الوصف المفصل
- القصيدة التائية في القدر لشيخ الإسلام أحمد ابن تيمية [ دراسة، وتحقيق، وشرح ]
القصيدة التائية في القدر لشيخ الإسلام أحمد ابن تيمية [ دراسة، وتحقيق، وشرح ]
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله _صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً_ وبعد:
فإن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان، وقاعدة أساس الإحسان؛ وهو قطب رحى التوحيد ونظامه، ومبدأ الدين القويم وختامه( ).
وإن هذا الباب لمن أعظم أبواب العقيدة، وإن شأنَه لشأنُ غيره من الأبواب من حيث الوضوح والبيان، بل إن له شأناً عجيباً؛ لأن عامة الناس أعلم به من المتكلمين والفلاسفة؛ لأنه مسألة بديهية، والبديهي كلما زاد التعمق فيه بعد عن الإدراك( )؛ لذلك فإن الإيمان به أمر فطري يدرك ببادئ الرأي، وأول النظر.
ولهذا كانت العرب في جاهليتها وإسلامها تعرف القدر، ولم تكن تنكره _ كما صرَّح بذلك أحد أئمة اللغة وهو الإمام أحمد بن يحيى ثعلب بقوله: =ما في العرب إلا مثبت القدر خيره وشره أهل الجاهلية وأهل الإسلام+( ).
وإثباتهم للقدر مبثوث في ثنايا أشعارهم وخطبهم _ كما سيأتي عند الحديث عن أدلة القدر _ فهم يثبتون القدر ولا ينكرونه، وإن كان هذا الإثبات قد يشوبه بعض التخبط والجهل في فهم حقيقة القدر.
فنجد _ على سبيل المثال _ زهير بن أبي سلمى يقول في معلقته المشهورة:
فلا تكتُمنَّ الله ما في نفوسكم
ليخفى ومهما يُكْتَمِ الله يعلمِ
يؤخر فيوضع في كتاب فَيُدَّخَرْ
ليوم الحساب أو يُعَجَّلْ فَيُنْقَمِ( )
ثم تراه في موضع آخر من تلك المعلقة يقول:
رأيت المنايا خبطَ عشوَاءَ من تُصِبْ
تُمِتْهُ ومن تخطيء يُعَمَّرْ فيهرمِ( )
فهو لا ينكر القدر، وإنما يرى أن الأقدار كالناقة العشواء _ ضعيفة البصر _ تسير في الطريق، فمن أصابته مات، ومن أخطأته عاش.
وهذا جهل وتخبط في باب القدر؛ ذلك أن المنايا مكتوبة مقدرة، كما صرح بذلك غيره من أهل الجاهلية، كعمرو بن كلثوم أحد شعراء المعلقات حيث قال:
وأنَّا سوف تدركنا المنايا
مقدرةً لنا ومقدرينا( )
وكما قال لبيد بن ربيعة العامري÷في معلقته المشهورة يصف البقرة الوحشية وحالها مع الوحوش الضارية:
صادفن منها غِرَّةً فأصبنها
إن المنايا لا تطيش سهامها( )
وعندما بعث النبي"بيَّن هذا الأمر _ كغيره _ غاية البيان؛ فإن كلماتِه الجوامعَ النوافع في هذا الباب وغيره كفت وشفت، وجمعت وفرقت، وأوضحت وبينت، وحلَّت محل التفسير والبيان لما تضمنه القرآن.
ثم تلاه أصحابه من بعده، وتلقوا ذلك عنه، فاتبعوا طريقه القويم، وساروا على نهجه المستقيم، فجاءت كلماتهم كافية شافية، مختصرة نافعة؛ لقرب العهد، ومباشرة التلقي من مشكاة النبوة، التي هي مظهر كل نور، ومنبع كل خير، وأساس كل هدى؛ فكانوا بذلك أعظم الناس فهماً وفقهاً لهذا الباب، وأكثرهم إيماناً به وعملاً بمقتضاه، فأثَّر ذلك فيهم أيما تأثير، فكانوا _ رضوان الله عليهم _ أتقى الناس، وأكرم الناس، وأشجع الناس بعد الأنبياء _ عليهم السلام _.
ثم سلك أثرهم التابعون لهم بإحسان، فاقتفوا طريقهم، واهتدوا بهداهم، ودعوا إلى ما دعوا إليه، ومضوا إلى ما كانوا عليه( ).
ثم بعد ذلك دبَّ في هذه الأمة داء الأمم، فركبت سنن من كان قبلها، فدخلت الفلسفات اليونانيةُ، والهنديةُ، والفارسيةُ، وغيرُها بلادَ المسلمين، وظهرت بدعة القدرية في البصرة ودمشق، فوقع أول شرك في هذه الأمة، وهو نفي القدر، وكان ذلك في عهد أواخر الصحابة _ رضي الله عنهم _ الذين أنكروا تلك البدعة، وأعلنوا البراءة منها ومن أهلها.
ثم جاء من بعدهم علماء السلف، فتصدوا لتلك البدعة، وبينوا زيفها، وهتكوا سجفها، ودحضوا باطلها، وأظهروا الحق ونشروه، ودعوا الأمة إليه.
ومن أولئك العلماء الأجلاء شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم ابن عبدالسلام بن تيمية الحراني × فله في هذا الباب وغيرِه يدٌ طولى، وقِدْحٌ مُعلّىً؛ حيث تعرض لباب القدر، وبيَّنه، وانتصر لمذهب السلف فيه، وأجاب عن أدق مسائله، وتفاصيله، وكشف عن وجه الصواب فيما أثير حوله من شبهات، وصاول الفرق الضالة والمذاهب المنحرفة، وقارعهم بالحجة والبيان.
وكلامه في القدر مبثوث في ثنايا كثير من كتبه، وخصوصاً المجلد الثامن من مجموع الفتاوى الذي جمعه الشيخ عبدالرحمن بن قاسم، وابنه الشيخ محمد ـ عليهما رحمة الله ـ.
وإن من أبدع ما خطته يراعة شيخ الإسلام من الأجوبة في هذا الباب ـ ما أجاب به عن السؤال الذي أورده بعض علماء الذمة، أو على لسان علماء الذمة ـ كما سيأتي بيان ذلك ـ.
حيث أُورد ذلك السؤال في ثمانية أبيات تتضمن شبهاً عظيمة في هذا الباب، يقول مطلعها:
أيا علماءَ الدينِ ذميُّ دينكم
تحير دُلُّوه بأوضح حجة
()
فأجابه شيخ الإسلام على البديهة مرتجلاً بمائة وخمسة وعشرين بيتاً فصَّل من خلالها الرد على هذا السائل، وأتى بالعجب العجاب في باب القدر، ومطلعُ تلك القصيدة يقول:
سؤالك يا هذا سؤالُ معاندٍ
مخاصم رب العرش باري البرية
()
فهذه القصيدة في القدر هي موضوع البحث.
أما عنوان البحث فهو:
القصيدة التائية في القدر لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية
دراسة، وتحقيق، وشرح
أهمية موضوع الرسالة:
من خلال ما مضى يتبين لنا شيء من شأن موضوع الرسالة، وفيما يلي مزيد بيان لأهميته:
1_ أن موضوعها موضوع شريف، وباب من أبواب العلم لطيف؛ إذ هو يدور حول القدر، والقدر مرتبط بالإيمان بالله؛ فالمؤمن به مؤمن بقدرة الله، والمكذب به مكذب بقدرة الله.
2_ كثرة وروده في أدلة الشرع: فنصوص الكتاب والسنة حافلة ببيان حقيقة القدر، وتجلية أمره، وإيجاب الإيمان به.
وهذا ما سيتضح في ثنايا هذا البحث.
3_ أنه من الموضوعات الكبرى: التي خاض فيها جميع الناس على اختلاف طبقاتهم وأديانهم؛ والتي شغلت أذهان الفلاسفة، والمتكلمين، وأتباع الطوائف من أهل الملل وغيرهم.
4_ ارتباط القدر بحياة الناس وأحوالهم: فهو مرتبط بحياتهم اليومية وما فيها من أحداث وتقلبات ليس لهم في كثير منها إرادة أو تأثير.
ولو لم يكن هناك إلا مسألة الحياة والموت، وتفاوت الناس في الأعمال والمواهب، والغنى والفقر، والصحة والمرض، والهداية والإضلال _ لكان ذلك كافياً في أن يفكر الإنسان في القدر.
5_ كونه أعوصَ أبواب العقيدة: فمع أن باب القدر معلوم بالفطرة _كما مر_ وأن نصوص الشرع قد بينته غاية البيان إلا أنه يظل أعوص أبواب العقيدة؛ فدقة تفاصيله، وتشعب مسائله، وكثرة الخوض فيه، وتنوع الشبهات المثارة حوله _ كل ذلك يوجب صعوبة فهمه، وتعسر استيعابه.
فلا غرو أن يحار الناس في شأنه القديم والحديث؛ فلقد سلك العقلاء في هذا الباب كل واد، وأخذوا في كل طريق، وتولجوا كل مضيق، وقصدوا إلى الوصول إلى معرفته، والوقوف على حقيقته؛ فلم يرجعوا بفائده، ولم يعودوا بعائده، لأنهم التمسوا الهدى من غير مظانِّه، فتعبوا وأتعبوا، وحاروا وتحيروا، وضلوا وأضلوا.
6_ ما يترتب على الإيمان به على الوجه الصحيح: فذلك يثمر السعادة في الدنيا والآخرة، ويورث اليقين، ويكسب الأخلاق الفاضلة، والهمم العالية، والإرادات القوية.
7_ ما يترتب على الجهل به: فالجهل به، أو فهمه على غير الوجه الصحيح يورث الشقاء، والعذاب في الدنيا والآخرة.
والواقع يشهد بذلك في أمم الكفر؛ إذ يشيع فيها قلة التحمل، والانتحار، والقلق.
8_ أن هذه القصيدة اشتملت على مباحث دقيقة في باب القدر.
9_ أنها صدرت من عالم رباني، فهي تُبِينُ عن قوة علمه، ودقة فهمه، وعظيم منزلته، كيف وقد كتبها على البديهة مرتجلاً؟
هذه بعض الأمور التي تبين أهمية موضوع البحث.
أسباب البحث في هذا الموضوع: مما دفعني إلى البحث موضوع هذا البحث أمور منها:
1_ أن موضوع هذه القصيدة _ وهو القدر _ كان يشغل بالي منذ مدة طويلة؛ فكنت أكثر البحث فيه، والقراءة حوله، والكتابة في شأنه.
2_ أن هذه القصيدة اشتملت على الإجابة عن إشكالات كثيرة، وأنها تضمنت الإشارة إلى مصطلحات كثيرة؛ فرغبت في الوقوف عليها، وشرح ما جاء فيها.
3_ أن هذه القصيدة لم تأخذ حظها الكافي من الذيوع، والشرح _ كما سيأتي بيان ذلك في الفصل الثاني من القسم الأول عند الحديث عن شروح القصيدة _.
4_ ما يوجد من الاختلاف بين نسخها المخطوطة والمطبوعة؛ فكانت الرغبة في تحري التوصل إلى النص الصحيح الذي وضعه المؤلف.
5_ أن هذه القصيدة تجيب عن كثير من الشبهات، وترد على كثير من الطوائف، وتبين المذهب الحق في القدر.
6_ التيسير على طلاب العلم الذي يرغبون في دراسة هذه القصيدة، أو تدريسها.
فهذه بعض الأسباب الحاملة على البحث في هذه القصيدة.
الدراسات السابقة:
أما باب القدر فقد ألف فيه العلماء في القديم والحديث؛ فالعلماء الأوائل أودعوا مصنفاتهم الحديث عن القدر، وكان ذلك ضمن أبواب العقيدة الأخرى، كما في صنيع الإمام عبدالله بن أحمد في كتابه السنة، والإمام البخاري في كتابه خلق أفعال العباد، والإمام الآجري في الشريعة، والإمام اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة وغيرهم.
وَقلَّ أن يفردوا كتاباً يتعلق بالقدر وحده، ومن القليل من ذلك كتابُ القدر للفريابي وهو يعنى _ في غالبه _ بذكر الآثار المروية في القدرِ.
ومن ذلك رسائلُ وفتاوى متعددة لشيخ الإسلام ابن تيمية مبثوثة في كثير من كتبه خصوصاً المجلد الثامن من مجموع الفتاوى، وشفاء العليل لابن القيم.
أما في العصور المتأخرة فظهرت كتب في القدر منها الكبير، ومنها الرسائل الصغيرة، ومنها ما يتناول جزئية معينة من هذا الموضوع، ومن الكتب المؤلفة في ذلك:
1_ القضاء والقدر للعلامة الشيخ محمد بن عثيمين × وهي رسائل صغيرة.
2_ القضاء والقدر للشيخ الدكتور عمر الأشقر، وهو كتاب متوسط نافع.
3_ القضاء والقدر للشيخ الدكتور عبدالرحمن المحمود، وهو مجلد كبير ويكاد يكون أحسن ما كُتب في هذا الباب.
أما هذه القصيدة فلا أعلم أن أحداً تعرض لشرحها إلا اثنين هما العلامة سليمان بن عبدالقوي الحنبلي المعروف بـ: الطوفي × والعلامة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي ×.
وسيأتي الحديث عن هذين الشرحين في الفصل الثاني من القسم الأول عند الحديث عن شروح القصيدة.
خطة البحث:
أما خطة البحث فقد اشتملت على المقدمة السابقة، وعلى تمهيد، وقسمين وذلك كما يلي:
المقدمة
وفيها بيان مجمل لموضوع البحث، وأهميته، والسبب من وراء البحث فيه، كما أنها اشتملت على الخطة.
تمهيد
ويحتوي على ترجمة موجزة للمؤلف.
القسم الأول
دراسة عامة لموضوع القدر، وللقصيدة التائية
ويحتوي على فصلين:
الفصل الأول: دراسة عامة لموضوع القدر:
وتحته تمهيد، وستة مباحث:
تمهيد: مسألة في حكم الحديث عن القدر:
وفيه حديث عن مسألة حكم البحث في القدر، وتفصيل القول فيها، وبيان متى يجوز، ومتى لا يجوز، مع توجيه النصوص الواردة في ذلك.
المبحث الأول: تعريف القضاء والقدر، والعلاقة بينهما:
وتحته حديث عن تعريف القضاء، والقدر في اللغة والشرع، وعن إطلاقات كل واحد منهما، وعن العلاقة والفرق بينهما.
المبحث الثاني: أدلة الإيمان بالقضاء والقدر:
وتحته بيان لأدلة القضاء والقدر من الكتاب، والسنة، والإجماع، والفطرة، والعقل، والحس.
المبحث الثالث: مراتب القدر، وأقسامه:
وتحته مطلبان:
المطلب الأول: مراتب القدر:
وفيه حديث عن مراتب القدر الأربع: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق مع ذكر لأدلة كل منها.
وفيه _ أيضاً _ بيان لمسألة: خلق أفعال العباد، وذكر الأدلة على ذلك.
المطلب الثاني: أقسام التقدير:
وفيه حديث عن أقسام التقدير الخمسة: وهي التقدير العام، والتقدير البشري، والتقدير العمري، والتقدير السنوي، والتقدير اليومي.
المبحث الرابع: الإرادة الربانية:
وفيه تفصيل، وتفريق بين الإرادة الكونية، والشرعية.
المبحث الخامس: خلاصة القول في الحكمة والتعليل، والضلال في القدر.
وتحته مطلبان:
المطلب الأول: خلاصة القول في الحكمة والتعليل.
المطلب الثاني: خلاصة القول في الضلال في القدر.
المبحث السادس: نشأة القول في القدر في الإسلام.
الفصل الثاني: دراسة عامة للقصيدة التائية في القدر:
وتحته ستة مباحث:
المبحث الأول: تعريف بالقصيدة التائية:
وتحته بيان باسم القصيدة، وبحرها، ونسبتها إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، وسبب إنشاء القصيدة.
المبحث الثاني: اسم السائل، وعدد أبيات السؤال، والجواب:
وتحته بيان بالأقوال التي قيلت في اسم السائل، وبيان الراجح منها.
وتحته _ كذلك _ بيان بعدد أبيات السؤال، وعدد أبيات الجواب.
المبحث الثالث: شروح القصيدة.
المبحث الرابع: مجمل ما احتوت عليه القصيدة.
المبحث الخامس: وصف النسخ.
المبحث السادس: ملحوظات، وتنبيهات حول نسختي مجموع الفتاوى، والدرة البهية.
القسم الثاني:
تحقيق وشرح القصيدة التائية
منهج البحث في التحقيق والشرح:
أولاً: حرصت في البحث والشرح على ما يلي:
1_ ترقيم الآيات القرآنية، وبيان سورها في أعلى الصفحة؛ حتى لا تكثر الهوامش.
2_ تخريج الأحاديث النبوية، وبيان ما ذكره أهل الاختصاص في شأنها إن لم تكن في الصحيحين أو أحدهما؛ فإن كانت كذلك اكتفيت بالعزو إليهما أو إلى أحدهما، واكتفيت بالعزو إلى رقم الحديث إذا كان الكتاب الحديثي مرقماً؛ فأكتفي برقمه، ووضعه بين قوسين، أما إذا كان غير مرقم فأشير إلى الجزء والصفحة إذا كان ثمَّ أجزاء هكذا على سبيل المثال 1/20، أو إلى رقم الصفحة إذا لم يكن ذا أجزاء هكذا ص20.
3_ العناية بإخراج البحث في حلة قشيبة منظمة.
4_ العناية بسلامة الأسلوب، وتيسيره، وسيره على قواعد اللغة العربية، والحرص على جعله حالاً بين حالين: بين الوحشي الغريب، والسوقي القريب.
5_ مراعاة قواعد الإملاء من علامات ترقيم ونحوها مما ييسر فهم المقصود، وإبعاد اللبس.
5_ الترجمة للأعلام غير المشهورين ممن لهم صلة وثيقة بموضوع البحث.
6_ الاقتصار على ذكر اسم الكتاب، والمؤلف، والناشر، وتاريخ الطبعة، ورقمها عند أول رجوع للكتاب.
وإذا كان هناك اشتباه بين الكتب، وخُشي اللبس أُعيد ذكر المؤلف فحسب.
7_ إلحاق البحث بالفهارس الآتية:
أ_ فهرس الآيات القرآنية.
ب_ فهرس الأحاديث النبوية.
جـ _ فهرس الأقوال المأثورة.
د _ فهرس قوافي الأشعار.
هـ _ فهرس الأعلام المترجم لهم.
و _ فهرس المذاهب والطوائف والفرق.
ز _ فهرس المصطلحات.
ح_ فهرس الكلمات الغريبة.
ط _ فهرس الأماكن والبلدان.
ي _ فهرس المصادر والمراجع.
ك _ فهرس الموضوعات.
ثانياً: طريقة الشرح: الطريقة التي سيسير عليها شرح هذه القصيدة تتلخص فيما يلي:
1_ كتابة أبيات القصيدة في أعلى الصفحة، وكتابة الشرح تحتها مباشرة.
2_ شرح وتحليل الألفاظ في الأبيات إن كانت غريبة، أو ترتب على شرحها تيسير فهم المقصود.
3_ شرح الأبيات بيتاً بيتاً، وقد تجمع بعض الأبيات إلى بعض بحسب السياق، أو لكون بعضها مرتبطاً ببعض.
4_ قد يزاد بعض المسائل في شرح بعض الأبيات؛ ليتم المقصود من الشرح.
5_ الاستعانة بكتب اللغة، والغريب، والمعاجم، والشروح على تحليل الألفاظ، وشرحها.
6_ الحرص على الرجوع إلى كتب شيخ الإسلام ابن تيمية في الشرح؛ إذ خير ما يفسر كلامَ المؤلف كلامُه في المواضع الأخرى خصوصاً وأن آثار ابن تيمية كثيرة، وغالباً ما يجمل الكلام في موضع، ويبسطه في موضع آخر.
7_ قد يطول شرح بعض الأبيات، وقد يَقْصُر في بعضها الآخر، وذلك بحسب المقام.
8_ يذكر العزو والفروق بين النسخ في أسفل الصفحة كما سيأتي بيان ذلك عند الحديث عن وصف النسخ.
وفي الختام أتوجه بالشكر الجزيل لجامعة أم درمان الإسلامية في جمهورية السودان التي تكرمت بقبول الالتحاق بها، وأخص بالشكر كلية أصول الدين، وعميدها البروفيسور عمر يوسف حمزة.
وأشكر أستاذي البروفيسور شوقي بشير الذي تكرم بقبول الإشراف على هذا البحث، وفتح لي قلبه، وغمرني بحلمه، وتواضعه، وعلمه؛ فجزاه الله خير الجزاء، وجعله مباركاً أينما كان.
كما أشكر أصحاب الفضيلة حضرات المشايخ الذين تكرموا بقبول مناقشة هذه الرسالة، وهما:
1_
2_
والشكر موصول لكل من أعان على إخراج هذه الرسالة.
وأخيراً فإنني أسأل الله _ عز وجل _ أن ينفع بهذا العمل، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأسأله _ تبارك وتعالى _ أن يغفر لوالدي، وأن يرحمهما كما ربياني صغيراً.
كما أشكر كلَّ من أعان على إخراج هذا البحث، وأخص بالشكر الأخوان الأساتذة محمد البحر، وعبدالله الجبر، وخالد السبت.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الباحث
محمد بن إبراهيم بن أحمد الحمد
تمهيد
ترجمة موجزة لشيخ الإسلام
ابن تيمية
تمهيد
ترجمة موجزة لشيخ الإسلام أحمد ابن تيمية
هو تقي الدين، أبو العباس، أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام ابن تيمية الحراني، ولد سنة 661هـ، وتوفي سنة 728هـ.
ذلك الإمام الحبر، والعلامة البحر، الذي دنت له قطوف العلوم، ودانت له نواصي الحكمة، والذي طبقت شهرته الخافقين، وسار بحديثه الركبان، فهو أُمَّةٌ في الخير، وقدوة في الهدى والتقوى.
والحديث عن جوانب النبوغ والألمعية في سيرة هذا الإمام يطول، والمقام لا يتسع للإسهاب والإطناب؛ لأن جوانب العظمة في شخصيته كثيرة جداً، يصعب حصرها، والوقوف عليها.
علمه: فإذا أتيت إلى العلم وجدت العباب الزاخر، والبحر المتلاطم، وذلك لما وهبه الله من سعة العلم وغزارته.
قال الحافظ البزار( ) ×: =أما غزارة علومه فمنها ذكر معرفته بعلوم القرآن المجيد، واستنباطه لدقائقه، ونقله لأقوال العلماء في تفسيره، واستشهاده بدلائله، وما أودعه الله _ تعالى _ فيه من عجائبه، وفنون حكمه، وغرائب نوادره، وباهر فصاحته، وظاهر ملاحته؛ فإنه فيه الغاية التي ينتهى إليها، والنهاية التي يُعَوّل عليها.
ولقد كان إذا قُرىء في مجلسه آيات من القرآن يشرع في تفسيرها، فينقضي المجلس بجملته، والدرس برُمَّتِه، وهو في تفسير بعض آية منها.
وكان مجلسه مُقَدَّراً بقدر ربع النهار، يفعل ذلك بديهة من غير أن يكون له قارئ معين يقرأ له شيئاً معيناً يبيِّته؛ ليستعد لتفسيره.
بل كان كل من حضر يقرأ ما تيسر له، ويأخذ هو في القول على تفسيره.
وكان غالباً لا يقطع إلا ويفهم السامعون أنه لولا مضي الزمن المعتاد لأورد أشياء أخر في معنى ما هو فيه من التفسير، لكن يقطع نظراً في مصالح الحاضرين.
ولقد أملى في تفسير [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ] الإخلاص: 1، مجلداً كبيراً.
وقوله _ تعالى _: [الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى] طه: 5 نحو خمس وثلاثين كراساً+( ).
ثم قال البزار ×: =وأما معرفته، وبصره بسنة رسول الله" وأقواله، وأفعاله، وقضاياه، ووقائعه، وغزواته، ومعرفته بصحيح المنقول عنه وسقيمه، وبقية المنقول عن الصحابة _ رضي الله عنهم _ في أقوالهم، وأفعالهم، وفتاويهم، وأحوالهم، وأحوال مجاهداتهم في دين الله، وما خصوا به من بين الأمة فإنه كان ÷ من أضبط الناس لذلك، وأعرفهم فيه، وأسرعهم استحضاراً لما يريده منه؛ فإنه قل أن ذكر حديثاً في مصنف أو فتوى، أو استشهد به، أو استدل به إلا وعزاه في أي دواوين الإسلام هو، ومن أي قسم من الصحيح، أو الحسن، أو غيرهما، وذكر اسم راويه من الصحابة.
وقلَّ أن يسأل عن أثر إلا وبيَّن في الحال حاله، وحال أمره، وذاكره+( ).
وقال _ أيضاً _: =ومن أعجب الأشياء في ذلك أنه في محنته الأولى بمصر لما أخذ وسجن، وحيل بينه وبين كتبه صنف عِدَّةَ كتبٍ صغاراً وكباراً، وذكر فيها ما احتاج إلى ذكره من الأحاديث والآثار، وأقوال العلماء، وأسماء المحدثين، والمؤلفين، ومؤلفاتهم، وعزا كل شيء من ذلك إلى ناقليه وقائليه بأسمائهم، وذكر أسماء الكتب التي ذكر فيها، وأي موضع هو منها كل ذلك بديهة من حفظه؛ لأنه لم يكن عنده حينئذ كتاب يطالعه.
ونُقِّبت، واختُبرت، واعتبرت فلم يوجد فيها _ بحمد الله _ خلل ولا تغيير+( ).
وقال البزَّار: =حكى من يوثق بنقله أنه كان يوماً بمجلس، ومحدثٌ يقرأ عليه بعض الكتب الحديثية، وكان سريع القراءة، فعارضه الشيخ في اسم رجل عن سند الحديث، وقد ذكره القارئ بسرعة، فذكر الشيخ أن اسمه فلان بخلاف ما قرأ، فاعتبروه فوجدوه كما قال الشيخ+( ).
وقال البزَّار: =ولقد سئل يوماً عن الحديث (لعن الله المحلِّل والمحلَّل له)( )فلم يزل يورد فيه وعليه حتى بلغ كلامه فيه مجلداً كبيراً+( ).
أما مؤلفاته ومصنفاته وفتاويه فيقصر دونها العد والإحصاء، والبحث والاستقصاء.
ولهذا قلَّ أن تجد باحثاً في عصرنا هذا إلا ويعول على ابن تيمية، ويأخذ بأقواله، سواء كان ذلك في العقائد أو الفقه، أو الحديث، أو الفلسفة، أو المنطق، أو التربية، أو السلوك، أو السياسة، أو الاقتصاد أو غيرها.
تعبده: أما تعبده × فكان عجباً من العجاب، وذلك لما آتاه الله من جلد عجيب، ورغبة ومحبة للعبادة.
قال تلميذه ابن القيم( ) ×: =وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله_ تعالى _ إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغدَّ سقطت قوتي، أو كلاماً قريباً من هذا.
وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها؛ لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر، أو كلاماً هذا معناه+( ).
وقال البزار: =أما عن تعبده ÷ فإنه قلَّ أن سُمعَ بمثله؛ لأنه قد قطع جُلَّ وقته وزمانه فيه، حتى إنه لم يجعل لنفسه شاغلة تشغله عن الله _تعالى _ ما يراد له لا من أهل، ولا من مال.
وكان في ليله متفرداً عن الناس كلهم، خالياً بربه _عز وجل_ ضارعاً، مواظباً على تلاوة القرآن العظيم، مكرراً لأنواع التعبدات الليلية والنهارية.
وكان إذا ذهب الليل، وحضر مع الناس بدأ بصلاة الفجر يأتي بسنتها قبل إتيانه إليهم.
وكان إذا أحرم بالصلاة تكاد تنخلع القلوب لهيبة إتيانه بتكبيرة الإحرام.
فإذا دخل في الصلاة ترتعد أعضاؤه، حتى يميله يمنة ويسرة+( ).
سمته وهديه وخلقه: أما عن سمته وهديه وحسن خلقه فكان ضرباً من الخيال.
قال ابن القيم في معرض حديث له عن حسن الخلق، والعفو، ومقابلة الإساءة بالإحسان: =وما رأيت أحداً أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام _ قدَّس الله روحه _.
وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: =وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه+.
وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم، وجئت يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوةً وأذىً له، فنهرني، وتنكر لي، واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله، فعزَّاهم، وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجونه فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا الكلام، فسرُّوا به، ودعوا له، وعظموا هذه الحال منه، فرحمه الله ورضي عنه+( ).
وقال البزار عن زهده: =ولقد اتفق كل من رآه خصوصاً من أطال ملازمته أنه ما رأى مثله في الزهد في الدنيا، حتى لقد صار ذلك مشهوراً؛ بحيث قد استقر في قلب القريب والبعيد من كل من سمع بصفاته على وجهها.
بل لو سُئل عامي من أهل بلد بعيد من الشيخ: من كان أزهد أهل هذا العصر، وأكملهم في رفض فضول الدنيا، وأحرصهم على طلب الآخرة؟ لقال: ما سمعت بمثل ابن تيمية _ رحمة الله عليه _+( ).
وقال عن تواضعه: =أما تواضعه فما رأيت ولا سمعت بأحد من أهل عصره مثله في ذلك؛ كان يتواضع للكبير، والصغير، والجليل، والحقير، والغني الصالح، والفقير.
وكان يدني الفقير الصالح، ويكرمه، ويؤنسه، ويباسطه بحديثه المُسْتَحْلَى زيادة على مثله من الأغنياء، حتى إنه ربما خدمه بنفسه، وأعانه بحمل حاجته؛ جبراً لقلبه، وتقرباً بذلك إلى ربه.
وكان لا يسأم ممن يستفتيه، أو يسأله، بل يقبل عليه ببشاشة وجه، ولين عريكة، ويقف معه حتى يكون هو الذي يفارقه كبيراً أو صغيراً، رجلاً أو امرأة، حُرَّاً أو عبداً، عالماً أو عاميَّاً، حاضراً أو بادياً.
ولا يجبهه، ولا يحرجه، ولا ينفره بكلام يوحشه، بل يجيبه، ويفهمه، ويعرفه الخطأ من الصواب بلطف وانبساط+( ).
وقال عن كرمه: =كان ÷ مجبولاً على الكرم، لا يتطبعه ولا يتصنعه؛ بل هو له سجية، وقد ذكرت فيما تقدم أنه ما شد على دينار ولا درهم قط، بل كان مهما قدر على شيء من ذلك يجود به كله.
وكان لا يرد من يسأله شيئاً يقدر عليه من دراهم ولا دنانير، ولا ثياب ولا كتب ولا غير ذلك، بل ربما كان يسأله بعض الفقراء شيئاً من النفقة، فإن كان حينئذ متعذراً لا يَدَعُه يذهب بلا شيء، بل كان يعمد إلى شيء من لباسه فيدفعه إليه، وكان ذلك المشهور عند الناس من حاله+( ).
وقال: =وحدثني من أثق به: أن الشيخ ÷ كان لا يرد أحداً يسأله شيئاً كَتَبَهُ، بل يأمره أن يأخذ هو بنفسه ما يشاء منها.
وأُخْبِرْنا أنه جاءه يوماً إنسان يسأله كتاباً ينتفع به، فأمره أن يأخذ كتاباً يختاره، فرأى ذلك الرجل بين كتب الشيخ مصحفاً قد اشتُري بدراهمَ كثيرةٍ، فأخذه ومضى، فلام بعض الجماعة الشيخ في ذلك، فقال: أيحسن بي أن أمنعه بعدما سأله؟ دعه فلينتفع به.
وكان الشيخ ÷ ينكر إنكاراً شديداً على من يُسأل شيئاً من كتب العلم ويمنعها من السائل، ويقول: ما ينبغي أن يمنع العلم ممن يطلبه+( ).
شجاعته: أما عن شجاعته، وقوة قلبه، ورباطة جأشه فحدث ولا حرج.
قال ابن القيم ×: =وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس، والتهديد، والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسَرِّهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه.
وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض _ أتيناه، فما هو إلا أن نراه، ونسمعَ كلامه فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً، وقوة، ويقيناً، وطمأنينة.
فسبحان من أشهد عباده جَنَّتهُ قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من رَوْحها، ونسيمها، وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها، والمسابقة إليها+( ).
وقال البزار ×: =كان ÷ من أشجع الناس، وأقواهم قلباً.
ما رأيت أحداً أثبت جأشاً منه، ولا أعظم عناءً في جهاد العدو منه، كان يجاهد في سبيل الله بقلبه ولسانه ويده، ولا يخاف في الله لومة لائم.
وأخبَرَ غيرُ واحدٍ أن الشيخ ÷ كان إذا حضر مع عسكر المسلمين في جهاد يكون بينهم واقيتَهُم، وقطبَ ثباتهم، إنْ رأى من بعضهم هلعاً، أو رِقَّةً، أو جبانةً _ شَجَّعَه، وثبَّته، وبشره، ووعده بالنصر والظفر والغنيمة، وبيَّن له فضل الجهاد والمجاهدين، وإنزال الله عليهم السكينة.
وكان إذا ركب الخيل يتَحَنَّك( )، ويجول في العدو كأعظم الشجعان، ويقوم كأثبت الفرسان، ويكبر تكبيراً أنكى في العدو من كثير من الفتك بهم، ويخوض فيهم خوض رجل لا يخاف الموت.
وحدثوا أنهم رأوا منه في فتح عكة أموراً عظيمة يعجز الواصف عن وصفها.
قالوا: ولقد كان السبب في تملك المسلمين إياها بفعله، ومشورته، وحسن نظره+( ).
هذه بعض ملامح النبوغ والألمعية من سيرة هذا الإمام العالم المجاهد( ).
القسم الأول دراسة عامة للقدر وللقصيدة التائية
الفصل الأول دراسة عامة لموضوع القدر
وتحته تمهيد، وستة مباحث:
تمهيد: مسألة في حكم الحديث عن القدر.
المبحث الأول: تعريف القضاء والقدر، والعلاقة بينهما .
المبحث الثاني: أدلة الإيمان بالقضاء والقدر.
المبحث الثالث: مراتب القدر، وأقسامه:
وتحته مطلبان:
المطلب الأول: مراتب القدر.
المطلب الثاني: أقسام التقدير.
المبحث الرابع: الإرادة الربانية.
المبحث الخامس: خلاصة القول في الحكمة والتعليل، والضلال في القدر.
وتحته مطلبان:
المطلب الأول: خلاصة القول في الحكمة والتعليل.
المطلب الثاني: خلاصة القول في الضلال في القدر.
المبحث السادس: نشأة القول في القدر في الإسلام.
تمهيد
مسألة في حكم الحديث عن القدر
قبل الدخول في تفاصيل الحديث عن القضاء والقدر _ يحسن الوقوف عند مسألة أُثيرت قديماً، وتثار حديثاً، مفادها: أنه لا ينبغي الحديث في مسائل القدر مطلقاً، بحجة أن ذلك يبعث على الشك والحيرة، وأن هذا الباب زلّت به أقدام، وضلَّت به أفهام.
والكلام هكذا _ على إطلاقه _ غير صحيح، لأمور عديدة منها:
1_ أن الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان: ولا يتم إيمان العبد إلا به، فكيف يُعرف إذا لم يُتحدث عنه، ويُبَيَّن للناس أمره؟!
2_ أن القرآن الكريم مليءٌ بذكر القدر وتفاصيله: والله _عز وجل_ أمرنا بتدبر القرآن وعَقْلِه، كما في قوله _ تعالى _: [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ] ص: 29، وقوله: [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] محمد: 24.
فما الذي يخرج الآيات التي تتحدث في القدر عن هذا العموم؟!
3_ أن الإيمان بالقدر ورد في أعظم حديث في الإسلام: وهو حديث جبريل _ عليه السلام _ وكان ذلك في آخر حياة النبي " وقد قال " في آخر الحديث: =فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم+( ).
فمعرفته _ إذاً _ من الدين، وهي واجبة ولو على سبيل الإجمال.
4_ أن الصحابة سألوا النبي " عن أدق الأمور في القدر: كما جاء في حديث جابر في صحيح مسلم عندما جاء سراقة بن مالك بن جعشم إلى النبي"فقال: يا رسول الله بيِّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيما العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت المقادير؟ أم فيما نستقبل؟
قال: =لا، بل فيما جفت به الأقلام، وجرت المقادير+ قال: ففيم العمل؟ فقال: =اعملوا فكل ميسر+.
وفي رواية =كل عامل ميسر لعمله+ ( ).
5_ أن الصحابة علَّموا تلاميذهم _ من التابعين _ ذلك: وسألوهم؛ ليختبروهم، وينظروا في فهمهم لهذا الباب، كما جاء في صحيح مسلم أن أبا الأسود الدؤلي قال: قال لي عمران بن الحصين: =أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قُضي عليهم، ومضى عليهم من قَدَرِ ما سبق؟ أو فيما يُستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟
فقلت: بل شيءٌ قُضي عليهم.
قال: فقال: أفلا يكون ظلماً؟
قال: ففزعت من ذلك فزعاً شديداً، قلت: كل شيء خلق الله، وملك يده، فلا يُسأل عما يفعل وهم يسألون.
فقال لي: يرحمك الله، إني لم أُرِدْ بما سألتك إلا لأَحْزُر( ) عقلك+( ).
6_ أن أئمة السلف الصالح من العلماء كتبوا في هذا الباب: بل وأطنبوا فيه، فلو قلنا بمنع الحديث عن القدر لضللناهم، وسَفَّهْنَا أحلامهم.
7_ لو تركنا الحديث عن القدر لجهل الناس به: ولربما انفتح الباب لأهل البدعة والضلالة؛ ليروجوا باطلهم، ويَلبسوا على المسلمين دينهم.
8_ فوات العلم والخير: فلو تركنا الحديث عن القدر، وعن ثمراته لفاتنا علم غزير، وخير كثير.
فإن قيل: كيف نجمع بين هذا وبين ما ورد في ذم الخوض في القدر، كما في قوله " كما في حديث ابن مسعود ÷: =إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا+ ( ).
وكذلك ما ورد أن النبي " غضب غضباً شديداً، عندما خرج على أصحابه يوماً وهم يتنازعون في القدر، حتى احمرَّ وجهه، حتى كأنما فُقيء في وجنتيه حبُّ الرمان، فقال: =أبهذا أمرتم؟ أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما أهلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر؛ عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه+( ).
فالجواب عن ذلك: أن النهي الوارد مُنْصَبٌّ على الأمور الآتية:
1_ الخوض في القدر بالباطل وبلا علم ولا دليل: قال _ تعالى _ [وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] الإسراء: 36، وقال عن المجرمين: [مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ] المدثر: 42_45.
2_ الاعتماد في معرفة القدر على العقل البشري القاصر: بعيداً عن هدي الكتاب والسنة؛ ذلك أن العقل البشري لا يستقل بمعرفة ذلك على وجه التفصيل؛ لأن له حدوداً وطاقاتٍ يجب أن يقف عندها( ).
3_ ترك التسليم والإذعان لله _ تعالى _ في قدره: ذلك لأن القدر غيب، والغيب مبناه على التسليم.
4_ البحث عن الجانب الخفي في القدر: الذي هو سر الله في خلقه، والذي لم يطَّلع عليه مَلَك مقرب، ولا نبي مرسل، وذلك مما تتقاصر العقول عن فهمه ومعرفته( ).
5_ الأسئلة الاعتراضية التي لا يجوز إيرادها: كمن يقول مُتَعَنِّتاً: لماذا هدى الله فلاناً،وأضل فلاناً؟ ولماذا كلَّف الله الإنسان من بين سائر المخلوقات؟ ولماذا أغنى الله فلاناً، وأفقر فلاناً؟ وهكذا. . .
أما =من سأل مستفهماً فلا بأس به؛ فشفاء العي السؤال، أما من سأل متعنتاً _ غير متفقه ولا متعلم _ فهو الذي لا يحل قليلُ سؤاله ولا كثيرُهُ+ ( ).
6_ التنازع في القدر: الذي يؤدي إلى اختلاف الناس فيه، وافتراقهم في شأنه، فهذا مما نهينا عنه.
ولا يدخل في التنازعِ المذمومِ منازعةُ الفرق الضالة، وردُّ شبههم، ودحض حججهم؛ لأن في ذلك إحقاقاً للحق، وإبطالاً للباطل.
ومن هنا يتبين لنا أن النهي عن الحديث في القدر على إطلاقه غيرُ صحيح، وإنما النهي كان عن الأمور الآنفة الذكر.
أما البحث فيما يستطيع العقل البشري أن يجول فيه، ويفهمه من منطلق النصوص _ كالبحث في مراتب القدر، وأقسام التقدير، وخلق أفعال العباد، إلى غير ذلك من مباحث القدر _ فهذا ميسَّر واضح لا يمنع من البحث فيه، على أنه لا يستطيع كل أحد أن يفهمها على وجه التفصيل، إلا أن هناك من يعلمها ويكشف ما فيها.
ومما يؤيد ذلك _ من أن النهي ليس على إطلاقه _ أنه ورد في الحديثِ السابقِ، حديثِ ابن مسعود، مع الأمر بالإمساك عن القدر _ الإمساكُ عن الصحابة.
والإمساكُ عن الصحابة إنما المقصود به الإمساك عما شجر بينهم، والكف عن ذكر مساوئهم، وتنقصهم، وثلبهم.
أما ذكر محاسنهم، والثناء عليهم فهذا أمر محمود بلا أي خلاف؛ فقد أثنى الله عليهم في القرآن الكريم، وزكاهم، وكذلك الرسول ".
ومما يؤيد ذلك _ أيضاً _ أن سبب غضب النبي " كما في الحديث السابق _ حديث الترمذي _ إنما هو بسبب تنازع الصحابة في القدر.
=وهذا يعني أن الكلام في القدر، أو البحث فيه بالمنهج العلمي الصحيح غير محرم أو منهي عنه، وإنما الذي نهى عنه الرسول " هو التنازع في القدر+( ).
وخلاصة القول في هذه المسألة: أن الحديث عن القدر لا يفتح بإطلاق، ولا يغلق بإطلاق؛ فإن كان الحديث بحق فلا يمنع ولا ينهى عنه، بل قد يجب، وإن كان بباطل فيمنع، وينهى عنه.
المبحث الأول تعريف القضاء والقدر، والعلاقة بينهما
المطلب الأول: القضاء:
1_ تعريف القضاء لغة: القضاء في اللغة مصدر الفعل قضى يقضي قضاءاً.
قال ابن فارس( )× في مادة (قضى): =القاف، والضاد، والحرف المعتل _ أصل صحيح يدل على إحكام أمر، وإتقانه، وإنفاذه لجهته.
قال الله _ تعالى _:[ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ] فصلت:12.
أي أحكم خلقهن، ثم قال أبو ذؤيب الهذلي( ):
وعليهما مسرودتان قضاهما
داود أو نَسَجُ السوابغ تُبَّعُ( )
()
والقضاء: هو الحكم، والصنع، والحتم، والبيان.
وأصله القطع، والفصل، وقضاء الشيء، وإحكامه، وإمضاؤه، والفراغ منه؛ فيكون بمعنى الخلق( ).
2_ إطلاقات القضاء في القرآن الكريم: يطلق لفظ القضاء في القرآن إطلاقات عديدة منها( ):
أ_ الوصية والأمر: قال الله _ تعالى _: [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ] الإسراء:23، أي أمر وأوصى.
ب_ الإخبار: قال _ تعالى _: [وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ] الإسراء:4.
ج_ الفراغ: [فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ] البقرة: 200.
وقال: [فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ] النساء:103.
د_ الفعل: قال _ تعالى _: [فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ] طه: 72.
هـ_ الوجوب والحتم: قال _ تعالى _: [وَقُضِيَ الأَمْرُ].
وقال _ تعالى _: [قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ] يوسف:41.
و_ الكتابة: قال _ تعالى _: [وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً] مريم: 21.
ز_ الإتمام: قال _ تعالى _:[ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ] القصص:29.
وقال _ تعالى _: [أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ] القصص: 28.
ح_ الفصل: قال _ تعالى _: [وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ] الزمر: 69.
ط_ الخلق: قال _ تعالى _: [فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ] فصلت:12.
ي_ القتل: قال _ تعالى _: [فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ] القصص:15.
المطلب الثاني: القدر:
1_ القدر في اللغة: =مصدر الفعل قَدِرَ يقْدَرُ قدَرَاً، وقد تسكن دالُه+( ).
قال ابن فارس× في مادة (قدر): =قدر: القاف، والدال، والراء، أصل صحيح يدل على مبلغ الشيء وكنه، ونهايته؛ فالقدْر مبلغ كل شيء، يقال: قَدْرُه كذا أي مبلغه، وكذلك القدَرُ، وقدَرْت الشيء أقدِره وأقدُره من التقدير+( ).
والقدَر محركة: القضاء، والحكم، وهو ما يقدِّره الله _عز وجل_ من القضاء، ويحكم به من الأمور.
والتقدير: التروية، والتفكير في التسوية أمر، والقَدَرُ كالقَدْر وجميعها جمعها: أقدار( ).
والفرق بين القدر والتقدير _ كما يقول أبو هلال العسكري( )_ =أن التقدير يُستعمل في أفعال العباد، ولا يُستعمل القدر إلا في أفعال الله _ عز وجل _+( ).
2_ إطلاقات القدر في القرآن الكريم: يطلق القدر في القرآن عدة إطلاقات منها:
أ_ التضييق: قال _ تعالى _: [وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ] الفجر:16.
ب_ التعظيم: قال _ تعالى _: [وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ] الأنعام:91.
ج_ الاستطاعة، والتغلب، والتمكن: قال _ تعالى _: [إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ] المائدة:34.
د_ التدبير: قال _ تعالى _: [فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ] المرسلات:23، أي دبَّرنا الأمور، أو أردنا وقوعها بحسب تدبيرنا.
هـ_ تحديد المقدار، أو الزمان، أو المكان: قال _ تعالى _: [وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ] سبأ: 18، وقال: [وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ] فصلت:10.
و_ الإرادة: قال _ تعالى _: [فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ] القمر:12، أي دبِّر، وأريد وقوعه.
ز_ القضاء والإحكام: قال _تعالى_: [نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ] الواقعة:60.
أي قضينا، وحكمنا.
ح_ التمهل والتَّروي في الإنجاز: قال _ تعالى _: [إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ] المدثر:18، أي تمهَّل، وتروَّى؛ ليتبين ما يقوله في القرآن.
وقال: [وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ] سبأ: 11.
أي تمهلْ، وتروَّ في السرد؛ كي تحكمه.
ط_ الصنع بمقادير معينة: قال _ تعالى _: [قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً] الإنسان:16( ).
المطلب الثالث: العلاقة بين القضاء والقدر، وتعريفهما في الاصطلاح:
المسألة الأولى: العلاقة بين القضاء والقدر:
من خلال ما سبق من تعريف القضاء والقدر في اللغة وبيان إطلاقاتهما في القرآن يتبين مدى العلاقةِ بينهما، والعلاقةِ بين المدلول اللغوي والشرعي _كما سيأتي_.
فكلٌّ مِن القضاء والقدر يأتي بمعنى الآخر؛ فمعاني القضاء تؤول إلى إحكام الشيء، وإتقانه، ونحو ذلك من معاني القضاء.
ومعاني القدر تدور حول ذلك، وتعود إلى التقدير، والحكم، والخلق، والحتم، ونحو ذلك.
ولهذا سيكون التعريف الشرعي شاملاً للقضاء والقدر، ثم بعد ذلك يكون الحديث عن الفروق بينهما.
المسألة الثانية: القضاء والقدر في الاصطلاح الشرعي:
هناك بعض ممن تطرق لتعريف القضاء والقدر يعرفه ببعض أفراده أو بعمومه دون تفصيل، أو إشارة إلى مراتبه وأركانه.
فهذا الجرجاني( ) × يعرف القدر فيقول:
=القدر: خروج الممكنات من العدم إلى الوجود واحداً بعد واحد مطابقاً للقضاء.
والقضاء في الأزل، والقدر فيما لا يزال+( )
وقال × في تعريف القضاء: =القضاء لغة: الحكم.
وفي الاصطلاح: عبارة عن الحكم الكلي الإلهي في أعيان الموجودات على ما هي عليه من الأحوال الجارية في الأزل إلى الأبد( )+( ).
وهذا التعريف صحيح، ولكن ينقصه الشمول، واستيعاب جميع الأفراد؛ وهي مراتب القدر الأربع.
ويمكن أن يعرف القضاء والقدر بأحد التعريفات التالية:
أ_ هو: =ما سبق به العلم، وجرى به القلم مما هو كائن إلى الأبد، وأنه _عز وجل_ قدر مقادير الخلائق، وما يكون من الأشياء قبل أن تقع في الأزل، وعلم _سبحانه وتعالى_ أنها ستقع في أوقات معلومة عنده _تعالى_ وعلى صفات مخصوصة؛ فهي تقع على حسب ما قدرها+( ).
ب_ وعُرِّف بأنه: تقدير الله للكائنات حسبما سبق به علمُه، واقتضته حكمته( ).
وهو تعريف مختصر لطيف.
ج_ هو تقدير الله _ تعالى _ للأشياء في القِدَم، وعلمه _ سبحانه _ أنها ستقع في أوقات معلومة وعلى صفات مخصوصة، وكتابته لذلك، ومشيئته له، ووقوعها على حسب ما قدرها، وخلقه لها.( )
وهذا التعريف من أجمع التعاريف، وأشملها.
د_ ويمكن أن يعرف القضاء والقدر تعريفاً مختصراً فيقال:
هو علم الله بالأشياء، وكتابته، ومشيئته، وخلقه لها.
المسألة الثالثة: الفروق بين القضاء والقدر:
اختلف العلماء في ذلك على أقوال، وفيما يلي ذكر لشيء من ذلك:
1_ قيل: =المراد بالقدر: التقدير، وبالقضاء: الخلق كقوله _تعالى_: [فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ] فصلت:12، أي خلقهن.
فالقضاء والقدر أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بمنزلة الأساس وهو القدر، والآخر بمنزلة البناء وهو القضاء؛ فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه+( ).
وقال الراغب الأصفهاني( ) ×: =والقضاء من الله أخص من القدر؛ لأنه الفصل بين التقدير؛ فالقدر هو التقدير، والقضاء هو الفصل والقطع.
وقد ذكر بعض العلماء أن القدر بمنزلة المُعَدِّ للكيل، والقضاء بمنزلة الكيل+( ).
2_ وقيل العكس؛ فالقضاءُ هو العلم السابق الذي حكم الله به في الأزل، والقدرُ هو وقوع الخلق على وزن الأمر المقضي السابق( ).
قال الجرجاني ×: =والفرق بين القدر والقضاء هو أن القضاء وجود جميع الموجودات في اللوح المحفوظ مجتمعة، والقدر وجودها متفرقة في الأعيان بعد حصول شرائطها+( ).
وقال مثل ذلك عند تعريفه للقضاء والقدر _ كما مر _.
3_ أنه لا فرق بين القضاء والقدر؛ فكل واحد منهما بمعنى الآخر؛ فإذا أطلق التعريف على أحدهما شمل الآخر؛ ويعبر عن كل واحد منهما كما يعبر عن الآخر؛ فهما مترادفان من هذا الاعتبار، فيقال: هذا قدر الله، ويقال: هذا قضاء الله، ويقال: هذا قضاء الله وقدره( ).
ولعل الأقرب _ والله أعلم _ أنهما إذا اجتمعا افترقا؛ بحيث يصبح لكل واحد منهما مدلول بحسب ما سبق في الأقوال السابقة.
وإذا افترقا اجتمعا؛ بحيث إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر( ).
وبالجملة فالأمر يسير، والخلاف فيها لا يترتب عليه شيء.
المبحث الثاني أدلة الإيمان بالقضاء والقدر
دلَّ على هذا الركن العظيم من أركان الإيمان _ الكتابُ، والسنةُ، والإجماعُ، والفطرةُ، والعقلُ، والحسُّ.
المطلب الأول: الأدلة من القرآن الكريم: الأدلة من القرآن الكريم على الإيمان بالقضاء والقدر كثيرة جداً منها:
1_ قوله _ تعالى _: [وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً] الأحزاب: 38.
ومعنى هذه الآية: أن الله _ عز وجل _ قدَّر أن يخلق خلقاً، ويأمرهم وينهاهم، ويجعل ثواباً لأهل طاعته، وعقاباً لأهل معصيته، فلما قدَّره كتب ذلك وغيَّبه، فسماه الغيب وأم الكتاب، وخلق الخلق على ذلك الكتاب: أرزاقهم، وآجالهم، وأعمالهم، وما يصيبهم من الأشياء من الرخاء والشدة، فكان أمر الله الذي مضى، وفرغ منه، وخلق الخلق عليه قدراً مقدوراً( ).
2_ قوله _ تعالى _: [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ] القمر: 49.
ومعنى الآية: أن الله _ سبحانه _ قدر الأشياء، أي علم مقاديرها وأحوالها، وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه، فلا يحدث حدث في العالم العلوي والسفلي إلا وهو صادر عن علمه _ تعالى _ وقدرته، وإرادته( ).
3_ قوله _ تعالى _: [وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ] الحجر: 21.
وهذا عام في كل شيء، وذهب قوم من المفسرين إلى أن المراد به المطر خاصة( ).
4_ وقوله _ تعالى _: [إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ، قَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ] المرسلات: 22_23.
5_ قوله _ تعالى _: [ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى] طه: 40.
6_ قوله _تعالى_: [وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً] الفرقان: 2.
7_ قوله _ تعالى _: [مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ] عبس: 19.
8_ قوله _ تعالى _: [وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى] الأعلى: 3.
9_ قوله _تعالى_: [لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً] الأنفال: 42.
10_ قوله _ تعالى _: [وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ] الإسراء: 4.
المطلب الثاني: الأدلة من السنة: لقد تظافرت الأدلة من السنة المطهرة على الإيمان بالقضاء والقدر، ومنها:
1_ قال "كما في حديث جبريل _ عليه السلام _: =وتؤمن بالقدر خيره وشره+( ).
2_ عن جابر بن عبدالله ÷ قال: قال رسول الله ": =لا يؤمن عبدٌ حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من الله، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه+( ).
3_ روى مسلم في الصحيح عن طاووس( ) قال: =أدركت ناساً من أصحاب رسول الله " يقولون: كل شيء بقدر، قال: وسمعت عبدالله ابن عمر يقول: كل شيء بقدر حتى العجز والكيْس، أو الكيس والعجز+( ).
4_ قال ": =وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قَدَرُ اللهِ وما شاء فعل+( ).
هذا وسيمر بنا في ثنايا البحث أدلة كثيرة من الكتاب والسنة زيادةً على ما مضى.
المطلب الثالث: الإجماع: فقد أجمع المسلمون على وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره من الله، قال النووي( ) ×: =وقد تظاهرت الأدلة القطعيات من الكتاب، والسنة، وإجماع الصحابة، وأهل الحل والعقد من السلف والخلف _ على إثبات قدر الله _ سبحانه وتعالى _+ ( ).
وقال ابن حجر( ) ×: =ومذهب السلف قاطبة أن الأمور كلها بتقدير الله _ تعالى _+ ( ).
المطلب الرابع: دلالة الفطرة: فالفطرة تدل على اتصاف الله _عز وجل_ بالقدرة، والعلم، والخلق، والمشيئة.
والقدر لم ينكره إلا الشواذُّ من المشركين من الأمم، ولم يقع الخطأ في نفي القدر وإنكاره، وإنما وقع في فهمه على الوجه الصحيح؛ ولهذا قال _سبحانه_ عن المشركين: [سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا] الأنعام: 148( ).
فهم أثبتوا المشيئة لله، لكنهم احتجوا بها على الشرك، ثم بيَّن _سبحانه_ أن هذا هو شأنُ من كان قبلهم، فقال: [كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ] الأنعام: 148.
وكانت العرب في الجاهلية تعرف القدر ولا تنكره، ولم يكن هناك من يرى أن الأمر مستأنف.
وهذا ما نجده مبثوثاً في أشعارهم كما مر في المقدمة، وكما في قول عنترة:
يا عبلُ أين من المنية مهربي
إن كان ربي في السماء قضاها( )
وكما في قول طرفة بن العبد:
فلو شاء ربي كنت قيسَ بن خالدٍ
ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد( )
وقول سويد بن أبي كاهل( ):
كتب الرحمنُ والحمد له
سَعَةَ الأخلاقِ فينا والضَّلَعْ( )
وقول المثَقِّب العبدي( ):
فأيقنت إن شاء الإله بأنه
سَيَبْلُغني أجلادُها وقصيدُها( )
وقول زهير:
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم
ليخفى ومهما يُكْتَمِ اللهُ يَعْلَمِ
يُؤَخَّرْ فَيُوضَعْ في كتاب فَيُدَّخَرْ
ليوم الحساب أو يُعَجَّلْ فَيُنْقَمِ( )
كما نجد ذلك _ أيضاً _ في خطبهم، كما في قول هانئ بن مسعود الشيباني( ) في خطبته المشهورة في يوم ذي قار: =إنَّ الحذر لا يُنجي من القدر+ ( ).
ولم يقل أحد منهم بنفيه إطلاقاً، كما صرح بذلك أحد كبار علماء العربية، وهو أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب( ) × بقوله: =لا أعلم عربياً قدرياً، قيل له: يقع في قلوب العرب القول بالقدر؟ قال: معاذ الله، ما في العرب إلا مثبت القدر خيره وشره أهل الجاهلية والإسلام، وكلامهم كثير بيِّن، ثم أنشد:
تجري المقادير على غرز الإبر
ما تنفذ الإبرة إلا بقدر
قال: وأنشد لامرئ القيس:
إن الشقاء على الأشقين مكتوب+ ( ).
وقال لبيد:
إن تقوى ربِّنا خير نفل
وبإذن الله ريثي وعجلْ
أحمد الله فلا ندَّ له
بيديه الخير ما شاء فعل
من هداه سبلَ الخير اهتدى
ناعمَ البال ومن شاء أضل( )
وقال كعب بن سعد الغنوي( ):
ألم تعلمي ألا يراخي منيتي
قعودي ولا يدني الوفاة رحيلي
مع القدرِ الموقوفِ حتى يصيبني
حِمامي لو آنَّ النفسَ غيرُ عجولِ( )
المطلب الخامس: دلالة العقل: أما دلالة العقل فهي أن العقل الصحيح يقطع بأن الله هو خالق هذا الكون، ومدبره، ومالكه، ولا يمكن أن يوجد على هذا النظام البديع، والتناسق المتآلف، والارتباط الملتحم بين الأسباب والمسببات هكذا صدفة؛ إذ الموجود صدفة ليس له نظام في أصل وجوده، فكيف يكون منتظماً حال بقائه وتطوره؟
فإذا تقرر عقلاً أن الله هو الخالق لزم ألا يقع شيء في ملكه إلا ما قد شاءه وقدَّره( ).
ومما يدل على هذا التقرير قوله _ تعالى _: [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً] الطلاق: 12.
ثم إن تفاصيل القدر لا ينكرها العقل، بل هي مما يتفق معه تمام الاتفاق، كما سيمر بنا قريباً.
المطلب السادس: دلالة الحس: فنحن نشاهد، ونسمع، ونقرأ أن الناس تستقيم أمورهم بالإيمان بالقضاء والقدر، وسيمر شيء من ذلك عند الحديث عن ثمرات الإيمان بالقدر، فالمؤمنون به على الوجه الصحيح هم أسعد الناس، وأصبرهم، وأشجعهم، وأكرمهم، وأكملهم، وأعقلهم.
ولو لم يكن الإيمان بالقدر حقاً لما حصل لهم ذلك.
ثم إن القدر =هو نظام التوحيد+( ) كما قال ابن عباس _رضي الله عنهما_ والتوحيد هو نظام الحياة، فلا تستقيم حياة الناس استقامة حقيقية إلا بالتوحيد، والتوحيد لا يستقيم إلا بالإيمان بالقضاء والقدر.
