ترجمات المادة
الوصف المفصل
الدعوة إلى الله
تاليف فضيلة الشيح
زيد بن عبدالعزيز الفياض
قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108].
وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33].
قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ [آل عمران: 187].
وقال تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 51].
وقوله - تعالى -: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل: 125].
وقال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 1 - 3].
وقال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199].
وقال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104].
وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ [البقرة: 159].
وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].
وقال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 158].
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا *وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ [الأحزاب: 45 - 46].
وقال الرسول ﷺ: ((بلِّغوا عنِّي ولو آية))، وقال: ((رُبَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع))، وقال: ((ألاَ هل بلغت، اللهم فاشهد)).
وكان النبيُّ ﷺ يأتي القبائلَ يدعوها إلى الله، ويَعْرِض عليها أنْ تُؤوِيَه حتى يُبلِّغ رسالةَ ربه، صابرًا على الأذى كما جرى له في الطَّائف عندما أغْرَوا به سُفهاءهم يرجُمونه بالحجارة؛ حَتَّى دَمِيَت قدماه، وهو يقول: ((إنِّي رسولُ الله وإن كذبتموني))، وما حصل له من الإيذاء من مُشركي مكة وغيرهم، ويقول: ((اللهم اغفر لقومي، فإنَّهم لا يعلمون)).
وأرسل الدُّعاة؛ ليُبيِّنوا الأحكامَ الشرعية، وليقيموا العدلَ بين الناس، ويُزيلوا آثارَ الجاهلية وخرافاتِها، كما أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن، والعلاء بن الحضرمي وأبا عبيدة بن الجراح إلى البَحرين، وأبا موسى الأشعري إلى اليمن، وأرسل مصعب بن عمير لأهل المدينة يعلِّمهم القرآن، وأرسل القراء مع ملاعب الأسنة إلى ذات الرجيع.
وكتب إلى الملوك والرُّؤساء يدعوهم للدُّخول في دين الإسلام، ويُبيِّن لهم ما هم عليه من الضَّلال، فكتب إلى كسرى، وقيصر، والنجاشي، والمقوقس، وهوذة بن علي الحنفي، والمنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين، وابني الجلندي الأزديين بِعُمَان، والحارث بن عبد كلال الحميري باليمن، ومسيلمة الكذاب، وفروة بن عمرو الجذامي وغيرهم.
وهذه نماذج من كتب سيد الخلق، وأفضل ولد آدم - عليه الصلاة والسلام -:
((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسولِ الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتَّبع الهدى.
أما بعد: فإنِّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، أسلم يؤتِك الله أجرَك مرتين)).
وكان الرسول ﷺ في بادئ الأمر يدعو إلى الدِّين خُفْيَة مدةَ ثلاث سنين، فلما فَشَا الإسلام بمكة، نزل قوله - تعالى -: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الحجر: 94].
فجاهر الرسولُ بالدَّعوة إلى الإسلام، غَيْرَ عابئ بالمشركين، فلَمَّا عاب آلهتَهم عندئذٍ أنكروا عليه، وأجمعوا على خلافه، ولكنَّ الرسول مضى في سبيله، مُظهرًا للدين، مُنكرًا على المشركين ما هم عليه من عبادة الأوثان، فطَلَب المشركون من أبي طالب أنْ يَمنع الرسولَ من عيب آلهتهم، وعرضوا على الرسولِ المُغريات، فما ثناه ذلك عن أداء رسالته، ثُم هدَّدوا الرسولَ وعَمَّه وناصبوهما العَداء، فما زاده إلا صلابةً في الحقِّ، وجهرًا به، مع شِدَّة ما لقيَهُ من الإيذاء هو وأصحابه من المشركين.
وكان الصِّراع بين المسلمين والمشركين غيرَ مُتكافئ؛ من حيث الكَثْرة العددية، والقُوة المادية، ولكن قوة الإيمان لدى المؤمنين جعلت من صمود المؤمنين مثلاً يفوق التصوُّر.
كان أصحابُ الرسول ﷺ في أولِ الأمر إذا صَلُّوا ذهبوا إلى الشِّعاب يستخفون بصلاتِهم، وذات يوم كان سعد بن أبي وقاص في نَفَر من الصحابة في أحد الشعاب يصلون، فأبصرهم بعضُ المشركين، فعابوا عليهم ما يصنعون، حتى قاتلوهم، فضرب سعدُ بن أبي وقاص رجلاً من المشركين بلَحْيِ بَعير، فشَجَّه، فكان أول دم هُرِيق في الإسلام.
ولا عجب، فقدوتهم المصطفى ﷺ الذي ضرب أروع الأمثلة في الصبر والجهاد، وإبلاغ رسالة الله إلى العالمين.
فها هم كبراء قريش يَمشون إلى أبي طالب، ويقولون له: يا أبا طالب، إنَّ ابنَ أخيك قد سَبَّ آلهتنا، وعاب دينَنا، وسَفَّه أحلامنا، وضلَّل آباءنا، فإمَّا أن تكُفَّه عَنَّا، وإمَّا أن تُخلي بيننا وبينه، فإنَّك على مثل ما نَحن عليه من خلافه، فنكفيكه، فقال لهم أبو طالب قولاً رقيقًا، ورَدَّهم ردًّا جميلاً، فانصرفوا عنه[1].
ولكنَّ الرسول ﷺ مضى في سبيله داعيًا إلى الله، مُنكرًا ما يفعله المشركون من عبادة الأوثان، فامتلأت صُدورهم حَنَقًا على الرسول، فمشوا إلى أبي طالب قائلين: يا أبا طالب، إن لك سنًّا وشرفًا ومنزلةً فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهَه عنَّا، وإنَّا والله، لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنَّا أو ننازلك وإياه في ذلك حتى يَهْلِك أحدُ الفريقين أو كما قالوا له.
وعَظُم ذلك على أبي طالب، فطلب من الرسول ﷺ أن يرفُق به، ولا يحمِّل نفسه ولا يحمِّله ما لا يُطيق، وظن رسول الله ﷺ أنَّ عَمَّه قد ضَعُف عن نصرته، وأنه سيسلمه للمشركين، فقال الرسولُ الكريم ﷺ: ((يا عمِّ، والله لو وضعوا الشمسَ في يَميني، والقَمَر في يَساري، على أنْ أترُك هذا الأمر، حتى يظهره الله أو أَهْلِك فيه، ما تركته))، فقال أبو طالب: "اذهب يا ابن أخي، فقُلْ ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا"، ثم عرضوا على أبي طالب أنْ يُسلم لهم الرسول ﷺ ليقتلوه، وأن يدفعوا لأبي طالب بدلاً عنه عمارةَ بن الوليد بن المغيرة، أقوى فتًى في قريش وأجملهم، فغَضِب أبو طالب من هذا العَرْض المُهين، واشتَدَّ الخصام، وتنابذ القومُ، وحَمِيَت الحرب، وتألَّب المشركون على من أسلم يفتنونه عن دينه، ويُعذبونه أشدَّ العذاب، وكان أبو طالب ومَن معه من بني هاشم وبني المُطَّلِب إلى جانب الرسول ﷺ يدافعون عنه، وكان المشركون في جانبٍ آخر هو جانب العَداء والمكائد والتآمر.
فقد اجتمع رُؤساء المشركين وتدارسوا خُطةً ينفرون بها الناسَ عن الرسول، واستعرضوا اتهامه بالشِّعر والجنون، فلم تَرُقْ لهم الفكرة، ولكن اتفقوا على رميه بالسحر، فكانوا يَجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم، لا يَمر بهم أحدٌ إلا حذروه منه، وذكروا له أمره، زاعمين أنَّه جاء بقولٍ هو سحر يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته.
وانتشر ذكر رسول الله ﷺ بين العرب، وبلغ البُلدان، وكان أهل المدينة كثيرًا ما يسمعون من أحبار اليهود أنَّ نبيًّا سيبعث وقد أظل زمانه, وقد جحد اليهودُ نبوة الرسول؛ حَسَدًا وبَغْيًا، كما قال تعالى: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [البقرة: 89 - 90].
أمَّا أهل المدينة من الأوس والخزرج، فقد سارعوا إلى الإسلام، وكانوا نعمَ الأنصار.
وأمَّا قريش، فقد ازدادوا إصرارًا على عنادهم وتكذيبهم؛ فأغروا بالرسولِ سُفهاءهم، فكذَّبوه وآذوه ورَمَوه بالسِّحر، والجنون، والشعر، والكهانة، ورسول الله ﷺ يَجهر بدَعْوته لا يُثنيه عن ذلك شيء، وكان المشركون لا يَدَّخرون وسيلةً في إيذائه إلاَّ عملوها...
قال ابن كثير في تفسير قوله - تعالى -: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33]: "وهذه عامَّة في كلِّ مَن دعا إلى خيرٍ وهو في نفسه مُهتدٍ، ورسول الله ﷺ أَوْلَى الناس بذلك، كما قال محمد بن سيرين، والسُّدِّيُّ، وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم، وقيل: المرادُ بِها المؤذِّنون الصلحاء، كما ثَبَت في "صحيح مسلم": ((المؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة)).
وقالت عائشة - رضي الله تعالى عنها -: ولهم هذه الآية: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33]، قالت: فهو المؤذن إذا قال: حَيَّ على الصلاة، فقد دعا إلى الله، وهكذا قال ابنُ عمر - رضي الله عنهما - وعكرمة: إنَّها نزلت في المؤذنين...".
