال تعالى: ]الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[[غافر: 7، 8].
وفي الصحيح عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال النبي ﷺ يوم بدر: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد»، فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك فخرج وهو يقول: «سيهزم الجمع ويولون الدبر».
قال الحافظ في الفتح، وعند الطبراني بإسناد حسن عن ابن مسعود قال: ما سمعنا من منشدا ينشد ضالة أشد مناشدة من محمد لربه يوم بدر: «اللهم إني أنشدك ما وعدتني» .
سادسًا: أن الكون وما فيه كله الله - تعالى - وبيده وتحت تصرفه وتدبيره إذن هو الذي يجب أن يدعي وحده لأن الملك ملكه والخلق خلقه والأمر أمره.
قال تعالى: ]الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى[[طه: 5، 6].
وقال تعالى: ]يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[ [الحديد: 4].
وقال تعالى: ]إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[[فاطر: 14].
وقال تعالى: ]اللهُ الصَّمَدُ[[الإخلاص: 4] والصمد هو الذي تصمد إليه الخلائق في طلب حاجاتها.
سابعًا: أن الله - تعالى - ذكر عن أنبياءه ورسله الكرام - عليهم الصلاة والسلام - أنهم في بعض الأحيان سألوا الله - تعالى - في بعض أمورهم فلم يستجب لهم ولم يتحقق لهم مرادهم كما قال - تعالى - عن نبيه محمد ﷺ ]إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ[[القصص: 56].
وقال أيضا: ]اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ[[التوبة: 80]
وقال: ]مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ[[التوبة: 113].
وقال عن إبراهيم - عليه السلام: ]وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ[[التوبة: 114].
ومعلوم أن الله - تعالى - لم يستجب لإبراهيم في هذا.
وقال عن نوح: ]وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ[[هود: 45-47] فكيف يدعون من دون الله - تعالى.
وانظر أيضا أي ما حصل يوم أحد لما قاتل المسلمون بقيادة رسول الله ﷺ المشركين وأرادوا النصر عليهم فلم يتم ذلك مع أنهم بذلوا الأسباب فقد أنزل الله - عز وجل - آيات كثيرة في سورة آل عمران فيها تربية وتوجيه للمسلمين بسبب ما حصل عليهم.
وانظر أيضا إلى ما حصل من علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في معركة صفين حاول أن ينتصر على الطرف المقابل وبذل وسعه فلم يتم له هذا المراد.
وانظر أيضا إلى الحسين - رضي الله عنه - فقد قاتل دافع عن نفسه إلى أن قتل -رضي الله عنه - وهو وجمع من أهل بيته فلم يستطيع أن يدفع ن نفسه أو أهل بيته شيئًا.
فأين هؤلاء الذين يدعون عليًا والحسين من دون الله - عز وجل- ؟ لم يستطيعوا أن يدفعوا عن أنفسهم أو يردوا قدر الله السابق فيهم وعن أهل بيتهم وهذا أمر معلوم بالعقل لا يستطيع أحد من الناس أن ينفك عنه وأمر مشاهد محسوس لا يمكن دفعه وقد كان علي والحسين - رضي الله عنهما - يلجئون إلى ربهم في حالات الشدة ويدعونه فعلى من يزعم محبتهم أن يسلك سبيلهم ويتبع طريقتهم.
وقد وصل الأمر ببعض الناس أنه في بيت الله الحرام وعند الكعبة، عندما أراد أن يقوم قال: يا علي! فسمعه بعض أهل العلم فقال له: لو كنت في بيت أحد من الناس واحتجت إلى حاجة من البيت هل تذهب إلى جار صاحب البيت أو تسأل صاحب البيت نفسه، فما كان منه إلا أن قال: أسأل صاحب البيت نفسه، فانظر بارك الله فيك أنه لم يستطع دفع ذلك بل اعترف بالحق.
ولذا قال - تعالى: ]أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا[[الإسراء: 57] .