ثم إن فيما أخبرنا الله ورسوله "من أمور الغيب المستقبلية التي وقعت _كما جاء في الخبر_ دليلاً حسيَّاً واضحاً على أن الإيمان بالقدر حق وصدق( ).
المبحث الثالث مراتب القدر، وأقسامه
المطلب الأول: مراتب القدر:
الإيمان بالقدر يقوم على أربعة أركان تُسمى مراتب القدرأوأركانه، وهي المدخل لفهم باب القدر، ولا يتم الإيمان به إلا بتحقيقها كلها؛ فبعضها مرتبط ببعض، فمن أقر بها جميعاً اكتمل إيمانه بالقدر، ومن انتقص واحداً منها أو أكثر اختل إيمانه بالقدر، وهذه الأركان هي:
1_العلم. 2_الكتابة.
3_المشيئة. 4_الخلق.
وقد نظمها بعضهم بقوله:
عِلْمٌ كِتابةُ مولانا مشيئَتُهُ
وخَلْقُهُ وهو إيجادٌ وتكوينُ
المرتبة الأولى: العلم: وهو الإيمان بأن الله عالم بكل شيء جملة وتفصيلاً، أزلاً، وأبداً، سواء كان ذلك مما يتعلق بأفعاله، أو بأفعال عباده؛ فعلمه محيط بما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.
ويعلم الموجود، والمعدوم، والممكن، والمستحيل، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.
وقد عَلِمَ جميع خلقه قبل أن يخلقهم، فعلم أرزاقهم، وآجالهم، وأقوالهم، وأعمالهم، وجميع حركاتهم، وسكناتهم، وأهل الجنة، وأهل النار.
وهذه المرتبة _ وهي العلم السابق _ اتفق عليها الرسل من أولهم إلى آخرهم، واتفق عليها جميع الصحابة، ومن تبعهم من هذه الأمة، وخالفهم مجوسُ هذه الأمة _القدرية الغلاة _( ).
والأدلة على هذه المرتبة من القرآن الكريم والسنة المطهرة كثيرة جداً منها:
1_ قال _تعالى_: [فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى] طه:7.
قال ابن عباس _رضي الله عنهما_: =السر ما حدث بين العبد وغيره في خفاء، وأخفى منه ما أضمره العبد في نفسه مما لم يحدِّث به غيره+( ).
وقيل: السر ما أضمره العبد في نفسه، وأخفى منه ما لم يَكُنْ، ولا أضمره لأحد( ).
2_ قوله _ عزَّ وجل _: [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ] الحشر: 22.
أي عالم ما غاب من الإحساس وما حضر، وقيل: عالم السر والعلانية، وقيل: ما كان وما يكون، وقيل: الآخرة والدنيا.
وقدم الغيب على الشهادة؛ لكونه متقدماً وجوداً( ).
3_ قوله _عز وجل_ :[وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ] البقرة:30.
قيل: إنه علم من إبليس المعصية وخلقه لها( ).
وقيل: كان علمه أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة( ).
4_ قوله _ تعالى _ :[أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ] الجاثية: 23.
قال ابن عباس _ رضي الله عنهما _: =علم ما يكون قبل أن يخلقه.
وقال _ أيضاً _ : على علم قد سبق عنده.
وقال _ أيضاً _ : يريد الأمر الذي سبق له في أم الكتاب+( ).
5_ قوله _تعالى_ :[وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ] الأنعام: 28.
فهذا إضلال ناشئ عن علم الله السابق في عبده أنه لا يصلح للهدى، ولا يليق به، وأن محله غير قابل له؛ فالله أعلم حيث يضع هداه وتوفيقه كما هو أعلم حيث يجعل رسالته( ).
والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، ومنها:
قوله _ تعالى _ :[ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ] الأنعام : 59.
وقوله _تعالى_ :[لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً] التوبة:47.
وقوله _تعالى_ :[وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ] الأنفال: 32.
وأما من السنة فمن ذلك ما يلي:
1_ روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس _رضي الله عنهما_ قال: سُئل النبي "عن أولاد المشركين، فقال: =الله أعلم بما كانوا عاملين+ ( ).
قال ابن حجر × في شرح الحديث: =قال ابن قتيبة( ): معنى قوله: =الله أعلم بما كانوا عاملين+: أي لو أبقاهم؛ فلا تحكموا عليهم بشيء، وقال غيره: أي علم أنهم لا يعملون شيئاً، ولا يرجعون فيعملون، أو أَخْبَرَ بعلم شيء لو وجد كيف يكون مثل قوله: [وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا]( ).
2_ قال ": =ما منكم من نفس إلا وقد عُلم منزلها من الجنة والنار+( ).
المرتبة الثانية: الكتابة: وهي الإيمان بأن الله كتب ما سبق به علمه من مقادير الخلائق إلى يوم القيامة في اللوح المحفوظ.
وقد أجمع الصحابة، والتابعون، وجميع أهل السنة والحديث على أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب( )، التي هي اللوح المحفوظ، والذكر، والإمام المبين، والكتاب المبين.
والأدلة على هذه المرتبة كثيرة من الكتاب والسنة منها:
1_ قال _ تعالى _: [أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ] الحج: 70.
فما كتبه الله _ عز وجل _ وأثبته عنده كان في علمه قبل أن يكتبه، ثم كتبه كما في علمه، ثم وُجِدَ كما كتبه _عز وجل_( ).
2_ قوله _تعالى_:[وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ] يس: 12.
قوله: =وكل شيء+ أي من الأعمال والنيات وغيرها.
=أحصيناه في إمام مبين+ أي في كتاب هو أم الكتاب، وإليه مرجع الكتب التي تكون بأيدي الملائكة، وهو اللوح المحفوظ( ).
3_ قوله: [قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا] التوبة:51.
أي ما قدره الله، وأجراه في اللوح المحفوظ( ).
4_ قال _ سبحانه _ عن موسى _ عليه السلام _ دعاءه: [وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً] الأعراف: 156.
أي من علم نافع، ورزق واسع، وعمل صالح( ).
5_ وقال _تعالى_ عن محاجة موسى _عليه الصلاة والسلام_ لفرعون: [قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى، قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى] طه:51_52.
أي قد أحصى أعمالهم من خير وشر، وكتبه في كتابه، وهو اللوح المحفوظ، وأحاط به علماً وخُبْراً؛ فلا يضل عن شيء منها، ولا ينسى ما علمه منها( ).
6_ وقال _ عز وجل _: [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ] الأنبياء:105.
أي كتبنا في الكتاب المزبور، والمراد: الكتب المنزلة كالتوراة ونحوها =من بعد الذكر+ أي كتبناه في الكتب المنزلة بعدما كتبنا في الكتاب السابق، وهو اللوح المحفوظ، وأم الكتاب الذي توافقه جميع التقادير المتأخرة عنه( ).
7_ وقال _ تعالى _: [لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] الأنفال:68.
أي سبق به القضاء والقدر أنه قد أحل لكم الغنائم، وأن الله قد رفع عنكم _ أيتها الأمة _ العذاب =لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم+( ).
وأما السنة فمن ذلك ما يلي:
1_ روى مسلم في صحيحه عن عبدالله بن عمرو بن العاص _ رضي الله عنهما _ قال: سمعت رسول الله " يقول: =كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء+ ( ).
قال النووي ×:=قال العلماء: المراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره لا أصل التقدير؛ فإن ذلك أزلي لا أول له+.
وقوله: =وعرشه على الماء+: أي قبل خلق السموات والأرض والله أعلم+( ).
2_ قال النبي ": =ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النار، إلا وقد كتبت شقية أو سعيدة+ ( ).
المرتبة الثالثة: المشيئة: وهذه المرتبة تقتضي الإيمان بمشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا حركة، ولا سكون، ولا هداية، ولا إضلال إلا بمشيئته.
=وهذه المرتبة قد دل عليها إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم، وجميع الكتب المنزلة من عند الله، والفطرة التي فطر الله عليها خلقه، وأدلة العقل والبيان+ ( ).
والنصوص الدالة على هذا الأصل كثيرة جداً من الكتاب والسنة، منها:
1_ قوله _ تعالى _: [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ] القصص: 68.
في هذه الآية دليل على عموم خلقه _ تعالى _ لسائر المخلوقات، ونفوذ مشيئته بجميع البريات، وانفراده _ عز وجل _ باختيار من يختاره ويختصه من الأشخاص، والأوامر، والأزمان، والأماكن، وأن أحداً ليس له من الأمر والاختيار شيء( ).
2_ قوله _ تعالى _: [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ] التكوير:29.
3_ قوله _تعالى_: [وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ] الكهف: 23_24.
4_ قوله _ تعالى _: [وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمْ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمْ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الله] الأنعام:111.
5_ قوله _ تعالى _: [مَنْ يَشَأْ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] الأنعام: 39.
ومن الأدلة من السنة ما يلي:
1_ قال ": =إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يُصَرِّفه حيث يشاء+( ).
2_ وعن أبي موسى الأشعري ÷ قال: كان رسول الله " إذا جاءه السائل، أو طلبت إليه حاجة _ قال: =اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء+ ( ).
ومشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة يجتمعان فيما كان، وما سيكون، ويفترقان فيما لم يكن، ولا هو كائن، فما شاء الله كونه فهو كائن بقدرته لا محالة، وما لم يشأ كونه فإنه لا يكون؛ لعدم مشيئته له، لا لعدم قدرته عليه.
قال _ تعالى _: [وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ] البقرة: 253.
فعدم اقتتالهم ليس لعدم قدرة الله، ولكن لعدم مشيئته ذلك، ومثله قوله _تعالى_: [وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى] الأنعام: 35، وقوله: [وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا] الأنعام: 107، وقوله: [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً] يونس:99( ).
المرتبة الرابعة: الخلق: وهذه المرتبة تقتضي الإيمان بأن جميع الكائنات مخلوقة لله بذواتها، وصفاتها، وحركاتها، وبأن كل من سوى الله مخلوق مُوْجَدٌ من العدم، كائن بعد أن لم يكن.
وهذه المرتبة دلت عليها الكتب السماوية، وأجمع عليها الرسل _عليهم الصلاة والسلام_ واتفقت عليها الفطر القويمة، والعقول السليمة( )، والأدلة على هذه المرتبة لا تكاد تحصرمنها:
1_ قوله _تعالى_: [اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ] الزمر: 62.
2_ قوله _تعالى_: [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ] الأنعام:1.
3_ قوله _تعالى_: [الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] الملك:2.
4_ قوله _تعالى_: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً] النساء:1.
5_ قوله _تعالى_: [وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ] الأنبياء: 33.
6_ قال _سبحانه_: [هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ] فاطر: 3.
ومن الأدلة من السنة ما يلي:
1_ أخرج البخاري في خلق أفعال العباد عن حذيفة ÷ قال: قال النبي ": =إن الله يصنع كل صانع وصنعته+ ( ).
2_ وعن زيد بن أرقم ÷ قال: لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله " يقول، كان يقول: =اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكَّها، أنت وليها ومولاها+( ).
والشاهد من ذلك قوله " =اللهم آت نفسي تقواها، وزكِّها...+ فالفاعل هو الله _ تعالى _ فهو الذي يطلب منه ذلك.
3_ عن ورَّاد مولى المغيرة بن شعبة قال: كتب معاوية إلى المغيرة: اكتب إلي ما سمعت النبي " يقول خلف الصلاة، فأملى عليَّ المغيرة، قال: سمعت النبي " يقول خلف الصلاة: =لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد+( ).
والشاهد من ذلك قوله: =اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت+ فالمعطي والمانع هو الله _ تعالى _ فهو الفاعل لذلك، وهذا يدل على أنَّ الخالق هو الله _ عز وجل _( ).
المطلب الثاني: مسألة خلق أفعال العباد:
أفعال العباد داخلة في عموم خلقه _ تعالى _ ولا يخرجها شيء من عموم قوله _تعالى _: [اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ] الزمر: 62، وإنما أفردت هنا لوقوع اللبس فيها.
وخلاصة القول في هذه المسألة: أفعال العباد كلَّها من الطاعات، والمعاصي، داخلةٌ في خلق الله، وقضائه، وقدره؛ فقد علم الله _ عز وجل _ ما سيخلقه في عباده، وعلم ما هم فاعلون، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ، وخلقهم الله كما شاء، ومضى فيهم قدره، فعملوا على النحو الذي شاءه فيهم، وهدى الله من كتب لهم السعادة، وأضل من كتب عليهم الشقاوة، وعلم أهل الجنة ويسرهم لعمل أهلها، وعلم أهل النار ويسرهم لعمل أهلها.
فأفعال العباد هي من الله خلقاً وإيجاداً وتقديراً، وهي من العباد فعلاً وكسباً، فالله هو الخالق لأفعالهم، وهم الفاعلون لها، فنؤمن بجميع نصوص الكتاب والسنة الدالة على شمول خلق الله، وقدرته على كل شيء من الأعمال والأوصاف، كما نؤمن بنصوص الكتاب والسنة الدالة على أن العباد هم الفاعلون حقيقةً للخير والشر، وعلى هذا اتفق أهل السنة والجماعة( ).
والنصوص التي مرت بنا في المرتبة الرابعة من مراتب القدر تدل على ذلك، وهناك أدلة أصرح في الدلالة على هذه المسألة كقوله _ تعالى _: [وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ] الصافات: 96.
قال المفسرون: في معنى [ما] في الآية وجهان:
=أحدهما: أن تكون بمعنى المصدر؛ فيكون المعنى: والله خلقكم وعملكم.
والثاني: بمعنى الذي؛ فيكون المعنى، والله خلقكم وخلق الذي تعملونه بأيديكم من الأصنام.
وفي هذه الآية دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله+( ).
وبعد بيان الحق في مسألة خلق أفعال العباد ينتهي الحديث في هذا المبحث عن مراتب القدر الأربع التي لا يتم الإيمان بالقدر إلا بها.
المطلب الثالث: أقسام التقدير( ):
ينقسم التقدير باعتبار نسبته إلى الله _ عز وجل _ إلى خمسة أقسام، وهي:
1_ التقدير العام: وهو تقدير الرب لجميع الكائنات، بمعنى علمه بها، وكتابته لها، ومشيئته، وخلقه لها.
ويدل على هذا النوع أدلة كثيرة منها قوله _ تعالى _: [أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ] الحج: 70.
وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو _ رضي الله عنهما _ أن النبي"قال: =كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء+ ( ).
2_ التقدير البشري( ): وهو التقدير الذي أخذ الله فيه الميثاق على جميع البشر بأنه ربهم، وأشهدهم على أنفسهم بذلك، والذي قدر الله فيه أهل السعادة وأهل الشقاوة، قال _ تعالى _: [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ] الأعراف: 172.
وعن هشام بن حكيم أن رجلاً أتى النبي " فقال: أَتُبْدَأُ الأعمال أم قد قُضِيَ القضاء؟ قال رسول الله ": =إن الله أخذ ذرية آدم من ظهورهم، ثم أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه فقال: هؤلاء في الجنة، وهؤلاء في النار؛ فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار+ ( ).
3_ التقدير العمري: وهو تقدير كل ما يجري على العبد في حياته إلى نهاية أجله، وكتابةُ شقاوته، أو سعادته.
وقد دل على ذلك حديث الصادق المصدوق في الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعاً: =إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل المَلَك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيٌّ أو سعيدٌ+ ( ).
4_التقدير السنوي: وذلك في ليلة القدر من كل سنة، ويدل عليه قوله _تعالى_: [فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ] الدخان: 4.
وقوله: [تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ] القدر:4_6.
قيل: يكتب فيها _ أي هذه الليلة _ ما يحدث في السنة من موت وحياة، وعز وذل، ورزق ومطر، حتى الحجاج يُقال: يحج فلان، ويحج فلان.
رُوي هذا عن ابن عمر، وابن عباس، وكذا الحسن( ) وسعيد ابن جبير( )( ).
5_التقدير اليومي: ويدل عليه قوله _ تعالى _: [كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ] الرحمن: 29.
قيل في تفسيرها: شأنه أن يُعِزَّ ويُذِل، ويرفع ويخفض، ويُعطي ويمنع، ويُغني ويُفقر، ويُضحِكَ ويُبكي، ويُميت ويُحيي، إلى غير ذلك( ).
المبحث الرابع الإرادة الربانية
المطلب الأول: قسما الإرادة الربانية:
تنقسم الإرادة الربانية إلى قسمين:
1_إرادة كونية قدرية: وهي مرادفة للمشيئة، وهذه الإرادة لا يخرج عن مرادها شيء؛ فالكافر والمسلم تحت هذه الإرادة الكونية سواء؛ فالطاعات، والمعاصي، كلها بمشيئة الرب، وإرادته.
ومن أمثلتها قوله _ تعالى _: [وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ] الرعد: 11، وقوله: [فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ] الأنعام:125.
2_إرادة شرعية دينية: وتتضمن محبة الربّ، ورضاه.
ومن أمثلتها قوله _ تعالى _: [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ] البقرة: 185، وقوله: [وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ] النساء:27، وقوله: [مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ] المائدة: 6( ).
المطلب الثاني: الفرق بين الإرادتين( ):
بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية فروق تُميز كلَّ واحدة منهما عن الأخرى، ومن تلك الفروق ما يلي:
1_ الإرادة الكونية قد يحبها الله ويرضاها، وقد لا يحبها ولا يرضاها.
أما الشرعية فيحبها الله ويرضاها؛ فالكونية مرادفة للمشيئة، والشرعية مرادفة للمحبة.
2_ الإرادة الكونية قد تكون مقصودة لغيرها كخلق إبليس مثلاً، وسائر الشرور؛ لتحصل بسببها محابّ كثيرة، كالتوبة، والمجاهدة، والاستغفار.
أما الشرعية فمقصودة لذاتها؛ فالله أراد الطاعة وأحبها، وشرعها، ورضيها لذاتها.
3_ الإرادة الكونية لابد من وقوعها؛ فالله إذا شاء شيئاً وقع ولابد، كإحياء أحد أو إماتته، أو غير ذلك.
أما الشرعية كالإسلام _ مثلاً _ فلا يلزم وقوعها، فقد تقع وقد لا تقع، ولو كان لابد من وقوعها لأصبح الناس كلهم مسلمين.
4_ الإرادة الكونية متعلقة بربوبية الله وخلقه، أما الشرعية فمتعلقة بألوهيته وشرعه.
5_ الإرادتان تجتمعان في حق المطيع، فالذي أدى الصلاة _ مثلاً _ جمع بينهما؛ وذلك لأن الصلاة محبوبة لله، وقد أمر بها، ورضيها، وأحبها، فهي شرعية من هذا الوجه، وكونها وقعت دلَّ على أنَّ الله أرادها كوناً؛ فهي كونية من هذا الوجه؛ فمن هنا اجتمعت الإرادتان في حق المطيع.
وتنفرد الكونية في مثل كفر الكافر، ومعصية العاصي، فكونها وقعت فهذا يدلُّ على أن الله شاءها؛ لأنه لا يقع شيء إلا بمشيئته، وكونها غير محبوبة ولا مرضية لله دليل على أنها كونية لا شرعية.
وتنفرد الشرعية في مثل إيمان الكافر، وطاعة العاصي، فكونها محبوبة لله فهي شرعية، وكونها لم تقع _ مع أمر الله بها ومحبته لها _ هذا دليل على أنها شرعية فحسب؛ إذ هي مرادة محبوبة لم تقع.
6_ الإرادة الكونية أعمّ من جهة تعلّقها بما لا يحبه الله ولا يرضاه، من الكفر والمعاصي، وأخص من جهة أنها لا تتعلق بمثل إيمان الكافر، وطاعة الفاسق.
والإرادة الشرعية أعم من جهة تعلقها بكل مأمور به، واقعاً كان أو غير واقع، وأخص من جهة أن الواقع بالإرادة الكونية قد يكون غير مأمور به.
هذه فوارق بين الإرادتين، فمن عرف الفرق بينهما سلم من شُبهات كثيرة، زلَّت بها أقدام، وضلَّت بها أفهام، فمن نظر إلى الأعمال الصادرة عن العباد بهاتين العينين كان بصيراً، ومن نظر إلى الشرع دون القدر أو العكس كان أعور( ).
المطلب الثالث: نماذج لأمور شرعية وكونية:
كما أن الإرادة منها ما هو كوني قدري، ومنها ما هو شرعي ديني _ فكذلك الكتابة، والأمر، والإذن، والجعل، والكلمات، والبعث، والإرسال، والتحريم، والإيتاء، والكره، ونحوها، كل هذه الأمور منها ما هو شرعي ومنه ما هو كوني.
فمن أمثلة الكتابة الكونية قوله _ تعالى _: [كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي] المجادلة: 21، ومن أمثلة الكتابة الشرعية قوله: [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ] البقرة: 183، والأمر الكوني قوله: [وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ] القمر: 50، والشرعي قوله: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ] النحل: 90، والإذن الكوني قوله: [وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ] البقرة: 102، والشرعي قوله: [آاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ] يونس: 59 وقوله: [أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ] الشورى: 21، والجعل الكوني قوله: [كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ] الأنعام: 125، والشرعي: [مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ] المائدة: 103، أما قوله: [جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ] المائدة: 97، فهذا يتناول الأمرين، فإن الله جعلها كذلك بقدره وبشرعه.
وكذلك الكلمات منها ما هو كوني كقوله: [كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ] يونس: 33، ومنها الشرعي كقوله: [حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ] التوبة: 6، واجتمع النوعان في قوله _تعالى _: [وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا] التحريم: 12، وكذلك البعث منه الكوني كقوله: [بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا] الإسراء: 5، والشرعي كقوله: [فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ] البقرة: 213، وقوله: [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ] الجمعة: 2، وكذلك الإرسال منه الكوني كقوله: [وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ] الأعراف: 57، ومنه الديني كقوله: [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى] الصف: 9، والتحريم الكوني كقوله: [وحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ] القصص: 12، والشرعي: [وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً] المائدة: 96، والإيتاء الكوني كقوله: [وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ] البقرة: 247، والديني كقوله: [خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ] البقرة:93، وقوله: [يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ] البقرة: 269، يشمل النوعين؛ فإنه يؤتيهما أمراً وديناً وتوفيقاً وإلهاماً.
والكره _ كذلك _ منه ما هو كوني كما في قوله _تعالى_: [وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ] التوبة: 46، ومنه ما هو شرعي كما في قوله _تعالى_: [كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً] الإسراء: 38.
والفروق بين هذه الأمور _ من جهة أن منها ما هو شرعي ديني، ومنها ما هو كوني قدري _ كالفروق بين الإرادتين الكونية القدرية، والشرعية الدينية( ).
المبحث الخامس خلاصة القول في الحكمة والتعليل، والضلال في القدر
المطلب الأول: خلاصة القول في الحكمة والتعليل:
مسألة تعليل أفعال الله، وإثبات الحكمة فيها من أجل مسائل التوحيد المتعلقة بالخلق والأمر، والشرع والقدر.
والحديث في هذا المقام لا يسمح بالتفصيل.
وقد اختلف الناس فيها على أقوال شتى، ولكنَّها ترجع إلى قولين.
أحدهما: قول نفاة الحكمة، وهو قول الفلاسفة، والأشاعرة ومن وافقهم ممن يرى أن الله _عز وجل_ قدر المقادير، وشرع الشرائع لغير علة، أو حكمة، بل فعل ذلك لمحض المشيئة، وصِرْف الإرادة.
الثاني: قول الجمهور الذين يثبتون الحكمة، وأنَّ لله في كل ما يقضيه حكمةً ورحمة.
وهذه الحكمة تتضمن شيئين:
أحدهما: حكمة تعود إليه _ تعالى _ يحبها ويرضاها.
والثاني: حكمة تعود إلى عباده، فهي نعمة عليهم يفرحون، ويلتذون بها.
وهذا يكون في المأمورات، والمخلوقات( ).
يقول ابن القيم × مقرراً حكمة الله _ تبارك وتعالى _ فيما يقدره ويشرعه: =ولو ذهبنا نذكر ما يطلع عليه أمثالُنا من حكمة الله في خلقه لزاد ذلك على عشرة آلاف موضع مع قصور أذهاننا، ونقص عقولنا ومعارفنا، وتلاشيها، وتلاشي علوم الخلائق جميعهم كتلاشي ضوء السراج في عين الشمس، وهذا تقريب وإلا فالأمر فوق ذلك+( ).
وقال ×: =وكيف يتوهم ذو فطرة صحيحة خلاف ذلك، وهذا الوجود شاهد بحكمته، وعنايته بخلقه أتم عناية، وما في مخلوقاته من الحكمة، والمصالح، والمنافع، والغايات المطلوبة، والعواقب الحميدة _ أعظم من أن يُحيطَ به وصفٌ، أو يحصرَه عقل؟!+( ).
وقال ×: =وجماع ذلك أن كمال الرب _ تعالى _ وجلاله، وحكمته، وعدله، ورحمته، وإحسانه، وحمده، ومجده، وحقائق أسمائه الحسنى _ تمنع كون أفعاله صادرة منه لا لحكمة، ولا لغاية مطلوبة.
وجميع أسمائه الحسنى تنفي ذلك، وتشهد ببطلانه+( ).
وسيرد في شرح القصيدة في القسم الثاني تفصيل لمسألة الحكمة والتعليل.
المطلب الثاني: خلاصة أقوال أهل الضلال في القدر:
القدر _ كما مر في مقدمة البحث _ من الموضوعات الكبرى التي خاض فيها الناس، وشغلت أذهانهم في القديم والحديث؛ لأنه مرتبط بحياتهم وما فيها من تقلبات الأحوال من صحة ومرض، وفقر وغنى، وموت وحياة، وسعادة وشقاء، وما جرى مجرى ذلك.
ولا يوجد مذهب من المذاهب التي قال بها الفلاسفة( ) وأهل الكلام( ) والتصوف( ) إلا وقد قال بمثلها غيرهم ممن سبقهم، ويقول بها بعض علماء أوربة، وفلاسفة الغرب عموماً ( ).
والأقوال في القدر _ بإجمال _ لم تتغير قبل أو بعد، فهي ترجع إلى ثلاثة أقوال:
1_ قول أهل الجبر: الذين يقولون: إن الإنسانَ مجبورٌ على أفعاله، وليس له إرادة ولا قدرة.
ويمثل هذا في الفرق الإسلاميةِ الجهميةُ( ) ومَنْ وافقهم، وهو ما يُسمَّى في العصور المتأخرة بالمذهب الحتمي( ).
2_ قول أهل حريَّةِ الإرادة، واستقلال الإنسان في أفعاله عن خالقه، وأنَّ الإنسانَ له إرادة مستقلة عن إرادة الله، وأنه هو الذي يخلق أفعاله.
ويمثل هذا المذهبَ المعتزلةُ( ) القدرية، ومن وافقهم.
3_ وهناك قولٌ وسط بين هؤلاء وهؤلاء؛ حيث يثبت القائلون به القدر، وأنَّ الله خالق كلِّ شيء، ويقولون _ مع ذلك _: إنَّ للإنسان قدرةً يفعل بها، ومشيئةً يختار بها، وقدرته ومشيئته واقعتان بقدرة الله، ومشيئته تابعتان لهما.
وهذا هو قول السلف، وأتباع الأنبياء.
وبين هذه الطوائف الثلاثة قد تنشأ فرق أخرى تميل في بعض المسائل إلى طائفة، وفي المسائل الأخرى إلى طائفة أخرى، ويكون الحكم عليها بحسب ما يغلب على مذهبها، وهذا ما تقرر بعضه فيما مضى، وسيتقرر بعضه بما سيأتي.
المبحث السادس نشأة القول بالقدر في الإسلام
مر بنا أن الإيمان بالقدر أمر فطري، وأنه لم يكن في العرب من ينكر القدر لا في الجاهلية ولا في الإسلام.
وهكذا كان الأمر بعد البعثة النبوية؛ فلم يقع في عهد رسول الله " أي افتراق، أو ابتداع في أمور العقيدة ومنها القدر.
وهذا لا ينافي وقوع بعض الأسئلة التي يأتي جوابها حاسماً من الرسول".
كما لا ينافي وقوع المخاصمة من جانب اليهود أو المشركين.
وقد مرَّ شيءٌ من ذلك عند الحديث عن مسألة حكم الحديث في القدر.
وبعدما انطوى عهد النبوة، وكثرت الفتوحات، واختلط المسلمون بغيرهم _ ظهرت بدعة القدرية التي تُعد أول شرك في الإسلام.
وكان أول ظهورها في البصرة ودمشق، ولم تظهر في مكة ولا المدينة؛ لانتشار العلم.
وقد ظهرت في أواخر عهد الصحابة كابن عباس، وابن عمر، وأنس ابن مالك، وجابر بن عبدالله _ رضي الله عنهم _ فاشتد نكيرهم على تلك البدعة وأصحابها( ).
وتكاد مصادر أهل السنة تجمع على أن أول من تكلم بالقدر رجل من أهل البصرة يعمل بقالاً ويقال له سوسن، وبعضهم يسميه: =سنسويه+، وبعضهم يسميه: =سيسويه+، وبعضهم يسميه =سسويه+، وبعضهم =ستويه+، وبعضهم: =سوسر+، وبعضهم: =سوس+، وبعضهم: =سسلوا+، وبعضهم =سنهويه+، والأول هو المشهور.( )
ثم تلقفها عنه معبد الجهني( )، وأخذ عن معبد غيلان الدمشقي( ).
قال الإمام الأوزاعي إمام أهل الشام ×: =أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له: =سوسن+ كان نصرانياً فأسلم، ثم تنصر، فأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ غيلان عن معبد+( ).
وبعد معبد وغيلان ظهر رؤوس الاعتزال كواصل بن عطاء( )، وعمرو بن عبيد( )، فنقلوا هذه المقالات ونشروها _ كما سيأتي بيان ذلك عند الحديث عن القدرية _.
والمقصود بالكلام في القدر في بداية الأمر إنما هو نفي القدر.
هذا هو المشهور من الأقوال في بداية القول بالقدر، ويشهد على ذلك ما جاء في قصة الحديث المشهور _ حديث جبريل _ في صحيح مسلم، فقد روي عن يحيى بن معمر قال: =كان أول من قال في القدر معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبدالرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله " فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبدالله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد؛ فاكتنفته أنا وصاحبي: أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سَيَكِل الأمر إلي، فقلت: أبا عبدالرحمن إنه قد ظهر قِبَلنا ناس يقرؤون القرآن، ويتَقَفَّرون( ) العلم (وذكر من شأنهم) وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأنَّ الأمرَ أُنف.... + الحديث( ).
وهذا يفيد أن معبداً هو أول من قال بالقدر، وقبل ذلك تبين من كلام الأوزاعي أن معبداً أخذه عن النصراني سنسويه، أو سيسويه، أو سوسن.
وقد يكون من المحتمل أن أساس الفكرة كان عند ذاك الرجل النصراني الذي تظاهر بالإسلام، ولكنه لم يستطع أن يجاهر بها؛ لعدم ثقة الناس به، فتلقاها عنه معبد ونشرها، فاشتهرت عنه( ).
فهذا هو القول الأرجح في نشأة القول بالقدر.
وهناك قولان آخران في هذا الشأن:
أحدهما: أن أول ما حدث القول بالقدر بالحجاز قبل معبد الجهني، وأن ذلك وقع لما احترقت الكعبة لما كان عبدالله بن الزبير _ رضي الله عنهما _ محصوراً بمكة؛ فقال أناس: احترقت بقدر الله _ تعالى _ وقال أناس: لم تحترق بقدر الله( ).
والقول الآخر: أن أول من نادى بالقدر في الشام عمرو المقصوص وكان عمرو هذا معلماً لمعاوية الثاني، وهو معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، فأثر فيه كثيراً، فاعتنق أقواله في القدر، حتى إنه لما تولَّى الخلافة كان عمرو هذا هو الذي أثر فيه؛ فاعتزلها حتى مات، ووثب بنو أمية على عمرو المقصوص، وقالوا: أنت أفسدته، ودفنوه حياً.
وهذا القول _كما يقول الدكتور عبدالرحمن المحمود حفظه الله_: =ضعيف؛ لأن معاوية بن يزيد كان رجلاً صالحاً، وعمرو المقصوص لم أجد مَنْ ذكر قصته من المؤرخين غير ابن العبري+( ).
وهكذا نشأ القول بالقدر، وضل بسببه فرق شتى، وكان منشأ ضلالهم كثرة الجدل، وتقديم العقل على النقل، والنظر إلى النصوص بعين عوراء.
وكردَّة فعل للقدرية النفاة ظهر أناس غلو في الإثبات؛ حيث نشأ في آخر عهد بني أمية أقوام قالوا بالجبر، وزعموا أنَّ العبد ليس له خيار فيما يأخذ أو يدع، وبعضهم يثبت للعبد قدرة غير مؤثرة.
وأول من أظهر هذا القول الشنيع: الجهم بن صفوان( )، وتفرع عن هذه البدعة أقوال شنيعة، وضلال كبير( ).
هذه هي بدايات القول بالقدر، وقبل الدخول في تفاصيل أقوال الفرق في القدر يحسن تحديد الخلاف في القدر بإيجاز، فالخلاف فيه يدور حول أمرين:
أحدهما: ما يتعلق بالله _ تعالى _ وذلك في مراتب القدر الأربع: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق التي يثبتها أهل السنة لله _ تعالى _.
الثاني: ما يتعلق بالعبد: هل له إرادة ومشيئة أَوْ لا؟ وهل له قدرة أَوْ لا؟ وهل هو فاعل لفعله حقيقة أَوْ لا؟
والطوائف ما بين غالٍ في إثبات القدر لله إلى حد أن قالوا بالجبر ونفي القدرة والإرادة عن العبد، ومُفرطٍ في القدر إلى حدِّ نفي بعضه عن الله، وإثباته للعبد.
وأهل السنة وسط بين هاتين الطائفتين( ).
وهذا ما سيتبين في شرح القصيدة؛ حيث سَيَرِد ذكرٌ لأقوال بعض الفرق التي ضلت في هذا الباب.
الفصل الثاني: دراسة عامة للقصيدة التائية في القدر
وتحته ستة مباحث:
المبحث الأول: تعريف بالقصيدة التائية.
المبحث الثاني: اسم السائل، وعدد أبيات السؤال، والجواب.
المبحث الثالث: شروح القصيدة.
المبحث الرابع: مجمل ما احتوت عليه القصيدة.
المبحث الخامس: وصف النسخ.
المبحث السادس: ملحوظات، وتنبيهات حول نسختي مجموع الفتاوى، والدرة البهية.
المبحث الأول تعريف بالقصيدة التائية
المطلب الأول: اسم القصيدة وبحرها:
هذه القصيدة تعرف بالتائية القدرية، أو بتائية ابن تيمية في القدر، أو المنظومة التائية.
وسميت تائية نسبة إلى رَويِّها وهو التاء المكسورة.
أما بحرها فهو الطويل.
وقد سماها قائلها شيخ الإسلام بـ: (القصيدة)، وذلك في قوله في البيت الخامس والعشرين:
هو المطلب الأقصى لوراد بحره
وذا عسر في نظم هذي القصيدةِ
وكذا سماها الشيخ حسين( ) بن محمد بن عبدالوهاب _ رحمهم الله _ في كتابه: (القول الأسنى في نظم الأسماء الحسنى).
حيث قال: =قصيدة تائية في حل المشكلة القدرية نظمها شيخ الإسلام+( ).
وسماها الشيخ عبدالرحمن السعدي( ) _ يرحمه الله _ بـ: (المنظومة).
حيث قال في مقدمة شرحه لتلك القصيدة: =أما بعد: فقد طلب مني بعض الإخوان أن أشرح المنظومة التائية في القدر لشيخ الإسلام+.
كما أنه ×عنون لذلك الشرح في صفحة الغلاف بقوله: =الدرة البهية شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية+.
وعلى كل حال فإن المضمون واحد، سواء سميت قصيدة أو منظومة.
إلا أن لفظ القصيدة أعم من المنظومة؛ حيث إن القصيدة تطلق على الأبيات في المسائل العلمية وغيرها، في حين أن المنظومة تستعمل غالباً في المسائل العلمية.
هذا وقد سميت هذه القصيدة بأسماء أخرى جاءت على بعض أغلفة المخطوطات؛ ففي بعض النسخ جاء عنوانها: (مسألة القدر).
وفي بعضها (حكم مسألة القدر).
وفي بعضها (سؤال بعض أهل الذميين اليهود في القضاء والقدر).
وفي بعضها (سؤال في القدر).
وسيأتي بيان ذلك عند وصف النسخ.
المطلب الثاني: نسبة القصيدة إلى شيخ الإسلام ابن تيمية:
ليس هناك شك في صحة نسبة هذه القصيدة إلى شيخ الإسلام ابن تيمية ×.
وأغلب من ترجم لشيخ الإسلام يذكر أن له منظومةً في القدر جواباً لسؤال حول القدر، وهذه بعض أقوال من ذكر ذلك.
1_ قال الحافظ البزار ×: =أخبرني الشيخ الصالح تاج الدين محمد المعروف بابن الدُّوري: أنه حضر مجلس الشيخ ÷ وقد سأله يهودي عن مسألة في القدر، قد نظمها شعراً في ثمانية أبيات.
فلما وقف عليها فكَّر لحظة يسيرة، وأنشأ يكتب جوابها، وجعل يكتب ونحن نظن أنه يكتب نثراً، فلما فرغ تأمله مَنْ حضر مِنْ أصحابه، وإذا هو نظم في بحر أبيات السؤال وقافيتها تقرب من مائة وأربعة وثمانين بيتاً.
وقد أبرز فيها من العلوم ما لو شرح بشرح لجاء شرحه مجلدين كبيرين.
هذا من جملة بواهره، وكم من جواب فتوى لم يسبق إلى مثله+( ).
2_ وقال الصفدي( ) ×: =وله أجوبة سؤالات كان يُسألها نظماً فيجيب عنها نظماً _ أيضاً _+( ).
وقال ×: =وله قصائد مطولة أجوبة عن مسائل كان يُسأل عنها نظماً مثل مسألة اليهودي+( ).
ويعني بها هذه القصيدة.
3_ وقال الحافظ ابن حجر ×في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية: =وكان من أذكياء العالم، وله في ذلك أمور عظيمة، منها أن محمد ابن بكر السكاكيني عمل أبياتاً على لسان ذمي في إنكار القدر وأولها _ فذكر البيتين _ ثم قال:
فوقف عليها ابن تيمية، فثنى إحدى رجليه على الأخرى، وأجاب في مجلسه قبل أن يقوم بمائة وتسعة عشر بيتاً، أولها:
سؤالك يا هذا سؤال معاند
يخاصم رب العرش باري البرية( )
المطلب الثالث: سبب إنشاء القصيدة:
مرت الإشارة إلى سبب إنشاء هذه القصيدة، وذلك أن سائلاً سأل شيخ الإسلام ابن تيمية مسألة في القدر على مذهب الجبرية.
وقد نظمها شعراً في ثمانية أبيات، فلما وقف عليها شيخ الإسلام× فكَّر لحظة يسيرة، ثم أنشأ يكتب جوابها نظماً على بحر الأبيات الواردة وقافيتها ( ).
وجوابه هذا من الأمور العظيمة الدالة على ذكاء وفطنة خارقتين للعادة.
ويكْمُنُ حُسْنُ هذه القصيدة في شرف موضوعها، ودقة معانيها، وإصابتها للغرض، واحتوائها على علوم عظيمة.
كيف إذا كانت من إمام جليل كابن تيمية؟ وكيف إذا كان قد نظمها على البديهة؟
هذا وقد كان مقصدُ السائلِ الطعنَ في الشريعة.
ولما ورد هذا السؤال على علماء الإسلام، واشتهر بين الناس _ انتدب غير واحد من الأعلام غير شيخ الإسلام من أكابر علماء مصر والشام، والأندلس لجواب ذلك السؤال نظماً.( )
ومنهم الشيخ علاء الدين الباجي( ) × في قصيدته التي يقول فيها:
أيا عالماً أبدى دلائل حَيْرةِ
يروم اهتداءاً من أُهيل فضيلة
لقد سرني أن كنت للحق طالباً
عسى نفحةٌ للحق من سُحْبِ رحمة
فبالحق نيلُ الحق فالجأ لِبَابِه
كأهل النهى واترك حبائل حيلةِ
إلى أن يقول:
فكن راضياً نَفْسَ القضاء ولا تكن
بمقضيِّ كُفرٍ راضياً ذا خطيئةِ
وتكليفنا بالأمر والنهي قاطع
لأعذارنا في يوم بعث البريةِ
إلى آخر ما قال في تلك القصيدة التي تبلغ خمسة عشر بيتاً.
ومنهم الأديب ناصر الدين شافع بن عبدالظاهر( ) في قصيدته التي يقول فيها:
سألت ولم تعرف وكم من مباحث
جرت من أهيل العلم في ذي الحقيقةِ
وما أنت يا ذميُّ مبتكرٌ كما
توهَّمْته من دون ماضي البرية
نعم كلُّ شيءٍ كائنٌ بقضائه
وتقديره حتماً بأوضح حجة
وهل واقع ما لا يشاء بملكه
لقد ضل من ذا رأيه في القضية
وإن الرضا غير القضاء فلا تكن
تنازع فيما شاءه من مشيئة
له المحو والإثبات جل جلاله
فلا تعترض في حكمه وتثبَّتِ
وكن بجوابي مُسلماً ومسلِّماً
وكن باتباع الحق من خير أمة
ومنهم الشيخ شمس الدين بن اللبان( ) × في قصيدته التي يقول فيها:
ألا بعد حمد الله باري البرية
على ما هدانا من كتاب وسنة
بأفضل مبعوث إلى خير أمة
عليه من الرحمن أزكى تحية
فإن صحيحاً كون ما شاء ربنا
ونفي سوى ما شاءه من مشيئة
ولم يرض كفر العبد أي لا يحبه
له لا ولا يثني عليه بمدحة
وحيلة من لم يهده الله أنه
يلاحظ وجهَ العجز في كل لحظة
وينفي القذى عن عين فكرته ولا
يميل بأسباب الحجى عن محجة
ويجهد علَّ الجهد في قصد ربه
بصدق وعزم وابتهال وحرقة
وحينئذٍ يرجى له فتحُ كلِّ ما
غدا مُرْتَجَا من باب فضل ورحمة
فإن قضاء الله يطلق تارة
بكفر وإيمان فيخفى لحكمة
وآونةً يجرى تَعَلُّقه بنا
على سبب نعتاده كالشريطة
كَسُمٍّ لموت أو دواء لصحة
وطوع وعصيانٍ لسَعْد وشقوة
وقد جعل الله الحكيم لعبد اخـ
ـتياراً لأسباب الرضا والقطيعة
ويسَّره من بعد هذا لما قضى
عليه ليمضي فيه حكم المشيئةِ
إلى آخر ما قاله في قصيدته التي تبلغ ثمانيةً وعشرين بيتاً.
ومنهم الشيخ نجم الدين أحمد بن محمد الطوسي( ) × في قصيدته التي يقول فيها:
ألا أصْغ يا ذميُّ إن كنت سامعاً
جوابَ سؤالٍ رُمْتَه بالأدلة
ودبّر بعقل مدرك سر ما بدا
بإنشاء رب الكون في كل حالة
إلى آخر ما قاله في قصيدته التي تبلغ مائة وخمسة أبيات.
ومنهم الشيخ علاء الدين القونوي( ) × في قصيدته التي يقول فيها:
حمدت إلهي قبل كل مقالة
وصليت تعظيماً لخير البرية
وحاولت إبداء النصيحة منصفاً
لمن طلب الإيضاح في حل شبهة
فأول ما يلقى إلى كل طالب
لتحقيق حق واتباع حقيقة
يروع الذي من كل عقد وشبهة
يصد عن الإمعان في نظم حجة
وإلقاء سمع واجتناب تعنُّتٍ
فلا خير في المستمحن المتعنت
إذا صح منك الجِدُّ في كشف غمة
بليت بها فاسمع هديت لِرَشدة
إلى أن قال:
فمن جملة الأسباب فيما رفضته
مع الأمر والإمكان لفظ شهادة
فأنت كمن لا يأكلُ الدهرَ قائلاً
أموت بجوع إذ قضي لي بجوعة
إلى أن قال:
ولو كنت أدري أن ذهنك قابل
لفهم كلام ذي غموض ودقة
لأشبعت فيه القول بسطاً محققاً
على نَمَطَيْ عِلْمَيْ كلام وحكمة
إلى آخر ما قاله في قصيدته التي تبلغ خمسة وعشرين بيتاً( ).
ومنهم الشيخ ابن لب الأندلسي( ) × وهذا جوابه:
قضى الرب كفر الكافرين ولم يكن
ليرضاه تكليفاً لدى كل ملة
نهى خلقه عما أراد وقوعه
وإنفاذه والملك أبلغ حجة
فنرضى قضاء الرب حُكماً وإنما
كراهتنا مصروفةٌ للخطيئةِ
فلا تَرْضَ فِعْلاً قد نهى عنه شرعُه
وسلِّم لتدبير وحكم مشيئةِ
دعا الكلَّ تكليفاً ووفَّق بعضهم
فخصًّ بتوفيق وعمَّ بدعوةِ
فتعصي إذا لم تنتهج طُرْقَ شرعه
وإن كنت تمشي في طريق المشيئة
إليك اختيارُ الكسب والله خالق
مريدٌ بتدبير له في الخليقة
وما لم يرده الله ليس بكائن
تعالى وجل الله ربُّ البريةِ
فهذا جواب عن مسائل سائل
جهول ينادي وهو أعمى بصيرة:
أيا علماء الدين ذميُّ دينكم
تحير دُلُّوه بأوضح حجة( )
المبحث الثاني اسم السائل، وعدد أبيات السؤال، والجواب:
المطلب الأول: اسم السائل: أما السائل فقد اختلف فيه على أقوال( ):
القول الأول: أن السائل هو السكاكيني الشيعي( ):
وهذا هو الذي جزم به الحافظ ابن كثير( )، وتابعه عليه الحافظ ابن حجر، والسخاوي( )، والشوكاني( ) _ رحمهم الله جميعاً _.
قال الحافظ ابن كثير ×: =كان الشيخ محمد السكاكيني يعرف مذهب الرافضة والشيعة( ) جيداً، وكانت له أسئلة على مذهب أهل الجبر، ونظم في ذلك قصيدة أجابه فيها شيخنا الإمام العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية ×+( ).
وقال الحافظ ابن حجر في ترجمة السكاكيني: =ونسب إليه عماد الدين بن كثير الأبيات التي أولها:
يا معشر الإسلام ذمي دينكم . . . . . الأبيات+( ).
وقال الإمام الشوكاني ×: =وحكي عنه _ أي شيخ الإسلام _ أنه لما وصل إليه السؤال الذي وضعه السكاكيني على لسان يهودي، وهو _فذكر البيتين من مطلع أبيات السؤال_+( ).
القول الثاني: أن الناظم لأبيات السؤال هو ابن البققي( ):
وهذا القول ذكره السبكي( ) في طبقاته( )، حيث قال: =ويقال: إن الناظم هو ابن البققي، الذي ثبت عليه أقوال تدل على الزندقة( )، وقتل بسيف الشرع الشريف في ولاية الشيخ تقي الدين دقيق العيد القشيري+.
القول الثالث: أن السائل هو بعض المعتزلة، وكتم اسمه، وجعله على لسان بعض أهل الذمة، أو على لسان بعض اليهود:
وهذا القول جزم به السبكي في طبقاته( )حيث قال: =ولما ظهر السؤال الذي أظهره بعض المعتزلة، وكتم اسمه، وجعله على لسان بعض أهل الذمة. . .+.
ولعل هذا القول هو الذي يعنيه شيخ الإسلام ابن تيمية × بقوله: =وكما رأينا كثيراً منهم _ أي المعتزلة _ يضع كتاباً، أو قصيدة على لسان بعض اليهود، أو غيرهم، ومقصودهم بذلك الردُّ على المثبتين للقدر+( ).
القول الرابع: أن السائل رجل يهودي، أو من أهل الذمة:
وهذا القول ذكره الحافظ البزار فيما أخبره به ابن الدوري، وقال به الصفدي _ كما تقدم _.
وذكر السبكي في الطبقات الوسطى( ) أنه بعض يهود الشام.
وجاء عنوان القصيدة في مجموع الفتاوى لابن تيمية: =سؤال عن القدر أورده أحد علماء الذميين+( ).
وقال الطوفي × في مقدمة شرحه للقصيدة التائية: =... عن مسألة سأله عنها بعض أهل الذمة+( ).
هذا هو مجمل ما قيل في شأن صاحب السؤال.
والناظر في تلك الأقوال يكاد يرجعها إلى القولين الأولين؛ حيث إن الخلاف واقع في السائل: أهو السكاكيني، أم ابن البققي، وذلك لما يلي:
1_ أن عدداً من الحفاظ كابن كثير، وابن حجر، والسخاوي، والشوكاني _ صرحوا بأنه السكاكيني.
والذين لم يصرحوا كالسبكي وغيره قالوا: إنه بعض المعتزلة، وكتم اسمه، أو هو شاعر رافضي وجعله على لسان أهل الذمة أو اليهود.
2_ أن الذين ترجموا للسكاكيني ذكروا أنه كان شيعياً فيه اعتزال، وأنه كان يناظر على القدر، وينكر الجبر.
قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =وهو ممن يتسنَّن به الشيعي، ويتشيع به السني+( ).
وقال عنه الذهبي( ) ×: =كان حلو المجالسة، ذكياً عالماً، فيه اعتزال، وينطوي على دين وإسلام وتعبد، سمعنا منه، وكان صديقاً لأبي، وكان ينكر الجبر، ويناظر على القدر+( ).
وأما ما ذكر من أن السائل يهودي، وأنه من أهل الشام فهذا لا ينافي كون السؤال وضع على لسان اليهود، أو أهل الذمة؛ لأن اليهود هم أهل الذمة في ذلك الوقت.
ولما كان السؤال قد وضع على لسان أهل الذمة من اليهود، وظهر بين الناس واشتهر في البلاد صار الكلام كأنه لهم؛ فلذلك نسبه بعض العلماء إلى بعض اليهود؛ فيطلق عليه: مسألة اليهودي.
ولعل الأقرب ما ذهب إليه ابن كثير، وابن حجر، والسخاوي، والشوكاني وهو أن السائل هو السكاكيني الشيعي المعتزلي.
وأما ما يقال من أن الناظم هو ابن البققي فضعيف؛ لأن الذي ذكر هذا القول _ وهو السبكي _ قاله بصيغة التمريض، مما يدل على أنه لا يجزم به.
ومع هذا فإنه لا يستبعد أن يصدر من ابن البققي وأمثاله ممن ثبت عليهم أمور تدل على الزندقة، والانحلال، واستحلال المحرمات، والاستهزاء بالدين _ مثل هذا السؤال( ).
المطلب الثاني: عدد أبيات السؤال، وعدد أبيات الجواب: أما عدد أبيات السؤال فقد اتفقت جميع النسخ التي وقفت عليها على أنها ثمانية أبيات.
وأما جواب شيخ الإسلام ابن تيمية فقد اختلف في عدد أبياته على أقوال؛ حيث ذكر البزار أنها تقرب من مائة وأربعة وثمانين بيتاً ( ).
وقال ابن عبد الهادي ×: = بل هي مائة وخمسة أبيات+( ).
وذكر الحافظ ابن حجر أن عدد أبياتها مائة وتسعة عشر بيتاً ( ).
وأما النسخ الخطية والمطبوعة فمختلفة في عددها _ على ما سيأتي تفصيله عند الحديث عنها _.
والذي تبين بعد مقابلة النسخ أن عدد الأبيات مائة وخمسة وعشرون بيتاً.
المبحث الثالث شروح القصيدة التائية
لا أعلم أحداً تعرض لشرح تلك القصيدة إلا اثنين:
أحدهما: العلامة سليمان بن عبدالقوي الطوفي الحنبلي( )، المعروف بالطوفي × وشرحه مخطوط لم يَخْرُجْ إلى الآن، ويقوم على تحقيقه ودراسته الأخ الشيخ محمد نور في رسالة علمية في قسم العقيدة بالجامعة الإسلامية.
وشرح الطوفي موجود لدي؛ حيث أمدني به الأخ الشيخ محمد نور _حفظه الله_ وقد اطلعت على ذلك الكتاب بعد شرح هذه القصيدة، ورغبت في الاستفادة منه، وزيادة ما يُحتاج إليه.
وهذا الشرح _ أعني شرح الطوفي _ يتميز بتحليل الألفاظ، وشرحها شرحاً لغوياً وأصولياً.
كما أنه شرح موافق لما عليه عقيدة السلف في الجملة، وإن كان عليه بعض المآخذ؛ حيث يوافق أهل الكلام، والأشاعرة على وجه الخصوص في بعض المسائل، كحديثه عن إثبات النبوة بالمعجزات فحسب، ومسألة التحسين والتقبيح، ومسألة الكسب( ) عند الأشاعرة، كما أنه يورد بعض الأحاديث الضعيفة.
كما أنه × لم يشرح إلا مائة وأربعة أبيات، بينما عدد أبيات القصيدة مائة وخمسة وعشرون بيتاً _ كما هو موضح عند الحديث عن وصف النسخ _.
وقد يتوقف × أحياناً نادرة في شرح بعض الأبيات كما في شرح البيت الثامن والتسعين؛ حيث توقف في قول ابن تيمية: =كاحتجاج مريضة+.
وبالجملة فإنه شرح نفيس رائع يدل على قوة الطوفي، وعمقه، وطول نفسه، وغوصه في المسائل الدقيقة، خصوصاً المسائل اللغوية والأصولية.
واسم هذا الشرح _ كما هو موجود على غلاف المخطوط _ شرح جواب ابن تيمية.
يقول × في مقدمة شرحه مبيناً سبب ذلك: =أما بعد فإن بعض أصحابنا _ وفقهم الله تعالى لإدراك الحقائق، ووقاهم دون ذلك شغل الشواغل وعوق العوائق _ سألني إملاء جملة أشرح فيها ما أجاب به الإمام العلامة، والعضب الصمصامة( )، زينة محافل المناظرة والجدال، وفارس غياطل( ) المكافحة والنزال، شهاب مردة المبتدعين، وعقاب( ) أغربة( ) الضالين المضلين، عماد الملة والحق والدين، حجة الله على العالمين، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، ابن تيمية الحراني، رأب الله به ثأي( ) الإسلام، وألصق أنوف عداه خاضعة له بالرغام، وجعله _ وقد فعل _ مجدد دين نبي الأميين على رأس السابعة من المئين عن مسألة سأله عنها بعض أهل الذمة نظماً؛ فأجبته إلى ذلك على حسب الإمكان، ومساعدة الزمان والمكان، وعُنيت فيها أولاً بحل ألفاظها ومبانيها، ثم بالكشف عن حقائق مقاصدها ومعانيها.
إذ رأيت السائل يستشكل منها أشياء، ويودُّ لو كانت نقيةً بيضاء، سائلاً من الله _ تعالى _ التوفيق لتصحيح النية، راغباً إليه في بلوغ الأمنية، عايذاً به، متوكلاً عليه، مفوضاً ما يتعلق بي من أمور الدنيا والآخرة إليه، داعياً له بالعصمة، وهو سميع قريب، لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه أنيب+( ).
الثاني: الشيخ العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي المتوفى سنة 1376ه_ ×.
وشرحه مطبوع متداول في رسالة سماها:
(الدرة البهية شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية)
حيث شرحها شرحاً لطيفاً مختصراً كشف من خلاله عن معانيها، وأتى على مقاصدها بأسلوب سلس يسير واضح دون تعرض للتفصيل، أو شرح الألفاظ وتحليلها.
وهذه الرسالة موجودة ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبدالرحمن السعدي التي نشرها مركز صالح بن صالح الثقافي في عنيزة عام 1411هـ، وذلك ضمن المجلد الثالث الخاص بالعقيدة من ص144_188.
كما أنها طبعت مفردة قبل ذلك، وبعده عدة مرات.
المبحث الرابع مجمل ما احتوت عليه القصيدة
هذه القصيدة احتوت على مباحث عديدة دقيقة في باب القدر، فيما يلي إجمالٌ لما احتوت عليه:
1_ الرد على السائل الذمي، وبيانُ ضلاله، وأن سؤاله سؤال مخاصم معاند _ كما يظهر من لحن قوله _.
2_ بيان المنهج الحق في القدر، وأنه وسط بين ضلاتي الجبرية، والقدرية.
3_ الرد على الطوائف التي ضلت في باب القدر كالقدرية النفاة، والقدرية الجبرية، والقدرية الإبليسية، والفلاسفة، وغيرهم.
4_ بيان أسباب الضلال في البشر، وأن الخوض في القدر من أعظم تلك الأسباب.
5_ التطرق لمسألة الحكمة، والتعليل في أفعال الله، وأقداره، وشرعه؛ حيث أبدى وأعاد كثيراً في هذه المسألة.
6_ التطرق للحكمة من خلق بعض الأشياء التي يقع اللبس في فهمها عند بعض الطوائف كالحكمة من خلق الآلام والمصائب، والحكمة من خلق الذنوب ونحو ذلك.
7_ الحديث عن العدل في قضاء الله، وقدره.
8_ بيان ارتباط الأسباب بالمسببات، وأنها لا تنافي بين الإيمان بالقدر، وفعل الأسباب، وبيان ضلالِ مَنْ عطَّل الأسباب.
9_ حديث عن بعض موانع إنفاذ الوعيد كالتوبة، والاستغفار، والحسنات الماحية، والشفاعة.
10_ تفصيل القول في مسألة الرضا بقضاء الله _ عز وجل _.
11_ كشف كثير من الشبه والشكوك التي طالما حيرت كثيراً من العلماء والفضلاء.
12_ إيرادُ كثيرٍ من الحجج والبراهين، والإلزامات التي تفحم الخصوم الذين ضلوا في باب القدر؛ حيث لا يسعهم إلا السكوت والتسليم.
13_ تكرار المعاني السابقة أو أكثرها، وإيرادها في صور متعددة، وسياقات مختلفة، وعبارات متنوعة.
14_ إسداء النصائح الغالية المنجية من الضلال في القدر وغيره.
فهذا هو مجمل ما ورد في تلك القصيدة، وأما التفصيل فسيرد في ثنايا القصيدة وشرحها _ بإذن الله _.
المبحث الخامس وصف النسخ
تم تحقيق هذه القصيدة، ومقابلة نصها من عشر نسخ: سبع منها مخطوطة، وثلاث مطبوعة.
المطلب الأول: النسخ المخطوطة:
1_ النسخة الأولى: نسخة الطوفي × التي اعتمد عليها في شرحه هذه القصيدةَ، وهذه النسخة مصورة من المخطوطة الموجودة في جامعة برنستون في أمريكا رقم (2506).
وعدد أبياتها المشروحة 104 أبيات.
وهذه النسخة قرئت على شيخ الإسلام × كما ذكر الطوفي أثناء شرحه لمعنى كلمة (خيبة) الواقعة في البيت ذي الرقم (95) من شرح الطوفي حيث قال: =خيبة+: رأيناها في الأصل الذي نقلناها منه، وقد قرىء على الشيخ _ أي شيخ الإسلام _ بحاء مهملة مكسورة، ثم ياء مثناة من أسفل، ثم باء موحدة.
وهي مأخوذة من الحوب وهو الإثم+ا _ هـ.
وهذه النسخة جيدة، وخطها واضح جميل، وتقع في 78 لوحة وقد كتبت _ كما هو مبين في آخرها _: =نهار الثلاثاء خامس عشر شهر رمضان المبارك سنة 1137+.
واسم هذا الشرح _ كما هو موضح في الصفحة الأولى من المخطوط: (شرح جواب ابن تيمية).
وقد رمزت لهذه النسخة بالحرف (ط) رمزاً للطوفي.
2_ النسخة الثانية: وهي النسخة المصورة من المخطوطة الموجودة بدار الكتب القومية بمصر، ضمن عقائد تيمور برقم (374).