ثم قال ابنُ كثير: "والصحيحُ أنَّ الآيةَ عامَّة في المؤذنين وفي غيرهم، فأمَّا حالُ نزول هذه الآية، فإنَّه لم يكن الأذانُ مَشروعًا بالكلية؛ لأنَّها مكية والأذان إنَّما شرع بالمدينة بعد الهجرة حين أُرِيَه عبدالله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري - رضي الله عنه - في منامه، فقَصَّه على رسول الله ﷺ فأمره أن يلقيه على بلال - رضي الله عنه - فإنه أندى صوتًا، كما هو مقرر في مَوضعه، فالصحيح إذًا أنَّها عامَّة، كما قال عبدالرزاق عن معمر عن الحسن البصري أنَّه تلا هذه الآية: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33]، فقال: هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحبُّ أهل الأرض إلى الله، أجاب اللهُ في دَعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دَعوته، وعمل صالحًا في إجابته، وقال: إنَّني من المسلمين، هذا خليفة الله"[2].
وقال ابن كثير أيضًا في تفسير قوله - تعالى -: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: 108]: "يقول تعالى لرسوله ﷺ إلى الثَّقلين: الجن والإنس آمرًا له أنْ يُخبِر الناس أنَّ هذه سبيله؛ أي: طريقه ومَسلكه وسنته، وهي الدَّعوة إلى شهادة أن لا إلهَ إلا الله وَحده لا شريك له - يدعو إلى الله بها على بَصيرة من ذلك ويَقين وبرهان, هو وكل مَنِ اتَّبعه يدعو إلى ما دعا إليه رسولُ الله ﷺ على بصيرة ويقين وبُرهان عقلي وشرعي"[3].
وقال ابنُ كثير أيضًا في تفسير قوله - تعالى -: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ [الحجر: 94 - 95]: "يقول تعالى آمرًا رسولَه ﷺ بإبلاغ ما بعثه به وإنفاذه والصدع به، وهو مواجهة المشركين به، كما قال ابن عباس في قوله: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ﴾؛ أي: أمضه، وفي رواية: افعل ما تؤمر، وقال مجاهد: هو الجهر بالقرآن في الصلاة، وقال أبو عبيدة عن عبدالله بن مسعود[4]: ما زال النبي ﷺ مستخفيًا حتى نزلت: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ﴾، فخرج هو وأصحابه، وقوله: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾؛ أي: بلِّغ ما أنزل إليك من ربك، ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصُدُّوك عن آيات الله؛ ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ [القلم: 9] ولا تخفهم، فإنَّ الله كافيك إياهم، وحافظك منهم، كقوله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: 67]".
وقال تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 51].
وقال تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214].
وقد سار أصحاب رسول الله ﷺ على هذا المنهج القويم، فقد كانوا دعاة إلى الإسلام، وكانوا هُداة مهتدين، فقد أسلم بعض كبار الصَّحابة بسبب دعوة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لهم إلى الإسلام، منهم: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله.
قال ابن القيم في "زاد المعاد": "فصل في ترتيب الدعوة، ولها مراتب:
المرتبة الأولى: النبوة.
الثانية: إنذار عشيرته الأقربين.
الثالثة: إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله، وهم العرب قاطبة.
الخامسة: إنذار جميع مَن بلغته دعوته من الجنِّ والإنس إلى آخر الدهر"[5].
قال ابن إسحاق فيما رواه عن ابن عباس - رضي الله عنهما -:
اجتمع عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث بن كَلَدَة أخو بني عبدالدار، وأبو البَخْتري ابن هشام، والأسود بن المطلب بن أسد، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، وعبدالله بن أبي أمية، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان، وأمية بن خلف، أو من اجتمع منهم، اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظَهْرِ الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه؛ حتى تُعذروا فيه، فبعثوا إليه: إنَّ أشرافَ قومك قد اجتمعوا لك؛ ليُكلموك فأْتِهم، فجاءهم رسولُ الله ﷺ سريعًا وهو يظُنُّ أنْ قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء، وكان عليهم حريصًا يُحب رشدَهم، ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم، فقالوا له: يا محمد، إنَّا قد بعثنا إليك لنُكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخلَ على قومه مثلَ ما أدخلت على قومِك، لقد شتمتَ الآباء، وعِبتَ الدين، وشتمت الآلهة، وسفَّهت الأحلام، وفرقت الجماعة، فما بَقِيَ أمرٌ قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك - أو كما قالوا له - فإن كنت إنَّما جئت بهذا الحديث تطلب مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنَّما تطلب الشرف فينا، فنحن نسوِّدك علينا، وإن كنت تريد به ملكًا ملَّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيًّا تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمُّون التابع من الجن رَئِيًّا - فرُبَّما كان كذلك، بذلنا لك أموالَنا في طلب الطبِّ لك؛ حتى نُبرئك منه أو نعذر فيك.
فقال لهم رسول الله ﷺ: ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكنَّ الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليَّ كتابًا، وأمرني أن أكونَ لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلَّغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم في الدُّنيا والآخرة، وإن تردُّوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يَحكم الله بيني وبينكم - أو كما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم.
قالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا شيئًا مما عرضناه عليك، فإنَّك قد علمت أنَّه ليس من الناس أحد أضيق بلدًا، ولا أقل ماء، ولا أشد عيشًا منا، فسل لنا ربَّك الذي بعثك بما بعثك به، فليُسيِّر عنا هذه الجبال التي قد ضيَّقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليفجر لنا فيها أنهارًا كأنْهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخَ صِدْق، فنسألهم عما تقول: أحقٌّ هو أم باطل؟ فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك، وعرفنا به منزلتك من الله، وأنَّه بعثك رسولاً كما تقول.
فقال لهم - صلوات الله وسلامه عليه -: ما بهذا بعثت إليكم، إنَّما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله - تعالى - حتى يحكم الله بيني وبينكم.
قالوا: فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك، سَلْ ربك أن يبعث معك ملكًا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وسله فليجعل لك جنانًا، وقصورًا، وكنوزًا من ذهب وفضة يُغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنَّك تقوم بالأسواق كما نقوم، وتلتمس المعاشَ كما نلتمسه؛ حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربِّك إن كنت رسولاً كما تزعُم.
فقال لهم رسول الله ﷺ: ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرًا ونذيرًا - أو كما قال - فإن تقبلوا ما جئتكم به، فهو حظُّكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يَحكم الله بيني وبينكم، قالوا: فأسقط علينا كسفًا كما زعمت أنَّ ربك إن شاء فعل، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل.
قال: فقال رسول الله ﷺ: ذلك إلى الله إن شاء أن يفعله بكم فعل، قالوا: يا محمد، أما علم ربُّك أنا سنجلس معك، ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب، فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به، ويُخبرك ما هو صانع في ذلك بنا؛ إذ لم نقبل منك ما جئتنا به؟ إنه قد بلغنا أنَّك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة، يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدًا، فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك وما بلغته منا حتى نهلكك أو تهلكنا.
وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله، وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتيَنا بالله والملائكة قبيلاً، فلما قالوا ذلك لرسول الله ﷺ قام عنهم، وقام معه عبدالله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم - وهو ابن عمته فهو لعاتكة بنت عبدالمطلب - فقال له: يا محمد، عَرَض عليك قومُك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورًا؛ ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول، ويصدقوك ويتبعوك، فلم تفعلْ، ثم سألوك أن تأخذَ لنفسك ما يعرفون به فضلَك عليهم ومنزلتك من الله فلم تفعل، ثم سألوك أن تُعجِّل لهم بعضَ ما تخوفهم من العذاب فلم تفعل - أو كما قال له - فوالله لا أؤمن بك أبدًا حتى تتخذ إلى السماء سلمًا، ثم ترقى فيه وأنا أنظرُ إليك حتى تأتيها، ثم تأتي معك أربعةً من الملائكة يشهدون لك أنَّك كما تقول، وايْمُ الله، لو فعلت ذلك ما ظننت أنِّي أصدقك، ثم انصرف عن رسول الله ﷺ وانصرف رسول الله إلى أهله حزينًا آسفًا لما فاته وكان يطمع به من قومه حين دَعَوه، ولما رأى من مباعدتهم إيَّاه.
فلما قام عنهم رسول الله ﷺ قال أبو جهل: يا معشر قريش، إن محمدًا قد أبى إلا ما ترون من عيبِ ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإنِّي أعاهد الله لأجلسنَّ له غدًا بحجر ما أطيق حمله - أو كما قال - فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بعد ذلك بنو عبدمناف ما بدا لهم قالوا: والله لا نسلمك لشيء أبدًا، فامضِ لما تريد.
فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرًا كما وصف، ثم جلس لرسول الله ﷺ ينتظره، وغدا رسول الله ﷺ كما كان يغدو، وكان رسول الله ﷺ بمكة وقبلته إلى الشام، فكان إذا صلَّى صلَّى بين الرُّكن اليماني والحجر الأسود وجعل الكعبة بينه وبين الشام، فقام رسول الله ﷺ يُصلي وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سَجَد رسول الله ﷺ احتمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه، رجع مُنهزمًا منتقعًا لونه مرعوبًا قد يبست يداه على حجره حتى قذف الحجر بيده، قامت إليه رجال قريش، فقالوا له: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قُمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دَنَوت منه عرض لي دونه فَحْلٌ من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته، ولا مثل قصرته (أصل العنق)، ولا أنيابه لفحل قطُّ فهمَّ بي أن يأكلني.
قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله ﷺ قال: ذلك جبريل - عليه السَّلام - لو دنا لأخذه.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن مسلم الزهري عن عروة بن الزبير عن أسامة بن زيد بن حارثة حِبِّ رسول الله ﷺ قال: ركب رسول الله ﷺ إلى سعد بن عُبادة يعوده من شَكْوٍ أصابه على حمار عليه، كان فوقه قطيفة فَدَكيَّة فخطمته بحبل من ليف، وأردفني رسول الله ﷺ خلفه، قال: فمر بعبدالله بن أُبَي وهو في ظل مزاحم أُطُمه، وحوله رجال من قومه، فلما رآه رسول الله ﷺ تذمم (استنكف واستحيا) من أن يُجاوزه حتى ينزل، فنزل فسلَّم، ثم جلس قليلاً، فتلا القرآن ودعا إلى الله - عزَّ وجلَّ - وذكر بالله وحذَّر وبشَّر وأنذر، قال: وهو زامٌّ لا يتكلم حتى إذا فرغ رسول الله ﷺ من مقالته، قال: يا هذا، إنَّه لا أَحْسَنُ من حديثك هذا، إن كان حقًّا، فاجلس في بيتك، فمن جاءك له فحدثه إياه، ومن لم يأتِك فلا تَغُتَّه به (لا تثقل عليه ولا تكده)، ولا تأته في مجلسه بما يكره منه، فقال عبدالله بن رواحة في رجالٍ كانوا عنده من المسلمين: بلى، فاغشنا به، وأتِنا في مجالسنا ودُورنا وبُيوتنا، فهو والله مما نُحب ومما أكرمنا الله به وهدانا له، وقام رسول الله ﷺ فدخل على سعد بن عُبادة وفي وجهه ما قال عدوُّ الله ابن أبي، فقال: والله يا رسول الله، إني لأرى في وجهك شيئًا، لكأنَّك سمعت شيئًا تكرهه، قال: أجلْ، ثم أخبره بما قال ابن أبي، فقال سعد: يا رسول الله، ارفُق به، فوالله، لقد جاءنا الله بك، وإنا لننظم له الخرز لنتوِّجَه، فوالله، إنه ليرى أنك قد سلبته مُلكًا.
قال ابن إسحاق: وحدثني حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير قال: قلت لعبدالله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحابِ رسول الله ﷺ من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم والله، إن كانوا ليضربون أحدهم ويُجيعونه ويعطشونه، حتى ما يقدر أن يستوي جالسًا من شدة الضرِّ الذي نزل به؛ حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له: اللات والعُزَّى إلهك من دون الله، فيقول: نعم، حتى إنَّ الْجُعَل لَيَمُر بهم، فيقولون له: هذا الْجُعَل إلهك من دون الله، فيقول: نعم؛ افتداء منهم مما يبلغون من جهده.
قال ابن إسحاق: حدثني رجلٌ من أسلم كان واعية أنَّ أبا جهل مر على رسول الله ﷺ عند الصفا، فآذاه وشتمه ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتضعيف لأمره، فلم يكلمه رسولُ الله ﷺ ومولاة لعبدالله بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك، ثم انصرفَ عنه فعَمَدَ إلى نادٍ من قريش عند الكعبة فجلس معهم، فلم يلبث حمزةُ بن عبدالمُطَّلِب أن أقبل متوشحًا قوسه راجعًا من قنص، وكان صاحبَ قنص يرميه ويخرج له، وكان إذا رجع من قنصه لم يصلْ إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك، لم يمر على نادٍ من قريش إلا وقف وسلَّم وتحدث معهم، وكان أعزَّ فتى في قريش وأشدَّ شكيمة، فلما مَرَّ بالمولاة وقد رجع رسول الله ﷺ إلى بيته، قالت له: يا أبا عُمارة، لو رأيت ما لقي ابنُ أخيك محمد آنفًا من أبي الحكم ابن هشام، وجده هنا جالسًا فآذاه وسَبَّه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد ﷺ فاحتمل حمزة الغضبَ؛ لِمَا أراد الله به من كرامته، فخرج يسعى ولم يقفْ على أحد مُعِدًّا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به.
فلَمَّا دخل المسجد، نظر إليه جالسًا في القوم، فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه، رفع القوسَ فضربه بها فشَجَّه شجة مُنكرة، ثم قال: أتشتمه وأنا على دينه، أقول ما يقول؟ فرُدَّ ذلك عليَّ إن استطعت، فقامت رجالٌ من بني مخزوم إلى حمزة؛ لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوا أبا عُمارة، فإنِّي والله قد سببت ابن أخيه سبًّا قبيحًا، وتمَّ حمزة - رضي الله عنه - على إسلامه، وعلى ما تابع عليه رسول الله ﷺ من قوله، فلما أسلم حمزة عرفت قريشٌ أنَّ رسول الله ﷺ قد عزَّ وامتنع، وأن حمزة سيمنعه فكفُّوا عن بعض ما كانوا ينالون منه.
قال ابنُ إسحاق: وحدثني يَحيى بن عروة بن الزبير عن أبيه قال: كان أولُ مَن جهر بالقرآن بعد رسول الله ﷺ بمكة عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: اجتمع يومًا أصحابُ رسول الله ﷺ فقالوا: والله، ما سمعت قريشٌ هذا القرآنَ يُجهَر لها به قطُّ، فمن رجل يُسْمعهموه؟ فقال عبدالله بن مسعود: أنا، قالوا: إنَّا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلاً له عشيرة يَمنعونه من القوم إنْ أرادوه، قال: دعوني، فإنَّ الله سيَمنعُني، قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضُّحى وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام، ثم قرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - رافعًا بها صوته - الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ، قال: ثم استقبلها يَقرؤها، قال: فتأملوه فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن أم عبد، قال: ثم قالوا: إنَّه ليتلو بعضَ ما جاء به محمد، فقاموا إليه فجعلوا يضربونه في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثَّروا في وجهه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون عليَّ منهم الآن، ولو شئتم لأغادينهم بمثلها غدًا، قالوا: لا، حسبك، قد أسمعتهم ما يكرهون.
قال ابن إسحاق: ثم إنَّهم عَدَوا على من أسلم واتَّبع رسولَ الله ﷺ من أصحابه، فوثبت كلُّ قبيلة على مَن فيها من المسلمين، فجعلوا يَحبسونهم، ويعذبونهم بالضرب، والجوع، والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتدَّ الحر، مَن استضعفوا منهم يفتنونهم عن دينهم، فمنهم مَن يُفتَن من شدة البلاء الذي يُصيبه، ومنهم مَن يصلُب لهم ويعصمُه الله.
وكان بلال مولى أبي بكر - رضي الله عنه - لبعض بني جمح مُوَلدًا من مُوَلّديهم، وهو بلال بن رباح، وكان اسمُ أمه حمامة، وكان صادقَ الإسلام طاهرَ القلب، وكان أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح يُخرجه إذا حَمِيَت الظَّهيرة فيطرحه على ظهره في بَطحاء مكة، ثم يأمُر بالصَّخرة العظيمة فتُوضَع على صدره، ثم يقول له: لا والله، لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفُر بمحمد وتعبد اللات والعُزَّى، فيقول - وهو في ذلك البلاء -: أَحَد أَحَد، حتى مَرَّ به أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يومًا وهم يصنعون به ذلك، وكانت دارُ أبي بكر في بني جمح، فقال لأمية بن خلف: ألاَ تتقي الله في هذا المسكين، حتى متى؟ قال: أنت الذي أفسدته، فأنقذه مما ترى، فقال أبو بكر: أفعلُ، عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى على دينِك أعطيكه به، قال: قد قبلتُ، فقال: هو لك، فأعطاه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - غلامه ذلك، وأخذه وأعتقه، ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر ستَّ رقاب، بلالٌ سابعُهم.
عامر بن فهيرة (شهد بدرًا وأُحُدًا، وقتل يومَ بئر معونة شهيدًا)، وأم عبيس، وزِنِّيرَة وأُصِيبَ بصرُها يومَ أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلاَّ اللات والعُزَّى، وقالت: كَذَبوا ما تضر اللات والعزى وما تنفعان، فرد الله بصرَها.
وأعتق النهديَّة وبنتها، وكانتا لامرأة من بني عبدالدار، فمَرَّ بهما وقد بَعثتهما سيدتُهما بطحين لها، وهي تقول: والله لا أعتقكما أبدًا، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: حِلٌّ، يا أمَ فلان فقالت: حِلٌّ أنت، أفسدتهما فأعتقهما، قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا، قال: قد أخذتهما وهما حُرَّتان، أرجعا إليها طحينها، قالتا: أَوَنفرغ منه يا أبا بكر ثُمَّ نرده إليها؟ قال: وذلك إن شئتما.
ومرَّ بجارية بني مؤمل حي من بني عدي بن كعب وكانت مسلمة، وعمر بن الخطاب يُعذبها؛ لتترك الإسلام، وهو يومئذ مشرك وهو يضربها حتى إذا مَلَّ قال: إنِّي أعتذر إليك، إني لم أتركك إلا ملالة، فتقول: كذلك فعل الله بك، فابتاعها أبو بكر فأعتقها.
