×
فتح الرحيم الملك العلام في علم العقائد والتوحيد والأخلاق والأحكام المستنبطة من القرآن: يحوي هذا الكتاب فصولا مهمة في العقائد والأخلاق والأحكام، ويقع جزء الأحكام في آخره تميز بإشارته لجملة من الأحكام العامة المستنبطة من القرآن، بحيث يبوب ثم يذكر الآيات الواردة في هذا الباب ثم يشرع في استنباط الأحكام منها على سبيل الاختصار والتقريب.

 فتح الرحيم الملك العلام في علم العقائد والتوحيد والأخلاق والأحكام المستنبطة من القرآن

تأليف

الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي

رحمه الله تعالى

(1307هـ -  1376هـ)

اعتنى به

عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر


بسم الله الرحمن الرحيم

 تقريظ فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل

الحمد لله الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

وبعد: فلا تزال فوائد شيخنا العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي تتجدد حتى بعد وفاته، وذلك مما يتحفنا به أبناؤه وأحفاده حفظهم الله. من الفوائد الجديدة والمؤلفات النفيسة التي لم تنشر بعد لأنه رحمه الله قد أشرب حب العلم والتعليم والبحث والتأليف حتى سهلت عليه الكتابة، فلا تكاد تراه إلا باحثاً أو معلماً أو مؤلفاً أو كاتباً. وإن من أنفع مؤلفاته الأخيرة التي لم تُنشر بعد كتاب «فتح الرحيم الملك العلاّم في علم العقائد والتوحيد والأخلاق والأحكام المستنبطة من القرآن» ، هكذا سماه المؤلف بخط يده المثبت على طرة الكتاب، وسمّاه في موضع آخر: «بستان الموقنين وقرة عيون المؤمنين» فهما اسمان لمسمى واحد وهو هذا الكتاب المختصر الذي جمع فيه مؤلفه على اختصاره ثلاثة فنون. أحدها: علم التوحيد والعقائد. والثاني: علم الأخلاق والآداب. والثالث: علم الفقه، عبادات ومعاملات وغيرها.

فهذه الفنون الثلاثة هي أهم ما يمكن أن يحققه المسلم ويشملها قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين»، فمن حصل عليها فليبشر بأن الله قد أراد به خيراً وفقهه في الدين. وقد صدّره المؤلف بتفسير بعض الأسماء الحسنى تبركاً بها وتيمُّناً بمعانيها، ثم استرسل يذكر مسائل الكتاب بعبارات جزلة واضحة.

وقد خدمه فضيلة الدكتور عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر، الأستاذ في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنوّرة، وذلك بمقابلته على أصوله، وتصحيح عباراته، وعزو آياته، وتخريج أحاديثه، ووضع فهارسه، وغير ذلك مما زاده وضوحاً وقرب فوائده.

فجزاه الله خيراً على ما خدم به هذا المؤلف الجليل وأثابه على ذلك.

وعلى كُلٍّ فمخبر الكتاب يفوق منظره وما رآءٍ كمن سمع، وإني أحث إخواني وأبنائي الطلاب على دراسته والنهل من معينه، فإن صلاح نية مؤلفه وإخلاصه ـ ولا نزكي على الله أحداً ـ لها دخل كبير في حصول الفائدة وقرب الانتفاع وبالله التوفيق.

وصلى الله على محمد وآله وصحبه.

وكتبه الفقير إلى الله

عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل

رئيس الهيئة الدائمة بمجلس القضاء الأعلى سابقاً


بسم الله الرحمن الرحيم

 الـمقدمة

الحمد لله الذي أنزل كتابه هدى للعالمين، وتبصرة للمتقين، ومحجة للسالكين، بلسان عربي مبين، القائل سبحانه { إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا }. [الإسراء].

أما بعد: فإنَّ القرآن الكريم كلامَ رب العالمين هو أعظم أبواب الهداية وأجلُّ سبل الفلاح. أنزله الله على عباده هدى ورحمة وبشرى، وضياء ونوراً، وذكرى للذاكرين، جمع فيه سبحانه العلوم النافعة والمعاني الجليلة الكاملة، والترغيب والترهيب، والأصول والفروع، والوسائل والمقاصد، والعلوم الدينية والدنيوية والأخروية، وجعله مرشداً للعباد إلى كلِّ طريق نافع وسبيل قويم، يفرقون به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والخير والشر، ويهديهم إلى أقوم الأمور وأرشدها وأنفعها في كلِّ شيء في العقائد والعبادات والآداب، ويرشدهم إلى كلِّ صلاح وفلاح ديني ودنيوي بحيث تقوم به أمورهم، وتزكو نفوسهم، وتعتدل أحوالهم، ويستقيم طريقهم، ويحصل لهم الكمال المتنوع من كلِّ وجه، فهو كتاب علم وتعليم تزول به الضلالات المتفرقة والجهالاتِ المتنوعة، وكتاب تربية وتأديب تتحقق به الأخلاق الفاضلة والأعمال الكريمة.

وهو كتاب بحره عميق، وفهمه دقيق، وخزائنه ملأى، لا يصل إلى استخراج كنوزه، واستنباط جواهره إلا مَنْ تبحر في العلوم وعامل الله تعالى بتقواه في سره وعلانيته.

ونحسب أنَّ الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي ـ رحمه الله ـ كذلك، إذ قد منّ الله عليه بكتابة عدد من المؤلفات النافعة حول القرآن الكريم، لقيت القبول بين المسلمين، وانتشرت بين أهل العلم وطلابه، وأفاد منها الخاص والعام، ويأتي في مقدمتها كتابه الذي ألفه في تفسير القرآن، وخلاصته، والقواعد الحسان التي يحتاج إليها المفسر، إلى غير ذلك مما ألفه ـ رحمه الله ـ في خدمة كتاب الله ـ عز وجل ـ.

وهذا الكتاب الذي بين أيدينا الآن الموسوم بـ (فتح الرّحيم الملك العلاّم في علم العقائد والتوحيد والأخلاق والأحكام المستنبطة من القرآن) هو أحد مؤلفاته النفيسة المتعلقة بكتاب الله تعالى يخرج إلى طلاب العلم لأول مرة، وقد جمع فيه ـ رحمه الله ـ أهمَ علوم القرآن وأجلَّها على الإطلاق وهي ثلاثة علوم:

1 ـ علم التوحيد والعقائد الدينية.

2 ـ علم الأخلاق والخصال الفاضلة.

3 ـ علم الأحكام للعبادات والمعاملات.

بذلك الأسلوب العلمي الرائع المعهود في الشيخ ـ رحمه الله ـ بعباراته الجزلة، وألفاظه السهلة، وتنبيهاته اللطيفة، في حسن نصح وتمام إرشاد، فرحمه الله من إمام، وجزاه عن المسلمين خير الجزاء، ورفع في الجنة درجته، وأعلا فيها منزلته، إنَّه سميعٌ مجيبٌ.

وقد اعتمدت في إخراجه على نسخة بخط مؤلفه رحمه الله محفوظة لدى أبنائه حفظهم الله وبارك فيهم، وقد لمست فيهم حرصاً كبيراً ورغبة شديدة في نشر مؤلفات والدهم، وتوزيعها احتساباً للأجر والثواب، والشيء من معدنه لا يستغرب، فنسأل الله أن يتقبل منهم، ويثيبهم، ويوفقهم لكلِّ خير.

أما عن عملي في هذا الكتاب فيتلخص في الآتي:

1 ـ مقابلة المصفوف من الكتاب على نسخته الخطية، مع الحرص قدر المستطاع على إخراجه إخراجاً سليماً من الأخطاء كما أراده مؤلفه ـ رحمه الله ـ.

2 ـ عزو الآيات إلى سورها مع تصويب الأخطاء القليلة الواقعة في بعض الآيات، لأنَّ الشيخ رحمه الله ـ فيما يظهر ـ كان يكتبها من حفظه.

3 ـ تخريج الأحاديث باختصار، فما كان في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت بتخريجه منهما، وما كان في غيرهما أشير إلى مصدر أو مصدرين من مصادر تخريجه مع ذكر درجته.

4 ـ التعليق على بعض المواطن اليسيرة بإحالة إلى مرجع أو توثيق معلومة أو نحو ذلك.

5 ـ وضع فهرس لموضوعات الكتاب في آخره.

والله الكريم أسأل أن ينفع به، وأن يجزي مؤلفه خير الجزاء، وأن يغفر لنا جميعاً، ولوالدين، وللمسلمين والمسلمات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

وكتبه: عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

المدينة النبوية



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي نزّل الكتاب هدى وشفاء لما في الصدور، وأودع فيه من أصناف المعارف وأنواع العلوم ما تستقيم به الأمور، يسَّره للمتذكِّرين، وبيّنه للمتدبِّرين، وكشفه للمتفكرين، وأصلح به الظاهر والباطن والدنيا والدين، وجعله من فضله وكرمه حاوياً لعلوم الأوَّلين والآخرين، ومهيمناً على الكتب والمقالات، وآيةً للمستبصرين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه وسلطانه، ولا مثيل له في نعوته وأوصافه وكرمه وإحسانه، ولا نديد له في ألوهيته وحمديته وعظمة كبريائه وشأنه.

وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله المؤيَّد بآياته وبرهانه، الهادي إلى جنته ورضوانه.

اللهم صلّ على محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه على الحق وأعوانه وسلِّم تسليماً.

أما بعد: فقد كتبت سابقاً كتاباً مطولاً في تفسير القرآن، فصار طوله من أكبر الدواعي لعدم نشره؛ لفتور الهمم ومللِها من الطول، ثم إني بعد ذلك استخلصت منه ومن غيره قواعد تتعلق كلُّها بأصول التفسير، وهي نعم العون للراغبين في علم التفسير الذي هو أصل العلوم كلِّها، فبلغت سبعين قاعدة، ويسّر المولى طبعها ونشرها.

فتكرَّر علي الطلب في السعي في نشر التفسير فاعتذرت بالعذر المذكور، ولكن لا زلت أفكر في تلخيصه واختصاره ([1])، فظهر لي أنَّ الأولى والأنفع إفرادُ علومِ التفسير كلِّ نوع على حدته ولو لزم من ذلك ترك ترتيب التفسير، بل لو لزم من ذلك ترك الكلام على كثير من الآيات القرآنية إذا تكلمنا على نظيرها أو ما يقاربها، فإنَّ الإحاطة على جميع الآيات القرآنية ليس من شروط علم التفسير، لأنَّ من خواص تيسير الله لمعاني كتابه أنَّه جعله أصولاً وقواعد وأسساً، إذا عرف العبد منها شيئاً وموضعاً عرف نظيره ومشابهه ومقاربه في كلِّ المواضع، فمعرفة بعضه يدعو إلى معرفة باقيه.

ثم نظرت فإذا علوم التفسير كثيرة جداً، وفي استيعابها يطول الكتاب جداً، فرأيت أهم علوم القرآن على الإطلاق ثلاثة علوم: علم التوحيد والعقائد الدينية، وعلم الأخلاق والخصال المرضية، وعلم الأحكام للعبادات والمعاملات.

فرأيت الاقتصار على هذه الثلاثة أولى وأنفع وأحسن موقعاً ([2])، وكلُّ واحد من هذه الثلاثة يقتضي كتاباً مطولاً وخصوصاً علم الأحكام، ولكن أتينا بمقاصدها ونصوصها من الكتاب، وجمعناها في فنِّها واختصرنا الكلام فيها اختصاراً لا يخل بالمقصود ولا يغلق العبارات، بل أتينا بذلك بعبارات واضحة ليس فيها حشو ولا تعقيد.

ونسأل المولى تعالى أن يعيننا على ذلك وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعنا به وسائر إخواننا المسلمين، وأن يعفو عن خطئنا وتقصيرنا وإسرافنا في أمرنا، إنَّه جواد كريم. وسميته: «فتح الرحيم العلاَّم في علم العقائد والأخلاق والأحكام» المستندة إلى كتاب الله الكريم نصاً واستنباطاً وتنبيهاً وإرشاداً.



 النوع الأول من علوم القرآن

 علم العقائد وأصول التوحيد

وهذا هو أشرف العلوم على الإطلاق وأفضلها وأكملها، وبه تستقيم القلوب على العقائد الصحيحة، وبه تزكو الأخلاق وتنمو، وبه تصح الأعمال وتكمل.

وموضوع هذا العلم البحث عما يجب لله من صفات الكمال ونعوت الجلال، وما يمتنع ويستحيل عليه من أوصاف النقص والعيب والمثال، وما يجوز عليه من إيجاد الكائنات وأنَّه الفعّال لما يريد، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

وكذلك البحث عما يجب الإيمان به من الرسل وصفاتهم، وما يجب لهم ويمتنع في حقهم ويجوز، والإيمان بالكتب المنزلة على الرسل، والإيمان بما أخبر الله به وأخبرت به رسله عن الحوادث الماضية والمستقبلة، وعن الإيمان باليوم الآخر، والجزاء والثواب والعقاب، والجنة والنار، وما يتبع ذلك ويتعلق به.

فهذه مجملات مواضيع هذا العلم الجليل، والقرآن العظيم قد بيّن هذه الأمور غاية التبيين، ووضَّحها توضيحاً لا يقاربه شيء من الكتب المنزلة، ولم يُبْقِ منها أصلاً إلا بيّنه وجمع فيه بين البيان والبرهان، بيّن المسائل المهمة الجليلة، والبراهين القاطعة العقلية والنقلية والفطرية. وهذا النوع أقسام:


 أولها ومقدَّمها: علم التوحيد.

وهو العلم بما لله من جميع صفات الكمال، وأنَّ الرب تفرَّد بها، وأنَّ له الكمال المطلَق الذي لا تقدر القلوب أن تبلغ كنهه، ولا الألسن على التعبير عنه، ولا يقدر الخلق على الإحاطة ببعض صفاته فضلاً عن جميعها، وهذا العلمُ مبنيٌ على اعتقادٍ وعلمٍ وعلى تألُّهٍ وعملٍ.

أما الاعتقاد والعلم، فأنْ يعتقد العبد أنَّ جميع ما وصف الله به نفسه من الصفات الكاملة ثابتٌ لله على أكمل الوجوه، وأنَّه ليس لله في شيء من هذا الكمال مشارك، وأنَّه منزّهٌ عن كلِّ ما ينافي هذا الكمال ويناقضه، مما نزّه به نفسه أو نزّهه رسوله صلى الله عليه وسلم.

وأما التأله والعمل، فأن يتقرَّب العبد إلى ربه بأعماله الظاهرة والباطنة إلى الله، ويخلصها لوجهه وينيب إليه ويتألهه محبة وخوفاً ورجاءً وطلباً وطمعاً، فيقصد وجهه الأعلى بما يعتقده من العقائد الصحيحة، وبما يقصده ويريده من الإرادات الصالحة والمقاصد الحسنة التابعة لأعمال القلوب، وبما يعمله من الأعمال الصالحة الراجعة للقيام بحقوق الله وحقوق عباده، وبما يقوله ويتكلم به من ذكر الله والثناء عليه وقراءة كلامه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام أهل العلم الذي يرجع إلى ذلك، ومن الكلام الطيِّب والنُصح للعباد في أمور دينهم ودنياهم، ومن ذلك تعلمُ العلوم النافعة وتعليمُها، فكلُّ هذه الأشياء يجب إخلاصها لله وحده، وبتمام الإخلاص يتم التوحيد والإيمان.

فبهذا التقرير يكون التوحيد يرجع إلى أمرين:

توحيد الأسماء والصفات، ويدخل فيه توحيد الربوبية، وهذا يرجع إلى العلم والاعتقاد.

وتوحيد الإلهية والعبادة، وهذا يرجع إلى العمل والإرادة، عملِ  القلوب وعملِ الأبدان كما تقدم، ويسمَّى توحيد الإلهية، لأنَّ الإلهية وصف الباري تعالى، ويسمَّى توحيد العبادة لأنَّ العبادة وصف العبد الموحّد  المخلص لله في أقواله وأعماله وجميع شؤونه، والقرآن العظيم يكاد كلُّه أنْ يكون تقريراً لهذه الأصول العظيمة، ودفعاً لما يناقضها ويضادّها من التعطيل والتشبيه والتنقيص، ومن الشرك الأكبر والأصغر والتنديد.

وجوب تصديق الله ورسوله في كلِّ خبر وتقديم ذلك على غيره

قال تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ } [آل عمران: 95] ، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا } [النساء: 122] ، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } [النساء: 87] {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [فاطر: 14] ، {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ } [البقرة: 140] ، {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ } [الأنعام: 19] ، {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } [النساء] ، {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [آل عمران] .

والآيات في هذا المعنى العظيم كثيرة، تدل أوضح دلالة، على أنَّ أفرض الفروض على العباد أن يصدقوا الله تعالى في كلِّ ما أخبر به عن نفسه من صفات الكمال وما تنزَّه عنه من صفات النقص، وأنَّه أعلم بذلك من خلقه، وشهادته على ذلك أكبر شهادة، وخبره عن نفسه وعن جميع ما يخبر به أعلى درجات الصدق، وذلك يوجب للعبد أن لا يدخل في قلبه أدنى ريبٍ في أيِّ خبر يخبر الله به، وأن يُنَزِّلَ ذلك من قلبه منزلة العقيدة الراسخة التي لا يمكن أن يعارضها معارض ولا يعتريها شك.

وأن يعلم علماً يقينياً أنَّه لا يمكن أن يَرِدَ شيءٌ يناقض خبر الله وخبر رسوله، وأنَّ كلَّ ما عارض ذلك ونافاه من أيِّ علم كان، فإنَّه باطل في نفسه وباطل في حكمه، وأنَّه محالٌ أن يرد علم صحيح يناقض ما أخبر الله به، وتدل أكبر دلالة أنَّ من بنى عقيدته على مجرد خبر الله وخبر رسوله فقد بناها على أساسٍ متينٍ، بل على أصل الأصول كلِّها، ولو فرض وقدِّر معارضةُ أيِّ معارضٍ كان، فكيف والأدلةُ العقليةُ والفطرية والأفقية والنفسيـة


كلُّها تؤيد خبر الله وخبر رسله وتشهد بصدق ذلك ومنفعته، ولهذا مدح الله خواص خلقه وأولي الألباب منهم حيث بنوا إيمانهم على هذا الأصل في قولهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا } [آل عمران: 193] ، {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [البقرة: 285] ، {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ } [الزمر] .

وعُلِمَ من ذلك أنَّ ابتداع أهل الكلام الباطل لأقوال وعقائد ما أنزل الله عليها من سلطان، ولم تُبْنَ على الكتاب والسنّة، بل على عقولٍ قد عُلم خطأ أصحابها وضلالهم، أنَّه من أبطل الباطل وأسفه السفه، حيث رغبوا عن خبر الله وخبر رسله إلى حيث سوَّلت لهم نفوسهم الأمّارة بالسوء، ودعتهم عقولهم التي لم تَتَزكَّ بحقائق الإيمان، ولا تغذت بالإيمان الصحيح واليقين الراسخ.

يكفي هذا الأصل في ردِّ جميع أقوال أهل الزيغ بقطع النظر عن معرفة بطلانها على وجه التفصيل، لأنَّه متى علمنا مخالفتها للقواطع الشرعية والبراهين السمعية علمنا بطلانها، لأنَّ كلَّ ما نافى الحق فهو باطل، وما خالف الصدق فهو كذب.

 شرح أسماء الله الحسنى الواردة في القرآن على وجه الإيجاز غير المخِلِّ

هذا الأصل هو أعظم أصول التوحيد، بل لا يقوم التوحيد ولا يتم ولا يكمل حتى ينبني على هذا الأصل، فإنَّ التوحيد يقوى بمعرفة الله، ومعرفةُ الله أصلها معرفة أسمائه الحُسنى وما تشتمل عليه من المعاني العظيمة والتعبُّد لله بذلك.

وفي الحديث الصحيح: «إنَّ لله تسعة وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة» ([3]).

وإحصاؤها تحصيل معانيها في القلب، وامتلاء القلب من آثار هذه المعرفة، فإنَّ كلَّ اسم له في القلب الخاضع لله المؤمن به أثرٌ وحالٌ لا يُحَصِّلُ العبد في هذه الدار ولا في دار القرار أجلَّ وأعظمَ منها، فنسأله تعالى أن يمنَّ علينا بمعرفته ومحبته والإنابة إليه.

الـلَّـه

هذا الاسم الجليل الجميل هو أعظم الأسماء الحسنى، بل قيل: إنَّه الاسم الأعظم ([4])، وسيأتي التنبيه على الاسم الأعظم عن قريب إنْ شاء الله.