وهي نسخة جيدة، كتبت بخط النسخ، وتقع في 10 صفحات، وفي كل صفحة 16 سطراً إلى 17 سطراً، وعدد أبياتها 123 بيتاً، مع بيت مكرر، وهو البيت الثاني والعشرين من المخطوطة حيث تكرر مرة أخرى بعد البيت الثالث والعشرين، والبيت هو:
وكل كفورٍ مشرك بإلهه
وآخرَ طاغٍ كافرٍ بنبوةِ
وهذه النسخة قليلة الأخطاء والسقط، بحيث لم يسقط منها إلا ثلاثة أبيات.
وهذه النسخة مجهولة التاريخ واسمِ الناسخ، وقد كتب في عنوانها: =مسألة القدري لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية ÷.
وكتب في نهايتها: =تمت والحمد لله رب العالمين+.
وإليها رمزت بـ: أ
3_ النسخة الثالثة: النسخة المصورة من المخطوطة الموجودة بدار الكتب القومية بمصر ضمن عقائد تيمور برقم (284).
وتحتوي هذه النسخة على ثلاث رسائل:
الأولى: حكم مسألة القدر، وهي القصيدة التائية.
والثانية: قصيدة بائية في مدح شيخ الإسلام ابن تيمية، لنجم الدين إسحاق بن أبي بكر بن ألمى التركي.
والثالثة: كتاب الإمام النووي الذي كتبه للظاهر بيبرس ينهاه فيه عن بعض المظالم.
وقد كتبت كلها بخط النسخ، وتقع في 5 لوحات = 10 صفحات.
وفي كل صفحة 14 سطراً إلا الصفحة الأخيرة ففيها 17 سطراً، وعدد أبياتها 102.
وكتب في غلافها: =حكم مسألة القدري للشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية _ نفع الله به _+.
ولا يعرف تاريخ نسخها، وأما ناسخها فهو محمد بن سليمان بن داود.
وقد رمزت لهذه النسخة بـ: ب
4_5 النسخة الرابعة والخامسة: وهما النسختان المصورتان من مكتبة برلين مكروفيلم رقم (2481 و 2482).
والنسخة رقم (2482) موجودة ضمن كتاب لم يذكر عليه مؤلفه، وهي مجهولة التاريخ والناسخ، وهي نسخة جيدة كتبت بخط النسخ الجميل الواضح وتقع في خمس صفحات، وفي كل صفحة خمسة وعشرون سطراً، وعدد أبياتها مائة وبيتان.
والأبيات ذكرها صاحب الكتاب في معرض جواب له عن شبهه، وهي الرضا بالقضاء والقدر، وبعد ساق كلاماً قال: =وقد سأل بعض أهل الذمة سؤالاً نظماً، فأحببت أن أورد السؤال والجواب+.
ثم ذكر أبيات الذمي، ثم قال: =فأجاب عن ذلك نظماً مرتجلاً شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد الشهير بابن تيمية _ رحمه الله تعالى_+.
ثم ذكر أبيات الشيخ.
وأما النسخة رقم (2481) فكتبت _ أيضاً _ بخط النسخ الواضح الجميل كسابقتها، وهي تقع في 3 لوحات = 6 صفحات.
وفي كل صفحة 19 سطراً وعدد أبياتها 102.
وكلا النسختين مجهولتا التاريخ واسم الناسخ.
والذي يبدو أن هذه النسخة منقولة عن النسخة السابقة، وأن ناسخها واحد؛ لأنهما لا يختلفا في الخط والشكل والعدد والترتيب.
ولعل الناسخ بعد انتهائه من نسخ الكتاب المتقدم أراد أن يفرد المنظومة في صحيفة مستقلة، فنسخها مرة أخرى، وكتب في بدايتها: =هذا سؤال من بعض أهل الذمة من اليهود في القضاء والقدر، وهو قوله: _ فذكر أبيات الذمي _+.
ثم قال: =فأجاب عن ذلك ارتجالاً شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية _ رحمه الله تعالى _ فقال: _ ثم ذكر أبيات الشيخ_+.
وكتب في آخرها =تمت المنظومة التائية الشريفة بحمد الله وعونه وحسن توفيقه، والحمد لله+.
وعلى هذا فالنسختان نسخة واحدة.
وقد رمزت للنسخة رقم (2481) بـ: ج، ورمزت للنسخة رقم (2482) بـ: د.
6_ النسخة السادسة: النسخة المصورة من قسم المخطوطات بجامعة الملك سعود بالرياض برقم (16138/13) ضمن مجموع يتضمن 25 رسالة، أولها منظومة لابن قدامة ×.
وتقع هذه النسخة في 3 لوحات = 6 صفحات، وهي في الصفحة 267 إلى 272 من صفحات ذلك المجموع.
وفي كل صفحة 22 سطراً، وعدد أبياتها 101.
وهي نسخة جيدة كتبت بخط النسخ المعتاد، ويوجد في بعض الهوامش بعض التقييدات، وكتبها عبدالله بن إبراهيم الربيعي سنة 1345هـ وكتب في بدايتها بعد البسملة: =مسألة في القدر، سؤال أورده أحد علماء الذميين، والجواب عليه للإمام شيخ الإسلام أحمد بن تيمية _رحمه الله تعالى_.
سأل أحد علماء الذميين عن مسألة القدر قائلاً: فذكر الأبيات+.
ثم قال: =فأجاب الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية الحراني _ رحمه الله تعالى _ مرتجلاً ثم ذكر الأبيات+.
وقد رمزت لهذه النسخة بـ: هـ.
وقد أمدني بالنسخ السابقة ووصفها الشيخ محمد نور _ حفظه الله وجزاه خير الجزاء _.
7_ النسخة السابعة: نسخة أمدني بها فضيلة الشيخ علي الشبل _حفظه الله_ وهي من صفحتين فقط، وقد اخْتُصِرت كثيراً، إذ عدد أبياتها 44 بيتاً.
وهي نسخة جيدة، وقد كتبت بخط واضح، وقد كتبها عبدالعزيز ابن عثمان بن حمد آل مضيان عام 1339هـ.
ولم يُورَدْ في هذه النسخة نص السؤال.
وإنما بدأت بقوله: =جواب الشيخ تقي الدين شيخ الإسلام والمسلمين أحمد بن تيمية أسكنه الله في الغرف العلية، لسؤال أورده بعض المعتزلة، ويقال: إنه ابن الثقفي+.
وجاء في آخرها: =آخره، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على أشرف المرسلين، وآله وصحبه.
على يد الفقير المعترف بالخطأ والتقصير عبده، وابن عبده، وابن أمته عبدالعزيز بن عثمان بن حمد آل مضيان، ولله الحمد والمنة. حرر سنة 1339هـ+.
وقد رمزت لهذه النسخة بـ: و.
المطلب الثاني: النسخ المطبوعة: أما النسخ المطبوعة التي اطلعت عليها فثلاث.
وهي الموجودة في كتاب العقود الدرية لابن عبدالهادي، والموجودة بشرح الشيخ عبدالرحمن السعدي _ الدرة البهية، والموجودة ضمن مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام، جمع الشيخ عبدالرحمن بن قاسم وابنه محمد _رحمهما الله_.
وفيما يلي وصف هذه النسخ.
الأولى: نسخة العقود الدرية: جاءت القصيدة التائية في كتاب العقود الدرية للإمام أبي عبدالله محمد بن أحمد بن عبدالهادي الدمشقي الصالحي 705_744هـ ×.
دراسة وتحقيق أبي مصعب طلعت بن فؤاد الحلواني.
وقد جاءت القصيدة في سبع صفحات من ص300_306.
قال ابن عبدالهادي _ في مقدمتها: =صورة فتيا قدمت في مجلس الشيخ تقي الدين ÷ فأجاب في المجلس بهذا الجواب، وهو تقدير القدر+( ).
ثم أورد السؤال والجواب.
وقال في آخرها: =تمت بحمد الله وعونه، وهي مائة وأربعة وثمانون بيتاً، بل هي مائة وخمسة أبيات+( ).
والحقيقة أن الأبيات التي أوردها ابن عبدالهادي × ليس مائة وخمسة أبيات، بل هي مائة وثلاثة أبيات؛ ذلك أن فيها تكراراً لبيتين؛ حيث تكرر البيت الثامن مع البيت الرابع والعشرين إلا في كلمة واحدة، ونص البيت الثامن:
وإن مبادي الشر في كل أمة
ذوي ملة قدسية نبوية
ونص البيت الرابع والعشرين:
وإن مبادي الشر من كل أمة
ذوي ملة ميمونة نبوية
وكذلك تكرر البيت التاسع مع البيت الخامس والعشرين ونصه:
بخوضهمُ في ذاكمُ صار شركهم
وجاء دروس البينات بفترة
وعلى هذا يكون عدد الأبيات مائة وثلاثة أبيات.
وبذلك يكون قد حُذِف من محصِّل مجموع الأبيات اثنان وعشرون بيتاً.
وهذه النسخة فيها بعض الأغلاط، وقد نبهت عليها في مواطنها، ورمزت لهذه النسخة بـ: عقود.
النسخة الثانية: (الدرة البهية شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية) للشيخ العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي.
وقد سبق الحديث عنها عند الحديث عن شروح القصيدة.
وقد جاء عدد أبيات القصيدة في هذا الشرح في مائة وثلاثة وعشرين بيتاً، وقد رمزت لها بـ: الدرة.
وسيأتي الكلام عليها بعد قليل.
النسخة الثالثة: وهي التي وردت ضمن المجلد الثامن من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية × جمع الشيخ عبدالرحمن ابن قاسم وابنه محمد _ رحمهما الله _ وذلك من ص245_255.
وقد جاء في مقدمتها: =سؤال عن القدر أورده أحد علماء الذميين فقال+ثم ذكر أبيات السؤال، وأتبعها بجواب شيخ الإسلام.
وعدد الأبيات التي وردت في مجموع الفتاوى مائة وأربعة وعشرون بيتاً.
وهي أتم النسخ من حيث عدد الأبيات، وقد رمزت لها بـ: مجموع الفتاوى، وسيأتي الكلام عليها في الفقرة التالية.
المطلب الثالث: النسخ المعتمدة في هذا الشرح:
أما النسخ المعتمدة في هذا الشرح فهما نسخة مجموع الفتاوى، ونسخة الدرة البهية، مع مقابلة باقي النسخ على هاتين النسختين وبيان الفروق بينها.
والسبب في اختيار هاتين النسختين يعود إلى ما يلي:
أ_ أنهما أتم النسخ؛ فالأبيات في مجموع الفتاوى مائة وأربعة وعشرون، وفي الدرة البهية مائة وثلاثة وعشرون.
ب_ أنهما مقاربتان لنسخة الطوفي، وابن عبدالهادي في العقود الدرية، وهما ممن عاصر شيخ الإسلام ابن تيمية.
ج_ أن ترتيب الأبيات فيهما ومناسبة كل بيت لما قبله متقارب إلى حد كبير، وما بينهما من الفروق سيأتي بيانه، بخلاف باقي النسخ؛ فإن الترتيب ليس كترتيب مجموع الفتاوى، والدرة البهية.
د_ أن بعض النسخ فيها حذف، وبعضها فيه اختصار، وبعضها فيه تكرار، أما النسختان المذكورتان فهما أتم من هذه الناحية.
وعلى هذا فإن شرح هذه القصيدة سيكون على ترتيب تلك النسختين، وعلى وجه الخصوص نسخة مجموع الفتاوى.
وأما الفروق بينهما فستبين في المطلب الآتي.
كما أن التصحيح سيكون من باقي النسخ الأخرى مع ترجيح الأنسب، والإشارة إلى الفروق في هوامش الصفحات.
المطلب الرابع: ملحوظات وتنبيهات حول نسختي مجموع الفتاوى والدرة البهية
مما يحسن التنبيهُ عليه قبل الشروع في شرح هذه القصيدة _ إيضاحُ بعض الفروق الموجودة في متن القصيدة، وذلك في نسخة مجموع الفتاوى، أو في نسخة الشيخ عبدالرحمن السعدي المسماة بـ: (الدرة البهية) ومن تلك الفروق ما يلي:
1_ هناك فروق في عدد الأبيات؛ فعددُها في مجموع الفتاوى مائة وأربعة وعشرون بيتاً بينما هي في شرح الشيخ السعدي مائةٌ وثلاثة وعشرون بيتاً.
والسبب في ذلك سقوط بعض الأبيات في إحدى النسختين؛ فقد يوجد بعض الأبيات في نسخة، ولا يوجد في الأخرى، وهذا قليل؛ حيث لم يوجد ذلك إلا في الأبيات التالية:
أ _ في البيت السابع من مجموع الفتاوى، ونصه:
فإنهموا لم يفهموا حكمةً له
فصاروا على نوعٍ من الجاهلية
وهو غير موجود في الدرة البهية.
ب_ في البيت الأول بعد المائة من مجموع الفتاوى جاء نصه:
فأما الأفاعيل التي كُرهت لنا
فلا تُرتضى مسخوطة لمشيئةِ
بينما هو في الدرة البهية:
فأما الأفاعيل التي كُرهت لنا
فلا نص يأتي في رضاها بطاعةِ
وهذا أنسب مما قبله.
ثم إنه ورد في البيت الثاني بعد المائة في الدرة البهية ما نصه:
فإن إله الخلق لم يرضَها لنا
فلا نرتضي مسخوطةً لمشيئةِ
والشطر الأول من هذا البيت غير موجود في مجموع الفتاوى، أما الشطر الثاني فهو موجود في البيت الأول بعد المائة كما مر مع اختلاف يسير، وهو أنه جاء في مجموع الفتاوى بنص: = فلا تُرتضى+.
وفي الدرة البهية بنص: = فلا نرتضي+.
ومن هنا تحصَّل لنا بيتٌ زائد في الدرة البهية؛ حيث تكَّون من شطرين غير موجودين في مجموع الفتاوى.
ومن هنا صار عدد أبيات القصيدة مائة وخمسة وعشرين بيتاً.
ج_ البيت الأخير من مجموع الفتاوى وهو قوله:
وصلى إلهُ الخلقِ جل جلاله
على المصطفى المختار خير البريةِ
هو غير موجود في الدرة البهية.
2_ هناك فروق في ترتيب بعض الأبيات، ومن ذلك ما جاء في البيت الحادي والثمانين والثاني والثمانين من مجموع الفتاوى وهما قوله:
وقولُ حليفِ الشرِّ: إني مقدر
عليَّ كقول الذئب: هذي طبيعتي
وتقديره للفعل يجلب نقمة
كتقديره الأشياء طُرَّاً بعلةِ
وفي الدرة البهية تقديم للأخير على الأول.
وفي البيت السابع والثمانين والثامن والثمانين والتاسع والثمانين من مجموع الفتاوى يقول:
وذلِّلْ قيادَ النفسِ للحق واسمعن
ولا تُعْرِضَنْ عن فكرة مستقيمةِ
وما بان من حقٍّ فلا تتركنه
ولا تعصِ من يدعو لأقوم شرعةِ
ودع دين ذي العادات لا تتبعنَّه
وعج عن سبيل الأمة الغضبيةِ
وفي الدرة البهية تقديم وتأخير؛ حيث قدم الثامن والثمانين على التاسع والثمانين.
كذلك تغير ترتيب الأشطر، حيث جاء في الدرة البهية:
وذلِّلْ قياد النفس للحق واسمعن
ولا تعص من يدعو لأقوم شرعةِ
وما بان من حق فلا تتركنه
ولا تعرضن عن فكرةٍ مستقيمةِ
3_ هناك اختلاف في بعض ألفاظ الأبيات؛ حيث ورد بعضها في مجموع الفتاوى بلفظ، وفي الدرة البهية بلفظ آخر.
وهذا كثير، وقد نبهت عليه في محله، واجتهدت قدر المستطاع في اختيار اللفظ المناسب للمعنى، ووزن البيت.
صور المخطوطات
القسم الثاني:تحقيق وشرح القصيدة التائية
نص السؤال الذي أُورد على شيخ الإسلام
ابن تيمية
قال السائل:
1_ أيا علماءَ الدين ذميُّ دينكم
تحيرَّ دلوه بأوضح حجة
2_ إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم
ولم يرضه مني فما وجه حيلتي
3_ دعاني وسدَّ البابَ عنيْ فهل إلى
دخوليْ سبيلٌ بينوا لي قضيتي
4_ قضى بضلالي ثم قال: ارضَ بالقضا
فما أنا راضٍ( )بالذي فيه شقوتي
5_ فإن كنت بالمقضي _ياقومُ_ راضياً
فَرَبيَ لا يرضى بشؤم بليتي( )
6_ وهل( ) ليْ رضا ما ليس يرضاه سيدي
فقد حرت دلوني على كشف حيرتي
7_ إذا شاء ربيْ الكفرَ مني مشيئةً
فهل أنا عاصٍ في( )اتباع المشيئة ( )
8_ وهل ليْ اختيارٌ أن أخالف حُكْمه
فبالله فاشفوا بالبراهين غُلتي( ) ( )
نص جواب شيخ الإسلام
ابن تيمية ×على السؤال
قال ×:
1_ سؤالك يا هذا سؤال معاند
مخاصم( )ربِّ العرش باري البريةِ
2_ فهذا سؤالٌ( )خَاصم الملأَ العُلى
قديماً به إبليسُ أصلُ البليةِ
3_ ومن يك خصماً للمهيمن يرجعن
على أم رأس هاوياً في الحُفيرةِ
4_ ويدعى( )خصومُ اللهِ يومَ معادهم
إلى النار طُرَّاً معشرَ( ) القدريةِ
5_ سواءٌ نفوه أو سعوا ليخاصموا
به اللهَ أو ماروا به للشريعةِ
6_ وأصلُ ضلالِ الخلقِ من كل فرقةٍ
هو الخوض في فعل الإله بعِلَّةِ
7_ فإنهموا لم يفهموا حكمةً له
فصاروا على نوع من الجاهليةِ
8_ فإن جميعَ الكونِ أوجب فِعْلَه
مشيئةُ ربِّ الخلق باري الخليقةِ( )
9_ وذات إله الخلق واجبة بما
لها من صفات واجبات قديمةِ
10_ مشيئتُه مَعْ عِلْمِه ثم قدرة
لوازم ذات الله قاضي القضيةِ
11_ وإبداعُه ما شاء من مُبدَعاته
بها حِكْمَةٌ فيه وأنواعُ رحمةِ
12_ ولسنا وإن قلنا جَرَتْ بمشيئة( )
من المنكري آياتِه المستقيمةِ
13_ بل الحقُّ أن الحكمَ لله وحده
له الخلقُ والأمرُ الذي في الشريعةِ
14_ هو المَلِكُ المحمودُ في كلِّ حالةٍ
له المُلْكُ من غير انتقاص بِشِركةِ
15_ فما شاء مولانا الإلهُ فإنه
يكون وما لا لا يكون بحيلةِ
16_ وقدرتُه لا نقص فيها وحكمه( )
يَعُمُّ فلا تخصيصَ في ذي القضيةِ
17_ أُرِيْدُ بذا أن الحوادثَ كلَّها
بقدرته كانت ومحض المشيئةِ
18_ ومالكُنا في كلِّ ما قد أراده
له الحمدُ حمداً يعتلي كلَّ مِدْحةِ
19_ فإن له في الخلق من نعم( ) سرت
ومن حكم فوق العقول الحكيمةِ
20_ أموراً يحار العقل فيها إذا رأى
من الحكم العليا وكل عجيبةِ
21_ فنؤمنُ أن الله عزَّ بقدرةٍ
وخلقٍ وإبرامٍ لحكم المشيئةِ
22_ فنثبت هذا كلَّه لإلهنا
ونثبت ما في ذاك من كل حكمةِ
23_ وهذا مقام طالما عجز الأُلى
نفوه( ) وكروا راجعين بحيرةِ
24_ وتحقيقُ ما فيه بتبيين غوره
وتحرير حقِّ الحق في ذي الحقيقة
25_ هو المطلب الأقصى لِوُرَّاد( )بحره
وذا عسِرٌ في نظم هذي القصيدةِ
26_ لحاجته تبيينَ علمٍ مُحقَّقٍ
لأوصاف مولانا الإلهِ الكريمةِ( )
27_ وأسمائه الحسنى وأحكام دينه
وأفعاله في كل هذي( ) الخليقة
28_ وهذا _ بحمد الله _ قد بان ظاهراً
وإلهامُه للخلق أفضلُ نعمة
29_ وقد قيل في هذا وخُطَّ( ) كتابُه
بيانٌ( )شفاءٌ للنفوس المريضةِ( )
30_ فقولك: "لِمْ قد شاء؟" مثل سؤالِ مَنْ
يقول: فَلِمْ قد كان في الأزليةِ
31_ وذاك سؤال يبطل العقلُ وَجْهَهُ
وتحريمُه قد جاء في كل شرعةِ
32_ وفي الكون تخصيصٌ كثيرٌ يدلُّ من
له نوعُ عقلٍ أنه بإرادةِ
33_ وإصدارُه عن واحد بعد واحد
أو( ) القولُ بالتجويز رميةُ حيرةِ
34_ ولا ريبَ في تعليق كلِّ مُسَبَّبٍ
بما قبله من( ) علة مُوجِبيَّةِ
35_ بل الشأنُ في الأسبابِ أسبابِ ما ترى
وإصدارها( ) عن حكم محض المشيئة
36_ وقولك: لِمْ شاء الإلهُ هو الذي
أزلَّ( )عقول الخلق في قَعْر حُفْرةِ
37_ فإن المجوسَ القائلين بخالق
لنفع وربٍّ مُبدعٍ للمَضرةِ
38_ سؤالُهم عن علة السرِّ( ) أوقعت
أوائلَهم( ) في شبهة الثَّنويةِ( )
39_ وأن ملاحيدَ الفلاسفةِ الأُلى
يقولون بالفعل( ) القديمِ بعلةِ( )
40_ بغوا علة في الكون( ) بعد انعدامه
فلم يجدوا ذاكم فضلوا بضلةِ
41_ وإن مبادي الشر في كل أمة
ذوي( ) ملة ميمونة نبويةِ
42_ بخوضهموا في ذاكُمُ صار شركهم
وجاء دروس البينات بفترةِ( )
43_ ويكفيك نقضاً أن ما قد سألتَهُ
__
من العذر( )مردودٌ لدى كل فطرةِ
44_ فأنت تعيب الطاعنين( )جميعهم
عليك وترميهم بكل مذمةِ
45_ وتَنْحل من والاك صَفْوَ مودةٍ
وتبغض من ناواك( ) من كل فرقة
46_ وحالهم في كل قول وفعلة
كحالك _ يا هذا _ بأرجح حجة
47_ وهَبْك كففتَ اللومَ عن كل كافرٍ
وكلِّ غويٍّ خارجٍ عن محجة
48_ فيلزمك الإعراضُ عن كل ظالمٍ
على( ) الناس في( ) نفس ومالٍ وحرمة
49_ فلا تغضبن( ) يوماً على سافك دماً
ولا سارقٍ مالاً لصاحب فاقة
50_ ولا شاتمٍ عِرْضاً مصوناً وإن علا
ولا ناكح فرجاً على وجه غية( )
51_ ولا قاطع للناس نهجَ سبيلِهم
ولا مفسد في الأرض من كل وجهة
52_ ولا شاهدٍ بالزور إفكاً وفريةً
ولا قاذف للمحصنات بزنية( )
53_ ولا مهلك للحرث والنسل عامداً
ولا حاكمٍ للعالمين برشوةِ
54_ وكُفَّ لسان اللوم عن كل مفسدٍ
ولا تأخذنْ ذا جرمةٍ( ) بعقوبةِ
55_ وسهِّل سبيل الكاذبين تعَمُّداً
على ربهم مِنْ كلِّ جاءٍ( ) بفريةِ
56_ وإن قصدوا إضلال من يستجيبهم( )
برومِ فسادِ النوع ثم الرياسةِ
57_ وجادل عن الملعونِ فرعونَ إذ طغى
فأُغْرِق( ) في اليم انتقاماً بغضبةِ( )
58_ وكلِّ كفورٍ مشركٍ بإلههِ
وآخرَ طاغٍ كافرٍ بنبوةِ
59_ كعادٍ ونمروذ( ) وقومٍ لصالح
وقوم لنوح ثم أصحاب الآيكةِ
60_ وخاصم لموسى ثم سائر من أتى
من الأنبياء محيياً للشريعة( )
61_ على كونهم قد جاهدوا الناس إذ بغوا( )
ونالوا من العاصي( ) بليغ( ) العقوبة
62_ وإلا فكلُّ الخلقِ في كلِّ لفظةٍ
ولحظةِ عينٍ أو تحرك شعرةِ( )
63_ وبطشة كفٍّ أو تخطي قُديمةٍ
وكلِّ حراكٍ بل وكل( ) سكينةِ
64_ هم تحت أقدار الإلهِ وحكمهِ
فما أنت( ) فيما قد أتيت بحجةِ
65_ وَهَبْكَ رفعت اللومَ عن كل فاعلٍ
فعالَ( ) ردىً طرداً( ) لهذي المقيسةِ
66_ فهل يُمْكِننْ( ) رفعُ الملامِ جميعِهِ
عن الناس طُرَّاً عند كلِّ قبيحةِ
67_ وتركُ عقوبات الذين قد اعتدوا
وتركُ الورى الإنصافَ بين الرعيةِ
68_ فلا تُضمنَنْ( ) نفسٌ ومالٌ بمثلهِ
ولا يعقبن( ) عادٍ بمثل الجريمةِ
69_ وهل في عقول الناس أو في طباعهم
قبولٌ لقول النذل: ما وجه حيلتي
70_ ويكفيك نقضاً ما بجسمِ ابنِ آدمٍ
صبيٍّ ومجنون وكلِّ بهيمةِ
71_ من الألم المقضيِّ من( ) غير حيلةٍ
وفيما يشاء الله أكملُ حكمةِ
72_ إذا كان في هذا له حكمةٌ فما
يُظن( ) بخلق الفعل ثم العقوبة
73_ فكيف( ) ومِنْ هذا عذاب مُولَّدٌ
عن الفعلِ فِعل العبد عند( ) الطبيعة
74_ كآكِلِ سمٍّ أوجب الموتَ أكلُه
وكلٌّ بتقديرٍ لرب البرية( )
75_ فَكُفْرُك يا هذا كسمٍّ أكلْتَهُ
وتعذيبُ نارٍ مثل( ) جرعةِ غصةِ
76_ألست ترى في هذه الدار مَنْ جنى
يعاقب إما بالقضا أو بشرعة
77_ ولا عُذْرَ للجاني بتقدير خالقٍ
كذلك( ) في الأخرى بلا مَثْنَويَّةِ
78_ وتقدير ربِّ الخلق للذنب موجِبٌ
لتقدير( ) عقبى الذنب إلا بتوبةِ
79_ وما كان من جنس المتاب لرفعه
عواقبَ أفعالِ العبادِ الخبيثةِ
80_ كخيرٍ( ) به تُمحى( ) الذنوبُ ودعوةٍ
تُجاب من الجاني ورُبَّ شفاعة( )
81_ وقولُ حليف الشرِّ( ): إني مقدرٌ
عليَّ كقول الذئب( ): هذي طبيعتي
82_ وتقديره للفعل يجلب نقمةً( )
كتقديره الأشياءَ( ) طراً بعلةِ
83_ فهل( ) ينفعن عُذْرُ( ) الملوم بأنه( )
كذا طبعه أم هل يقال لعثرةِ
84_ أم الذمُّ والتعذيب أوكد للذي
طبيعته فعل الشرور الشنيعة
85_ فإن كنتَ ترجو أن تجاب بما عسى
ينجِّيك من نار الإله العظيمةِ
86_ فدونك ربَّ الخلقِ فاقْصُدْه ضارعاً
مريداً لأن يهديْك نحو الحقيقةِ
87_ وذلِّل قيادَ النفسِ للحق واسمعن( )
ولا تعرضن عن فكرة مستقيمةِ( )
88_ وما بان من حق فلا تتركنَّه
ولا تعصِِ من يدعو لأقوم شرعةِ( )
89_ ودَعْ دِينَ ذي العاداتِ لا تتبَعَنَّه
وعُجْ عن سبيل الأمةِ الغضبيَّة
90_ ومن ضل عن حقٍّ فلا تقفونَّه( )
وزنْ ما عليه الناس بالمَعْدِليةِ
91_ هنالك تبدو طالعاتٌ من الهدى
بتبشير( ) من قد جاء بالحنفية
92_ بملة إبراهيم ذاك إمامنا
ودين رسول الله خير البريةِ( )
93_ فلا يقبل الرحمنُ ديناً سوى الذي
به جاءت الرسْلُ الكرامُ السجيةِ
94_ وقد جاء هذا الحاشرُ الخاتَم الذي
حوى كلَّ خير في( ) عموم الرسالةِ
95_ وأخبر عن رب العباد بأنَّ مَنْ
غدا( ) عنه في الأخرى بأقبحِ خيبةِ( )
96_ فهذي دلالاتُ العبادِ لحائر
وأما هداه فهو فعلُ الربوبةِ( )
97_ وفَقْدُ الهدى عند الورى لا يفيد( ) مَنْ
غدا( ) عنه بل يجري( ) بلا وجه حجةِ
98_ وحجةُ محتجٍّ بتقدير ربِّه
تزيد( ) عذاباً كاحتجاج مريضةِ
99_ وأما رضانا بالقضاء فإنما
أمرنا بأن نرضى بمثل المصيبةِ
100_ كسقمٍ وفقرٍ ثم ذلٍّ وغُربةٍ
وما كان من مؤذٍ( ) بدون( ) جريمةِ
101_ فأما الأفاعيلُ التي كرهت لنا
فلا نصَّ يأتي في رضاها بطاعةِ
102_ وقد قال قومٌ( ) من أولي العلم: لا رضاً
بفعلِ المعاصيْ والذنوبِ الكبيرةِ( )
103_ فإن إلهَ الخلق لم يرضَها لنا
فلا نرتضي مسخوطةً لمشيئةِ( )
104_ وقال فريقٌ: نرتضي بقضائه( )
ولا نرتضي المقضيَّ أقبحَ( ) خصلةِ
105_ وقال فريقٌ: نرتضي بإضافةٍ
إليه( ) وما فينا فنلقى( ) بسخطةِ
106_ كما أنها للرب خلقٌ وأنها
لمخلوقه كسبٌ كفعل( ) الغريزة( )
107_ فنرضى( ) من الوجه الذي هو خلقه( )
ونسخط( ) من وجه اكتساب الخطيئةِ( )
108_ ومعصيةُ العبدِ المكلفِ تركُه
لما أمر المولى وإن بمشيئةِ
109_ فإن إله الخلقِ حقَّ مقالُه
بأن عبادي( ) في جحيم وجنةِ( )
110_ كما أنهم في هذه الدار هكذا
بل البهم في الآلام ــ أيضاً ــ ونعمة
111_ وحكمتُه العليا اقتضت ما اقتضت من الـ
ـفروق بعلمٍ ثم أيدٍ ورحمةِ
112_ يسوق أولى التعذيب بالسبب الذي
يقدّره نحو العذاب( ) بعزةِ
113_ ويهدي أولي( ) التنعيم نحو نعيمهم
بأعمال صدق في رجاءٍ وخشيةِ
114_ وأمرُ إله الخلق بيَّن( ) ما به
يسوق أولي التنعيم نحو السعادةِ
115_ فمن كان من أهل السعادة أثَّرت
أوامرُه فيه بتيسير( ) صنعةِ
116_ ومن كان من أهل الشقاوة لم يُبَلْ( )
بأمر ولا نهي بتيسير( ) شقوةِ
117_ ولا مخرجٌ للعبد عما به قضى
ولكنه مختارُ حُسْنٍ وسوأة
118_ فليس بمجبورٍ عديمٍ إرادةً( )
ولكنه شاءٍ بخلق الإرادة( )
119_ ومن أعجبِ الأشياءِ خلقُ مشيئةٍ
بها صار مختارَ الهدى والضلالة( )
120_ فقولك: هل أختار تركاً لحكمه
كقولك: هل أختار ترك المشيئة( )
121_ وأختار( ) لا أختار فعل ضلالة
ولو نلت هذا الترك فزت بتوبةِ
122_ وذا ممكن لكنه متوقف
على ما يشاء الله من ذي المشيئة( )
123_ فدونك فافهم ما به قد أُجبْتَ مِنْ
معانٍ إذا انحلت بفهم غريزة
124_ أشارت إلى أصل يشير إلى الهدى
ولله رب الخلق أكمل( ) مدحةِ
125_ وصلى إله الخلق جل جلاله
على المصطفى المختار خير البرية( )
شرح السؤال الذي أورد على شيخ الإسلام
ابن تيمية
شرح السؤال الذي أُورد على شيخ الإسلام ابن تيمية
قال السائل:
1_ أيا علماءَ الدين ذميُّ دينكم
قوله تحيرَّ دلوه بأوضح حجة
قوله: =علماء+: العلم نقيض الجهل, وعلماء: جمع عالم كعاقل وعقلاء, أو جمع عليم كحكيم وحكماء, وحليم وحلماء( ).
وقوله: =الدين+: يطلق على عدة معان منها: الجزاء, والدأب, والعادة, والطاعة, والعبادة, والذل, والسلطان, والملك, والملة, وطريقة كل نبي مع أمته, وغير ذلك.
والمقصود بالدين ههنا هو الإسلام, يريد يا علماء الإسلام( ).
وقوله: =تحير+: من الحيرة, وهي التبلد في الأمر, والتردد فيه, والشك من غير رجحان أحد طرفيه عن الآخر( ).
وقوله: =الذمي+: هو _كما يقول الطوفي _: =الكتابي المعقود له عقد الذمة+( ).
وقوله: =الحجة+: هي الدلالة المبيِّنة القاطعة الموصلة إلى المدلول جزماً( ).
ومعنى البيت: ياعلماء دين الإسلام: أجيبوا عن سؤال هذا الذمي, وأرشدوه بالحجج القاطعة, والبراهين الساطعة.
2_ إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم
ولم يرضه مني فما وجه حيلتي
قوله: =قضى+: أي حكم.
قوله: =بكفري+ : الكفر في اللغة هو الستر, والتغطية, ومنه الليل يسمى كافراً؛ لتغطيته القرى, والثغور, ومنه قول ثعلب بن صيعرة المازني يصف الظليم, والنعامة, ورواحهما إلى بيضهما عند غروب الشمس:
فتذكَّرا ثَقَلاً وئيداً بعدما
ألقت ذكاءُ يمينها في كافر
وذُكاء: اسم للشمس, وقوله ألقت ذُكاء يمينها في كافر: أي بدأت في المغيب.
ومنه قول لبيد بن أبي ربيعة ÷ يصف الشمس:
حتى إذا ألقت يداً في كافر
وَأجَنَّ عوراتِ الثُّغورِ ظلامُها
ومن ذلك: الكفارةُ؛ لتغطيتها الإثم, والكفار: وهم الزّراع؛ لتغطيتهم الحب في الأرض.
ومن ذلك سمي الكافر كافراً؛ لأنه ستر آيات الله, وغطَّى دلائل التوحيد والإيمان بجحده وعناده( ).
وقوله: =بزََعمكم+: الزعم بفتح الزاي وضمها: الحسبان، ولفظه مشعر بالضعف والوهاء( ).
وقوله: =حيلتي+: قال الطوفي×: =الحيلة في الاصطلاح والعرف عبارة عن سبب لطيف يتوصل به إلى أمر لا يأتي إدراكه بالقهر والغلبة.
وهي والمكر متقاربان عُرْفاً, ومع ذلك لا تخرج عن معنى القوة؛ لأنها إنما تأتي عن قوة في النفس, وذكاء في الحس+( ).
ويرى أبو هلال العسكري × أن الفرق بين الحيلة والمكر هو: =أن من الحيلة ما ليس بمكر، وهو أن يقدِّر نفع الغير لا من وجهه؛ فيسمي ذلك حيلة مع كونه نفعاً.
والمكر لا يكون نفعاً.
وفرق آخر وهو أن المكر تقدير ضر الغير من غير أن يعلم به، وسواء كان من وجهه أو لا، والحيلة لا تكون إلا من غير وجهه+( ).
ومعنى البيت أنه: إذا حكم ربي بكفري _كما تزعمون_ وقدره لي, وهو _في الوقت نفسه_ لا يرضى لعباده الكفر فما وجه الخلاص من ذلك؟
وفي هذا مبالغة في العناد في صورة سؤال واسترشاد، وموضع عناده _كما يقول الطوفي_ هو في قوله: =بكفري بزعمكم+ حيث لم ينسب الكفر إليه مطلقاً، ويعترف بالخطأ، بل على زعم الخصم، وذلك ظاهر في أنه يعتقد أنه على الحق وخصمه على الباطل، وإنما أورد أبياته على سبيل الإلزام( ).
3_ دعاني وسدَّ البابَ عنيْ فهل إلى
دخوليْ سبيلٌ بينوا لي قضيتي
قوله: =قضيتي+: القضية: هي كل قول مقطوع به.
ومن هذا يقال: قضية صادقه, وقضية كاذبه( ).
يقول: إذا كان ربي قد دعاني إلى الهدى, ولم يقدِّره لي فما طريق الوصول إلى حل تلك المسألة؟
بيِّنوا لي ذلك، ولا تدعوني في حيرة من أمري.
4_ قضى بضلالي ثم قال: ارضَ بالقضا
فما أنا راضٍ( )بالذي فيه شقوتي
قوله: =شقوتي+: الشِّقوة, ويقال: الشقاوة: خلاف السعادة( ).
يقول: لقد حكم ربي عليَّ بالضلالة؛ إذ لم أكن مسلماً, وأمرني _مع ذلك_ بالرضا بالقضا؛ فكيف أرضى بما فيه شقاوتي وهلاكي؟
5_ فإن كنت بالمقضي _ياقومُ_ راضياً
فَرَبيَ لا يرضى بشؤم بليتي( )
قوله: =بشؤم+: الشؤم: خلاف اليُمن, والتشاؤم هو عَدُّ الشيء مشؤوماً, أي يكون وجوده سبباً في وجود ما يحزن ويضر( ).
يقول: إذا رضيت بما قضاه الله عليَّ فهل يرضى ربي بما ابتلاني به من الكفر؟ فإن كان كفري من قضائه فقد رضيت به؛ فما وجه الحجة علي؟
فإذاً أنا طائع لا عاصٍ, ومؤمن لا كافر( ).
6_ وهل( ) ليْ رضا ما ليس يرضاه سيدي
فقد حرت دلوني على كشف حيرتي
7_ إذا شاء ربيْ الكفرَ مني مشيئةً
فهل أنا عاصٍ في( )اتباع المشيئة ( )
8_ وهل ليْ اختيارٌ أن أخالف حُكْمه
فبالله فاشفوا بالبراهين غُلتي( ) ( )
قوله: =سيدي+: السيد يعني به ههنا: الرب؛ لأن الرب يطلق على السيد( ).
وقوله:=البراهين+: جمع برهان, وهو بيان الحجة, وهو أوكد الأدلة, وهو الذي يقتضي الصدق أبداً لا محالة( ).
وقوله: =غلتي+: الغُلة والغليل _كما يقول الراغب_: =ما يتدرعه الإنسان من داخله من العطش, ومن شدة الوجد والغيظ, يقال:شفا فلانٌ غليلَه أي غيظه+( ).
يقول هذا السائل: هل بالإمكان أن أرضى شيئاً لا يرضاه ربي؟
وإذا شاء أن أكون كافراً, واتبعته فهل يعد ذلك عصياناً مني؟
وهل لي بعد ذلك أن أختار سوى ما حكم به علي؟
وكيف أكون مؤمناً وقد حكم بكفري؛ فذلك مستحيل, وحينئذٍ يكون لومي وتعذيبي على تركي المحال جوراً وتكليفاً بما لا يطاق؛ فإذا حكم بكفري فتكليفه لي بالإيمان مع ذلك تكليف بأن أخالف حُكْمَهُ, ومخالفةُ حُكْمِهِ محالٌ؛ فالتكليف به محال!
هذا ملخص السؤال, وفحوى تلك الشبة الشيطانية؛ فحاصل السؤال _إذاً_ أنه إيراد على مذهب الجبرية الذين غلوا في إثبات القدر, وأنكروا أن يكون للعبد فعل حقيقة _ كما سيأتي عند الحديث عنهم _.
وخلاصة ما أورد السائل أنه يقول: إذا كان الله قد قضى عليَّ بالكفر، وقدَّر لي أن لا أكون مسلماً، أو قدر علي المعاصي وألا أكون طائعاً _ فكيف لي أن أتخلص من الكفر والمعاصي؟ وكيف أتمكن من الإيمان والطاعة؟
وهل أكون معذوراً إذا تجرَّأت على الكفر والفسوق والعصيان؟
وكيف أجمع بين الرضا بالقضاء من الله، وبين الرضا بالمقضيِّ من الكفر والمعاصي الصادرة مني؟
كيف يكون ذلك والله لا يرضى بالكفر والفسوق والعصيان؟
هذا هو حاصل السؤال، وخلاصتُه.
الجواب المجمل عن السؤال:
والجواب عن ذلك يسير _بحمد الله_ وهو أن يقال: إن للعباد مشيئةً يختارون بها، وقدرةً يفعلون بها، ومشيئتهم، وقدرتهم واقعتان بمشيئة الله وقدرتِهِ، تابعتان لهما.
وتوضيح ذلك أن العبد إذا صلى، وصام، وعمل الخير، أو سرق، وشرب الخمر أو عمل شيئاً من المعاصي _ كان هو الفاعلَ لذلك العمل الصالح، أو العمل السيئ.
وفعله المذكور _بلا ريب_ واقع باختياره، وهو يشعر _ضرورة_ أنه غير مجبور على الفعل أو الترك، وأنه لو شاء ألا يفعل لم يفعل.
وكما أن هذا هو الواقع فهو الذي دلت عليه نصوص الشرع؛ حيث أضافت الأعمال صالحها وسيئها إلى العباد، وبينت أنهم هم الفاعلون لها، وأنهم محمودون عليها ومثابون إذا كانت صالحة، ومذمومون ومعاقبون عليها إذا كانت سيئة.
فقد تبين بهذا أنها واقعةٌ باختيارهم، وأنهم إن شاؤوا فعلوا، وإن شاؤوا تركوا، وأن هذا الأمر ثابت عقلاً وحساً وشرعاً ومشاهدة.
وإذا أردت أن تعرف أنها _وإن كانت واقعة منهم وباختيارهم_ كيف تكون داخلة في القدر؟ وكيف تشملها المشيئة؟
يقال: بأي شيء وقعت هذه الأعمال الصادرة من العباد خيرها وشرها؟
والجواب: أنها واقعة بقدرتهم وإرادتهم.
فيقال _ حينئذٍ _: إن الذي خلق ما تقوم به الأفعال هو الذي خلق الأفعال [وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ] (الصافات: 96).
فهذا هو الذي يحل الإشكال، ويتمكن به الإنسان أن يعقل اجتماع القدر، والاختيار.
ومع ذلك فإن الله _ تعالى _ يمد المؤمنين بأسباب، وألطاف وإعانات متنوعة، ويصرف عنهم الآفات والموانع.
وهو _ كذلك _ يخذل الفاسقين المعرضين ويكلهم إلى أنفسهم؛ وأنهم لم يؤمنوا به، ولم يذلوا له، ولم يتوكلوا عليه؛ فولاهم ما تولوه لأنفسهم، كما قال النبي": =وأما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة+ الحديث( ).
فهذا هو الجواب المجمل( )، وأما الجواب المفصل فكما سيأتي من جواب شيخ الإسلام ×؛ فإلى ذلك الجواب المسدد، وشرحه.
شرح جواب شيخ الإسلام ابن تيمية × عن السؤال الذي أورد عليه
جواب شيخ الإسلام ابن تيمية عن السؤال
قال ×:
شرح البيت الأول
1_ سؤالك يا هذا سؤال معاند
مخاصم( )ربِّ العرش باري البريةِ
قوله: =معاند+: اسم فاعل من العناد، وهو مخالفة الحق مع العلم به.
ويجوز أن يكون من الاعوجاج، والميل عن الاستقامة.
ويجوز أن يكون من قولهم: عاند فلان، إذا فارق، وعاند إذا لازم من الأضداد( )؛ فكأن المعاند فارق الحق، أو يلازم الباطل( ).
وقوله: =مُخاصم+ اسم فاعل من الخصومة، والمخاصمة، وهو اجتهاد كل واحد من الفريقين في الانتصار على صاحبه بقول أو فعل( ).
قوله: =العرش+: العرش في اللغة: سرير الملك.
وفي الشرع: هو عرش الرحمن الذي استوى عليه استواءاً يليق بجلاله، وعظمته( ).
وقوله: =باري البرية+: أي خالق الخلق( ).
ومعنى البيت أن سؤالك أيها السائل سؤال مكابر معاند مخاصم، لا سؤال باحث عن الحق والهدى، وهذا بادٍ من لحن قولك؛ فإن هذا السؤال في الحقيقة موجه إلى الله ـ عز وجل ـ والسائل قد أورده على وجه الاعتراض على الله، وزعم أنه _ تبارك وتعالى _ ظالم له؛ حيث قدر عليه الكفر والمعاصي، ورتب على ذلك عذابَه وأليمَ عقابه؛ ولا ريب أن كلَّ من خاصم ربه ـ فحجته داحضة باطلة( ).
قال الله _ عز وجل _: [وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ](الشورى:16).
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي × في تفسير هذه الآية: =فأخبر هنا أن [الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ] بالحجج الباطلة، والشبه المتناقضة، [مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ] أي من بعد ما استجاب له أولوا الألباب والعقول لما بين لهم من الآيات القاطعة، والبراهين الساطعة.
فهؤلاء المجادلون للحق من بعد ما تبين [حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ]: أي باطلة مدفوعة [عِنْدَ رَبِّهِمْ] لأنها مشتملة على رد الحق، وكل ما خالف الحق فهو باطل.
[وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ] لعصيانهم، وإعراضهم عن حجج الله وبيناته وتكذيبها.
[وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ] هو أثر غضب الله؛ فهذه عقوبة كل مجادل للحق بالباطل+( ).
وقال الله _ عز وجل _: [سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ] (الأنعام: 148).
قال ابن كثير × في تفسير الآية: =أي بهذه الشبه ضل من ضل قبل هؤلاء، وهي حجة داحضة باطلة؛ لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه، ودمَّر عليهم، وأدال عليهم رسله الكرام، وأذاق المشركين من أليم الانتقام+( ).
شرح البيت الثاني
2_ فهذا سؤالٌ( )خَاصم الملأَ العُلى
قديماً به إبليسُ أصلُ البليةِ
قوله: =الملأ+: الملأ هم القوم الأشراف يجتمعون على رأي؛ فيملأون العيون رِواءاً ومنظراً، والنفوس بهاءاً وجلالاً.
قال الله _تعالى_: [أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ] البقرة: 246.
وقال _ عز وجل _: [قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ] النمل: 29.
وقوله: =العُلى+: العُلى: جمع عليا، نحو كُبرى، وكُبَر، ومن المعتل دُنيا ودُنا.
والعلى ههنا وصف للملأ، ولفظ القرآن: [لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى] الصافات: 8.
ولعل الشيخ اضطر إلى لفظة العلى، وإلا فإن الأصل الملأ الأعلى.
والمراد بالملأ العلى ههنا: الملائكة _ عليهم السلام _( ).
وقوله: =إبليس+: اختلف في إبليس: هل هو اسم أعجمي، أو عربي، فقال ابن جني( )×: =هو اسم أعجمي؛ لأنه ورد غير منصرف، وليس فيه بعد العلمية إلا العجمة+( ).
وقال ابن فارس × في مادة (بلس): =الباء واللام والسين أصل واحد، وما بعد فلا معول عليه.
فالأصل اليأس، يقال: أبلس إذا يئس، قال الله _ تعالى _: [فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ] (الأنعام: 44).
قالوا: ومن ذلك اشتُّق اسم إبليس، كأنه يئس من رحمة الله+( ).
قال الطوفي ×: =والصحيح الأول _ يعني القول بعجمته _.
ويلزم هذا القائل _ يعني القائل بعربيته واشتقاقه _ منع اللفظ من الصرف بسبب واحد.
وليس ذلك من لغة العرب، ولا نُسلِّم أنه مشتق من الإبلاس، بل إبليس لفظ أعجمي وافق لفظ الإبلاس من لغة العرب، لا أنه عربي، كيعقوب الأعجمي مع اليعقوب الذي هو ذكر الحجل+( ).
وقوله: =أصل البلية+: أي أنه أول من جادل في هذا الباب، وأثار هذه الشبه( ).
أو أنه هو مادة الفساد التي تمد كل فساد في هذه الدنيا في الأديان، والاعتقادات، والشهوات، والشبهات( ).
ومعنى البيت: أن هذا السؤال الذي أورده السائل هو من جنس سؤال إبليس الذي أخبر الله عنه أنه قال: [فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ](الأعراف: 16).
فقال: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي ولم يقل: =فبما غويت+.
وإبليس هو الذي غوى، واستكبر عن أمر ربه؛ حيث أمره _عز وجل_ بالسجود لآدم فقال: [أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً] (الإسراء: 61).
وقال: [أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً] (الإسراء: 62).
قال الطوفي × في شرح هذا البيت: =معنى كون إبليس أصل البلية أي هو أول من جادل في هذا الباب، وأثار هذه الشبه، وحاج بها الملائكة.
وشُبَهُهُ سبع ذكرت في التوراة والإنجيل، وذكرها شُرَّاحُهما في شرحيهما، أوردها إبليس على الملائكة على هيئة المناظرة لهم، نازلاً معهم فيها على الأشد فالأشد، ونحن نذكرها بالمعنى مختصراً مع البيان.
قال إبليس _ لعنه الله تعالى _: إني وإن سلمت أن الباري _ تعالى _ إلهي، وإله الخلق، عالم، قادر، لا يُسأل عن قدرته ومشيئته، وأنه مهما أراد شيئاً، قال له: كن فيكون _ إلا أنه يتوجه على حكمته أسئلة:
الأول: أنه علم قبل خلقي ما يصدر مني، فلمَ خلقني؟
الثاني: إذ خلقني، فلمَ كلفني بمعرفته وطاعته؟ مع أنه لا تنفعه معرفة العارف، وطاعة الطائع، ولا يضره جهل الجاهل به، ولا معصية العاصي له.
الثالث: إذ خلقني، وكلفني، فالتزمت ذلك التكليف العام، فلم كلفني بطاعة آدم، والسجود له على الخصوص؟ مع أن ذلك لا ينفعه تركه، ولا يضره.
الرابع: إذ كلفني بذلك، فَلِمَ إذا أبيتُ لعنني وأخرجني من الجنة؟ مع أنني لم أرتكب قبيحاً غير قولي: =لا أسجد إلا لك+.
الخامس: إذ طردني ولعنني، فلم طرَّقني( ) إلى آدم، حتى غررته، وأزللته عن الجنة بوسوستي؟
ولو منعني من دخول الجنة لا ستراح آدم مني، وبقي خالداً في الجنة.
السادس: إذ سلطني على آدم ففعلتُ معه ما فعلتُ، فلم سلطني على بنيه؟
أراهم من حيث لا يرونني، وتؤثر فيهم وسوستي، ولا يؤثر فيَّ حولهم، ولا قدرتهم، ولا استطاعتهم، ولو عصمهم مني فعاشوا سامعين، مطيعين، طاهرين من المعاصي _ لكان أليق بالحكمة.
السابع: إذ سلطني على بني آدم، فَلِمَ لمَّا اسْتَمْهَلْتُه، واستنظرته، فقلت: [أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ] (الأعراف: 14)، أمهلني، وأنظرني، فقال: [فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)] الحجر.
ولو أهلكني في الحال أراح الخلق مني، ولم يبق في العالم شر، وكان ذلك أليق بالحكمة؛ إذ بقاء العالم على نظام الطاعة والخير أولى من بقائه على نظام المعصية والشر.
ثم قال: فهذه حجتي على ما ادعيته في كل مسألة.
قال شارح الإنجيل: فأوحى الله _تعالى_ إلى الملائكة _عليهم السلام_: قولوا له: إنك في تسليمك الأول (إني إلهك وإله الخلق) غير صادق، ولا مخلص؛ إذ لو صدَّقتَ أني إله العالمين ما احتكمت عليَّ بـ: (لم) فأنا الله الذي لا إله إلا أنا، لا أسأل عما أفعل، والخلق مسؤولون+( ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية × عن هذه المناظرة: =هذه المناظرة بين إبليس والملائكة... ليس لها إسناد يعتمد عليه، ولو وجدناها في كتب أهل الكتاب لم يجز أن نصدقها لمجرد ذلك؛ فإن النبي " ثبت عنه في الصحيح أنه قال: =إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبونه، وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقونه+( ).
ويشبه _ والله أعلم _ أن تكون تلك المناظرة من وضع المكذبين بالقدر، إما من أهل الكتاب، وإما من المسلمين...+( ).
وقال ابن القيم × عن هذه المناظرة: =فهذه القصة والمناظرة هي من نقل أهل الكتاب، ونحن لا نصدقها ولا نكذبها، وكأنها _ والله أعلم _ مناظرة وضعت على لسان إبليس.
وعلى كل حال فلا بد من الجواب عنها سواء صدرت منه، أو قيلت على لسانه؛ فلا ريب أنها من كيده، وقد أخبر الله _ سبحانه _: [إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً] النساء: 76.
فهذه الأسئلة والشبهات من أضعف الأسئلة عند أهل العلم والإيمان، وإن صعب موقعها عند من أصَّل أصولاً فاسدة كانت سداً بينه وبين ردها.
وأما من لم يؤصل غير كتاب الله، وسنة رسوله فهذه الأسئلة عنده من جنس أسئلة تلامذته، وأصحابه التي يوردونها على الرسل، وما جاؤوا به.
وهي أسئلة فاسدة مبنية على أصول فاسدة، وقد افترقت طرق الناس في الأجوبة عنها أشد افتراق، وسلكوا في إبطالها كل طريق يخطر بالبال، ونحن نذكر طرقهم...+.
ثم ذكر ابن القيم×طريقة المنجمين، وزنادقة الطبائعيين، والفلاسفة، وطريقة الجبرية، والقدرية في الأجوبة عنها.
كما ذكر طريقة الفرقة الناجية حزب الرسول وأنصاره في الجواب عنها، ومن خلالها بَيَّنَ فساد طرق تلك الفرق، وفنَّد تلك الشبه الشيطانية، وبين بطلانها من خمسة عشر وجهاً ( ).
قال الطوفي×مفنداً تلك الشبه الإبليسية: =واعلم أن الله _ تعالى _ له الحجة البالغة، وما أجاب به إبليس مبطل لشبهه؛ لأنها كلها مبنية على الشبهة الأولى، وهو قد التزم فيها شيئاً لم يَفِ به، وهو أنه التزم أن الله _تعالى_ لا يسأل عن قدرته ومشيئته، ثم ناقض التزامه باعتراضاته، فسقطت دعواه، ثم بطل ما بناه عليها، فسبحان الواحد القهار الذي لا يتوجه على قدرته العجز، ولا على حكمته الإنكار.
ثم اعلم أن إبليس _لعنه الله تعالى_ مع فلسفته أخطأ في كلامه بعد الخطأ الكلي من وجهين آخرين:
أحدهما: أنه أورد سبع شبه، وهي ترجع إلى ست؛ لأن السادسة مستلزمة للسابعة؛ فقد كان ذكرها مجزياً عن الأخرى، وذلك لأن تسليطه على بني آدم مستلزم لإمهاله؛ لاستحالة أن يستزلهم وهو هالك معدوم، أو يغوي آخرهم وجوداً في زمن أولهم وجوداً؛ فكأنه غفل عن الاستلزام؛ فغلط.
الوجه الثاني: أنه أخل بشبهة لم يذكرها، ولعلها أقوى الشبه، وهي أن هذا المحفل والمناظرة التي جرت بينه وبين الملائكة لم يعلم بها بنو آدم، فَلِمَ أنزلها الله في كتبه، وبثها في خلقه، وأعلمهم بها؟
ولو أنه لم ينزلها لاستراح العالم من ضررها؛ لأنهم لم يكونوا ينتبهون لها، ولو تنبهوا لكنهم كانوا يهابون الكلام فيها، بخلاف ما إذا علموا أنه قد تقدمهم فيها متقدم؛ فاجتزوا بذلك، وأقدموا على الكلام.
والجواب عن هذه الشبهة ما أجاب الله _ تعالى _ به عن أخواتها، وإنما ذكرنا هذه الشبه تأكيداً لجهل إبليس في خطابه؛ إذ من يعلم من نفسه الضعف لم يغالب من هو أغلب منه، ويقيم نفسه مقام النظير له في الاعتراض عليه، ولكن إبليس ابتلاه الله _ تعالى _ بالإعجاب بنفسه، والتكبر، واستشعار الحكمة، والعلم، والذكاء، ثم أعجزه في ذلك كله، وقد قيل في أمثال الشعر:
هكذا كلُّ أخي حَذْلَقَةٍ( )
ما مَشَى في يابسٍ إلا زَلَقْ
فنعوذ بالله _تعالى_ من مَكْره؛ فإنه لا يأمن من مكر الله إلا القوم الخاسرون.
ثم إن قوله: =لمَ طردني، ولم أرتكب قبيحاً غير قولي: لا أسجد إلا لك؟+ مغالطة، وتدليس على الله _ تعالى _ فإنه أظهر بذلك التنزيه لله _تعالى_ عن السجود لغيره، وأبطن مخالفة أمره، والاستكبار عن طاعته؛ فكان ما أظهره كما قالت الخوارج: =لا حكم إلا لله+.
فقال علي ÷: =كلمة حقٍ أريد بها باطل+.
والله ناقد( ) بصير مُطلع على السرائر، عالمٌ بما تَجِنُّ الضمائر، قائم على كسب الأنفس، لا يمشي عليه تدليس المدلس، فأخذه بما أبطن، وألغى ما أظهره؛ إذ مقتضى النية هو المعتبر+( ).
إلى أن قال الطوفي ×: =واعلم أن شبهة إبليس هذه أول شبهة وقعت في الخليقة، وكان منشؤها عن مقابلة النص بالرأي، ومعارضة الأمر باتباع الهوى، واستكباره بمادته النارية عن مادة آدم الطينية، وغفل عن أن الله _ تعالى _ يختص بفضله من يشاء، وأنه قادر بتقدير تسليم أفضلية المادة النارية على جبر مفضولية المادة الطينية بتفضيل الهيئة الشكلية، والكيفية، والصورية؛ فنسأل الله _ تعالى _ التوفيق للانقياد والتسليم؛ فإنه المنهج القويم، والصراط المستقيم؛ إنه رؤوف رحيم+( ).
شرح البيت الثالث
3_ ومن يك خصماً للمهيمن يرجعن
على أم رأس هاوياً في الحُفيرةِ
قوله: =أم رأس+: أم الرأس _ كما يقول ابن فارس _: =الدماغ، تقول أممت فلاناً بالسيف والعصا أمَّاً إذا ضربته ضربةً تصل إلى الدماغ+( ).
وقوله: =هاوياً+: من الهُوِي: وهو ذهاب في انحدار، يقال: رأيتهم يتهاوون في المهواة أي يتساقطون بعضهم في إثر بعض( ).
وقوله: =الحفيرة+: تصغير الحفرة، ويعني بها النار، وشبهت بالحفيرة لعمقها، وبُعْد مداها إلى أسفل( ).
والتصغير ههنا قد يراد به التعظيم، كقول لبيد ÷:
وكلُّ أناسٍ سوف تدخل بينهم
دُويهيَةٌ تَصْفَرُّ منها الأناملُ( )
فقوله: =دويهية+: تصغير داهية، ويعني بها الموت.
ومعنى البيت: أن من خاصم الله خُصم، ومن غالبه غُلب.
فإبليس خاصم ربه، وبادأه بالمعصية، واستكبر عن أمره.