قال ابن إسحاق: وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمَّار بن ياسر وبأبيه وأُمِّه - وكانوا أهلَ بيت إسلام - إذا حَمِيَت الظهيرة يُعذبونهم برَمضاء مكة، فيمر بهم رسولُ الله ﷺ فيقول فيما بلغني: ((صبرًا آلَ ياسر؛ موعدكم الجنة))، فأما أمُّهُ فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلام.
وكان أبو جهل الفاسق الذي يُغرِي بهم في رجالٍ من قريش إذا سمع بالرَّجُل قد أسلم له شَرَف ومَنَعَة، أنَّبه وأخزاه، وقال: تركتَ دينَ أبيك، وهو خير منك، لنُسفِّهن حلمك، ولَنُفيِّلَنَّ رأيك، ولنضعن شرفك، وإن كان تاجرًا قال: والله لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك، وإن كان ضعيفًا ضربه وأغرى به.
وقدم أبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسِنَّة على رسول الله ﷺ المدينة, فعرض عليه الرسولُ الإسلام، فلم يسلم ولم يبعد، وطلب من الرسول أن يبعث معه رجالاً إلى قومِه يدعونهم إلى الإسلام، وخَشِيَ الرسول على أصحابه، فقال أبو براء: أنا جار لهم، فبعث رسول الله ﷺ المنذر بن عمرو في أربعين رجلاً أو سبعين من أصحابه من خيار المسلمين, منهم الحارث بن الصِّمَّة، وحرام بن ملحان، وعُروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ونافع بن بُديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة، فساروا حتى نزلوا ببئر معونة أرض بين بني عامر وحرة بني سليم، وبعثوا حرام بن مِلْحَان بكتاب رسول الله ﷺ إلى عدوِّ الله عامر بن الطفيل، فلم ينظر في الكتاب، وعدا على الرجل فقتله، واستصرخ قبائل من بني سليم من عُصيَّة، ورعل، وذكوان، فقاتلوا أصحابَ رسولِ الله ﷺ حتى قتلوهم عن آخرهم إلاَّ كعب بن زيد، فإنَّهم تركوه وبه رَمَق، فلما بلغ خبرهم رسول الله ﷺ صار يدعو على رِعْلٍ وذَكْوانَ وعُصَيَّة.
وفي "صحيح البخاري" من حديث أنس قال: قَنَت النبيُّ ﷺ شهرًا يدعو على رِعْلٍ وذَكْوَانَ.
وفي "صحيح البخاري" من حديث أنس: إنما قنت رسول الله ﷺ بعد الركوع شهرًا, أراه كان بعث قومًا يقال لهم القراء زهاء سبعين رَجلاً إلى قوم من المشركين دون أولئك، وكان بينهم وبين رسولِ الله ﷺ عهد، فقنت رسول الله ﷺ شهرًا يدعو عليهم.
وبعد غزوة أُحُد قدم رهطٌ من عَضَلٍ والقَارَة على الرسول ﷺ فقالوا: يا رسول الله، إنَّ فينا إسلامًا، وطلبوا من الرسول أنْ يبعثَ معهم من أصحابه مَن يُفقههم في الدين، ويُقرئهم القرآن، ويعلمهم الشرائعَ، فبعث الرسولُ معهم ستةً من أصحابه هم: مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وخالد بن البكير الليثي، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، وخبيب بن عدي، وزيد بن الدثِنة، وعبدالله بن طارق، وعندما وصلوا الرجيع - وهو ماء لهذيل - غدروا بهم، فاستصرخوا عليهم هذيلاً، وبذل لهم المشركون العهود أن لا يقتلوهم، فلم يقبل مرثد، وخالد، وعاصم عهدَ المشركين، ولم يثقوا بكلامهم، فقاتلوا المشركين حتى قتلهم المشركون، وأسر المشركون زيدًا، وخبيبًا، وعبدالله وقُتلوا - رضي الله عنهم - بعد ذلك.
وكان عاصم بعد قتله قد حَمته زنابير النحل، فإنَّ سُلاَفَةَ بنت سعد بن شهيد كانت نذرت حين أصاب عاصمٌ ابنيها يومَ أحد قد نذرت لإنْ قدرت على رأسِ عاصم، لتشربن في قحفه الخمر، فمنعته الزنابير، فإنه قد نذر في حياته أنْ لا يَمسه مشرك، ولا يَمس مشركًا أبدًا في حياته، وحين حالت الزنابير بينه وبين المشركين، قال المشركون: دعوه يُمسي؛ فتذهب عنه، فنأخذه فجاء السيلُ فاحتمل عاصمًا فذهب به، وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: يَحفظ الله العبدَ المؤمن، ولَمَّا قدم زيد بن الدثِنة للقتل، قال له أبو سفان: أنشدك الله يا زيد، أتُحب أنَّ محمدًا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقَه وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أنَّ محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تُصيبه شوكة تُؤذيه وأنِّي جالس في أهلي، فقال أبو سفان: ما رأيتُ من الناس أحدًا يُحب أحدًا، كحُبِّ أصحاب محمد محمدًا.
وأما خبيب فعندما جاء به المشركون إلى التنعيم؛ ليصلبوه، قال لهم: إنْ رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين، فافعلوا، فركع ركعتين أَتَمَّهما وأحسنهما، ثم قال: أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طوَّلت جزعًا من القتل، لاستكثرت من الصلاة.
روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ كتب قبل موته إلى كسرى وقيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله - عزَّ وجلَّ - وليس النجاشي الذي صلى عليه.
قال ابن إسحاق: ثم إنَّ قريشًا اشتد أمرُهم للشقاء الذي أصابهم في عداوة رسول اللهﷺ ومَن أسلم معه منهم، فأغروا برسولِ الله ﷺ سفهاءهم، فكذبوه، وآذَوْه، ورَمَوه بالشِّعر والسِّحر والكهانة والجنون، ورسول الله ﷺ مظهرٌ لأمر الله لا يستخفي به، مبادلهم بما يكرهون من عيب دينهم، واعتزال أوثانهم، وفراقه إياهم على كفرهم.
وعن عروة بن الزبير قال: قلت لعبدالله بن عمرو بن العاص: ما أكثر ما رأيت قريشًا أصابوا من رسول الله ﷺ فيما كانوا يُظهرون من عداوته؟ قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافُهم يومًا في الحجر، فذكروا رسول الله ﷺ فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قطُّ، سفَّه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرَّق جماعتنا، وسب آلهتنا.
لقد صبرنا منه على أمرٍ عظيم، أو كما قالوا، فبينا هم في ذلك إذ طلع رسول الله ﷺ فأقبل يَمشي حتى استلم الركنَ، ثم مر بهم طائفًا بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول، قال: فعرفتُ ذلك في وجه رسول الله ﷺ قال: ثم مضى، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجه رسول الله ﷺ ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فوقف ثم قال: أتسمعون - يا معشر قريش - أَمَا والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح، قال: فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجلٌ إلا كأنما على رأسه طائرٌ واقع، حتى إنَّ أشدَّهم فيه وَصَاةً قبل ذلك ليَرْفَؤُه (يُهدئه ويسكنه) بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرفْ - يا أبا القاسم - فوالله ما كنتَ جهولاً، قال: فانصرفَ رسولُ الله ﷺ حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه، حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم في ذلك طَلَع رسولُ الله ﷺ فوثبوا إليه وَثْبَةَ رجلٍ واحد وأحاطوا يقولون: أنت الذي تقول: كذا وكذا لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول رسول الله ﷺ: نعم، أنا الذي أقول ذلك، قال: فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بِمَجْمَعِ ردائه، قال: فقام أبو بكر - رضي الله عنه - دونه وهو يبكي، ويقول: أتقتلون رجلاً أنْ يقول ربي الله.
ثم انصرفوا عنه، فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشًا نالوا منه قطُّ.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعضُ آل أم كلثوم بنت أبي بكر أنَّها قالت: لقد رجع أبو بكر يومئذ وقد صدعوا فرق رأسِه مما جبذوه بلحيته، وكان رجلاً كثيرَ الشعر.
قال ابنُ هشام: حدثني بعضُ أهل العلم أنَّ أشدَّ ما لَقِيَ رسولُ الله ﷺ من قريش أنَّه خرج يومًا، فلم يلقَه أحد من الناس إلاَّ كذَّبه وآذاه لا حرٌّ ولا عبد، فرجع رسول الله ﷺ إلى منزله، فتدثر من شدة ما أصابه، فأنزل الله - تعالى - عليه: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدثر: 1 - 2].
في شهر صفر من العام الرابع من الهجرة حصلت حادثةُ بئر مَعونة التي قتل فيها جَمع من المسلمين عددُهم سبعون رجلاً - وقيل: أربعون، وكانت بعد وقعة أُحُد بأربعة أشهر.