ولهذا تضاف جميع الأسماء الحسنى إلى هذا الاسم ويوصف بها، فيقال: الرحمن، الرحيم، الخالق، الرازق، العزيز، الحكيم، إلى آخرها من أسماء الله. ولا يقال: الله من أسماء الرحمن، الرحيم، إلى آخرها.

فمعنى الله كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: «ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين» ([5])، فجمع رضي الله عنه في هذا التفسير بين الوصف المتعلِّق بالله من هذا الاسم الكريم، وهو الألوهية التي هي وصفه الدال عليها لفظ الله، كما دلَّ على العلم الذي هو وصفه لفظ العليم، وكما دل على العزة التي هي وصفه لفظ العزيز، وكما دلَّ على الحكمة التي هي وصفه لفظ الحكيم، وكما دلَّ على الرحمة التي هي وصفه لفظ الرحيم، وغيرها من الأسماء الدالة على ما قام بالذات من مدلول صفاتها.

فكذلك الله هو ذو الألوهية، والألوهية التي هي وصفه هي الوصف العظيم الذي استحق أن يكون به إلهاً، بل استحق أن لا يشاركه في هذا

الوصف العظيم مشارِكٌ بوجه من الوجوه.

وأوصاف الألوهية هي جميع أوصاف الكمال، وأوصاف الجلال والعظمة والجمال، وأوصاف الرحمة والبرِّ والكرم والامتنان.

فإنَّ هذه الصفات هي التي يستحق أن يُؤله ويُعبد لأجلها، فيؤله لأنَّ له أوصافَ العظمة والكبرياء، ويؤله لأنَّه المتفرِّد بالقيُّومية والربوبية والملك والسلطان، ويؤله لأنَّه المتفرِّد بالرحمة وإيصال النِعم الظاهرة والباطنة إلى جميع خلقه، ويؤله لأنَّه المحيط بكلِّ شيء علماً وحُكْماً وحكمةً وإحساناً ورحمة وقدرة وعزة وقهراً، ويؤله لأنَّه المتفرِّد بالغنى المطلق التامِّ من جميع الوجوه، كما أنَّ ما سواه مفتقر إليه على الدوام من جميع الوجوه، مفتقر إليه في إيجاده وتدبيره، مفتقر إليه في إمداده ورزقه، مفتقر إليه في حاجاته كلِّها، مفتقر إليه في أعظم الحاجات وأشد الضرورات، وهي افتقاره إلى عبادته وحده والتأله له وحده.

فالألوهية تتضمن جميع الأسماء الحسنى والصفات العليا، وبهذا احتج من قال: إنَّ الله هو الاسم الأعظم، ومنهم من قال: إنَّه الصمد الذي تصمد إليه جميع المخلوقات بحاجتها لكمال سيادته وعظمته وسعة أوصافه، ومنهم من قال: إنَّ الاسم الأعظم هو الحي القيوم لوروده في بعض الأحاديث، ولأنَّ هذين الاسمين العظيمين يتضمنان جميع الأسماء الحسنى والصفات الكاملة، فإنَّ الصفات الذاتية ترجع إلى الحي الذي قد كملت حياته فكملت صفاته، وصفات الأفعال ترجع إلى القيُّوم؛ لأنَّه الذي قام بنفسه وقام بغيره ([6])، وافتقرت إليه الكائنات بأسرها، وقيل في تعيين الاسم الأعظم أقوال أُخر ([7])، والتحقيق أنَّ الاسم الأعظم اسم جنس لا يراد به اسم معين، فإنَّ أسماء الله نوعان:

أحدهما: ما دلَّ على صفة واحدة أو صفتين أو تضمن أوصافاً معدودة.

والثاني: ما دلَّ على جميع ما لله من صفات الكمال، وتضمَّن ما له من نعوت العظمة والجلال والجمال، فهذا النوع هو الاسم الأعظم لما دلَّ عليه من المعاني التي هي أعظم المعاني وأوسعها.

فاللَّهُ اسم أعظم، وكذلك الصمد، وكذلك الحي القيوم، وكذلك الحميد المجيد، وكذلك الكبير العظيم، وكذلك المحيط. وهذا التحقيق هو الذي تدل عليه التسمية وهو مقتضى الحكمة، وبه أيضاً تجتمع الأقوال الصحيحة كلُّها، والله أعلم ([8]).

والمقصود أنَّ هذا التفسير من ابن عباس رضي الله عنهما يُدْخِلُ فيها وصفَه بالألوهية التي نبهنا هذا التنبيه اللطيف على معنى الألوهية، ويُدْخِلُ فيها وصفَ العباد وهو العبودية، فالعباد يعبدونه ويألهونه.

قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } [الزخرف: 84] ، أي: يألهه أهل السماء وأهل الأرض طوعاً وكرهاً، الكلُّ خاضعون لعظمته، منقادون لإرادته ومشيئته، عانون لعزَّته وقيُّوميته.

وعباد الرحمن يألهونه ويعبدونه، ويبذلون له مقدورهم بالتأله القلبي والروحي، والقولي والفعلي، بحسب مقاماتهم ومراتبهم، فيعرفون من نعوته وأوصافه ما تتسع قواهم لمعرفته، ويحبونه من كلِّ قلوبهم محبةً تتضاءل جميعُ المحابِّ لها، فلا يعارض هذه المحبة في قلوبهم محبة الأولاد  والوالدين وجميع محبوبات النفوس، بل خواصهم جعلوا كلَّ محبوبات النفوس الدينية والدنيوية العادية تبعاً لهذه المحبة، فلما تمَّت محبة الله في قلوبهم أحبوا ما أحبه من أشخاص وأعمال وأزمنة وأمكنة، فصارت محبتهم وكراهتهم تبعاً لإلههم وسيدهم ومحبوبهم.

ولما تمَّت محبة الله في قلوبهم التي هي أصل التأله والتعبد أنابوا إليه فطلبوا قُربه ورضوانه، وتوسَّلوا إلى ذلك وإلى ثوابه بالجد والاجتهاد في فعل ما أمر الله به ورسوله، وفي ترك جميع ما نهى الله عنه ورسوله، وبهذا صاروا محبِّين محبوبين له، وبذلك تحققت عبوديتهم وألوهيتهم لربهم، وبذلك استحقوا أن يكونوا عباده حقاً، وأن يضيفهم إليه بوصف الرحمة حيث قال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ } [الفرقان: 63] ، ثم ذكر أوصافهم الجميلة التي إنما نالوها برحمته وتبوأوا منازلها برحمته، وجازاهم بمحبته وقُربه ورضوانه وثوابه وكرامته برحمته.

وقد عُلم بهذا أنَّ من بذل هذه المحبة التي هي روح العبادة التي خلق الخلق لها لغير الله، فقد وضعها في غير موضعها، ولقد ضيَّعها أيضاً، ولقد ظلم نفسه أعظم الظلم، حيث هضمها أعظم حقوقها، وبذلك استحق أن يكون الشرك هو الظلم العظيم، وأن يكون المشرك مخلداً في النار، محروماً دخول الجنة محرَّماً عليه، لأنها دار الطيبين الذين عبدوه حق عبادته وأخلصوا له الدين.

وقد جمع الله هذين المعنيين في عدة مواضع مثل قوله تعالى لموسى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } [طه] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء] ، {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [مريم: 65] ، أي مسامياً مماثلاً في صفات الألوهية.

وكذلك كلمة الإخلاص وهي لا إله إلا الله، تتضمن نفي الألوهية  عن غير الله، وأنَّه لا يستحق أحد من الخلق فيها مثقال ذرة، فلا يصرف لغير الله شيء من العبادات الظاهرة والباطنة، وتقرر الألوهية كلَّها لله وحده، فهو الذي يستحق أن يؤله محبة ورغبة ورهبة وإنابة إليه، وخضوعاً وخشوعاً له من جميع الوجوه والاعتبارات، فهو المألوه وحده، المعبود، المحمود، المعظّم، المُمَجّد، ذو الجلال والإكرام.

الرحمن، الرحيم، البَرُّ

الكريم، الجواد، الوهاب، الرؤوف

هذه الأسماء الكريمة متقارب معناها، وكلُّها تدل على أنَّه موصوف بكمال الرحمة وسعة البر والإحسان، وكثرة المواهب والحنان والرأفة.

فجميع ما فيه العالم العلوي والسفلي من حصول المنافع والمحاب والمسار والخيرات، فإنَّ ذلك منه ومن رحمته وجوده وكرمه وفضله، كما أنَّ ما صرف عنهم من المكاره والنقم والمخاوف والأخطار والمضار، فإنَّها من رحمته وبره، فإنَّه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يدفع السيئات إلا هو.

ورحمته تعالى سبقت غضبه وغلبته، وظهرت في خلقه ظهوراً لا ينكر، حتى ملأت أقطار السموات والأرض، وامتلأت منها القلوب حتى حنَّت المخلوقات بعضُها على بعض بهذه الرحمة التي نشرها عليهم وأودعها في قلوبهم، وحتى حنَّت البهائم التي لا ترجو نفعاً ولا عاقبة ولا جزاء على أولادها، وشوهد من رأفتها بهم وشفقتها العظيمة ما يشهد بعناية باريها ورحمته الواسعة، وعمَّت مواهبه أهل السموات والأرض، ويسَّر لهم المنافع والمعايش والأرزاق وربطها بأسبابٍ ميسَّرةٍ وطرقٍ مسهلةٍ، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها.

وعلم تعالى من مصالحهم ما لا يعلمون، وقدَّر لهم منها ما لا يريدون، وما لا يقدرون، وربما أجرى عليهم مكاره توصلهم إلى ما يحبون، بل رحمهم بالمصائب والآلام، فجعل الآلام كلَّها خيراً للمؤمن الذي يقوم بوظيفة الصبر. «عجباً لأمر المؤمن إنَّ أمره كلَّه خير، إن أصابته سرَّاءُ شكر فكان خيراً لـه، وإن أصابته ضرَّاءُ صبر فكان خيراً لـه، وليس

ذلك إلا للمؤمن ([9])، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

وكذلك ظهرت رحمته في أمره وشرعه ظهوراً تشهده البصائر والأبصار، ويعترف به أولوا الألباب. فشَرْعه نور ورحمة وهداية، وقد شرعه محتوياً على الرحمة، وموصلاً إلى أجلِّ رحمة وكرامة وسعادة وفلاح. وشرع فيه من التسهيلاتِ والتيسيراتِ ونفيِ الحرج والمشقات ما يدل أكبر دلالة على سعة رحمته وجوده وكرمه، ومناهيه كلُّها رحمة لأنَّها لحفظ أديان العباد، وحفظ عقولهم وأعراضهم وأبدانهم وأخلاقهم وأموالهم من الشرور والأضرار.

فكلُّ النواهي تعود إلى هذه الأمور، وأيضاً الأوامر سهَّلها وأعان عليها بأسبابٍ شرعيةٍ وأسبابٍ قدريةٍ، وذلك من تمام رحمته، كما أنَّ النواهي جعل عليها من العوائق والموانع ما يحجز العباد عن مواقعتها إلا من أبى وشرد، ولم يكن فيه خير بالكليَّة. وشرع أيضاً من الروادع والزواجر والحدود ما يمنع العباد ويحجزهم عنها، ويقلِّل من الشرور شيئاً كثيراً.

وبالجملة فشرعه وأمره نزل بالرحمة، واشتمل على الرحمة، وأوصل إلى الرحمة الأبدية والسعادة السرمدية.

الخالق البارئ المصوِّر

أي هو المنفرد بخلق جميع المخلوقات، وبرَأ بحكمته جميع البريَّات، وصوّر بإحكامه وحسن خلقه جميع الكائنات، فخلقها وأبدعها وفطرها في الوقت المناسب لها، وقدّر خلقها أحسن تقدير، وصنعها أتقن صنع وهداها لمصالحها، أعطى كلَّ شيء خلقه اللائق به، ثم هدى كلَّ مخلوق لما هُيئ وخلق له.

وإذا كان هو الخالق وحده البارئ المصور لا شريك له في شيء من ذلك، فهو الإله الحق الذي لا يستحق العبادة إلا هو، وهو الخالق للذوات والأفعال والصفات، وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويجعل المؤمن مؤمناً والكافر كافراً، من غير أن يجبر العباد على غير ما يريدون.

ففي عموم خلقه ردّ على القدرية حيث أخرجوا أفعال العباد وطاعاتهم ومعاصيهم عن دخولها تحت خلقه وتقديره، حذراً منهم وفراراً من الجبر، ولم يدروا أنَّ كماله وكمال قدرته ينفي الجبر، وأنَّه قادرٌ على جعل العبد يفعل ما يختاره ويريده جارياً على قدره ومشيئته، فهو أعظم من أن يجبر العباد، وأعدل من أن يظلمهم، بل هم الذين يريدون ويختارون والله هو الذي جعلهم كذلك، وإرادتهم وقدرتهم تابعة لمشيئة الله، {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) } [التكوير] .

العزيز الجبار المتكبِّر القهَّار القوي المتين

فالعزيز الذي له جميع معاني العزة، {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } [يونس: 65] ، فهو العزيز لكمال قوته وهذه عزة القوة، ويرجع إلى هذا المعنى القويُّ المتينُ. وعزة الامتناع عن مغالبة أحد، وعن أن يقدر عليه أحد، أو يبلغ العباد ضرّه فيضرّوه، أو نفعه فينفعوه، وامتناعه وتكبره عن جميع ما لا يليق بعظمته وجلاله من العيوب والنقائص، وعن كلِّ ما ينافي كماله، ويرجع إليها معنى المتكبر مع أنَّ المتكبر اسم دالٌ على كمال العظمة ونهاية الكبرياء، مع دلالته على المعنى المذكور وهو تكبره وتنزُّهه عمَّا لا يليق بعظمته ومجده وجلاله.

المعنى الثالث عزة القهر، الدال عليها اسم القهار الذي قهر بقدرته جميع المخلوقات، ودانت له جميع الكائنات، فنواصي العباد كلِّهم بيده، وتصاريف الملك وتدبيراته بيده، والملك بيده، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.

فالعالم العلوي والعالم السفلي بما فيها من المخلوقات العظيمة كلُّها قد خضعت في حركاتها وسكناتها، وما تأتي وما تذر لمليكها ومدبِّرها، فليس لها من الأمر شيء، ولا من الحكم شيء، بل الأمر كلُّه لله، والحكم الشرعي والقدري والجزائي كلُّه لله، لا حاكم إلا هو، ولا رب غيرُه، ولا إله سواه.

والعزة بمعنى القهر هي أحد معاني الجبار، ومن معاني الجبار أنَّه العلي الأعلى، الذي على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، وعلى السلطان وأنواع التصاريف استولى.

ومن معاني الجبار معنى يرجع إلى لطف الرحمة والرأفة، وهو الذي يجبر الكسير، ويغني الفقير، ويجبر المريض والمبتلى، ويجبر جبراً خاصاً قلوب المنكسرين لجلاله، الخاضعين لكماله، الراجين لفضله ونواله بما يفيضه على قلوبهم من المحبة وأنواع المعارف الربانية، والفتوحات الإلهية والهداية والإرشاد والتوفيق والسداد.

المَلِك المالك للمُلك

أي الذي له جميع النعوت العظيمة الشأن، التي تفرَّد بها ملك الملوك، من كمال القوة والعزة والقدرة، والعلم المحيط والحكمة الواسعة ونفوذ المشيئة، وكمال التصرف وكمال الرأفة والرحمة، والحكم العام للعالم العلوي والعالم السفلي، والحكم العام في الدنيا والآخرة، والحكم العام للأحكام الثلاثة التي لا تخرج عنها جميع الموجودات:

[1] ـ الأحكام القدرية حيث جرت الأقدار كلُّها والإيجاد والإعدام، والإحياء والإماتة، والإيجاد والإعداد والإمداد كلُّها على مقتضى قضائه وقدرهِ.

[2] ـ والأحكام الشرعية حيث أرسل رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه، وخلق الخلق لهذا الحكم، وأمرهم أن يمشوا على حكمه في


عقائدهم وأخلاقهم، وأقوالهم وأفعالهم، وظاهرهم وباطنهم، ونهاهم عن مجاوزة هذا الحكم الشرعي، كما أخبرهم أنَّ كلَّ حكم يناقض حكمه فهو شرٌ جاهليٌ من أحكام الطاغوت.

[3] ـ والأحكام الجزائية، وهو الجزاء على الأعمال خيرها وشرها في الدنيا والآخرة، وإثابةُ الطائعين، وعقوبةُ العاصين، وتلك الأحكام كلُّها تابعةٌ لعدله وحكمته وحمده العام، فهذه النعوت كلُّها من معاني ملكه.

ومن معاني ملكه: أنَّ جميع الموجودات كلِّها ملكُه وعبيده المفتقرون إليه، المضطرون إليه في جميع شؤونهم، ليس لأحد خروج عن ملكه، ولا لمخلوق غنىً عن إيجاده وإمداده، ونفعه ودفعه.

ومن معاني ملكه: إنزالُ كتبه، وإرسال رسله، وهداية العالمين، وإرشاد الضالين، وإقامة الحجة والمعذرة على المعاندين المكابرين، ووضع الثواب والعقاب مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها.

كما أنَّ من معاني ملكه: أنَّه كلَّ يوم في شأن يغفر ذنباً، ويفرّج كرباً، ويكشف غمًّا، ويزيل المشقَّات، ويغيث اللهفات، ويجبر الكسير، ويغني الفقير، ويهدي ضالاً، ويخذل معرضاً مولياً، ويعزُّ قوماً، ويذلُّ آخرين، ويرفع قوماً، ويضع آخرين، ويغيِّر ما شاء من الأمور الجارية على نظام واحد، ليعرف العباد كمال ملكه، ونفوذ مشيئته، وعظمة سلطانه.

فالملك يرجع إلى ثلاثة أمور: صفات الملك التي هي صفاته العظيمة، وملكه للتصاريف والشؤون في جميع العوالم، وأن جميع الخلق مماليكه وعبيده، فهو الملِكُ الذي له ملكُ العالم العلوي والسفلي، وله التدبيرات النافذة فيها، ليس لله في شيء من ذلك مشارك.

القُدُّوس السلام

أي الذي له كلُّ قُدس وطهارة وتعظيم، وتقدَّس عن صفات النقص. فالقُّدوس يرجع إلى صفات العظمة، وإلى السلامة من العيوب والنقائص، كما

أنَّ السلام يدل على المعنى الثاني، فهو السالم من كلِّ عيب وآفة ونقص.

ومجموع ما ينزّه عنه شيئان:

أحدهما: أنَّه منزّه عن كلِّ ما ينافي صفات كماله، فإنَّ له المنتهى في كلِّ صفة كمال، فهو موصوف بكمال العلم وكمال القدرة، منزّه عما ينافي ذلك من النسيان والغفلة، وأن يعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، ومنزّه عن العجز والتعب والإعياء واللغوب، وموصوف بكمال الحياة والقيُّومية، منزّه عن ضدها من الموت والسِّنة والنوم، وموصوف بالعدل والغنى التام، منزّه عن الظلم والحاجة إلى أحد بوجه من الوجوه، وموصوف بكمال الحكمة والرحمة، منزّه عن ما يضاد ذلك من العبث والسفه، وأن يفعل أو يشرع ما ينافي الحكمة والرحمة.

وهكذا جميع صفاته منزّه عن كلِّ ما ينافيها ويضادها.

الثاني: أنَّه منزّه عن مماثلة أحد من خلقه، أو أن يكون له نِدٌّ بوجه من الوجوه. فالمخلوقات كلُّها وإن عظمت وشرفت وبلغت المنتهى الذي يليق بها من العظمة والكمال اللائق بها، فليس شيء منها يقارب أو يشابه الباري، بل جميع أوصافها تضمحل إذا نسبت إلى صفات باريها وخالقها، بل جميع ما فيها من المعاني والنعوت والكمال، هو الذي أعطاها إياه، فهو الذي خلق فيها العقول والسمع والأبصار والقوى الظاهرة والباطنة، وهو الذي علَّمها وألهمها، وهو الذي نمَّاها ظاهراً وباطناً وكمَّلها، قالت الرسل والملائكة: لا علم لنا إلا ما علمتنا.

وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: «يا عبادي كلُّكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلُّكم جائع إلا من أطعمته..» ([10]) إلى آخر الحديث.

فهو المنزّه عن كلِّ ما ينافي صفات المجد والعظمة والكمال، وهو المنزّه عن الضد والند والكفؤ والأمثال، وذلك داخل في اسمه القدوس السلام.