بخلاف آدم _ عليه السلام _ فإنه لما أذنب بأكله من الشجرة التي نُهي عن قربانها _ تاب إلى ربه، وقال: [رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ] الأعراف: 23.
ولما كان هذا شأنه اجتباه ربه، وتاب عليه، وهداه.
أما إبليس فأصر واحتج بالقدر؛ فلعنه الله وأقصاه؛ فمن تاب كان آدمياً، ومن أصر واحتج بالقدر كان إبليسياً؛ فالسعداء يتبعون أباهم، والأشقياء يتبعون عدوهم.
فكل من خاصم عن نفسه، أو عن غيره في معصية الله _ فهو وارث لإبليس، آخذٌ عنه الخصومة.
ومن كان هذا شأنه فالنار موعده، يصلاها مذموماً مدحوراً.
وهو في الدنيا مغلوب مخصوم محجوج [وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً] الإسراء: 81( ).
شرح البيت الرابع
4_ ويدعى( )خصومُ اللهِ يومَ معادهم
إلى النار طُرَّاً معشرَ( ) القدريةِ
قوله: =طُرَّاً+: أي جميعاً، وهو منصوب على المصدر أو الحال.
وهو مأخوذ من طرَّ البيت: إذا اهتز، واجتمع، ومنه طُرَّ شاربُ الغلام إذا اجتمع وبقل.
والطُّر: الجماعة، يقال: جاءني القوم طراً ( ).
يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي ×في شرح هذا البيت: =يشير الشيخ إلى ما رواه ابن ماجه من حديث عائشة _ رضي الله عنها _ قالت: سمعت رسول الله "يقول: =من تكلم في شيء من القدر سئل عنه يوم القيامة+( ).
أي سؤال تقريع وتوبيخ+( ).
ولعل الإشارة في هذا البيت إلى ما روي عن النبي " أنه قال: =إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: ألا ليقم خصماء الله، وهم القدرية+( ).
شرح البيت الخامس
5_ سواء نفوه أو سعوا ليخاصموا
به اللهَ أو ماروا به للشريعة
وقوله: =ماروا+: أي جادلوا بالباطل، وحاجوا فيما فيه مرية.
قال الله _تعالى_:[فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاء ظَاهِرا](الكهف: 22)( ).
قال الطوفي × في شرح هذا البيت: =واعلم أني لا أجزم بفهم مراده من هذا البيت، لكن يغلب على ظني شيء أذكره، وهو أن معناه: سواء نفوا القدر؛ تنزيهاً لله _ تعالى _ عن الجور بالطعن في حكمته، أو نفوه مِراءاً، أي مكابرة للشريعة ومناقضة لها.
فإن ثبت صحة ما فهمته فالقسمان الأخيران _أعني مخاصمة الله _تعالى_ ومِراء الشريعة_ متلازمان؛ لأن من خاصم الله فقد طعن في الشرع؛ لورود تنزيه الله _ تعالى _ عن كل نقص، ومن طعن في الشرع فقد حادَّ الله وخاصمه؛ لأن الشرع قضاؤه وحكمه+( ).
والحقيقة أن الأمر ليس كما فهمه الطوفي × على إطلاقه؛ ذلك أن كل واحد من القسمين الأخيرين مستقل بذاته، ولا يمنع أن يكونا مشتركين في الخصومة لله _عز وجل_.
فيكون البيت قد اشتمل على ذكر طوائف القدرية الثلاث، وهم القدرية المعتزلة التي عناهم بقوله: =سواء نفوه+.
والجبرية وهم الذين عناهم بقوله: =أو سعوا ليخاصموا به الله+.
والقدرية الإبليسية وهم الذين أشار إليهم بقوله: =أو ماروا به للشريعة+.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية × مبيناً هذه الفرق وضلالها على سبيل الإيجاز: =فالقدر يُؤمن به ولا يُحتج به؛ فمن لم يؤمن بالقدر ضارع المجوس، ومن احتج به ضارع المشركين، ومن أقر بالأمر والقدر وطعن في عدل الله وحكمته كان شبيهاً بإبليس؛ فإن الله ذكر عنه أنه طعن في حكمته، وعارضه برأيه وهواه، وأنه قال: [وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ] (الحجر: 39)+( ).
وفيما يلي تفصيلٌ لتلك الفرق:
الفرقة الأولى: القدرية المعتزلة: وهم أتباع معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، وأتباع واصل ابن عطاء، وعمرو بن عبيد من المعتزلة، ومن وافقهم، هؤلاء هم القدرية.
وسموا قدرية _ كما يقول ابن قتيبة ×_: =لأنهم أضافوا القدر إلى أَنْفُسِهم، وغيرُهم يجعله له _ تعالى _ دون نفسه، ومُدَّعي الشيء لنفسه أولى بأن ينسب إليه ممن جعله لغيره+( ).
وقولهم في القدر: هو أن العبد مستقل بعمله في الإرادة والقدرة، وليس لمشيئة الله_ تعالى _ وقدرته في ذلك أثر.
ويقولون: إن أفعال العباد ليست مخلوقةً لله، وإنما العباد هم الخالقون لها، ويقولون: إن الذنوب الواقعة من العباد ليست واقعة بمشيئة الله.
وقالوا: =نحن نفعل ما لا يريد الله _ تعالى _ ونقدر على ما لا يقدر+( ).
وغلاتهم ينكرون أن يكون الله قد علمها، فيجحدون مشيئته الشاملة، وقدرته النافذة، ولهذا سموا مجوس هذه الأمة؛ لأنهم شابهوا المجوس الذين قالوا: إن للكون إلهين: إلهَ النور: وهو خالق الخير، وإلهَ الظلمة: وهو خالق الشر.
=وقد وردت أحاديث في السنن وغيرها عن النبي " في ذم القدرية، ووصفهم بأنَّهم مجوس هذه الأمة.
وهي _ وإن كانت لا تخلو من مقال _ إلا أن بعضها يصل إلى درجة الحسن، وبعضها يقوي بعضاً+( ).
ومن ذلك ما جاء عن ابن عمر _ رضي الله عنهما _ أن رسول الله " قال: =لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوهم، وهم شيعة الدجال، وحق على الله أن يحشرهم معه+( ).
وما جاء عن جابر بن عبدالله _ رضي الله عنهما _ قال: قال رسول الله": =إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم، وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم+( ).
كما وردت آثار كثيرة من السلف في ذم القدرية، وكتب العقيدة مليئة بذلك، ومنها كتاب القدر للفريابي( )؛ حيث ساق آثاراً كثيرة في هذا الصدد، منها ما أخرجه بسنده عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ أنه قال: =ما غلا أحد في القدر إلا وخرج من الإيمان+( ).
وأخرج بسنده عن أبي الزبير المكي أنه قال: =كنت أنا وطاووس نطوف بالبيت، فذكر أن معبداً الجهني تكلم في القدر، وكان أول من تكلم في القدر فعدلت إليه، فقال له طاووس: أنت المفتري على الله، فقال: إنه يُكْذَب علي، قال، فانصرفنا إلى عبدالله بن عباس، فذكر ذلك له، فقال ابن عباس: أروني منهم إنساناً، فوالله لا تُرونيه إلا جعلت يدي في رأسه فلا أفارقه حتى أدق عنقه+( ).
وروى بسنده عن أرطاة بن المنذر قال: =سمعت أنه يُقال: ما فتشت قدرياً إلا وجدته ملطوماً بحمقه+( ).
والقدرية جعلوا لله شريكاً، بل شركاء في خلقه، فزعموا أن العباد يخلقون أفعالهم.
ومنشأ ضلال هؤلاء في البداية أنهم أرادوا تنزيه الله _ عز وجل _ عن الشر، ورتبوا على نفيهم الأفعالَ القبيحةَ عن الله قولهم: إن العباد هم الخالقون لأفعالهم؛ فوقعوا في نفي القدر.
وقد استدلوا على مذهبهم استدلالاً أعور ببعض الآيات، ومن ذلك ما يلي:
1_ استدلالهم بالآيات الدالة على إثبات المشيئة للعباد: كقوله _تعالى_: [لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ] التكوير:28، وقوله: [مَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ] الكهف:29.
وقوله _ عز وجل _: [لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ] المدثر:37.
وغيرها من الآيات الدالة على إثبات المشيئة للعباد، فقالوا: لو لم تكن أفعالهم لما علق مشيئتهم عليها.
2_ واستدلوا بالآيات التي تبين أن العباد هم الذين يؤمنون ويكفرون، ويطيعون ويعصون، كما في قوله _تعالى_: [وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى] الإسراء:94، وقوله _تعالى_: [كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ] البقرة:28، وقوله _تعالى_: [وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] النساء:39، وقوله _تعالى_: [لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] آل عمران:71.
قالوا: كيف يكون الله خالقاً لأفعال العباد مع أن هذه الآيات تنص على أنهم هم الذين يؤمنون، ويكفرون، ويلبسون الحق بالباطل؟
فلو لم تكن أفعالهم حقيقة لما عاتبهم، وذمهم على ترك الإيمان، وفعل الكفر.
3_ وكذلك استدلوا على آيات الجزاء كما في قوله _ تعالى _:[جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] السجدة:17، وقوله _ تعالى _:[جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] التوبة:82.
قالوا: ولو لم يكن العباد هم العاملين والخالقين لأفعالهم، والصانعين لها لكان هذا الكلام كذباً، وكان الجزاء على ما يخلقه فينا ضعيفاً.
4_ واستدلوا بمثل قوله _تعالى_:[صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ] النمل:88.
ووجه استدلالهم أن الله بين في هذه الآية أن أفعاله كلها متقنة، والإتقان يتضمن الإحكامَ، والحسنَ جميعاً، ومعلومٌ أن في أفعال العباد ما يشتمل على التهود، والتنصر، والتمجس، وليس شيء من ذلك متقناً؛ فلا يجوز أن يكون الله خالقاً لها( ).
ومن أقوالهم في هذا قول عبدالجبار الهمذاني( ): =اتفق أهل العدل على أن أفعال العباد مِنْ تصرفهم، وقيامهم، وقعودهم حادثةٌ من جهتهم، وأن الله _ جلَّ وعزَّ _ أقدرهم على ذلك، ولا فاعل لها، ولا مُحدثَ سواهم، وأن من قال: إن الله _ سبحانه _ خالقها ومحدثها فقد عظم خطؤه+( ).
والإنسان عند المعتزلة =يجوز أن يُفْني فعل الله _ تعالى _ الذي هو القدرة بفناء الحياة بأن يقتل نفسه، ويجوز أن يبطل فعل الغير للسكون بتحريك المحل+( ).
هذا هو خلاصة مذهب المعتزلة مع ملاحظة أنهم يختلفون في بعض التفصيلات حول القدر، ولكنَّ ما ذُكِرَ هو ما أجمعوا عليه.
والمتأمل في كلامهم، وأقوالهم يجد من التناقض، والتعارض، وقِصَرِ النظرِ الشيءَ الكثير( ).
الفرقة الثانية: الجبرية أو المجبرة: وهم الذين غلوا في إثبات القدر، حتى أنكروا أن يكون للعباد قدرة، أو إرادة، أو اختيار؛ فيرون أن العباد مجبورون على أفعالهم، وأن العبد كالريشة في مهب الريح، وإنما تنسب إليه الأفعال مجازاً، فيقال: صلى، وصام، وقتل، وسرق كما يقال: طلعت الشمس، وجرت الريح؛ فأنكروا قدرة العباد، واختيارهم، واتهموا ربهم بالظلم، وتكليف العباد بما لا قدرة لهم عليه، ومجازاتهم على ما ليس من فعلهم، واتهموه بالعبث، وأبطلوا الحكمة من الأمر والنهي( ).
وأهم الفرق التي حملت لواء الجبر، حتى كاد يصير علماً عليها فرقة الجهمية أتباع الجهم بن صفوان الذي استقى تعاليمه من أستاذه الجعد ابن درهم( ) الذي كان يقول بالجبر.
ولكن ذلك اشتهر عن تلميذه الجهم( ).
وقد نقلت كتب المقالات أقوال الجهم في القدر، فيقول البغدادي( ) عن الجهم: =وقال: لا فعل، ولا عمل لأحد غير الله _تعالى_.
وإنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز كما يقال: طلعت الشمس، ودارت الرحى من غير أن يكونا فاعلين، أو مستطيعين لما وُصِفتا به+( ).
ويقول الشهرستاني( ) عن الجهم: =ومنها قوله في القدرة الحادثة: إن الإنسان لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالاستطاعة، وإنما هو مجبور في أفعاله لا قدرة له، ولا إرادة، ولا اختيار.
وإنما يخلق الله _ تعالى _ الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجماد، وتنسب إليه الأفعال مجازاً كما تنسب إلى الجمادات، كما يقال: أثمرت الشجرة، وجرى الماء، وتحرك الشجر، وطلعت الشمس، وغربت، وتغيمت السماء، وأمطرت، واهتزت الأرض، وأنبتت إلى غير ذلك.
والثواب والعقاب جبرٌ كما أن الأفعال كلها جبر.
قال: وإذا أثبت الجبر فالتكليف _أيضاً_ كان جبراً+( ).
هذا هو مذهب الجهم، وواضح ما في مذهبه من جبر خالص يجعل الإنسان في أعماله كورقة الشجر التي تحركها الرياح.
لكن مع هذا فإن الأشعري( ) في المقالات يذكر رأي الجهم في القدر لكن مع اختلاف يسير عما ذكره البغدادي والشهرستاني.
يقول الأشعري عن الجهم بأنه زعم =أنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا الله وحده، وأنه هو الفاعل، وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على سبيل المجاز.
كما يقال: تحركت الشجرة، ودار الفلك، وزالت الشمس.
وإنما فعل ذلك بالشجر والفلك والشمس _ سبحانه _ إلا أنه خلق للإنسان قوة كان بها الفعل، وخلق له إرادة للفعل، واختياراً له منفرداً بذلك كما خلق له طولاً كان به طويلاً، ولوناً كان به متلوناً+( ).
هذا هو مذهب الجهمية الجبرية ومن وافقهم.
وقد استدلوا بآيات من القرآن الكريم، وبالعقل، وأهمها( ):
1_ الآيات التي تدل على أن الله خالق كل شيء: مثل قوله _تعالى_: [ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ] الأنعام:102.
وقوله _تعالى_: [اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ] الزمر:62.
وقوله: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ] فاطر:3.
فهذه الآيات تدل على أن الله خالق كل شيء، وأنه لا خالق إلا هو، وأفعال العباد شيء؛ فالله خالقها وحده، ومن ثم فلا قدرة، ولا إرادة للعباد في أفعالهم؛ فهم مجبورون غير مختارين( ).
2_ الآيات التي تثبت المشيئة لله وحده، وأنه لا مشيئة للإنسان إلا تحت مشيئة الله: كقوله _تعالى_: [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ].
وقوله _تعالى_: [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً] الإنسان:30.
وقوله _عز وجل_: [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ] التكوير:29.
وقوله _تعالى_: [كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] المدثر:31.
وغيرها من الآيات في هذا السياق؛ فهم يرون أن الإنسان إذا كان مسلوب الإرادة، والله هو الذي يشاء ويريد، ويهدي ويضل _ فهو الخالق لأعمال العباد، وهم مجبورون لا إرادة لهم، ولا مشيئة، ولا خلق( ).
3_ ويستدلون بالآيات التي تنفي الفعل عن العبد، وتثبته لله: كقوله _تعالى_: [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى].
وقوله _ عز وجل _: [إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً] النساء:78.
فهذه الآيات وما جرى مجراها _ عندهم _ نص في أنَّ الإنسان لا إرادة له ولا فعل( ).
4_ واستدلوا بالعقل فقالوا: إن الله عَلِمَ وأراد أزلاً وجود أفعال العباد، وتعلقت قدرته بوجودها فيما لا يزال؛ فما وقع من أفعال العباد فهو بقضاء الله وقدرته، والعباد مجبورون عليها( ).
الفرقة الثالثة: القدرية الإبليسية: وهم الذين أشار إليهم الشيخ بقوله: =أو ماروا به للشريعة+.
وهم الذين صدَّقوا بأن الله ـ عز وجل ـ قد صدر عنه الأمران ـ أي أنه قدَّر وقضى، وأنه أمر ونهى.
ولكنهم يرون أن ذلك تناقض، من الرب _ سبحانه وتعالى _ فطعنوا في حكمته، وعدله.
وهؤلاء هم خصماء الله _ تعالى _ وسموا إبليسية لأنهم أشبهوا إبليس بمقولته التي ذكرها الله عنه في القرآن عندما قال: [فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ] (الأعراف: 16).( )
والرد على هؤلاء يسير _ بحمد الله _ حيث يقال: إن الواجب على العبد في باب القدر أن يؤمن بقضاء الله وقدره، وأنه لا يقع شيء إلا وقد علمه الله، وكتبه، وشاءه.
ويؤمن _ مع ذلك _ بشرع الله وأمره، ونهيه؛ فعلى الإنسان تصديق الخبر، وطاعة الأمر؛ فإذا وفق للطاعة حمد الله، واستمر عليها، وإذا فعل المعصية تاب إلى الله، واستغفر ونزع عنها.
هذا هو خلاصة الرد على هؤلاء بإيجاز.
شرح البيت السادس
6_ وأصلُ ضلالِ الخلقِ من كل فرقةٍ
هو الخوض في فعل الإله بعِلَّةِ
قوله: =ضلال+: الضلال العدول عن الطريق المستقيم، ويضاده الهداية( ).
وقوله: =الخوض+: هو الشروع والمرور في الماء، ونحوه من المائعات.
ويستعار في الأمور والمعاني، كقولهم: خاض في الكلام أو الفعل.
والعلاقة بينهما الملابسة، وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه نحو قوله _ تعالى _: [وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ] (التوبة: 15)( ).
وقوله: =بِعِلَّة+: قال الجرجاني ×: =والعلة لُغَةً: عبارة عما يحصل بالمحل، فيتغير به حال المحل بلا اختيار، ومنه يسمى المرض علة؛ لأنه بحلوله يتغير حال الشخص من القوة إلى الضعف+( ).
وقال: =العلة: هي ما يتوقف عليه وجود الشيء، ويكون خارجاً مؤثراً فيه.
وعلة الشيء: ما يتوقف عليه ذلك الشيء+( ).
وقال الكفوي( ) ×: =العلة ما يثبت الحكم بها+( ).
يبين الشيخ في هذا البيت أن أصل الضلال الذي وقع فيه الخلق على اختلاف فرقهم إنما هو بسبب خوضهم في تعليل أفعال الله _ جل وعلا _.
قال ابن القيم × في معرض حديث له عن مناقشة مثبتي الحكمة ونفاتها، قال: =وأصل ضلال الخلق هو طلب تعليل أفعال الرب، كما قال شيخ الإسلام في تائيته:
وأصلُ ضلالِ الخلقِ من كل فرقةٍ
هو الخوض في فعل الإله بِعِلَّةِ
فإنهم لما طلبوا علة أفعاله فأعجزهم العلم بها افترقوا بعد ذلك؛ فطائفة ردت الأمر إلى الطبيعة والأفلاك التزمت( ) مكابرة الحس والعقل، وقالوا: إن خلود أهل النار في النار أنفع لهم وأصلح من كونهم في الجنة، وإن إبقاء إبليس يغوي الخلق ويضلهم أنفع لهم من إماتته، وأن إماتة الأنبياء أصلح للأمم من إبقائهم بينهم، وإن تعذيب الأطفال خير لهم من رحمتهم، إلى غير ذلك من المحالات التي قادهم إليها الخوض في تعليل أفعال من لا يُسْأَل عما يفعل.
فلذلك قلنا( ): إن الصواب القول بعدم التعليل، وتخلصنا من الحبائل والأشراك التي وقعتم فيها.
قال أهل الحكمة: ليست هذه الأسئلة والاعتراضات التي قد جئتم بها في حكمة أحكم الحاكمين بأقوى من الأسئلة والاعتراضات التي قدح بها أهل الإلحاد في وجوده _ سبحانه _.
وقد أقاموا أربعين شبهة تنفي وجوده.
وكذلك اعتراضات المكذبين لرسله، وقد حكيتم أنتم عنهم ثمانين اعتراضاً.
وكذلك الاعتراضات التي قدح بها المعطلة في إثبات صفات كماله قد علمتم شأنها وكِبَرَها.
وكذلك الاعتراضات التي نفى بها الجهمية علوه على خلقه، واستواءه على عرشه، وتكلمه بكتبه، وتكليمه لعباده.
وقد علمتم الاعتراضات التي اعترض بها أهل الفلسفة على كونه خالقاً للعالم في ستة أيام، وعلى كونه يقيم الناس من قبورهم، ويبعثهم إلى دار السعادة أو الشقاء، ويبدل هذا العالم، ويأتي بغيره.
واعتراضات هؤلاء، وأسئلتهم أضعاف اعتراضات نفاةِ الحكمةِ، وغاياتِ أفعالِه المقصودة، وكذلك اعتراضات نفاة القدر وأسئلتهم، إلى غير ذلك.
وقد اقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن أقام في هذا العالم لكل حقٍّ جاحداً، ولكل صواب معانداً، كما أقام لكل نعمة حاسداً، ولكل شر رائداً.
وهذا من تمام حكمته الباهرة، وقدرته القاهرة؛ ليتم عليهم كلمته، وينفذ فيهم مشيئته، ويظهر فيهم حكمته، ويقضي بينهم بحكمه، ويفاضل بينهم بعلمه، ويظهر فيهم آثار صفاته العليا، وأسمائه الحسنى، ويتبين لأوليائه وأعدائه يوم القيامة أنه لم يخل( ) لحكمة، ولم يخلق خلقه عبثاً، ولا يتركهم سدى، وأنه لم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً، وأن له الحمد التام الكامل على جميع ما خلقه وقدره وقضاه، وعلى ما أمر به، ونهى عنه، وعلى ثوابه وعقابه، وأنه لم يَضَعْ من ذلك شيئاً إلا في محله الذي لا يليق به سواه+( ).
ثم شرع × في الجواب عن الأسئلة التي ساقها نفاة الحكمة والتعليل، وأورد سبعة وثلاثين وجهاً من أوجه الرد عليهم( ).
هذا وقد مر بنا في الدراسة أن الأشاعرة ومن وافقهم من نفاة الحكمة يرون أن الله _ عز وجل _ قدر المقادير، وشرع الشرائع لغير علة أو حكمة، بل فعل ذلك لمحض المشيئة، وصرف الإرادة.
وحجتهم في ذلك أنهم يقولون: إننا ننزه الله _ عز وجل _ عن الأغراض.
وفيما يلي تفصيل في هذه اللفظة، يتبين من خلاله معناها، ومراد أهل الكلام من إطلاقها، وحجتهم في ذلك، مع بيان الرد عليهم في هذه المسألة _ مسألة نفي الحكمة عن أفعال الله _ عز وجل _.
أ_ الأغراض في اللغة: جمع غرض، والغرض هو الهدف الذي يرمى فيه، أو هو الهدف الذي ينصب فيرمى فيه.
والغرض يطلق في اللغة _ أيضاً _ على الحاجة، والبغية، والقصد( ).
ب_ الغرض في اصطلاح علماء الكلام: قيل هو ما لأجله يصدر الفعل من الفاعل( ).
وقيل: =الغرض هو الأمر الباعث للفاعل على الفعل، وهو المحرك الأول، وبه يصير الفاعل فاعلاً+( ).
وبذلك نرى توافق المعنى اللغوي والاصطلاحي للغرض، وأنه غاية الفاعل من فعله، وهو الباعث له على فعله( ).
ج_ ماذا يريد أهل الكلام بهذه اللفظة؟: يريدون إبطال الحكمة في أفعال الله _عز وجل _ وشرعه.
د_ حجتهم في ذلك: يقول المتكلمون _وعلى وجه الخصوص الأشاعرة_: إننا ننزه الله عن الأغراض، فلا يكون له غرض فيما شرعه أو خلقه؛ فأبطلوا الحكمة من ذلك، وقرروا أن الله لم يشرع إلا لمجرد مشيئته فحسب؛ فإذا شاء تحريم شيء حرَّمه، أو شاء إيجابه أوجبه.
وقالوا: لو قررنا أن له حكمة فيما شرعه لوقعنا في محذورين:
الأول: أنه إذا كان لله غرض فإنه محتاج إلى ذلك الغرض؛ ليعود عليه من ذلك منفعة، والله منزه عن ذلك.
والثاني: أننا إذا عللنا الأحكام أي أثبتنا الحكمة والعلة لزم أن نوجب على الله ما تقتضيه الحكمة؛ لأن الحكم يدور مع علته؛ فنقع فيما وقع فيه المعتزلة من إيجاب الصلاح والأصلح على الله؛ لأن الغرض عند المعتزلة بمعنى الغاية التي فَعَل لها، وهم يوجبون أن يكون فعله معللاً بالأغراض( ).
هـ _ الرد عليهم:
1_ أن هذا اللفظ الأغراض أو الغرض بِدْعِيٌّ لم يرد في حق الله لا في الكتاب ولا في السنة، ولا أطلقه أحد من أئمة الإسلام وأتباعهم؛ لأن هذه الكلمة قد توهم النقص، ونفيها قد يفهم منه نفي الحكمة؛ فلابد _إذاً_ من التفصيل، والأولى أن يعبر بلفظ: الحكمة، والرحمة، والإرادة، ونحو ذلك مما ورد به النص.( )
2_ أن الغرض الذي ينزه الله عنه ما كان لدفع ضرر، أو جلب مصلحة له؛ فالله _ سبحانه _ لم يخلق، ولم يشرع لأن مصلحة الخلق والأمر تعود إليه، وإنما ذلك لمصلحة الخلق.( )
ولا ريب أن ذلك كمال محض، قال _ تعالى _: [إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً] (آل عمران:176).
وقال: [إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ] (الزمر:7).
وفي الحديث القدسي يقول الله _ عز وجل _: =يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي، فتنفعوني ولن تبلغوا ضري، فتضروني+.( )
وهذا أمر مستقر في الفطر.
3_ أن إيجاب حصول الأشياء على الله متى وجدت الحكمة حق صحيح.
لكنه مخالف لما يراه المعتزلة من جهة أن الله _عز وجل_ هو الذي أوجب هذا على نفسه ولم يوجبه عليه أحد، كما قال _تبارك وتعالى_: [كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ] (الأنعام:54).
وكما قال: [وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ] (الروم:47).
وكما في حديث معاذ بن جبل ÷ قال: =يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟+ قال: الله ورسوله أعلم.
قال: =أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً+.
=أتدري ما حقهم عليه؟+.
قال: الله ورسوله أعلم.
قال: =ألا يعذبهم+ الحديث( ).
فهذا حق أوجبه الله على نفسه، ولله أن يوجب على نفسه ما يشاء.
ثم إن مقياس الصلاح والأصلح ليس راجعاً إلى عقول البشر، ومقاييسهم، بل إن ذلك راجع إلى ما تقتضيه حكمة الله _ تعالى _ فقد تكون على خلاف ما يراه الخلق بادئ الرأي في عقولهم القاصرة؛ فانقطاع المطر قد يبدو لكثير من الناس أنه ليس الأصلح بينما قد يكون هو الأصلح لكنه مراد لغيره لقوله _تعالى_: [ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ](الروم:41).
وكذلك استدراج الكفار بالنعم، وابتلاء المسلمين بالمصائب كل ذلك يحمل في طياته ضروباً من الحكم التي لا تحيط عقول البشر إلا بأقل القليل منها.
بل إن خلق إبليس، وتقدير المعاصي، وتقدير الآلام يتضمن حكماً تبهر العقول، وتُبين عن عظيم حكمة أحكم الحاكمين( ).
هذا وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة _ مسألة الحكمة والتعليل _ حيث إن شيخ الإسلام في هذه القصيدة أبدى وأعاد فيها كثيراً.
شرح البيت السابع
7_ فإنهموا لم يفهموا حكمةً له
فصاروا على نوع من الجاهليةِ
قوله: =حكمة+: قال ابن فارس × في مادة (حكم): =الحاء والكاف والميم أصل واحد، وهو المنع.
وأول ذلك الحُكْمُ، وهو المنع من الظلم، وسميت حَكَمَةُ الدابة لأنها تمنعها، يقال: حَكَمْتُ الدابة، وأحكمتها، ويقال: حكمت السفيه، وأحكمته إذا أخذت على يديه، قال جرير:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم
إني أخاف عليكم أن أغضبا
والحكمةُ هذا قياسها؛ لأنها تمنع من الجهل+( ).
وقال الكفوي ×: =الحكمة هي العدل، والعلم، والحكم، والنبوة، والقرآن، والإنجيل، ووضع الشيء في موضعه، وصواب الأمر، وسداده.
وأفعال الله كذلك؛ لأنه يتصرف بمقتضى الملك، فيفعل ما يشاء، وافق غرض العباد أم لا+( ).
وهذا البيت مرتبط بما قبله، ويدخل فيما مضى الكلام عليه؛ فالشيخ × يبين أن الذين خاضوا في الحكمة والتعليل بالباطل إنما هم مشابهون لأهل الجاهلية الذين استمتعوا بخلاقهم، وخاضوا بما خاضوا فيه.
وإلا فإن أهل العلم والإيمان من سلف هذه الأمة ومن تبعهم بإحسان يثبتون حكمة الله _ جل وعلا _ في شرعه وخلقه على وفق ما جاءت به النصوص.
وقد استدلوا على ذلك بأدلة كثيرة منها ما يلي:
أولاً: أن المسلمين مجمعون على أن الله _ تعالى _ حكيم: ولا يجوز أن يخلو فعل الحكيم من الحكمة، ولا تكون الحكمة إلا من فاعل مختار، يكون قاصداً بفعله تلك الحكمة.
أما إذا كان لا يقصد بفعله حكمةً ما _ فلا يُسمى ما ترتب على فعله حكمةً، ولا يسمى الفاعل حكيماً، بل يكون ذلك من باب الاتفاق.
ثانياً: ما يشهد به العقل من إحكام الله لخلقه، وبديع صنعه:
والفاعل المتقن لأفعاله لا تكون أفعاله عبثاً بلا غاية، بل لابد أن تكون لغاية باهرة، وحكمة ظاهرة تقرها العقول القويمة، والفطر السليمة، وتنكرها العقول السقيمة، والفطر الزائغة.
ثالثاً: أن النصوص الواردة في القرآن الكريم التي تدل على ثبوت الحكمة والتعليل _ قد تظاهرت، وتكاثرت، وتنوعت دلالتها؛ فتارة تصرح بالحكمة كقوله _ تعالى _: [حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ]القمر:5.
وقوله _عز وجل_: [وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً] البقرة:269.
ولا شك أن معطي الحكمة _ وهي كمال _ أولى بها.
وتارة يخبر الله _ جل شأنه _ أنه فعل كذا لكذا، وأنه أمر بكذا لكذا كما في قوله _ عز وجل _: [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)]الطلاق.
وقوله _ عز وجل _: [رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ]النساء:165.
وقوله: [إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ]النساء: 105.
فاللام في الآيات المذكورة هي لامُ التعليل، وليست لامَ العاقبة كما يدعي نفاة التعليل؛ لأن لام العاقبة لا تكون إلا في حق من هو جاهل بالعاقبة، كما في قوله _ تعالى _: [فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً] القصص:8( ).
وأما من هو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير فيستحيل في حقه دخول هذه اللام، بل اللام الواردة في أفعاله وأحكامه لام الحكمة، والغاية المطلوبة( ).
وقد جاء هذا التعليل في القرآن الكريم بأدوات أخرى، منها: التعليل بالأداة الصريحة في التعليل وهي: =كي+ كما في قوله _ تعالى _: [كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ](الحشر:7).
وبلفظ =من أجل+ كما في قوله _ تعالى _: [مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ](المائدة:32).
كما جاء التعليل بـ: =لعل+ كما في قوله _ عز وجل _: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)]البقرة( ).
رابعاً: أن الله _ عز وجل _ امتن على عباده بما خلق لهم، وأنعم عليهم به؛ حيث سخر لهم هذا الكون، وما فيه من ضروب المنافع، وأخبر عن الحكم والغايات التي خلق تلك الأشياء لأجلها.
ومن ذلك قوله _ تعالى _:[ أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَاداً (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً (16)]النبأ.
وقوله _ عز وجل _: [وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ (8)]النحل.
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا المعنى؛ فكيف يصح بعد هذا أن يُنْكِر مُنْكِرٌ أن تكون هذه المخلوقات لحكم مقصود، وغايات حميدة؟
وكيف يزعم أنها إنما وجدت بمحض المشيئة والإرادة؟
خامساً: إنكاره _ عز وجل _ على من أنكر أن يكون الخلق خلقوا لحكمة، وغاية: كقوله _ عز وجل _: [أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115)]المؤمنون.
وقوله _ تعالى _: [أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)]القيامة.
فقد أنكر الله _ عز وجل _ على من زعم أن يكون الله خلق الخلق هملاً، لا يؤمرون، ولا ينهون، ولا يحاسبون، ولا يجزون على أعمالهم؛ فدل ذلك على أنه _ تعالى _ خلقهم لحكمة عظيمة محبوبة له _تعالى_ ومطلوبة، وهي عبادته، وتوحيده، وذكره، وشكره، والثناء عليه، وتمجيده.
سادساً: إنكاره _ عز وجل _ على من زعم أنه يسوي بين المختلفين، أو يفرق بين المتماثلين، وبيانه _ عز وجل _ أن حكمته وعدله يأبيان ذلك: ومن هذا القبيل قوله _ عز وجل _: [أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)] القلم.
وقوله: [أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)] الجاثية.
وهذا في إنكار التسوية بين المختلفين.
وأما عدم التفريق بين المتماثلين فكقوله _ تعالى _:[وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ]التوبة:71.
وقوله: [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ]التوبة:67.
هذه بعض الأدلة على إثبات الحكمة والتعليل_وهي أدلة نقلية وعقلية في غاية الوضوح والقوة( ).
شرح البيت الثامن
8_ فإن جميعَ الكونِ أوجب فِعْلَه
مشيئةُ ربِّ الخلق باري الخليقةِ( )
قوله: =الكون+: مصدر الفعل كان يكون كوناً.
قال ابن فارس ×: =الكاف والواو النون أصل يدل على الإخبار عن حدوث شيء إما في زمان ماض، أو زمان راهن، يقولون: كان الشيء يكون كوناً إذا وقع وحضر+( ).
وقال الكفوي × =الكون والفساد يطلق بالاشتراك على معنيين: على صورة وزوال الأخرى، وعلى وجود بعد عدم، وعدم بعد وجود+( ).
وقال الطوفي ×: =الكون في الاصطلاح الكلامي: هو الحال التي يكون عليها الشيء كالقيام للقائم، والقعود للقاعد.
والمراد به ههنا: العالم، وهو في الأصح مَنْ سوى الله _ تعالى _ واشتقاقه من العلامة لكونه علامة على وجود صانعه+( ).
ومعنى البيت: أن جميع الكون العلوي والسفلي، وما فيه من المخلوقات _ إنما خلقها الله، وأوجدها بمشيئته، وقدرته( ).
شرح البيت التاسع
9_ وذات إله الخلق واجبة بما
لها من صفات واجبات قديمةِ
قوله: =وذات+: ذات الشيء ما يخصه، ويميزه عن جميع ما عداه.
وذات الشيء _ كذلك _ نفسه وعينه، وحقيقته( ).
وقوله: =واجبة+: أي واجبة الوجود لذاتها، ولا شيء واجب الوجود لذاته إلا الله _ عز وجل _.
قال الجرجاني ×: =الواجب لذاته: هو الموجود الذي يمتنع عدمه امتناعاً ليس الوجود له من غيره، بل من نفس ذاته، فإن كان وجوب الوجود لذاته سمي واجباً لذاته،وإن كان لغيره سمي واجباً لغيره+( ).
وقال: =واجب الوجود الذي يكون وجوده من ذاته، ولا يحتاج إلى غيره أصلاً+( ).
وقوله: =قديمة+: القديم _ كما قال الجرجاني _: =عبارة ليس قبله زماناً شيء+( ).
وقال: =القديم المطلق: ألا يكون مسبوقاً بعدم+( ).
ومعنى البيت: أنه _ تعالى _ هو واجب الوجود بأسمائه وصفاته القديمة التي لا أول لها؛ لأنه هو الأول الذي ليس قبله شيء، ولم يزل بأسمائه وصفاته كذلك؛ فهو واجب الوجود لذاته.
شرح البيت العاشر
10_ مشيئتُه مَعْ عِلْمِه ثم قدرة
لوازم ذات الله قاضي القضيةِ
قوله: =علمه+: =العلم صفة توجب لمن قامت به التمييز بين حقائق الأشياء على وجه لا يحتمل النقيض+( ).
وقوله: =القدرة+: =صفة تصح ممن قامت به فعل جميع الممكنات+( ).
قوله: =لوازم+: جمع لازم، واللازم ما يمتنع انفكاكه عن الشيء( ).
ومعنى البيت أن من لوازم صفات الله _ عز وجل _ اللازمة لذاته عِلْمَهُ المحيط بكل شيء، وقدرته الشاملة لكل شيء، ومشيئته العامة لكل موجود؛ فهو _ عز وجل _ لم يزل شائياً، عليماً، قديراً ( ).
شرح البيت الحادي عشر
11_ وإبداعُه ما شاء من مُبدَعاته
بها حُكْمَةٌ فيه وأنواعُ رحمةِ
قوله: =وإبداعه+: قال ابن فارس × في مادة (بدع): =الباء والدال والعين أصلان: أحدهما: ابتداء الشيء، وصنعه لا عن مثال، والآخر: الانقطاع والكلال.
فالأول: قولهم: أبدعت الشيء قولاً أو فعلاً إذا ابتدأته لا عن مثال سابق.
والله بديع السموات والأرض، والعرب تقول: ابتدع فلان الرَّكيَّ إذا استنبطه، وفلان بدع في هذا الأمر، قال الله _ تعالى _: [مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ] (الأحقاف: 9).
أي ما كنت أول+( ).
ومعنى البيت أن أفعال الله _ عز وجل _ وإبداعه لمبدعاته تابعة لحكمته التي هي وضع الأشياء في مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها؛ فلم ولن يخلق شيئاً عبثاً، بل خلق المخلوقات، وأبدع المبدعات بالحق، وللحق؛ فهي صدرت عن الحق، واشتملت على الحق، وكانت غاياتُها المقصودةُ الحقَّ.
والله _ عز وجل _ لا يقضي قضاءاً إلا وفيه تمام العدل، والحكمة، والرحمة.
قال الله _ تبارك وتعالى _: [أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ] (المؤمنون 115).
وقال _ عز وجل _: [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً] (ص: 27).
إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عموم مشيئته لكل موجود، وشمول حكمته للأمر والنهي( ).
شرح البيتين [12 ــ 13]
12_ ولسنا وإن قلنا جَرَتْ بمشيئة( )
من المنكري آياتِه المستقيمةِ
13_ بل الحقُّ أن الحكمَ لله وحده
له الخلقُ والأمرُ الذي في الشريعةِ
قوله: =آياته+: جمع آية، واشتقاق الآية _ كما يقول الراغب _: =إما من أيٍّ؛ فإنها هي التي تبين أيَّاً من أي.
والصحيح أنها مشتقة من التأيِّي الذي هو التثبت والإقامة على الشيء، يقال: تَأيَّ: أي ارفق.
أو من قولهم: أوي إليه، وقيل للبناء العالي آية [أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ] (الشعراء: 128)+( ).
إلى أن قال ×: =ولكل جملةٍ من القرآن دالة على حكمٍ آيةٌ سورةً كانت، أو فصولاً.
وقد يقال لكل كلام منه منفصل بفصل لفظي آيةٌ، وعلى اعتبار آيات السور التي تُعدُّ بها السورة+( ).
ومعنى البيت أنه إذا كانت الأمور والمقادير، والمخلوقات بمشيئة الله _ فلا يعني ذلك أننا ننكر آياتِه الشرعيةَ المشتملةَ على الأمر والنهي.
بل الحق أننا نجمع بين القدر والشرع؛ لأنه _ تعالى _ هو الحَكَم وحده [أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ] (الأعراف: 54).
أي له _ وصفاً وفعلاً _ الخلق الشامل لكل مخلوق، والأمر الشامل لجميع الأحكام الشرعية؛ فكما أنه لا خالق سواه فكذلك لا حاكم سواه.
وكما أن مخلوقاته مشتملة على الحكمة والرحمة _ فشرعه العظيم كذلك بل أعظم وأجل؛ إذ إنه كلَّه حكمةٌ ورحمةٌ [وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] (المائدة: 50).
وبالمراعاة الصحيحة لقدر الله وشرعه تتحقق العبودية الحقة لله، ويكون القائم بذلك من الذين أنعم الله عليهم، وكفى بذلك غبطة وسعادة( ).
شرح البيت الرابع عشر
14_ هو المَلِكُ المحمودُ في كلِّ حالةٍ
له المُلْكُ من غير انتقاص بِشِرْكةِ
قوله: =بشرْكة+: قال ابن فارس × في مادة (شرك): =الشين والراء والكاف أصلان أحدهما: يدل على مقارنة وخلاف انفراد، والآخر على امتداد واستقامة.
فالأول: الشِّركة، وهو أن يكون الشيء بين اثنين لا ينفرد به أحدهما.
ويقال: شاركت فلاناً في الشيء أي إذا صرت شريكه، وأشركت فلاناً إذا جعلته شريكاً لك.
قال الله _ جل ثناؤه _ في قصة موسى: [وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي] (طه:32)+( ).
وفي هذا البيت مزيد تقرير لما مضى، أي أن الله _ عز وجل _ له الملك كله، وله الحمد كله، لا شريك له في ملكه، ولا في حمـده؛ فهو المحمود على ما له من الأسماء الحسنى، وعلى ما له من الصفات الكاملة العليا، وهو المحمود على فضله الشامل، ورحمته الواسعة، وعلى عدله، وحكمته( ).
ولقد قرر الشيخ هذا المقام وكرره؛ لأن المقام مهم جداً؛ فقال مقرراً مكرراً للمعاني السابقة بعبارات مختلفة( ):
.
شرح البيت الخامس عشر
15_ فما شاء مولانا الإلهُ فإنه
يكون وما لا لا يكون بحيلةِ
قوله: =الإله+ هو المألوه المعبود، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =الإله الحق هو الذي يستحق أن يعبد؛ فهو إله بمعنى مألوه+( ).
وقال: =وليس المراد بـ: =الإله+ هو القادر على الاختراع كما ظنه من ظن من أئمة المتكلمين؛ حيث ظن أن الإلهية هي القدرة على الاختراع، وأن من أقر بأن الله هو القادر على الاختراع فقد شهد أنه لا إله إلا هو؛ فإن المشركين كانوا يقرون بهذا وهم مشركون+( ).
قوله: =حيلة+: الحيلة: ما يتوصل به إلى حالةٍ ما في خفية.
وأكثر استعمالها فيما في تعاطيه خبث، وقد تستعمل فيما فيه حكمة( ).
هذا وقد مرَّ الحديث عن الحيلة، وعن الفرق بينها وبين المكر عند شرح البيت الثاني من السؤال.
ومعنى البيت أن ما شاء الله كان، وما لم يشأه لم يكن، وأنه لا حركة ولا سكون، ولا هداية، ولا إضلال إلا بمشيئته _ عز وجل _.
وقد دل على ذلك إجماع الرسل، وجميع الكتب المنزلة، والفطر التي فطر الله عليها خلقه، وأدلة العقل والبيان( ).
والنصوص الدالة على ذلك كثيرة جداً.
قال _تعالى _: [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ] (القصص: 68).
وللإمام الشافعي × أبيات جميلة تقرر هذا المعنى، قال عنها الإمام ابن عبدالبر في (الانتقاء): =إنها من شعره الذي لا يختلف فيه، وهو أصح شيء عنه+( ).
وقال: =وهذه الأبيات من أثبت شيء في الإيمان بالقدر+( ).
والأبيات هي:
وما شئتَ كان وإن لم أشأْ
وما شئتُ إن لم تشأْ لم يكنْ
خلقتَ العباد على ما علمتَ
وفي العلم يجري الفتى والمُسِنْ
على ذا مننتَ وهذا خذلتَ
وهذا أعنت وذا لم تُعِنْ
فمنهم شقيٌّ ومنهم سعيد
ومنهم قبيح ومنهم حسنْ( )
يقول: =وما شئت+ أي أنت يا رب =كان+ أي بأمرك لا محالة؛ لأن مشيئتك نافذة، و=إن لم أشأ+ أنا أيها العبد، و =ما شئتُ+ أنا =إن لم تشأ+ يا رب =لم يكن+؛ لأنه لا يكون شيء إلا بمشيئتك.
=خلقت العباد على ما علمت+: أي حسب ما سبق من علمك الأزلي، =وفي العلم يجري الفتى والمسن+: أي بمقتضى هذا العلم السابق يجري ويعمل الصغير والكبير، ولا يخرج أحد عن ذلك.
=على ذا مننت+ رحمةً وتفضلاً =وهذا خذلت+ حكمةً وعدلاً =وهذا أعنت+ بمنك وفضلك =وذا لم تعن+ بحكمتك وعدلك =فمنهم شقي+ ممن سبقت له الشقاوة =ومنهم سعيد+ ممن سبقت له الحسنى والسعادة =ومنهم قبيح ومنهم حسن+ فالله _ عز وجل _ هو الذي يصورهم في الأرحام كيف يشاء.
شرح البيتين [16 ــ 17]
16_ وقدرتُه لا نقص فيها وحكمه( )
يَعُمُّ فلا تخصيصَ في ذي القضيةِ
17_ أُرِيدُ بذا أن الحوادثَ كلَّها
بقدرته كانت ومحض المشيئةِ
قوله: =الحوادث+: جمع حادث، وهو الشيء المخلوق المسبوق بالعدم ، ويسمى حدوثاً زمانياً.
وقد يعبر عن الحدوث بالحاجة إلى الغير، ويسمى حدوثاً ذاتياً.
والحدوث الذاتي: هو كون الشيء مفتقراً في وجوده إلى الغير.
والحدوث الزماني: هو كون الشيء مسبوقاً بالعدم سبقاً زمانياً ( ).
وقوله: =محض+: قال ابن فارس × في مادة (محض): =الميم، والحاء، والضاد كلمة تدل على خلوص الشيء.
منه اللبن المحض:الخالص، وعربي محض+( ).
ومعنى البيتين: أن قدرة الباري _ جل وعلا _ كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه، وأن حكمه شامل لكل شيء؛ فالمخلوقات جميعها إنما كانت بقدرته الشاملة الكاملة، ومشيئته النافذة.
ومما يحسن التنبيه عليه ههنا أن المشيئة النافذة والقدرة الشاملة يجتمعان فيما كان وما سيكون، ويفترقان فيما لم يكن ولا هو كائن؛ فما شاء الله كونه فهو كائن بقدرته لا محالة، وما لم يشأ كونُه فإنه لا يكون؛ لعدم مشيئته له، لا لعدم قدرته عليه.
قال الله ـ تعالى ـ: [وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ] (البقرة: 253).
فعدم اقتتالهم لعدم مشيئة الله، لا لعدم قدرته.
ومثل ذلك قوله _ تعالى _: [وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى] (الأنعام: 35).
وغير ذلك كثير.
شرح البيتين [18 ــ 19]
18_ ومالكُنا في كلِّ ما قد أراده
له الحمدُ حمداً يعتلي كلَّ مِدْحةِ
19_ فإن له في الخلق من نعم( ) سرت
ومن حكم فوق العقول الحكيمةِ
قوله: =الحمد+: =هو الثناء على الجميل من جهة التعظيم من نعمة وغيرها+( ).
وقوله: =مدحة+: =المدح: هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري قصداً+( ).
يقول الشيخ ×: إن لربنا _ تبارك وتعالى _ في كل ما يريده شرعاً وكوناً _ حمداً مطلقاً، وثناءاً كاملاً يفوق كل حمد، وثناء، ومدح.
والبيت الثاني تعليل لما مضى من كونه _ عز وجل _ يستحق الحمد، والمدح، وتكرار لما قرر؛ فهو يبين أن له رحمةً تجري على كل ما خلق، وتسري في كل ما قُدِّر، وله حكمة بالغة لا تحيط بها العقول الراجحة على وجه التفصيل.
شرح البيت العشرين
20_ أموراً يحار العقل فيها إذا رأى
من الحكم العليا وكل عجيبةِ
قوله: =أموراً+: منصوب على أنه اسم إنَّ متأخر عن خبرها.
وقوله: =العقل+: العقل في الأصل مصدر عقلت البعير أعقله عقلاً إذا منعته من الشرود بحبل يُشد في ركبته.
وأما في الاصطلاح فقيل فيه أقوال، ومن أجمع تلك الأقوال ما عرفه به الفيروزبادي( )×حيث قال: =هو نور روحاني، به تدرك النفس العلوم الضرورية، والنظرية+( ).
وقال الطوفي ×: =قوة غريزية يُتهيأ بها لإدراك المعلومات التصويرية، والتصديقية.
وقيل: علم من العلوم الضرورية.
وقيل: جوهر شفاف تُدرك به المطالب العلمية+( ).
ويبتدأ وجود العقل عند اجتنان الولد، ثم لا يزال ينمو إلى أن يكمل عند البلوغ.
وسمي العقل بهذا الاسم؛ لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك، ويحجزه عما لا ينبغي.
والعاقل هو الجامع لأمره، الذي يحبس نفسه عن هواها ( ).
وفي هذا البيت يشير الشيخ × إلى أن حكمة الله _ عز وجل _ تبهر العقول، وتأخذ بالألباب، لما اشتملت عليه من العجب العجاب؛ فالعقول تحار في إدراك ذلك، ولكنها لا تحِيْلُه، فالشرع قد يأتي بمحارات العقول، ولكنه لا يأتي بمُحالاتها.
فيجب على العبد أن يعتقد أن أفعال الرب وأوامره مشتملة على الحكم الباهرة العظيمة التي تحير العقول، وإن كان لا يعلمها على وجه التفصيل؛ فعدم العلم بالشيء ليس دليلاً على عدمه، ولا يلزم من أثبت تعليل أفعال الله بالحِكَم والمصالح أن يعلم علة كل فعل وأمر، بل عليه أن يعتقد أن لله في جميع أفعاله وأوامره حكماً جليلة سواء ظهرت لنا أو خفيت علينا؛ فالله _ عز وجل _ لم يطلع خلقه على جميع حكمه، بل أعلمهم بما شاء، وما خفي عليهم أو على أكثرهم أعظم مما ظهر؛ إذ لا حاجة لهم بذلك في الغالب.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =وليس اطِّلاع كثير من الناس _بل أكثرهم_ على حِكم الله في كل شيء نافعاً لهم، بل قد يكون ضاراً.
قال _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ] المائدة: 101.
وهذه المسألة _ مسألة غايات أفعال الله، ونهاية حكمته _ مسألة عظيمة، لعلها أجل المسائل الإلهية+( ).
يقول ابن القيم ×: =ولو ذهبنا نذكر ما يطَّلع عليه أمثالُنا من حكمة الله في خلقه وأمره لزاد ذلك على عشرة آلاف موضع مع قصور أذهاننا، ونقص عقولنا ومعارفنا، وتلاشيها، وتلاشي علوم الخلائق جميعهم في علم الله كتلاشي ضوء السراج في عين الشمس، وهذا تقريب وإلا فالأمر فوق ذلك+( ).
شرح الأبيات من [21 ــ 23]
21_ فنؤمنُ أن الله عزَّ بقدرةٍ
وخلقٍ وإبرامٍ لحكم المشيئةِ
22_ فنثبت هذا كلَّه لإلهنا
ونثبت ما في ذاك من كل حكمةِ
23_ وهذا مقام طالما عجز الأُلى
نفوه( ) وكروا راجعين بحيرةِ
قوله: =عزَّ+: قال ابن فارس × في مادة (عز): =العين والزاء أصل صحيح واحد يدل على شدة، وقوة، وما ضاهاهما من غلبة وقهر+( ).
قوله: =وإبرام+: الإبرام هو الإحكام، تقول: أبرمت الأمر: أحكمته( ).
وفي هذه الأبيات كرر الشيخ × هذه المعاني بهذه العبارات، وبين _ كما سلف _ أننا نؤمن أن الله _ عز وجل _ له القدرة، والخلق، والأمر، والإحكام، وأن له المشيئةَ النافذةَ المقرونةَ بالحكمة البالغة.
وأوضح × أن هذا المقام مقام عظيم، وأن الذين نفوه لم يرجعوا إلا بالخيبة، وصِفْر العَيْبَةِ( ).
قال ابن القيم ×: =وكيف يتوهم ذو فطرة صحيحة خلاف ذلك وهذا الوجود شاهد بحكمته، وعنايته بخلقه أتم عناية، وما في مخلوقاته من الحكم والمصالح، والمنافع والغايات المطلوبة، والعواقب الحميدة أعظم من أن يحيط به وصف، أو يحصره عقل؟!+( ).
شرح الأبيات من [24 ــ 29]
24_ وتحقيقُ ما فيه بتبيين غوره
وتحرير حقِّ الحق في ذي الحقيقة
25_ هو المطلب الأقصى لِوُرَّاد( )بحره
وذا عسِرٌ في نظم هذي القصيدةِ
26_ لحاجته تبيينَ علمٍ مُحقَّقٍ( )
لأوصاف مولانا الإلهِ الكريمةِ
27_ وأسمائه الحسنى وأحكام دينه
وأفعاله في كل هذي( ) الخليقة
28_ وهذا _ بحمد الله _ قد بان ظاهراً
وإلهامُه للخلق أفضلُ نعمة
29_ وقد قيل في هذا وخُطَّ( ) كتابُه
بيانٌ( )شفاءٌ للنفوس المريضةِ( )
قوله: =غوره+ قال ابن فارس × في مادة (غور): =الغين والواو والراء أصلان صحيحان أحدهما: خفوض في الشيء، وانحطاط، وتطامن.
والآخر: إقدام على أخذ مال قهراً أو حرباً.
فالأول قولهم لِقَعْر الشيء: غوره، ويقال: غار الماء غوراً، وغارت عينه غؤوراً...+( ).
وقوله: =وتحرير حق الحق..+: أي تخليصه من شوائب الباطل، وبيان الصواب فيه.( )
وقوله: =حق الحق .. الحقيقة+: قال ابن فارس × في مادة (حق): =الحاء والقاف أصل واحد، وهو يدل على إحكام الشيء، وصحته؛ فالحق نقيض الباطل، ثم يرجع كل فرع إليه بجودة الاستخراج وحسن التلفيق.
ويقال: حَقَّ الشيء: وجب+( ).
وقال: =ويقال: حقَقَقْت الأمر وأحققته: أي كنت على يقين منه+( ).
قوله: =عسر+: قال ابن فارس × في مادة (عسر): =العين والسين والراء أصل صحيح واحد يدل على صعوبة وشدة؛ فالعسر ضد اليسر+( ).
قوله: =الإلهام+: هو التلقين، والإلقاء في الرُّوع( ).
يبين الشيخ × في هذه الأبيات أن تحقيق هذا المقام _ وهو الإيمان بخلق الله وشرعه وتمام الحكمة في ذلك _ إنما يكون بإيضاح هذه المسألة وكشفها، وتحرير القول فيها، والغوص في قعرها.
ويبين _أيضاً_ أن هذا المقام هو الغاية التي شمر لها المشمرون، وسعى لإدراكها وُرَّاد الشريعة، ورواد الحقيقة، وأن تفصيل ذلك لا يمكن الإحاطة به، والإتيان عليه في هذه الأبيات؛ لأنه يحتاج إلى تفصيل، ومزيد إيضاح.
ويبين × أن هذه المسائل العظيمة مستمدة من أسماء الله، وأوصافه، وأفعاله، ومعرفة دينه، والتدبر لكتابه.
فمن تفقه في الأسماء الحسنى، وآمن بما لله من الصفات العليا، وعلم أن أفعاله مشتملة على الحق، وأن الحق غايتها ومقصودها، وتدبر كتاب الله الذي فيه الهدى والشفاء _ جزم جزماً لا تردد فيه أن الله _تعالى_ خلق المخلوقات، ودبرها بمشيئة نافذة، وحكمة شاملة، ورحمة واسعة.
ولا سبيل إلى تحقيق هذه المقامات العالية إلا بتوفيق الله، واستمداد المعونة منه، والإقبال على كلامه، وكلام رسوله " والاستنارة بهداية الأئمة المهتدين.
ولا ريب أن معرفة ذلك وإدراكه، وتيسيره للعباد _ يعدُّ من أجلِّ النعم، وأشرف المواهب.
وهذا ما جاء به القرآن الكريم الذي اشتمل على الهدى والنور، وشفاء ما في الصدور من أمراض الشكوك، والشبهات والشهوات.
قال ابن القيم ×: =وجماع ذلك أن كمال الرب_تعالى_وجلاله، وحكمته، وعدله ورحمته، وإحسانه، وحمده، ومجده، وحقائق أسمائه الحسنى تمنع كون أفعاله صادرةً منه لا لحكمة، ولا لغاية مطلوبة، وجميعُ أسمائه الحسنى تنفي ذلك، وتشهد ببطلانه، وإنما نبهنا على بعض طرق القرآن، وإلا فالأدلة التي تضمَّنها إثبات ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا وبالله التوفيق+( ).
شرح البيتين [30 ــ 31]
30_ فقولك: "لِمْ قد شاء؟" مثل سؤالِ مَنْ
يقول: فَلِمْ قد كان في الأزليةِ
31_ وذاك سؤال يبطل العقلُ وَجْهَهُ
وتحريمُه قد جاء في كل شرعةِ
قوله: =الأزلية+: الأزل هو القِدم الذي لا بداية له، أو هو استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب الماضي.
ويقابل الأزلَ الأبدُ، والأبدُ هو المستقبل الذي لا نهاية له، أو هو استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب المستقبل( ).
قوله: =شرعة+: الشرعة يحتمل أنها مأخوذة من الشارع، وهو الطريق؛ لسلوك الناس له كسلوك الطريق.
ويحتمل أنها مأخوذة من مشرعة الماء؛ لورود الناس عليه _ أي الشرع _ كورودهم عليها _ أي المشرعة _ وخلاصهم به من هلاك الآخرة، كخلاصهم بورود المشرعة من هلاك الدنيا بالعطش( ).
وفي هذين البيتين يبين الشيخ × خطأ هذا المعترض وضلاله بقوله: =لِمَ قد شاء+.
فقول المعترض: كيف شاء الله كفر الكافرين، ووقوع العصيان من العاصين، ونحو ذلك من الأسئلة المشابهة لذلك _ كلها محظورة ممنوعة؛ لأن الله _ عز وجل _ هو الحاكم وليس المحكوم عليه، ولا يلزم أن يبدي لعباده كل حكمة اشتملت عليها مراداته وأفعاله؛ ذلك أنه _ عز وجل _ قد أخبر عباده بالأمر العام، وهو أنه حكيم في خلقه وشرعه.
وهذا _ بحد ذاته _ كافٍ شافٍ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وأما دقائق الخلق، وأسرار التشريع على وجه التفصيل فعلمها عنده _عز وجل_ ولا يلزم أن يُطْلع عباده إلا على ما شاء من ذلك، كما لا يلزم أن يطلع جميع عباده على ذلك.
وسؤال هذا المعترض الذي يقول: =لم شاء+ مثل سؤال من يقول: لماذا قدر الله كذا وكذا في الأزل حين كتب مقادير الخلائق؟!
ومثل هذا السؤال يبطله العقل، وتحرمه جميع الشرائع السماوية؛ إذ هو اعتراض من العبد الحقير على الرب العظيم الذي لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.
قال الإمام ابن قتيبة ×: =وعَدْلُ القولِ في القدر أن تعلم أن الله عدلٌ؛ لا يجوز: كيف خلق؟ وكيف قدَّر؟ وكيف أعطى؟ وكيف منع؟ وأنه لا يخرج من قدرته شيء، ولا يكون في ملكوته من السموات والأرض إلا ما أراد، وأنه لا دين لأحد عليه، ولا حق لأحد قبله، فإن أعطى فبفضل، وإن منع فبعدل+( ).