وكان سببها أنَّ أبا براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنَّة سيد بني عامر بن صعصعة قَدِم على رسول الله ﷺ بالمدينة، وأهدى له هدية، فلم يقبلها، وقال: يا أبا براء لا أقبل هديةً من مُشرك، ثم عرض عليه الإسلام، فلم يُسلمْ ولم يُبْعد من الإسلام، وقال: إنَّ أمرك هذا حسن، فلو بعثتَ رجالاً من أصحابك إلى أهل نَجد، فدعوهم إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا لك، فقال رسول الله ﷺ: إني أخشى عليهم أهل نَجد، فقال أبو بَرَاء: أنا لهم جار، فبعث رسول الله ﷺ سبعين رجلاً من أصحابه فيهم المنذر بن عمرو الأنصاري، والحارث بن الصِّمَّة، وحرام بن مِلْحَان، وعامر بن فهيرة، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي، في رجال من خيار المسلمين، فساروا حتى نزلوا بِئْرَ معونة، وهي بين أرض بني عامر وحَرَّة بني سليم، كلا البلدين منها قريب، وهي إلى حرة بني سليم أقرب، فلما نزلوها بَعَثوا حرامَ بن ملحان بكتاب النبي ﷺ إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظرْ في كتابه حتى عدا على حرام فقتله، فلمَّا طعنه قال: الله أكبر، فُزْتُ وربِّ الكعبة، واستصرخ بني عامر فلم يُجيبوه، وقالوا: لن نُخْفِرَ أبا براء وقد عَقَد لهم عقدًا وجوارًا، فاستصرخ عليهم قبائلَ بني سليم من عُصَيَّة ورَعْلٍ وذكوانَ، فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتى غشوُا القوم فأحاطوا بالمسلمين في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم ثم قاتلوهم حتى قتلوا عن آخرهم، إلا كعب بن زيد الأنصاري، فإنَّهم تركوه وبه رَمَق، فعاش حتى قتل يوم الخندق.
وكان في سرح القوم عمرو بن أمية ورجل من الأنصار، فلم يُنبئهما بمصاب أصحابِهما إلا الطير تَحوم على العسكر، فقالا: والله، إنَّ لهذه الطير لشأنًا، فأقبلا لينظرَا، فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة، فقال الأنصاري لعمرو بن أمية: ما ترى؟ قال: أرى أن نَلْحَق برسول الله ﷺ فنخبره الخبر، فقال الأنصاري: لكني ما كنت لأرغبَ بنفسي عن مَوطنٍ قُتِلَ فيه المنذر بن عمرو، ثم قاتل القومَ حتى قُتِل، وأخذوا عمرو بن أمية أسيرًا، فلما أخبرهم أنَّه من مُضَر أطلقه عامر بن الطفيل, وجَزَّ ناصيته, وأعتقه عن رقبةٍ زعم أنَّها كانت على أمه، فخرج عمرو بن أمية حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة، لقي رجلين من بني عامر - وقيل: من بني سليم - ونزلا معه في ظلٍّ هو فيه، وكان مع الرجلين عقدٌ من رسول الله ﷺ وجوار، ولم يعلمْ به عمرو بن أمية، حتى إذا ناما عَدَا عليهما، فقتلهما وهو يرى أنَّه قد أصاب بهما ثُؤرةً من أصحاب رسول الله ﷺ فلما قَدِمَ على رسول الله ﷺ أخبره الخبر، فقال رسول الله ﷺ: ((لقد قتلت قتيلين لأَدِيَنَّهما))، ثم قال رسول الله ﷺ: ((هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارهًا متخوفًا)), فبلغ ذلك أبا براء، فشَقَّ عليه إخفاءُ عامر إيَّاه وما أصاب رسول الله بسببه وجواره، وقال حسان بن ثابت - رضي الله عنه - في ذلك شعرًا يُحرِّض بني أبي براء ويَحثُّهم على الانتقام من عامر بن الطفيل:
أَلاَ مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي رَبِيعًا = فَمَا أَحْدَثْتَ فِي الْحَدَثَانِ بَعْدِي
أَبُوكَ أَبُو الْفِعَالِ أَبُو بَرَاءٍ = وَخَالُكَ مَاجِدٌ حَكَمُ بْنُ سَعْدِ
بَنِي أُمِّ الْبَنِينَ أَلَمْ يَرُعْكُمْ = وَأَنْتُمْ مِنْ ذَوَائِبِ أَهْلِ نَجْدِ
تَهَكُّمُ عَامِرٍ بِأَبِي بَرَاءٍ = لِيُخْفِرَهُ وَمَا خَطَأٌ كَعَمْدِ
فلما بلغ ربيعةَ هذا الشعرُ أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، هل تغسلُ عن أبي هذه العذرة ضربةٌ أضربها عامرَ بن الطفيل أو طعنة، فقال: ((نعم، والله أعلم))، فرجع ربيعة فطعن عامر طعنة بالرمح، فأشواه في فخذه (أصاب منه غير مقتل)، وخرَّ عن فرسه، فوثب عليه قومه فأخذوه، وقالوا لعامر: امتثل (أي اقتص)، فقال: إن أمُت فدمي لعمي، وإن أعش فسأرى رأيي فيما أُتي إلي.
ثم حفر بئرًا فقال: اشهدوا أني جعلت ذنبَه في هذه البئر، ثم رَدَّ فيها ترابَها وأطلقه.
وأنزل الله - عزَّ وجلَّ - في أهل بئر مَعونة قرآنًا يُتلى: (بلغوا قومنا عنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه)، ثم نسخت.
وقال كعب بن مالك يعيِّر بني جعفر بن كلاب:
تَرَكْتُمْ جَارَكُمْ لِبَنِي سُلَيْمٍ = مَخَافَةَ حَرْبِهِمْ عَجْزًا وَهُونَا
فَلَوْ حَبْلاً تَنَاوَلَ مِنْ عُقَيْلٍ = لَمَدَّ بِحَبْلِهَا حَبْلاً مَتِينَا
أَوِ الْقُرَطَاءِ مَا أَنْ أَسْلَمُوهُ = وَقِدْمًا مَا وَفَوْا إِذْ لا تَفُونَا
القرطاء قبيلة من هوازن، ويروى من نفيل مكان من عقيل؛ قال ابن هشام: وهو الصحيح؛ لأن القرطاء من نفيل قريب.
وقال أنس بن عباس السلمي:
تَرَكْتُ ابْنَ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيَّ ثَاوِيًا = بِمُعْتَرَكٍ تَسْفِي عَلَيْهِ الْأَعَاصِرُ
ذَكَرْتُ أَبَا الرَّيَّانِ لَمَّا رَأَيْتُهُ = وَأَيْقَنْتُ أَنِّي عِنْدَ ذَلِكَ ثَائِرُ
(ثائر: آخذ بالثأر).
وقال حسان بن ثابت يبكي قتلى بئر معونة، ويخص المنذر بن عمرو:
عَلَى قَتْلَى مَعُونَةَ فَاسْتَهِلِّي = بِدَمْعِ الْعَيْنِ سَحًّا غَيْرَ نَزْرِ
عَلَى خَيْلِ الرَّسُولِ غَدَاةَ لاَقَوْا = مَنَايَاهُمْ وَلاَقَتْهُمْ بِقَدْرِ
أَصَابَهُمُ الْفَنَاءُ بِحَبْلِ قَوْمٍ = تُخُوِّنَ عَقْدُ حَبْلِهِمُ بِغَدْرِ
فَيَا لَهْفِي لِمُنْذِرٍ اذْ تَوَلَّى = وَأَعْنَقَ فِي مَنِيَّتِهِ بِصَبْرِ
وَكَائِنُ قَدْ أُصِيبَ غَدَاةَ ذَاكُمْ = مِنَ ابْيَضَ مَاجِدٍ مِنْ سِرِّ عَمْرِو
وقال عبدالله بن رواحة يبكي نافع بن بديل بن ورقاء:
رَحِمَ اللَّهُ نَافِعَ بْنَ بُدَيْلٍ = رَحْمَةَ الْمُبْتَغِي ثَوَابَ الْجِهَادِ
صَابِرٌ صَادِقٌ وَفِيٌّ إِذَا مَا = أَكْثَرَ الْقَوْمُ قَالَ قَوْلَ السَّدَادِ
فبعث رسولُ الله ﷺ رسلاً من أصحابه، وكتب معهم كتبًا إلى الملوك يدعوهم فيها إلى الإسلام، فبعث دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر ملك الروم، وبعث عبدالله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك فارس، وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك الحبشة، وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس ملك الإسكندرية، وبعث عمرو بن العاص السهمي إلى جيفر وعياد ابني الجلندي الأزديين ملكي عمان، وبعث سليط بن عمرو أحد بني عامر بن لؤي إلى ثمامة بن أثال وهوذة بن علي الحنفيين ملكي اليمامة، وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين، وبعث شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك تخوم الشام.
قال ابن هشام: بعث شجاع بن وهب إلى جبلة بن الأيهم الغساني، وبعث المهاجر بن أبي أمية المخزومي إلى الحارث بن عبد كلال الحميري ملك اليمن،[6][7].
ففي الصحيحين أنه ﷺ كتب إلى هرقل:
((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هِرَقْلَ عظيمِ الروم، سلامٌ على من اتبع الهدى.
أمَّا بعد: فإنِّي أدعوك بدِعَاية الإسلام، أَسْلِم تَسْلَم، أسلم يؤتك الله أجرَك مرتين، فإن توليت، فإن عليك إثم الأَريسيِّين، و﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64])).
وكتب إلى كسرى:
((بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلامٌ على من اتَّبع الهدى، وآمن بالله ورَسوله، وشهد أنْ لاَ إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أدعوك بدعاية الله، فإنِّي أنا رسولُ الله إلى الناس كافَّة؛ ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [يس: 70]، أسلم تسلم فإن أَبَيْت فعليك إثم المجوس))، فلما قرئ عليه الكتاب مزقه، فبلغ ذلك رسولَ الله ﷺ فقال: ((مَزَّق الله ملكه)).