المؤمن

الإيمان يرجع معناه إلى التصديق والاعتراف، وما يقتضيه ذلك من الإرشاد وتصديق الصادقين وإقامة البراهين على صدقهم، فهو تعالى المؤمن الذي هو كما أثنى على نفسه، وما عَرَّفه رسلَه وعبادَه من أسمائه وصفاته، وأثار ذلك مما هو أعظم أوصاف خيار الخلق من معرفته والإيمان به هو شيء يسير بالنسبة إلى ما له من الكمال المطلق من كلِّ وجه، فهو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني عليه عباده.

وهو تعالى الذي صدّق رسله وشهد بصدقهم بقوله وفعله وإقراره حيث أخبر عن صدقهم. وفعل تعالى أفعالاً كثيرة من معجزات وآيات وخوارق كثيرة وبراهين متنوعة تُعَرِّفُ العباد بصدقهم وتشهد بالحق الذين جاؤوا به، فكلُّ المطالب والمسائل العظيمة لم يبق منها شيء إلا أقام عليه من البراهين شيئاً كثيراً. وقال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } [فصلت: 53] .

فالإيمان الراجع إلى المعرفة والمحبة اللَّهُ أحق به وأولى به، ولنقتصر على هذه الإشارة في هذا المحلِّ العظيم [في تفسير المؤمن] ([11]).

الشهيد المهيمن المحيط

أي المطّلع على جميع الأشياء، الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن، والخفيات والجليَّات، والماضيات والمستقبَلات، وسمع جميع الأصوات خفيها والجليَّات، وأبصر جميع الموجودات دقيقها وجليلها، وصغيرها وكبيرها، وأحاط علمُه وقدرته وسلطانه، وأوليته وآخريته، وظاهريته وباطنيته بجميع الموجودات، فلا يحجبه عن خلقه ظاهر عن باطن، ولا كبير عن صغير، ولا قريب عن بعيد، ولا يخفى على علمه شيء، ولا يشذ عن ملكه وسلطانه شيء، ولا ينفلت عن قدرته وعزته شيء، ولا يتعاصى عليه شيء، ولا يتعاظمه شيء.

وجميع أعمال العباد قد أحصاها وقد علم مقدارها ومقدار جزائها في الخير والشر، وسيجازيهم بما تقتضيه حكمته وحمده وعدله ورحمته، والملوك والجبابرة وإن عظمت سطوتهم، وعظم ملكهم، واشتد جبروتهم، وتفاقم طغيانهم، فإنَّ الله لهم بالمرصاد قد أحاط بأحوالهم، وأحصى وراقب كلَّ حركاتهم وسكناتهم، ونواصيهم بيده، وليس لهم خروج عن تصرفه وإرادته ومشيئته.

أين المفرُ والإلهُ الطالب      والمجرمُ المغلوبُ ليس الغالب ([12])

فهذه الأسماء الثلاثة ترجع إلى سعة علمه، وإحاطته بكلِّ شيء، وإلى عظمة ملكه وسلطانه، وإلى شهادته لعباده وعلى عباده بأعمالهم، وإلى الجزاء وانفراد الرب بتصريف العباد، وإجرائهم على أحكام القدر، وأحكام الشرع، وأحكام الجزاء، والله أعلم.

الحميد المجيد

أي: الذي له جميع المحامد والمدائح كلِّها، وهي جميع صفات الكمال، فكلُّ صفة من صفاته يحمد عليها، ويحمد على آثارها ومتعلقاتها، فيحمد على كلِّ تدبير دبّره ويدبره في الكائنات، ويحمد على ما شرعه من الشرائع وأحكمه من الأحكام، ويحمد على توفيقه أوليائه وعلى خذلانه لأعدائه، كما يحمد على إثابته للطائعين وعقوبته للعاصين، وله الحمد على ما تفضل به على العباد من النعم والخيرات والبركات التي لا يمكن العباد إحصاؤها ويتعذر عليهم استقصاؤها.

فحمده تعالى قد ملأ العالم العلوي والسفلي، وله الحمد في الأولى والآخرة، وقد عمَّ حمده كلَّما يتقلَّب فيه العباد، لكون ذلك راجعاً إلى حكمته وعدله وفضله وإحسانه، ووضعه الأمور مواضعها، وهو الحميد الذي يحمده أنبياؤه وأصفياؤه وخيار خلقه، وهو تعالى الحميد الذي يحمدهم على ما أنعم به عليهم فمنه السبب والمسبب.

وأما المجد فهو سعة الصفات وعظمتها، فالمجيد يرجع إلى عظمة أوصافه وكثرتها وسعتها، وإلى عظمة ملكه وسلطانه، وإلى تفرده بالكمال المطلق والجلال المطلق والجمال المطلق، الذي لا يمكن العباد أن يحيطوا بشيء من ذلك، فإذا جُمع بين الحميد المجيد صار اسمُ الحميد أخصَّ بكثرة الأوصاف وسعتها، واسم المجيد أخصَّ بعظمتها وتوحده بالمجد.

الحكيم

أي الموصوف بكمال الحكمة، وبكمال الحكم بين عباده. فالحكمة هي سعة العلم والاطلاع على مبادئ الأمور وعواقبها، وعلى سعة الحمد حيث يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها، ولا يتوجه إليه سؤال ولا يقدح في حكمته مقال، فله الحكمة في خلقه وأمره.

أما الحكمة في خلقه فإنَّه خلق الخلق بالحق، ومشتملاً على الحق، وكان غايته ونهايته الحق، خلقها بأحسن نظام، ورتَّبها بأكمل إتقان، وأعطى كلَّ مخلوق خلقه اللائق به، بل أعطى كلَّ جزء من أجزاء المخلوقات، وكلَّ عضو من أعضاء الحيوانات خلقته وهيئته اللائقة به، بحيث لا يرى الخلقُ في خلق الرحمن تفاوتاً ولا فطوراً، ولا خللاً ولا نقصاً، بل لو اجتمعت عقول الخلق ليقترحوا مثلاً وأحسن من هذه الموجودات لم يقدروا.

وهذا أمر معلوم قطعاً من العلم بصفاته، فإذا كان من المعلوم لكلِّ منصف مؤمن أنَّ الله له الكمال الذي لا يحيط به العباد، وأنَّه ما من كمال تفرضه الأذهان ويقدِّره المقدرون إلا والله أعظم من ذلك وأجلّ، كانت  أفعاله ومخلوقاته وجميع ما أوصله إلى الخلق أكملَ الأمور وأحسنها، وأنظمها وأتقنها، {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } [النمل: 88] .

فالفعل يتبع في كماله وحسنه فاعله، والتدبير منسوب إلى مدبِّره، والله تعالى كما لا يشبهه أحد في صفاته في العظمة والحسن والجمال، فكذلك لا يشبهه أحد في أفعاله. وقد تحدَّى عباده في مواضع كثيرة من كتابه، هل يجدون أو يشاهدون في مخلوقاته نقصاً وخللاً، ومن ادّعى شيئاً من ذلك بسفاهة عقله وعظم جراءته، فقد نادى على عقله بين العقلاء بالحمق والجنون.

وأما الحكمة في شرعه وأمره، فإنَّه تعالى شرع الشرائع وأنزل الكتب، وأرسل الرسل ليعرفه العبادُ ويعبدوه، فأيُّ حكمة أجلّ من هذا، وأيُّ فضل وكرم أعظم من هذا.

فإنَّ معرفته تعالى وعبادته وحده لا شريك له، وإخلاص العمل له، وحمده وذكره، وشكره والثناء عليه أفضلُ العطايا منه لعباده على الإطلاق، وأجلُّ المناقب لمن يمنُّ الله عليه بها، وأكمل السعادة والفلاح والسرور للقلوب والأرواح، كما أنَّها هي السبب الوحيد للوصول إلى السعادة الأبدية والفلاح السرمدي.

فلو لم يكن في أمره وشرعه إلا هذه الحكمة التي هي أصل الخيرات، وأكمل اللذات، وأكبر الوسائل والمقاصد، ولأجلها خلقت الخليقة، ولأجلها حق الجزاء، ولأجلها خلقت الجنة والنار، ولأجلها جرت على الخليقة أحكامُ الملكِ الجبارِ الشرعيةُ والجزائيةُ لكانت كافيةً شافيةً.

هذا وقد اشتمل شرعه على كلِّ خير، فأخباره تملأ القلوب علماً وعقائد صحيحة، وتستقيم بها القلوب ويزول انحرافها، ويحصل لها من المعارف أفضل الغنائم والمكاسب. وأوامره كلُّها منافع ومصالح، وتثمر  الأخلاقَ الجميلة والمناقب الثمينة، والأعمال الصالحة، والهدي الكامل، والأجر العظيم، والثواب الجسيم. ونواهيه كلُّها موافقة للعقول الصحيحة والفطر المستقيمة، لأنَّها لا تنهى إلا عما يضر الناس في عقولهم وأخلاقهم وأعراضهم وأبدانهم وأموالهم.

وبالجملة فالمصالح الخالصة أو الراجحة تأمر بها، والمفاسد الخالصة أو الراجحة تنهى عنها، فهو الحكيم في خلقه وأمره. وكذلك أحكام الجزاء على الأعمال في غاية المناسبة والموافقة للحكمة جملة وتفصيلاً، والله أعلم.

السميع البصير، العليم الخبير

أي السميع لجميع الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، سرها وجهرها، {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } [الرعد] .

البصير الذي أبصر كلَّ شيء دقَّ وجلَّ، فيبصر دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في ظلمة الليل، ويبصر جريان الأغذية في عروق الحيوانات وأغصان النباتات. ولقد أحسن من قال ([13]):

يا مَنْ يرى مدَّ البعوضِ جناحَها     في ظلمةِ الليلِ البهيمِ الأليلِ ويرى نياطَ عروقِها في نحرِها والمخَ من بين العظامِ النحلِ امنن عليَّ بتوبةٍ تمحـو بـها   مـا كان مني في الزمـانِ الأولِ

العليم بكلِّ شيء، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يعزب عن علمه شيء، أحاط علمه بالواجبات والمستحيلات والجائزات، وبالماضيات والحاضرات والمستقبلات، وبالعالم العلوي والسفلي، وبالخفيات والجليات، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [الأنعام] . يعلم السر وأخفى، ويعلم ما أكنته الصدور وما توسوس به النفوس، وما فوق السموات العلى وما تحت الثرى.

الخبير الذي أدرك علمه السرائر، واطّلع على مكنون الضمائر، وعلم خفيات البذور ولطائفَ الأمور، ودقائق الذرات في ظلمات الديجور ([14]).

فالخبير يرجع إلى العلم بالأمور الخفية التي هي في غاية اللطف والصغر، وفي غاية الخفا ومن باب أولى وأحرى علمه بالظواهر والأمور الجلية، والعليم يدل بالمطابقة على الأمرين، وكثيراً ما يأتي ذكر هذه الأسماء الكريمة في سياق الأعمال وجزائها، ليوقظ القلوب وينبهها على إكمالها وإحسانها وإتقانها وإخلاصها وليرغبهم ويُرهبهم.

اللطـيـف

اللطيف من أسمائه الحسنى له معنيان:

أحدهما: بمعنى الخبير، وهو أنَّ علمه دقَّ ولَطف حتى أدرك السرائر والضمائر والخفيَّات.

والمعنى الثاني: اللطيف الذي يوصل أولياءه وعباده المؤمنين إلى الكرامات والخيرات بالطرق التي يعرفون والتي لا يعرفون، والتي يريدون وما لا يريدون، وبالذي يحبون والذين يكرهون ([15])، فيلطف بأوليائه، فييسرهم لليسرى ويجنبهم العُسرى، ويلطف لهم فيقدر أموراً خارجية عاقبتها تعود إلى مصالحهم ومنافعهم. قال يوسف صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ } [يوسف: 100] ، أي حيث قدَّر أموراً كثيرة خارجية عادت عاقبتها الحميدة إلى يوسف وأبيه، وكانت في مبادئها مكروهة للنفوس ولكن صارت عواقبها أحمدَ العواقب، وفوائدها أجلَّ الفوائد.

المبدئ المعيد

قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ }[الروم: 27] {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ } [الأنبياء: 104] .

فهو تعالى الذي ابتدأ خلق المكلَّفين ثم يعيدهم بعد موتهم، ابتدأهم ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وليرسل إليهم الرسل وينزل عليهم الكتب ويأمرهم وينهاهم، لم يخلقهم عبثاً ولا سدى، ثم إذا انقضت هذه الدار وظهر الأبرار من الفجار، وتمَّت هذه الأعمار، أعادهم بعدما أماتهم ليجزيهم الثواب على إيمانهم وطاعاتهم، والعقاب على كفرهم وعصيانهم جزاءً دائماً بدوام الله، وإعادةُ الخلق أهون عليه من ابتدائه وذلك كلُّه على الله يسير.

وعموم ما دل عليه هذان الاسمان الكريمان يشمل كلَّ إبداء وإعادة لهذه المخلوقات، فالناس في هذه الدار في إبداء وإعادة في نومهم ويقظتهم، كلَّ يوم يعادون ويبدأون. وهذه الأرض كلَّ عام في إبداء وإعادة، يحييها بالماء والأمطار، ثم يعود النبت هشيماً والأخضر رميماً، ثم هكذا أبداً ما داموا في هذه الدار رحمة بهم ومتاعاً لهم ولأنعامهم، وذلك كلُّه تابعٌ لحكمته ورحمته.

الفعَّال لما يريد

وهذا من كمال قوته ونفوذ قدرته، أنَّ كلَّ أمر يريده فَعَلَه، لا يتعاصى عليه شيء، ولا يعارضه أحد، وليس له ظهير ولا عوين ولا مساعد على أيِّ أمر يكون، بل إذا أراد أمراً قال له كن فيكون.

ومع أنَّه الفعَّال لما يريد، فلا يريد إلا ما تقتضيه حكمته وحمده، فجميع أفعاله تابعة لحكمته، فهو موصوف بالكمال من الجهتين، من جهة كمال القدرة ونفوذ الإرادة، وأنَّ جميع الكائنات قد انقادت لمشيئته وإرادته. ومن جهة الحكمة، فإنَّه الحكيم في كلِّ ما يصدر منه من قول وفعل، {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [هود: 56] ، أي في أقواله وأفعاله.

العفو الغفور، الغفار التوَّاب

العَفْوُ والمغفرة من لوازم ذاته لا يكون إلا كذلك، ولا تزال أثارُ ذلك

ومتعلقاتُهُ تشمل الخليقة آناء الليل والنهار، فعفوه ومغفرته وسعت المخلوقات والذنوب والجرائم.

والتقصير الواقع من الخلق يقتضي العقوبات المتنوعة، ولكن عفو الله ومغفرته تدفع هذه الموجَبَات والعقوبات، فلو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة.

وعفوه تعالى نوعان:

عفوه العام عن جميع المجرمين من الكفار وغيرهم، بدفع العقوبات المنعقدة أسبابها والمقتضية لقطع النعم عنهم، فهم يؤذونه بالسب والشرك وغيرها من أصناف المخالفات، وهو يعافيهم ويرزقهم ويُدِرُّ عليهم النعم الظاهرة والباطنة، ويبسط لهم الدنيا، ويعطيهم من نعيمها ومنافعها، ويمهلهم ولا يهملهم بعفوه وحلمه.

والنوع الثاني: عفوه الخاص ومغفرته الخاصة للتائبين والمستغفرين، والداعين والعابدين، والمصابين بالمصائب المحتسبين، فكلُّ من تاب إليه توبة نصوحاً وهي الخالصة لوجه الله، العامة الشاملة التي لا يصحبها تردد ولا إصرار، فإنَّ الله يغفر له من أيِّ ذنب كان، من كفر وفسوق وعصيان، وكلُّها داخلة في قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [الزمر: 53] .

وقد تواترت النصوص من الكتاب والسنّة في قَبول توبة الله من عباده من أيِّ ذنب يكون. وكذلك الاستغفار المجرد يحصل به من مغفرة الذنوب والسيئات بحسبه، وكذلك فعل الحسنات والأعمال الصالحة تكفر بها الخطايا، {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } [هود: 114] .

وقد وردت أحاديث كثيرة في تكفير كثير من الأعمال للسيئات مع اقتضائها لزيادة الحسنات والدرجات، كما وردت نصوص كثيرة في تكفير المصائب للسيئات، خصوصاً الذي يحتسب ثوابها ويقوم بوظيفة الصبر أو الرضى، فإنَّه يحصل له التكفير من جهتين: من جهة نفس المصيبة وألمها القلبي والبدني، ومن جهة مقابلة العبد لها بالصبر والرضى اللذين هما من أعظم أعمال القلوب، فإنَّ أعمال القلوب في تكفيرها السيئات أعظمُ من أعمال الأبدان.

واعلم أنَّ توبة الله على عبده تتقدمها توبة منه عليه، حيث أذن له ووفَّقه وحرَّك دواعي قلبه لذلك، حتى قام بالتوبة توفيقاً من الله، ثم لما تاب بالفعل تاب الله عليه فَقَبِلَ توبته، وعفى عن خطاياه وذنوبه، وكلُّ الأعمال الصالحة بهذه المثابة، فالله هو الذي ألهمها للعبد وحرَّك دواعيه لفعلها وهيَّأ له أسبابها، وصرف عنه موانعها، والله تعالى هو الذي يتقبَّلها منه ويثيبه عليها أفضل الثواب، فعلى العبد أن يعلم أنَّ الله هو الأول الآخر، وأنَّه المبتدئ بالإحسان والنِعم، المتفضل بالجود والكرم، بالأسباب والمسببات، بالوسائل والمقاصد.

ومن أخص أسباب العفو والمغفرة أنَّ الله يجازي عبده بما يفعله العبد مع عباد الله، فمن عفى عنهم عفى الله عنه، ومن غفر لهم إساءتهم إليه وتغاضى عن هفواتهم نحوه غفر له، ومن سامحهم سامحه الله.

ومن أسبابه التوسل إلى الله بصفات عفوه ومغفرته كقول العبد: اللهم إنَّك عفو تحب العفو فاعف عني، يا واسع المغفرة اغفر لي، اللهم اغفر لي وارحمني إنَّك أنت العفو الغفور.

العليُّ الأعلى

أي الذي له العلو المطلق بجميع الوجوه والاعتبارات:

فهو العلي بذاته قد استوى على العرش، وعلا على جميع الكائنات، وبايَنَها.

العلي بقدْره وهو علو صفاته وعظمتُها، فإنَّ صفاته عظيمةٌ لا يماثلها ولا يقاربها صفة أحد، بل لا يطيق العباد أن يحيطوا بصفة واحدة من صفاته.

العلي بقهره حيث قهر كلَّ شيء ودانت له الكائنات بأسرها، فجميـع

الخلق نواصيهم بيده فلا يتحرك منهم متحرك، ولا يسكن ساكن إلا بإذنه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. والفرق بين العلي [و] الأعلى أنَّ العلي يدل على كثرة الصفات ومتعلقاتها وتنوُّعها، والأعلى يدل على عظمتها.

الكبير العظيم

وهو الذي له الكبرياء نعتاً، والعظمة وصفاً.

قال تعالى في الحديث القدسي: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني شيئاً منهما عذّبته» ([16]).

ومعاني الكبرياء والعظمة نوعان:

أحدهما: يرجع إلى صفاته وأنَّ له جميع معاني العظمة والجلال، كالقوة والعزة، وكمال القدرة، وسعة العلم، وكمال المجد وغيرها من أوصاف العظمة والكبرياء. ومن عظمته أنَّ السموات والأرض جميعها كخردلة في كف الرحمن كما قال ذلك ابن عباس ([17])، وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر: 67] ، {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) } [فاطر] . فله تعالى العظمة والكبرياء الوصفان اللذان لا يقادر قدرهما، ولا يبلغ العباد كنههما.

النوع الثاني: أنَّه لا يستحق أحد التعظيم والتكبير والإجلال والتمجيد غيره، فيستحق على العباد أن يعظموه بقلوبهم وألسنتهم وأعمالهم، وذلك ببذل الجهد في معرفته ومحبته، والذل له والخوف منه، وإعمال اللسان بذكره والثناء عليه، وقيام الجوارح بشكره وعبوديته.

ومن تعظيمه أن يطاع فلا يعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويشكر فلا يُكفر. ومن تعظيمه وإجلاله أن يُخضع لأوامره وما شرعه وحكم به، وأن لا يُعترض على شيء من مخلوقاته، أو على شيء من شرعه. ومن تعظيمه تعظيم ما عظَّمه واحترمه من زمان ومكان وأشخاص وأعمال. والعبادة روحها تعظيم الباري وتكبيره، ولهذا شرعت التكبيرات في الصلاة في افتتاحها وتنقلاتها، ليستحضر العبد معنى تعظيمه في هذه العبادة التي هي أجلّ العبادات، {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111) } [الإسراء] .