وبالجملة فإن هذه المسألة مسألة عظيمة، وهي ترد كثيراً في الأذهان، وربما ظهر على بعض الألسنة أحياناً أسئلة في شأنها، وذلك ناتج عن خلل في فهم باب القدر؛ فتجد الخوض في مسألة الهداية والإضلال، فيقال _ على سبيل المثال _:
لم شاء الله من الإنسان المعصية، ولم لم يشأ منه الطاعة؟ ولماذا يحاسِبْه على ما يشاؤه منه، ولماذا هدى الله فلاناً، وأضل فلاناً؟
إلى غير ذلك من الأسئلة.
والجواب عن ذلك قدْ مرَّ، ولمزيد من الإيضاح فإنه يقال:
إن الهداية والإضلال والطاعة والمعصية بمشيئة الله، والإنسان سبب في وقوعها، ومسؤول عنها؛ فذلك من الأصول القطعية عند أهل السنةِ، والقاعدةُ التي يتفق عليها العقلاء أن القطعيات لا تتناقض في نفسها وإن بدت لنا متناقضة؛ لقصور إدراكنا؛ فحسبنا أن نقف عند هذه القطعيات، ونؤمن بها جميعاً، ولا نرد منها شيئاً ولو لم نحط بها علماً؛ لأن مسألة القضاء والقدر لها تعلق بصفات الله؛ فالقدر قدرة الله، وقدرة الله كعلمه وحكمته وإرادته وسائر صفاته من جهة كونها معلومة المعنى مجهولة الكيفية؛ فكما أننا نعجز عن الإحاطة بصفات الله فكذلك نعجز عن الإحاطة بسر القدر الإلهي، ومن أسراره أن أضل الله وهدى، وأسعد وأشقى، وأمات وأحيا، وغير ذلك؛ لحكمة يعلمها ولا نعلمها، وهو العليم الحكيم.
ولا يضير المرء في إيمانه عجزه عن معنى الإحاطة بسر القدر؛ لأن ذلك ليس بمستطاع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
ولكن الذي يضيره أن يبني على عجزه أحكاماً، ويتصرف على غير هدى، ويرد بعض الأصول القطعية، ويضرب النصوص بعضها ببعض.
ومما لا نزاع فيه بين العقلاء أن للمالك أن يتصرف في ملكه كيف يشاء، ولا يلزم ليكون تصرفه سليماً أن يُدرك غيرُه الحكمة في تصرفاته، وليس لأحد حق الاعتراض عليه في تصرفه إذا لم يعلم السر في أفعاله.
ولا نزاع بينهم أن البارع في علم من العلوم، أو فن من الفنون، أو صنعة من الصنائع أنه قد يعمل أعمالاً لا تدركها عقول الذين لم يقفوا على أسرار ذلك العلم، أو الفن، أو الصنعة، كما هي الحال في عالم الطب، والهندسة، ونحو ذلك.
ولا يعني عدمُ إدراكهم لذلك القدحَ في ذلك العلم، أو الفن، أو الصنعة.
هذا بالنسبة للبشر القاصرين في علمهم وحكمتهم، فكيف بأحكم الحاكمين، وبمن وسع كل شيء رحمة وعلماً؟!
فإن حاولنا كشف ما طُوي عنا من أسرار القدر مما استأثر الله بعلمه كان ذلك تكلفاً بلا نتيجة، ومن حاول إدراك غير المستطاع فنتيجة محاولته أن يكون( ):
كناطحٍ صخرةً يوماً ليوهنها
فلم يضرها وأوهى قرنَه الوعلُ( )
هذا وسيأتي مزيد إيضاح لهذه المسألة وما شاكلها.
شرح البيت الثاني والثلاثين
32_ وفي الكون تخصيصٌ كثيرٌ يدلُّ من
له نوعُ عقلٍ أنه بإرادةِ
يبين الشيخ × في هذا البيت أن ما في الكون من التخصيصات المتنوعة من كل وجه دلالةٌ واضحة على نفوذ مشيئة الله، وأن ذلك كائن بإرادته _ عز وجل _.
ومن تلك التخصيصات ما يُرى من الحِكم والانتظام، والحسن والالتئام، والخلق الغريب، والإبداع العجيب.
ومن ذلك جَعْل بعضها عالياً وبعضها سافلاً، وبعضها كبيراً وبعضها صغيراً، وبعضها متصلاً بغيره، وبعضها منفصلاً، وبعضها على صفة، وبعضها على صفة أخرى مثل قوله _ تعالى _: [وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ](النور: 45).
ومن ذلك ما في الكون من الخيرات الكثيرة، والمنافع الغزيرة؛ فكل ذلك ينطق بأنها صادرة عن إرادة تامة، ومشيئة نافذة.
وهذا أمر يدركه من عنده أدنى مُسْكةٍ من عقل( ).
وسيأتي مزيد إيضاح لهذا البيت في شرح البيت الآتي.
شرح البيت الثالث والثلاثين
33_ وإصدارُه عن واحد بعد واحد
أو( ) القولُ بالتجويز رميةُ حيرةِ
قوله: =القول بالتجويز..+: يشير بذلك إلى قول القدرية القائلين بالتجويز، وهو قولهم: لو عذبنا الله على ما خلقه فينا لكان جائزاً، وإنما يعذبنا على ما نخلقه نحن.
وكقولهم: يجوز على الله تعذيب ملائكته، وأنبيائه، وأهل طاعته، وإكرام إبليس وجنوده، وجعلهم فوق أوليائه في النعيم المقيم.
ولا ريب أن هذا قول باطل صادر عن نفي الحكمة والتعليل؛ وذلك أن حكمة الله _ عز وجل_ تأبى ذلك، قال _ تبارك وتعالى _: [أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36)] (القلم).
وقد قدَّمتُ شرح الشطر الثاني على الأول؛ لأن الكلام على الأول سيطول.
وقوله: =وإصداره عن واحد بعد واحد...+: هذه المقولة مقولة تعسفية دقيقة متكلفة ذهنية لا عينية يطلقها الفلاسفة، ومن يوافقهم من المتفلسفة المنتسبين إلى الإسلام ممن يقولون بالعقول العشرة، وأن الله واحد لا يصدر عنه _ عندهم _ إلا واحد وهو العقل الأول على ما سيأتي بيانه.
كما أنها ترد في كتب العقائد خصوصاً في باب القدر، وارتباطه بفعل الأسباب؛ حيث يبين العلماء أن الأسباب لا تستقل بالتأثير، وأنه ما من سبب إلا وهو مفتقر إلى سبب آخر في حصول مسببه، ولا بد له من مانع يمنع مقتضاه وأثره إذا لم يدفعه الله عنه؛ فليس في الوجود شيء واحد يستقل بفعل شيء إلا الله وحده.
قال الله _ تعالى _: [وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] (الذاريات: 49).
أي فتعلمون أن خالق الأزواج واحد.
وأما بالنسبة للمخلوق فليس هناك مخلوق يصدر عنه شيء استقلالاً، بل لا بد له من سبب أو أسباب أخرى تعينه في حصول مسببه، ولا بد له من زوال الموانع التي تمنع تأثيره _كما مر _ ( ).
قال الشهرستاني × مقرراً مقولة الفلاسفة الآنفة الذكر: =المسألة السادسة: في أنه لا يصدر عن الواحد إلا واحد.
قال( ): الصادر الأول هو العقل الفعال، لأن جميع الحركات إذا كانت كثيرة، ولكل متحرك محركٌ فيجب أن يكون عدد المحركات بحسب عدد المتحركات؛ فلو كانت المحركات والمتحركات تنسب إليه لا على ترتيب أول وثان، بل جملة واحدة لتكثَّرت جهاتُ ذاته بالنسبة إلى محرك محرك، ومتحرك متحرك؛ فتكثر ذاتُه.
وقد أقمنا البرهان على أنه واحد من كل وجه؛ فلن يصدر عن الواحد من كل وجه إلا واحد وهو العقل الفعال.
وله في ذاته وباعتبار ذاته إمكان الوجود، وباعتبار علته وجوب الوجود؛ فتكثر ذاته لا من جهة علته؛ فيصدر عنه شيئان، ثم يزيد التكثُّر في الأسباب، فتكثر المسببات، والكل ينسب إليه+( ).
ولا ريب أن هذه المقولة باطلة، كما سيأتي بيان ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =ولهذا من قال: إنه لا يصدر عنه إلا واحد؛ لأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد _ كان جاهلاً؛ فإنه ليس في الوجود واحد صدر عنه وحده شيء لا واحد ولا اثنان إلا الله الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون؛ فالنار التي جعل الله فيها حرارة لا يحصل الإحراق إلا بها وبمحلٍّ يقبل الاحتراق؛ فإذا وقعت على السَّمَنْدل( )والياقوت( )ونحوهما لم تحرقهما.
وقد يطلى الجسم بما يمنع إحراقه، والشمس التي يكون عنها الشعاع لا بد من جسم يقبل انعكاس الشعاع عليه، وإذا حصل حاجز من سحاب، أو سقف لم يحصل الشعاع تحته+( ).
وقال ×في موضع آخر: =وكذا لفظ التأثير فيه إجمال؛ فإن القدرة مع مقدورها كالسبب مع المسبب، والعلة مع المعلول، والشرط مع المشروط.
فإن أريد بالقدرةِ القدرةُ الشرعية المصححة للفعل المتقدمة عليه _ فتلك شرط للفعل، وإن أريد بالقدرة القدرةُ المُقَارِنَةُ للفعل المستلزمة له فتلك علة للفعل، وسبب تام.
ومعلوم أنه ليس في المخلوقات شيء هو وحده علة تامة، وسبب تام للحوادث بمعنى أن وجوده مستلزم لوجود الحوادث، بل ليس هذا إلا مشيئة الله _ تعالى _ خاصة؛ فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
وأما الأسباب المخلوقة كالنار في الإحراق، والشمس في الإشراق، والطعام والشراب في الإشباع والإرواء، ونحو ذلك _ فجميع هذه الأمور سبب لا يكون الحادث به وحده، بل لا بد من أن ينضم إليه سبب آخر.
ومع هذا فلها موانع تمنعها من الأثر؛ فكل سبب فهو موقوف على وجود الشروط، وانتفاء الموانع، وليس في المخلوقات واحد يصدر عنه وحده شيء.
وهذا مما يبين لك خطأ المتفلسفة الذي قالوا: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، واعتبروا ذلك بالآثار الطبيعية كالمسخن، والمبرد، ونحو ذلك؛ فإن هذا غلط؛ فإن التسخين لا يكون إلا بشيئين: أحدهما: فاعل، كالنار، والثاني: قابل، كالجسم القابل للسخونة والاحتراق، وإلا فالنار إذا وقعت على السمندل والياقوت لم تحرقه.
وكذلك الشمس فإن شعاعها مشروط بالجسم المقابل للشمس الذي ينعكس عليه الشعاع، وله موانع من السحاب، والسقوف، وغير ذلك.
فهذا الواحد الذي قدَّروه في أنفسهم لا وجود له في الخارج، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع.
فإن الواحد العقلي الذي يثبته الفلاسفة، كالوجود المجرد من الصفات، وكالعقول المجردة، وكالكليات( ) التي يدعون تركب الأنواع منها، وكالمادة( ) والصورة( ) العقليين، وأمثال ذلك لا وجود لها في الخارج، بل إنما توجد في الأذهان لا في الأعيان، وهي أشد بعداً عن الوجود من الجوهر الفرد( ) الذي يثبته من يثبته من أهل الكلام؛ فإن هذا الواحد لا حقيقة له في الخارج، وكذلك الجوهر كما قد بسط في موضعه.
والمقصود هنا أن التأثير إذا فسر بوجود شرط الحادث، أو سبب يتوقف حدوث الحادث به على سبب آخر، وانتفاء الموانع _ وكل ذلك بخلق الله تعالى _ فهذا حق، وتأثير قدرة العبد في مقدورها ثابت بهذا الاعتبار.
وإن فسر التأثير بأن المؤثر مستقل بالأثر من غير مشارك معاون، ولا معاوق مانع فليس شيء من المخلوقات مؤثراً، بل الله وحده خالق كل شيء، لا شريك له، ولا ند له؛ فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن [مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ] (فاطر: 2).
[قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السموات وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ(22) وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ] (سبأ: 22_23).
[قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ] (الزمر: 38).
ونظائر هذا في القرآن كثيرة+( ).
وقال الطوفي×في شرح البيتين السابقين: = وقد تضمن البيتان المذكوران الإشارة إلى ثلاثة مذاهب.
أحدها: مذهب القائلين بأن صانع العالم يفعل بالطبع والإيجاب كإحراق النار، وتبريد الماء، وهبوط الحجر الثقيل في الهواء لا بالقدرة والاختيار: وشبهتهم على ذلك دقيقة تعسُّفية، ولا أصل لها.
وقد رد الله _ تعالى _ عليهم بقوله: [يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ] (الرعد: 4).
ورد عليهم الأصوليون بأن الفاعل بالطبع لا يتمادى زمنُ فعله، ولا يتخصص بعد وجود فاعله ببعض الأزمنة والأمكنة دون بعض.
وأفعال الله _ تعالى _ تتمادى، ويتأخر بعضها عن بعض، ويختص ببعض ظروف الزمان والمكان دون بعض.
وما ذاك إلا لصدوره عن قدرة واختيار، لا عن طبع وإيجاب.
وإلى هذا أشار الشيخ _ يعني ابن تيمية _ بقوله: وفي الكون تخصيص كثير... البيت.
فإن وجود زيد _ مثلاً _ اليوم دون أمس وغدٍ، أو غداً دون أمس واليوم، أو أمس دون اليوم وغدٍ، وموتُه في مكة دون بغداد أو في مصر دون مكة _ دليلٌ على أن مُخصِّصاً ذا إرادة تامة خَصَّص هذه الأحداثَ ببعض هذه الظروف دون بعض، ولعل في قوله _ تعالى _: [وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ] لقمان: 34 إشارة إلى هذا الدليل.
وإذا ثبت أن الموجودات واقعة بإرادة الله _ تعالى _ فالأفعال من طاعة ومعصية منها؛ فهي _ إذاً _ واقعة بإرادة الله _ تعالى _ فقول القائل: معصيتي خَلْقي لا خلق الله خطأ والله أعلم.
المذهب الثاني: قول القائلين بأن واجب الوجود واحد، الواحد لا يصدر عنه إلا واحد؛ لأنه لو صدر عنه أكثر من واحد لكان من حين صدور هذا عنه مغايراً لنفسه من حيث صدورُ الآخر عنه، والمغايرة تقتضي التعدد، والتكثُّر؛ فيلزم أن يكون واحداً كثيراً، وهو محال.
قالوا: فوجب القول بأن الصادر عنه واحد، وهو الفلك الذي دونه، وعن ذلك الفلك ما دونه إلى أن انتهى التدريج إلى فلك القمر، وهو الذي يلي العالم السفلي، وهو عالم الكون، والفساد؛ فأثَّر فلك القمر في العناصر الأربعة: النار، والهوى، والماء، والأرض، ثم دبَّرت هذه العناصر ما تركَّب منها، وهو هذا العالم.
وهذا ونحوه تقرير مذهب الحكماء _ يعني الفلاسفة _ على ما ذكره بعضهم.
وهو فاسد؛ لأنه يوجب أن لا يوجد شيئان إلا وأحدهما علة للآخر+.
إلى أن قال ×: =وإلى هذا أشار الشيخ _ يعني ابن تيمية _ بقوله:
وإصداره عن واحد بعد واحد.
وأجاب عنه بأنه رمية حَيْرة، أي أنه دعوى لا برهان عليها، وإنما هو رأي صدر عن عقولٍ حارَتْ، وعن طريق الحق جارَتْ، وما لا برهان عليه لا يسمع+.
ثم انتقل بعد ذلك إلى المذهب الثالث فقال:
=المذهب الثالث: مذهب القائلين بالتجويز، وهم القدرية، الذين يقولون: لو عذبنا الله على خلقه فينا لكان جائزاً، وإنما يعذبنا على ما نخلقه نحن.
وأجاب عنه _ يعني ابن تيمية _ بما أجاب عن الذي قبله من أنه رمية حيرة، والتقريرُ التقريرُ.
وقوله: =أو القول+ أي والقول؛ فهي _ يعني أو _ بمعنى الواو، وليست لأحد الشيئين، والله أعلم+( ).
شرح البيتين [34 ــ 35]
34_ ولا ريبَ في تعليق كلِّ مُسَبَّبٍ
بما قبله من( ) علة مُوجِبيَّةِ
35_ بل الشأنُ في الأسبابِ أسبابِ ما ترى
وإصدارها( ) عن حكم محض المشيئة
=المسبَّب+: هو ما يوصل إليه بالسبب.
والسبب في اللغة: الحبل، ومنه قوله _ تعالى _: [فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ] (الحج: 15).
وفي الاصطلاح: سبب الشيء ما تُوصِّل به إلى تحصُّله لا على سبيل اللزوم( ).
والعلة: هي ما يتوقف عليه وجود الشيء، ويكون خارجاً مؤثراً فيه، والموجب: بالكسر السبب، وبالفتح: المُسبَّب.
يقول الشيخ ×: إن الأمر الذي لا ريب فيه أن كل مُسَبَّبٍ لابد له من سبب، وكل معلول لابد له من علة موجبة، وكل شيء لابد له من مادة قد خُلِق منها.
ولكن جميع الأسباب تنتظم في قضاء الله وقدره، وهي من القضاء والقدر، وتنتهي إلى قضائه وقدره.
قال الطوفي ×: =ومثال تعلق الأسباب بمسبباتها أن سبب وجود الحر حرارة الهواء المتصل بالأجسام، وسبب حرارة الهواء علو الشمس في الفلك، وسبب علو الشمس اختلاف حركات فلكها وانتقالاته، وسبب حركات فلكها حركة الفلك الأعلى المسمى بفلك الأفلاك، وسبب حركة الفلك الأعلى إرادة الله _ تعالى _.
وهكذا الكلام في كل مسبَّب تعلق بسبب، أو علة تعلقت بعلة+( ).
ثم إن فعل الأسباب لا ينافي الإيمان بالقدر، بل إن ذلك من تمام الإيمان بالقدر.
قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي ×: =ويظن كثير من الناس أن إثبات الأسباب ينافي الإيمان بالقضاء والقدر.
وهذا غلط فاحش جداً، وهو عائد على القدر بالإبطال، وهو _أيضاً_ إبطال للحكمة.
وكأن هذا الظانَّ يقول ويعتقد: أن الإيمان بالقدر هو اعتقادُ وجود الأشياء بدون أسبابها الشرعية والقدرية، وهذا نفي للوجود لها؛ فإنها _كما ذكرنا_ أن الله ربط الكونَ بعضَه ببعض، ونظم بعضه ببعض، وأوجد بعضه ببعض؛ فهل تقول أيها الظانُّ جهلاً: إن الأوْلى إيجادُ البناء من دون بنيان؟ وإيجاد الحبوب والثمار والزروع من دون حرث وسقي؟ وإيجاد الأولاد والنسل من دون نكاح؟ وإدخال الجنة من دون إيمان وعمل صالح؟ وإدخال النار من دون كفر ومعصية؟!
بهذا الظن أبطلت القدر، وأبطلت معه الحكمة.
أما علمتَ أن الله بحكمته، وكمال قدرته جعل للمسبِّبات أسباباً؟ وللمقاصد طرقاً ووسائل تحصل بها؟ وقرر ذلك في الفطر والعقول، كما قرره في الشرع، وكما نفَّذه في الواقع؟ فإنه أعطى كل شيء خلقه اللائق به، ثم هدى كلَّ مخلوق إلى ما خلق له من أصناف السعي، والحركة، والتصرفات المتنوعة، وبنى أمور الدنيا والآخرة على ذلك النظام البديع العجيب الذي شهد _ أولاً _ لله بكمال القدرة، وكمال الحكمة، وأشهد العباد _ ثانياً _ أنه بهذا التنظيم والتصريف وجَّه العاملين إلى أعمالهم، ونشَّطهم على أشغالهم؛ فطالب الآخرة إذا علم أنها لا تنال إلا بالإيمان والعمل الصالح وترك ضدِّها _ جد واجتهد في تحقيق الإيمان، وكثرت تفاصيله النافعة، واجتهد في كل عمل صالح يوصله إلى الآخرة، واجتنب في مقابل ذلك الكفرَ والعصيان، وبادر للتوبة النصوح من كل ما وقع منه من ذلك.
وصاحب الحرث إذا علم أنه لا ينال إلا بحرث وسقي وملاحظة تامة _ جدَّ واجتهد في كل وسيلة تنمي حراثته، وتكمِّلها، وتدفع عنها الآفات.
وصاحب الصناعة إذا علم أن المصنوعات على اختلاف أنواعها، ومنافعها لا تحصل إلا بتعلم الصناعة وإتقانها ثم العمل بها _ جد في ذلك.
ومن أراد حصول الأولاد، أو تنمية مواشيه عمل وسعى في ذلك، وهكذا في جميع الأمور+( ).
وقال ×: =وثبت في الصحيحين أن الصحابة _ رضي الله عنهم _ حين ذكر لهم النبي " القدر السابق _ قالوا: =يا رسول الله: أفلا نَتَّكل على كتابنا الأول وندع العمل؟+.
فقال: =اعملوا فكلٌّ ميسرٌ لما خلق له؛ أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة+.
ثم تلا رسول الله " هذه الآية [فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى(10)](الليل)( ).
ومشيئته _ تعالى _ لا تنافي ما جعله من الأسباب الدنيوية والأخروية؛ فقد أخبر في عدة آيات: أنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وفي آيات أخر أخبر بالأسباب التي تنال بها هدايةُ الله، أو يستحق بها العبد أن يبقى على ضلاله، كقوله في الهداية: [يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ] (المائدة: 16).
وكقوله: [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا] (العنكبوت: 69).
وقوله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً] (الأنفال: 29).
وقوله: [وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ] (التغابن: 11) ونحوها.
وقوله في الضلال: [فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ] (الصف: 5).
وقوله: [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً] (البقرة: 10).
وقوله: [وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ] (الأنعام: 110).
[وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ] (الزخرف: 36).
وهذه الآيات فيها من أسرار القدر _ في هداية من يهديه، وضلال من يضله _ ما شهد لله بكمال الحكمة والحمد.
وكذلك أخبر في عدة آيات أنه يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، وفي آيات أخر أخبر عن الأسباب التي تُنال بها مغفرة الله، مثل قوله: [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى] (طه: 82).
والأسباب التي يُستحق بها العذاب مثل قوله: [إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى] (طه: 48).
وكذلك أخبر في آيات كثيرة أنه يرزق من يشاء، ويوسع الرزق على من يشاء، ويقبضه عمن يشاء.
وفي آيات أخر ذكر فيها الأسباب التي ينال بها رزقه، مثل قوله: [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ] (الطلاق: 2_3).
وقوله: [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً] (الطلاق: 4).
كما ثبت في الصحيح عن النبي _ صلى الله عليه وسلم _ أنه قال: =من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أجله فليصل رحمه+( ).
وكذلك الأسباب المادية مثل قوله _ تعالى _: [هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ] الملك:15.
وجميع المطالب الدنيوية والأخروية جعل لها أسباباً متى سلكها الإنسان حصل على مطلوبه.
وقد جمع النبي " ذلك في كلمة واحدة فقال: =احرص على ما ينفعك، واستعن بالله+( ).
فقوله: =احرص على ما ينفعك+.
أي في دينك ودنياك، واسلك كل طريق يوصلك إلى هذه المنفعة، ولكن لا تتكل على حولك وقوتك، بل توكل على الله، واستعن به؛ فمن فعل ذلك فهو عنوان سعادته ونجاحه، وإلا فلا يلمِ العبد إلا نفسه+( ).
يقول الطوفي × في شرح البيتين السابقين: =ومعنى البيتين أنَّا لا ننازع في أن أسباب العالم وعلله متعلق بعضها ببعض؛ فإنا نقول بذلك، لكنها _ وإن تعلق بعضها ببعض وتسلسلت _ فإنها تنتهي إلى قدرة الله، وإرادته.
وهو المراد بمحض المشيئة، أي هو مستقل بالمشيئة لا يحتاج مشيئة في وجود مراده إلى مشيئة كمشيئة المخلوقين+( ).
ويقول ابن القيم × مقرراً لكثير مما مضى: =أنه _ سبحانه _ ربط الأسباب بمسبباتها شرعاً وقدراً، وجعل الأسباب محل حكمته في أمره الديني الشرعي، وأمره الكوني القدري، ومحل ملكه وتصرفه؛ فإنكار الأسباب، والقوى، والطبائع جحد للضروريات، وقدح في العقول والفطر، ومكابرة للحس، وجحد للشرع والجزاء؛ فقد جعل _ سبحانه _ مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، والثواب، والعقاب، والحدود، والكفارات، والأوامر، والنواهي، والحل، والحرمة كل ذلك مرتبطاً بالأسباب قائماً بها.
بل العبد نفسه، وصفاته، وأفعاله سبب لما يصدر عنه.
بل الموجودات كلها أسباب ومسببات، والشرع كله أسباب ومسببات، والمقادير أسباب ومسببات، والقدر جارٍ فيها؛ فالأسباب محل الشرع والقدرِ، والقرآنُ مملوء في إثبات الأسباب، كقوله: [بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] (المائدة: 105).
[بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ] (الأعراف: 39).
[ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ] (الحج: 10).
[فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ] (الشورى: 30)+( ).
شرح الأبيات [36 ــ 38]
36_ وقولك: لِمْ شاء الإلهُ هو الذي
أزلَّ( )عقول الخلق في قَعْر حُفْرةِ
37_ فإن المجوسَ القائلين بخالق
لنفع وربٍّ مبدعٍ للمَضرةِ
38_ سؤالُهم عن علة السرِّ( ) أوقعت
أوائلَهم( ) في شبهة الثَّنويةِ( )
معنى الأبيات: أن قولك أيها السائل المعترض =لم شاء الله الشر+: ونحو ذلك من الأسئلة الاعتراضية التي مضمونها الدخول فيما ليس للعقل سبيل إليه _ هو الذي أضل العقول، وألقاها في الهلاك، وطوَّح بها عن سواء الصراط( ).
وهذا هو الذي ألقى المجوس في بدعة الثنوية؛ حيث قالوا:
= كيف يخلق الله الشر؟+.
وبناءً على ذلك قالوا: علينا أن ننزه الله عن خلق الشر؛ فقادهم ذلك السؤال الباطل إلى تلك الطامة الكبرى؛ حيث قالوا بالأصلين: النور، والظلمة، فزعموا أن للكون إلهين: إله النور وهو خالق الخير، وإله الظلمة وهو خالق الشر.
فالذين يقولون: كيف يقدر الله علينا الكفر والمعاصي ويعذبنا على ذلك؟ قد تابعوا في اعتراضهم المجوس، ولذا سمي القدرية مجوس هذه الأمة.
ولو كان أولئك يعقلون لاهتدوا بهدي المرسلين، ولعلموا أن الله _ عز وجل _ منزه عن الشر، وأنه لا يفعل إلا الخير؛ فالقدر من حيث نسبته إلى الله _ عز وجل _ لا شر فيه بوجه من الوجوه؛ فإنه علم الله، وكتابته، ومشيئته، وخلقه.
وذلك خيرٌ محض، وكمال من كل وجه؛ فالشر ليس إلى الرب بوجه من الوجوه، لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
ولو فعل الشر _ سبحانه _ لاشتُق له منه اسم، ولم تكن أسماؤه كلها حسنى، ولعاد إليه من الشر حكم _ تعالى وتقدس _.
وإنما الشر يدخل في مخلوقاته ومفعولاته؛ فالشر في المقضي لا في القضاء، ويكون شراً بالنسبة إلى محلٍّ، وخيراً بالنسبة إلى محلٍّ آخر، وقد يكون خيراً بالنسبة إلى المحل القائم به من وجه كما هو شر من وجه آخر، بل هو الغالب، وذلك كالقصاص، وإقامة الحدود، وقتل الكفار؛ فإنه شر بالنسبة إليهم لا من كل وجه، بل من وجه دون وجه، وخيرٌ بالنسبة إلى غيرهم؛ لما في ذلك من مصلحة الزجر، والنكال، ودفع الناس بعضهم ببعض.
وكذلك الأمراض فهي _ وإن كانت شروراً من وجه _ هي خير من وجوه عديدة _ كما سيأتي بيانه عند الحديث عن الحكمة من خلق الآلام والمصائب _.
والحاصل أن الشر لا ينسب إلى الله _ تعالى _ ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن النبي " كان يثني على ربه بتنزيهه عن الشر بدعاء الاستفتاح بقوله: =لبيك وسعديك، والخيرُ كلُّه في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت+( ).
قال ابن القيم ×تعليقاً على هذا الحديث: =فتبارك وتعالى عن نسبة الشر إليه، بل كلُّ ما نسب إليه فهو خير، والشر إنما صار شراً لانقطاع نسبته وإضافته إليه؛ فلو أضيف إليه لم يكن شراً، وهو _ سبحانه _ خالق الخير والشر؛ فالشر في بعض مخلوقاته لا في خلقِه وفِعْلِه.
وخلقُه وفعلُه، وقضاؤه وقدره خير كله؛ ولهذا تنزه _ سبحانه _ عن الظلم الذي حقيقته وضع الشيء في غير موضعه؛ فلا يضع الشيء في غير محلّه؛ فإذا وُضِع في محله لم يكن شراً؛ فعُلِم أن الشر ليس إليه، وأسماؤه الحسنى تشهد بذلك+( ).
وقال _ أيضاً _: =فأسماؤه الحسنى تمنع نسبة الشر والسوء والظلم إليه، مع أنه _ سبحانه _ الخالق لكل شيء، فهو الخالق للعباد، وأفعالهم، وحركاتهم، وأقوالهم.
والعبد إذا فعل القبيحَ المنهي عنه كان قد فعل الشرَّ والسوء.
والرب _ سبحانه _ هو الذي جعله فاعلاً لذلك، وهذا الجعلُ منه عدل، وحكمةٌ، وصواب؛ فجعلُه فاعلاً خيرٌ، والمفعول شرٌّ قبيح؛ فهو _سبحانه_ بهذا الجعل قد وضع الشيء في موضعه؛ لما له في ذلك من الحكمة البالغة التي يحمد عليها؛ فهو خير وحكمة ومصلحة، وإن كان وقوعه من العبد عيباً ونقصاً وشراً+( ).
وبالجملة فإن الله _ تعالى _ لا ينسب إليه الشر؛ لأنه إذا أريد بالشر وضع الشيء في غير موضعه _ فهو الظلم، ومقابله العدل، والله منزه عن الظلم.
وإن أريد به الأذى اللاحق بالمحل بسبب ذنب ارتكبه _ فإيجاد الله للعقوبة على ذنب لا يعد شراً له؛ بل ذلك عدلٌ منه _ تعالى _.
وإن أريد به عدم الخير، وأسبابه الموصلة إليه فالعدم ليس فعلاً حتى ينسب إلى الله، وليس للعبد على الله أن يوفقه؛ فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، ومنع الفضل ليس بظلم ولا شر( ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =والله _ تعالى _ غني عن العباد، وإنما أمرهم بما ينفعهم، ونهاهم عما يضرهم؛ فهو محسن إلى عباده بالأمر لهم، محسن لهم بإعانتهم على الطاعة.
ولو قدِّر أن عالماً صالحاً أمر الناس بما ينفعهم، ثم أعان بعض الناس على فعل ما أمرهم به، ولم يعن آخرين لكان محسناً إلى هؤلاء إحساناً تاماً، ولم يكن ظالماً لمن لم يحسن إليه.
وإذا قدِّر أنه عاقب المذنب العقوبة التي يقتضيها عدله وحكمته _ لكان أيضاً محموداً على هذا وهذا.
وأين هذا من حكمة أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين؟!
فأمره لهم إرشادٌ وتعليم، وتعريف بالخير، فإن أعانهم على فعل المأمور كان قد أتم النعمة على المأمور، وهو مشكور على هذا وهذا.
وإن لم يُعِنْه وخذله حتى فعل الذنب كان له في ذلك حكمة أخرى+( ).
=مسألة+
هذه المسألة داخلة فيما مضى ذِكْره في المسألة الماضية.
وهي عبارة عن تساؤل مفاده:
إذا قيل: كيف يريد الله أمراً، وفي الوقت نفسه لا يرضاه ولا يحبه؟
وكيف يُجمع بين إرادته له وبغضه وكراهته؟
فالجواب أن يقال: إن المراد نوعان: مراد لنفسه، ومراد لغيره؛ فالمراد لنفسه محبوب لذاته وما فيه من الخير؛ فهو مرادٌ إرادةَ الغاياتِ والمقاصد.
والمراد لغيره قد لا يكون مقصوداً لما يريد، ولا فيه مصلحة بالنظر إلى ذاته _ أي المراد _ وإن كان وسيلةً إلى مقصوده؛ فهو مكروهٌ له من حيث نفسُه وذاته، مراد محبوب له من حيث قضاؤه إيصاله إلى مراده؛ فيجتمع الأمران: بغضه وإرادته ولا يتنافيان، فيُبْغَض من وجه، ويحب من وجه آخر.
وهذا أمر معلوم عند الخلق؛ فهذا الدواء الكريه الطعم والرائحة إذا علم الإنسان أن فيه شفاءه أبغضه من وجه، وأحبه من وجه آخر؛ فيكرهه من جهة تألمه به، ويحبه من جهة إفضائه إلى ما يحب.
وقُلْ مثل ذلك في العضو المتآكل إذا عُلِم أن في قطعه بقاءاً لحياته، وكقطع المسافة الطويلة الشاقة إذا علم أنها توصله إلى مراده ومحبوبه كالذي يقطع المفاوز والفيافي قاصداً البيت العتيق.
وهكذا يتبين لنا أن الشيء يجتمع فيه الأمران: بغض من وجه، وحبٌّ من وجه آخر، وأنهما لا يتنافيان، هذا في شأن المخلوق؛ فكيف بالخالق الذي لا تخفى عليه خافية، والذي له الحكمة البالغة؟
فهو _ سبحانه _ يكره الشيء، ولا يتنافى ذلك مع إرادته له لأجل غيره، وكونه سبباً إلى أمر محبوب( ).
وإليك هذا المثال الذي يوضح هذه المسألة، ألا وهو:
خلق إبليس والحكمة من ذلك:
الله _ عز وجل _ خلق إبليس الذي هو مادة الفساد التي تمد كل فساد في هذه الدنيا، في الأديان، والاعتقادات، والشهوات، والشبهات، وهو سبب لشقاوة العباد، وعَمَلِهم ما يغضب الله _ عز وجل _ وهو مع ذلك كله وسيلة إلى محابَّ كثيرةٍ، وحكم عظيمة.
إذا تقرر ذلك فهذه بعض الحكم التي تلمسها العلماء من خلق إبليس:
1_ أن يَظهر للعباد قدرةُ الرب _ تعالى _ على خلق المتضادات والمتقابلات: فخلق هذه الذات _ إبليس _ التي هي أخبث الذوات، وهي سبب كل شر، وخَلَق في مقابلها ذات جبريل التي هي من أشرف الذوات وأزكاها، والتي هي مادة كل خير، فتبارك من خلق هذا وهذا، كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار، والحر والبرد، والماء والنار، والداء والدواء، والموت والحياة، والحسن والقبيح، فالضد يظهر حسنه الضد، وهذا أدلُّ دليل على كمال قدرته، وعزته، وملكه، وسلطانه؛ فإنه خلق هذه المتضادات، وقابل بعضها ببعض، وسلط بعضها على بعض، وجعلها محل تصرفه، وتدبيره، وحكمته، فخلوُّ الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته، وكمال تصرفه، وتدبير مملكته( ).
2_ أن يُكَمِّلَ الله لأوليائه مراتب العبودية: وذلك بمجاهدة إبليس وحزبه، وإغاظته بالطاعة لله، والاستعاذة بالله منه، واللجوء إلى الله أن يعيذهم منه ومن كيده، فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية، والأخروية ما لا يحصل بدونه.
ثم إن المحبة، والإنابة، والتوكل، والصبر، والرضا، ونحوها أحب أنواع العبودية لله، وهذه إنما تتحقق بالجهاد، وبذل النفس، وتقديم محبته _ عز وجل _ على كل من سواه، فكان خلق إبليس سبباً لوجود هذه الأمور( ).
3_ حصول الابتلاء: ذلك أن إبليس خُلق ليكون محكَّاً يمتحن به الخلق؛ ليتبين به الخبيث من الطيب؛ فإن الله _ سبحانه _ خلق النوع الإنساني من الأرض، وفيها الطيب والخبيث؛ فلا بد أن يظهر فيهم ما هو من مادتهم( ).
4_ ظهور آثار أسمائه _ تعالى _ ومقتضياتها، ومتعلقاتها: فمن أسمائه: الرافع، الخافض، المعز، المذل، الحكم، العدل( ).
وهذه الأسماء تستدعي متعلقاتٍ يظهر فيها أحكامُها، فكان خلق إبليس سبباً لظهور آثار هذه الأسماء، فلو كان الخلق كلهم مطيعين، ومؤمنين لم تظهر آثار هذه الأسماء.
5_ استخراج ما في طبائع البشر من الخير والشر: فالطبيعة البشرية مشتملة على الخير والشر، والطيب والخبيث، وذلك كامن فيها كمون النار في الزناد، فَخُلق الشيطان مستخرجاً لما في طبائع أهل الشر من القوة إلى الفعل، وأرسلت الرسل تستخرج ما في طبيعة أهل الخير من القوة إلى الفعل؛ فاستخرج أحكم الحاكمين ما في هؤلاء من الخير الكامن فيها؛ ليترتب عليه آثاره، وما في أولئك من الشر؛ ليترتب عليه آثاره وتظهر حكمته في الفريقين، وينفذ حكمه فيهما، ويظهر ما كان معلوماً له، مطابقاً لعلمه السابق( ).
6_ ظهور كثير من آيات الله وعجائب صنعه: فلقد حصل بسبب وقوع الكفر والشر من النفوس الكفَّارة الظالمة ظهور كثير من الآيات والعجائب، كآية الطوفان، وآية الريح، وآية إهلاك ثمود وقوم لوط، وآية انقلاب النار على إبراهيم برداً وسلاماً، والآيات التي أجراها الله على يد موسى، وغير ذلك من الآيات؛ فلولا تقدير كفر الكافرين وجحد الجاحدين لما ظهرت هذه الآيات الباهرة التي يتحدث بها الناس جيلاً بعد جيل إلى الأبد.
أما كونه _ سبحانه وتعالى _ أنظر إبليس إلى يوم القيامة _ فليس ذلك إكراماً له بل إهانة له ليزداد إثماً، فتعظم عقوبته، ويتضاعف عذابه، إضافة إلى ذلك فالله جعله محكَّاً ليميز به الخبيث من الطيب _ كما سبق _ وما دام أن الخلق مستمر إلى يوم القيامة _ فإن هذا يقتضي بقاءه ببقاء خلق البشر، والله أعلم( ).
شرح البيتين [39 ــ 40]
39_ وأن ملاحيدَ الفلاسفةِ الأُلى
يقولون بالفعل( ) القديمِ بعلةِ( )
40_ بغوا علة في الكون( ) بعد انعدامه
فلم يجدوا ذاكم فضلوا بضلةِ
قوله: =ملاحيد+: قال الطوفي×: =جمع ملحد جمع تكسير.
وقياس جمعه: ملاحد بلا ياء، ولكن الياء قد تزاد لإقامة الوزن، أو للتعويض عن غاية، ويجوز أن تكون الغاية هنا جمع التصحيح؛ فتكون الياء عوضاً عنه+( ).
وقال: =ولم أعرف جمع ملحد على ملاحيد، أو ملحد في اللغة إلا أن يكون شيئاً لم أظفر به، أو يكون مولداً، أو اصطلاحياً عرفياً+( ).
قال ابن منظور( ) ×: =اللَّحد واللُّحد: الشق الذي يكون في جانب القبر موضع الميت؛ لأنه قد أميل عن وسطه إلى جانبه، وقيل: الذي يحفر في عرضه+( ).
وقال: =والجمع ألحاد، ولحود+( ).
والملحد: العادل عن الحق، والمدخل فيه ما ليس منه.
والإلحاد: هو الميل عن القصد، والعدول عن الشيء( ).
والإلحاد في الاصطلاح: هو الميل عما يجب اعتقاده أو عمله( ).
قوله: =الفلاسفة+: جمع فيلسوف، من الفلسفة، وهي كلمة يونانية معربة.
والفلسفة في أصلها الوضعي مركبة من كلمتين: فيلا، أوفيلو، ومعناها المحبة أو الإيثار.
والأخرى: سوفيس، أو سوفيا، ومعناها: الحكمة؛ فيكون معنى كلمة الفلسفة في الأصل الوضعي: محبة الحكمة، أو إيثار الحكمة، ويعرف الفيلسوف بأنه: محب الحكمة، أو المُؤْثِر للحكمة.( )
وقوله: =فضلوا بضلة+: يحتمل ثلاثة أوجه:
الأول: أن المعنى ضلوا ضَلَّةً، والمراد بها الضلال، وهو المصدر، لكن عبَّر عنه بفرد من أفراده؛ إذ الضَّلة هي المرة الواحدة من الضلال كالضربة، والركضة؛ فعلى هذا تكون الباء زائدة.
الوجه الثاني: أنه نبه بقوله: =فضلوا بضلة+ على أنهم ضلوا بضلال اكتسبوه، واستحدثوه، لا أنهم ضالون لذاتهم؛ فعلى هذا تكون الباء سببية.
الوجه الثالث: أن المراد فضلوا فقط؛ وإنما أتى بقوله: =بضلة+ زيادة يتم بها الشعر.
وهذا أضعف الوجوه؛ لأنه متى أمكن حمل اللفظ على محمل صحيح مفيد تعين، وامتنع أن يترك هملاً( ).
وفي هذا البيت يشير شيخ الإسلام × إلى ضلال الفلاسفة في تعليل أفعال الله _ عز وجل _.
وقبل الدخول في شرح البيت يحسن الوقوف على قول الفلاسفة في القدر عموماً؛ فعامة الفلاسفة يقولون: إنَّ الله فاعل العالم، وصانعه، والمشهور عنهم قولهم إنَّ الله يعلم الأشياء على وجه كلي ثابت لا يدخل تحت الزمان، وإنه لا يعلم الجزئيات التي تُوجب تجدد الإحاطة بها تغيراً في ذات العالم كما قال ذلك ابن سينا( ).
وإثبات العلم له على هذا الوجه يدل على الإيمان بسبق علمه _تعالى_ للحوادث، لإحاطة علمه بها.
ومع ذلك أنكروا علم الله _ تعالى _ بالجزئيات.
وحقيقة قولهم أنه لا يعلم شيئاً؛ فإن كل ما في الخارج هو جزئي( ).
ويكفي في بطلان ذلك قوله _ تعالى _: [وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ] الأنعام:59.
أما بالنسبة للجبر والاختيار فيختلف ذلك من فيلسوف إلى فيلسوف، فهذا أفلاطون( ) _ على سبيل المثال _ يرى أنَّ نسبة الشر تكون إلى الجهل وقلة المعرفة، ويرى أن الإنسان لا يختار الشر وهو يعرف، بل يُساق إليه بجهله، أو بعوارض المرض والفساد فيه.
ولكنه لا يُساق بتقدير الآلهة؛ لأنَّ الآلهة _ كما يرى _ خيرٌ لا يصدر عنها إلا الخير؛ فالشر موجود في هذا العالم ولكنه ليس من تقدير الآلهة.
أما أرسطو( ) فيرى أنْ لا قدر، ولا تقدير؛ فكلُّ إنسان حرٌّ فيما يختاره لنفسه؛ فإن لم يستطع أن يفعل فهو _ في الأقل _ مستطيع أن يمتنع.
وبالجملة فلفلاسفة اليونان غير أفلاطون وأرسطو مذاهب في القدر تتراوح بين مذهب الجبر ومذهب الحرية، وتتوسط بينهما في القول بالاضطرار، أو القول بالاختيار( ).
هذا هو خلاصة مذهب الفلاسفة في القدر.
أما البيتان السابقان فيبين فيهما شيخ الإسلام ابن تيمية × بطلان قول الفلاسفة في تعليل أفعال الله _ عز وجل _.
فهم ينفون تعليل أفعال الله بالأغراض والغايات؛ لأنهم ينفون عن الباري _ تعالى _ أن يكون مختاراً في أفعاله، ويقولون: هو موجب بالذات؛ فهم يسمون الباري _ تعالى _ عِلَّةً تامة، وقد صدر عنها معلولها من غير اختيار ولا إرادة كصدور شعاع الشمس عنها.
أما الحوادث الكونية، وما نشاهده من تعدد الآثار من وجود وعدم، وموت وحياة، وعلم وجهل، وصحة ومرض وغير ذلك فهي بواسطة العقل الفعال الذي هو العقل العاشر.
وقالوا: إن واجب الوجود بذاته واحد من جميع جهاته؛ فلا يجوز أن يصدر عنه إلا واحد، وهو العقل الأول الذي هو المعلول الأول للعلة التامة، وهو ممكن الوجود بالنظر إلى ذاته، وواجب الوجود بالنظر إلى الأول، أي واجب الوجود بالذات _ كما مر ذلك في شرح البيت الثالث والثلاثين _.
وبهذا يعلم أن الفلاسفة ينسبون مباشرة تدبير العالم إلى العقل الفعال الذي هو العقل العاشر.
كما أنهم ينفون أن يكون واجب الوجود مختاراً.
وبناءاً على هذا يستحيل أن يكون فعله لغرض، أو غاية.( )
ويعلل ابن سينا كونه _ تعالى _ لا يفعل لغاية بقوله: =فما أقبح ما يقال من أن الأمور العالية تحاول أن تفعل شيئاً لما تحتها؛ لأن ذلك أحسن بها، ولتكون فعَّالة للجميل، وأن ذلك من المحاسن، والأمور اللائقة بالأشياء الشريفة، وأن الأول الحق يفعل شيئاً لأجل شيء+( ).
ويقول ابن سينا في موضع آخر لبيان منع الغرض عن فعل الله: =والعالي لا يكون طالباً أمراً لأجل السافل حتى يكون ذلك جارياً منه مجرى الغرض؛ فإن ما هو غرض قد يتميز عند الاختيار من نقيضه، ويكون عند المختار أنه أولى وأوجب حتى إنه لو صح أن يقال فيه: إنه أولى في نفسه وأحسن، ثم لم يكن عند الفاعل أنَّ طلبه وإرادته أولى به وأحسن لم يكن غرضاً.
فإذاً الجواد والملك لا غرض له، والعالي لا غرض له في السافل+( ).
ومما تقدم يتضح أن الفلاسفة ينفون أن يكون للباري _ تعالى _ غاية وغرض في أفعاله؛ لأنه _ تعالى _ كامل بذاته، ومن يفعل لغاية فهو غير كامل بذاته، بل يكون مستكملاً بوجود تلك الغاية.
كما أن الفلاسفة ينفون أن يكون _ تعالى _ مختاراً في أفعاله، بل هو فاعل بالذات، أي تصدر عنه أفعاله على سبيل الإيجاب _ كما مر تقرير ذلك في شرح البيت الثالث والثلاثين _.
ولا يخفى وجه الفساد في هذا؛ فقد أجمع المسلمون على أن الله _تعالى_ يفعل بالاختيار والإرادة، وأن ذلك من كماله _تعالى_.( )
هذا وقد مر تقرير ذلك فيما مضى من شرح كثير من الأبيات.
ولما كان هذا شأن الفلاسفة حاروا، وتحيروا، واختلفوا...
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي × في شرح البيتين السابقين: =يعني أن ملاحدة الفلاسفة _المعطلين لله ولكتبه، ورسله، المكذبين لهم _ أوقعتهم عقولهم الفاسدة في الهلاك، حيث حكَّموها في البحث عن علة إيجاد هذا الكون؛ فلم تهتدِ لذلك؛ لقصورها وتقصيرها.
فزعم كثير منهم أن هذا العالم قديم، وأنه لم يزل ولا يزال.
وبذلك أنكروا وجود الرب العظيم، ومن باب أولى أنكروا رسله وكتبه، وتضاربت نظرياتهم الفاسدة؛ فضلوا، وأضلوا.
ولقد صدق عليهم قوله _ تعالى _: [فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون] (غافر:83).
ثم إن هؤلاء الفلاسفة الملاحدة _ في هذه الأوقات _ أبطلوا نظرية أسلافهم، وأحدثوا لهم نظريات متعددة متضاربة، مبنية على الخرص، والجهل المركب، ولم يزالوا في اضطراب.
وهذه حالة كل من ترك الحق، واستكبر عنه، وتاه بعقله.
قال _ تعالى _: [بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ] ق:5+( ).
شرح البيتين [41 ــ 42]
41_ وإن مبادي الشر في كل أمة
ذوي( ) ملة ميمونة نبويةِ
42_ بخوضهموا في ذاكُمُ صار شركهم
وجاء دروس البينات بفترةِ( )
قوله: =مبادي+: المبادي: جمع مبدا، وهو أول كل شيء، كالواحد مبدأ العدد.
وأصل جمعه الهمز (مبادئ) ولكنه قد يترك تخفيفاً ( ).
وأصلها أن يقال: وإن مباديَ بالنصب، لكنه سكن الياء للضرورة.
وقوله: =الشر+: ضد الخير، وهو المكروه الذي يُرغبُ عنه كما أن الخير هو الذي يُرغب فيه.
وقوله: =أمة+: الأمة تستعمل في اللغة على عدة وجوه:
أحدها: الجماعة من الناس، وهذا هو المقصود في البيت الماضي، ومنه قوله _تعالى_: [وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ]القصص: 23.
الثاني: الشرعة، والدين، والطريقة، ومنه قوله _ تعالى _: [إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ] الزخرف: 22.
الثالث: المدة الزمنية، ومنه قوله _ تعالى _: [وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ] يوسف: 45.
الرابع: الرجل الإمام الذي يكون فريد عصره، ونسيج وحده، ومنه قوله _ تعالى _: [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً] النحل: 120.
الخامس: القرن من الناس، يقال: قد مضت أمم: أي قرون.
السادس: الجيل، والجنس من كل حي، ومنه قوله _ تعالى _: [وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم]الأنعام:38.
السابع: القامة، ومنه قول الأعشى:
وإن معاوية الأكرميـ
ـن بيض الوجوه طوال الأُمم
أي طوال القامات.
الثامن: بمعنى الأم، ومن ذلك قول الشاعر:
تَقَبَّلْتها عن أُمة لك طالما
تنزع بالأسواق عنها خمارها
يريد عن أم لك، فألحقها هاء، ومنه قول قصي:
عِنْدَ تناديهم بهالٍ وَهَبي
أمَّهتي خِندفٌ وإلياس أبي( )
قوله: =ملة+: قال الراغب: =الملة كالدين، وهو اسم لما شرع الله _تعالى_ لعباده على لسان الأنبياء؛ ليتوصَّلوا به إلى جوار الله+( ).
قوله: =ميمونة+: أي مباركة من اليُمن: وهو البركة( ).
قوله: =نبوية+: أي منسوبة إلى الأنبياء، والنبي إما من النَّبْوة، وهو الارتفاع كأنه مفضل على سائر الناس برفع منزلته، أو الطريق فالنبي: الطريق؛ فكأنه هو الطريق الموصل إلى رضوان الله _ عز وجل _ أو من النبأ وهو الخبر الذي له خطب وشأن( ).
وقوله: =دروس+: من قولك: درس الشيء إذا انمحى، وعفا، وزال أثره.
قال ابن فارس ×: =الدال، والراء، والسين أصل واحد يدل على خفاء، وخفض، وعفاء؛ فالدَّرْس: الطريق الخفي، يقال: درس المنزل: عفا+( ).
وقوله: =الفترة+: الفترة _ كما يقول الراغب _: =سكون بعد حدة، ولين بعد شدة، وضعف بعد قوة، قال _ تعالى _: [يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ] المائدة: 19.
أي سكون حالٍ عن مجيء رسول الله+( ).
وتطلق الفترة على المدة التي بين نبيين، وتطلق على المدة التي شاع فيها الجهل، واضمحلت فيها آثار الرسالة( ).
ومعنى البيتين: أن ما تقدم من أن أصل الشر، وأوائله في كل أمة من الأمم السابقة المنتسبة إلى الأنبياء كاليهود والنصارى _ إنما كان بسبب تعنتهم، وخوضهم بالباطل، وكثرة اختلافهم على أنبيائهم، وسؤالهم عما لا طائل تحته، ولا عمل وراءه.
ومن أعظم ذلك خوضهم في أفعال الرب _ جل وعلا _ بالتعليل؛ فانحرفوا بذلك عن أديان الأنبياء، واتبعوا كل شيطان مريد، خصوصاً إذا وافق ذلك أزمنة تشبه الجاهلية من جهة انقطاع أنوار الرسالة، وانمحاء آثارها؛ فأفضى بهم ذلك إلى الشرك؛ لاتباعهم الأهواء، وعدم من يرشدهم إلى الصواب؛ فكل من أعرض عن الهدى ابتلي بالهوى، ووقع في الردى.
وكل من ترك الأمور النافعة وقع في الأمور الضارة، وكل من زهد بالحق وقع في الباطل، وهذا مطرد في كل زمان، ومكان، وأمة( ).
شرح البيت الثالث والأربعين
43_ ويكفيك نقضاً أن ما قد سألتَهُ
__
من العذر( )مردودٌ لدى كل فطرةِ
قوله: =نقضاً+: النقض إبداء العلة بدون المعلول.
و =العذر+: دَفْعُ العاقلِ اللائمةَ عن نفسه بأمرٍ ما.
و =الفِطْرة+: الخلقة، والمراد بها ههنا البديهة، وهي قوة يُدرك بها التصور، أو التصديق من غير نظر وكسب.
والبديهي يكفي في الجزم به مجرد تصور طرفيه، كاكتفائنا في الجزم بأن الكل أعظم من الجزء بتصور الكل، والجزء فقط( ).
ومعنى البيت: أنه يكفي نقضاً لمذهبك _ أيها السائل _ أن ما قد اعترضت به من الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي _ مردود باطل، وأن بطلانه مستقر في فطرة كل عاقل، وأنه يُدْرَكُ في البديهة دون نظر أو تأمل.
وههنا شروع في تسفيه رأي السائل، وتسخيف عقله، وتبيين وجوه المطاعن عليه، ومن أين دُهي هو ومن قال بمقالته.
شرح البيت الرابع والأربعين
44_ فأنت تعيب الطاعنين( )جميعهم
عليك وترميهم بكل مذمةِ
قوله: =تعيب+: أي تقع في الناس، وتقدح فيهم( ).
وقوله: =الطاعنين+: أصل المادة طعن، قال ابن فارس ×: =الطاء والعين أصل صحيح مطرد، وهو النّخْس في الشيء بما يُنْفِذُه، ثم يحمل عليه ويستعار.
ومن ذلك: الطعن بالرمح، ويقال: تطاعن القوم، وأطعنوا، وهم مطاعين في الحرب، ورجل طعان في أعراض الناس+( ).
فقوله: =تعيب الطاعنين+: أي تضيف إليهم العيب، والنقص.
والطاعنون في الشخص: العائبون له، والقادحون فيه( ).
وقوله: =مذمة+: من الذم، وهو نقيض المدح، وهو اللوم في الإساءة( ).
ومعنى البيت: أن مما يُرَدُّ به عليك أيها السائل، وينقض مذهبك أنك لا تعذر الذي يذمك ويظلمك، ويعيبك.
بل إنك تقابله بما يقابلك به من الذم، والظلم، والعيب حسب قدرتك.
فكيف تعذر نفسك إذا عصيت، وتحتج بالقدر، ولا تعذر من ذمك وظلمك، وعابك مع أن هذه الأمور واقعة بقدر الله؟
شرح البيت الخامس والأربعين
45_ وتَنْحل من والاك صَفْوَ مودةٍ
وتبغض من ناواك( ) من كل فرقة
قوله: =تنحل+: قال الطوفي ×: =مأخوذ من النِّحلة، وهي العطية بغير عوض، كالهبة+( ).
وقال الراغب الأصفهاني ×: =والنِّحلة: عطية على سبيل التبرع، وهو أخص من الهبة؛ إذ كل هبة نحلة، وليس كل نحلة هبة+( ).
قال: =واشتقاقه _فيما أرى_ من النَّحل؛ نظراً منه إلى فعله؛ فكأن: نَحَلْتُه: أعطيته عطية النَّحل، وذلك ما نبه عليه قوله: [وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ].
وبين الحكماء أن النحل يقع على الأشياء كلها فلا يضرها بوجهٍ، وينفع أعظم نفع؛ فإنه يعطي ما فيه الشفاء _ كما وصفه الله تعالى _+.( )
قوله: =والاك+ أي نصرك وأحبك.
وقوله: =ناواك+: أي عاداك( ).
وفي هذا البيت إلزام آخر، وهو أنك أيها المحتج بالقدر على المعاصي تعطي خالص المودة لمن نصرك وأحبك، وتمنح الشنآن كل من ناصبك العداء مع أن هذه الأمور كلها واقعة بالقدر.
شرح البيت السادس والأربعين
46_ وحالهم في كل قول وفعلة
كحالك _ يا هذا _ بأرجح حجة
أي أن حال أولئك فيما يقولون ويفعلون كحالك أيها السائل سواء بسواء، وذلك من جهة أنهم إنما يقومون بما يقومون به بقدر الله _عز وجل_.
فهل تعذرهم، وتعاملهم معاملة واحدة بحجة أن ذلك مقضي عليهم؟ أو تُراك تعاملهم بحسب ما يصدر منهم من خير أو شر، أو ملائم لك، أو غير ملائم؟
وهكذا يتضح أن المحتج بالقدر على المعاصي، مخالف للشرع، والعقل، والفطرة، وأنه مكابر، معاند، مستهزىء( ).
ثم أعاد شيخ الإسلام × هذه المعاني بذكر أمثلة توضح المقام؛ لكونه من أهم المهمات، فقال:
شرح الأبيات [47 ــ 64]
47_ وهَبْك كففتَ اللومَ عن كل كافرٍ
وكلِّ غويٍّ خارجٍ عن محجة
48_ فيلزمك الإعراضُ عن كل ظالمٍ
على( ) الناس في( ) نفس ومالٍ وحرمة
49_ فلا تَغْضَبَنْ( ) يوماً على سافك دماً
ولا سارقٍ مالاً لصاحب فاقة
50_ ولا شاتمٍ عِرْضاً مصوناً وإن علا
ولا ناكح فرجاً على وجه غية( )
51_ ولا قاطع للناس نهجَ سبيلِهم
ولا مفسد في الأرض من كل وجهة
52_ ولا شاهدٍ بالزور إفكاً وفريةً
ولا قاذف للمحصنات بزنية( )
53_ ولا مهلك للحرث والنسل عامداً
ولا حاكمٍ للعالمين برشوةِ
54_ وكُفَّ لسان اللوم عن كل مفسدٍ
ولا تأخذنْ ذا جرمةٍ( ) بعقوبةِ
55_ وسهِّل سبيل الكاذبين تعَمُّداً
على ربهم مِنْ كلِّ جاءٍ( ) بفريةِ
56_ وإن قصدوا إضلال من يستجيبهم( )
برومِ فسادِ النوع ثم الرياسةِ
57_ وجادل عن الملعونِ فرعونَ إذ طغى
فأُغْرِق( ) في اليم انتقاماً بغضبةِ( )
58_ وكلِّ كفورٍ مشركٍ بإلههِ
وآخرَ طاغٍ كافرٍ بنبوةِ
59_ كعادٍ ونمروذ( ) وقومٍ لصالح
وقوم لنوح ثم أصحاب الآيكةِ
60_ وخاصم لموسى ثم سائر من أتى
من الأنبياء محيياً للشريعة( )
61_ على كونهم قد جاهدوا الناس إذ بغوا( )
ونالوا من العاصي( ) بليغ( ) العقوبة
62_ وإلا فكلُّ الخلقِ في كلِّ لفظةٍ
ولحظةِ عينٍ أو تحرك شعرةِ( )
63_ وبطشة كفٍّ أو تخطي قُديمةٍ
وكلِّ حراكٍ بل وكل( ) سكينةِ
64_ هم تحت أقدار الإلهِ وحكمهِ
فما أنت( ) فيما قد أتيت بحجةِ
قوله: =هبك+: أي احْسِبْ وقدِّر( ).