وقد كان عبدالله بن حذافة يتردد على بلاد الفرس، فلذا خَصَّه النبي ﷺ بإرساله إلى كسرى.
وقد قال عبدالله لكسرى حين قَدِمَ عليه بكتاب رسول الله ﷺ: يا معشرَ الفرس، إنَّكم عشتم بأحلامكم لعدَّة أيامكم بغير نبيٍّ ولا كتاب، ولا تَملك من الأرض إلا ما في يديك، وما لا تَملك منها أكثر، وقد ملك قبلك ملوك أهل دُنيا وأهل آخرة، فأخذ أهل الآخرة بحَظِّهم من الدنيا، وضيَّع أهلُ الدنيا حظَّهم من الآخرة، فاختلفوا في سعي الدنيا، واستَوَوا في عدل الآخرة، وقد صغر هذا الأمر عندنا أنَّا أتيناك به، وقد - والله - جاءك من حيث خِفْتَ، وما تصغيرك إياه بالذي يدفعُه عنك، ولا تكذيبك به بالذي يُخرجك منه، وفي وقعة ذي قار على ذلك دليل، فأخذ الكتاب فمزَّقه، ثم قال: لي مُلك هنيء، لا أخشى أن أُغلب عليه، ولا أشارك فيه، وقد ملك فرعون بني إسرائيل، ولستم بخير منهم، فما يَمنعني أن أملكَكم وأنا خير منه، فأمَّا هذا الملك، فقد علمنا أنَّه يصير إلى الكلاب، وأنتم أولئك تشبع بطونُكم وتأبى عيونُكم، فأما وقعة ذي قار فهي بوقعة الشام، ثم انصرف عنه عبدالله، ورجع إلى النبي ﷺ ليخبره بما صنع كسرى، فقال النبي ﷺ: ((اللهم مزِّق ملكَه))، وهكذا كان.
وكتب إلى النجاشي:
((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة، أسلم أنت، فإنِّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، وأشهد أنَّ عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتُّول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، فخلقه الله من روحه، ونفخه كما خلق آدم بيده، وإنِّي أدعوك إلى الله وحْدَه لا شريكَ له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني وتُؤمن بالذي جاءني، فإنِّي رسول الله، وإني أدعوك وجنودَك إلى الله - عزَّ وجلَّ - وقد بَلَّغت ونَصَحت فاقبلوا نصيحتي، والسلامُ على من اتَّبع الهدى...)).
ثم كتب النجاشي جواب كتاب النبي ﷺ:
"بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحمة، سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته، الله الذي لا إله إلا هو.
أما بعد:
فقد بلغني كتابك - يا رسول الله - فيما ذكرت من أمرِ عيسى، فوربِّ السماء والأرض، إنَّ عيسى لا يزيد على ما ذكرت ثفروقًا، إنه كما ذكرت، وقد عرفنا ما بُعِثْتَ به إلينا، وقد عرفنا ابنَ عمِّك وأصحابك، فأشهد أنك رسول الله صادقًا مصدقًا، وقد بايعتك وبايعتُ ابن عمك، وأسلمتُ على يديه لله ربِّ العالمين".
وكتب إلى المقوقس ملك مصر والإسكندرية:
((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبدالله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى.
أما بعد: فإني أدعوك بدِعاية الإسلام، أسلِم تَسْلَم، وأسلم يؤتِك الله أجرَك مرتين، فإن توليت، فإن عليك إثْمَ أهل القبط؛ ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64].
وبعث الكتاب مع حاطب بن أبي بلتعة، فلما دخل عليه قال له: إنَّه كان قبلَك رجلٌ يزعُم أنه الرب الأعلى، فأخذه الله نكالَ الآخرة والأولى، فانتقم به، ثُمَّ انتقم منه، فاعتبرْ بغيرِك ولا يعتبر غيرُك بك.
فقال: إن لنا دينًا لن نَدَعَه إلاَّ لِمَا هو خير منه.
فقال له حاطب: ندعوك إلى دين الله وهو الإسلام الكافي به اللهُ فقْدَ ما سواه، إن هذا النبي دعا الناس، فكان أشدَّهم عليه قريشٌ، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلاَّ كبِشَارة عيسى بمحمد، وما دُعاؤنا إياك في القرآن إلا كدُعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، وكل نبي أدرك قومًا فهم أمَّتُه، فالحقُّ عليهم أن يطيعوه، وأنت ممن أدركه هذا النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنَّا نأمرك به.
فقال المقوقس: إني قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده الساحرَ الضالَّ، ولا الكاهنَ الكاذب، ووجدت معه آيةَ النُّبوة بإخراج الخبء، والإخبار بالنَّجوى، وسأنظر، وأخذ كتابَ النبي ﷺ فجعله في حُقٍّ من عاج، وختم عليه، ودَفَعَه إلى جارية له، ثم دعا كاتبًا له يكتب بالعربية، فكتب إلى رسول الله ﷺ:
"بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمد بن عبدالله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك.
أما بعد:
فقد قرأتُ كتابَك، وفَهِمْت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه، وقد علمت أنَّ نَبيًّا بَقِي، وكنت أظنُّ أنه يخرج بالشام، وقد أكرمتُ رسولَك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكانٌ في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت إليك بَغلة تركبها، والسلام عليك"، ولم يَزِد على هذا، ولم يُسلم.
وكتب إلى ملكي عُمان كتابًا، وبعثه مع عمرو بن العاص:
((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبدالله إلى جيفر وعبد ابني الجلندي، سلام على من اتبع الهدى.
أما بعد:
فإني أدعوكما بدِعاية الإسلام، أسلما تسلما، فإنِّي رسولُ الله إلى الناس كافة؛ لأنذر من كان حيًّا ويَحِقَّ القول على الكافرين، فإنَّكما إن أقرَرْتُما بالإسلام ولَّيتكما، وإن أبيتما أن تُقِرَّا بالإسلام، فإنَّ مُلكَكما زائلٌ عنكما، وخيلي تَحُلُّ بساحتكما، وتظهر نُبُوتي على ملككما))، وكتب أبي بن كعب، وختم الرسول ﷺ الكتاب...
قال عمرو: فخرجت حتى انتهيت إلى عُمان، فلما قدمتها عَمَدت إلى عبد، وكان أحْلَمَ الرجلين وأسهلهما خُلُقًا، فقلت: إني رسولُ رسولِ الله ﷺ إليك وإلى أخيك.
فقال: أخي المقدم عليَّ بالسن والملك، وأنا أوصلك إليه حتى يقرأ كتابك.
ثم قال: وما تدعو إليه؟
قلت: أدعوك إلى الله وحْدَه لا شريك له، وتخلع ما عُبِدَ من دونه، وتشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
قال: يا عمرو، إنَّك ابن سيد قومك، فكيف صنع أبوك، فإنَّ لنا فيه قدوة؟
قلت: مات ولم يؤمن بمحمد ﷺ وودت أنه كان أسلمَ وصدَّق به، وقد كنت أنا على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام.
قال: فمتى تبعته؟ قلت: قريبًا، فسألني أين كان إسلامك؟ قلت: عند النجاشي، وأخبرته أن النجاشي قد أسلم.
قال: فكيف صنع قومُه بملكه؟ فقلت: أقرُّوه واتبعوه.
قال: والأساقفة والرهبان تبعوه؟ قلت: نعم، قال: انظر يا عمرو ما تقول، إنَّه ليس من خصلة في رجل أفضح له من كذب، قلت: ما كذبت، وما نستحله في ديننا.
ثم قال: ما أرى هِرَقْلَ عَلِمَ بإسلام النجاشي؟ قلت: بلى، قال: بأي شيء علمت ذلك؟ قلت: كان النجاشي يُخرج له خرجًا، فلما أسلم وصَدَّق بمحمد ﷺ قال: لا والله، لو سألني درهمًا واحدًا ما أعطيته، فبلغ هِرَقْل قوله، فقال له النيَّاق أخوه: أتَدَعُ عبدَك لا يخرج لك خرجًا، ويدين بدين غير دينك دِينًا محدثًا؟ قال هرقل: رجل رغب في دينٍ فاختاره لنفسه، ما أصنع به؟ والله لولا الضَّنُّ بمُلكي، لصنعت كما صنع.
قال: انظر ما تقول يا عمرو، قلت: والله لقد صدقتك.
قال عبد: فأخبرني ما الذي يأمرُ به وينهى عنه؟ قلت: يأمر بطاعة الله - عزَّ وجلَّ - وينهى عن معصيته، ويأمر بالبرِّ وصِلَة الرحم، وينهى عن الظُّلم والعُدوان، وعن الزِّنا، وعن الخمر، وعن عبادة الحجر، والوثن، والصليب.
قال: ما أحْسَنَ هذا الذي يدعو إليه! ولو كان أخي يُتابعني عليه، لركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدِّق به، ولكنَّ أخي أضَنُّ بِمُلكه من أن يدَعَه ويصير ذَنَبًا، قلت: إنَّه إن أسلم ملَّكه رسول الله ﷺ على قومه، فأخذ الصدقةَ من غنيِّهم، فرَدَّها على فقيرهم.
قال: إن هذا الخلق حسن، وما الصدقة؟ فأخبرته بما فرض رسول الله ﷺ من الصدقات في الأموال، حتى انتهيت إلى الإبل، قال: يا عمرو، وتؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى الشجر وتَرِد المياه؟ فقلت: نعم، فقال: والله ما أرى قومي في بُعْدِ دارهم وكثرة عددهم يطيعون لهذا.