واضرب مثلا آخر يعقله كل الناس على سبيل المثال: فلو أن رجل أغناه الله - عز وجل - وأعطاه من الأموال الشيء الكثير وله أولاد وكان دائما يقول لأولاده إذا احتجتم إلى شيء من المال أو الطعام أو الكساء فأخبروني فكان هؤلاء الأولاد لا يطلبون منه بل يذهبون إلى الجيران ويسألونهم فهل فعلهم موافق للعقل أو من السفه المنافي للعقل؟ وهذا فيما يتعلق بالخلق فكيف بالله - عز وجل - الذي له المثل الأعلى.
فعلى العبد أن يتجه إلى ربه الذي هو خالقه وسيده ومولاه في قضاء حاجاته وتفريج كرباته.
وقد يحتج بعض الناس بمعجزات الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في دعائهم من دون الله وأن موسى عليه السلام مثلاً كان يضرب الحجر فيخرج منه الماء وأن عيسى كان يحي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص.
فأقول جوابا عن ذلك:
أولاً: أن هذه المعجزات إنما هي من الله قال تعالى: ]قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ[[آل عمران: 49].
فعلى العبد أن يسأل الله الذي أعطى هذه المعجزات لهم.
ثانيًا: أن هؤلاء الأنبياء عليهم السلام كانوا يسألون الله - عز وجل - كما تقدم في الآيات فعليك يا أيها المرء أن تقتدي بهم فهم القدوة والأسوة الحسنة.
ثالثًا: أن الأدلة السابقة واضحة في الدلالة على المنع من ذلك بل الذي ينبغي فما يقدر عليه الإنسان الأولى أن تبدأ بربك - عز وجل - أولا.
وقد حكي عن أبي جعفر محمد الباقر - رحمه الله تعالى- أنه قال: من عرضت له حاجة إلى مخلوق فليبدأ بالله - عز وجل([1]).
ثامنًا: أن الله - عز وجل - كما أمر عباده أن يدعوه وحده ونهى عن دعاء غيره فهو يحب من عباده أن يدعوه ويستغيثوا به ويلجئوا إليه في جميع أمورهم ومختلف شئونهم فالدعاء عبادة محبوبة لله - تعالى - فالذي يدعو ربه - تعالى - يفعل شيئًا محبوبًا له مقربًا لديه، ودليل ذلك الحديث القدسي وهو حديث عظيم قال - عليه الصلاة والسلام: «ينزل ربنا في كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له».
وقد جاء هذا الحديث عن جمع من الصحابة وهو في الصحيحين والسنن والمسانيد وهو حديث صحيح متواتر وللدارقطني جزء في ذلك.
فانظر إلى هذا الكرم الإلهي يدعو عباده لكي يسألوه ويدعوه وذلك في كل ليلة وهو غني عنهم فعلى العبد أن يغتنم هذا الكرم العظيم من قبل الرب - عز وجل. فيكثر من دعاءه وسوف يجد انشراح في قلبه وراحة في نفسه وزيادة في إيمانه.
قال تعالى: ]وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا[[النساء: 32].
وقد أخرج مسلم من حديث أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر الغفاري عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه - عز وجل - أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع، إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عارًا إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم».
وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله :ﷺ «من لم يسأل الله يغضب عليه» وقد قوي هذا الحديث بعض أهل العلم والحديث فيه ضعف ولكن نصوص الكتاب والسنة تشهد لمعناه فالذي لا يسأل الله - تعالى - مطلقا ولا في شيء من أموره لا شك أن الله - تعالى - يغضب عليه لأنه لم يتخذ الله ربًا وإلهًا والدعاء منه ما هو واجب مثل سؤال الله الهداية لقوله تعالى: ]اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ[[الفاتحة: 6] سؤال الله المغفرة مثل الدعاء بين السجدتين.
وقد نظم بعضهم هذا المعنى فقال:
وبني آدم حين يسأل يغضب | الرب يغضب إن تركت سؤاله |
تاسعًا: كما أن الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة دلت على منع سؤال غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله ففطرت الإنسان دلت على ذلك لأن الله - عز وجل - فطر العباد على التوجه إليه ودعاؤه في وقت الشدة وحلول المصيبة وهذا في كل الناس حتى الكافر منهم كما ذكر الله - تعالى - عن المشركين فقال: ]حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ[[يونس: 22].
وقال عنهم: ]وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا[[الإسراء: 67].