وقوله: =اللوم+: اللوم: هو عذل الإنسان بنسبته إلى ما فيه لوم، يقال: لمته فهو ملوم، قال الله _ تعالى _: [فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ].
وقال: [فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ].
والتلاوم: أن يلوم بعضهم بعضاً، ويقال: رجل لُوَمَة: يلومُ الناس، ولُوْمة: يلومه الناس نحو سُخَرَه وسُخْرَه.
واللومة: الملامة، واللائمة الأمر الذي يلام عليه الإنسان( ).
قوله: =غوي+ من الغي، وهو ضد الرشد، والغي: جهل عن اعتقاد فاسد( ).
قال ابن فارس × في مادة =غوى+: =الغين والواو والحرف المعتل بعدهما: أصلان: أحدهما يدل على خلاف الرشد، وإظلام الأمر، والآخر على فساد في شيء.
فالأول: الغي وهو خلاف الرشد، والجهل في الأمر، والانهماك في الباطل، يقال غوَى يغوي غيَّاً قال:
فمن يلقَ خيراً يحمد الناس أمره
ومن يغوِ لا يعدم على الغي لائما
وذلك عندنا مشتق من الغياية وهي الغُبْرة والظلمة تغشيان، كأن ذا الغي قد غشيه ما لا يرى معه سبيلَ حقٍّ+( ).
وقوله: =محجة+: المحجة جادة الطريق مفعلة من الحج وهو القصد، والميم زائدة، وجمعها المحاجّ.( )
وقوله: =ظالماً+: اسم فاعل من الظلم، وهو وضع الشيء في غير موضعه.( )
وقوله: =مال+ أصل هذه المادة =مول+ قال ابن فارس ×: =الميم والواو واللام كلمة واحدة هي الرجل: اتخذ مالاً، ومال يَمَالُ: كثر مالُه+( ).
والمال: ما مَلَكْتَهُ من جميع الأشياء.
وسمي مالاً _ كما يقول الراغب _ لكونه مائلاً أبداً، وزائلاً، ولذلك سمي عَرَضاً( ).
أو لميله في الأيدي للتكسب به من يد إلى يد، ومن جهة إلى جهة( ).
وقوله: =حرمة+: من الحرام، وهو الممنوع منه إما بتسخير إلهي، وإما بمنع قهري، وإما بمنع من جهة العقل، أو من جهة الشرع، أو من جهة من يُرتسم أمره( ).
والحرمة ما لا يحل انتهاكه ( ).
وقوله =فاقة+: =الفاقة: الفقر والحاجة+( ).
وقوله =عِرضاً+: العِرْض بكسر العين، وسكون الراء موضع القدح من الإنسان.
وعِرض الرجل: حَسَبُه، وقيل: نفسه، وقيل: خليقته المحمودة، وقيل ما يمدح به ويذم، وقيل: جانبه الذي يصونه من نفسه، ويجامي عنه أن ينتقص ويثلب( ).
قوله: =مصوناً+ من الصَّوْن، وهو الحفظ، والوقاية( ).
قوله: =غَيَّة+: أي زَنْية، يقال: =هو لِغَيَّة: أي لزنية، وهو نقيض لِرَشْدَة+( ).
ومنه قول الشاعر:
ألا رب من يغتابني وكأنني
أبوه الذي يدعى إليه وينسب
على رَشْدة من أمره أو لِغَيَّةٍ
فيغلبها فحلٌ على النسل منجبُ( )
وقوله: =نهج+: =النهج الطريق الواضح+( ).
وقوله: =الزُّور+: قال ابن فارس × في مادة (زور): =الزاء والواو والراء أصل واحد يدل على الميل والعدول.
من ذلك: الزُّور: الكذب؛ لأنه مائل عن طريق الحق، ويقال: زوّر فلان الشيء تزويراً+( ).
وقوله: =إفكاً+: قال الراغب ×: =الإفك كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه+( ).
وقال ابن فارس × في مادة =أفك+: =الهمزة والفاء والكاف أصل واحد يدل على قلب الشيء وصرفه عن جهته، يُقال: أُفِك الشيء، وأَفَِك الرجل إذا كذب، والإفك: الكذب، وأفكت الرجل عن الشيء: إذا صرفته عنه.
قال الله _ تعالى _: [أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا].
وقال الشاعر:
إن تك عند أفضل الخليقة مأ
فوكاً ففي آخرين قد أفكوا
والمؤتفكات: الرياح التي تختلف مهابُّها+( ).
قوله: =وفرية+: قال ابن منظور ×: =الفرية: الكذب، فرى كذباً فرياً وافتراه: اختلقه، ورجل فريٌّ، ومِفرىً، وإنه لقبيح الفِرية+( ).
قوله: =زنية+: =الزنا وطء المرأة من غير عقد شرعي+( ).
قوله: =عامداً+: احترازاً من فعل ذلك خطأً.
قوله: =رشوة+: الرشوة: المحاباة، والوصلة إلى الحاجة بالمصانعة.
وأصله من الرِّشاء الذي يتوصل به إلى الماء.( )
والرشوة في الشرع: =أخذ مال على الحكم بغير حق+( ).
=وهو حرام على آخذه، والباذل له إلا إذا توصل به إلى استيفاء حقه، ولم يمكنه ذلك بدونه+( ).
=فالراشي: من يعطي الذي يعينه على الباطل، والمرتشي الآخذ، والرائش الذي يسعى بينهما يستزيد لهذا، ويستنقص لهذا.
فأما من يعطي؛ توصلاً إلى أخذ حق، أو دفع ظلم فغير داخل فيه+( ).
وقوله: =جاءٍ+: اسم فاعل من جاء يجيء، كشاءٍ من شاء.( )
وقوله: =يستجيبهم بروم+: أي يجيبهم، ويتابعهم بطلبهم الفساد، والإضلال.
قوله =طاغٍ+: اسم فاعل من الطغيان، وهو مجاوزة الحد في العصيان.( )
قال _ تعالى _: [إِنَّهُ طَغَى]، وقال _ عز وجل _: [إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى].
قوله =عاد+: هم قوم هود _ عليه السلام _.
قال الله _ عز وجل _: [وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً](الأعراف:65).
وقوله =نمرود+: هو نمرود بن كنعان صاحب إبراهيم _ عليه السلام _ الذي حاجه في ربه( ).
وقوله =أصحاب الآيكة+: هم قوم شعيب _ عليه السلام _.
وحذف همزة الأيكة للضرورة الشعرية.
وسموا أصحاب الأيكة لأنهم أهل شجر وغرس؛ فالأيكة _ إذاً _ اسم جنس لا اسم شخص( ).
قوله: =وخاصم لموسى+: أي خاصم موسى، واللام زائدة للضرورة.
قوله: =وإلا+: أي لم تفعل ما قلناه من الإنكار على كل من ذكرناه، وتمهيد عذر مَنْ ذُكِر من العصاة.
قوله: =فكل الخلق+: =أي أن كل الخلق في كل زمان ومكان، ولفظة، ولحظة عين، وتحرك شعرة، وبطشة كف، وتخطي قدم، وفي كل حركة وسكون _ هم تحت قدر الإله يجري عليهم حكمه بحيث لا يسعهم الاعتراض عليه.
وأنت _ أيضاً _ في احتجاجك وسؤالك الذي ذكرته مقدور عليك ذلك؛ إما لهدايتك إن اتبعت ما نقول، وإما لشقوتك إن استمريت على الشغب والعناد+( ).
قوله: =لفظة+: واللفظ يدل على طرح الشيء، وغالب ذلك أن يكون من الفم.
تقول: لفظ بالكلام يلفظ لفظاً، ولفظت الشيء من فمي.( )
قوله: =قُدَيمة+: تصغير قدم.
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي × في شرح هذه الأبيات:
=هذه الإلزامات التي ذكرها الشيخ _ يعني شيخ الإسلام _ في غاية الوضوح، يبطل كل واحد منها اعتذار المعتذرين بالأقدار.
ومثَّل بأمثلة كثيرة يعرفها كلُّ أحد؛ لأن كثرة الأمثلة توضح المعاني، وتصور المقالات القبيحة بأشنع صورة، ولأنه لو فرض أنه تأول من أُلزِم بها بعض هذه الأمثلة باحتمالات ضعيفة ـ لم يكن له سبيل إلى بقيتها.
فالشيخ يقول لهؤلاء المعارضين المعترضين بأقدار الله على المعاصي: يلزمكم أن تعرضوا عن كل ظالم للناس في دمائهم، وأعراضهم، وأموالهم؛ فلا تغضبوا على من سفك الدماء، وأخذ الأموال بالغصب والسرقة، ولا من شتم الأعراض، ولا على الزناة وقطاع الطريق والمفسدين في الأرض، ولا قاذفٍ أو شاهدٍ بالزور، ولا مَنْ سعى في الأرض؛ ليهلك الحرث والنسل، ولا على من حكم بالرشوة، وجار في حكمه.
بل يجب عندهم كف اللسان عن كل مفسد معتد على الخلق، بل عليك أن تسهل سبيل الكاذبين على ربهم، وتعتذر عنهم وإن سعوا في إضلال الناس.
بل وجادل عن أئمة الكفر كفرعون، وقارون، وهامان، وكل مشرك وكافر كعاد، وثمود، ونمرود، وقوم لوط، وأصحاب الأيكة وما أشبههم من الكفار المعاندين.
بل على قول هؤلاء ـ يعني المحتجين بالقدر ـ عليك أن تخاصم جميع الرسل والأنبياء؛ حيث جاهدوا الناس على الإيمان، وعاقبوا أهل الجرائم؛ لأن الخلق كلهم في جميع حركاتهم وسكناتهم ولفظاتهم ولحظاتهم تحت أقدار الله.
وهذا القول الفظيع الذي يفضي إلى هذه المكابرات، والمجاهرة بتكذيب الله ورسله وكتبه ـ حسبُ الناظرِ لهذا القول أن يتصور هذه اللوازم التي هي غاية المشاقة لله ولرسله، وفيها فساد الدين، والدنيا، والآخرة +.( )
شرح الأبيات [65 ــ 69]
65_ وَهَبْكَ رفعت اللومَ عن كل فاعلٍ
فعالَ( ) ردىً طرداً( ) لهذي المقيسةِ
66_ فهل يُمْكِننْ( ) رفعُ الملامِ جميعِهِ
عن الناس طُرَّاً عند كلِّ قبيحةِ
67_ وتركُ عقوبات الذين قد اعتدوا
وتركُ الورى الإنصافَ بين الرعيةِ
68_ فلا تُضمنَنْ( ) نفسٌ ومالٌ بمثلهِ
ولا يعقبن( ) عادٍ بمثل الجريمةِ
69_ وهل في عقول الناس أو في طباعهم
قبولٌ لقول النذل: ما وجه حيلتي
قوله: =ردى+: أي هلاك، وقوله: =طرداً+: أي متابعة.
وقوله: =المقيسة+: صفة لموصوف محذوف تقديره: النكتة، أو المسألة، أو الشبهة المقيسة.
وأصل مقيسة: مقيوسة، مفعولة من قاس يقيس، وقاس يقوس.
والمراد بالمقيسة ههنا: القياس، والطرد والعكس، وهو عبارة عن وجود شيء لوجود آخر، وانتفائه لانتفائه.
وقوله: =النذل+: أي الخسيس( ).
بعد أن ذكر شيخ الإسلام × جملة من الإلزامات التي لا محيد عنها انتقل إلى إلزامات أخرى، تدعم ما مضى، وتدحض حجة من احتج بالقدر على فعل المعاصي.
فيقـول × على سبيـل التنزل: لو فُرض، وقُـدر أنك ـ أيها السائل المعترض المحتج بالقدر على فعل المعاصي ـ عذرت كل ذي فعل قبيح بحجة أن ذلك بقدر الله ـ فهل يمكنك أن تطرد هذا الأمر في جميع الشؤون والأحوال؟
وأنْ تَعْذُرَ جميع الناس إذا أساؤوا في حق الله، أو في حقوق العباد؟
هل يمكنك أن تقول بترك عقوبات المعتدين، وترك العدل بين الرعايا، وتعطيل الحدود، وإلقاء الحبل على الغارب للمجرمين يعيثون في الأرض فساداً؛ فلا يضمن القاتل نفساً، ولا الغاصب مالاً بحجة أن ذلك واقع بقدر الله؟!
وهل يقبل هذا في العقول والفطر؟ أو أنها متظاهرة متفقة على بطلانه وزيفه؟!
وهل هذا القول إلا تلاعب، وتهكم صادر عن هوى محض؟!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين، وسائر أهل الملل، وسائر العقلاء؛ فإن هذا لو كان مقبولاً لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس، وأخذ الأموال، وسائر أنواع الفساد في الأرض، ويحتج بالقدر.
ونفس المحتج بالقدر إذا اعتدي عليه، واحتج المعتدي بالقدر لم يقبل منه، بل يتناقض، وتناقضُ القولِ يدل على فساده؛ فالاحتجاج بالقدر معلوم الفساد في بداية العقول+( ).
وبما أن هذا الأمر مما يعمّ به البلاء فهذا إيراد لبعض الأدلة الشرعية والعقلية، والواقعية التي يتضح من خلالها بطلان الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي أو ترك الطاعات( ).
1_ قال الله _ تعالى _: [سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ] الأنعام: 148، فهؤلاء المشركون احتجوا بالقدر على شركهم، ولو كان احتجاجهم مقبولاً صحيحاً ما أذاقهم الله بأسه( ).
ولهذا قال الله لهم:[هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا] أي هل عندكم دليل صحيح، فتخرجوه لنا؛ لننظر فيه، ونتدبره.
والمقصود من هذا التبكيت لهم؛ لأنه قد عَلِم أنه لا عِلْم عندهم يصلح للحجة، ويقوم به البرهان، ثم أوضح لهم أنهم ليسوا على شيء من العلم، وأنهم إنما يتبعون الظنون، التي هي محل الخطأ، ومكان الجهل( ).
2_ قال _ تعالى _: [رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ] النساء: 165.
فلو كان الاحتجاج بالقدر على المعاصي سائغاً لما كان هناك داعٍ لإرسال الرسل؛ فلم يبق للخلق على الله حجة بعد إرساله الرسل تترى يبينون للناس أمر دينهم، ومراضي ربهم( ).
3_ أن الله أمر العبد ونهاه، ولم يكلِّفه إلا ما يستطيع، قال_تعالى_: [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] التغابن: 16، وقال: [لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا] البقرة: 286.
ولو كان العبد مجبراً على الفعل لكان مكلَّفاً بما لا يستطيع الخلاص منه، وهذا باطل، ولذلك إذا وقعت منه المعصية بجهل، أو نسيان، أو إكراه _ فلا إثم عليه لأنه معذور.
4_ أن القدر سرٌّ مكتوم، لا يعلمه أحد من الخلق إلا بعد وقوعه، وإرادة العبد لما يفعله سابقة لفعله، فتكون إرادته للفعل غير مبنية على علمٍ بقدر الله، فادعاؤه أن الله قدَّر عليه كذا وكذا ادِّعاءٌ باطل؛ لأنه ادعاءٌ لعلم الغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله، فحجَّته إذاً داحضة؛ إذ لا حجة للمرء فيما لا يعلمه.
5_ أننا لو سلَّمنا للمحتج بالقدر على الذنوب لعطَّلنا الشرائع.
6_ لو كان الاحتجاج بالقدر _ على هذا النحو _ حجة لقُبل من إبليس الذي قال: [فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ] الأعراف:16.
7_ ولو كان حجة هؤلاء مقبولة _أيضاً_ لتساوى فرعون عدو الله، مع موسى كليم الله _عليه السلام_.
8_ الاحتجاج بالقدر على الذنوب والمعائب تصحيح لمذهب الكفار، وهذا لازم لهذا المحتج، لا ينفكّ عنه.
9_ ولو كان حجة لاحتجَّ به أهل النار، إذا عاينوها، وظنوا أنهم مواقعوها، كذلك إذا دخلوها، وبدأ توبيخهم وتقريعهم، هل يحتجون بالقدر على معاصيهم وكفرهم؟
الجواب: لا؛ بل إنهم يقولون كما قال _ عز وجل _ عنهم: [رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ] إبراهيم: 44، ويقولون: [رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا] المؤمنون: 106، وقالوا: [لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ] الملك: 10، وقالوا: [لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ] المدثر: 43، إلى غير ذلك مما يقولون.
ولو كان الاحتجاج بالقدر على المعاصي سائغاً لاحتجوا به؛ فهم بأمس الحاجة إلى ما ينقذهم من النار.
10_ ومما يردُّ هذا القول _أيضاً_ أننا نرى الإنسان يحرص على ما يلائمه في أمور دنياه حتى يدركه، ولا يعدل عنه إلى ما لا يلائمه ثم يحتج على عدوله بالقدر.
فلماذا يعدل عما ينفعه في أمور دينه إلى ما يضره ثم يحتج بالقدر؟!
وإليك مثالاً يوضح ذلك: لو أراد إنسان السفر إلى بلد، وهذا البلد له طريقان أحدهما آمن مطمئن، والآخر كله فوضى واضطراب، وقتل، وسلب، فأيهما سيسلك؟
لا شك أنه سيسلك الطريق الأول، فلماذا لا يسلك في أمر الآخرة طريق الجنة دون طريق النار؟
11_ ومما يمكن أن يرد به على هذا المحتج _بناء على مذهبه_ أن يقال له: لا تتزوج؛ فإن كان الله قد قضى لك بولد فسيأتيك، وإلا فلن، ولا تأكل ولا تشرب؛ فإن قدَّر الله لك شبعاً وريَّاً فسيكون، وإلا فلن، وإذا هاجمك سَبُعٌ ضَارٍ فلا تفر منه؛ فإن قدَّر الله لك النجاة فستنجو، وإن لم يقدرها لك فلن ينفعك الفرار، وإذا مرضت فلا تتداوَ؛ فإن قدَّر الله لك شفاءً شفيت، وإلا فلن ينفعك الدواء.
فهل سيوافقنا على هذا القول أم لا؟ إن وافقنا علِمْنا فساد عقله، وإن خالفنا علمنا فساد قوله، وبطلان حجته.
12_ المحتج بالقدر على المعاصي شبَّه نفسه بالمجانين، والصبيان؛ فهم غير مكلفين، ولا مؤاخذين، ولو عومل معاملتهم في أمور الدنيا لما رضي.
13_ لو قبلنا هذا الاحتجاج الباطل لما كان هناك حاجة للاستغفار، والتوبة، والدعاء، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
14_ لو كان القدر حجَّة على المعائب والذنوب لتعطلت مصالح الناس، ولعمَّت الفوضى، ولما كان هناك داعٍ للحدود، والتعزيرات، والجزاءات؛ لأن المسيء سيحتج بالقدر، ولما احتجنا لوضع عقوبات للظَلَمة، وقطَّاع الطرق، ولا إلى فتح المحاكم، ونصب القضاة؛ بحجة أن كل ما وقع إنما وقع بقدر الله، وهذا لا يقول به عاقل.
15_ أن هذا المحتج بالقدر الذي يقول: لا نؤاخذ؛ لأن الله كتب ذلك علينا؛ فكيف نؤاخذ بما كُتِبَ علينا؟
يُقال له: إننا لا نؤاخذ على الكتابة السابقة، إنما نؤاخذ بما فعلناه، وكسبناه، فلسنا مأمورين بما قدره الله لنا، أو كتبه علينا، وإنما نحن مأمورون بالقيام بما يأمرنا به؛ فهناك فرق بين ما أريد بنا، وما أريد منا، فما أراده الله بنا طواه عنا، وما أراده منه أمرنا بالقيام به.
ومما تجدر الإشارة إليه _ أن احتجاج كثير من هؤلاء ليس ناتجاً عن قناعة وإيمان، وإنما هو ناتج عن نوع هوى ومعاندة؛ ولهذا قال بعض العلماء فيمن هذا شأنه: =أنت عند الطاعة قدري؛ وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به+( ).
يعني أنه إذا فعل الطاعة نسب ذلك إلى نفسه، وأنكر أن يكون الله قدر ذلك له، وإذا فعل المعصية احتج بالقدر.
16_ أن يُقال لهؤلاء: إن الله _تعالى_ أعطاكم عقولاً كاملة، وأفهاماً وافية، وآذاناً سامعة، وعيوناً باصرة، وأقدركم على الخير والشر، وأزال الأعذار والموانع بالكلية عنكم؛ فإن شئتم ذهبتم إلى الخيرات، وإن شئتم ذهبتم إلى عمل المعاصي والمنكرات.
وهذه القدرة والمُكْنة معلومة بالضرورة، وزوالُ الموانعِ والعوائق معلوم الثبوت _أيضاً_ بالضرورة.
وإذا كان الأمر كذلك كان ادعاؤكم أنكم عاجزون عن الإيمان والطاعة دعوى باطلة؛ فثبت بذلك أنه ليس لكم على الله حجة، بل الحجة البالغة عليكم( ).
وبالجملة فإن الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي، أو ترك الطاعات احتجاج باطل في الشرع، والعقل، والواقع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية × عن المحتجين بالقدر: =هؤلاء القوم إذا أصروا على هذا الاعتقاد كانوا أكفر من اليهود والنصارى+( ).
الصورة الجائزة المسوغة للاحتجاج بالقدر:
يسوغ الاحتجاج بالقدر عند المصائب التي تحل بالإنسان كالفقر، والمرض، وفقد القريب، وتلف الزرع، وخسارة المال، وقتل الخطأ، ونحو ذلك؛ فهذا من تمام الرضا بالله ربَّاً، فالاحتجاج إنما يكون على المصائب، لا المعائب، =فالسعيد يستغفر من المعائب، ويصبر على المصائب، كما قال _ تعالى _:[فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ] غافر:55.
والشقي يجزع عند المصائب، ويحتج بالقدر على المعائب+( ).
ويوضح ذلك المثال الآتي: لو أن رجلاً قتل آخر عن طريق الخطأ، ثم لامه من لامه، واحتج القاتل بالقدر، لكان احتجاجه مقبولاً، ولا يمنع ذلك من أن يؤاخذ.
ولو قَتَلَ رجلٌ رجلاً عن طريق العمد، ثم قُرِّع القاتل، ووُبِّخ على ذلك، ثم احتج بالقدر لم يكن الاحتجاج منه مقبولاً؛ ولهذا حجَّ آدم موسى _ عليهما السلام _ كما في قوله "في محاجتهما: =احتج آدم موسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، ثم تلومني على أمر قد قدّر عليَّ قبل أن أخلق؟ فحجَّ آدم موسى+( ).
فآدم _ عليه السلام _ لم يحتج بالقدر على الذنب كما يظن ذلك بعض الطوائف، وموسى _ عليه السلام _ لم يلُمْ آدم على الذنب؛ لأنه يعلم أن آدم استغفر ربه وتاب، فاجتباه ربه، وتاب عليه، وهداه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
ولو أن موسى لام آدم على الذنب لأجابه: إنني أذنبت فتبت، فتاب الله عليَّ، ولقال له: أنت يا موسى _ أيضاً _ قتلت نفساً، وألقيت الألواح إلى غير ذلك، إنما احتج موسى بالمصيبة فحجَّه آدم بالقدر( ).
=فما قدر من المصائب يجب الاستسلام له؛ فإنه من تمام الرضا بالله ربَّاً، أما الذنوب فليس لأحد أن يُذنب، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب، فيتوب من المعائب، ويصبر على المصائب+( ).
وممن يسوغ له الاحتجاج بالقدر التائبُ من الذنب، فلو لامه أحد على ذنب تاب منه لساغ له أن يحتج بالقدر.
فلو قيل لأحد التائبين: لم فعلت كذا وكذا؟ ثم قال: هذا بقضاء الله وقدره، وأنا تبت واستغفرت، لقُبل منه ذلك الاحتجاج( ).
ثم إنه لا يسوغ لأحد أن يلوم التائب من الذنب؛ فالعبرة بكمال النهاية، لا بنقص البداية.
شرح البيتين [70 ــ 71]
70_ ويكفيك نقضاً ما بجسمِ ابنِ آدمٍ
صبيٍّ ومجنون وكلِّ بهيمةِ
71_ من الألم المقضيِّ من( ) غير حيلةِ
وفيما يشاء الله أكملُ حكمةِ
قوله: =صبي ومجنون+: بدل من ابن آدم، وقوله: =وكل بهيمة+: معطوف على ابن آدم.
والصبي: فعيل من صبا يصبو إذا مال؛ لأنه سريع الميل إلى اللهو، ولعدم كمال عقله.
والمجنون: مفعول من جَنّهُ الليلُ وأجنه: إذا ستره، والمجنون مَنْ تستَّر عقله، فلا يدرك المعقولات.
وهذه المادة (جن) تدور حول الستر، ومنه ما مضى، ومنه _ أيضاً _ الجنين لاستتاره، والجن لاستتارهم عن أعين الناس، والجنة لاستتار أرضها بظل شجرها.
وسمي الدرع جُنة، والتُّرس مِجَنّاً؛ لحصول الاستتار بهما من السلاح( ).
قوله: =من الألم+: من لبيان الجنس، والألم: الوجع الشديد.
وقوله: =المقضي+: المقدَّر.
وقوله: =من غير حيلة+: أي من غير أن يكون لمن أصيب به اختيار.
ومعنى البيتين: أنه يكفي إبطالاً لقولك أن يقال: إن الله ـ عز وجل ـ يقضي بحكمته البالغة الآلام على غير المكلفين من بني آدم كالصبيان والمجانين، أو من غير بني آدم كالبهائم؛ فهذه الآلام ملازمة؛ فلا تنفك الطبائع إلا أن تكون على هذه الصفة من حيث الصحة والمرض، والراحة والتعب، والعافية والألم بحسب ما يعرض لتلك الطبيعة من اعتدال وانحراف وقد يكون البلاء على بعضها دون بعض، وفي حال دون حال.
وقد يشتد ببعضها، وقد يخف على بعضها وهكذا؛ لما لِمُقَدِّرها ـ عز وجل ـ من الحكم التي تتقاصر الأذهان عن إدراكها على وجه التفصيل؛ ففي خلق الآلام والمصائب ـ عموماً ـ من الحكم العظيمة ما لا يخطر بالبال، تلك الحكم التي تنطق بفضل الله، وعدله، ورحمته؛ فمن وُفِّق لإدراكها ـ ولو على سبيل الإجمال ـ فهو على نور من ربه، ومن خذل ووكل إلى نفسه ولم يشهد تلك الحكم أوشك أن يكون مخاصماً لربه ـ عز وجل ـ.
قال ابن القيم ×: =فالآلام والمشاق إما إحسان ورحمة، وإما عدل وحكمة، وإما إصلاح وتهيئة لخير يحصل بعدها، وإما لدفع ألم هو أصعب منها، وإما لتولدها عن لذات ونعم يولِّدها عنها أمر لازم لتلك اللذات، وإما أن تكون من لوازم العدل، أو لوازم الفضل والإحسان؛ فتكون من لوازم الخير التي إن عُطِّلت ملزوماتها فات بتعطيلها خيرٌ أعظمُ من مفسدة تلك الآلام.
والشرع والقدر أعدلا شاهد بذلك؛ فكم في طلوع الشمس من ألم لمسافر وحاضر، وكم في نزول الغيث والثلوج من أذى كما سماه الله بقوله:[إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ ] النساء: 102.
وكم في هذا الحر والبرد والرياح من أذى موجب لأنواع من الآلام لصنوف الحيوانات.
وأعظم لذات الدنيا لذة الأكل والشرب والنكاح واللباس والرياسة، ومعظم آلام أهل الأرض أو كلها ناشئة عنها، ومتولدة منها.
بل الكمالات الإنسانية لا تنال إلا بالآلام والمشاق كالعلم، والشجاعة، والزهد، والعفة، والحلم، والمروءة، والصبر، والإحسان كما قال:
لولا المشقة ساد الناس كلهم
الجود يُفْقرُ والإقدام قتَّالُ
وإذا كانت الآلام أسباباً لِلَذَّاتٍ أعظم منها وأدوم ـ كان العقل يقضي باحتمالها+( ).
إلى أن قال ×: =وقد حجب الله _ سبحانه _ أعظم اللذات بأنواع المكاره، وجعله جسراً موصلاً إليها كما حجب أعظم الآلام بالشهوات واللذات، وجعلها جسراً موصلاً إليها.
ولهذا قالت العقلاء قاطبة: إن النعيم لا يدرك بالنعيم، وإن الراحة لا تنال بالراحة، وإن مَنْ آثر اللذات فاتته اللذات؛ فهذه الآلام والأمراض والمشاق من أعظم النعم؛ إذ هي أسباب النِّعم.
وما ينال الحيوانات غير المكلفة منها فمغمورٌ جداً بالنسبة إلى مصالحها ومنافعها كما ينالها من حر الصيف، وبرد الشتاء، وحبس المطر والثلج، وألم الحمل والولادة، والسعي في طلب أقواتها وغير ذلك.
ولكن لذاتها أضعافُ أضعافِ آلامها، وما ينالها من المنافع والخيرات أضعاف ما ينالها من الشرور والآلام؛ فسُنَّتُه في خلقه وأمره هي التي أوجبها كمالُ علمه وحكمته وعزته.
ولو اجتمعـت عقول العقلاء كلهم علـى أن يقترحوا أحسن منها لعجزوا عن ذلك، وقيل لكلٍّ منهم: ارجع بصر العقل فهل ترى من خلل؟
[ثُمَّ ارْجِع الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ] الملك:4، فتبارك الذي من كمال حكمته وقدرته أن أخرج الأضداد من أضدادها، والأشياء من خلافها؛ فأخرج الحي من الميت، والميت من الحي، والرطب من اليابس، واليابس من الرطب؛ فكذلك أنشأ اللذاتِ من الآلامِ، والآلامَ من اللذات؛ فأعظم اللذاتِ ثمراتُ الآلام ونتائجها، وأعظم الآلامِ ثمراتُ اللذات ونتائجها.
وبعدُ؛ فاللذةُ والسرورُ، والخيرُ والنعمُ، والعافيةُ والصحةُ والرحمةُ في هذه الدار المملوءة بالمحن والبلاء ـ أكثرُ من أضدادها بأضعافٍ مضاعفة؛ فأين آلام الحيوان من لذته؟ وأين سقمه من صحته؟ وأين جوعه وعطشه من شبعه وريِّه وتعبه من راحته؟! +( ).
هذا وفي الآلام والمصائب حكم عظيمة غير ما ذُكِرَ، وفيما يلي ذكرٌ لبعضها على سبيل الإيجاز؛ إذ المقام لا يتسع للتفصيل:
1_ استخراج عبودية الضراء وهي الصبر: قال _ تعالى _: [وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ] الأنبياء: 35.
فالابتلاء بالسراء والخير يحتاج إلى شكر، والابتلاء بالضراء والشر يحتاج إلى صبر.
وهذا لا يتم إلا بأن يقّلِّبَ الله الأحوال على العبد حتى يتبين صدق عبوديته لله _تعالى_.
قال ": =عجباً لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له+ ( ).
2_ طهارة القلب، والخلاص من الخصال القبيحة: ذلك أن الصحة قد تدعو إلى الأشر، والبطر، والإعجاب بالنفس، لما يتمتع به المرء من نشاط، وقوة، وهدوء بال، ونعيم عيش.
فإذا قُيِّد بالبلاء والمرض انكسرت نفسه، ورق قلبه، وتطهر من أدران الأخلاق الذميمة، والخصال القبيحة من كبر، وخيلاء، وعجب، وحسد، ونحوها، وحلَّ محلَّها الخضوعُ لله، والانكسار بين يديه، والتواضع لخلق الله، وترك الترفع عليهم.
قال المنبجي( ) ×: =وليعلم أهل المصائب أنه لولا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبد من أدواء الكبر، والعجب، والفرعنة، وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلاً وآجلاً؛ فمن رحمة أرحم الراحمين أن يتفقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب؛ تكون حمية له من هذه الأدواء، وحفظاً لصحة عبوديته، واستفراغاً للمواد الفاسدة، الرديئة، المهلكة؛ فسبحان من يرحم ببلائه، ويبتلي بنعمائه، كما قيل:
قد ينعم الله بالبلوى، وإن عظمت
ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
فلولا أنه _ سبحانه وتعالى _ يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا، وبغوا، وعتوا، وتجبروا في الأرض، وعاثوا فيها بالفساد؛ فإن من شيم النفوس إذا حصل لها أمر، ونهي، وصحة، وفراغ، وكلمة نافذة من غير زاجر شرعي يزجرها _ تمردت، وسعت في الأرض فساداً، مع علمهم بما فعل بمن قبلهم، فكيف لو حصل لهم مع ذلك إهمال؟
ولكن الله _ سبحانه وتعالى _ إذا أراد بعبده خيراً سقاه دواء الابتلاء والامتحان على قدر حاله، يستفرغ منه الأدوية المهلكة، حتى إذا هذبه، ونقاه، وصفَّاه أهَّلَه لأشرف مراتب الدنيا، وهي عبوديته، ورقاه أرفع ثواب الآخرة، وهي رؤيته+( ).
3_ تقوية المؤمن: ذلك أن في المصائب تدريباً للمؤمن، وامتحاناً لصبره، وتقوية لإيمانه.
4_ النظر إلى قهر الربوبية وذل العبودية: فإنه ليس لأحد مفر عن أمر الله، وقضائه، ولا محيد عن حكمه النافذ وابتلائه؛ فنحن عبيد الله، يتصرف فينا كما يشاؤه ويريده، ونحن إليه راجعون في جميع أمورنا، وإليه المصير يجمعنا لنشورنا.
5_ حصول الإخلاص في الدعاء، وصدق الإنابة في التوبة: ذلك أن المصائب تُشعر الإنسان بضعفه، وافتقاره الذاتي إلى ربه، فيبعثه ذلك إلى إخلاص الدعاء له، وشدة التضرُّع والاضطرار إليه، وصدق الإنابة في التوبة والرجوع إليه.
ولولا هذه النوازل لم يُرَ على باب اللجأ والمسكنة؛ فالله _ عز وجل _ علم من الخلق اشتغالهم عنه، فابتلاهم من خلال النعم بعوارض تدفعهم إلى بابه يستغيثون به؛ فهذا من النعم في طي البلاء، وإنما البلاء المحض ما يشغلك عن ربك.
قال سفيان بن عيينة ×: =ما يكره العبد خيرٌ له مما يحب؛ لأن ما يكرهه يهيجه للدعاء، وما يحبه يلهيه+( ).
6_ إيقاظ المبتلى من غفلته: فكم من مبتلى بفقد العافية حصلت له توبة شافية، وكم من مبتلى بفقد ماله انقطع إلى الله بحسن حاله، وكم من غافل عن نفسه، معرضٍ عن ربه أصابه بلاء فأيقظه من رقاده، ونبهه من غفلته، وبعثه لتفقد حاله مع ربه.
7_ معرفة قدر العافية: لأن الشيء لا يعرف إلا بضده، فيحصل بذلك الشكرُ الموجب للمزيد من النعم؛ لأن ما مَنَّ الله به من العافية أتم وأنعم، وأكثر وأعظم مما ابتلى وأسقم، ثم إن حصول العافية والنعمة بعد ألم ومشقة أعظم قدراً عند الإنسان.
8_ أن من الآلام ما قد يكون سبباً للصحة: فقد يصاب المرء بمرض ويكون سبباً للشفاء من مرض آخر، وقد يبتلى ببلية فيذهب لعلاجها فيكتشف أن به داءاً عضالاً لم يكتشف إلا بسبب هذا المرض الطارئ، قال أبو الطيب المتنبي:
لعلَّ عَتْبَك محمودٌ عواقِبُه
وربما صحت الأبدان بالعلل( )
قال ابن القيم ×: =وكثيراً ما تكون الآلام أسباباً للصحة لولا تلك الآلام لفاتت.
وهذا شأن أكبر أمراض البدن؛ فهذه الحمى فيها من المنافع للأبدان ما لا يعلمه إلا الله، وفيها من إذابة الفضلات، وإنضاج المواد الفَجَّة وإخراجها ما لا يصل إليه دواءٌ غيرها.
وكثير من الأمراض إذا عرض لصاحبها الحمى استبشر بها الطبيب+( ).
9_ حصول رحمة أهل البلاء: فالذي يبتلى بأمر ما _ يجد في نفسه رحمة لأهل البلاء، وهذه الرحمة موجبة لرحمة الله وجزيل العطاء؛ فمن رَحِمَ من في الأرض رَحِمَهُ من في السماء.
10_ حصول الصلاة من الله والرحمة والهداية: قال _تعالى_: [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ] البقرة: 155_157.
11_ حصول الأجر، وكتابة الحسنات وحط الخطيئات: قال ": =ما من شيء يصيب المؤمن، حتى الشوكةِ تصيبه، إلا كتب الله له بها حسنة، أو حُطت عنه بها خطيئة+ ( ).
قال بعض السلف: =لولا مصائب الدنيا لوردنا القيامة مفاليس+ ( ).
بل إن الأجر والثواب لا يختص به المبتلى فحسب، بل يتعداه إلى غيره؛ فالطبيب المسلم إذا عالج المريض واحتسب الأجر كتب له الأجر _بإذن الله_ فمن نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة.
وكذلك الذي يزور المريض المبتلى يكتب له الأجر، وكذلك من يقوم على رعايته.
12_ العلم بحقارة الدنيا وهوانها: فأدنى مصيبة تصيب الإنسان تعكر صفوه، وتنغص حياته، وتنسيه ملاذَّه، والكَيِّسُ الفَطِنُ لا يغتر بالدنيا، بل يجعلها مزرعة للآخرة.
13_ أن اختيار الله للعبد خير من اختيار العبد لنفسه: وهذا سر بديع، يحسن بالعبد أن يتفطن له؛ ذلك أن الله _ عز وجل _ أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين؛ فهو أعلم بمصالح عباده منهم، وهو أرحم بهم من أنفسهم ووالديهم.
وإذا أنزل بهم ما يكرهون كان خيراً لهم من ألا ينزل بهم؛ نظراً منه لهم، وإحساناً إليهم، ولطفاً بهم.
ولو مكنوا من الاختيار لأنفسهم لعجزوا عن القيام بمصالحهم، لكنه _عزوجل_ تولى تدبير أمورهم بموجب علمه، وعدله، وحكمته، ورحمته أحبوا أم كرهوا.
14_ أن الإنسان لا يعلم عاقبة أمره: فربما طلب ما لا تحمد عقباه، وربما كره ما ينفعه، والله _ عز وجل _ أعلم بعاقبة الأمر.
قال ابن القيم ×: =فقضاؤه للعبد المؤمن عطاء وإن كان في صورة المنع، ونعمة وإن كان في صورة محنة، وبلاؤه عافية وإن كان في صورة بلية.
ولكن لجهل العبد وظلمه لا يعد العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذ به في العاجل، وكان ملائماً لطبعه.
ولو رزق من المعرفة حظَّاً وافراً لعدَّ المنع نعمة، والبلاء رحمة، وتلذذ بالبلاء أكثر من لذته بالعافية، وتلذذ بالفقر أكثر من لذته بالغنى، وكان في حال القلة أعظم شكراً من حال الكثرة+( ).
15_ الدخول في زمرة المحبوبين لله _ عز وجل _: فالمبتلون من المؤمنين يدخلون في زمرة المحبوبين المُشَرَّفين بمحبة رب العالمين؛ فهو _سبحانه_ إذا أحب قوماً ابتلاهم، وقد جاء في السنة ما يشير إلى أن الابتلاء دليل محبة الله للعبد؛ حيث قال النبي ": =إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط+( ).
16_ أن المكروه قد يأتي بالمحبوب والعكس: فإذا صحت معرفة العبد بربه علم يقيناً أن المكروهات التي تصيبه، والمحن التي تنزل به أنها تحمل في طياتها ضروباً من المصالح والمنافع لا يحصيها علمه، ولا تحيط بها فكرته.
بل إن مصلحة العبد فيما يكره أعظم منها فيما يحب؛ فعامة مصالح النفوس في مكروهاتها، كما أن عامَّة مضارها وأسباب هلكتها في محبوباتها، قال _تعالى_: [فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً] النساء: 19.
وقال: [وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ] البقرة: 216.
فإذا علم العبد أن المكروه قد يأتي بالمحبوب، وأن المحبوب قد يأتي بالمكروه _ لم يأمن أن توافيه المضرة من جانب المسرة، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة( ).
شرح الأبيات [72 ــ 75]
72_ إذا كان في هذا له حكمةٌ فما
يُظن( ) بخلق الفعل ثم العقوبة
73_ فكيف( ) ومِنْ هذا عذاب مُولَّدٌ
عن الفعلِ فِعل العبد عند( ) الطبيعة
74_ كآكِلِ سمٍّ أوجب الموتَ أكلُه
وكلٌّ بتقديرٍ لرب البرية( )
75_ فَكُفْرُك يا هذا كسمٍّ أكلْتَهُ
وتعذيبُ نارٍ مثل( ) جرعةِ غصةِ
يقول الشيخ ×: إذا كانت الحكمة تقتضي أن أسباب الآلام إذا وجدت تولد عنها الآلام وترتب عليها الأسقام، كمن أكل سُمَّاً ترتب عليه الهلاك، أو ألقى نفسه في مهلكة ترتب عليه الموت ـ فكذلك كفرُ الكافرين، وإجرام المجرمين؛ فهي بمنزلة من أكل سماً، أو قذف نفسه في مهلكة، وذلك من جهة أنه لابد أن يترتب عليه آثاره؛ فإذا كنت ـ أيها المعترض ـ لا تعذر من أكل سماً، أو ألقى نفسه في مهلكة، وكنتُ تنسب هلاكه إلى عمله، وتلومه عليه ـ فكفرك كذلك، بل أبلغ في اللوم، وانتفاء العذر؛ لأن آكل السم، والملقيَ نفسه بالهلكة ربما يَعْرِضُ له بعضُ العوارض المانعة من الهلاك؛ بخلاف الكفر؛ فإن آثاره مترتبة عليه قطعاً إلا إذا رفعها بتوبة نصوح.( )
شرح البيتين [76 ــ 77]
76_ألست ترى في هذه الدار مَنْ جنى
يعاقب إما بالقضا أو بشرعة
77_ ولا عُذْرَ للجاني بتقدير خالقٍ
كذلك( ) في الأخرى بلا مَثْنَويَّةِ
قوله: =بلا مثنوية+: أي بلا إشكال، أو بلا فرق بينهما يستثنى( ).
يقول الشيخ × ملزماً هذا السائل المعترض: إن مما يؤيد ما مرَّ سابقاً أنك تشاهد في هذه الدنيا عقوباتِ الجناة المعتدين، وهذه العقوباتُ يراها الناس.
وهي إما عقوبـاتٌ قدرية ينزلها الله بالمجرمين كما أهلك الأمم السابقة بالعقوبات المتنوعة، وكما يشاهده من سبر أحوال الناس، وينظر فيما يجري لهم من العقوبات سواء كانت فردية، أو عامة.
وإما عقوبات شرعية كقتل القاتل المتعمد، وقطع السارق، وإقامة الحد على الزاني، وجلد الشارب للخمر ونحو ذلك.
فلا عذر ـ إذاً ـ لمن أساء، بل إنه مستوجب للعقوبة القدرية أو الشرعية، وربما يؤخرها الحلم.
قال ابن الجوزي ×: =فكل ظالم معاقب في العاجل قبل الآجل على ظلمه.
وكذلك كل مذنب ذنباً، وهو معنى قوله _تعالى_: [مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ] (النساء:123).
وربما رأى العاصي سلامة بدنه فظن أن لا عقوبة، وغفلته عما عوقب به عقوبة+( ).
وقال ×: =قد تبغت العقوبات، وقد يؤخرها الحلم، والعاقل من إذا فعل خطيئة بادرها بالتوبة+( ).
وهكذا الحال في الآخرة، فلابد من العقوبة ما لم يمنع من ذلك مانعٌ من موانع إنفاذ الوعيد.
فهل تقول ـ أيها المحتج بالقدر على المعاصي ـ: إن جميع هؤلاء الجناة قد ظلمهم الله؛ حيث أوقع بهم هذه العقوبات، وأحل بهم تلك المَـثُلات؟ فإذا قلت هذا فقد بلغت من عداوة الله ورسله مبلغاً عظيماً.
وإذا رجعت إلى الحق، وقلت: إن هذه العقوبات القدرية الشرعية هي عدل الله بين عباده، وهي حكمته التي وضَعَها موضعها وجعلها في محلها اللائق بها، وليس لهؤلاء الجناة المعاقبين عذر، بل[وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ] (الشورى: 30) ـ فإنك قد رجعت إلى الحق، وهديت إلى الصواب.( )
شرح البيت الثامن والسبعين
78_ وتقدير ربِّ الخلق للذنب موجِبٌ
لتقدير( ) عقبى الذنب إلا بتوبةِ
قوله: =للذنب+: الذنب في الأصل: الأخذ بذنب الشيء، يقال: أصبت ذنبه، ويستعمل في كل فعل يستوخم عقباه.
ولهذا يسمى الذنب تبعة؛ اعتباراً لما يحصل من عاقبته.
وجمع الذنب ذنوب، قال الله _ تعالى _: [فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ] (آل عمران: 11).
وقال: [وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ] (آل عمران: 135) إلى غير ذلك من الآيات( ).
والذنب: الإثم، والجرم، والمعصية، والجمع ذنوب، وذنوبات جمع الجمع( ).
يعني أن الله ـ عز وجل ـ قدَّر أن تكون الذنوب مُسبِّبةً لعواقبها الوخيمة، وعقوباتها الشرعية أو القدرية.
ولكن العقوبة قد تتخلف إذا وجد ثَمَّ مانع من موانع إنفاذ الوعيد؛ فالذنوب موجبة لدخول النار، وصاحبها متوعَّد بذلك إلا أن هناك أسباباً تندفع بها العقوبة، وينتفي بسببها الوعيد، ويزول موجب الذنوب.
وهذه الأسباب تسمى =موانع إنفاذ الوعيد+.
وهي عشرة أسباب عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية × في هذا البيت أهم تلك الموانع وأعظمها، ألا وهو التوبة.
وقد ذكر × تلك الموانع مفصلة ومجملة في مواضع من كتبه قال×: =وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن عقوبة الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة أسباب: أحدها: التوبة، وهذا متفق عليه بين المسلمين+( ).
ثم شرع × في ذكر باقي الموانع بالتفصيل.
وقال في موضع آخر: =والمؤمن إذا فعل سيئة فإن عقوبتها تندفع عنه بعشرة أسباب:
1_ أن يتوب فيتوب الله عليه؛ فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
2_ أو يستغفر، فيغفر الله له.
3_ أو يعمل حسناتٍ تمحوها؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات.
4_ أو يدعو له إخوانه المؤمنون، ويستغفرون له حياً وميتاً.
5_ أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما ينفعه الله به.
6_ أو يشفع فيه نبيه محمدٌ ".
7_ أو يبتليه الله ـ تعالى ـ في الدنيا بمصائب تكفَّر عنه.
8_ أو يبتليه في البرزخ بالصعقة، فيكفر بها عنه.
9_ أو يبتليه في عرصات القيامة من أهوالها بما يكفِّر عنه.
10_ أو يرحمه أرحم الراحمين.
فمن أخطأته هذه العشرة فلا يلومن إلا نفسه، كما قال _تعالى_ فيما يرويه عنه ـ رسول الله " =يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه+.( )( )
وقال في الاستقامة : =فإن الذنوب التي يُبتلى بها العبادُ يسقط عنهم عذابُها إما بتوبة تَجُبُّ ما قبلها، وإما باستغفار، وإما بحسنات ماحية يذهبن السيئات، وإما بدعاء المسلمين وشفاعتهم، أو بما يفعلونه له من البر، وإما بشفاعة النبي " وغيره فيه يوم القيامـة، وإما أن يكفِّر الله عنه خطاياه بما يصيبـه من المصائب+( ).
ومما يحسن التنبيه عليه ههنا أن التوبة وحدها هي التي يزول بها موجب الذنوب للمؤمن والكافر، أما باقي الموانع فهي خاصة بالمؤمن.
ونظراً لما للتوبة من المزية، ولكونها أعظم موانع إنفاذ الوعيد، ولارتباطها بكثير من مباحث الموضوع فهذا تفصيل لبعض الأمور فيها، وذلك من خلال المسألتين التاليتين:
المسألة الأولى: تعريف التوبة:
أولاً_ تعريف التوبة في اللغة: التوبة مصدر الفعل تاب، وأصل هذه المادة: التاء، والواو، والباء (توب).
وهي تدور حول معاني الرجوع، والعودة، والإنابة، والندم.
قال ابن فارس×في مادة (توب): =التاء، والواو، والباء كلمة واحدة تدل على الرجوع+.
يقال: تاب من ذنبه: أي رجع عنه، يتوب إلى الله توبةً، ومتاباً فهو تائب.
والتوب: التوبة، قال الله _تعالى_: [قَابِلِ التَّوْبِ] غافر: 3+( ).
وقال ابن منظور ×: =وتاب إلى الله يتوب توباً، وتوبة، ومتاباً: أناب، ورجع عن المعصية إلى الطاعة+( ).
والتوبة تكون من الله على العبد، ومن العبد إلى الله؛ فإذا كانت من الله عُدِّيت بعلى، وإذا كانت من العبد إلى الله عديت بإلى.
قال الله _تعالى_: [إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً] النساء:17.
وقال _عز وجل_: [وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] النور:31.
وقال _تعالى_: [وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً] الفرقان:71.
قال ابن منظور ×: =وتاب الله عليه: وفقه لها، ورجل تواب: تائب إلى الله، والله تواب: يتوب على عبده+( ).
وقال: =وقال أبو منصور: أصل تاب: عاد إلى الله، ورجع، وأناب، وتاب الله عليه: أي عاد عليه بالمغفرة+( ).
ثانياً_ تعريف التوبة في الشرع: عرفت التوبة إلى الله في الشرع بعدة تعريفات، والمدلول الشرعي للتوبة قريب من المدلول اللغوي، فمما عرفت به التوبة في الشرع ما يلي:
1_ قال أبو حامد الغزالي( )×: =قيل في حد التوبة أنه ذوبان الحشا لما سبق من الخطأ+( ).
ثم علق على هذا الحد فقال: =فإن هذا يعرض لمجرد الألم ولذلك قيل:
2_ =هو نار في القلب تلتهب، وصدع في الكبد لا ينشعب+( ).
3_ وقال: =وباعتبار معنى الترك قيل في حد التوبة: إنه خلع لباس الجفاء، ونشر بساط الوفاء+( ).
4_ وقال: ومن معانيها( ): =ترك المعاصي في الحال، والعزم على تركها في الاستقبال، وتدارك ما سبق من التقصير في سابق الأحوال+( ).
5_ وقال ابن القيم×في تعريف التوبة: =فحقيقة التوبة هي الندم على ما سلف منه في الماضي، والإقلاع عنه في الحال، والعزم على ألا يعاوده في المستقبل+( ).
6_ وقال _أيضاً_: =حقيقة التوبة الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يحب، وترك ما يكره؛ فهي رجوع من مكروه إلى محبوب؛ فالرجوع إلى المحبوب جزء مسماها، والرجوع عن المكروه الجزء الآخر+( ).
7_ وقال: =التوبة هي الرجوع مما يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه ظاهراً وباطناً+( ).
8_ وقال ابن حجر×: =والتوبة ترك الذنب على أحد الأوجه.
وفي الشرع: ترك الذنب؛ لقبحه، والندم على فعله، والعزم على عدم العود، وردُّ المظلمة إن كانت، أو طلب البراءة من صاحبها، وهي أبلغ وجوه الاعتذار+( ).
9_ ويمكن أن تعرف التوبة بأنها: ترك الذنب علماً بقبحه، وندماً على فعله، وعزماً على ألا يعود إليه إذا قدر، وتداركاً لما يمكن تداركه من الأعمال، وأداءاً لما ضيع من الفرائض؛ إخلاصاً لله، ورجاءاً لثوابه، وخوفاً من عقابه، وأن يكون ذلك قبل الغرغرة، وقبل طلوع الشمس من مغربها.
ومن خلال ما سبق يتبين لنا أن التوبة لابد أن يجتمع فيها الأمور التالية:
1_ الإقلاع عن الذنب.
2_ الندم على ما فات، والحد الأدنى من ذلك وجود أصل الندم، وأما قوة الندم وضعفه فبحسب قوة التوبة، وضعفها.
3_ العلم بقبح الذنب.
4_ العزم على ألا يعود.
5_ تدارك ما يمكن تداركه من رد المظالم ونحو ذلك
6_ أن تكون خالصة لله _عز وجل_ قال _تعالى_: [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] البينة: 5.
7_ أن تكون قبل الغرغرة، لما جاء عن ابن عمر _رضي الله عنهما_ عن النبي " قال: =إن الله _ تعالى _ يقبل توبة العبد ما لم يغرغر+( ).
وتقبل التوبة قبل الغرغره
كما أتى في الشرعة المطهرة( )
والغرغرة هي حشرجة الروح في الصدر، والمرادُ بذلك الاحتضارُ عندما يرى الملائكة، ويبدأ به السياق في الموت.
8_ أن تكون قبل طلوع الشمس من مغربها لما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة÷قال: قال النبي": =من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه+( ).
المسألة الثانية: من فضائل التوبة وأسرارها:
للتوبة فضائل جمة، وأسرار بديعة، وفوائد متعددة، فمن ذلك ما يلي( ):
1_ التوبة سبب للفلاح: قال _تعالى_: [وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] النور: 31.
قال ابن كثير ×: =أي افعلوا ما آمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الجليلة، واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة؛ فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهيا عنه+( ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا يتلذذ، ولا يسر، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن _ إلا بعبادة ربه، وحبه، والإنابة إليه.
ولو حصل له كل ما يتلذذ به من المخلوقات لم يطمئن، ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، من حيث هو معبوده، ومحبوبه، ومطلوبه.
وبذلك يحصل له الفرح، والسرور، واللذة، والنعمة، والسكون، والطمأنينة+( ).
2_ بالتوبة تكفر السيئات: فإذا تاب العبد توبة نصوحاً كفَّر الله بها جميع ذنوبه وخطاياه.
قال _تعالى_: [قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] الزمر:53.
وقال: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ] التحريم: 8.
3_ بالتوبة تبدل السيئات حسنات: فإذا حسنت التوبة بدَّل الله سيئات صاحبها حسنات، وذلك فضل من الله، وتكرم.
قال _تعالى_: [إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً] الفرقان: 70.
قال ابن القيم × في هذه الآية: =وهذا من أعظم البشارة للتائبين إذا اقترن بتوبتهم إيمان وعمل صالح، وهو حقيقة التوبة.
قال ابن عباس _ رضي الله عنهما _: =ما رأيت النبي"فرح بشيء قط فرحه بهذه الآية لما أنزلت، وفرحه بنزول: [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر] الفتح: 1_2( ).
قال ابن القيم×: =واختلفوا في صفة هذا التبديل، وهل هو في الدنيا أو في الآخرة؟ على قولين: فقال ابن عباس وأصحابه هو تبديلهم بقبائح أعمالهم محاسنها، فبدلهم بالشرك إيماناً، وبالزنا عفة وإحصاناً، وبالكذب صدقاً، وبالخيانة أمانة+.
فعلى هذا معنى الآية: أن صفاتِهم القبيحةَ، وأعمالَهم السيئة بُدِّلوا عوضها صفاتٍ جميلةً، وأعمالاً صالحة، كما يبدل المريض بالمرض صحة، والمبتلى ببلائه عافية.
وقال سعيد بن المسيب( ) وغيره من التابعين: =هو تبديل الله سيئاتهم التي عملوها بحسنات يوم القيامة، فيعطيهم مكان كل سيئة حسنة+( ).
ثم قال ابن القيم×بعد أن تكلم على القولين السابقين: =إذا علم هذا فزوال موجب الذنب وأثره تارة يكون بالتوبة النصوح وهي أقوى الأسباب، وتارة يكون باستيفاء الحق منه وتطهيره في النار؛ فإذا تطهر بالنار وزال أثر الوسخ والخبث عنه أعطي مكان كل سيئة حسنة، فإذا تطهر بالتوبة النصوح وزال عنه بها أثر وسخ الذنوب وخبثها كان أولى بأن يعطى مكان كل سيئة حسنة؛ لأن إزالة التوبة لهذا الوسخ والخبث أعظم من إزالة النار، وأحب إلى الله.
وإزالة النار بدل منها، وهي الأصل؛ فهي أولى بالتبديل مما بعد الدخول+.
وقال: =التائب قد بدل كل سيئة بندمه عليها حسنة؛ إذ هو توبة تلك السيئة، والندم توبة، والتوبة من كل ذنب حسنة؛ فصار كل ذنب عمله زائلاً بالتوبة التي حلت محله وهي حسنة؛ فصار له مكان كل سيئة حسنة بهذا الاعتبار؛ فتأمّلْه؛ فإنه من ألطف الوجوه.
وعلى هذا فقد تكون هذه الحسنة مساوية في القدر لتلك السيئة، وهذا من أسرار التوبة ولطائفها+( ).
4_ التوبة سبب للمتاع الحسن: قال _تعالى_: [وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ] هود: 3.
5_ التوبة سبب لنزول الأمطار، وزيادة القوة، والإمداد بالأموال والبنين: قال _تعالى_ على لسان هود _عليه السلام_: [وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ] هود: 52.
وقال _عز وجل_ على لسان نوح _عليه السلام_: [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً] نوح: 10_12.
هذا وسيأتي مزيد بيان لذلك عند الحديث عن الحكمة من خلق الذنوب.
شرح البيت التاسع والسبعين
79_ وما كان من جنس المتاب لرفعه
عواقبَ أفعالِ العبادِ الخبيثةِ
قوله: =جنس+: الجنس هو الضرب من كل شيء( ).
وقوله: =المتاب+: التوبة؛ فالتوبة مصدر الفعل تاب، وكذلك المتاب فهو مصدر كذلك( ).
وقوله: =عواقب+: آثار.
وقوله: =وأفعال العباد الخبيثة+: يعني بها: الذنوب والآثام.
يريد شيخ الإسلام × في هذا البيت أن يبين أن هناك أعمالاً أخرى هي من جنس التوبة في كونها تمنع إنفاذ الوعيد، وترفع العقوبة، وتزيل موجب الذنوب.
ثم مثَّل على ذلك ببعض موانع الوعيد التي مر ذكر لها في شرح البيت الماضي، فقال:
شرح البيت الثمانين
80_ كخيرٍ( ) به تُمحى( ) الذنوبُ ودعوةٍ
تُجاب من الجاني ورُبَّ شفاعة( )
قوله: =كخير+: أي كعمل خير، أو كفعل خير.
وقوله: =تمحى الذنوب+: أي يزول موجبها، وهو العذاب.
وقد أشار شيخ الإسلام × في هذا البيت إلى ثلاثة من موانع إنفاذ الوعيد وهي:
1_ الحسنات الماحية( )، أو الأعمال الصالحة المكفرة( )، وهي ما عناه بقوله: =كخيرٍ به تمحى الذنوب+.
قال الله _ عز وجل _: [إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ] (هود:114).
وقال النبي ": =إن الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر+( ).
وجاء في الصحيحين عن أبي هريرة ÷عن النبي ": =من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه+( ).
وعن أبي قتادة ÷ قال: =سئل رسول الله " عن صوم عرفة؟
قال: =يكفر السنة الماضية، والباقية+( ).