الجليل الجميل

أما الجليل فهو الذي له معاني الكبرياء والعظمة كما تقدَّم التنبيه عليها.

وأما الجميل فإنَّه جميل بذاته، جميل بأسمائه، جميل بصفاته، جميل بأفعاله. فأسماؤه كلُّها حُسنى وهي في غاية الحسن والجمال، فلا يسمى إلا بأحسن الأسماء، وإذا كان الاسم يحتمل المدح وغيره لم يدخل في أسمائه، كما يعلم من استقراء أسمائه الحسنى.

قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الأعراف: 180] ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] .

وذاته تعالى أكمل الذوات وأجمل من كلِّ شيء، ولا يمكن أن يُعَبَّرَ عن كنه جماله، كما لا يمكن التعبير عن كنه جلاله، حتى إنَّ أهل الجنة مع ما هم فيه من النعيم الذي لا يوصف، والسرور والأفراح واللذات التي لا يقادر قدرها إذا رأوا ربهم وتمتعوا بجماله، نسوا ما هم فيه من النعيم، وتلاشى ما هم فيه من الأفراح، وودُّوا أن لو تدوم لهم هذه الحال التي هي أعلى نعيم ولذة، واكتسوا من جماله جمالاً إلى ما هم فيه من الجمال، وكانت قلوبهم دائماً في شوق عظيم ونزوع شديد إلى رؤية ربهم، حتى


إنَّهم ليفرحون بيوم المزيد فرحاً تكاد تطير له القلوب، مع أنَّ هذه اللذة وإن كانت تبعاً لمعرفتهم بربهم ومحبته والشوق إليه، ولكن عند رؤية محبوبهم ومشاهدة جماله وجلاله، تتضاعف اللذة وتقوى المعرفة والحب.

وكذلك هو الجميل في صفاته، فإنَّها صفات حمد وثناء ومدح، فهي أوسع الصفات وأعمُّها وأكثرها تعلقاً، خصوصاً أوصاف الرحمة والبر والإحسان والجود والكرم، فإنَّها من آثار جماله. ولذلك كانت أفعاله كلُّها جميلة لأنَّها دائرة بين أفعال البر والإحسان، التي يحمد عليها ويثنى عليه ويشكر عليها، وبين أفعال العدل التي يحمد عليها لموافقتها الحكمة والحمد.

فليس في أفعاله عبث ولا سفه ولا ظلم، بل كلُّها هدى ورحمةٌ وعدل ورشد {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [هود: 56] .

فأفعاله كلُّها في غاية الحسن والجمال، وشرعه كلُّه رحمة ونور وهدى وجمال، وكلُّ جمال في الدنيا وفي دار النعيم فإنَّه أثر من آثار جماله.

وهو تعالى له المثل الأعلى، فمعطي الجمال أحق بالجمال، وكيف يقدر أحد أن يعبر عن جماله وقد قال أعرف الخلق به: «لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» ([18]).

الحَكَمُ العدل

أي هو تعالى الملك الحكمُ الذي له الحكم في الدنيا والآخرة.

ففي هذه الدار لا يخرج الخلق عن أحكامه القدرية، بل ما حكم  به قدراً نفذ من غير مانع ولا منازع، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ولا يخرج المكلفون عن أحكامه الشرعية التي هي أحسن الأحكام، والتي هي صلاح الأمور وكمالها، ولا يستقيم لهم دين ورشد إلا باتباع هذه الأحكام  التي شرعها على ألسنة رسله {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [المائدة: 50] ، {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا } [الأنعام: 114] .

وفي الآخرة لا يحكم على العباد إلا هو، ولا يبقى لأحد قول ولا حكم، حتى الشفاعاتُ كلُّها منطويةٌ تحت إرادته وإذنه، ولا يشفع عنده أحد إلا إذا حكم بالشفاعة.

وهذه الأحكام كلُّها بالحكمة والعدل، فهو الحكم العدل الذي تمت كلماته صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي. فأوامره كلُّها عدل لأنَّها منافع ومصالح، فهي عدل ممزوجة بالرحمة، ونواهيه كلُّها عدل لكونه لا ينهى إلا عن الشرور والأضرار. وهي أيضاً مقرونة برحمته وحكمته، ومجازاته للعباد بأعمالهم، عدلٌ لا يهضم أحداً من حسناته، ولا يزيد في سيئاتهم أو يعذبهم بغير جرم اجترحوه، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [الإسراء: 15] .

وحكمه بين العباد كلُّه مربوطٌ بالعدل، فلا يمنع أحداً حقه، ولا يغفل عن الظالمين، ولا يضيع حقوق المظلومين، فعدله تعالى شاملٌ للخليقة كلِّها حتى الحيوانات غير المكلفة فإنَّه يقتص للشاة الجمَّاء من الشاة القرناء من كمال عدله.

ومن كمال عدله: أنَّه أرسل الرسل مبشِّرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجةٌ، ولئلا يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير، {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } [الإسراء: 15] .

ومن كمال عدله: أنَّه أعطى عباده الأسماع والأبصار والعقول والقدرة على أفعالهم والإرادة، ومكنهم من جميع ما يريدون ولم يجبرهم على أفعالهم.

فَعَدْلُهُ وحكمته ورحمته يبطل بها مذهبُ الجبرية، كما أنَّ كمال قدرته ومشيئته وشمولَها لكلِّ شيء حتى أفعال العباد تُبطل مذهب القدرية الذين يزعمون أنَّهم أهل العدل وهم في الحقيقة أهل الظلم.

فالحق هو ما ذهب إليه أهل السنة، وهو ما دلت عليه البراهين العقلية والبراهين النقلية ودلت عليه أسماؤه الحسنى، كما نبّهنا عليه أنَّ أفعال العباد واقعةٌ تحت اختيارهم وإراداتهم خيرَها وشرَها، ومع ذلك فلا خروج لها عن قضائه وقدره.

الفـتّـاح

للفتَّاح معنيان:

أحدهما: يرجع إلى معنى الحَكَم الذي يفتح بين عباده، ويحكم بينهم بشرعه، ويحكم بينهم بإثابة الطائعين وعقوبة العاصين في الدنيا والآخرة، كقوله تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) } [سبأ] ، {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } [الأعراف: 89] . فالآية الأولى فتحه بين العباد يوم القيامة، وهذا في الدنيا بأن ينصر الحق وأهله، ويذل الباطل وأهله، ويوقع بهم العقوبات.

المعنى الثاني: فتحه لعباده جميع أبواب الخيرات. قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا } [فاطر: 2] الآية. يفتح لعباده منافع الدنيا والدين، فيفتح لمن اختصهم بلطفه وعنايته أقفال القلوب، ويُدِرُّ عليها من المعارف الربانية والحقائق الإيمانية ما يُصلح أحوالها وتستقيم به على الصراط المستقيم، وأخص من ذلك أنَّه يفتح لأرباب محبته والإقبال عليه علوماً ربانية، وأحوالاً روحانية، وأنواراً ساطعة، وفهوماً وأذواقاً صادقة.

ويفتح أيضاً لعباده أبواب الأرزاق وطرق الأسباب، ويهيئ للمتقين من الأرزاق وأسبابها ما لا يحتسبون، ويعطي المتوكلين فوق ما يطلبون ويؤملون، وييسّر لهم الأمور العسيرة، ويفتح لهم الأبواب المغلقة.

الـرزّاق

الذي تكفل بأرزاق المخلوقات كلِّها، وأوصل إليها أرزاقها ومعائشـها،

وعلم أحوالها وأماكنها، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) } [هود] يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وقد هيأ لعباده في الأرض جميع الأرزاق.

قال تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) } [عبس] .

والله تعالى هو الرزاق الذي يرزق قلوب خيار المؤمنين من العلوم والمعارف وحقائق الإيمان، ما تتغذى به وتنمو وتكمل، ويرزق الحيوانات كلَّها من أصناف الأغذية ما تتغذى به وتنمو نموها اللائق بها. فينبغي للعبد إذا سأل الله الرزق أن يستحضر الأمرين بأن يرزقه رزقاً حلالاً واسعاً، ويرزق قلبه العلم والإيمان والعرفان.

ورزقه لعباده أيضاً نوعان:

نوع له سبب، كما جعل الله الحراثة والتجارة والصناعة وتنمية المواشي والخدمة ونحوها طرقاً يرتزق بها جمهور الناس. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ } [الحجر: 20] أي أسباباً ترتزقون بها.

ونوع يرزق الله به عبده بغير سبب منه، كأن يقيض الله له رزقاً قدرياً سماوياً محضاً، أو على يد غيره من غير أن يكون من المرتزق سعيٌ في ذلك، لأجل الاحتراز عن السؤال فإنَّه من جملة الحرف، ولأجل الاحتراز عمن تجب نفقته عليه من زوج أو قريب أو سيد أو مالك، فإنَّ هذه إما من عمل الإنسان ـ يعني من آثار عمله ـ وإما أن يكون تابعاً لغيره.

ولكن نريد أنَّه يوجد بعض المخلوقات لا شيء عندها، ولا عمل لها ولا سعي منها، إما عاجزة عجزاً كلياً، أو كسلانة عن طلب معيشتها. والله تعالى قد قدّر لها من ألطاف رزقه ما تستغني به من وجوه لا تحتسبها وطرق لا ترتقبها، {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) } [العنكبوت] .

ومن لطائف رزقه أنَّه قد يرد على الإنسان العاجز عن إدراك رزقه قوةُ حال وقوة توكل، ييسّر الله له بسببها رزقاً عاجلاً، وقد يأتيه ذلك بدعوة مستجابة وخصوصاً عند الاضطرار، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [النمل: 62] .

فكما أنَّ الباري إذا رأى عبده مضطراً إلى كفايته، منقطعاً تعلقه بغيره أجاب دعوته وفرّج كربته، فكذلك المضطر إلى طعام أو شراب متى وصل إلى حالة ييأس فيها من كلِّ أحد ويوقن بالهلاك، أتاه من رزق ربه وألطافه ما به يعرف غاية المعرفة أنَّ الله هو المرجو وحده لكشف الشدائد والكروب، فكم من الوقائع الكثيرة في هذا الباب الدالة على لطف الملك الوهاب.

ومن ألطاف رزقه أنَّ كثيراً من المرضى يبقون مدة طويلة لا يتناولون طعاماً ولا شراباً، والله تعالى يعينهم على تماسك أبدانهم فضلاً منه وكرماً، ولو بقي الصحيح بعض هذه المدة عن الطعام والشراب لهلك.

ومن لطائف رزقه أنَّ الأجنَّةَ في بطون الأمهات جعل غذاءها في أرحام الأمهات بالدم الذي يجري مع عروقها، لأنَّها لا تحتمل غذاء تأكله وتشربه، ولو فرض ذلك لأضرّ به في الرحم، وأضرّ بأمه بما يخرج منه من الفضلات، ثم لما وضعت الحوامل أولادها وكان من ضعفه لا يحتمل الأغذية العادية، أجرى له الباري من ثديي أمه لبناً لطيفاً خالصاً سائغاً للشاربين، فيه الغذاء الطعامي والغذاء الشرابي، فلم يزل كذلك حتى قوي على تناول الأطعمة الغليظة.

وكذلك لما كان في حال وضعه غير مقتدر على مباشرة ذلك بنفسه، حنّن اللّهُ الأمهاتِ من الآدميين والحيوانات، وأوقع في قلوبها الرحمة العظيمة والرقة على أولادها، فأعانت أولادها على تناول الأرزاق والأغذية. فتبارك الله اللطيف الخبير.

وتنوعُ الأرزاق وكثرة فنونها لا يحصيها وصف الواصفين، ولا تحيط بها عبارات المعبِّرين.

الواحد الأحد الفرد

أي هو الواحد المتفرِّد بصفات المجد والجلال، المتوحِّد بنعوت العظمة والكبرياء والجمال، فهو واحد في ذاته، وواحد في أسمائه لا سمي له، وواحد في صفاته لا مثيل له، وواحد في أفعاله لا شريك له ولا ظهير ولا عوين، وواحد في ألوهيته فليس له ندّ في المحبة والتعظيم، ولا له مثيل في التعبد له والتأله، وإخلاص الدين له، وهو الذي عظمت صفاته ونعوته حتى تفرد بكلِّ كمال، وتعذر على جميع الخلق أن يحيطوا بشيء من صفاته أو يدركوا شيئاً من نعوته، فضلاً عن أن يماثله أحد في شيء منها.

فأحديته تعالى تدل على ثلاثة أمور عظيمة:

1 ـ نفي المثل والندّ والكفؤ من جميع الوجوه.

2 ـ وإثبات جميع صفات الكمال بحيث لا يفوته منها صفة ولا نعت دال على الجلال والجمال.

3 ـ وأنّ له من كلِّ صفة من تلك الصفات أعظمَها وغايتها ومنتهاها {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى } [النجم] .

الصـمـد

أي السيد العظيم الذي قد كمل في علمه وحكمته وحلمه وقدرته وعزَّته وعظمته وجميع صفاته، فهو واسع الصفات عظيمها، الذي صَمَدَت إليه جميعُ المخلوقات، وقصدته كلُّ الكائنات بأسرها في جميع شؤونها، فليس لها ربٌ سواه، ولا مقصود غيره تقصده وتلجأ إليه في إصلاح أمورها الدينية، وفي إصلاح أمورها الدنيوية، تقصده عند النوائب والمزعجات، وتضرع إليه إذا عرتها الشدَّات والكربات، وتستغيث به إذا مسَّتها المصاعب والمشقات، لأنَّها تعلم أنَّ عنده حاجاتها، ولديه تفريج كرباتها لكمال علمه وسعة رحمته، ورأفته وحنانه، وعظيم قدرته وعزته وسلطانه.

الغني المغني

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) }  : {48 وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) } [النجم] ، فهو تعالى الغني بذاته، الذي له الغنى التام المطلق من جميع الوجوه والاعتبارات لكماله وكمال صفاته التي لا يتطرق إليها نقص بوجه، ولا يمكن إلا أن يكون غنياً لأنَّ غناه من لوازم ذاته، فكما لا يكون إلا خالقاً رازقاً رحيماً محسناً، فلا يكون إلا غنياً عن جميع الخلق لا يحتاج إليهم بوجه من الوجوه، ولا يمكن أن يكونوا كلُّهم إلا مفتقرين إليه من كلِّ وجه، لا يستغنون عن إحسانه وكرمه وتدبيره وتربيته العامة والخاصة طرفة عين.

ومن كمال غناه: أنَّ خزائن السموات والأرض بيده، وأنَّ جوده على خلقه متواصل آناء الليل والنهار، وأنَّ يديه سحاء في كلِّ وقت.

ومن كمال غناه: أنَّه يدعو عباده إلى سؤاله كلَّ وقت ويعدهم عند ذلك بالإجابة، ويأمرهم بعبادته، ويعدهم القبول والإثابة، وقد آتاهم من كلِّ ما سألوه، وأعطاهم كلَّ ما أرادوه وتمنوه.

ومن كمال غناه: أنَّه لو اجتمع أهل السموات والأرض، وأول الخلق وآخرهم في صعيد واحد، فسألوه كلَّما تعلقت به مطالبهم، فأعطاهم سؤلهم، لم ينقص ذلك مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر.

ومن كمال غناه العظيم الذي لا يقادر قدره ولا يمكن وصفه، ما يبسطه على أهل دار كرامته من اللذات المتتابعات والكرامات المتنوعات، والنعم المتفننات مما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

فهو الغني بذاته، المُغني جميع مخلوقاته، أغنى عباده بما بسط لهم من الأرزاق، وما تابع عليهم من النعم التي لا تعد ولا تحصى، وبما يسَّره من الأسباب الموصلة إلى الغنى.

وأخصُّ من ذلك أنَّه أغنى خواص عباده بما أفاضه على قلوبهم من المعارف والعلوم الربانية والحقائق الإيمانية، حتى تعلقت قلوبهم به ولم يلتفتوا إلى أحد سواه.

وهذا هو الغنى العالي كما قال (صلى الله عليه وسلم): «ليس الغنى عن كثرة العرض، إنَّما الغنى غنى القلب» ([19]). فمتى غَنِيَ القلبُ بالله وبما فيه من المعارف وحقائق الإيمان، وغني برزقه وقنع به وفرح بما أعطاه الله، صار العبد الذي وصل إلى هذه الحال لا يَغْبِطُ الملوكَ وأهلَ الرئاسات، لأنَّه حصل له الغنى الذي لا يبغي به بدلاً، والذي به يطمئن القلب وتسرُّ به الروح، وتفرح به النفس.

فنسأل الله أن يغني قلوبنا بالهدى والنور والمعرفة والقناعة، وأن يمدنا من واسع فضله وحلاله.

ذو الجلال والإكرام

وردت في القرآن مقرونة في عدة مواضع. وقال صلى الله عليه وسلم: «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام» ([20]). وهذان الوصفان العظيمان للرب يدلان على كمال العظمة والكبرياء والمجد والهيبة، وعلى سعة الأوصاف وكثرة الهبات والعطايا، وعلى الجلال والجمال، ويقتضيان من العباد أن يكون الله هو المعظَّم المحبوب الممجَّد المحمود المخضوع له المشكور، وأن تمتلئ القلوب من هيبته وتعظيمه وإجلاله ومحبته والشوق إليه.

بديع السموات والأرض

أي خالقهما ومبدعهما بأحسن خلقة ونظام، وأبدع هيئة وصفة، قد


تمت فيهما أوصاف الحسن ونهاية الحكمة، وأودع فيهما من لطائف صنعته وعجائب قدرته وأسرار خلقته ما يشهد لمبدعها بكمال الحكمة، وسعة الحمد، وواسع العلم، ولطيف اللطف، ودقيق الخبرة.

الرب، ورب العالمين

الذي ربّى جميع المخلوقات بنعمه، وأوجدها وأعدّها لكلِّ كمال يليق بها، وأمدها بما تحتاج إليه. أعطى كلَّ شيء خلقه اللائق به، ثم هدى كلَّ مخلوق لما خلق له، وأغدق على عباده النعم، ونمّاهم وغذّاهم وربّاهم بأكمل تربية.

وتربيته وربوبيته تعالى نوعان:

ربوبية عامة لكلِّ مخلوق برّ وفاجر، وهو عموم الخلق والرزق والتدبير والإنعام بكلِّ نعمة، فليس له شريك في شيء من ذلك.

وتربية خاصة لأوليائه، ربّاهم فوفقهم للإيمان به والقيام بعبوديته، وغذّاهم بمعرفته ونمّى ذلك بالإنابة إليه، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، ويسّرهم لليسرى، وجنّبهم العسرى، ويسّرهم لكلِّ خير، وحفظهم من كلِّ شر.

ولهذا كانت أدعيةُ الأنبياء وأولي الألباب والأصفياء الواردةُ في القرآن باسم الرب استحضاراً لهذا المطلب، وطلباً منهم لهذه التربية الخاصة، فتجد مطالبهم كلَّها من هذا النوع، واستحضار هذا المعنى عند السؤال نافع جداً.

ومن أسمائه تعالى: المُعِز، المُذِل، الخافض الرافع، المعطي المانع، المحيي المميت، القابض الباسط.

وهي من الأسماء المزدوجة المتقابلة التي لا يطلق كلُّ واحد منها إلا مع الآخر، لأنَّ الكمال المطلق باجتماعها. ووردت هذه في القرآن على  وجه الإخبار عنه بها بالفعل، لأنَّها من معاني الربوبية، ومن معاني الملك، فيغني عنها اسم الرب والملك، فإنَّ هذه المعاني العظيمة من معاني  الملك، فإنَّ الملِك من صفاته أنَّه يعزّ ويذل، ويعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، بحسب علمه وحكمته ورحمته، كما أنَّه يحيي ويميت ويداول الأيام بين الخليقة.

الـودود

أي المتودد إلى خلقه بنعوته الجميلة، وآلائه الواسعة، وألطافه الخفية، ونِعَمِه الخفية والجليَّة، فهو الودود بمعنى الواد، وبمعنى المودود، يحب أولياءه وأصفياءه ويحبونه، فهو الذي أحبهم وجعل في قلوبهم المحبة، فلمّا أحبوه أحبهم حباً آخر جزاء لهم على حبِّهم.

فالفضل كلُّه راجع إليه، فهو الذي وضع كلَّ سبب يتوددهم به، ويجلب ويجذب قلوبهم إلى ودّه. تودَّد إليهم بذكر ما له من النعوت الواسعة العظيمة الجميلة، الجاذبة للقلوب السليمة والأفئدة المستقيمة، فإنَّ القلوب والأرواح الصحيحة مجبولة على محبة الكمال.