قال: فمكثت ببابه أيامًا، وهو يصل إلى أخيه، فيُخبره كل خبري، ثم إنَّه دعاني يومًا فدخلت عليه، فأخذ أعوانه بضبُعي، فقال: دعوه، فأرسلت فذهبت لأجلس، فأَبَوا أن يدعوني أجلس، فنظرت إليه، فقال: تكلم بحاجتِك فدفعت إليه الكتاب مَختومًا، ففض خاتمه، وقرأ حتى انتهى إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه، فقرأه مثل قراءته، إلا أني رأيت أخاه أرق منه.
قال: ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت؟ فقلت: تبعوه إمَّا راغبٌ في الدين، وإمَّا مقهور بالسيف.
قال: ومن معه؟ قلت: الناس قد رغبوا في الإسلام، واختاروه على غيره، وعرفوا بعقولهم - مع هُدى الله إياهم - أنَّهم كانوا في ضلال، فما أعلم أحدًا بَقِيَ غيرك في هذه الخُرجَة، وأنت إنْ لم تسلم اليومَ وتتبعه، يُوطئك الخيلَ، ويُبيد خضراءَك، فأسلم تسلم، ويستعملك على قومِك، ولا تدخل عليك الخيل والرِّجال.
قال: دَعْني يومي هذا، وارجع إليَّ غدًا، فرجعت إلى أخيه، فقال: يا عمرو، إنِّي لأرجو أن يسلم إن لم يضنَّ بملكه، حتى إذا كان الغدُ أتيتُ إليه، فأبى أنْ يأذن لي، فانصرفت إلى أخيه فأخبرته أنِّي لم أصلْ إليه فأوصلني إليه، فقال: إني فكرت فيما دعوتني إليه، فإذا أنا أضعفُ العرب إن ملَّكتُ رجلاً ما في يدي وهو لا تبلغ خيله ها هنا، وإن بلغتنا خيلُه، لَقِيَ قتالاً ليس كقتال مَن لاقى، قلت: وأنا خارجٌ غدًا، فلما أيقن بمخرجي، خلا به أخوه، فقال: ما نحن فيما قد ظهر عليه، وكل مَن أرسل إليه قد أجابه، فأصبح فأرسل إليَّ، فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعًا وصدَّقَا النبيَّ ﷺ وخليَا بيني وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم، وكانا عونًا لي على مَن خالفني.
وكتب النبيُّ ﷺ إلى صاحب اليمامة هوذة بن علي الحنفي - وكان نصرانيًّا - وأرسل الكتاب مع سليط بن عمرو العامري:
((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي، سلامٌ على من اتَّبع الهدى، واعلم أنَّ ديني سيظهر إلى مُنتهى الخف والحافر، فأَسْلِم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك)).
فلما قدم عليه سليط بكتاب رسول الله ﷺ مختومًا أنزله وحَيَّاه، وقرأ عليه الكتاب فرد ردًّا دون رد.
وكتب إلى النبي ﷺ: ما أحسنَ ما تدعو إليه وأجملَه! والعرب تَهاب مكاني، فاجعل إليَّ بعضَ الأمر أتبعك، وأجاز سليطًا بجائزة، وكساه أثوابًا من نسج هجر، فقَدِمَ بذلك كلِّه على النبي ﷺ فأخبره، وقرأ النبي ﷺ كتابه، فقال: ((لو سألني سبابة من الأرض ما فعلت، بادٍ وبادٍ ما في يَدَيْه، اللهمَّ اكفنيه))، فلما انصرف رسول الله ﷺ من الفتح جاءه جبريلُ - عليه السَّلام - بأن هوذة قد مات، فقال النبي ﷺ: ((أَمَا إنَّ اليمامة سيخرج بها كذَّاب يتنبَّأ يُقتَل بعدي))، فقال قائل: يا رسول الله، من يقتُله؟ فقال رسول الله ﷺ: ((أنت وأصحابك))، فكان كذلك.
وكان النبيُّ ﷺ أرسل كتابه إلى هوذة مع سليط بن عمرو؛ لأنَّه كان يختلف إلى اليمامة، وكان كسرى قد توَّج هوذة، فقال سليط لهوذة: يا هوذة، إنَّك سوَّدتْك أَعْظُمٌ حائلة، وأرواح في النار، وإنَّما السيد من مُنِّع بالإيمان، ثم زُوِّد التقوى، وإن قومًا سَعِدوا برأيِك فلا تشقَ به، وإني آمرُك بخير مأمور به، وأنْهاك عن شَر منهيٍّ عنه، آمرُك بعبادة الله، وأنهاك عن عبادة الشيطان، فإنَّ في عبادة الله الجنة، وفي عبادة الشيطان النار، فإنْ قَبِلْت نلت ما رَجَوْت وأمنت ما خِفْت، وإن أبيت فبيننا وبينك كشفُ الغطاء، وهول المطلع.
فقال هوذة: يا سليط، سوَّدني مَن لو سوَّدك شَرُفت به، وقد كان لي رأي أختبر به الأمورَ ففقدته، فمَوضعه من قلبي هواء، فاجعل لي فُسحة يرجع إليَّ رأيي، فأجيبك إن شاء الله.
وأما المنذر بن ساوى ملك البحرين، فبعث إليه النبيُّ ﷺ العلاءَ بن الحضرمي يدعوه ومَن معه بالبحرين إلى الإسلام أو الجزية، فأسلم المنذر بن ساوى، وأسلم جميعُ العرب بالبحرين.
فأما أهل البلاد من اليهود والنصارى والمجوس، فإنَّهم صالحوا العلاء والمنذر على الجِزْية من كل حالم.
وكان الرسول ﷺ أَرْسَل كتابًا مع العلاء بن الحضرمي للمُنذر.
وكتب المنذر إلى الرسول ﷺ يقول: "أمَّا بعد: يا رسول الله، فإنِّي قرأت كتابَك على أهل البحرين، فمنهم من أحبَّ الإسلام وأعجبه ودخل فيه، ومنهم من كَرِهَه، وبأرضي مجوس ويهود، فأَحْدِث إلَيَّ في ذلك أمرك".
فكتب إليه رسول الله ﷺ:
((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى سلامٌ عليكم، فإنِّي أحْمَد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا الله، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإني أذكِّرك اللهَ - عزَّ وجلَّ - فإنَّه من ينصح، فإنَّما ينصح لنفسه، وإنه مَن يُطِع رُسُلي ويتبع أمرهم، فقد أطاعني، ومَن نصح لهم، فقد نصح لي، وإن رسلي قد أثنوا عليك خيرًا، وإني قد شفَّعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذُّنوب فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح لن نعزلَك عن عملك، ومن أقام على يهودية أو مجوسية، فعليه الجزية)).
وكتب إلى الحارث بن أبي شمر - وكان بغوطة دمشق - كتابًا وبعثه مع شجاع بن وهب مرجعه من الحديبية.
((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى وآمن بي وصدَّق، وإنِّي أدعوك إلى أنْ تؤمن بالله وحْدَه لا شريكَ له، يبقى لك ملكك...)).
وقدم على رسول الله ﷺ رفاعة بن زيد الجذامي، فأسلم، وحَسُنَ إسلامه، وكتب له رسول الله ﷺ كتابًا إلى قومه وفي كتابه:
((بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله لرفاعة بن زيد، إنِّي بعثته إلى قومه عامَّة، ومن دخل فيهم، يدعوهم إلى الله وإلى رسوله، فمن أقبلَ منهم، ففي حزبِ الله وحزب رسوله، ومن أدبر فله أمان شهرين))، فلما قدم رفاعة على قومه، أجابوا وأسلموا.
في شهر رمضان من السنة التاسعة للهجرة قدم على الرسولِ ﷺ وفدُ ثقيف، فأسلم عروة بن مسعود، وسأله أنْ يرجع إلى قومِه بالإسلام، فقال رسول الله ﷺ كما يتحدث قومه -: ((إنَّهم قاتلوك))، فقال: يا رسول، أنا أحبُّ إليهم من أبصارهم، وكان فيهم محببًا مطاعًا، فلما دعاهم إلى الإسلام أخذتهم العِزَّة بالإثم، فرَمَوْه بالنَّبْل من كل وجه، فأصابه سهم فقتله، وقيل لعروة بعد أن أصابه السهم: ما ترى في دَمِك؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إليَّ، فليس فيَّ إلا ما في الشُّهداء الذين قتلوا مع رسول الله ﷺ قبل أن يرتَحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم.
ويقال: إنَّ رسولَ الله ﷺ قال فيه: ((إنَّ مَثَلَه في قومه لَكَمَثَل صاحب ياسين في قومه)).
في السنة الثامنة من الهجرة اعتمر النبيُّ ﷺ وبعد أنْ فَرَغ من عُمرته انصرف راجعًا إلى المدينة، واستخلف على مكة عَتَّابَ بن أَسِيد، وخلَّف معه معاذ بن جبل يفقهُ الناس في الدين، ويعلمهم القرآن.