وعن أبي قتادة ÷ أن رسول الله " سئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: =يكفر السنة الماضية+( ).
وقال النبي ": =اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن+( ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية × في معرض حديث له عن موانع إنفاذ الوعيد بعد أن ذكر التوبة والاستغفار، قال:
=الثالث: الأعمال الصالحة المكفرة: إما الكفارات المقدرة، كما يكفر المجامع في رمضان، والمظاهر، والمرتكب لبعض محظورات الحج، أو تارك بعض واجباته، أو قاتل الصيد بالكفارات المقدرة، وهي أربعة أجناس: هدي، وعتق، وصدقة، وصيام.
وإما الكفارات المطلقة، كما قال حذيفة لعمر: فتنة الرجل في أهله وماله وولده يكفرها الصلاة، والصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
وقد دل على ذلك القرآن، والأحاديث الصحاح في التكفير بالصلوات الخمس، والجمعة، والصيام، والحج، وسائر الأعمال التي يقال فيها: من قال كذا، وعمل كذا، غفر له ما تقدم من ذنبه.
وهي كثيرة لمن تلقاها من السنن خصوصاً ما صنف في فضائل الأعمال+( ).*
2_ الدعاء، وسؤال الله المغفرة سواء كان من المذنب لنفسه، أو ما يبذله له إخوانه المسلمون، وهذا ما عناه بقوله: =ودعوة تجاب من الجاني+.
قال الله _تعالى_: [وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ](غافر:60).
وقال النبي ": =ينزل ربنا _ تبارك وتعالى _ كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له+( ).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية × في معرض حديث له عن بعض موانع إنفاذ الوعيد بعد أن ذكر التوبة: =الثاني: الاستغفار من غير توبة؛ فإن الله _ تعالى _ قد يغفر له؛ إجابة لدعائه وإن لم يتب؛ فإذا اجتمعت التوبة والاستغفار فهو الكمال+( ).
ومعنى ذلك أن موجب الذنوب وهو العذاب قد يزول بالاستغفار وإن كان صاحبه مصراً بقلبه؛ فالاستغفار دعاء كغيره من الأدعية، والدعاء قد يجاب إذا توافرت أسبابه، وقد لا يجاب إذا لم تتوافر؛ فلا يلزم _ إذاً _ أن يقترن الاستغفار بالتوبة؛ فكل واحد منهما مانع مستقل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =بل الاستغفار بدون التوبة ممكن واقع، وبَسْط هذا له موضع آخر؛ فإن هذا الاستغفار إذا كان مع التوبة مما يحكم به _ عامٌّ في كل تائب.
وإن لم يكن مع التوبة فيكون في حقِّ بعض المستغفرين الذين يحصل لهم عند الاستغفار من الخشية، والإنابة ما يمحو الذنوب كما في حديث البطاقة بأن قول: لا إله إلا الله ثقلت بتلك السيئات؛ لمَّا قالها بنوع من الصدق والإخلاص الذي يمحو السيئات.
وكما غفر للبغي بسقي الكلب، لِمَا حصل في قلبها إذ ذاك من الإيمان، وأمثال ذلك كثير+( ).
والأدلة على ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية × كثيرة، وقد مضى ذكر لشيء منها، ومن ذلك ما جاء عن أنس بن مالك ÷ قال: =سمعت رسول الله " يقول: =قال الله _ تعالى _: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة+( ).
قال ابن رجب × في شرح هذا الحديث: =السبب الثاني للمغفرة: الاستغفار ولو عظمت الذنوب، وبلغت الكثرة( ) عنان السماء، وهو السحاب، وقيل: ما انتهى إليه البصر منها+( ).
وقال: =ومجرد قول القائل: =اللهم اغفر لي+ طلب منه للمغفرة، ودعاء بها؛ فيكون حكمه كحكم سائر الدعاء؛ فإن شاء أجابه، وغَفَر لصاحبه لا سيما إذا خرج عن قلب منكسر بالذنب، أو صادف ساعة من ساعات الإجابة كالأسحار، وأدبار الصلوات+( ).
ومن الأدلة على ذلك ما جاء عن أبي هريرة ÷عن النبي"فيما يحكي عن ربه _عز وجل_ قال: =أذنب عبد ذنباً فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال _ تبارك وتعالى _: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له ربَّاً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أيْ ربّ اغفر لي ذنبي، فقال _تبارك وتعالى_: عبدي أذنب ذنباً، فعلم أن له ربَّاً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد، فأذنب، فقال: أيْ ربّ اغفر لي ذنبي، فقال _تبارك وتعالى_: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له ربَّاً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت؛ فقد غفرت لك+( ).
وهكذا يتبين أن الاستغفار مانع مستقل عن التوبة( ).
3_ الشفاعة؛ فهي من موانع إنفاذ الوعيد، وهي ما عناه بقوله: =ورُبَّ شفاعة+.
والشفاعة في اللغة: من الشفع، وهو ضد الوتر؛ لأن المشفوع له صار شِفعاً بالشافع.
وتعريفها عرفاً وشرعاً هو:
أ_ سؤال الشافع الخيرَ لغيره.
ب_ أو: توسط الشافع لغيره بجلب نفع أو دفع ضر.
ج_ أو: هي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم( ).
والناس في الشفاعة عى ثلاثة أقسام:
الأول: قسم غلا في إثباتها: وهم النصارى، والمشركون، وغلاة الصوفية، والقبوريون؛ حيث جعلوا شفاعة من يعظمونه عند الله يوم القيامة كشفاعته في الدنيا؛ حيث اعتقدوا أن هؤلاء المعظمين يشفعون استقلالاً.
الثاني: قسم أنكر الشفاعة: كالمعتزلة، والخوارج؛ حيث أنكروا شفاعة النبي " وغيره لأهل الكبائر، وقصروا الشفاعة على التائبين من المؤمنين؛ لأن إثبات الشفاعة للفساق ينافي مبدأ الوعيد في مذهبهم الباطل؛ فهم يرون وجوب إنفاذ الوعيد لمن استحقه، ولا يرون الشفاعة له من النبي " ولا من غيره.
الثالث: قسم توسط: وهم أهل السنة والجماعة؛ فلم ينفوا كل شفاعة، ولم يثبتوا كل شفاعة.
بل أثبتوا من الشفاعة ما دلَّ عليه الدليل من الكتاب والسنة، ونفوا منها ما نفاه الدليل؛ فالشفاعة المثبتة عندهم هي التي تطلب من الله _عز وجل_ وهي التي تكون للموحدين بعد إذن الله للشافع، ورضاه عن المشفوع له؛ فلا تطلب من غير الله، ولا تكون إلا بعد إذنه ورضاه.
فهذه الشفاعة يثبتها أهل السنة بأنواعها، بما في ذلك الشفاعة لأهل الكبائر.
أما الشفاعة المنفية عند أهل السنة فهي التي نفاها الشرع، وهي التي تطلب من غير الله استقلالاً، ولم تتوافر فيها شروط الشفاعة.
ومن خلال ما مضى تبين لنا أن الشفاعة نوعان:
إحداهما مثبتة: وهي التي توافرت فيها شروط الشفاعة.
والأخرى منفية: وهي التي لم تتوافر فيها تلك الشرط.
شروط الشفاعة: للشفاعة المثبتة شرطان، وهما:
1_ إذن الله للشافع، قال الله _ تعالى _: [مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ] (البقرة: 255).
2_ رضاه عن المشفوع له، قال _ تعالى _: [وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى] (الأنبياء: 28).
وبعضهم يزيد شرطين، وهما:
3_ قدرة الشافع على الشفاعة، كما قال _ تعالى _ في حق الشافع الذي يُطلب منه: [وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)] (الزخرف).
فَعُلم أن طلبها من الأموات طلب ممن لا يملكها.
4_ إسلام المشفوع له، قال _ تعالى _: [مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ] (غافر: 18).
والمراد بالظالمين هنا: الكافرون، ويستثنى منهم أبو طالب.
أنواع الشفاعة المثبتة:
قال الله _ تعالى _: [قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً] (الزمر: 44).
فهذه الآية تدل على أن للشفاعة أنواعاً متعددة، وفيما يلي ذكر لتلك الأنواع:
1_ الشفاعة الكبرى التي يتأخر عنها أولو العزم من الرسل، حتى تنتهي إلى النبي " فيقول: =أنا لها+ حين تهرع الخلائق إلى الأنبياء؛ ليشفعوا لهم عند ربهم؛ ليريحهم من مقامهم في الموقف، ويقضي بينهم.
وهذه الشفاعة خاصة بالنبي ".
2_ شفاعة النبي " لأهل الجنة بدخولها، وهذه _ أيضاً _ خاصة بالنبي".
3_ الشفاعة لقوم من العصاة من أمة محمد " قد استوجبوا النار، فيشفع لهم النبي " ألا يدخلوها.
وهذه للنبي " ولغيره من الملائكة، والمؤمنين.
4_ الشفاعة للعصاة من أهل التوحيد الذين يدخلون النار بذنوبهم بأن يخرجوا منها.
وهذه للنبي " وغيره.
5_ الشفاعة لقوم من أهل الجنة في زيادة ثوابهم، ورفع درجاتهم.
وهذه للنبي " وغيره.
6_ شفاعة النبي " لعمه أبي طالب بأن يخفف عنه من عذاب أهل النار، وهذه خاصة بالنبي ".
7_ شفاعة الأفراط لوالديهم المؤمنين.
8_ شفاعة الشهداء لذويهم من المؤمنين.
9_ شفاعة المؤمنين بعضهم لبعض( ).
شرح البيت الحادي والثمانين
81_ وقولُ حليف الشرِّ( ): إني مقدرٌ
عليَّ كقول الذئب( ): هذي طبيعتي
قوله: =حليف الشر+: الحليف الملازم للشيء، الذي لا يفارقه، مأخوذ من الحلف وهو اليمين، كأنه حلف ألا يفارقه.
ومنه قول العرب: فلان حليف لفلان، أي تحالفا أن يتعاضدا، ويتناصرا، ويتوارثا، ويلازم أحدهما صاحبه( ).
وقوله: =هذي طبيعتي+: أي ما جبلت عليه( ).
ومعنى البيت: أن قول المحتج بالقدر على الذنب: إني مقدر علي ذلك كقول الحيوان الشرير طبعاً كالذئب، وسائر السباع والهوام المؤذية كالحية، والعقرب: هذه طبيعتي التي جبلت عليها؛ فلا تلوموني.
فلو عُذر الحيوان المذكور بهذا لَعُذِرْتَ أنت كما قلت، لكنه لا يعذر، بل إنَّ مَنْ كان طبعه كذلك فإنه يقتل؛ اتقاءاً لشره؛ فإذاً أنت لا تعذر بقولك، بل تعذب على فعلك، وإن كان مقدراً عليك( ).
شرح البيت الثاني والثمانين
82_ وتقديره للفعل يجلب نقمةً( )
كتقديره الأشياءَ( ) طراً بعلةِ
قوله: =نقمةً+، جاء في الدرة البهية: =نعمة+.
والنقمة: هي العقوبة( ).
فعلى رواية: نقمة يكون معنى البيت أن تقدير الأفعال السيئة يترتب عليه شرور ومصائب وعقوبات، كسنته _عز وجل_ في تقدير الأمور كلها؛ حيث يترتب عليها ما يلائمها، كما مرَّ في شرح البيت السادس والسبعين، والسابع والسبعين، والثامن والسبعين.
وعلى رواية =نعمة+ يكون معنى البيت أن الله ـ عز وجل ـ إذا قدر شيئاً كان له في ذلك تمام الفضل والنعمة والحكمة؛ إذ هو ـ عز وجل ـ لا يقضي قضاءاً إلا وله الحكمة البالغة فيه، حتى الذنوب _كما سيأتي بيان ذلك مفصلاً_ بعد قليل.
شرح البيت الثالث والثمانين
83_ فهل( ) ينفعن عُذْرُ( ) الملوم بأنه( )
كذا طبعه أم هل يقال لعثرةِ
قوله: =يقال لعثرة+: معنى يقال ههنا من الإقالة: وهي الصَّفح، كما في قولهم: أقال الله فلاناً عثرته بمعنى صفح عنه( ).
والعثرة هي الزلة والكبوة( )فإقالة العثرة _إذاً_ هي غفر الذنب، والعفو عن الزلة( ).
ومعنى البيت أن يقال: هل ينفع الجاني المذنب إذا قال: هذا طبعي الذي لا أنفَكُّ عنه؟ وهل يقبل عذره، ويعفى عن زللـه وجرمه؟
شرح البيت الرابع والثمانين
84_ أم الذمُّ والتعذيب أوكد للذي
طبيعته فعل الشرور الشنيعة
قوله: =الشنيعة+: أي الفظيعة القبيحة( ).
أي أن الذم، واللوم، واستحقاق العذاب إنما هو لمن كانت طبيعته وقوته متوجهة إلى الشرور والمعاصي؛ إذ هو أغلظ جرماً، وأشد عقوبة ممن ألمَّ بجرم عارض، ولم يكن ذلك شراً متمكناً فيه؛ فاحتجاجك ـ أيها السائل ـ بأن طبعك كذا مؤكد لاستحقاقك اللوم.
قال الطوفي × في شرح الأبيات السابقة: =وتقرير مضمون الأبيات أن قول القائل: أنا مُقدَّر علي _ كقول الحيوان الشرير طبعاً كالذئب، وسائر السباع والهوام المؤذية كالحية والعقرب: هذي طبيعتي التي جبلت؛ فلو عُذر الحيوان المذكور بهذا لعذرتَ أنت _ كما قلتَ _.
لكنا اتفقنا على قتل ما هذا طبعه؛ اتقاءَ شره؛ فإذاً لا تعذر أنت بقولك، بل تعذب على فعلك وإن كان مقدوراً عليك، وأنت مجبول عليه، ولأن المطبوع على الشر أولى، وأحق بالذم والتعذيب؛ لكون شره طبيعياً جبلياً غريزياً لازماً لا مفارقاً؛ فاحتجاجك بأن طبعك كذا مؤكد لاستحقاقك اللوم.
واعلم أن هذا إلزام متين يقود ذا العقل السليم إلى الإذعان، والتسليم؛ لأن الحيوانات المؤذية لا قدرة لها على اكتساب طبيعة الشر، وإلا لألقت الحية سُمَّها، وصارت كما كانت في الجنة، بل طبعها الله على حمل السم قهراً، وأمر بقتلها، ولم يعذرها بقضائه عليها، وكذلك الكلام في عصاة العقلاء ولا فرق+( ).
مسألة: في الحكمة مِنْ خلق المعاصي وتقديرها:
قد مر بنا أن الله _ عز وجل _ له الحكمة البالغة فيما يقدره ويقضيه، كما مر ذكر لبعض الأمثلة الدالة على حكمة الله _ عز وجل _.
والحديث في هذا المبحث إنما هو إتمام لما مضى ذكره، وأفرد هاهنا لكثرة الشبهات حوله، ولقلة الحديث عنه، ولكونه مرتبطاً بكثير من مباحث هذا الكتاب؛ فهل هناك من حكم لخلق المعاصي وتقديرها؟
والجواب عن هذا الإشكال أن لخلق المعاصي وتقديرها حِكَماً عظيمة، وأسراراً بديعة، باهرة، ولكن الحديث عن ذلك قليل جداً.
قال الإمام ابن القيم ×: =وهذا باب عظيم من أبواب المعرفة قلَّ من استفتحه من الناس، وهو شهود الحكمة البالغة من قضاء السيئات وتقدير المعاصي.
وإنما استفتح الناس باب الحكم في الأوامر والنواهي، وخاضوا فيها، وأتوا بما وصلت إليه علومهم.
واستفتحوا _ أيضاً _ بابها في المخلوقات _ كما قدمناه _ وأتوا بما وصلت إليه قواهم.
وأما هذا الباب فكما رأيت كلامهم فيه، فقلَّ أن ترى لأحدهم ما يشفي، أو يلم.
وكيف يطَّلع على حكمة هذا الباب من عنده أن أعمال العباد ليست مخلوقة لله ولا داخلة تحت مشيئته أصلاً؟ وكيف يتطلب لها حكمة، أو يثبتها، أم كيف يطلع من يقول: هي خلق الله، ولكن أفعاله غير معللة بالحكم؟+( ).
إلى أن قال: =والمقصود أن مشاهدة حكمة الله في أقضيته وأقداره التي يجريها على عباده باختياراتهم وإراداتهم هي ألطف ما تكلم فيه الناس، وأدقُّه، وأغمضه، وفي ذلك حِكَمٌ لا يعلمها إلا الحكيم العليم _سبحانه_ ونحن نشير إلى بعضها+( ).
ثم شرع × في ذكر العديد من الحكم في هذا الشأن، فمن الحكم من خلق المعاصي وتقديرها ما يلي( ):
1_ أن الله يحب التوابين: حتى إنه ليفرح بتوبة أحدهم أعظم من فرح الواحد براحلته التي عليها طعامه، وشرابه في الأرض الدوية المهلكة إذا فقدها وأيس منها.
وليس من أنواع الفرح أكمل وأعظم من هذا الفرح؛ فالله _عز وجل_ يقضي على عبده بالذنب، ثم إن كان ممن سبقت له الحسنى قضى له بالتوبة، وإن كان ممن غلبت عليه الشقاوة أقام عليه حجة عدله، وعاقبه بذنبه.
قال ": =لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة، ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومةً، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله.
قال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومةً، ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده+( ).
قال ابن القيم × تعليقاً على هذا الحديث: =ولم يجىء هذا الفرح في شيء من الطاعات سوى التوبة، ومعلوم أن لهذا الفرح تأثيراً عظيماً في حال التائب وقلبِه، ومزيدُه لا يُعبَّر عنه.
وهو من أسرار تقدير الذنوب على العباد؛ فإن العبد ينال بالتوبة درجة المحبوبية، فيصير حبيباً لله؛ فإن الله يحب التوابين، ويحب العبد المفتن التواب+( ).
2_ أن الله _ عز وجل _ يحب أن يتفضل على عباده: ويتم نعمه عليهم، ويريهم مواقع بره وكرمه؛ فلذلك ينوعه عليهم أعظم الأنواع في سائر الوجوه الظاهرة والباطنة.
ومن أعظم ذلك أن يحسن إلى من أساء، ويعفو عمن ظلم، ويغفر لمن أذنب، ويتوب على من تاب إليه، ويقبل عذر من اعتذر إليه.
وقد ندب عباده إلى هذه الشيم الفاضلة، والأفعال الحميدة، وهو أولى بها منهم وأحق، وكان في تقدير أسبابها من الحكم والعواقب الحميدة ما يبهر العقول.
هذا ولو شاء الله ألا يُعصى في الأرض طرفة عين لم يُعْصَ، ولكن اقتضت مشيئته ما هو موجب حكمته _ سبحانه _( ).
3_ أن يعرف العبد حاجته إلى حفظ الله له، ومعونته، وصيانته: وأنه كالوليد في حاجته إلى من يحفظه؛ فإنه إن لم يحفظه مولاه، ويصونَه، ويعينه فهو هالك ولابد( ).
قال ابن القيم ×:=وقد مدَّت الشياطين أيديها إلى العبد من كل جانب، تريد تمزيق حاله كله، وإفساد شأنه كله، وأن مولاه إن وكله إلى نفسه وكله إلى ضيعة وعجز وذنب وخطيئة وتفريط؛ فهلاكه أدنى إليه من شراك نعله؛ فقد أجمع العلماء بالله على أن التوفيق ألا يكل اللهُ العبدَ إلى نفسه، وأجمعوا على أن الخذلان أن يخلي بينه وبين نفسه+( ).
4_ استجلاب العبوديات المتنوعة من العبد إذا أذنب: من استعاذة، واستعانة، ودعاء، وتضرع، مما هو من أعظم أسباب سعادته وفلاحه؛ فيحصل للروح بذلك قرب خاص لم يكن يحصل بدون هذه الأسباب، ويجد العبد نفسه كأنه ملقى على باب مولاه بعد أن كان نائياً عنه؛ فهو لا يرى نفسه إلا مسيئاً، ولا يرى ربَّه إلا محسناً، قد كسر إزراؤه على نفسه قلبَه، وذلل لسانُه جوارحَه؛ فلو لم يكن من ثمرات ذلك القضاء والقدر إلا هذا لكفى به حكمة وكفى( ).
5_ استخراج تمام العبودية: وذلك بتكميل مقام الذل والانقياد؛ فأكمل الخلق عبودية أكملهم ذلاً لله، وانقياداً، وطاعة( ).
6_ أن يعرف العبد حقيقة نفسه: وأنها الظالمة الجهول، وأن ما صدر منها من شر فقد صدر من أهله ومعدنه؛ إذ الجهل والظلم منبع الشر كله، وأن كل ما فيها من خير، وعلم، وهدى، وإنابة، وتقوى فهو من ربها الذي زكاها به، وأعطاها إياه.
فإذا ابتلي العبد بالذنب عرف نفسه، ونَقْصَها؛ فَرُتِّبَ له على ذلك حِكَمٌ ومصالح عديدة، منها أن يأنف نقصها، ويجتهد في كمالها، ومنها أن يعلم فقرها إلى من يتولاها ويحفظها( ).
7_ تعريف العبد بكرم الله، وستره، وسعة حلمه: وأنه لو شاء لعاجله على الذنب، ولهتك ستره بين العباد، فلم يَطِبْ له عيشٌ معهم أبداً.
ولكنه _ عز وجل _ جلَّله بستره، وغشاه بحلمه، وقيَّض له من يحفظه وهو في حالته هذه، بل كان شاهداً عليه وهو يبارزه بالمعاصي والآثام، ومع ذلك يحرسه بعينه التي لا تنام( ).
8_ تعريف العبد بكرم الله في قبول التوبة: فلا سبيل إلى النجاة إلا بعفو الله وكرمه ومغفرته، فهو الذي جاد عليه بأن وفقه للتوبة، وألهمه إياها، ثم قبلها منه، فتاب عليه أولاً وآخراً( ).
9_ إقامة الحجة على العبد: فإذا أصابه ما أصابه فلا يقل: من أين أُتيت، ولا بأي ذنب أُصبت؛ فما أصاب العبد من مصيبة قط دقيقة أو جليلة إلا بما كسبت يده، وما يعفو الله أكثر( ).
10_ أن يعامل العبد بني جنسه بما يحب أن يعامله الله به: فيعامل بني جنسه في زلاتهم وإساءاتهم بما يحب أن يعامله الله في إساءته، وزلاته، وذنوبه؛ فإن الجزاء من جنس العمل، فمن عفى عفى الله عنه، ومن سامح أخاه سامحه الله، ومن استقصى استقصى الله عليه، وهكذا. . .
ثم إذا علم أن الذنوب والإساءة لازمة للإنسان لم تعظم عنده إساءة الناس إليه؛ فليتأمل حاله مع ربه، كيف هو مع فرط إحسانه إليه، وحاجته هو إلى ربه، وهو هكذا له؛ فإذا كان العبد هكذا لربه فكيف ينكر أن يكون الناس له بتلك المنزلة؟( )
11_ إقامة المعاذير للخلائق: فإذا أذنب العبد أقام المعاذير للخلائق، واتسعت رَحمته لهم، واستراح من الضيق والحصر، وأَكْلِ بعضه بعضاً، واستراح العصاة من دعائه عليهم، وقنوطه من هدايتهم؛ فإنه إذا أذنب رأى نفسه واحداً منهم، فهو يسأل الله لهم المغفرة، ويرجو لهم ما يرجوه لنفسه، ويخاف عليهم ما يخافه على نفسه.
ومع هذا فيقيم أمر الله فيهم؛ طاعةً لله، ورحمةً بهم، وإحساناً إليهم؛ إذ هو عين مصلحتهم، لا غلظة، ولا قوة، ولا فظاظة( ).
12_ أن يخلع العبد صولة الطاعة من قلبه: وينزع داء الكبر والعظمة الذي ليس له، ويلبس رداء الذل، والانكسار، والفقر والفاقة؛ فلو دامت تلك الصولة والعزة في قلبه لخيف عليه مما هو أعظم الآفات؛ فكم بين آثار العجب والكبر وصولة الطاعة، وبين آثار الذلة والمسكنة والانكسار؟( )
قال ابن القيم ×:=وأكثر الناس من المتنزهين عن الكبائر الحسية والقاذورات _ في كبائر مثلها أو أعظم منها أو دونها، ولا يخطر بقلوبهم أنها ذنوب ليتوبوا منها؛ فعندهم من الإزراء على أهل الكبائر واحتقارهم وصولة طاعتهم، ومنَّتهم على الخلق بلسان الحال، واقتضاء بواطنهم لتعظيم الخلق لهم على طاعتهم اقتضاءاً لا يخفى على أحد غيرهم، وتوابع ذلك ما هو أبغض إلى الله، وأبعد لهم عن بابه من كبائر أولئك؛ فإن تدارك الله أحدهم بقاذورة أو كبيرة يوقعه فيها؛ ليكسِر بها نفسه، ويعرفه قدره، ويُذله بها، ويخرج بها صَوْلة الطاعة من قلبه _ فهي رحمة في حقه، كما أنه إذا تدارك أصحاب الكبائر بتوبة نصوح، وإقبال بقلوبهم إليه _ فهو رحمة في حقهم، وإلا فكلاهما على خطر+( ).
ثم إن التذلل والانكسار والخضوع لب العبودية؛ إذ هذه الأعمال القلبية أحب إلى الله من كثير من الأعمال الظاهرة، وحصول ذلك للمذنب التائب أكمل له من غيره؛ فإنه قد شارك من لم يُذنب في ذل الفقر والعبودية والمحبة، وامتاز عنه بانكسار قلبه.
وقد جاء في الأثر الإسرائلي: =يا رب أين أجدك؟
قال: عند المنكسرة قلوبهم من أجلي+( ).
ولأجل هذا كان =أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد+( ).
لأنه مقام ذل وانكسار بين يدي ربه.
ولعل هذا هو السر في استجابة دعوة المظلوم، والمسافر، والصائم؛ للكسرة في قلب كل واحد منهم؛ فإن لوعة المظلوم تُحْدِثُ عنده كسرة في قلبه، وكذلك المسافر في غربته يجد كسرة في قلبه، وكذلك الصوم، فإنه يكسر سورة النفس السَّبُعية الحيوانية.
13_ هياج العبوديات القلبية وانبعاثها: ذلك أن لله على القلوب أنواعاً من العبودية، من الخوف، والخشية، والإشفاق، والوجل، وتوابعها من المحبة، والإنابة، وابتغاء الوسيلة وتوابعها.
وهذه العبوديات لها أسباب تهيجها وتبعث عليها؛ وكلما قيَّض الرب _تعالى_ لعبده من الأسباب الباعثة على ذلك، المهيجة له فهو من أسباب رحمته، ورُبَّ ذنب قد هاج لصاحبه من الخوف، والإشفاق، والوجل، والإنابة، والمحبة، والفرار إلى الله ما لا يهيجه كثير من الطاعات، وكم من ذنب كان سبباً لاستقامة العبد، وفراره إلى الله، وبعده عن طريق الغي( ).
14_ أن يعرف العبد نعمة معافاة الله وفضله، وتوفيقه له، وحفظه إياه: فإن من تربى في العافية لا يعلم ما يقاسيه المبتلى، ولا يعرف مقدار العافية؛ فلو عرف أهل الطاعة أنهم هم المنعم عليهم في الحقيقة لعلموا أن لله عليهم من الشكر أضعاف ما على غيرهم وإنْ توسَّدوا التراب، ومضغوا الحصى، فهم أهل النعمة المطلقة، وأنَّ من خلَّى الله بينه وبين معاصيه فقد سقط من عينه، وهان عليه.
فإذا طالبت العبدَ نَفْسُه بما تطالبه من الحظوظ والأقسام، وأَرَتْهُ أنه في بلية وضائقة تداركه الله برحمته، وابتلاه ببعض الذنوب، فرأى ما كان فيه من المعافاة والنعمة، وأنه لا نسبة لما كان فيه من النعم إلى ما طلبته نفسه من الحظوظ، فحينئذٍ يكون أكثر أمانيه وآماله العودَ إلى حاله، وأن يمتعه الله بعافيته( ).
15_ أن التوبة توجب للتائب آثاراً عجيبة من المقامات التي لا تحصل بدونها: فتوجب له المحبة، والرقة، واللطف، وشكر الله، وحمده، والرضا عنه، فَرُتِّبَ له على ذلك أنواع من النعم لا يهتدي العبد لتفاصيلها، بل لا يزال يتقلب في بركتها، وآثارها ما لم ينقضها، أو يفسدها( ).
16_ استكثار القليل من النعم: فإذا شهد العبد ذنوبه، ومعاصيه، وتفريطه في حق ربه استكثر القليل من نعم ربه عليه _ ولا قليل منه _ لعلمه أن الواصل إليه منها كثير على مسيء مثله، واستقل الكثير من عمله؛ لعلمه أن الذي ينبغي أن يغسل به أوضاره أضعافُ ما أتى به؛ فهو دائماً مستقل لعمله كائناً ما كان، مستكثر لنعمة الله عليه وإن دقَّت.
قال ابن القيم × عن هذا الوجه: =وهو من ألطف الوجوه؛ فعليك بمراعاته؛ فله تأثير عجيب، ولو لم يكن من فوائد الذنب إلا هذا لكفى؛ فأين حال هذا من حال من لا يرى لله عليه نعمة إلا ويرى أنه ينبغي أن يعطى ما هو فوقها وأجل منها+( ).
إلى أن قال عن هذا الضرب من الناس: =وهذا الضرب من الناس من أبغض الخلق إلى الله، وأشدهم مقتاً عنده، وحكمةُ الله تقتضي أنهم لا يزالون في سفال؛ فهم بين عتب على الخالق وشكوى له، وذلٍّ لخلقه وحاجة إليهم، وخدمة لهم+( ).
17_ أن الذنب يوجب لصاحبه التحرز والتيقظ من مصائد عدوه ومكائده: فيعلم من أين يدخل عليه اللصوص والقطاع ومكامنهم، ومن أين يخرجون عليه، وفي أي وقت يخرجون؛ فهو قد استعد لهم، وتأهب، وعرف بماذا يستدفع شرهم وكيدهم؛ فلو أنَّه مرَّ عليهم على غِرَّةٍ وطمأنينة لم يأمن أن يظفروا به، ويجتاحوه جملة( ).
18_ مراغمة الشيطان وإغاظته ومجاهدته: فالقلب يذهل عن عدوه، فإذا أصابه منه مكروه استجمعت له قوته، وطلب بثأره إن كان قلبه حرَّاً كريماً.
كالرجل الشجاع إذا جرح فإنه لا يقوم له شيء، بل تراه بعدها هائجاً، طالباً، مقداماً.
والقلب المهين كالرجل الضعيف المهين إذا جرح ولَّى هارباً، والجراحات في أكتافه.
وكذلك الأسد إذا جرح فإنه لا يطاق؛ فلا خير فيمن لا مروءة له، لا يطلب أخذ ثأره من أعدى عدوٍّ له.
فما شيء أشفى للقلب من أخذه بثأره من عدوه، ولا عدوَّ أعدى له من الشيطان؛ فإن كان له قلب من قلوب الرجال المتسابقين في حلبة المجد جدَّ في أخذ الثأر، وغاظ عدوَّه كل الغيظ، وأضناه( ).
كما جاء عن بعض السلف: =إن المؤمن لَيُنْضِي شيطانه( ) كما ينضي أحدكم بعيره في سفره+( ).
19_ معرفة الشر؛ حذر الوقوع فيه: فالذي يقع في الذنب يصير كالطبيب ينتفع به المرضى في علاجهم ودوائهم؛ فالطبيب الذي عرف المرض مباشرة، وعرف دواءه وعلاجه أحذق وأخبر من الطبيب الذي عرف الداء وصفاً فحسب.
هذا في أمراض الأبدان، وكذلك أمراض القلوب وأدواؤها.
ولذلك كان الصحابة _ رضي الله عنهم _ أعرف الأمة بالإسلام، وتفاصيله، وأبوابه، وطرقه، وأشد الناس رغبة فيه، ومحبةً له، وجهاداً لأعدائه؛ لعلمهم بضده.
فإذا عرف العبد الضدين، وعلم مباينة الطرفين، وعرف أسباب الهلاك على التفصيل _ كان أحرى أن تدوم له النعمة ما لم يؤثر أسباب زوالها على علم، وفي مثل هذا قال القائل:
عرفتُ الشرَّ لا للشرْ
رِ لكنْ لتوقِّيه
ومن لا يعرف الشرَّ
من الناس يقعْ فيه
وهذه حال المؤمن يكون فطناً حاذقاً أعرف الناس بالشر، وأبعدهم عنه؛ فإذا تكلم في الشر وأسبابه ظننته من شر الناس، فإذا خالَطْتَهُ، وعرفت طويته رأيته من أبر الناس.
والمقصود أن من بُليَ بالآفات صار أعرف الناس بطرقها، وأمكنه أن يسدها على نفسه، وعلى من استنصحه من الناس، ومن لم يستنصحه( ).
20_ ابتلاء العبد بالإعراض عنه: فالله _ عز وجل _ يذيق عبده ألم الحجاب عنه، وزوال ذلك الأنس به، والقرب منه؛ ليمتحن عبده، فإن أقام العبد على الرضا والحال، ولم يجد نفسه تطالبه بحالها الأول مع الله، بل اطمأنت وسكنت إلى غيره _ علم أنه لا يصلح، فوضعه في مرتبته التي تليق به.
وإن استغاث استغاثة الملهوف، وتَقَلَّقَ تَقَلُّقَ المكروب، ودعاه دعاء المضطر، وعلم أنه قد فاتته حياته حقَّاً، فهو يهتف بربه أن يرد عليه ما لا حياة له بدونه _ علم أنه موضعٌ لما أُهِّلَ له، فردَّ عليه أحوج ما هو محتاج إليه، فعظمت به فرحته، وكملت به لذته، وتمت به نعمته، واتصل به سروره، وعلم حينئذٍ مقداره، فعضَّ عليه بالنواجذ، وثنَّى عليه بالخناصر؛ فالعبد إذا بُليَ بَعْدَ الأنْسِ بالوحشة، وبعد القرب بنار البعاد _ اشتاقت نفسه إلى لذة تلك المعاملة، فحنَّتْ، وأنَّتْ، وتصدَّعت، وتعرضت لنفحات مَنْ ليس لها عنه عوضٌ أبداً، ولاسيما إذا تذكر برَّه، ولطفه، وحنانه، وقربه( ).
21_ أن الحكمة الإلهية اقتضت تركيب الشهوة والغضب في الإنسان: وهاتان القوتان فيه بمنزلة صفاته الذاتية التي لا ينفك عنهما، وبهما وقعت الفتنة والابتلاء.
وتركيب الإنسان على هذا الوجه هو غاية الحكمة، ولابد أن يقتضي كل واحد من القوتين أثره، فلابد من وقوع الذنب، والمخالفات والمعاصي.
ولو لم تُخلق في الإنسان لم يكن إنساناً، بل كان مَلَكاً، فأما من اكتنفته العصمة، وضُرِبَتْ عليه سرادقاتُ الحفظ _ فهم أقل أفراد النوع الإنساني، بل هم خلاصته ولبه( ).
22_ أن الله إذا أراد بعبد خيراً أنساه رؤية طاعاته، ورفعها من قلبه ولسانه: فإذا ابتلي العبد بالذنب جعله نصب عينيه، وجعل همه كله بذنبه، فلا يزال ذنْبه أمامه إن قام أو قعد، أو غدا أو راح، فيكون هذا عين الرحمة في حقه، كما قال بعض السلف: =إن العبد ليعمل الخطيئةَ فلا تزال نصبَ عينيه كلما ذكرها بكى، وندم، واستغفر، وتضرع، وأناب إلى الله، وذل وانكسر، وعمل لها أعمالاً فتكون سبباً للرحمة في حقه.
ويعمل الحسنة، فلا تزال نصب عينيه، يمن بها، ويراها، ويعتد بها على ربه، وعلى الخلق، ويتكبر بها، ويتعجب من الناس كيف لا يعظمونه، ويكرمونه، ويجلونه عليها، فلا تزال هذه الأمور به حتى تقوى عليه آثارها فتدخله النار+( ).
23_ لزوم التواضع وترك الترفع: فإذا شهد العبد ذنوبه وخطاياه أوجب له ذلك ألا يرى لنفسه على أحد فضلاً، ولا له على أحد حقَّاً، فلا يظن أنه خير مسلم يؤمن بالله ورسوله، وإذا شهد ذلك من نفسه لم يرَ لها على الناس حقوقاً من الإكرام، فاستراح هذا في نفسه، وأراح الناس من شكايته وغضبه على الوجود وأهله؛ فما أطيب عيشه، وما أنعم باله؛ فأين هذا ممن لا يزال عاتباً على الخلق، شاكياً تركَ قيامهم بحقه، ساخطاً عليهم وهم عليه أسخط؟( )
24_ الاشتغال بعيوب النفس، والإمساك عن عيوب الناس: فالذنب يوجب له الإمساك عن عيوب الناس، والفكر فيها؛ فإنه في شغل بعيب نفسه، وهذا من أمارات السعادة( ).
25_ الاستغفار للخطائين: فإذا وقع الذنب من العبد شهد نفسه مثل إخوانه الخطائين، وشهد أن المصيبة واحدة، وأنهم مشتركون في الحاجة، بل الضرورة إلى مغفرة الله، وعفوه، ورحمته؛ فكما يحب أن يستغفر له أخوه المسلم _ كذلك هو أيضاً يجب أن يستغفر لأخيه المسلم( ).
هذه بعض الحكم من خلق المعاصي، وتقدير السيئات، يتضح بها شيء من حكمة العليم الحكيم فيما يقدره ويقضيه.
وبعد أن ساق الإمام ابن القيم × كلاماً طويلاً نفيساً في الحِكَمِ من خلق المعاصي قال في آخره: =فهذه الأثمار ونحوها متى اجتناها العبد من الذنب فهي علامة كونه رحمة في حقه، ومتى اجتنى منه أضدادها، وأوجبت له خلاف ما ذكرناه فهي والله علامة الشقاوة+( ).
شرح البيت الخامس والثمانين
85_ فإن كنتَ ترجو أن تجاب بما عسى
ينجِّيك من نار الإله العظيمةِ
قوله: =ترجو+: من الرجاء: وهو ظن يقتضي حصول ما فيه مسرة.
قال _ تعالى _: [وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ](الإسراء:57).
وهو المراد هنا، ويستعمل الرجاء بمعنى الخوف، قال الله _تعالى_ :[ مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ] (نوح:13)..
قال أبو ذؤيب الهذلي:
إذا لسعته النحل لم يرجُ لسعها
وحالفها في بيت نوب عواملُ( )
وقوله: =ينجيك+: +أي يخلصك، وأصله من النجوة، وهي المكان المرتفع؛ كأن من قد خلص من مكروه قد ارتفع على نجوة، بحيث لا يلحق+( ).
وقوله: =نار الإله+: النار _ كما يقول الطوفي _: =جسم شفاف محرق+( ).
والمقصود بنار الإله: نار جهنم التي أعدها الله لمن عصاه.
وهذا البيت شروع بإسداء النصح للسائل بما فيه نجاته، وسعادته.
شرح البيت السادس والثمانين
86_ فدونك ربَّ الخلقِ فاقْصُدْهُ ضارعاً
مريداً لأن يهديْك نحو الحقيقةِ
قوله: =فدونك+: هذا اسم فعل أمر، ومعناه خذ، أو الزم، أو اقْصِدْ.
وهذا من باب الإغراء، وهو حض الإنسان، وحمله على الفعل بألفاظ مخصوصة.
وقوله: =ضارعاً+: من الضراعة، وهي الخضوع، والذلة، والمسكنة.
وقوله: =يهديْك+: هو في الأصل مفتوح الياء، وإنما أسكن لضرورة الشعر.
وقوله: =نحو الحقيقة+: أي جهة الصوابِ، والحقِّ في نفس الأمر( ).
والمعنى: إذا كنت تريد السعادة في الدنيا، والنجاة من النار في الأخرى فاطرق باب ربك ـ جل وعلا ـ وتوجه إليه بصدق، وأسأله أن يلهمك رشدك، وأن يهديك إلى الصراط المستقيم.
قال ـ تبارك وتعالى ـ:[وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ](غافر: 60).
وقال في الحديث القدسي: =يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم+( ).
شرح البيت السابع والثمانين
87_ وذلِّل قيادَ النفسِ للحق واسمعن( )
ولا تعرضن عن فكرة مستقيمةِ( )
قوله: =وذلل قياد+ أي صيِّر نفسك ذلولاً خالية من الصعوبة والشماسة، ووطِّنْها لأن تنقاد للحق، وأن تقبله ممن قال به، وكن ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ولا تعرض عن الهدى بعد أن تراه، وتلوح لك أنوارُه، وسبلُه الواضحة.
ومن كانت هذه حاله كان جديراً بالتوفيق والسداد، ومن أعرض ونأى بجانبه فهو حري بالخذلان والخيبة.
قال _ تبارك وتعالى _: [سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ(146)] (الأعراف).
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي × في تفسير هذه الآية: =[سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ]: أي عن الاعتبار في الآيات الأفقية، والنفسية، والفهم لآيات الكتاب .
[الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ]: أي يتكبرون على عباد الله، وعلى الحق، وعلى من جاء به؛ فمن كان بهذه الصفة حرمه الله خيراً كثيراً، وخذله، ولم يَفْقَه من آيات الله ما ينتفع به، بل ربما انقلبت عليه الحقائق، واستحسن القبيح.
[وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا]: لإعراضهم، واعتراضهم، ومحادتهم لله ورسوله.
[وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ]: أي الهدى والاستقامة، وهو الصراط الموصل إلى الله ودار كرامته.
[لاَ يَتَّخِذُوهُ]: أي لا يسلكوه، ولا يرغبوا فيه[سَبِيلاً].
[وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ]: أي الغواية الموصل لصاحبه إلى دار الشقاء [يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً]: والسبب انحرافهم هذا الانحراف.
[ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ]: فَرَدُّهُم لآيات الله، وغفلتهم عما يراد بها، واحتقارهم لها _ هو الذي أوجب لهم من سلوك طريق الغي وترك الرشد ما أوجب+( ).
شرح البيت الثامن والثمانين
88_ وما بان من حق فلا تتركنَّه
ولا تعصِِ من يدعو لأقوم شرعةِ( )
أي ما اتضح لك من هدى فلا تعدل به، ولا تبغ به بدلاً، ولا عنه حولاً، بل تمسك به، وعض عليه بالنواجذ، وإياك أن تعصي من يدعو لأحسن السبل، وخير الشرائع؛ فذلك مقتضى ما جاء في الكتاب والسنة.
قال الله _ عز وجل _: [اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ(3)] (الأعراف).
وقال: [وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ(55)] (الزمر).
شرح البيت التاسع والثمانين
89_ ودَعْ دِينَ ذي العاداتِ لا تتبَعَنَّه
وعُجْ عن سبيل الأمةِ الغضبيَّة
قوله: =عج+: أي ارجع، يقال: فلان ما يعوج عن شيء، أي ما يرجع عنه.
وقوله: =الأمة الغضبية+: المراد بهم اليهود؛ نسبة إلى غضب الله عليهم؛ لقوله ـ تعالى ـ:[قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ](المائدة: 60).
وقوله ـ تعالى ـ:[غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ](الفاتحة: 7).
ومعنى البيت: اترك دين العادات الذي ما أنزل الله به من سلطان مما وجدت عليه آباءك، أو أسلافك، أو مُقَلَّديك؛ فلا تتبعه.
وارجع عن طريق المغضوب عليهم؛ فلا تجعل ذلك كله إماماً لك، كما قال ـ تعالى ـ عن الأمم الخالية:[إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ](الزخرف: 23).
بل انظـر بعقلك نظر باحـث عن الهـدى، خالٍ من اتباع العـناد، والتعصب، والهوى؛ فتكون ـ بذلك ـ جديراً بإصابة الحق( ).
وإنما حذره عن طريق اليهود المغضوب عليهم؛ لأنهم انحرفوا عن الطريق المستقيم عموماً، وانحرفوا في باب القدر وهو مدار الحديث في هذه القصيدة؛ فاليهود كانوا في الأصل على الدين الذي جاء به موسى _ عليه السلام _ وهو التوحيد والإسلام وهو دين جميع الرسل، وهو الدين الحق في شرائعه وعقائده، ومنه القدر.
وبعد موسى _ عليه السلام _ تفرق اليهود شيعاً وأحزاباً، وصاروا فرقاً كثيرة كما أشار إلى ذلك الرسول " في الحديث المشهورة: =تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة+( ).
واليهود أمة جبلت على التقلب، والتفرق، والاختلاف، ولبس الحق بالباطل خاصة بعد أنبيائهم.
أما بالنسبة للكلام على القدر الإلهي فإنه قديم في الكتب الإلهية، وقد وردت الإشارة إليه من أول الأسفار المعتمدة إلى آخرها، ولكن على درجات في أساليب التقدير تختلف باختلاف الاعتقادات التي يفرضونها للإله، وباختلاف نصيبه عندهم من عظمة المشيئة، وعظمة القدرة، وعظمة الصفات.
والقدر عندهم مشيئة حاكم يأمر وينهى، ويرجع عما أمر به وقضاه، ولم يفهموا القدر على أنه نظام شامل للوجود محيط بالأكوان.
وإنما كان =يَهْوَه+ إله اليهود يجري فيه على حكم، ثم يندم عليه، ويبدله تارة على حسب الحالة التي تطرأ بغير حساب.
وبالجملة فقد اشتهر عن اليهود في القدر مذهبان:
الأول: مذهب الربانيين: وهم فرقة من فرق اليهود ويسمون بـ =الفريسيين+، ومعناها: المنعزلون، أو المنشقون.
وقد أطلق أعداؤهم عليهم هذه التسمية؛ لذلك فهم يكرهونها، ويسمون أنفسهم: الربانيين، أو الإخوة في الله.
وكان هؤلاء موجودين قبل الميلاد، وهؤلاء ينفون القدر
والآخر: مذهب القرَّائين: وهو من فرق اليهود.
وهؤلاء لا يعترفون إلا بالتوراة _ العهد القديم _ كتاباً مقدساً، وليست عندهم روايات شفوية؛ ولذلك فهم يعترفون بالتلمود.
ومذهب هؤلاء: هو القول بالجبر( ).
شرح البيت التسعين
90_ ومن ضل عن حقٍّ فلا تقفونَّه( )
وزنْ ما عليه الناس بالمَعْدِليةِ
قوله: =من ضل عن حق+: يعني النصارى؛ لأنهم هم الضالون؛ لقوله ـ تعالى ـ:[ وَلا الضَّالِّينَ].
قوله: =فلا تقفونه+ الاقتفاء: اتِّباع القفا، أي لا تتبعنه.
وقوله: =بالمعدلية+ بكسر الدال مأخوذ من العدل، وهو ضد الجور.( )
يقول: لا تسر ـ كذلك ـ خلف من ضل عن الهدى؛ من النصارى ـ فتردى، واجعل ميزانك للأمور والأحوال بالعدل والقسط، وذلك باتِّباع ما جاء في الكتاب والسنة؛ فإنهما الميزان العادل، والحق الذي لا مرية فيه، ومن حكم بهما عدل، وأصاب كبد الحقيقة، وحينئذٍ يتبين لك أن اعتماد الأمر الذي سألت عنه وبناءه إنما يكون على التسليم وترك الاعتراض.
وكأن الشيخ × في هذا البيت والذي قبله يرشد السائل بأن يدع طريق أهل الكتاب من اليهود أوالنصارى إن كان صادقاً في ادعائه أنه ذمِّي، أو أن يدع الانتساب إليهم والتشبه بهم إن لم يكن صادقاً في دعواه؛ لأن من تشبه بقوم فهو منهم.
وقد مرَّ في شرح البيت السابق انحراف اليهود، وفي هذا البيت يشير إلى ضلال النصارى الذين ضلوا في الألوهية، وقولهم بالتثليث، والصلب والفداء، وغير ذلك.
وضلوا في باب القدر؛ فللنصارى في القدر قولان؛ فالنصارى الشرقيون، ويسمون بـ: (اليعاقبة) أو اليعقوبية وهم أتباع يعقوب البراذعي، فهؤلاء يقولون: إن الإنسان مخير.
والآخرون وهم النساطرة، أو النسطوريون؛ نسبة إلى نسطور الذي كان بَطْرِيَرْك القسطنطينية سنة 431 فهؤلاء يقولون بالجبر.
وهناك تشابه كبير بين آراء بعض النصارى كالنساطرة والشرقيين وبين آراء بعض المعتزلة؛ مما حدا بكثير من الباحثين إلى القول بأنَّ آراء المعتزلة مستقاة من النصارى السابقين.
ويؤيد هذا أن أول من أشاع القدر وهو معبد الجهني قد أخذ عن سوسن النصراني كما أشار إلى ذلك الإمام الأوزاعي _ كما مر _ عند الحديث عن نشأة القول بالقدر( ).
يقول المستشرق الإيطالي نيلينو: =كان بعض المتكلمين الأولين قد بدأوا تحت تأثير اللاهوت المسيحي في الشرق بطريقة غير مباشرة يبحثون هذا القَدَر، ويحاولون أن يفسروه، بمعنى يوافق اختيار الإنسان وحريته في أفعاله؛ حتى يُمْكِنَ تبريرُ وجود الثوابِ والعقاب في الدارِ الآخرة تبريراً تاماً( ).
وهناك من النصارى من يقرب مذهبه من القول بالتوسط بين الجبر والاختيار، والاعتقاد بعلم الله السابق.
ومن هؤلاء القديس (أوغسطين)( ) الذي لقي عنتاً شديداً من جراء التفكير في موضوع القدر، ولكنه اعتقد بعد هذا القلق أنه استراح من وسواسه هذا بالتوفيق بين النقائض.
وكان مدار راحته النفسية أنَّ سَبْقَ العلم بعمل الأخيار وعمل الأشرار صفةٌ لا تنفصل عن الذات الإلهية، وأنَّ الله عَلِم ما سيكون كما سيكون، ولا بد أن يعلمه العلم الصحيح، ويقدره تقديره على حسب علمه المحيط بجميع الكائنات( ).
ويوافقه على هذا الرأي القديسُ (توماس ألاكويني)( ) ويرى أنَّ الإنسان يقود نفسه، ولا يُقاد كما تُقاد الدواب، وأنَّ الإرادة تتبع العقل، والعقل نعمة من نعم الله على الإنسان.
وغاية التقدير عند توماس ألاكويني كفاية التقدير عند أستاذه القديم أوغسطين( ).
شرح الأبيات [91 ــ 93]
91_ هنالك تبدو طالعاتٌ من الهدى
بتبشير( ) من قد جاء بالحنفية
92_ بملة إبراهيم ذاك إمامنا
ودين رسول الله خير البريةِ( )
93_فلا يقبل الرحمنُ ديناً سوى الذي
به جاءت الرسْلُ الكرامُ السجيةِ
قوله: =طالعات+: أي أمور، أو خلال، أو أشياء طالعات؛ فهي صفة موصوف محذوف.
وقوله: =من الهدى+: أي من الرشاد، والصواب( ).
قوله: =بتبشير+: التبشير ههنا هو الإخبار بما يسر، ويبسط بشرة الوجه؛ ذلك أن النفس إذا سُرَّت انتشر الدم فيها انتشار الماء في الشجر( ).
وقوله: =الحنفية+ من الحنف وهو ميل عن الضلال إلى الاستقامة بخلاف الجنف؛ فهو ميل عن الاستقامة إلى الضلال.
وتحنَّف فلان أي تحرى طريق الاستقامة، والعرب تسمي كل من حج أو اختتن حنيفاً؛ تنبيهاً أنه على دين إبراهيم( ).
والحنيف: هو المستقيم، المتمسك بالإسلام، المقبل على الله، المعرض عما سواه.
والحنفية هي ملة إبراهيم _ عليه السلام _.
وقوله: =الرسل+: جمـع رسول، والأصل ضم السين ولكنها أُسْكِنَتْ للضرورة.
وقوله: =السجية+: الطبيعة، والعادة، والجِبِلَّة.
والمعنى: أنك _ أيها الناصح لنفسه، المريد الخير لها _ إذا فعلت ما مضى ذكره، وأخذت بالنصح ـ أقبلت عليك الخيرات، وانهالت عليك البركات، وأشرقت عليك شموس السعادة، ونلت العلم النافع، والعمل الصالح.
وتلك البشائر جاءت في الخبر عن الصادق المصدوق الذي بشَّر بالدين الحق، وبشر من قام به بالنصر، والعز، والتمكين، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.
وهذا الدين الحق هو دين الإسلام، وهو ملة أبينا إبراهيم _عليه السلام_ وهو التوحيد الخالص الذي لا يقبل الله ديناً سواه، قال _تعالى_:[ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] النحل: 12.
وقال ـ عز وجل ـ:[قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] الأنعام: 161.
وقال ـ تعالى ـ:[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ] آل عمران: 19.
وقال:[وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ] آل عمران: 85.
وهذا هو دين جميع الرسل والأنبياء الذين جبلوا على حميد الخلال وكريم الخصال ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ.
وهو الدين الذي لا يقبل الله ديناً سواه لا من الأولين ولا من الآخرين.
ومما يحسن التنبيه عليه ههنا أن الإسلام عام وخاص.
أما العام فهو الاستسلام لله بالتوحيد، وهو دين جميع الأنبياء.
وأما الخاص فهو الذي بعث به محمد " والمتضمن لشريعة القرآن، وليس عليه إلا أمة محمد ".
والإسلام عند الإطلاق _ كما يقول ابن تيمية ×_ يتناول هذا.
وأما الإسلام العام المتناول لكل شريعة بعث الله بها الأنبياء فإنه يتناول إسلام كل أمة متبعة الأنبياء( ).
قال الله _ عز وجل _: [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ(156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(157)] الأعراف.
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي × في قوله: [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ]: =احترازاً عن سائر الأنبياء؛ فإن المقصود بهذا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب ".
والسياق في أحوال بني إسرائيل، وأن الإيمان بالنبي محمد " شرطٌ في دخولهم الإيمان، وأن المؤمنين به المتبعين هم أهل الرحمة المطلقة التي كتبها الله لهم+( ).
شرح البيت الرابع والتسعين
94_ وقد جاء هذا الحاشرُ الخاتَم الذي
حوى كلَّ خير في( ) عموم الرسالةِ
قوله: =الحاشر الخاتم+: اسمان من أسماء النبي ".
ومعنى الحاشر: من الحشر، وهو الضم والجمع، فهو الذي يحشر الناس على قدمه، فكأنه بعث؛ ليحشر الناس( ).
ومعنى الخاتم: أي الذي ختم الله به الرسل، وختم بدينه الأديان.
ومعنى البيت: أن الأنبياء الكرام ختموا برسالة هذا النبي الخاتم محمد " الذي جمع الله به وله من المحاسن والكمالات ما لم يجمع لغيره، واشتملت رسالته على كل خير وهدى، وبركة، وفلاح، وصلاح، وكانت أمته خير أمة أخرجت للناس، ونالت من السناء والعلم ما لم تنله أمة أخرى بفضل الله _ عز وجل _ ثم ببركة هذا النبي الأمي الخاتم _عليه أفضل الصلاة والسلام_.
كل ذلك مع أنها آخر الأمم، وأقصرها أعماراً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: = فكل من استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين أحدَّ وأسدَّ عقلاً؛ وأنهم ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم والأعمال أضعاف ما يناله غيرهم في قرون وأجيال.
وكذلك أهل السنة والحديث تجدهم كذلك ممتعين, وذلك لأن اعتقاد الحق الثابت يقوي الإدراك ويصححه+( ).
وقال × في موضع آخر: =فهدى الله الناس ببركة نبوة محمد " وبماء جاء به من البينات والهدى هداية جلت عن وصف الواصفين, وفاقت معرفة العارفين, حتى حصل لأمته المؤمنين عموماً, ولأهل العلم خصوصاً _ من العلم النافع, والعمل الصالح, والأخلاق العظيمة, والسنن المستقيمة _ ما لو جُمِعَتْ حِكْمَةُ سائر الأمم علماً, وعملاً, الخالصة من كل شوب على الحكمة التي بُعِثَ بها لتفاوتا تفاوتاً يمنع معرفة النسبة بينهما؛ فلله الحمد كما يحب ربنا ويرضى.
ودلائل هذا, وشواهده ليس هذا موضعها+( ).
وقال ابن القيم ×: =فلو قيس جميع ما عند الأمم من معرفة, وعلم, وهدى, وبصيرة إلى ما عندهم لم يظهر له نسبة إليه بوجه ما, وإن كان غيرهم من الأمم أعلم بالحساب والهندسة, والكمِّ المتصل, والكمِّ المنفصل, والنبض, والقارورة, والبول, والقسطة, ووزن الأنهار, ونقوش الحيطان, ووضع الآلات العجيبة, وصناعة الكيمياء, وعلم الفلاحة, وعلم الهيئة, وتسيير الكواكب, وعلم الموسيقى والألحان, وغير ذلك من العلوم التي هي بين علن لا ينفع, وبين ظنون كاذبة, وبين علم نفعه في العاجلة وليس من زاد المعاد+( ).
شرح البيت الخامس والتسعين
95_ وأخبر عن رب العباد بأنَّ مَنْ
غدا( ) عنه في الأخرى بأقبحِ خيبةِ( )
قوله: =خيبة+: هي الحرمان.
أي أن هذا النبي أخبر عن ربه ـ جل وعلا ـ أن من اتبعه، ودان بدينه فهو السعيد المهتدي، وأن من كفر به، ودان بغير دينه فهو الشقي الضال الطريد.
قال الطوفي × في كلمة خيبة: =وخيبة رأيناها في الأصل الذي نقلناها منه، وقد قرىء على الشيخ ـ يعني شيخ الإسلام ابن تيمية ـ بحاء مهملة مكسورة، ثم ياء مثناة من أسفل، ثم با موحدة ـ حيبة ـ من الحُوب، وهو الإثم، قال الله _تعالى_: [إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً] النساء:2+( ).
شرح البيت السادس والتسعين
96_ فهذي دلالاتُ العبادِ لحائر
وأما هداه فهو فعلُ الربوبةِ( )
قوله: =الربوبة+: أي الربوبية، وهي مصدر ربب ربوبة، مثل صعب صعوبة، وحمض اللبن وخثر حموضة وخثورة.( )
والمعنى أن ما مضى ذكره في الأبيات من البينات، والتفاصيل التي يحصل بها الفرقان بين الحق والباطل، والحث على الانقياد، والتسليم، وترك الاعتراض ـ هو كل ما بأيدينا من عمل، وهو الذي يملكه العباد للحائر؛ فيرشدونه به إلى طريق السلامة.
وأما الهداية فهي بيد الله ـ وحده ـ فالذي بيد الخلق هو هداية البيان، والدلالة والإرشاد.
قال ـ تعالى ـ:[وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ](الشورى: 52).
وأما هداية التوفيق والإلهام فهي بيد الله ولا يملكها غيره، كما قال _ عز وجل _: [إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ] (القصص: 56).
لكن من أقبل على الله، وتذلل له، وصدق في معاملته، وأخذ بأسباب هدايته ـ فإن الله يقبله، ويسلك به الصراط المستقيم ـ كما تقدم تفصيل ذلك ـ.
شرح البيت السابع والتسعين
97_ وفَقْدُ الهدى عند الورى لا يفيد( ) مَنْ
غدا( ) عنه بل يجري( ) بلا وجه حجةِ
يعني أن من فقد الهدى تنكَّب الصراط، وهام على وجهه، وسار على غير برهان.
قال الله _ عز وجل _: [أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ](الملك: 22).
قال ابن الجوزي × في تفسير هذه الآية: =قال المفسرون: هذا مثل للمؤمن والكافر.