والله تعالى له الكمال التام المطلق، فكلُّ وصف من صفاته له خاصية في العبودية، وانجذاب القلوب إلى مولاها، ثم تودَّد لهم بآلائه ونعمه العظيمة التي بها أوجدهم، وبها أبقاهم وأحياهم، وبها أصلحهم، وبها أتم لهم الأمور، وبها كَمَّلَ لهم الضروريات والحاجيات والكماليات، وبها هداهم للإيمان والإسلام، وبها هداهم لحقائق الإحسان، وبها يسّر لهم الأمور، وبها فرّج عنهم الكربات وأزال المشقات، وبها شرع لهم الشرائع ويسّرها ونفى عنهم الحرج، وبها بيّن لهم الصراط المستقيم وأعماله وأقواله، وبها يسّر لهم سلوكه وأعانهم على ذلك شرعاً وقدراً، وبها دفع عنهم المكاره والمضار كما جلب لهم المنافع والمسارّ، وبها لطف بهم ألطافاً شاهدوا بعضها وما خفي عليهم منها أعظم.

فجميع ما فيه الخليقة من محبوبات القلوب والأرواح والأبدان  الداخلية والخارجية الظاهرة والباطنة، فإنَّها من كرمه وجوده، يتودد بهــا


إليهم، فإنَّ القلوب مجبولة على محبة المحسن إليها، فأيُّ إحسان أعظم من هذا الإحسان الذي يتعذر إحصاء أجناسه فضلاً عن أنواعه، فضلاً عن أفراده، وكلُّ نعمة منه تطلب من العباد أن تمتلئ قلوبهم من مودته وحمده وشكره والثناء عليه.

ومن تودُّده أنَّ العبد يشرد عنه فيتجرأ على المحرِّمات، ويقصِّر في الواجبات. والله يستره ويحلم عنه ويمده بالنعم، ولا يقطع عنه منها شيئاً، ثم يقيّض له من الأسباب والتذكيرات والمواعظ والإرشادات ما يجلبه إليه، فيتوب إليه وينيب، فيغفر له تلك الجرائم، ويمحو عنه ما أسلفه من الذنوب العظائم، ويعيد عليه ودَّه وحبه. ولعل هذا والله أعلم سر اقتران الودود بالغفور في قوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)} [البروج] .

ومن كمال مودته للتائبين: أنَّه يفرح بتوبتهم أعظم فرح يُقَدَّر، وأنَّه أرحم بهم من والديهم وأولادهم والناس أجمعين. وأنَّ من أحبّه من أوليائه كان معه وسدَّده في حركاته وسكناته، وجعله مجاب الدعوة وجيهاً عنده، كما في الحديث القدسي: «لا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته» ([21]).

وآثار حبه لأوليائه وأصفيائه عليهم لا تخطر ببال، ولا تحصيها الأقلام. وأما مودة أوليائه له فهي رُوْحهم ورَوْحهم وحياتهم وسرورهم، وبها فلاحهم وسعادتهم، بها قاموا بعبوديته، وبها حمدوه وشكروه، وبها لهجت ألسنتهم بذكره، وسعت جوارحهم لخدمته، وبها قاموا بما عليهم من  الحقوق المتنوعة، وبها كفّوا قلوبهم عن التعلق بغيره وخوفه ورجائه وجوارحَهم عن مخالفته، وبها صارت جميعُ محابهم الدينيةِ والطبيعيةِ تبعاً لهذه المحبة.

أما الدينية فإنَّهم لما أحبوا ربهم أحبوا أنبياءه ورسله وأولياءه، وأحبّوا كلَّ عمل يقرب إليه، وأحبّوا ما أحبه من زمان ومكان، وعمل وعامل.

وأما المحبة الطبيعية فإنَّهم تناولوا شهواتهم التي جبلت النفوس على محبتها من مأكل ومشرب، وملبس وراحة على وجه الاستعانة بها على ما يحبه مولاهم. وأيضاً فكما قصدوا بها هذه الغاية الجليلة فإنَّهم تناولوها بحكم امتثال الأوامر المطلقة في مثل قوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا } [الأعراف: 31] ونحوها من الأوامر والترغيبات المتعلقة بالمباحات والراحات، فصار السبب الحامل لها امتثال الأمر، والغاية التي قصدت لها الاستعانة بها على محبوبات الرب، فصارت عاداتهم عبادات، وصارت أوقاتهم كلُّها مشغولة بالتقرّب إلى محبوبهم.

وكلُّ هذه الآثار الجميلة الجليلة من آثار المحبة التي تفضّل بها عليهم محبوبهم، وتقوى هذه الأمور بحسب ما في القلب من الحب الذي هو روح الإيمان، وحقيقة التوحيد، وعين التعبد، وأساس التقرب.

فكما أنَّ الله ليس له مثيل في ذاته وأوصافه، فمحبته في قلوب أوليائه ليس لها مثيل ولا نظير في أسبابها وغاياتها، ولا في قدرها وآثارها، ولا في لذتها وسرورها، وفي بقائها ودوامها، ولا في سلامتها من المنكِّدات والمكدِّرات من كلِّ وجه.

الحليم الصبور، الشاكر الشكور

في الحديث الصحيح: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله،  يجعلون له الولد وهو يعافيهم ويرزقهم» ([22]). فصبره تعالى على معاصي العاصين، ومحاربة المحاربين، صبرٌ عن قوة واقتدار، وهو الصبر الكامل، فإنَّ العباد يتبغضون إليه بالمعاصي وهم مضطرون إليه، وهو يتحبَّب إليهم بالنعم مع كمال غناه، وهو تعالى يحلم عن زلاَّتهم ويسترهم مع كثرة هفواتهم، ويتمادون في الطغيان والله تعالى لا يزيده ذلك إلا حِلماً وكرماً.

ومن حِلمه تعالى أنَّ العبد يسرف على نفسه، والله تعالى قد أرخى عليه حِلمه، فإذا تاب العبد وأناب فكأنَّه ما جرى منه جرم، ومع كمال حلمه وصبره فهو تعالى الشكور لعباده، الذي يغفر الكثير من الزلل، ويقبل القليل من العمل، وإذا أخلص العبد عمله ضاعفه بغير حساب، وجعل القليل كثيراً والصغير كبيراً، ويتحمل عبدُه من أجله بعضَ المشاق، فيشكر الله له ويقوم بعونه ويكون معه، فتنقلب تلك المشاق والمصاعب سهولات، وتلك المتاعب راحات.

الـرقـيـب

أي المطّلع على ما في القلوب، وما حوَته العوالم من الأسرار والغيوب، المراقب لأعمال عباده على الدوام، الذي أحصى كلَّ شيء، وأحاط بكلَّ شيء، ولا يخفى عليه شيء وإن دقَّ، الذي يعلم ما أسرّته السرائر، من النيات الطيبة والإرادات الفاسدة.

ومن تعبّد الله باسمه الرقيب أورثه ذلك المقام المستولي على جميع المقامات، وهو مقام المراقبة لله في حركاته وسكناته، لأنَّ من علم أنَّه رقيب على حركات قلبه وحركات جوارحه وألفاظه السرية والجهرية، واستدام هذا العلم، فإنَّه لا بد أن يثمر له هذا المقام الجليل، وهذا سرٌ عظيم من أسرار المعرفة بالله. انظروا إلى ثمراته وفوائده العظيمة وإصلاحه للشؤون الباطنة والظاهرة.

القريب المجيب

أي هو تعالى القريب لكلِّ أحد، وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، وقربه تعالى نوعان:

قربٌ عام بعلمه وخبرته ومراقبته ومشاهدته وإحاطته، فهو أقرب إلى كلِّ أحد من نفسه.

وقربٌ خاص من عابديه وداعيه ومحبيه، قرب لا يُدْرَكُ له حقيقة، وإنَّما تُعلم آثاره من لطفه بعبده وعنايته به وتوفيقه وتسديده، وحضور القلب عنده في تلك الحال التي حصل فيها القرب.

ومن آثاره: الإجابةُ للداعين والإثابة للعابدين، وما أحسن اقتران القريب بالمجيب. قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [البقرة: 186] ، وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر: 60] .

فهو المجيب إجابة عامة للدَّاعين مهما كانوا وأين كانوا، وعلى أيِّ حال كانوا كما وعدهم بهذا الوعد المطلق.

وهو المجيب إجابة خاصة للمستجيبين له، المنقادين لشرعه. ولهذا عقَّب ذلك بقوله: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي }، أي فإذا استجابوا لي أجبتهم. وتقدم الحديث الذي فيه حالة المحب المستجيب لربه بفعل النوافل بعد الفرائض، وأنَّ الله يقول: «ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن أستعاذني لأعيذنَّه» ([23]).

وهو المجيب أيضاً إجابة خاصة للمضطرين كما قال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [النمل: 62] ، وكذلك من انقطع رجاؤه من المخلوقين وقوي طمعه وتعلقه بالله رب العالمين، فما أسرع الإجابة لهذا، وكلَّما قويت حاجة العبد وقوي طمعه بربِّه حصل له من الإجابة بحسب ذلك.

الحسيب الكافي الحفيظ

أي: هو الكافي عباده كلَّما إليه يحتاجون، الدافع عنهم كلَّما يكرهون فكفايته عامة وخاصة.

أما العامة فقد كفى تعالى جميع المخلوقات، وقام بإيجادها وإرزاقها وإمدادها وإعدادها لكلِّ ما خلقت له، وهيأ للعباد من جميع الأسباب ما يغنيهم ويقنيهم ويطعمهم ويسقيهم.

وأما كفايته وحسبه الخاص فهو كفايته للمتوكِّلين، وقيامه بإصلاح أحوال عباده المتقين. قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [الطلاق: 3] أي كافيه كلَّ أموره الدينية والدنيوية. وقال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [الزمر: 36] أي: من قام بعبوديته الظاهرة والباطنة كفاه الله ما أهمَّه، وقام تعالى بمصالحه، ويسر له أموره.

قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } [الطلاق: 2] أي من جميع المكاره والمضايق، {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } [الطلاق: 3] .

وإذا توكل العبد على ربه حق التوكل، بأن اعتمد بقلبه على ربه اعتماداً قوياً كاملاً في تحصيل مصالحه ودفع مضاره، وقويت ثقته وحسن ظنه بربه حصلت له الكفاية التامة، وأتم الله له أحواله وسدَّده في أقواله وأفعاله، وكفاه همَّه وجلا غمه.

ومن معاني الحسيب أنَّه الحفيظ على عباده كلَّما عملوه، أحصاه الله ونسوه، وعلم تعالى ذلك، وميّز الله صالح العمل من فاسده، وحسنه من قبيحه، وعلم ما يستحق من الجزاء ومقداره من الثواب والعقاب. فهو في هذا المعنى بمعنى الحفيظ، وللحفيظ أيضاً معنى آخر يقارب معنى الكافي الحسيب، وهو الذي تكفل بحفظ مخلوقاته وإبقائها، {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا } [فاطر: 41] . فهذا حفظ عام.

وأما الحفظ الخاص فقد قال صلى الله عليه وسلم: «احفظ الله يحفظك»([24]) . فمن حفظ أوامر الله بالامتثال ونواهيه بالاجتناب، وحفظ فرجه ولسانه وجميع أعضائه، وحفظ حدود الله فلم يتعدها، حفظه الله في دينه من الشبهات القادحة في اليقين، وحفظه من الشهوات والإرادات المناقضة لما يحبه الله ويرضاه، وحفظ عليه إيمانه {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [البقرة: 143] ، وحفظ الله عليه دنياه، وحفظه في أولاده وأهله ومن يتصل به.

وكذلك ينقله الله من حالة أعلى من ذلك ([25])، وهي أنَّه من حفظ الله وجده أمامه وتجاهه يسدِّده ويوفقه، وتحصل له معية الله الخاصة التي لا تحصل إلا لخواص الخلق.

الأول الآخر، الظاهر الباطن

قد فسَّرها صلى الله عليه وسلم بتفسير جامع واضح، حيث قال في دعاء الاستفتاح: «أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء» ([26]). فبيَّن معنى كلِّ اسم ونفى ما يناقضه، وهذا أعلى درجات البيان. وهنا نكتفي بهذا التفسير والبيان الذي لا يُحتاج إلى غيره.

الـواسـع

أي واسع الصفات والنعوت ومتعلقاتها، بحيث لا يحصي أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، واسع العظمة والسلطان والملك، فجميع العوالم العلوية والسفلية الظاهرة والباطنة كلُّها لله.

قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة] . وواسع العلم والحكمة، وعام القدرة، ونافذ المشيئة، وواسع الفضل والإحسان والرحمة، {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } [غافر: 7] .

ومن لطائف التعبد لله باسمه الواسع، أنَّ العبد متى علم أنَّ الله واسـع

الفضل والعطاء وأنَّ فضلَه غير محدود بطريق معين، بل ولا بطرق معينة، بل أسباب فضله وأبواب إحسانه لا نهاية لها أنَّه لا يعلق قلبه بالأسباب، بل يعلقه بمسبِّبها، ولا يتشوش إذا انسدَّ عنه باب منها، فإنَّه يعلم أنَّ الله واسع عليم، وأنَّ طرق فضله لا تعد ولا تُحصى، وأنَّه إذا انغلق منها شيء انفتح غيره مما قد يكون خيراً وأحسن للعبد عاقبة.

قال تعالى مشيراً إلى هذه الحال التي كثير من الناس لا يوفقون لها، {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ } [النساء: 130] ، لما كانت هذه الحال وهي حال الفراق يغلب على كثير من الزوجات الحزن، ويكون أكبر داع لهذا الحزن ما تتوهمه من انقطاع رزقها من هذه الجهة التي تجري عليها، فوعد الله الجميع وبشّرهم بفتح أبواب الخير لهم، وأنَّه سيعطيهم من واسع فضله.

وكم من عبد بهذه المثابة له سبب وجهة من الجهات التي يجري عليه الرزق، فانغلقت ففتح الله له باباً أو أبواباً من الرزق والخير. وبهذا يُعْرَفُ الله ويُعْلَمُ أنَّ الأمور كلَّها منه، وأنَّه {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } [فاطر: 2] .

ومن سعته وفضله: مضاعفة الأعمال والطاعات، الواحدة بعشر إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة بغير عد ولا حساب.

ومن سعته: ما احتوت عليه دار النعيم من الخيرات، والمسرَّات والأفراح واللذات المتتابعات، مما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فخير الدنيا والآخرة وألطافهما من فضله وسعته، وجميع الأسباب والطرق المفضية إلى الراحات والخيرات كلُّها من فضله وسعته.

النور الهادي الرشيد

النور من أوصافه تعالى على نوعين:

نور حسي: وهو ما اتصف به مـن النور العظيم، الذي لـو كشف

الحجاب عن وجهه لأحرقت سُبُحَاتُ وجهه ونور جلاله ما انتهى إليه بصره من خلقه، وهذا النور لا يمكن التعبير عنه إلا بمثل هذه العبارة النبوية المؤدية للمعنى العظيم، وأنَّه لا تطيق المخلوقات كلُّها الثبوت لنور وجهه لو تبدَّى لها، ولولا أنَّ أهل دار القرار يعطيهم الرب حياة كاملة، ويعينهم على ذلك لَمَا تمكنوا من رؤية الرب العظيم. وجميع الأنوار [في] ([27]) السموات العلوية كلُّها من نوره، بل نور جنات النعيم التي عرضها السموات والأرض ـ وسعتُها لا يعلمها إلا الله ـ من نوره، فنور العرش والكرسي والجنات من نوره، فضلاً عن نور الشمس والقمر والكواكب.

والنوع الثاني: نوره المعنوي وهو النور الذي نوّر قلوب أنبيائه وأصفيائه وأوليائه وملائكته، من أنوار معرفته وأنوار محبته، فإنَّ لمعرفته في قلوب أوليائه المؤمنين أنواراً بحسب ما عرفوه من نعوت جلاله، وما اعتقدوه من صفات جماله، فكلُّ وصف من أوصافه له تأثير في قلوبهم، فإنَّ معرفة المولى أعظم المعارف كلِّها، والعلم به أجلّ العلوم، والعلم النافع كلُّه أنوار في القلوب، فكيف بهذا العلم الذي هو أفضل العلوم وأجلّها وأصلها وأساسها.

فكيف إذا انضم إلى هذا نور محبته والإنابة إليه، فهنالك تمتلئ أقطار القلب وجهاتُه من الأنوار المتنوعة وفنونِ اللذات المتشابهة في الحسن والنعيم.

فمعاني العظمة والكبراء والجلال والمجد، تملأ قلوبهم من أنوار الهيبة والتعظيم والإجلال والتكبير.

ومعاني الجمال والبر والإكرام: تملأها من أنوار المحبة والود والشوق.

ومعاني الرحمة والرأفة والجود واللطف: تملأ قلوبهم من أنوار الحب النامي على الإحسان، وأنوار الشكر والحمد بأنواعه والثناء.

ومعاني الألوهية: تملأها من أنوار التعبد، وضياء التقرُّب، وسناء التحبُّب، وإسرار التودُّد، وحرية التعلق التام بالله رغبة ورهبة، وطلباً وإنابة، وانصراف القلب عن تعلقه بالأغيار كلِّها.

ومعاني العلم والإحاطة والشهادة والقرب الخاص: تملأ قلوبهم من أنوار مراقبته، وتوصلهم إلى مقام الإحسان الذي هو أعلى المقامات كلِّها؛ أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك.

فكلُّ معنى ونعت من نعوت الرب يكفي في امتلاء القلب من نوره، فكيف إذا تنوّعت وتواردت على القلوب الطاهرة الزكية الذكية، وهنا يصدق على هذه القلوب القدسية انطباق هذا المثل عليها، وهو قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ِ } [النور: 35] الآية.

وهذا النور المضروب هو نور الإيمان بالله، وبصفاته وآياته مثله في قلوب المؤمنين مثل هذا النور الذي جمع جميع الأوصاف التي فيها زيادة النور، وهو أعظم مثل يعرفه العباد. وقد دعا صلى الله عليه وسلم لحصول هذا النور فقال: «اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، اللهم اجعلني نوراً» ([28]) .

ومتى امتلأ القلب من هذا النور فاض على الوجه، فاستنار الوجه، وانقادت الجوارح بالطاعة راغبة. وهذا النور الذي يكون في القلب هو الذي يمنع العبد من ارتكاب الفواحش، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» ([29]). فأخبر أنَّ وقوع هذه الكبائر لا يكون ولا يقع مع وجود الإيمان ونوره.

والهادي الرشيد من أسمائه الحسنى هما بمعنى النور بهذا المعنى، فالله يهدي ويرشد عباده إلى مصالح دينهم ودنياهم، ويعلمهم ما لا يعلمون، ويهديهم هداية التوفيق والتسديد، ويلهمهم التقوى، ويجعل قلوبهم منيبة إليه، منقادة لأمره.

فالله خلق المخلوقات فهداها الهداية العامة لمصالحها، وجعلها مهيئة لما خلقت له، وهدى هداية البيان، فأنزل الكتب وأرسل الرسل، وشرع الشرائع والأحكام، والحلال والحرام، وبيّن أصول الدين وفروعه، وعلوم الظاهر والباطن، وعلوم الأولين والآخرين، وهدى وبيّن الصراط المستقيم الموصل إلى رضوانه وثوابه، ووضّح الطرق الأخرى ليحذَرَها العباد، وهدى عباده المؤمنين هداية التوفيق للإيمان والطاعة، وهداهم إلى منازلهم في الجنة، كما هداهم في الدنيا إلى سلوك أسبابها وطرقها.

ولهذا يقول أهل الجنة حين تتم عليهم نعمة الهداية: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ } [الأعراف: 43] . وقال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)} [الأعراف] .

والهداية المطلقة التامة هي الهداية التي يسألها المؤمنون ربهم في قوله: {2 3 4 : 6! ! } أي اهدنا إليه واهدنا فيه. وفي قول الداعي: «اللهم اهدنا فيمن هديت» ([30]).

وللرشيد معنى آخر بمعنى الحكيم، فهو الرشيد في أقواله وأفعاله، وهو على صراط مستقيم فيما يشرعه لعباده من الشرائع، التي هي رشد وحكمة، وفيما يخلقه من المخلوقات ويقدره من الكائنات، الجميع رشد وحكمة، لا عبثٌ فيها ولا شيءٌ مخالف للحكمة.