بل حتى الحيوانات مفطورة على التوجه إلى ربها وفاطرها قال تعالى عن هدهد سليمان - عليه السلام: ]فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ[[النمل: 22-24].
فانظر كيف أنكر هذا الحيوان الطائر على هؤلاء الذين توجهوا لغير الله لأن ذلك فطرة فطر الله - عز وجل - عليها جميع الخلق إنسهم وجنهم وناطقهم وأعجمهم.
العاشر: كما أن الشرع والفطرة دل على ذلك فكذلك العقل كما تقدم فالإنسان بعقله يعلم أن هؤلاء المدعوين مثله في الخلق والبشرية، فكيف يستغيث بهم من دون الله ويلتجئ إليهم، ويسألهم الشفاء والرزق وهم مثله.
قال تعالى عن نبيه ﷺ ]قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا[[الكهف: 110].
وقال تعالى: ]قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[[إبراهيم: 11].
وتقدم في الآية: ]إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ[[الأعراف: 194].
حتى فيما يقدر عليه العباد ويكون في وسعهم القيام به ينبغي سؤال الله - تعالى - وقطع الالتفات إلى الخلق لكن مع الأسف أننا نجد أن بعض الناس إذا أصيب بمرض مثلاً ذهب إلى من يرقيه بينما كان ينبغي عليه أن يرقي نفسه ابتداء وما من أحد من المسلمين إلا بحمد الله يستطيع أن يقرأ على نفسه بالفاتحة وآية الكرسي والمعوذات ونحو ذلك من السور والآيات.
ولا يخفى أن الإنسان عندما يرقي نفسه بنفسه لا شك أنه سوف يجتهد بالرقية وتكون قراءة بحضور قلب وتعلق بالله - عز وجل.
وهي أحرى بالإجابة، فكم من شخص رقى نفسه فشفاه الله - عز وجل.
ومن ذلك أيضًا أن بعض الناس إذا احتاج إلى وظيفة أخد يبحث عن واسطة وأخذ يكلم فلان وفلان ولا يلجئ إلى ربه أولاً في أن ييسر له هذه الوظيفة وأذكر هنا قصة واقعية سمعتها من إذاعة القرآن الكريم وهي أن شخصًا أراد وظيفة ما، فذهب إلى أصحاب الشأن فلم يلتفتوا إليه فضاق به الأمر فذهب إلى أحد أهل العلم يريد شفاعته فأرشده إلى اللجوء إلى الله - عز وجل - فأخذ بنصيحته فقام قبل الفجر فأخذ يصلي ويدعو الله - عز وجل - ثم بعد ذلك ذهب إلى من كان قد ذهب إليهم فيما سبق في طلب الوظيفة فتيسرت له هذه الوظيفة حتى قال له أحد المسئولين الذي قد ذهب إليه في المرة الأولى ولم يلتفت إليه قال له أين أنت؟
بل إنك تجد بعض الناس حتى في الدعاء لنفسه يطلب من الناس أن يدعو له وربنا يقول: ]وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[[غافر: 6] .
ولقوله: ]وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلهُمْ يَرْشُدُونَ[[البقرة: 186].
وقد جاء عن بعض السلف وهو أصبغ بن زيد الوراق أنه قال: مكثت أنا ومن عندي ثلاثًا لم نطعم طعامًا فخرجت إليّ ابنتي الصغيرة فقالت: يا أبت الجوع فتركتها وأتيت الميضأة فتوضأت للصلاة وصليت ركعتين، ومددت يدي لأدعو فأنسيت ما كنت أحسنه في الدعاء، فقلت: اللهم إن كنت حرمتني من الرزق فلا تحرمني من الدعاء، فألهمت أن قلت: اللهم خشعت الأصوات لك، وضلت الأحلام فيك، وضاقت الأشياء دونك، وهرب كل شيء منك إليك، وتوكل كل مؤمن عليك، فأنت الرفيع في جلالك، وأنت البهي في جمالك، وأنت العلي في قدرك، يا من هو في علوه دان، وفي دونه عال، وفي سلطانه قوي صل على محمد وعلى آل محمد وافتح عليّ منك رزق، لا تجعل عليّ فيه منّة، ولا لك علي فيه في الآخرة تبعة، برحمتك يا أرحم الراحمين، ثم انصرفت إلى البيت، فإذا ابنتي الكبيرة قد قامت إلي وقالت: يا أبي قد جاء الساعة عمي بهذه الصرة من الدراهم، يحمل عليه دقيق، وجمل عليه من كل شيء في السوق وقال: اقرءوا أخي السلام، وقولوا له: إذا احتجت إلى شيء فادع بهذا الدعاء : تأتك حاجتك.