و=السوي+: المعتدل أي الذي يبصر الطريق+( ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =فكل من اتبع الظن، وما تهوى الأنفس، وترك اتباع الهدى ودين الحق الذي بيَّنه الله _تعالى_ وأمر به في كتبه وعلى ألسن رسله، وفطر عليه عباده، وضرب له الأمثال المشهودة والمسموعة _ فهو متبع لإبليس في هذا، له نصيب من قوله: [لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ]+.
إلى أن قال ×: = وقد قال _تعالى_ لمَّا أهبط آدم: [فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)] فأخبر أن من اتبع هداه الذي جاء من عنده فإنه لا يضل ولا يشقى، كما قال: [الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ _ إلى قوله _ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (5)] فإنه الهدى ضد الضلالة، والفلاح ضد الشقاء، وقد قال من قال من السلف: المفلحون الذينأدركوا ما طلبوا، ونجوا من ما منه هربوا.
ولهذا أمرنا أن نقول في كل صلاة: [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)] فإن المغضوب عليهم هم أهل الشقاء، والضالون أهل الضلال.
وهم الذين اتبعوا هداه فلم يضلوا ولم يشقوا، بل أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون.
وقال _أيضاً_: [إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ] والسعر: من أعظم الشقاء، وهذا باب واسع.
وإنما المقصود هنا التنبيه على هذا الأصل، وهو أن من أعرض عن هدى الله علماً وعملاً فإنه لا يحصل له مطلوب ولا ينجو من مرهوب، بل يلحقه من المرهوب أعظم مما فر منه، ويفوته من المطلوب أعظم مما رغب فيه.
وأما المتبعون لهداه فإنهم على هدى من ربهم، وهم المفلحون الذين أدركوا المطلوب ونجوا من المرهوب.
شرح البيت الثامن والتسعين
98_ وحجةُ محتجٍّ بتقدير ربِّه
تزيد( ) عذاباً كاحتجاج مريضةِ
قوله: =وحجة محتج+: أي اعتذار المذنب، واحتجاجه بكون الذنوب مقدرة عليه.
وقوله: =تزيد عذاباً+: أي تضاعفه؛ لأنه لم يبادر إلى التوبة، وتكفير الذنب، وإنما احتج بالقدر، وسوَّغ لنفسه الاستمرار على الذنوب.
وقوله: =كاحتجاج مريضة+: قال الطوفي × في شرحه للبيت: =ولا أعلم مراده بقوله: كاحتجاج مريضة+( ).
ولعل المراد بقوله: =كاحتجاج مريضة+ أحد معنيين:
الأول: أن هذا المحتج بالقدر احتج على فعل الذنوب بكونها مقدرة عليه؛ فجعلها من جنس تقدير المرض عليه؛ فجعل هذا المحتج التقديرين سواءاً، حيث عدهما من باب المصائب مع أن التقديرين مختلفان؛ فالأول من باب المعائب، والثاني من باب المصائب، والاحتجاجُ بالقدر _ كما مر _ إنما يكون على المصائب لا المعائب.
فيكون معنى البيت: أن احتجاج هذا المحتج بالقدر على فعل الذنوب بكونها مقدرة عليه، وعدَّه ذلك من باب تقدير المرض على المريض من جهة كونه لا يَدَ لَه في ذلك، ولا قدرة له على دفعه _ يضاعِفُ عقوبتَه، ويزيد في عذابه وشقائه؛ لأنه سوَّغ لنفسه فعل الذنوب التي يفعلها بإرادته وقدرته، وجعلها من جنس الأمراض التي تصيبه من غير إرادته؛ فسوَّى بين المعائب، والمصائب.
وقد قال المؤلف =مريضة+ ولم يقل: مريض لمراعاة القافية والروي.
المعنى الثاني: أن حال المذنب المحتج بكون الذنوب مقدرة عليه، مع تركه الأخذَ بأسباب النجاة، وبما يزيل أثر الذنوب من الندم، والإقلاع، والتوبة، والعمل الصالح _ هو كحال المريض الذي يدع العلاج، ولا يأخذ بأسباب الشفاء بحجة أن الله قدْ قدَّرَ عليه المرض؛ فلا داعيَ إذاً للعلاج _بزعمه_.
فما النتيجة إذاً؟ النتيجة زيادة علته، وتفاقم مرضه، واستبانة جهله وسفهه، واختلال عقله.
وهذا المعنى قد يكون مراداً؛ لأن بين أمراض الأبدان والقلوب تشابهاً من بعض الأوجه؛ فكما أن الأبدان تعتل بسائر الأمراض والعلل المتنوعة؛ فتضعف، وربما تهلك _ فكذلك القلوب؛ فهي تمرض بالنفاق، والذنوب، وسائر الشبهات والشهوات.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية × كلام كثير عظيم حول هذا المعنى، وهو تشبيه أمراض القلوب بأمراض الأبدان، كما في رسالتيه المشهورتين (التحفة العراقية في الأعمال القلبية) و(أمراض القلوب وشفاؤها).
ومن أقواله في ذلك قوله: =مرضُ البدن خلافُ صحتِه وصلاحِه، وهو فساد يكون فيه يَفْسُد به إدراكُه وحركتُه الطبيعيةُ؛ فإدراكه إما أن يذهب كالعمى، والصمم، وإما أن يدرك الأشياء على خلاف ما هي عليه كما يدرك الحلو مراً، وكما يُخيَّل إليه أشياء لا حقيقة لها في الخارج.
وأما فساد حركته الطبيعية فمثل أن تضعف قوته عن الهضم، أو مثل أن يبغض الأغذية التي يحتاج إليها، ويحب الأشياء التي تضره.
ويحصل له من الآلام بحسب ذلك، ولكن مع ذلك المرض لم يمت، ولم يهلك، بل فيه نوع قوة على إدراك الحركة الإرادية في الجملة؛ فيتولد من ذلك ألم يحصل في البدن إما بسبب فساد الكمية، أو الكيفية؛ فالأول إما نقص المادة؛ فيحتاج إلى غذاء، وإما بسبب زيادتها فيحتاج إلى استفراغ.
والثاني كقوة في الحرارة والبرودة خارج عن الاعتدال؛ فَيُداوى.
وكذلك مرض القلب هو نوع فساد يحصل له يفسد به تصوره وإرادته+( ).
إلى أن قال: =والمرض دون الموت؛ فالقلب يموت بالجهل المطبق، ويمرض بنوع من الجهل؛ فله موت ومرض، وحياة وشفاء.
وحياتُه وموتُه، ومرضه وشفاؤه أعظم من حياة البدن وموته، ومرضه وشفائه؛ فلهذا مرضُ( ) القلب إذا ورد عليه شبهة أو شهوة قَوَّت مرضه، وإن حصلت له حكمة وموعظة كانت من أسباب صلاحه وشفائه+( ).
وهكذا يتبين أن البيت محتمل، وأن المراد قد يكون على المعنى الأول، وقد يكون على المعنى الثاني، ولهذا لم يتبين المراد للطوفي ×.
أما الشيخ عبدالرحمن السعدي × فقد شرح البيت على المعنى الأول، حيث بين أن احتجاج العاصي بالقدر على معاصيه يضاعف عقوبته؛ لأنه جمع ثلاثة مخالفات:
أحدها: فعله للذنب.
ثانيها: احتجاجه عليه بالقدر، وهو كذب؛ فإن مضمون الاحتجاج بالقدر يعني أن الله اضطره وألجأه إليه وأكرهه عليه، وهو لا يريد الذنب، وهذا كذب صريح؛ فإن الله مكَّنه من الترك، بل فتح له كل باب يصده عن الذنب، وقد أبت نفسُه الأمارةُ بالسوء إلا أن توقعه في الذنب؛ فالمَلامُ عليه لا على ربه.
ثالثها: أنه بهذا الاعتذار يمهد لنفسه الإصرار على الذنوب، والإقامة على ما يسخط علام الغيوب؛ فإن هذا الاعتذار يهون عليه كل ذلك كما هو مشاهد، بل ويصرفه عن التوبة والإنابة( ).
شرح الأبيات [99 ــ 107]
99_ وأما رضانا بالقضاء فإنما
أمرنا بأن نرضى بمثل المصيبةِ
100_ كسقمٍ وفقرٍ ثم ذلٍّ وغُربةٍ
وما كان من مؤذٍ( ) بدون( ) جريمةِ
101_ فأما الأفاعيلُ التي كرهت لنا
فلا نصَّ يأتي في رضاها بطاعةِ
102_ وقد قال قومٌ( ) من أولي العلم: لا رضاً
بفعلِ المعاصيْ والذنوبِ الكبيرةِ( )
103_ فإن إلهَ الخلقِ لم يرضَها لنا
فلا نرتضي مسخوطةً لمشيئةِ( )
104_ وقال فريقٌ: نرتضي بقضائه( )
ولا نرتضي المقضيَّ أقبحَ( ) خصلةِ
105_ وقال فريقٌ: نرتضي بإضافةٍ
إليه( ) وما فينا فنلقى( ) بسخطةِ
106_ كما أنها للرب خلقٌ وأنها
لمخلوقه كسبٌ كفعل( ) الغريزة( )
107_فنرضى( ) من الوجه الذي هو خلقه( )
ونسخط( ) من وجه اكتساب الخطيئةِ( )
قوله: =المصيبة+: هي ما لحق الآدمي من مكروه، وهي _ كما يقول ابن تيمية _: =كل ما يؤلم من هم، أو حزن، أو أذى في مال أو عرض، أو جسد، أو غير ذلك+( ).
قوله: =كسقم+: السقم المرض.
قوله: =وفقر+: الفقر عدم المال، وهو مأخوذ من فقار الظهر، كأن مَنْ عدم المال انكسر فقاره.
وقوله: =الذُّل+: ضد العز.
وقوله: =الغُربة+: البعد عن الوطن.
وقوله: =الأفاعيل+: واحدها فعل( ).
وقوله: =فلا نص+: =النص هو الدليل النقلي الذي لا يحتمل سوى مدلول واحد+( ).
أو هو ما كانت دلالة قطعية لا تحتمل النقيض كقوله _ تعالى _: [تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ].
أو هو الذي لا يحتمل التأويل.
أو هو ما لا يحتمل غيره، فلا يتطرق للكلام احتمال أن يراد غير المعنى المفهوم.
ويراد بالنص _ أيضاً _ الدليل من الكتاب والسنة عموماً( ).
وقوله: =الذنوب الكبيرة+: الذنوب مر معناها، والكبيرة مفرد كبائر، والكبائر هي الذنوب العظيمة الموبقة المهلكة.
والذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، قال الغزالي ×: =اعلم أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، وقد كثر اختلاف الناس فيها؛ فقال قائلون: لا صغيرة ولا كبيرة، بل كل مخالفة لله فهي كبيرة.
وهذا ضعيف؛ إذ قال _تعالى_: [إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً] النساء: 31، وقال _تعالى_: [الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ] النجم: 32.
وقال": =الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة يكفرن ما بينهن إن اجتنبت الكبائر+ وفي لفظ آخر: =كفارات لما بينهن إلا الكبائر+( ).
وقد قال"فيما رواه عبدالله بن عمرو بن العاص _رضي الله عنهما_: =الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس+( )( ).
وقال ابن القيم ×: =وقد دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين بعدهم والأئمة على أن من الذنوب كبائرَ وصغائر+( ).
وقال ×: =والذين لم يقسموها إلى كبائر وصغائر قالوا: الذنوب كلها _بالنسبة إلى الجراءة على الله سبحانه ومعصيته ومخالفة أمره_ كبائر؛ فالنظر إلى من عُصي أمرُه، وانتُهك محارمه يوجب أن تكون الذنوب كلها كبائر، وهي مستوية في هذه المفسدة+( ).
وقال بعد أن ساق بعض ما أورده مَنْ قال إن الذنوب كلها كبائر: =فالشرك أظلم الظلم، والتوحيد أعدل العدل؛ فما كان أشدَّ منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر، وتفاوتها في درجاتها بحسب منافاتها له، وما كان أشدَّ موافقة لهذا المقصود فهو أوجب الواجبات، وأفرض الطاعات؛ فتأمل هذا الأصل حق التأمل، واعتبر تفاصيله تعرف به حكمة أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين فيما فرضه على عباده، وحرمه عليهم، وتفاوتَ مراتب الطاعات والمعاصي+( ).
وبعد أن تبين أن الذنوب منها كبائر، وصغائر يحسن الوقوف عند ماهية الصغائر والكبائر؛ حيث اخْتُلِفَ في تحديد الكبائر وحصرها؛ فقيل في ذلك أقوال منها:
1_ قال عبدالله بن مسعود÷: هي أربع.
2_ وقال عبدالله بن عمر _رضي الله عنهما_: هي سبع.
3_ وقال عبدالله بن عمرو بن العاص _رضي الله عنهما_: هي تسع.
4_ وكان ابن عباس _رضي الله عنهما_ إذا بلغه قول ابن عمر: الكبائر سبع يقول: هن إلى سبعين أقرب منها إلى سبع.
5_ وقال آخر: هي إحدى عشرة.
6_ وقال أبو طالب المكي: جمعتها من أقوال الصحابة فوجدتها أربعة في القلب وهي: الإشراك بالله، والإصرار على المعصية، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله.
وأربعة في اللسان، وهي: شهادة الزور، وقذف المحصنات، واليمين الغموس، والسحر( ).
وثلاثة في البطن: شرب الخمر، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا.
واثنين في الفرج: الزنا، واللواط.
واثنين في اليدين وهما القتل والسرقة.
وواحداً في الرجلين وهو الفرار من الزحف.
وواحداً يتعلق بجميع الجسد وهو عقوق الوالدين( ).
هذه أقوال الذين حصروها بعدد، وأما الذين لم يحصروها بعدد فمنهم من قال:
1_ ما اقترن بالنهي عنه وعيد من لعن، أو غضب، أو عقوبة_فهو كبيرة، وما لم يقترن به شيء فهو صغيرة.
2_ وقيل: كل ما ترتب عليه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة_فهو كبيرة، وما لم يرتب عليه لا هذا ولا هذا فهو صغيرة ( ).
3_ وقيل: كل ما اتفقت الشرائع على تحريمه فهو من الكبائر، وما كان تحريمه في شريعة دون شريعة فهو صغيرة.
4_ وقيل: كل ما لعن الله ورسوله فاعله فهو كبيرة.
5_ وقيل: هي كل ما ذكر من أول سورة النساء إلى قوله: [إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ] النساء: 31.
وقوله: =خلة+: الخَلَّة الخصلة.
هذه الأبيات تدور حول الرضا بما يقضيه الله ويقدره، وتفصيل القول في هذه المسألة.
قال الشيخ ـ عبدالرحمن السعدي × في شرح هذه الأبيات: =يعني إذا أورد المورد علينا: أنه يجب الرضا بقضاء الله، ـ يعني والمعاصي من قضاء الله ـ فقد أجاب الشيخ ـ يعني شيخ الإسلام ـ بأربعة أجوبة، كل واحد منها كافٍ شافٍ، فكيف إذا اجتمعت؟
أحدها: أن الذي أمرنا أن نرضى به: المصائب دون المعائب، فإذا أُصبنا بمرض أو فقر، أو نحوهما من حصول مكروه أو فقد محبوب فيجب علينا الصبر، واختلف في وجوب الرضا، والصحيح استحبابه؛ لأنه لم يثبت ورود الأمر به على وجه الوجوب؛ لتعذره على أكثر النفوس، لأن الصبر حبس النفس عن التسخط، واللسان عن الشكوى، والأعضاء عن عملها بمقتضى السخط؛ من نتف الشعر، وشق الجيوب، وحثو التراب على الرؤوس، ونحوها، وذلك واجب مقدور.
أما الرضا الذي هو مع ذلك طمأنينةُ القلب عند المصيبة، وأن لا يكون فيه تمني أنها ما كانت ـ فهذا صعب جدَّاً على أكثر الخلق؛ فلهذا لم يوجبه الله، ولا رسوله، وإنما هو من الدرجات العالية، وهو مأمور به أمرَ استحباب.
وأما الرضا بالذنوب والمعائب، فلم نؤمر بالرضا بها، ولم يأتِ نصٌّ صحيحٌ، أو ضعيفٌ في الأمر بها، فأين هذا من ذاك؟
الجواب الثاني: ما قاله طائفة من أهل العلم: أن الله لم يرض لنا أن نَكْفُرَ، ونعصي؛ فعلينا أن نوافقَ ربَّنا في رضاه، وسخطه، قال _تعالى_:[قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ](الزمر 39).
فالدين: موافقة ربنا في كراهة الكفر، والفسوق، والعصيان، مع تركها، وموافقته في محبة الشكر والإيمان، والطاعة لنا مع فعلها.
الجواب الثالث: أن القضاء غير المقضي، فنرضى بالقضاء؛ لأنه فعله _تعالى_ وأما المقضي، الذي هو فعل العبد فينقسم إلى أقسام كثيرة: الإيمان، والطاعة علينا الرضا بها، والكفُر والمعصيةُ لا يحل لنا الرضا بها، بل علينا أن نكرهها، ونفعل الأسباب التي ترفعها من التوبة، والاستغفار والحسنات الماحية، وإقامة الحد والتعزير على من فعلها، والمباحاتُ مستويةُ الطرفين.
الجواب الرابع: أن الشر والمعاصي تختلف إضافتها، فهي من الله خلقاً وتقديراً وتدبيراً، وهي من العبد فعلاً وتركاً، فحيث أضيفت إلى الله _قضاء وقدراً_ نرضي بها من هذا الوجه، وحيث أُضيفت إلى العبد _ نسخطها، ونسعى بإزالتها بحسب مقدورنا.
فهذه الأجوبة عن الأمر بالرضا بالقضاء قد اتضح أنها لا تدل على شيء من مطلوب المعترض+( ).
شرح البيت الثامن بعد المائة
108_ ومعصيةُ العبدِ المكلفِ تركُه
لما أمر المولى وإن بمشيئةِ
قوله: =العبد+: من العبودية، وهي إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها؛ لأنها غاية التذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال وهو الله _تعالى_.
والعبادة على ضربين: عبودية لربوبية، وعبودية لألوهية.
والعبد يقال على أربعة أضرب:
الأول: عبد بحكم الشرع، وهو الإنسان الذي يصح بيعه، وابتياعه، نحو: [الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ] و[عَبْدَاً مَمْلُوْكاً لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيءٍ].
والثاني: عبد بالإيجاد، وذلك ليس إلا لله، وإياه قصد بقوله: [إِن كُلُّ مَنْ فِي الَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً](مريم:93).
والثالث: عبدٌ بالعبادة، والخدمة، والناسُ في هذا ضربان:
عبدٌ لله مخلصاً: وهو المقصود بقوله: [وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ] (ص:41)، [إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً] (الإسراء:3)، [نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ] (الفرقان:1)، [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ] (الكهف:1)، [وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ] (الفرقان:63)، [إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ] (الحجر:42)، ونحو ذلك.
وعبدٌ لغير الله: وهو عبد للدنيا، وأغراضها، وأهلها، وهو المعتكف على خدمتها، ومراعاتها.
والناس كلهم عباد لله، بل الأشياء كلها كذلك، لكنْ بعضُها بالتسخير والإكراه، وبعضها بالاختيار والطوع.
وجمع العبد الذي هو مُسْتَرَقٌّ: عَبِيد، وقيل: عِبِدُّ، وجمع العبد الذي هو العابد: عِبَاد.
فالعبيد إذا أضيف إلى الله أعم من العباد؛ فهو يشمل من انتسب إلى عبادته، ومن انتسب إلى غيره، كما قال _ تعالى _: [وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ] ق:29.
ويُقال: طريق معبد: أي مذلل بالوطء، وبعير معبد: مذلَّلٌ بالقطران، وعبَّدت فلاناً: إذا ذلَّلته، إذا اتخذته عبداً، قال _ تعالى _: [أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ] الشعراء:22 ( ).
ومعنى البيت أن المعصية الصادرة من العبد المكلف تكون بتركه لما أمر الله به ورسوله، وقد تكون بفعله لما نهى عنه الله ورسوله؛ فهذه هي المعصية في الشرع، وهي منسوبة إلى العبد، وهو مؤاخذ بها وإن كانت داخلةً في عموم قدر الله ومشيئته التي لا يخرج عنها شيء؛ فالله ـ عز وجل ـ شاءها قدراً وكوناً، ولم يردها ديناً وشرعا؛ لما له ـ عز وجل ـ من الحكمة، ولعلمه بأن العبد يفعلها باختياره، وعصيانهِ لربه؛ فلا حجة له بذلك.
شرح البيتين [109 ــ 110]
109_ فإنَّ إلهَ الخلقِ حقَّ مقالُه
بأن عبادي( ) في جحيم وجنةِ( )
110_ كما أنهم في هذه الدار هكذا
بل البهم في الآلام ــ أيضاً ــ ونعمة
أي أنه ـ عز وجل ـ أخبر في محكم تنزيله أن فريقاً من عباده في الجنة، وفريقاً في السعير، كما في قوله ـ تعالى ـ: [إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ(14)]الانفطار.
وقوله ـ تعالى ـ: [فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ] الشورى: 7.
قال الإمام الصابوني( ) ×: =سبحانه خلق الخلق بلا حاجة إليهم، فجعلهم فريقين: فريقاً للنعيم فضلاً، وفريقاً للجحيم عدلاً، وجعل منهم غوياً ورشيداً، وشقياً وسعيداً، وقريباً من رحمته وبعيداً [لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]+( ).
وكما أن هذه حالهم في الآخرة من حيث السعادة والشقاء فكذلك هي حالهم في الدنيا، وفي البرزخ فمنهم الشقي، ومنهم السعيد.
بل إن البهائم في الدنيا منها ما هو منعَّم يرتع في المراعي، ومنها ما هو مريض، أو مصاب بأي مصيبة.
وكل ذلك جار على مقتضى الحكمة الإلهية البالغة، وله طرقه وأسبابه المتنوعة المفضية إلى مسبباتها.
قال الطوفي ×: =ووجه اتصال هذين البيتين باللذين قبلهما، وتقريره هو أن الله ـ تعالى ـ قد يأمر بالشيء، ويريد خلافه، فيقع المراد دون المأمور، ويعد العبد عاصياً؛ تحقيقاً لقوله السابق المقتضي:
[لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ](هود: 119)+( ).
ولهذا قرر شيخ الإسلام هذا المقام بقوله:
شرح البيت الحادي عشر بعد المائة
111_ وحكمتُه العليا اقتضت ما اقتضت من الـ
ـفروق بعلمٍ ثم أيدٍ ورحمةِ
قوله: =أيد+ الأيْد القوة الشديدة( ).
والمعنى: أن حكمة الرب العليا اقتضت وجود الفروق بين العباد؛ فهذا عالم، وذاك جاهل، وهذا قوي، وذاك ضعيف، وهذا شقي، وهذا سعيد، وهذا هُمَامٌ، وذاك كسول، وهذا منعَّم، وذاك يعيش في بؤس وهكذا. . .
ثم إن حكمته اقتضت الفرق بين أهل الجنة وأهل النار، وبين أهل السعادة وأهل الشقاوة؛ لِعِلمٍ عَلِمه منهم، وقوةٍ اقتدر بها على الفرق بينهم، ورحمةٍ شمل بها أهل السعادة، وحُرِمها أهل الشقاوة.
شرح الأبيات [112 ــ 116]
112_ يسوق أولي التعذيب بالسبب الذي
يقدّره نحو العذاب( ) بعزةِ
113_ ويهدي أولي( ) التنعيم نحو نعيمهم
بأعمال صدق في رجاءٍ وخشيةِ
114_ وأمرُ إله الخلق بيَّن( ) ما به
يسوق أولي التنعيم نحو السعادةِ
115_ فمن كان من أهل السعادة أثَّرت
أوامرُه فيه بتيسير( ) صنعةِ
116_ ومن كان من أهل الشقاوة لم يُبَلْ( )
بأمر ولا نهي بتيسير( ) شقوةِ
قوله: =بعزة+: قال ابن فارس × في مادة (عز): =العين والزاء أصل صحيح واحد يدل على شدة وقوة، وما ضاهاهما من غلبة وقهر+( ).
قوله: =وخشية+: قال الراغب ×: =الخشية خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم ما يخشى منه.
ولذلك خص العلماء بها في قوله: [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ]( ).
قوله: =السعادة+ قال الراغب ×: =السعادة معاونة الأمور الإلهية للإنسان على نيل الخير، ويضاده الشقاوة.
يقال: سعد، وأسعده الله، ورجل سعيد، وقوم سعداء.
وأعظم السعادات: الجنة؛ فلذلك قال _ تعالى _: [وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّة] هود:108.
وقال: [فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ] هود:105.( )
وقوله: =أثرت+: أي تركت فيه أثراً.( )
قوله: =صنعة+: الصنعة: إجادة الفعل.
ولعل المراد بالصنعة هنا: صنع الله أي توفيقه بتيسير الهدى، قال _تعالى_ في شأن موسى _ عليه السلام _: [وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي] (طه: 39) وقال _أيضاً_ في شأنه: [وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي] طه: 41.
وفي هذه الأبيات بيان لقوله: وحكمته العليا اقتضت ما اقتضت من الفروق. . .
والمعـنى أن الله ـ عز وجل ـ دعا إلى دار السـلام، وبين طرقها الموصلة إليها، ووضح أن مرجع ذلك إلى تصديق الخبر، وامتثال الأمر، واجتناب النهي؛ فمن كان من أهل السعادة يسره الله لعمل أهل السعادة، وحبَّبَ إليه الإيمان، وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، وجعله من الراشدين؛ فسار بذلك إلى سعادته الأبدية.
ومن كان من أهل الشقاوة لم يبالِ بأمر، ولا نهي، بل كذَّب، وتولى واتبع غير سبيل المؤمنين من بعد ما تبين له الهدى؛ فَوُكِل إلى نفسه، ويُسِّر لعمل أهل الشقاوة؛ فاستحق العذاب.
وعلى رواية (لم ينل) بدلاً من (لم يبل) يكون المعنى أنه لا ينال الخير بسبب تركه المأمور به، وفعله المنهيَّ عنه، وذلك بتقدير الشقاء السابق. . .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية × مقرراً هذا المعنى: =فهذه حكمة الله _تعالى_ ومشيئته في جميع الأسباب في الدنيا والآخرة، لكن العلم بالأعمال النافعة في الدار الآخرة، والأعمال الضارة أكثره غيب عن عقول الخلق، وكذلك مصير العباد ومنقلبهم بعد فراق هذه الدار، فبعث الله _سبحانه وتعالى_ رسله وأنزل كتبه مبشرين ومنذرين؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وحكمته في ذلك تضارع حكمته في جميع خلق الأسباب والمسببات.
وما ذاك إلا أن علمه الأزلي، ومشيئته النافذة، وقدرته القاهرة اقتضت ما اقتضته، وأوجبت ما أوجبته من مصير أقوام إلى الجنة، بأعمال موجبة لذلك منهم.
وخلق أعمالهم وساقهم بتلك الأعمال إلى رضوانه، وكذلك أهل النار كما قال الصادق المصدوق " لما قيل له: =ألا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال: لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة+( ).
فبين " أن السعيد قد ييسر للعمل الذي يسوقه الله _ تعالى _ به على السعادة، وكذلك الشقي، وتيسيره له هو نفس إلهامه ذلك العمل وتهيئة أسبابه، وهذا هو تفسير خلق أفعال العباد، فنفس خلق ذلك العمل هو السبب المفضي إلى السعادة أو الشقاوة، ولو شاء لفعله بلا عمل بل هو فاعله، فإنه ينشئ للجنة خلقاً لما يبقى فيها من الفضل.
يبقى أن يقال: فالحكمة الكلية التي اقتضت ما اقتضته من الأسباب الأول وحقائق ما الأمر صائر إليه في العواقب، والتخصيصات والتمييزات الواقعة في الأشخاص والأعيان، إلى غير ذلك من كليات القدر التي لا تختص بمسألة خلق أفعال العباد، وليس هذا الاستفتاء معقوداً لها، وتفسير جمل ذلك لا يليق بهذا الموضع فضلاً عن بعض تفصيله.
ويكفي العاقل أن يعلم أن الله _ عز وجل _ عليم، حكيم، رحيم، بهرت الألباب حكمته، ووسعت كل شيء رحمته، وأحاط بكل شيء علمه، وأحصاه لوحه وقلمه وأن لله _تعالى_ في قدره سراً مصوناً، وعلماً مخزوناً احترز به دون جميع خلقه، واستأثر به على جميع بريته، وإنما يصل به أهل العلم وأرباب ولايته إلى جمل من ذلك+( ).
وكما أن الاستقامة على أمر الله، والإيمان بالقضاء والقدر على الوجه الصحيح يثمر سعادة الآخرة _ فهو كذلك يثمر سعادة الدنيا من سكون القلب، وطمأنينة النفس، وراحة البال؛ فهذه الأمور من ثمرات الإيمان بالقدر، وهي مطلبٌ مُلِحٌ، وهدف منشود، وغاية مُبْتَغاةٌ؛ فكل من في الأرض يبتغيها، ويبحث عنها، ويسعى لها سعيها، ولكن كما قيل:
كل من في الوجود يطلب صيداً
غير أن الشباك مختلفاتُ
فلا يدرك هذه الأمور، ولا يجد حلاوتها، ولا يعلم ثمراتها _ إلا من آمن بالله وقضائه وقدره؛ فالمؤمن بالقدر ساكن القلب، مطمئن النفس، مرتاح البال، لا يفكر كثيراً في احتمال الشر، ثم إن وقع لم يطِرْ له قلبه شَعاعاً، بل يتحمل ذلك بثبات وصبر؛ إن مرض لم يضاعف مرضه بوهمه، وإن نزل به مكروه قابله بجأش رابط فخفف حدته؛ فمن الحكمة ألا يجمع الإنسان على نفسه بين الألم بتوقع الشر، والألم بحصول الشر.
بل يسعد ما دامت أسباب الحزن بعيدة عنه، فإذا حدثت قابلها بشجاعة واعتدال.
وإنك لتجد عند خواصِّ المسلمين من العلماء العاملين، والعباد القانتين المتبعين من سكون القلب وطمأنينة النفس ما لا يخطر ببال، ولا يدور حول ما يشبهه خيال؛ فلهم في ذلك الشأن القِدْحُ المعلى، والنصيب الأوفى( ).
فهذا أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز × و÷ يقول: =أصبحت وما لي سرورٌ إلا في مواضع القضاء والقدر+ ( ).
وهذا شيخ الإسلام أبو العباس أحمد ابن تيمية × يقول: =إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة+( ).
ويقول مقولته المشهورة عندما زُجَّ به في غياهب السجن: =ما يصنع أعدائي بي؛ أنا جنتي وبستاني في صدري؛ أين رُحْت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة+( ).
بل إنك واجدٌ عند عوام المسلمين من سكون القلب وراحة البال، وبرد اليقين ما لا تجده عند كبار المفكرين والكتاب والأطباء من غير المسلمين( )؛ فكم من الأطباء من غير المسلمين _على سبيل المثال_ من يعجب، ويذهب به العَجَبُ كل مذهب إذا أشرف على علاج مريض مسلم، وتبين له أنه مصاب بداء خطير _كالسرطان مثلاً_ فترى هذا الطبيب يحتار في كيفية إخبار المريض بِعلَّته، فتجده يقَدِّم رجلاً ويؤَخِّر أخرى، وتجده يمهد الطريق، ويضع المقدمات، كل ذلك خشيةً من شدة تأثر المريض بسماع هذا الخبر.
وما أن يُعْلِمَُهُ بمرضه، ويصارحه بعلته _ إلا ويفاجأ بأن هذا المريض يستقبل الخبر بنفس راضية، وصدر رحب، وسكينة عجيبة.
لقد أدهش كثيراً من غير المسلمين إيمانُ المسلمين بالقضاء والقدر، فكتبوا في هذا الشأن معبرين عن دهشتهم، مسجلين شهادتهم بقوة عزائم المسلمين، وكبر نفوسهم، وحسن استقبالهم لصعوبات الحياة.
فهذه شهادة حق من قوم حرموا الإيمان بالله، وبقضائه وقدره.
ومليحةٍ شهدت لها ضراتها
والفضل ما شهدت به الأعداءُ
ومن هؤلاء الذين كتبوا في هذا الشأن ذلك الكاتب المشهور (ر.ن.س.بودلي) مؤلف كتابَي: (رياح على الصحراء) و(الرسول) وأربعة عشر كتاباً آخر، والذي أورد رأيه (ديل كارنيجي) ( ) في كتابه (دع القلق وابدأ الحياة) في مقالة بعنوان (عشت في جنة الله).
يقول بودلي: =في عام 1918 ولَّيت ظهري العالمَ الذي عرفته طيلة حياتي، ويممت شطر أفريقيا الشمالية الغربية، حيث عشت بين الأعراب في الصحراء، وقضيت هناك سبعة أعوام، أتقنت خلالها لغة البدو، وكنت أرتدي زيهم، وآكل من طعامهم، وأتخذ مظاهرهم في الحياة، وغدوت مثلهم أمتلك أغناماً، وأنام كما ينامون في الخيام، وقد تعمقت في دراسة الإسلام، حتى إنني ألفت كتاباً عن محمد " عنوانه (الرسول) وكانت تلك الأعوام السبعة التي قضيتها مع هؤلاء البدو الرُّحَّل من أمتع سني حياتي، وأحفلها بالسلام، والاطمئنان، والرضا بالحياة.
وقد تعلمت من عرب الصحراء كيف أتغلب على القلق؛ فهم بوصفهم مسلمين يؤمنون بالقضاء والقدر، وقد ساعدهم هذا الإيمان على العيش في أمان، وأَخْذِ الحياة مأخذاً سهلاً هَيِّنَاً، فهم لا يتعجلون أمراً، ولا يلقون بأنفسهم بين براثن الهم قلقاً على أمر.
إنهم يؤمنون بأن ما قُدِّر يكون، وأن الفرد منهم لن يصيبه إلا ما كتب الله له.
وليس معنى هذا أنهم يتواكلون أو يقفون في وجه الكارثة مكتوفي الأيدي، كلاَّ+.
ثم أردف قائلاً: =ودعني أضرب لك مثلاً لما أعنيه: هَبَّتْ ذات يوم عاصفةٌ عاتيةٌ حملت رمال الصحراء وعبرت بها البحر الأبيض المتوسط، ورمت بها وادي (الرون) في فرنسا، وكانت العاصفة حارةً شديدةِ الحرارة، حتى أحسست كأن رأس شعري يتزعزع من منابته؛ لفرط وطأة الحر، وأحسست من فرط القيظ كأنني مدفوع إلى الجنون.
ولكنَّ العربَ لم يشْكُوا إطلاقاً، فقد هزوا أكتافهم، وقالوا كلمتهم المأثورة: =قضاء مكتوب+.
لكنهم ما إن مرت العاصفة حتى اندفعوا إلى العمل بنشاط كبير، فذبحوا صغار الخراف قبل أن يودي القيظ بحياتها، ثم ساقوا الماشية إلى الجنوب نحو الماء.
فعلوا هذا كله في صمت وهدوء، دون أن تبدو من أحدهم شكوى.
قال رئيس القبيلة _ الشيخ _: لم نفقد الشيء الكبير؛ فقد كنا خليقين بأن نفقد كل شيء، ولكن حمداً لله وشكراً؛ فإن لدينا نحو أربعين في المائة من ماشيتنا، وفي استطاعتنا أن نبدأ عملنا من جديد+.
ثم قال بودلي: =وثمة حادثة أخرى، فقد كنا نقطع الصحراء بالسيارة يوماً، فانفجر أحد الإطارات، وكان السائق قد نسي استحضار إطار احتياطي، وتولاني الغضب، وانتابني القلق والهم، وسألت صحبي من الأعراب: ماذا عسى أن نفعل؟
فذكروني بأن الاندفاع إلى الغضب لن يجدي فتيلاً، بل هو خليق أن يدفع الإنسان إلى الطيش والحمق.
ومن ثم درجت بنا السيارة وهي تجري على ثلاث إطارات ليس إلا، ولكنها ما لَبِثَتْ أن كفَّت عن السير، وعَلِمْتُ أن البنزين قد نفد.
وهنالك _أيضاً_ لم تَثُرْ ثائرةُ أحدٍ من رفاقي الأعراب، ولا فارقهم هدوؤهم، بل مضوا يذرعون الطريق سيراً على الأقدام+.
وبعد أن استعرض بودلي تجربته مع عرب الصحراء علق قائلاً: =قد أقنعتني الأعوام السبعة التي قضيتها في الصحراء بين الأعراب الرُّحل _ أن الملتاثين، ومرضى النفوس، والسِّكِّيرين الذي تحفل بهم أمريكا وأوربا ما هم إلا ضحايا المدنية التي تتخذ السرعة أساساً لها.
إنني لم أعانِ شيئاً من القلق قط وأنا أعيش في الصحراء، بل هنالك في جنة الله وجدت السكينة، والقناعة، والرضا+.
وأخيراً ختم كلامه بقوله: =وخلاصة القول: أنني بعد انقضاء سبعة عشر عاماً على مغادرتي الصحراء _ ما زلت أتخذ موقف العرب حيال قضاء الله، فأقبل الحوادث التي لا حيلة لي فيها بالهدوء والامتثال والسكينة.
ولقد أفلحت هذه الطباع التي اكتسبتها من العرب في تهدئة أعصابي أكثر مما تفلح آلاف المسكِّنات والعقاقير الطبية+( ).
شرح البيتين [117 ــ 118]
117_ ولا مخرجٌ للعبد عما به قضى
ولكنه مختارُ حُسْنٍ وسوأة
118_ فليس بمجبورٍ عديمٍ إرادةً( )
ولكنه شاءٍ بخلق الإرادة( )
قوله =سوأة+: من السوء، وهو القبح.( )
وقوله =عديم+: من العدم، وهو فقدان الشيء، وذهابه( ).
قوله: =شاءٍ+ اسم فاعل من شاء يشاء.
والمعنى: أن العبد في جميع ما ييسر له لا يخرج عن قضاء الله وقدره، ولا عن كونه مختاراً مريداً؛ فليس بالمجبور الذي لا إرادة له، وإنما هو شاءٍ مريدٌ بما أودعه الله من مشيئة يختار بها، وقدرة يفعل بها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =ومما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها _ مع إيمانهم بالقضاء والقدر، وأن الله خالق كل شيء، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه يضل من يشاء، ويهدي من يشاء _ أن العباد لهم مشيئة وقدرة، يفعلون بمشيئتهم، وقدرتهم ما أقدرهم الله عليه، مع قولهم: إن العباد لا يشاؤون إلا أن يشاء الله، كما قال الله _تعالى_: [كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ، وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ] المدثر: 54_56+.( )
ومن خلال البيتين الماضيين وشرحهما يتبين لنا الجواب عن السؤال الذي يرد كثيراً في كتب الفلسفة، وعلم الكلام، وفي كتب بعض المتأخرين وهو: هل الإنسان مسير أو مخير؟
وهناك من يجيب على هذا السؤال بأن الإنسان مسير لا مخير، كما أن هناك من يجيب بأنه مخيَّر لا مُسَيَّر.
والحقيقة أن الإجابة عن هذا السؤال بهذا الإطلاق خطأ؛ ذلك أن الإجابة تحتاج إلى بعض التفصيل.
ووجه الخطأ في الإجابة بأن الإنسان مسيَّر لا مخير تكمن فيما يرد على هذه الإجابة من إشكال؛ فإذا قيل: إنه مسيَّر بإطلاق قيل: كيف يحاسب وهو مسيَّر؟ وكيف يكون مسيراً ونحن نرى أن له مشيئة وقدرة واختياراً؟ وما العمل بالنصوص التي تثبت له المشيئة، والقدرة، والاختيار؟
أما إذا أجيب بأنه مخير لا مسير فيقال: كيف يكون مخيَّراً ونحن نرى أنه قد ولد بغير اختياره؟ ويمرض بغير اختياره؟ ويموت بغير اختياره؟ إلى غير ذلك من الأمور الخارجة عن إرادته.
فإذا قيل: إنه مخير في أفعاله التي تقع بإرادته واختياره قيل: وأفعاله الاختيارية كذلك؛ فقد يريد أمراً، ويعزم على فعله، وهو قادر على ذلك فيفعله، وقد لا يفعله؛ فقد يعوقه ما يعوقه؛ إذاً فليس كل ما أراد فِعْلَه فَعَلَهُ؛ وهذا شيء مشاهد.
ومن هنا يتبين لنا وجه الخطأ في هذا الجواب؛ فلو كان الإنسان مُسَيَّراً بإطلاق لما كان له قدرة ومشيئة، ولو كان مخيَّراً بإطلاق لفعل كل ما شاءه؛ فمن قال بالتسيير بإطلاق فهو ألصق بمذهب الجبرية الذين قالوا: إن العبد مجبور على فعله، وأنكروا أن يكون له قدرة ومشيئة وفعل.
ومن قال بالتخيير بإطلاق فهو ألصق بمذهب القدرية النفاة الذين قالوا: بأن الأمر أنف، وأن العبد هو الخالق لفعله، وأنه مستقل بالإرادة والفعل.
فما الجواب _ إذاً _ عن هذا السؤال؟ وما المخرج من هذا الإشكال؟
الجواب: أن الحق وسط بين القولين، وهدى بين هاتين الضلالتين؛ فيقال _ وبالله التوفيق _: إن الإنسان مخير باعتبار، ومسير باعتبار؛ فهو مخير باعتبار أن له مشيئةً يختار بها، وقدرةً يفعل بها؛ لقوله _تعالى_: [فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ] الكهف: 29، وقوله: [وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ] البلد: 10، وقوله: [فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ] البقرة:223، وقوله: [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] آل عمران:133.
ولقوله ": =احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز. . .+( )
وقوله: =صلوا قبل صلاة المغرب+ قال في الثالثة: =لمن شاء+( )، إلى غير ذلك من الأدلة في هذا المعنى.
وهو مسير باعتبار أنه في جميع أفعاله داخل في القدر، راجع إليه؛ لكونه لا يخرج عما قدَّره الله له؛ فلا يخرج في تخييره عن قدرة الله؛ لقوله _تعالى_: [هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ] يونس: 22، وقوله: [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ] القصص: 68.
ولقوله ": =كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة+( ).
إلى غير ذلك من الأدلة في هذا المعنى.
ولهذا جمع الله بين هذين الأمرين _ كون الإنسان مخيراً باعتبار ومسيراً باعتبار _ كما في قوله _ تعالى _: [لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ، وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ] التكوير: 28_29.
فأثبت _عز وجل_ أن للعبد مشيئة، وبَيَّنَ أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله، واقعة بها.
وكذلك الرسول " كما في قوله: =ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار+.
قالوا: يا رسول الله: فَلِمَ نعمل؟ أفلا نتكل؟ قال: =لا، اعملوا فكلٌّ ميسر لما خلق له+( ).
فهذا الحديث دليل لما سبق؟ فهو يدل على أن الإنسان مخير؛ لقوله": =اعملوا+ وعلى أنه لا يخرج في تخييره عن قدر الله؛ لقوله: =فكل ميسر لما خلق له+.
هذا مقتضى أدلة الشرع والواقع في هذه المسألة( ).
فلعل في هذا التقرير إجابة شافية، وجمعاً بين النصوص في هذه المسألة.
شرح البيت التاسع عشر بعد المائة
119_ ومن أعجبِ الأشياءِ خلقُ مشيئةٍ
بها صار مختارَ الهدى والضلالة( )
المعنى: أن من أعجب الأشياء أنْ خَلَق الله للعبد مشيئة يختار بها ما يريد، فيختار بها الهدى إن كان من أهل السعادة، ويختار بها الشقاوة إن كان من أهلها.
والعبد هو العامل والكاسب والفاعل، وإليه ينسب العمل والكسب والفعل من غير أن يجبره أحد، على اختيار الهدى، أو الضلالة.
ويرى الطوفي × أن في البيت ملمحاً آخر، فيقول: =والذي ينقدح لي من هذا البيت أن معناه: أيها المعارض في القدر، والسائل عن حقيقة سره أن حكم الله _ تعالى _ وأحكامه كلها بدائع عجائب تنقطع الأوهام دونها، وتحسر الظنون عن بلوغها.
ومن أعجبها أن الله _ تعالى _ يخلق للعبد إرادة يختار بها هدى أو ضلالة، وهذه الإرادة المخلوقة في غاية الخفاء حتى لو أردنا تصورها في الخارج على الحقيقة لعسر ذلك علينا.
وإنما نتصورها في الذهن على خفاء فيها، مع ذلك فمن تؤثر قدرته في جليل الكائنات وحقيرها، وجليِّها وخفيِّها _ فما لك ولمكافحته على سره؟
فأي حكم الله _ تعالى _ فهمت على الحقيقة حتى تحاول فهم سر القدر على الحقيقة.
وإذا كنت قد عجزت عن إدراك كثير من حكم الله _ تعالى _ فاجعل هذا من جملة ما عجزت عن إدراكه من حكمه وأسراره، ودع الخوض فيما يضرك ولا ينفعك؛ فإن له مراده هذا فالله ثَمَّ هو أعلم بما أراد+( ).
شرح البيت العشرين بعد المائة
120_ فقولك: هل أختار تركاً لحكمه
كقولك: هل أختار ترك المشيئة( )
وفي هذا البيت يشير شيخ الإسلام × إلى ما قاله السائل في البيت الثامن من السؤال عندما قال:
وهلْ ليْ اختيارٌ أن أخالفَ حُكْمَهُ
فبالله فاشفوا بالبراهين غلتي
فشيخ الإسلام يقول لهذا السائل: إن قولك: =إذا أراد الله الكفر مني، وشاءه، وحَكَم عليَّ بذلك فهل بإمكاني أن أخالف ما حكم به الله علي، وقضاه وقدره+ مثل قولك: =هل بإمكاني أن أختار ترك المشيئة التي أودعها الله فيَّ، وجعلني أختار بها+ فإيرادك أيها السائل كهذا سواء بسواء.
يعني أنك أنت الذي اخترت فعل المعاصي؛ فأنت تعرف من نفسك أنك لا تختار ولا تحب ترك ما تباشره من الكفر والإجرام.
بل تحب فعل ذلك بمحض إرادتك، واختيارك.
شرح البيت الحادي والعشرين بعد المائة
121_ وأختار( ) لا أختار فعل ضلالة
ولو نلت هذا الترك فزت بتوبةِ
يعني لو فرض وقدِّر أنك صادق في قولك: =إني أختار أن لا أختار الضلالة+ وكان ذلك صادراً من صميم قلبك ـ لكان ذلك توبةً منك؛ لأن العبد إذا كانت له إرادة جازمة على فعل ما يحبه الله، وعلى ترك ما يكرهه ـ أقبل بهذه الإرادة إلى الخيرات، وانصرف عنه السوء، وكان ذلك توبة له من جميع الموبقات.
ولكن من وفق لذلك كان أبعد الناس عن الاحتجاج بالقدر.
شرح البيت الثاني والعشرين بعد المائة
122_ وذا ممكن لكنه متوقف
على ما يشاء الله من ذي المشيئة( )
قوله: =ذي المشيئة+: المقصود به ههنا العبد.
والمعنى أن الوصول إلى هذه الدرجة العالية من ترك الضلالة والإقبال على الهدى ـ ممكن في حق كل أحد.
ولكنه ـ في الوقت نفسه ـ يتوقف على مشيئة الله وإرادته، ومحض فضله، وعلى الأخذ بالأسباب التي نصبها الله ـ عز وجل ـ لنيل تلك الدرجة؛ فمن أناب إليه، وتضرع له هداه وشاء منه أن يفعل ما يحبه ويرضاه.
ولهذا فإن أنفع الدعاء أن تسأل الله إعانتك على عبادته، وهذا مقتضى قوله ـ تعالى ـ:[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ](الفاتحة: 5).
وهذا ما أوصى به النبي " معاذ بن جـبل ÷ حين قال: =يا معاذ، والله إني لأحبك فلا تنسَ أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك+( ).
وفي هذا البيت إشارة إلى فرق لطيف بقوله: =على من يشاء الله من ذي المشيئة+ وهذا الفرق هو أنه إن شاء الله أن يعين العبد على فعل ما يحبه ويرضاه، وشاء من عبده ذلك الفعل ـ حصل المطلوب، وفاز العبد بالمرغوب، واتفقت الإرادة الشرعية الدينية مع الإرادة الكونية القدرية في حق العبد.
وإن لم يشأ الله إعانة العبد؛ لحكمة ربانية بقي العبد على ما اختاره لنفسه من الإقامة على مساخط الله( ).
شرح البيت الثالث والعشرين بعد المائة
123_ فدونك فافهم ما به قد أُجِبْتَ مِنْ
معانٍ إذا انحلت بفهم غريزة
قوله: =فافهم+: قال الراغب ×: =الفهم هيئة للإنسان بها يتحقق معاني ما يحسن، يقال فهمت كذا، وقوله: [فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ] (الأنبياء: 79).
وذلك إما بأن جعل الله له من فضل قوة الفهم ما أدرك به ذلك، وإما بأن ألقى في رُوْعه، وإما بأن أوصى إليه، وخص به+( ).
وقوله: =انحلت+: من الحل، وهو زوال العقد، وكشف الشبه( ).
قوله: =غريزة+: الغريزة هي الطبيعة المغروزة في النفوس( ).
ومعنى البيت: خذ _أيها السائل_ هذه الأجوبة لِما سألت عنه، وافهم ما قد أجبتك به؛ فهذه المعاني تحل بغريزة عقل، وهي شفاء لك، وجواب لسؤالك إن كان سؤال استرشاد، ودحض لحجتك، وكشف لشبهتك إن كان سؤال اعتراض وعناد.
شرح البيت الرابع والعشرين بعد المائة
124_ أشارت إلى أصل يشير إلى الهدى
ولله رب الخلق أكمل( ) مدحةِ
أي أن هذه الأجوبة المتنوعة تشير إلى هذا الأصل، وتوضح غامض هذه المسألة، وتحل عويصها، وتدل على الهدى في هذا الباب، وهو الانقياد، والتسليم، وترك الاعتراضِ والتنقيبِ؛ فلله المحامد والمدائح كلها على تيسيره، وإعانته؛ فكأنه أراد ختم الجواب بالحمد فهو بمنزلة قول القائل عقيب فراغه من أمر: =الحمد لله رب العالمين+
شرح البيت الخامس والعشرين بعد المائة
125_ وصلى إله الخلق جل جلاله
على المصطفى المختار خير البرية( )
وهكذا ختم الشيخ × هذه الأبيات الجليلة في تلك المسألة العظيمة بالصلاة على المبعوث رحمة للعالمين؛ فهو خير البرية، وأزكاها، والصلاةُ عليه أداءٌ لأقل القليل من شكره، ومحبته؛ إذ إن هذا التوفيق، وتلك الأجوبة بحر من بحور الأنوار التي صدرت من مشكاته ".
ومعنى صلاة الله على النبي: ثناؤه عليه، وتعظيمه عند الملائكة.
ومعنى صلاتنا عليه: طلب ذلك من الله، أي طلب الزيادة، لا طلب أصل الصلاة.
وهذا هو تفسير التابعي الجليل أبي العالية × وهو ما رجحه الحافظ بن حجر ×( ).
ومعنى قولنا =وسلم+: أي اكتب لمحمد في دعوته، وأمته، وذكره السلامة من كل نقص؛ فتزداد دعوته على مر الأيام علواً، وأمته تكاثراً، وذكره ارتفاعاً.
هذا ما قاله الفيروزبادي × في كتابه: =الصِّلات والبشر في الصَّلاة على خير البشر+( ).
وبهذا ينتهي شرح هذه القصيدة المباركة؛ فجزى الله شيخ الإسلام خير الجزاء، ونفع الأمة بعلومه، ورفعه في أعلى درجات الصديقين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبعد:
ففي خاتمة هذا البحث هذا إجمال لأهم النتائج التي جاءت فيه؛ مع بعض التوصيات والاقتراحات.
أولاً: أهم النتائج:
1_ الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، وموضوع من الموضوعات الكبرى التي خاض الناس فيها على اختلاف طبقاتهم وأديانهم.
2_ الإيمان بالقدر يقوم على أركان أربع تسمى مراتب القدر، هي: العلم، والكتابة، والخلق، والمشيئة.
3_ القدر هو علم الله، وكتابته للأشياء، ومشيئته، وخلقه لها.
4_ الحديث عن القدر لا يمنع بإطلاق، ولا يُفتح بإطلاق، فإن كان الحديث عنه بالمنهج العلمي المعتمد على الكتاب والسنة فذلك لا يمنع، بل قد يجب.
وإن كان خوضاً بالباطل، ولم يقم على الكتاب والسنة فذلك لا يجوز.
5_ دل على الإيمان بالقدرِ الكتابُ، والسنةُ، والإجماع، والفطرة، والعقل، والحس.
6_ أفعال العباد داخلة في عموم خلق الله _ عز وجل _ فهي من الله خلقاً وإيجاداً، ومن العباد فعلاً وكسباً.
7_ التقدير ينقسم إلى خمسة أقسام: التقدير العام، والتقدير البشري، والتقدير العمري، والتقدير السنوي، والتقدير اليومي.
8_ الإرادة الربانية تنقسم إلى قسمين كونية قدرية، وشرعية دينية.
9_ لله _ عز وجل _ الحكمة البالغة في كل ما يقدره، وهذه الحكمة تتضمن شيئين: أحدهما: حكمة تعود إليه _ تعالى _ يحبها ويرضاها.
والثاني: حكمة تعود إلى العباد، فهي نعمة عليهم يفرحون بها ويتلذذون.
10_ الأقوال في القدر ترجع إلى ثلاثة: قول أهل الجبر الذين يقولون: إن الإنسان مجبور على أفعاله وليس له إرادة ولا قدرة.
وقول أهل حرية الإرادة، واستقلال الإنسان في أفعاله.
والقول الوسط وهو قول الذين يثبتون القدر، وأن الله خالق كل شيء، ويثبتون _ مع ذلك _ أن للإنسان قدرةً يفعل بها، ومشيئةً يختار بها، ويرون أن قدرته ومشيئته واقعتان بقدرة الله ومشيئته، تابعتان لهما.
11_ تكاد مصادر أهل السنة تجمع على أن أول من تكلم بالقدر رجل من أهل البصرة اسمه سوسن الذي كان نصرانياً فأسلم، ثم تلقَّف مقالة القدر عنه معبد الجهني، وأخذها عن معبد غيلان الدمشقي، ثم سرت في أهل الاعتزال.
12_ القول الراجح أن الذي أورد السؤال في القدر على لسان أهل الذمة هو محمد بن أبي بكر السكاكيني.
13_ القصيدة التائية في القدر احتوت على بيان المنهج الحق في القدر، وتضمنت الرد على الطوائف التي ضلت في باب القدر كالقدرية النفاة، والقدرية الجبرية، والقدرية الإبليسية، والفلاسفة وغيرهم.
واشتملت على بيان أسباب الضلال في البشر، وأن الخوض في القدر من أعظم تلك الأسباب.
وتطرقت لمسألة الحكمة والتعليل في أفعال الله _ عز وجل _ حيث أبدى الشيخ كثيراً، وأعاد في هذه المسألة.
كما ورد في القصيدة حديث عن العدل في قضاء الله، وعن ارتباط الأسباب بالمسببات، وأنه لا تنافي بين الإيمان بالقدر وفعل الأسباب، وبيان ضلال من عطل الأسباب.
كما تضمَّنت حديثاً عن بعض موانع إنفاذ الوعيد كالتوبة والاستغفار، والحسنات الماحية والشفاعة.
كما ورد فيها تفصيل القول في مسألة الرضا بقضاء الله _ عز وجل _.
كما كشفت القصيدة كثيراً من الشبه التي طالما حيَّرت العلماء.
واحتوت كثيراً من الحجج والبراهين والإلزامات التي تُفحم الخصوم الذين ضلوا في باب القدر؛ حيث لا يسعهم إلا التسليم.
كما ختمها الشيخ بإسداء النصائح الغالية المنجية من الضلال في القدر وغيره.
فهذا مجمل ما ورد في الرسالة.
ثانياً: توصيات واقتراحات:
أوصي نفسي وإخواني المسلمين عموماً، والباحثين وأهل العلم خصوصاً بوصية الله للأولين والآخرين وهي تقوى الله _ عز وجل _.
قال _ تعالى _: [وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ] (النساء:131).
ثم أقترح ما يلي:
1_ زيادة الاهتمام بتعلم العقيدة، والدعوة إليها، وتيسير فهمها للناس، وربطها بحياتهم، وتعاملهم.
2_ الحرص على باب الإيمان بالقدر، وإخراج رسائل ميسرة تبين مفهومه، وتجيب عن الإشكالات الواردة فيه، والشبه التي تُثار حوله، خصوصاً وأن ذلك يرى في الحياة اليومية كالاحتجاج بالقدر على المعائب، وكترك الأخذ بالأسباب بحجة التوكل على الله والتسليم لقضائه وقدره، مما كان له الأثر السيئ على الأفراد والأمة بل إن ذلك مما لاحظه غير المسلمين كالمستشرق الألماني باول شمتز، حيث قال وهو يؤرخ لحال المسلمين في عصورهم المتأخرة: = طبيعة المسلم التسليم لإرادة الله، والرضا بقضائه وقدره، والخضوع بكل ما يملك للواحد القهار.
وكان لهذه الطاعة أثران مختلفان؛ ففي العصر الإسلامي الأول لعبت دوراً كبيراً في الحروب، وحققت نصراً متواصلاً؛ لأنها دفعت في الجندي روح الفداء.
وفي العصور المتأخرة كانت سبباً في الجمود الذي خيم على العالم الإسلامي، فقذف به إلى الانحدار، وعزله وطواه عن تيار الأحداث العالمية+( ).
3_ معالجة الانحرافات الواقعة في باب القدر بأسلوب قريب للعامة.
ومن تلك الانحرافات قلة اليقين بأن العاقبة للتقوى وللمتقين، ومنها استطلاع المستقبل عند الكهان والمنجمين، وكحال من يصدقون بتأثير الأسماء والأبراج فيما يجري عليهم من قضاء الله وقدره.
كل ذلك يحتاج إلى بيان دجل هؤلاء الكهان والمنجمين، وإلى دحض باطلهم بالأدلة النقلية والعقلية؛ حتى يسلم الناس من الخرافة، وتكون حياتهم على هدى وبصيرة.
4_ التنبيه على ما يقع بعد وقوع القدر من التصرفات الخاطئة كالاعتراض على القدر كقول كثير من الناس إذا أصيب بمصيبة: ماذا فعلت يا رب؟ أو أنا لا أستحق ذلك، أو مسكين فلان لقد ظلمته الأقدار، وجارت في حقه، وقست عليه.
وكذلك قول لو، وليت، والقيام بما يشعر بالاعتراض كشق الجيوب، ولطم الخدود، والنياحة، وحلق الشعر، والدعاء بالويل والثبور.
وكذلك الحسد، وتمني الموت إذا وقع على الإنسان ما وقع من البلاء واللأواء، وكذلك الانتحار.
فكل ذلك داخل في الانحراف في هذا الباب، وهو مما يَحْسُن أن يكثر الطرق عليه بأساليب مقربة متنوعة؛ حتى يسلم المسلمون من الوقوع فيما يخالف هذا الركن العظيم وهو الإيمان بالقدر.
5_ لشيخ الإسلام ابن تيمية × منهج متميز في طرق مسائل القدر، والرد على المخالفين فيه، وله كتابات كثيرة متشعبة في أكثر كتبه حول هذا الشأن؛ فحبذا لو انتدب أحد الدارسين إلى تقديم دراسة عنوانها:
منهج ابن تيمية في مسائل القدر، والرد على المخالفين فيه.
أو: القضاء والقدر عند ابن تيمية.
أو: القضاء والقدر من خلال كتب ابن تيمية.
وأظن أن هذه الدراسة ستكون رافداً من روافد المكتبة الإسلامية، وستخدم الباحثين في هذا الباب أيما خدمة.
وفي ختام هذه التوصيات أصل إلى نهاية هذه الرسالة، سائلاً الله _ عز وجل _ أن يسلك بنا طريق الذين أنعم عليهم، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم والضالين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.