الـولـي

ولايته تعالى وتوليه لعباده نوعان:

ولاية عامة: وهو تصريفه وتدبيره لجميع الكائنات، وتقديره على العباد ما يريده من خير وشر، ونفع وضر، وإثبات معاني الملك كلِّها لله تعالى.

والنوع الثاني في الولاية والتولي الخاص، وهذا أكثر ما يرد في الكتاب والسنّة كقوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [البقرة: 257] ، {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ } [الأنفال: 40] ، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)  } [محمد] .

وهذا التولي الخاص يقتضي عنايته ولطفه بعباده المؤمنين، وأنَّ الله يربيهم تربية خاصة، يصلحون بها للقرب منه ومجاورته في جنات النعيم، فيوفقهم للإيمان به وبرسله، ثم يغذي هذا الإيمان في قلوبهم وينمّيه، وييسرهم لليسرى، ويجنبهم العسرى، ويغفر لهم في الآخرة والأولى، ويتولاهم برعايته وحفظه وكلاءته، فيحفظهم من الوقوع في المعاصي، فإنَّ وقعوا فيها بما سوّلت لهم أنفسهم الأمّارة بالسوء، وفّقهم للتوبة النصوح، فإذا تولوا ربهم تولاهم ولايةً أخصَّ من ذلك، وجعلهم من خواص خلقه بما يهيئ لهم من الأسباب الموصلة لهم إلى كلِّ خير.

قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ } [يونس] .

فأخبر في هذه الآية عن الأسباب التي نالوا بها ولاية الله، وهي الإيمان والتقوى، والفوائد والثمرات العظيمة التي يجنونها من هذه الولاية، وهي  الأمن التام وزوال ضده من الخوف والحزن، والبشارة الكاملة في الدنيا بما يبين لهم ويبشرهم به من اللطفِ والعنايةِ والتوفيقِ للخيرات  والحفظ من المخالفات، وبالثناء الحسن بين العباد، وبالرؤيا الصالحة التي يراها المؤمن أو تُرى له، والبشارة عند الموت، وفي القبر، وفي عَرَصَات القيامة.

فهذا تنبيه جامعٌ، متوسطٌ بين الاختصار المخل والطول الممل، وفيه من التفصيلات النافعة، والنكت اللطيفة، والفوائد والفرائد ما لا تكاد تجده مجموعاً في محل واحد، ولنتبع هذا المقصد الجليل ببقية المقاصد من علوم التوحيد، فنقول: بيان الأصول التي كَثُر الكلام فيها بين السلف، وبين أهل الكلام، وهي متفرعة على أسماء الله الحسنى وصفاته، ولكن لزيادة الإيضاح نبيّن دلالة القرآن عليها بخصوصها.

 القول في علو الباري، ومباينته لخلقه، واستوائه على عرشه

هذا الأصل العظيم لم يزل الصحابة والتابعون لهم بإحسان يعترفون ويعلمون علماً لا يرتابون فيه بما دلّ عليه الكتاب والسنّة من علوِّ الله تعالى، وأنَّه فوق عباده، وأنَّه على العرش استوى، وأنَّ له جميع معاني العلو: علو الذات، وعلو القدر وعظمةِ الصفات، وعلو القهر لجميع الكائنات، حتى نبغت الجهمية ومن تبعهم فأنكروا المعنى الأول، لا ببرهان عقلي، فإنَّ العقل دلّ على علو الله تعالى على خلقه بذاته دلالة فطرية واضحة، ولا ببرهان نقلي، فإنَّ جميع النصوص تنافي قولهم وتبطله وتثبت له تعالى كمال العلو من كلِّ وجه.

في القرآن «العلي» في مواضع كثيرة وفيه «الأعلى»، وذلك يدل على أنَّ علوه من لوازم ذاته وأنَّ جميع معانيه ثابتة لله تعالى.

وفيه الإخبار عن فوقيته للمخلوقات كقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } [النحل: 50] .

والإخبار بعروج الأشياء إليه وصعودها وبنزولها منه، كقوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ } [المعارج: 4] ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [فاطر: 10] ، وكقوله: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ } في عدة مواضع. فيدل ذلك على علوه، وعلى أن القرآن كلام الله غير مخلوق.

وكذلك قصة موسى وفرعون إذ قال فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى } [غافر] . وهذا ظاهر غاية الظهور أن فرعون قد أنكر ما قاله موسى صلى الله عليه وسلم من علو الله على خلقه، فقال هذه المقالة موهماً وملبساً على قومه، ولذلك كان السلف يسمون الجهمية الفرعونية لاعتقادهم نفي العلو، كما اعتقده وأنكره فرعون.

ومن ذلك: اسمه الظاهر حيث فسّره صلى الله عليه وسلم أنَّه الذي ليس فوقه شيء.

ومن ذلك: اختصاصه لبعض مخلوقاته بقربه وعِنديته، كقوله عن الملائكة: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } [الأنبياء: 19].

وأما استواؤه على العرش فقد ذكره الله في سبعة مواضع من القرآن، مثل قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه] فالاستواء معلوم والكيف مجهول، كما يقال مثل ذلك في بقية صفات الباري، فإنَّ الكلام فيها مثل الكلام في الذات، فكما أنَّ لله ذاتاً لا تشبهها الذوات، فله تعالى صفات لا تشبهها الصفات.

فصفة العلو لله تعالى ثابتة بالسمع والعقل كما تقدم، وصفة الاستواء ثبتت في الكتاب وتواترت بها السنّة.

 القول في نزول الرب إلى السماء الدنيا وإتيانه ومجيئه يوم القيامة

وذلك أنَّ الله تعالى فعّال لما يريد، وقد تواترت السنة بنزول الرب إلى السماء الدنيا. والكتاب قد دلّ على كمال قدرته، وأنَّه الفعّال لما يريد،


وأنَّه ليس له مثيل ولا شبيه، فإذا أخبر المعصوم (صلى الله عليه وسلم) بنزوله إلى السماء الدنيا، فما عذر المؤمن إذا لم يعتقد ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وأنَّه ليس كمثله شيء فهو ينزل كيف يشاء مع كمال علوه، فإنَّ علوه من صفاته الذاتية، ونزوله وإتيانه من أفعاله الاختيارية التابعة لقدرته ومشيئته.

وقال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) } [الفجر] ، وقال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ } [الأنعام: 158] الآية.

وهذا صريح لا يقبل التأويل بوجه، ومن تأوّل هذا فكلُّ صفاته بل وأسمائه الحسنى يتطرّق إليها هذا التأويل، بل التحريف الباطل المنافي للكتاب والسنّة.

 القول في رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة

على هذا جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين والهدى، وبه أخبر الله في كتابه في عدة آيات منها قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) } [القيامة] أي حسنة نيّرة من السرور والنعيم، تنظر إلى وجه الملك الأعلى.

وقال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) [المطففين]  . وهذا من أدلِّ الأدلة على أنَّ المؤمنين غير محجوبين عن ربهم، لأنَّ الله توعَّد المجرمين بألم الحجاب، فيستحيل أن يُحجب المؤمنون عنه ويكونوا كأعدائه.

وفي عموم قوله تعالى: {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) } [المطففين] ما يدل على رؤية الباري، فهم ينظرون إلى ما أعطاهم مولاهم من النعيم الذي أعظمه وأجلّه رؤية ربهم، والتمتع بخطابه ولقائه.

وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [يونس: 26] يعني: للذين أحسنـوا في عبادة الخالق، بأن عبدوه كأنَّهم يرونه، فإن لم يصلـوا إلى ذلك

استحضروا رؤية الله تعالى، وأحسنوا إلى عباد الله بجميع وجوه البر والإحسان القولي والفعلي والمالي. فهؤلاء لهم الحسنى وهي الجنة بما احتوت عليه من النعيم المقيم، وفنون السرور، ولهم أيضاً زيادة على ذلك وهو رؤية الله والتمتع بمشاهدته، وقربه ورضوانه والحظوة عنده، بذلك فسّرها النبي صلى الله عليه وسلم ([31]) ، وكذلك قوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا } جمعت كلَّ نعيم، {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } [ق: 35] ، وهو النظر إلى وجه الله الكريم، والتمتع بلقائه وقربه ورضوانه.

وكذلك ما في القرآن من التعميم لجميع أصناف النعيم، فإنَّ أعظم ما يدخل فيه رؤيةُ وجهه الذي هو أعلى من كلِّ نعيم، كقوله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } [الزخرف: 71] ، فكلُّ ما تعلَّقت به الأماني والشهوات والإرادات، فهو في الجنة حاصل لأهلها، وجميع ما تلذه الأعين من جميع المناظر العجيبة المسِرَّة، فإنَّه فيها على أكمل ما يكون.

وقوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ } [الأحزاب: 44] ، فهذا إخبار عن تحية الكريم لهم، وأنَّه سلَّمهم من جميع الآفات، وسلَّم لهم جميع اللذات والمشتهَيات، وإخبار عن رؤيته وقربه ورضوانه، لأنَّ اللقاء تحصل به هذه الأمور.

 ذكر أصول الإيمان الكلية

قد ذكر الله الإيمان ذكراً عاماً مطلقاً في مثل قوله: {آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } [الحديد: 7] ، {والذين آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } [الحديد: 19] ، {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا }، وذكره مقيداً بما يجب الإيمان به.

وأجمع الآيات المقيدة هي الآية العظيمة التي فرض الله فيها على الناس الإيمان بجميع أصوله الكلية، وهي قوله تعالى: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)  } [البقرة] وقد أخبر أنَّ الرسول والمؤمنين قاموا بهذه الأصول في قوله: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} [البقرة] .

فعلى كلِّ مؤمن أن يؤمن بالله، ويَدْخُلُ في الإيمان بالله الإيمانُ بكلِّ ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال ونفي أضدادها.

وأركان ذلك ثلاثة: الإيمان بالأسماء كالعزيز الحكيم العليم الرحيم.. إلى آخرها.

 والإيمان بالصفات: كالإيمان بكمال عزة الله وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته.

والإيمان بأحكام الصفات ومتعلقاتها: كالإيمان بأنَّه يعلم كلَّ شيء، ويقدر على كلِّ شيء، ورحمته وسعت كلَّ شيء.. إلى آخرها.

فهذا الإيمان بالله المتعلق بالعلم والاعتقاد، ثم يتبع هذا الإيمان بالله المتعلق بالحب والإرادة، وهو التأله لله والقيام بعبوديته، امتثالاً لأمره، واجتناباً لنهيه. ولهذا كان القيام بالدين كلِّه تصديقاً واعتقاداً وانقياداً داخلاً بالإيمان بالله.

وبهذا يُعرف أنَّ إطلاق الإيمان في كثير من الآيات القرآنية يشمل هذا كلَّه، لأنَّه رتب على المطلق من الأمر والمدح والثواب ما رتبه على المقيد. فجميع الأوصاف الجميلة داخلة في الإيمان، وكذلك الإيمان التام ينفي الأخلاق الرذيلة كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) } [الأنفال] .

فوصفهـم بالإيمان القلبي وأعمـالِ القلوب مـن التوكل والزيادة في

الإيمان، وبأعمال الجوارح من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة بالقيام بحقه وحق خلقه. وأخبر أنَّ هؤلاء هم الذين حققوا الإيمان، وأنَّ لهم من الله المغفرة الكاملة والثواب التام.

وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) } إلى أن قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) } [المؤمنون] .

فأخبر عنهم بالفلاح، وبشّرهم بالمنازل العالية، كما وصفهم بالإيمان الكامل الذي أثّر في قلوبهم الخضوع والخشوع في أشرف العبادات، وحفظ ألسنتهم وفروجهم وجوارحهم، وبإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ومراعاتهم للأمانات الشاملة لحقوق الله وحقوق خلقه، وأنَّهم مراعون لها، قائمون بها، وبالعهود التي بينهم وبين الله، والتي بينهم وبين خلقه.

وقد ذكر ما يشبه ذلك في سورة المعارج، وكذلك ذكر الله خصال الإيمان في قوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ } [البقرة: 177] الآيات، فحيث أطلق الله الإيمان، أو أثنى على المؤمنين مطلقاً دخلت فيه جميع هذه الأمور.

وقد يخص بعضها بالذكر ولكنها متلازمة لا يتم بعضها إلا ببعض.

ومن الإيمان بالملائكة: الإيمان بأنَّهم قد جمعوا خصال الكمال ونزّههم الله في أصل خلقتهم من جميع المخالفات، فهم عباد مكرمون عند ربهم لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وقد جعل الله كثيراً منهم وظائفهم التدبير لحوادث العالم، وأقسم بهم في عدة آيات، فهم المدبِّرات أمراً والمقسِّمات والملقيات للأنبياء والرسل ذكراً عذراً أو نذراً، وهم الحفظة على بني آدم يحفظونهم بأمر الله من المكاره، ويحفظون عليهم أعمالهم خيرها وشرها، وقد وصفوا في الكتاب والسنّة بصفات جليلة، يتعين على العبد الإيمان بكلِّ ما أخبر به الله ورسوله عنهم وعن غيرهم.

ومن الإيمان بالرسل صلوات الله وسلامه عليهم: الإيمان بأنَّ الله اختصهم بوحيه ورسالته، وجعلهم وسائط بينه وبين عباده في تبليغ رسالاته وأمره وشرعه، وجمع فيهم من صفات الكمال ما فاقوا فيه الأولين والآخرين، من الصدق العظيم، والأمانة التامة، والقوة العظيمة، والشجاعة، والعلم العظيم، والدعوة والتعليم، والإرشاد والهداية، والنصح التام، والشفقة والرحمة بالعباد، والحلم والصبر الواسع، واليقين الكامل.

فهم أعلى الخلق علوماً وأخلاقاً، وأكملهم أعمالاً وآداباً، وأرفعهم عقولاً، وأصوبهم آراء، وأسماهم نفوساً.

اختارهم الله واصطفاهم وفضّلهم واجتباهم، بهم عُرِف الله، وبهم وحّد، وبهم عُرف الصراط المستقيم، وعلى آثارهم وصل أهل الجنة إلى كلِّ نعيم، فلهم على العباد الإيمانُ بهم، والاعترافُ بكلِّ ما جاءوا به، ومحبتُهم وتعزيرهم وتوقيرهم واحترامهم، واقتفاء آثارهم والاهتداء بهديهم.

وهذه الأمور ثابتة لجميع الأنبياء، ولنبينا صلى الله عليه وسلم من هذه الأوصاف أعلاها وأكملُها. فلقد جمع الله به من الكمال ما فرقه في غيره من الأنبياء والأصفياء، وله على أمته أن يقدموا محبته على محبة أنفسهم وأولادهم ووالديهم والناس أجمعين، وأن يقوموا بحقه، وهو القيام بشرعه وتعلمه وتعليمه، واتباعه ظاهراً وباطناً، ويعتقدوا أنَّه خاتم الأنبياء، وأفضل الخلق أجمعين، وأنَّه أصدق الخلق وأنصحهم وأعظمهم في كلِّ خصلة حميدة، ومنقبة جميلة، وأنَّه أكمل الله به الدين، وأتمَّ به النعمة على المؤمنين، وشرح له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وخصّه بخصائص لم تكن لأحد قبله من الرسل، وأيّده بالآيات البيّنات والمعجزات الظاهرات، والبراهين القواطع، والأنوار السواطع.

صفاته صلى الله عليه وسلم من أكبر الأدلة على صدقه، وأنَّه رسول الله حقاً، وما بعث به من الهدى والرشد والرحمة، والعلوم الربانية، والمعارف الإلهية، والعبوديات الظاهرة والباطنة المزكية للقلوب، المنمّية للأخلاق، المثمرة لكلِّ خير من أعظم البراهين على رسالته، وأنَّها من عند الله.

وما جاء به من القرآن العظيم، وما احتوى عليه من علوم الغيب والشهادة، ومن علوم الظاهر والباطن، ومن علوم الدنيا والدين والآخرة، ومن الهداية إلى كلِّ خير، والتحذير من كلِّ شر، ومن الإرشاد إلى أقوم الطرق وأهدى السبل، وأقرب الوسائل وأرجح الدلائل، كلُّ ذلك دليل وبرهان على أنَّه من عند الله، تنزيل من حكيم حميد، وأنَّ من جاء به هو الرسول الأمين والصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.

ولهذا نقول: ومن الإيمان بالله ورسوله: الإيمان بهذا القرآن العظيم، وأنَّه كلام الله حقيقة منزل غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود، وأنَّه تكلم به حقاً، وبلغه جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم، وبلغه محمد صلى الله عليه وسلم لأمته، فنقلته الأمة كلُّها بأسرها قرناً بعد قرن.

ولهذا كان هذا القرآن متواتراً تواتراً لا يقاربه شيء من الكلام المنقول، وهذا من حفظ الله، فإنَّه تعالى أنزله وتكفّل بحفظه.

ومن تمام الإيمان به التصديق التام بكلِّ خبر أخبر به عن الله، وعن المخلوقات، وعن أمور الغيب وغيرها، وأنَّه لا يمكن أن يأتي خبر صحيح ينقضه، أو يَرِد بما يخالف الحس، بل يعلم أنَّ كلَّ ما خالفه فإنَّه باطل بنفسه.

ومن تمام الإيمان به الإقبالُ على معرفة معانيه، والعمل بكلِّ ما دلّ عليه بالتصديق بأخباره، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.

وقد وصف الله القرآن بأنَّه هدى ورحمة وشفاء لما في الصدور من أمراض الشبهات، وأمراض الشهوات، وأنَّه تبيان لكلِّ شيء، فما من شيء يحتاجه الناس في أمور دينهم ودنياهم، إلا وقد بيّنه أتم بيان، وأمر عند التنازع في الأمور كلِّها أن ترد إليه، فيفصل النزاع ويحل المتشابهات بلفظه الصريح، أو بمعانيه المتنوعة التي بيّنتها السنّة، وبلّغها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، وأمر العباد بتدبُّره والتفكر في معانيه.

وأخبر أنَّ أحكامه أحسنُ الأحكام، وأخباره أصدق الأخبار، ومواعظه أنجع المواعظ، فهو المبِيْنُ لكلِّ ما يحتاجه الخلق، وهو المفصّل لجميع العلوم؛ كلُّه، محكمٌ من جهة الحِكَمِ والحُكْم والإتقان والانتظام، وكلُّه متشابه في حسنه وبيانه وحقه، وتصديق بعضه لبعض، وبعضه محكم من جهة التوضيح والتصريح، وبعضه متشابه من جهة الإجمال والإطلاق، يجب ترجيعه ورده إلى المحكم ليتضح الأمر ويزول اللبس، فيه الدليل والمدلول، يحتوي على جميع الأدلة النقلية والعقلية والفطرية قد جمع الله فيه كلَّ خير ونفع للعباد.

 الإيمان باليوم الآخر

ومن تمام الإيمان بالله ورسله وكتبه: الإيمانُ باليوم الآخر، وهو كلُّ ما جاء به الكتاب والسنّة ممَّا يكون بعد الموت من أحوال الموت والبرزخ والقبر، والقيامة والجنة والنار، ومتعلقات ذلك كلِّه داخل بالإيمان باليوم الآخر.

وقد تواترت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث المتنوعة في فتنة القبر، وعذابه ونعيمه، وأنَّ الميت تعاد إليه روحه في قبره فيُسأل عن ربه ودينه ونبيه، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، فيقول المؤمن: الله ربي، ومحمد نبيي، والإسلام ديني، فيفسح له في قبره وينوّر له فيه، ويُنَعَّمُ فيه إلى يوم القيامة، كما وُصِفَ ذلك وفُصِّلَ في السنّة.

وأما الكافر والمنافق فيضله الله عن الصواب لظلمه وكفره، فيضيق عليه قبره، ولا يزال يعذب إلى أن تقوم الساعة.


ومن المذنبين من يعذّب في القبر مدة بقدر ذنوبه، ثم يرفع عنه العذاب، ومنهم من يرفع عنه العذاب بشفاعة أو دعاء أو صدقة أو نحو ذلك.

ثم إذا تكامل الآدميون وماتوا جميعاً أمر تعالى إسرافيل بالنفخ في الصور، فيخرجون من قبورهم إلى موقف يوم القيامة، حفاة عراة غرلاً، مهطعين إلى الداع كأنَّهم إلى نصب يوفضون، يوم يحشر المتقون إلى الرحمن وفداً، ويساق المجرمون إلى جهنم ورداً، فيقفون موقفاً عظيماً لا تتصور العقول عظمه وفظاعته وهوله، ولكن الله يخففه على المؤمنين.