قال: أصبغ: والله ما كان لي أخ قط، ولا أعرف من كان هذا القائل، ولكن الله على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين([2]).
قلت: موضع العبرة في هذه القصة أن هذا رجل توجه إلى ربه وصلى ركعتين ومد يديه إليه فجاءه الفرج سريعًا من قبل الله - عز وجل.
وهذه قصة ذكرها أبو محمد ابن حزم وقعت لأبيه ابن حزم وكان وزيرًا لأحد الملوك في بلاد الأندلس وهو المنصور بن أبي عامر وهي قصة ثابتة فقد قال ابن حزم أخبرني هشام بن محمد عن أبيه أنه كان بين المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر في بعض مجالسه للعامة، فرفعت إليه رقعة استعطاف لأم رجل مسجون كان ابن عامر حنق عليه بجرم استعظمه، فلما قرأها اشتد غضبه، وقال: ذكرتني والله به وأخذ القلم يوقع وأراد أن يكتب يصلب فكتب: يطلق ورمي الكتابة إلى الوزير فأخذ أبوك القلم، وتناول رقعة، وجعل يكتب بمقتضى التوقيع إلى صاحب الشرط فقال له ابن أبي عامر: ما هذا الذي تكتب؟ قال: بإطلاق فلان ، فرد وقال: من أمر بهذا؟ فناوله التوقيع فلما رآه قال: وهمت ثم خط على ما كتب وأراد أن يكتب: يصلب فكتب: يطلق، فأخذ والدك الرقعة فلما رأى التوقيع: تمادى على ما بدأ به من الأمر بإطلاقه ونظر إليه المنصور متماديًا على الكتاب فقال: ما تكتب؟ قال: بإطلاق الرجل فغضب غضبًا أشد من الأول وقال: من أمر بهذا ؟ فناوله الرقعة فرأى خطه فخط على ما كتب وأراد أن يكتب: يصلب فكتب: يطلق، فأخذ والدك الكتاب، فنظر ما وقع به ثم تمادى فيما كان بدأ به، فقال له: ماذا تكتب؟ قال: بإطلاق الرجل، وهذا الخطاب ثالثًا بذلك فلما رآه عجب، وقال: نعم يطلق على رغمي فمن أراد الله إطلاقه لا أقدر أنا على منيته أو كما قال ([3]).
انظر إلى هذا الملك أراد أن يكتب يصلب فلم يمكنه الله - عز وجل - مع حرصه حتى فعل ذلك ثلاثًا وهو يستطيع أن يكتب ذلك فأراد الحرف إلا فجعل يكتب يطلق بدل يصلب حتى انتبه للمرة الأخيرة، فأمر بإخراجه وقال من أراد الله إطلاقه لا أقدر على منيته. صدق الله تعالى: ]أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ[[الأنفال: 24] فهذه أمه الرجل توجهت إلى ربها - عز وجل - بالدعاء بإطلاق ولدها فاستجيب لها.
قال أبو العباس أحمد بن عبد الحليم: وأصل سؤال الخلق الحاجات الدنيوية التي لا يجب عليهم فعلها ليس واجبًا على السائل ولا مستحبًا، بل المأمور به سؤال الله تعالى والرغبة إليه والتوكل عليه، وسؤال الخلق في الأصل محرم لكنه أبيح للضرورة، وتركه توكلاً على الله أفضل
قال تعالى: ]فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ[[الشرح: 7، 8] أي: ارغب إلى الله لا إلى غيره ([4]),. وبالله تعالى التوفيق.
إملاء:
الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن السعد
كتبها سعد بن محمد القحطاني
24 ذو القعدة 1427هـ.