في السنة التاسعة من الهجرة قَدِمَ ضِمَامُ بن ثَعْلَبَة وافدًا عن بني سعد بن بكر، وسأل الرسول ﷺ عن الإسلام، ثُمَّ أسلم، وقال رسول الله ﷺ: ((إنْ صدق ذو العقيصتين، دَخَل الجنة))، ثم خرج حتى قدم على قومه، فكان أول ما تكلم به أن قال: بِئسَتِ اللاتُ والعزى، قالوا: مه يا ضمام، اتَّقِ البَرَصَ، اتق الجُذَام، اتق الجنونَ، قال: ويلكم، إنَّهما - والله - لا يَضُران ولا ينفعان، إنَّ الله قد بعث رسولاً، وأنزل عليه كتابًا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإنِّي أشهد أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به وما نهاكم عنه، فما أمسى من ذلك اليوم في حاضره رجلٌ ولا امرأة إلا مُسلمًا، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: فما سمعنا بوافدِ قوم كان أفضلَ من ضمام بن ثعلبة.
في السنة التاسعة من الهجرة بعث النبيُّ ﷺ أبا بكر أميرًا على الحج، فخرج أبو بكر ومن معه من المسلمين.
ونزلت سورةُ براءة في نقض ما بين رسول الله ﷺ وبين المشركين من العهد أنْ لا يَصُدَّ عن البيت أحدًا جاءه.
فدعا رسولُ الله ﷺ عليَّ بن أبي طالب، فقال له: ((اخرُج بهذه القصة من صدر براءة، وأذِّن في الناس يومَ النحر إذا اجتمعوا بمنًى أنَّه لا يدخل الجنة كافر، ولا يَحج بعد العام مشركٌ، ولا يطوف بالبيت عُرْيَانٌ، ومن كان له عند رسول الله ﷺ عهد، فهو إلى مُدته))، حتى إذا كان يوم النحر، قام عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - بالذي أمره به رسول الله ﷺ فلم يحج بعد ذلك العام مُشرك، ولم يطُفْ بالبيت عريان.
ولما قدم الجارود بن المنذر على الرسول ﷺ دعاه الرسولُ ﷺ إلى الإسلام، فأسلم، وحين رجع من قومه مَن كان أسلم منهم مع الغَرورِ بن المنذر بن النُّعمان في زمن الرِّدَّة، قام الجارود فتكلم فتشهَّد شهادةَ الحقِّ، ودعا إلى الإسلام، فقال: "أيها الناس، إنِّي أشهد أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأكفِّر من لم يشهد".
وقد كان رسول الله ﷺ بعث العلاءَ بن الحضرمي قبل فتحِ مكة إلى المنذر بن ساوى العبدي، فأسلم وحَسُنَ إسلامه، ثم مات بعد وفاة رسول الله ﷺ قبل رِدَّة أهل البحرين، والعلاء عنده أمير الرسول ﷺ على البحرين.
وحين بعث رسول الله ﷺ مُعاذًا إلى اليمن أوصاه وعهدَه إليه، ثم قال له: ((يَسِّر ولا تُعسِّر، وبَشِّر ولا تُنفِّر، وإنَّك ستقدم على قوم من أهل الكتاب يسألونك: ما مِفتاح الجنة؟ فقل: شهادةُ أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له)).
روى ابن عباس قال: لَمَّا بعث رسول الله ﷺ معاذًا إلى اليمن، قال له: ((إنك ستأتي قومًا من أهل الكتاب، فليكُن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أجابوا لذلك، فأعلِمْهم أنَّ الله افترض عليهم خمسَ صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أجابوا لذلك، فأعلمهم أنَّ الله قد افترض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم، فتُرَدُّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك، فإياك وكرائمَ أموالهم، واتقِ دعوةَ المظلوم، فإنَّه ليس بينها وبين الله حجاب)).
وبعث رسول الله ﷺ خالد بن الوليد في السنة العاشرة من الهجرة إلى بني الحارث بن كعب بنجران، وأمره أنْ يَدعُوَهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثًا، فإن استجابوا فاقبل منهم، وإن لم يفعلوا فقاتلهم، فخرج خالد حتى قَدِمَ عليهم، فبعث الركبانَ يضربون في كل وجه، ويدعون إلى الإسلام، ويقولون: أيها الناس، أسلموا تسلموا، فأسلمَ الناسُ ودخلوا فيما دُعوا إليه، فأقام فيهم خالد يعلمُهم الإسلامَ وكتاب الله وسنةَ نبيه ﷺ وبذلك كان أَمَره رسولُ الله ﷺ إن هم أسلموا، ولم يقاتلوا.
وكتب خالد بن الوليد للرسول ﷺ يُخبره بما حَصَل، فكتب له الرسول يأمُره بالقدوم إليه ومعه وفدُ بني الحارث بن كعب.
وبعد رجوع الوفد بعث إليهم الرسولُ ﷺ عمرَو بن حزم؛ ليُفقِّهَهم في الدين، ويعلمهم السنة، ومعالِمَ الإسلام، ويأخذ منهم صدقاتهم.
وكتب له كتابًا عَهِدَ إليه فيه عهدَه، وأمره فيه بأمره:
((بسم الله الرحمن الرحيم، هذا بيانٌ من الله ورسوله؛ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1] عَهْدٌ من محمد النبي رسول الله لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى الله في أمره كله، فإنَّ الله مع الذين اتَّقَوا والذين هم مُحسنون، وأمره أنْ يأخذَ بالحق كما أمره الله، وأن يبشر الناسَ بالخير ويأمرهم به، ويعلم الناسَ القرآنَ ويُفقههم فيه، وينهى الناس، فلا يَمَس أحدٌ القرآنَ إلا وهو طاهر، ويُخبر الناس بالذي لهم والذي عليهم، ويلين للنَّاس في الحق، ويشتد عليهم في الظلم، فإنَّ الله كَرِه الظلمَ ونَهى عنه، فقال: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 18]، ويبشر الناس بالجنة وبعملها، وينذر الناسَ النار وعملها، ويستألف الناس حتى يفقهوا في الدين، ويعلم الناس معالِمَ الحج، وسننَه، وفريضته، وما أمر الله به، والحج الأكبر: الحج الأكبر، والحج الأصغر هو العمرة.
وينهى الناس أنْ يُصلي أحدٌ في ثوب واحد صغير، إلاَّ أن يكون ثوبًا يثني طرفيه على عاتقيه، وينهى الناس أن يَحتبي أحدٌ في ثوب واحد يُفضي بفَرجه إلى السماء، وينهى أن يعقص أحد شعر رأسه في قفاه.
وينهى إذا كان بين الناس هيج عن الدُّعاء إلى القبائل والعشائر، ولكن دعواهم إلى الله - عزَّ وجلَّ - وحدَه لا شريك له، فمن لم يدعُ إلى الله ودعا إلى القبائل والعشائر، فليقطفوا بالسيف حتى تكون دعواهم إلى الله وحدَه لا شريك له.
ويأمُرُ الناس بإسباغ الوضوء وجوهَهم، وأيديَهم إلى المرافق، وأرجلَهم إلى الكعبين، ويَمسحون برؤوسهم، كما أمرهم الله، وأمر بالصلاة لوقتِها، وإتمام الركوع والسجود والخشوع، ويُغلِّس بالصبح، ويهجِّر بالهاجرة حين تَميل الشمس، وصلاة العصر والشمس في الأرض مدبرة، والمغرب حين يُقبل الليل، لا يؤخر حتى تبدو النُّجوم في السماء, والعشاء أول الليل، وأمر بالسعي إلى الجمعة إذا نودي لها، والغسل عند الرواح إليها.
وأمره أن يأخذ من المغانم خُمْسَ الله، وما كتب على المؤمنين في الصدقة من العَقار عُشْر ما سقت العين وسَقَتِ السماء، وعلى ما سقى الغُرْب نصف العُشر، وفي كل عَشْرٍ من الإبل شاتان، وفي كل عشرين أربع شياه، وفي كلِّ أربعين من البقر بقرةٌ، وفي كل ثلاثين من البقر تبيعٌ جَذَعٌ أو جَذَعَة، وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحْدَها شاة، فإنَّها فريضة الله التي افترض على المؤمنين في الصدقة، فمن زاد خيرًا فهو خير له.
وأنه من أسلم من يهوديٍّ أو نصراني إسلامًا خالصًا من نفسه، ودان بدين الإسلام، فإنَّه من المؤمنين، له مِثْلُ ما لهم، وعليه مثل ما عليهم، ومن كان على نصرانيَّته أو يهوديته، فإنَّه لا يُرَدُّ عنها، وعلى كل حالم ذكرٍ أو أنثى، حر أو عبد - دينارٌ وافٍ أو عِوَضه ثيابًا، فمن أدى ذلك فإنَّ له ذمة الله وذمة رسوله، ومن منع ذلك فإنه عدوٌّ لله ولرسوله وللمؤمنين جميعًا، صلوات الله على محمد، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1] "سيرة ابن هشام"، ج1، ص265، طبعة الحلبي، 1375هـ.
[2] "تفسير ابن كثير"، ج4 ص 100 - 101 باختصار.
[3] "تفسير ابن كثير"، ج 2 ص 495 - 496.
[4] لعله: وقال عبيدة عن عبدالله بن مسعود.
[5] "زاد المعاد في هدي خير العباد"، ج 1 ص 38.
[6] السيرة النبوية: لابن هشام ج 2 ص 607. والروض الأنف: للسهيلي ج6 ص387، ج 7 ص 465.
[7] زاد المعاد في هدي خير العباد، ج 1، 60 - 63. والكامل في التاريخ: لابن الأثير ج 2 ص 143. والبداية والنهاية ج 4 ص 362.