ويسيل العرق منهم فيكونون على قدر أعمالهم، منهم من يأخذه إلى كعبيه، وإلى ركبتيه، وإلى حقويه، وإلى حَلقه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، وتدنوا الشمس منهم فتكون على قدر ميل منهم، ويصيب الخلق من الهمِّ والكرب ما الله به عليم، فيفزعون إلى من يشفع لهم إلى ربهم ليريحهم من هذا الموقف، ويفصل بينهم، فيأتون آدم، ثم نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، وكلُّهم يعتذر ويدفعهم إلى من بعده.

فإذا جاءوا لعيسى صلى الله عليه وسلم قال: اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم عبدٍ غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم فيجيب طلبتهم ويلبي دعوتهم، ثم يأتي إلى تحت العرش فيسجد لله سجدة عظيمة، يفتح الله عليه من الثناء والتحميد والتمجيد لله ما لم يفتحه على أحد من الأولين والآخرين ويقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسل تعطَ، واشفع تشفع، ويبعثه الله ذلك المقام المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون أهل السماء وأهل الأرض ([32]).

وينزل الله للفصل بين عباده ومحاسبتهم، وحينئذ تنشر دواوين الأعمال الحاوية لحسنات العباد وسيئاتهم، وكلٌّ يُعطى كتابه، فيكون عنوان أهل السعادة أن يعطوا كتبهم بأيمانهم، فيكون ذلك أول البشرى بما تحتوي عليه كتبهم من الخيرات، ويعطى أهل الشقاء كتبهم بشمائلهم، ومن وراء ظهورهم بشارة لهم بالشقاوة، وفضيحة لهم بين الخلائق.

فمن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها، ويحاسب الكفار محاسبة توبيخ وفضيحة بين الخلائق، ثم يؤمر بهم إلى النار، ويحاسب الله بعض المؤمنين حساباً يسيراً يضع الله عليه كنفه ويقرره بذنوبه، فإذا ظن أنَّه هالك قال الله له: إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فلا يطلع عليها أحد من الخلق، ويعطى كتابه بيمينه، وتوضع الموازين التي توزن بها الأعمال الصالحة والسيئة، {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) } [المؤمنون: 102، 103] .

وينقسم الناس ثلاثة أقسام: قسم مستحقون للثواب المحض، سالمون من العقاب، وهم السابقون وأصحاب اليمين، الذين أدوا الواجبات، وتركوا المحرمات، وتابوا مما جنوه من المخالفات.

وقسم مستحقون للعقاب المحض، والمخلدون في نار جهنم، وهم جميع من لم يؤمن بالرسل الإيمان الصحيح، من مشرك ومستكبر، وجاحد ومنافق، ويهودي ونصراني ومجوسي، وجميع من حكمت عليه النصوص الصحيحة بالخروج من الإسلام.

وقسم ثالث ظالمون لأنفسهم مخلطون، فهؤلاء من رجحت حسناته على سيئاته دخل الجنة ولم يدخل النار، وَمَنْ استوت حسناته وسيئاته فهم أهل الأعراف، وهو موضع عال مشرف على الجنة والنار، يقيمون فيه ما شاء الله تعالى، ثم يتداركهم المولى برحمته فيدخلهم الجنة.

ومَنْ رجحت سيئاته على حسناته، فلا بد من دخوله النار بقدر ذنوبه، ثم بعد ذلك يدخل الجنة إلا أن تحصل له شفاعة، فإنَّ الشفاعة لأهل الذنوب والمعاصي ثابتة، يشفع محمد صلى الله عليه وسلم، ويشفع الأنبياء، ويشفع خواص المؤمنين فيمن استحق النار أن لا يدخلها، وفيمن دخلها وأعماله تقتضي الزيادة على تلك المدة أن يخرج منها، ويخرج الله من النار أقواماً برحمته.

وينصب الصراط على متن جهنم، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، فمن مرّ عليه فهو من الناجين، ولا يدع الله في النار أحداً في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، ويبقى فيها أهلها الذين هم أهلها خالدين أبداً، لا يفتر عنهم عذابها.

وقد وصف الله تعالى عذاب النار وصفة أهلها بأفظع الأوصاف، وأنَّ الله يجمع لهم بين أصناف العقاب، يعذبهم بالنار المحرقة التي تطّلع على الأفئدة، وكلما احترقت جلودهم بُدّلوا جلوداً غيرها، ليعاد عليهم العذاب ويذوقوا شدته، وبالجوع المفرط والعطش المفرط.

فالجوع والعطش، من أعظم العذاب والآلام، وما يغاثون به إذا طلبوا الشراب والطعام عذابٌ أشد وأفظع، فإنَّهم إذا استغاثوا للشراب أغيثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه، فلا يدعهم العطش الشديد حتى يتناولوه، فيقطع منهم الأمعاء، ويستغيثون للطعام فيؤتون بالزقوم الذي حرارته أعظم من حرارة الرصاص المذاب، وهي في غاية المرارة وقبح الريح، فيغلي في بطونهم كغلي الحميم، ويسلسل المجرمون بسلاسل من نار، وتغل أيديهم إلى أعناقهم ويسحبون في الحميم، ثم في النار يسجرون.

ويترددون في عذابهم بين لهب النار وحرارتها التي لا يمكن وصفها، وبين برد الزمهرير البارد الذي يكسر العظام من قوة برده، ويجمع لهم بين جميع ألوان العذاب، وبين عذاب الحجاب عن ربهم، وبين اليأس من رحمته، وآخر أمرهم العذابُ المؤبد والشقاء السرمدي.

وأما الجنة وما أعد الله فيها لأهلها من النعيم، وما عليه أهلها من السرور القلبي والروحي والبدني، فقد ذكر الله أوصاف الجنة مبسوطاً مفصلاً في كثير من الآيات، وأطلقه معمَّماً شاملاً في آيات، مثل قوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)} [ق] ، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [يونس: 26] ، {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } [الزخرف: 71] ، {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [السجدة: 17] ، {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) } [الإنسان] ، {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) } [الزمر] ، إلى غير ذلك من الآيات العامة الشاملة لنعيم الأبدان، وسرور الأرواح، وأفراح القلوب، وشهوات النفوس، مما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

ووصف نعيمها مفصلاً، فتقدم ذكر رؤية الباري الذي هو أعلى نعيم يحصل لأهل الجنة، والتمتع بلقائه ورضوانه، وسماع كلامه وخطابه.

وأخبر تعالى أنَّ جميع أصناف الفواكه الموجودة في الدنيا موجودٌ في الجنة ما يشبهها في الاسم فقط، لا في الحسن واللذة وطيب الطعم والتنعم بتناوله، وفيها أشياء ليس لها في الدنيا نظير، ولهذا قال: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) } [الرحمن] ، وقوله: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) } [الواقعة] وذللت قطوفها أي ثمارها تذليلاً، كقوله: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) } [الرحمن: 54] يتناوله القائم والقاعد والماشي وعلى أيِّ حال.

وأنَّ أنهارها تجري من تحتهم أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفّى، ولهم فيها من كلِّ الثمرات.

ووصف فرشهم بأنَّ بطائنها من إستبرق وهو أعلى أنواع الحرير، فكيف بالظهائر، وأنَّ لباسهم فيها الحرير، وحليهم الذهب والفضة واللؤلؤ وأنواع الجواهر الفاخرة، وذلك شامل لذكورهم وإناثهم، وأنَّ أزواجهم الحور العين خيّرات الأخلاق، حِسَان الأوجه، جمع الله لهنَّ بين الحسن والجمال الباطن والظاهر، كأنَّهنَّ الياقوت والمرجان من حسنهنَّ وصفائهنَّ، وأنَّهنَّ عُرُب متحببات إلى أزواجهنَّ بحسن التبعُّل، ولطف الآداب، وحسن الحركات والألفاظ الرقيقة والحواشي المليحة.

وأنَّهنَّ أبكارٌ أترابٌ في غاية سن الشباب وقوته، وفي كمال الصفاء بينهنَّ وعدم التباغض، بل نزع الغل من صدور جميع أهل الجنة، إخواناً على سرر متقابلين، وأنَّهنَّ مطهراتٌ من جميع الآفات، مطهراتٌ من الأدناس الحسية والأدناس المعنوية، كاملاتٌ مكملاتٌ، وأنَّهنَّ قاصرات طرفهن على أزواجهنَّ من حسن أزواجهنَّ وعفتهنَّ، قاصراتٌ طرف أزواجهنَّ عليهنَّ من جمالهنَّ الفائق الذي لا يبغي بعلها بها بدلاً، ولا يقول لو أنَّ هذا الوصف أكمل من هذا، لأنَّه يرى ما يحير لبّه، ويذهل عقله من الحسن الباهر، والبهاء التام.

وأنَّهم في الجنة متعاشرون مع أحبابهم وأصحابهم، يتزاورون ويتطارحون الكلام الطيب، والأحاديث الشائقة، ويتذاكرون نعم الله وآلاءه عليهم، سابقاً ولاحقاً، ويسبِّحون الله بكرة وعشياً، وأنَّ الله نزّههم من البول والأدناس، وكلِّ ما لا تشتهيه النفوس، بل طعامهم وشرابهم يخرج عرقاً أطيب من المسك الأَذْفَر، وأنَّ الله جمع بينهم وبين من صلح من آبائهم وأمهاتهم وأولادهم وزوجاتهم ليتم نعيمهم، ويكمل سرورهم.

وهذه الآية تجمع كلَّ نعيم تتعلق به الأماني، وتطلبه النفوس وهي قوله تعالى: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) } [الرحمن] وهي جمع فن، لا جمع فنن، أي كلُّ نوع وجنس من النعيم والسرور موجود فيهما، حاصل على أكمل الوجوه وأتمها، وتمام ذلك الخلود الدايم، والنعيم المستمر، والأفراح المتواصلة التي تزداد على الدوام. فجميع ما ورد به الكتاب والسنّة من أحوال الدارين وتفاصيل ذلك كلِّه داخلٌ في الإيمان باليوم الآخر.

والإيمان باليوم الآخر على درجتين:

أحدهما: التصديق الجازم الذي لا ريب فيه بوجود ذلك على حقيقته. فهذا لا بد فيه من الإيمان.

والدرجة الثانية: التصديق الراسخ المثمر للعمل، فإنَّ من علم  ما أعد الله للطائعين من الثواب، وما للعاصين من العقاب علماً واصلاً إلى القلب، فلا بد أن يثمر له هذا الإيمان الجد في الأعمال الموصلة إلى الثواب، والحذر من الأعمال الموجبة للعقاب.

ومن أصول أهل السنّة والجماعة أنَّ الدين والإيمان اسم يجمع اعتقادات القلوب وأعمالها وأعمال الجوارح، وأنَّه يزيد وينقص ويتفاضل أهل الإيمان فيه تفاضلاً عظيماً، وجعلهم الله في كتابه ثلاث طبقات:

سابقين إلى الخيرات، وهم الذين أدّوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، وفضول المباحات.

وأصحاب اليمين اقتصروا على أداء الفرائض، واجتناب المحارم.

وظالمين لأنفسهم خلطوا عملاً صالحاً، وآخر سيئاً، عسى الله أن يتوب عليهم.

قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } [التوبة] ، وقوله: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ } [الفتح: 4] ، {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى } [مريم: 76] . والهدى هو علوم الإيمان وأعماله، والنصوص على هذا الأصل من الكتاب والسنّة كثيرة جداً.

وهو معلومٌ بالحس والوجدان؛ فإنَّ المؤمنين يتفاضلون في علوم الإيمان، قلة وكثرة، وقوة يقين وضعفه، ويتفاضلون في أعمال القلوب التي هي روح الإيمان وقلبه، مثل محبة الله وخوفه ورجائه، والتوكل عليه والإنابة إليه، والإخبات والخضوع والتعظيم. هذا أمر لا يمتري فيه من له أدنى عقل.

ويتفاضلون في أعمال الجوارح كالصلاة والزكاة والصيام والحج فرض ذلك ونفله، والقيام بحقوق الله وحقوق عباده من البر والصلة للأقارب والجيران والأصحاب والإحسان إلى الخلق تفاوتاً عظيماً.

فمن زعم أنَّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فقد قال ما خالف النقل والعقل والحس والواقع، حتى ولو فسَّره بمجرد التصديق، فإنَّه يتفاوت تفاوتاً ظاهراً لكلِّ أحد.

ويتفرَّع على هذا الأصل أنَّ العاصي وصاحب الكبيرة لا يخرج من الإيمان بالكلية، ولا يعطى الاسم الكامل المطلق، فهو مؤمن بما معه من الإيمان، فاسق ناقص الإيمان بما تركه من واجبات الإيمان، ما معه من الإيمان الذي لا يخالطه كفر يمنعه من الخلود في النار.

وأما الإيمان المطلق الكامل، فإنَّه يمنع دخول النار بالكلية، وقد ذكرنا في القواعد أنَّ أسماء المدح والثناء على المؤمنين، وترتيب الثواب المطلق عليه ونفي العقاب إنَّما هو الإيمان الكامل، وأنَّ خطاب الله للمؤمنين بالأمر والنهي والتشريع يعمُّ كاملَ الإيمان وناقصَه ([33]).

ويتفرع أيضاً على هذا الأصل أنَّ العبد قد يجتمع فيه خير وشر، وإيمان وخصال كفر، أو نفاق، وأنَّه يستحق المدح على ما فيه من خصال الخير، والذم على ما فيه من خصال الشر.

ومن أصول أهل السنّة والجماعة: الإيمان بقضاء الله وقدره، وهو داخل في الإيمان به وبكتبه وبرسله، فيعلمون أنَّ الله قد أحاط بكلِّ شيء علماً، وأنَّه كتب في اللوح المحفوظ جميع الحوادث، صغيرها وكبيرها، سابقها ولاحقها، ثم قدّرها وأجراها بمواقيتها بحكمته وقدرته وعنايته وتمام علمه، وأنَّه كما أنَّ جميع الحوادث ([34]) مرتبطة بحكمته وعلمه فإنَّها مرتبطة بقدرته، وأنَّه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنَّ أعمال العباد كلَّها خيرها وشرها داخلة في قضائه وقدرته، مع وقوعها طبق إرادتهم وقدرتهم، ولم يجبرهم عليها، فإنَّه خلق لهم جميع القوى الظاهرة والباطنة، ومنها القدرة والإرادة التي بها يختارون وبها يفعلون.

 الإشارة إلى ما في القرآن من براهين التوحيد

 توحيد الألوهية والعبادة

لما كان توحيدُ الباري أعظم المسائل وأكبرها وأفرضها وأفضلها، وحاجة الخلق إليه وضرورتهم فوق كلِّ ضرورة تقدر، فإنَّ صلاحهم وفلاحهم وسعادتهم متوقفة على التوحيد نوّعَ الله الأدلة والبراهين على ذلك، وكانت أدلته واضحات، وبراهينه ساطعات.

فمن أوضح أدلته وأجلاها الاستدلال على ذلك باعتراف الخلق برّهم وفاجرهم، إلا شرذمة ملحدة، معطلة للباري. فالخلق كلُّهم مسلمهم وكافرهم قد اعترفوا بأنَّ الله هو الخالق وما سواه مخلوق، وهو الرازق ومن سواه مرزوق، وهو المدبِّر وما سواه مُصَرَّف مُدبَّر، وهو المالك وما سواه مملوك. فهذا يدل أكبر دلالة على أنَّه لا يستحق العبادة سواه.

ولهذا يستدل به على المشركين ويأخذهم باعترافهم كقوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)} [المؤمنون].وآيات كثيرة جداً فيها هذا المعنى، لأنَّه برهان واضح، ينقل الذهن منه بأول وهلة، بأنَّ من هذا شأنه وعظمته، أنَّه هو المنفرد بالوحدانية المستحقة للعبودية وإخلاصِ الدين له.

ومن براهين التوحيد: إخباره في عدة آيات أنَّ جميع ما يُعبد من دونه مخلوق، فقير عاجز، لا يستطيع نفعاً ولا دفعاً ولا جلب خير لعابده، ولا وقاية شر، ولا ينصر من عبده ولا أنفسهم ينصرون.

ومن كان بهذه المثابة فمن السفه والحمق الجنوني عبادته وخوفه ورجاؤه، وتعليق القلوب به، وإنَّما يجب تعليق القلوب بالغني المطلق، الذي ما بالعباد من نعمة ولا خير إلا منه، ولا يدفع المكاره إلا هو.

وهذا أيضاً برهان آخر: أنَّه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يدفع السيئات إلا هو، وهو الذي يجيب المضطرين، وينقذ المكروبين، ويكشف السوء عن المضطهدين، وهو الذي جعل لعباده الأرض قراراً، وأجرى لهم فيها أنهاراً، وجعلها مهاداً مهيئة لجميع مصالحهم ومنافعهم، وأنزل من السماء ماءً فأنبت به حباً ونباتاً، وجنات ألفافاً، وأنبت به حباً، وعنباً وقضباً، وزيتوناً ونخلاً، وحدائق غلباً، وفاكهةً وأبّاً، متعاً لكم ولأنعامكم.

وهو الذي يطعم عباده ويسقيهم، وإذا مرضوا يشفيهم، وهو الذي يحيي ويميت، وإذا قضى أمراً قال له كن فيكون.

وهو الذي يُطعِم ولا يُطعَم، ويُجير ولا يُجار عليه، ويُغيث ولا يُغاث.

وهو الذي خلق الإنسان وعلّمه الكتابة والبيان، وعلّم القرآن، وجعل الشمس والقمر والكواكب للمصالح المتنوعة والحسبان، والسماء رفعها ووضع الميزان، وأمر عباده أن يسلكوا طريق العدل، ولا يطغوا في الميزان.

وهو الذي مرج البحرين، هذا عذب فرات سائغ شرابه، وهذا ملح أُجاج، ومن كلٍّ تأكلون لحماً طرياً، وتستخرجون منه حلية تلبسونها، وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون.

وهو الذي سخّر لعباده جميع ما في السموات والأرض، وأسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة، وآتاهم من كلِّ ما سألوه بلسان المقال ولسان الحال.

وهو الذي جعل لهم الليل لباساً، والنهار معاشاً، {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) } [القصص] .

وهو الذي خلق من الماء بشراً، فجعله نسباً وصهراً، وجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا.

وهو الذي جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، والقوى الظاهرة والباطنة.

وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر.

وهو الذي بيده الملك والحمد، وبيده الخير، ويُعِز، ويُذِل، ويُعطي، ويمنع، ويقبض، ويبسط.

وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وهو أهون عليه، وله المثل الأعلى.

وهو الذي جعل لعباده الأنعام، فمنها ركوبهم، ومنها يأكلون، ولهم فيها منافع ومشارب، وتحمل أثقالهم إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة، ويخلق ما لا تعلمون.

وهو الذي أوحى إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً، ومن الشجر ومما يعرشون.. الآيات.

وهو الذي خلق لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة، ورزقكم من الطيبات.

وهو الذي جعل لكم من بيوتكم سكناً، وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين.

وهو الذي خلق لكم من الجبال أكناناً، وجعل لكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً تتزينون به.

وهو الذي جعل لكم المساكن كفاتاً أحياءً في الدور وأمواتاً في القبور، {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) } [البلد]، {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) } [المرسلات] .

ألمْ يتفضل بما هو أعظم من ذلك بالنعم الدينية والأخروية التي هي السبب في السعادة الأبدية.

ألم يمنَّ على المؤمنين بالإسلام والإيمان، ويبعث فيهم رسولاً يتلو عليهم آياته، ويزكيهم ويعلِّمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم ويعلِّمهم ما لم يكونوا يعلمون.

ألم يوضح لهم الصراط المستقيم، ويكمل لهم الدين، ويمنّ عليهم بالهداية التامة، هداية التعليم والتفهيم والإرشاد، وهداية التوفيق والعمل والانقياد.

ألم يخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن ظلمات المعاصي إلى نور الطاعة، ومن ظلمات الغفلة إلى نور الإنابة إليه وذكره.

ألم ييسرهم لليسرى ويجنّبهم العُسرى.

ألم يحبّب إليهم الإيمان ويزيّنه في قلوبهم، ويكرِّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، ويجعلهم من الراشدين فضلاً منه ونعمة، والله عليم حكيم.

ألم يعصمهم من موبقات الآثام، ويحفظهم من فتن الشكوك والشبهات والأوهام.

ألم يفتح لهم أبواب التوبة والرحمة، ويأمرهم بالأسباب التي يدركون بها رحمته وينجون بها من عقابه.

ألم يجعل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والسيئة بواحدة، ومآلها العفو والصفح والغفران، وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، ويأخذ الصدقات وأنَّ الله هو التواب الرحيم.


{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر] ، {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) } [طه] .

ألم يكن جانب فضله وكرمه ورحمته في جميع الأمور سابقاً وغالباً: «إن رحمتي سبقت غضبي» ([35])، وفي لفظ: «غلبت».

فللرحمة السبق والإحاطة والسعة، ولها الغلبة بحيث يضمحل معها أسباب العقوبة كما تقدم في الحسنات والسيئات، وإنَّ العبد لو أفنى عمره في المعاصي، ثم في ساعة واحدة قبل أن يغرغر تاب وأناب، غَفَرَ له كلَّ ذلك وأبدل سيئاته حسنات.

وأنَّ أدنى مثقال حبة خردل من إيمان يمنع الخلود في النار، وأنَّ الكفار والفجار وأصناف العصاة يبارزون المولى بالمخالفات والعظائم، وهو يعافيهم ويرزقهم ويُدِرُّ عليهم النعم ويستعتبهم، ويعرض عليهم التوبة، ويُخبِرهم أنَّهم إن تابوا عفى عنهم وغفر لهم، حتى إذا ماتوا وهم كفار ولم يكن فيهم من الخير مثقال ذرة وَلاَّهُمْ ما تولوا لأنفسهم ورضوا لها من الشقاء الأبدي.

وإذا كان جميع ما فيه الخلق من النعم والأفراح والمسرَّات أسبابها ومسبباتها، الظاهرة منها والباطنة، الدينية والدنيوية، كلُّها من الله، وهو الذي تفضل بها من غير سبب منهم، فإن حصل بعض الأسباب الواقعة من الخلق التي ينالون بها نعمه ورحمته، فتلك الأسباب هو الذي أعطاهم إياها، فمنه كلُّ شيء محبوب، وجميع الشرور والمكاره هو الذي دفعها ويسّر دفعها.

فمن كان هذا شأنه العظيم وخيره الجسيم، أليس هو الذي يستحق أن يبذل له خالص العبودية، وصفو الوداد، وأحق من عُبد، وأولى من ذُكر وشُكر، فتباً لمن أشرك به من هو مضطر إليه في كلِّ أحواله، فقير في جميع أموره.

ومن براهين التوحيد: ما يصف الله به الأوثان ومن عُبد من دونه من النقص العظيم، وأنَّها فاقدة للكمال، وربما كانت فاقدة أيضاً للأقوال والأفعال، وأنَّها لا تخلق ولا ترزق باعتراف عابديها، وليس لها ملك ولا شركة في الملك، وليس لها مظاهرة لله ولا معاونة بوجه من الوجوه، وليس الله محتاجاً إليها، ولا إلى غيرها، بل هو الغني الحميد.

{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)} [النحل] ، ولا يملكون لهم نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ولا ينصرونهم ولا أنفسهم ينصرون، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) } [الأحقاف] . {نَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } [الحج: 73] ، {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)} [الأعراف: 194، 195]، {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى } [يونس: 35]،{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)} [العنكبوت] .

إلى غير ذلك من الصفات الناقصة التي وصف الله بها كلَّ ما عبد من دونه، وهي معلومة حتى عند العابدين لها، ولكنَّهم يزعمون الزعم الباطل أنَّهم يريدون أن تشفع لهم أو تقربهم إليه زلفى.

وهذا القصد الخبيث أعظم مُبعد لهم عن الله، فإنَّه لا يُتقرب إليه  إلا بما يحب، ولا يُتوسل إليه إلا بالإيمان والتوحيد الخالص، والأعمال الخالصة لوجهه. ومن تقرب إليه بالشرك لم يزدد منه إلا بُعداً، وبذلك قطع الصلة بينه وبين ربه فاستحق الخلود في النار وحرّم الله عليه الجنة.

ومن براهين التوحيد: أيامه بين عباده، وإكرامه للرسل وأتباعهم الذين قاموا بتوحيده، وإنجائهم من الشرور والعقوبات، وإحلاله المثلات بالأمم المشركة بالله، المستكبرة عن عبادة الله، المكذبة لرسل الله لما حذرهم وأنذرهم، وأقام عليهم الحجج المتنوعة والآيات المفصلة على توحيده وصدق رسله، فكذبوا فأوقع بهم أنواع العقوبات المتنوعة، {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) } [العنكبوت] .

ثم خاتمة ذلك ما نصر به خاتم رسله محمداً صلى الله عليه وسلم حين بعثه بالتوحيد الخالص والنهي عن الشرك، فقاومه أهل الأرض الأقربين منهم والأبعدين، ومكروا في نصر باطلهم، وإبطال الحق الذي معه المكرات العظيمة، فخذلهم الله ونصر نبيه وأتباعه النصر الذي لا مثيل له، إنَّ في ذلك لآية على أنَّ دين الله الذي هو التوحيد والإيمان هو الحق، وأنَّ ما يدعون من دونه هو الباطل، وأنَّ رسوله هو الصادق الأمين، وأنَّ جميع من عاداه لفي أعظم الغي والضلال والشقاء.

ومن البراهين على التوحيد وعلى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وهو داخل في الإيمان بالله ورسوله، والإيمان بالغيب، ما قصّه الله في كتابه من الغيوب الماضية والحاضرة والمستقبَلة التي لا تزال تحدث شيئاً فشيئاً طبق ما أخبر به القرآن.

فمن ذلك ما أخبر به عن تفاصيل الوقائع الماضية في قصص الرسل في أنفسهم، ومع أقوامهم من أتباعهم وأعدائهم تفصيلاً ليس لأحد طريق إلى تحصيله، إلا الوحي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ونهاية ما عند خواص أهل الكتاب من تلك التفاصيل نتف وقطع لا يحصل منها قريباً مما يحصل بالقرآن.

ولهذا يخبر في أثناء هذا القصص أنَّ إتيان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بها دليل على رسالته، كقوله بعدما ذكر قصة موسى مبسوطة، {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)} [القصص].

أي أنَّه لا سبيل لك إلى معرفة هذه الأمور بتلقِّ عن أحد، ولا وصول لذلك إلا من جهة الوحي الذي أوحاه إليه، وكذلك ذكر الله هذا المعنى في آخر قصة يوسف المطولة في قوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ } [يوسف: 102] الآية. وفي قصة مريم وزكريا: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] .

فكلُّ هذا يدل أكبر دلالة على رسالة وصحة ما جاء به من التوحيد، حيث جاءتهم هذه الأمور المفصلة بطريقة لا سبيل إليها إلا بالوحي.

ومثل ذلك خبره عن الملائكة والملأ الأعلى، وقصة آدم وسجود الملائكة له بعد تلك المراجعات فقال: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)} [ص] .

وأعظم من ذلك كلِّه وأجلّ، إخباره صلى الله عليه وسلم عن الرب العظيم وقصّه لصفاته العظيمة مفصلة، بحيث جاء هذا القرآن بما لم يأتِ به كتاب قبله. وأخبر عن الله أخباراً عظيمة عجزت قُدَرُ الأولين والآخرين أن يأتوا بما يقاربها، أو بما ينقضها، أو ينقض بعضها.

فجميع الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، جميع ما فيها من الخبر عن الله فإنَّه في القرآن، وفي القرآن زيادات عظيمة وتوضيحات تدل أكبر دلالة على أنَّ من جاء به إمام الرسل وسيد الخلق، وأنَّ هذا القرآن مهيمن على ما قبله من الكتب، وأنَّ كلَّ حق قاله وتكلم به أحد من الخلق فهو في ضمن القرآن.

فإن قيل: فكيف تجعلون هذا البرهان الذي هو الخبر عن الله وعن كماله ونعوت جلاله، من براهين رسالة محمد وأدلة التوحيد وأنتم في مقام التكلم مع الموافق والمخالف والمعترف برسالة محمد صلى الله عليه وسلم والمنكر لها، وذلك من أمور الغيب التي لا يعترف بها إلا كلُّ مؤمن، وأنتم تريدون جعله برهاناً يسلِّم بصحته حتى المخالفون المنكرون لرسالته، إذا سلكوا طريق الإنصاف والاعتراف بالحقائق الثابتة التي يسلمها جميع العقلاء المعتبرين.

قيل في الجواب عن هذا الإيراد: هذا البرهان يتضح وينجلي بأمور:

منها: أنَّ الذي جاء به رجل أميّ لا يقرأ ولا يكتب، وقد نشأ بين أميين لم يجالس أحداً من أهل العلم، ولم يدرس كتاباً، ولم يزل على هذه الحال حتى جاء بهذا الكتاب الذي معظمه هذه الإخبارات الجليلة المتناسبة المحكمة، فبمجرد النظر إلى هذه الحالة التي عليها محمد صلى الله عليه وسلم وإتيانه بهذا الكتاب برهان قوي يضطر إليه الناظر أنَّه حق، وما احتوى عليه حق، وأنَّه لا سبيل له إلى ذلك إلا بالوحي والرسالة.

ثانياً: أنَّه صدق جميع الكتب وجميع ما أخبرت به الرسل، فجميع ما في كتب الله من التوحيد والصفات، وما أخبرت به الرسل عن ذلك فما جاء به محمد يصدق ذلك ويوافقه ويشهد له مع ما هو عليه صلى الله عليه وسلم من الوصف المذكور.

ثالثاً: أنَّ هذه الأسماء الحسنى والصفات العليا التي أخبر بها عن الله كلَّها متصادقة، يصدق بعضها بعضاً، ويناسب بعضها بعضاً، حيث دلّ كلُّ معنى منها على الكمال المطلق بكلِّ وجه وبكلِّ اعتبار، الذي لا كمال فوقه بل لا يمكن عقول العقلاء أن تتصوَّر معنى واحداً من معاني تلك الأوصاف، فهذا أكبر دليل على أنَّها حق، وأنَّ من جاء بها هو رسول الله حقاً.

رابعـاً: أنَّ آثارها ومتعلقاتها في الوجود والخلق والأمـر مشهـودة

محسوسة؛ فآثار ما أخبر به من العظمة والملك والسلطان، وآثار ما أخبر به من العلم المحيط والحكمة الواسعة، وآثار ما أخبر به من الرحمة والجود والكرم، وآثار ما أخبر به من إجابة الدعوات، وتفريج الكُرُبات، وإزالة الشِّدَّات، وآثار ما أخبر به من كمال القدرة، ونفوذ الإرادة وكمال التصرف والتدبير، إلى غير ذلك مما أخبر به عن الله، فإنَّ آثاره تلك في الوجود مشهودة لكلِّ أحد، لا ينكرها أو يتوقف فيها إلا مكابر، فهو يخبر صلى الله عليه وسلم عن غيب محكم، يشاهد الخلق من آثاره ما يدلهم دلالة قاطعة على ذلك.

خامساً: هذه النعوت العظيمة التي أخبر بها عن الله، لا يمكن التعبير عن آثار معرفتها في قلوب العارفين بها من التعظيم والإجلال الذي ليس له نظير، ومن الودِّ والسرور والابتهاج الذي لذَّات الدنيا بالنسبة إليه أقل من قطرة بالنسبة إلى البحر، وهم خلق لا يحصي عددهم إلا الذي خلقهم، وهم عِلْيَةُ الخلق، وخلاصة الوجود، وأكمل الناس أخلاقاً وآداباً، وأرجحهم عقولاً وأصوبهم، إلا وقد اتفقوا على هذا الأمر العظيم ليس اتفاقاً علمياً فحسب، بل هو اتفاق اعتقادي علميّ يقينيّ وجدانيّ ضروريّ.

فهذا الاتفاق الذي ليس له نظير، وهو من آثار ما أخبر به النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه من الكمالات من أعظم البراهين على صدق رسالته، وصحة ما جاء به من التوحيد الخالص.

فإن قلت: قد يتفق طوائف من الخلق على بعض الأمور التي ليست بحق ويكثرون جداً. وقد اتفق العقلاء على أنَّ ذلك ليس دليلاً على صوابهم إن لم يكن لهم بذلك برهان.

فالجواب: إنَّ الأمر كذلك، ولكن ما ذكرنا من اتفاق أهل المعرفة بالله لا يشبهه شيء من تواطئ الطوائف واتفاقها، كما ذكرنا أنَّه مبني على العلم اليقيني والبرهان الوجداني، والآثار الجميلة الجليلة التي لا يمكن أن تقع خطأ، أو عن غير بصيرة، وهم بهذا الوصف الذي ذكرنا. ولهذا قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} [آل عمران] . فذكر شهادة أولي البصائر من الأنبياء والعلماء الربانيين على التوحيد، وأنَّها من أعظم البراهين عليه.

وكذلك أخبر عن الملائكة والجنة والنار، وتفاصيل ذلك بأمور يعلم أنَّه لا يمكن أن يأتي بها إلا نبي مرسل، موحى إليه من الله بذلك. فمعارف الخلق وعلومهم تقصر غاية القصور عن بيان بعض ذلك، ولكنَّها رحمة الله وهدايته لعباده بعثها على يد خاتم الرسل وأكملهم رسالة، وحظهم من هذه الرحمة بحسب نصيبهم من هذه الهداية.

وأما الغيوب الحاضرة والمستقبلة الدال كلُّ واحد منها على صدقه وحقّية ما جاء به، فكيف بجميعها، فكيف إذا انضمت إلى براهين رسالته التي لا تحصى أجناسها، فضلاً عن أفرادها.

فمن ذلك ما في القرآن من وعده لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يتم الله أمره وينصره، ويعلي دينه ويظهره على الدين كلِّه، ويخذل أعداءه ويجعلهم مغلوبين مقهورين أذلّين.

وهذا كثير جداً مثل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) } [الصف] ، {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [الصف: 8] ، {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)} [الفتح] ، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } [الأنفال: 39] ، {- . / 0 1 2 3 4 5 : 12! ! } [آل عمران] ، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ } [الأنفال: 36] ، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) } [الأنفال] ، إلى غير ذلك من الآيات التي أخبر بها بهذه الأمور العظيمة والأوعاد الصادقة التي وقعت طبق ما أخبر الله به، فازداد بذلك المؤمنون إيماناً. ولهذا يذكر تعالى نعمته في قوله تذكيراً لعباده المؤمنين: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)} [الأنفال] .

وكذلك قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)} [الأنفال] وقد فعل ذلك.

وقوله لرسوله والمؤمنين: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ } الآية [الفتح: 20] ، وقد فعل. وأخبر أنَّ صلح الحديبية فتح مبين، مع ما فيه من تلك الشروط التي كرهها أكثر المؤمنين، ثم تبين لكلِّ أحد بعد ذلك أنَّه فتح مبين، فيه من المصالح للإسلام والمسلمين ما لا يمكن إحصاؤه.

ومن ذلك قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } [التوبة: 28] الآية، وقد وقع ذلك كلُّه.

وإخباره أنَّه سيتوب على كثير من أئمة الكفر، وينصر عباده عليهم كقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ } [التوبة] ، وقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } [آل عمران: 128] ، وقوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)  } [الممتحنة] وقد فعل ذلك.

وقوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ } [البقرة: 142] وقد قالوا ذلك.

وقوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ } [البقرة: 137] ، {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }  [المائدة: 67] ، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [الزمر: 36] ، {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) } [الأنفال] ، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17) } [الطارق] ، وقد أوقع بهم مصداق ذلك من الأخَذَات ما أوقع.

وقوله: {وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) } [الضحى] أي كلُّ حالة متأخرة من أحوالك خير لك من سابقتها، ومن تتبع سيرته وأحواله صلى الله عليه وسلم وجد ذلك عياناً، كلُّ وقت خيرٌ مما قبله في العز والتمكين وإقامة الدين، إلى أن قال له في آخر حياته: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } [المائدة: 3] .

وقال تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ } [الروم] وقد وقع ذلك كما أخبر.

وقال تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } [الشعراء: 227] ، {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ } [الرعد: 42] . وهذا وعيد بأنَّ عواقبهم ستكون وخيمة فوقع طبق ما أخبر.

وقوله: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ (6) } [القلم] وقد أبصر كلُّ أحد أنَّهم هم المفتونون.

وقوله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} [الشرح] ، {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } [الطلاق: 7] ، وقد يسّر الله الأمور بعد عسرها، ووسعها بعد ضيقها وشدتها.

وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ِ } [النور: 55] الآيات، وقد فعل وله الحمد، {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)  } [الأنبياء] .

وقال تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } [الفتح: 16] وقد دعوا لذلك في وقت أبي بكر وعمر والخلفاء والملوك الصالحين.

وقوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر] ، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ُ } [الروم: 47] ، {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} [الحج] .

وقوله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } [الفتح: 27] الآية.

وقوله: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ } [الفتح: 15] ([36]) الآية.

وقوله: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ } [التوبة: 95] ، وقد قالوا ما ذكر الله أنَّهم سيقولونه.

وقوله تعالى: {مْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) } [القمر] ، وقد وقع ذلك في بدر بعد هذا الكلام.

ومن ذلك قوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) }.

وقوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) } إلى قوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) } [المدثر] الآيات. فأخبر عن أبي لهب وامرأته، وعن هذا الوحيد بصلي النار، ومن لازم ذلك بقاؤهم على كفرهم وتكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم، فوقع وبقوا على ذلك حتى هلكوا.

وقوله: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) } [الحجر] فوعده بكفايته إياهم، فأوقع بهم العقوبات المتنوعة وهي معروفة بين أهل السير.

وقوله لما ذكر مكر رؤساء الكفر: {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)} [ص] ، وقوله : {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) } [الزخرف] .

وقوله في آيات التحدي: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ } [البقرة: 24] فأخبر أنَّهم لن يفعلوا في المستقبل فلم يفعلوا، وكذلك في تحدي اليهود:{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 94، 95] الآية. فلم يقع منهم التمني في وقت التحدي الذي دلّ عليه السياق.

وقوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3) } [النصر] ، فأخبره بعدةِ أشياء قبل وقوعها: بمجيء نصر الله والفتح، ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وأنَّه عند ذلك قد حان أجلك وقربت وفاتك، فاختم حياتك الشريفة بالتسبيح والحمد والاستغفار.

وقوله: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) } أي مقطوع الذكر الجميل، مقطوع من الخير ووقع ذلك.

وقوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)} [التوبة] ، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) } [الإسراء] ، {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) } [الإسراء] وقد فعل تعالى ذلك.

وقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) } [الإسراء] ، وهذا خبر منطبق على مخبره في جميع الأوقات.

وقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر] ، وهذا شامل لحفظ ألفاظه ومعانيه، بحيث لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } وحفظه مشاهد محسوس.

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } [المائدة: 54] وقد فعل ذلك.

وقوله: {وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42)} [يس] ، {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)} [النحل] .

وهذا شامل لخلق ما لا يعلمه العباد في تلك الأوقات الماضية، مما لم يشاهدوا له نظيراً، فيدخل فيه جميع المخترعات التي حدثت والتي تحدث إلى يوم القيامة من المراكب البرية والبحرية والهوائية، وما خلقه وعلّمه الإنسان بواسطة الكيمياء والكهرباء من المخترعات المدهشة، ونقل الأصوات والأنوار من الأماكن الشاسعة في أسرع وقت.

وهذا من الآيات والبراهين التي دلّ عليها القرآن، حيث لا يحدث حادث جليل أو حقير، كبير أو صغير، إلا وفي القرآن تصريح به، أو إدخاله في عموم أو مفهوم، وأنَّه لم يأت ولن يأتي علم صحيح ولا حادث حقيقي ينقض شيئاً من أدلة القرآن، فإنَّه تنزيل من حكيم محيط علمه بكلِّ شيء، نفذت إرادته ومشيئته في كلِّ شيء.

وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } [الأنعام: 65] ، وقد وقعت القنابل المهلكة والديناميت الناسف لما باشره أو قرب منه، والدخان الخانق وما أشبه ذلك.

وهذا ينطبق على موصوفه غاية الانطباق، وفيه التنبيه على حدوث الآلات المقرِّبة للمواصلات، كما بسطنا ذلك في مواضع أخر ([37]).

{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)} [الدخان]. وقد ذكر الله التنادي بين أهل الجنة وأهل النار، مع البعد المفرط والترائي، وقد أظهرت المكتشفات الكهربائية والكيماوية مصداق ذلك، بعدما كان كثير من المكذبين يسخرون بإخبارات الرسل في هذا الباب ويستبعدونها، فأظهر الله في هذه الأوقات من البراهين ما يكذب المكذبين الجاحدين.

وهذا من مصداق قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } [فصلت: 53] فلم يزل يُري عباده ويُحدث لهم من البراهين الدالة على صدق الرسل، وأنَّ ما جاؤوا به هو الحق، وما خالفه هو الباطل. ولكن أبى المباهتون المكابرون إلا عتوًّا ونفوراً.

ومن ذلك قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [الحديد: 25] ، وقوله: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق] ، فهذه المنافع التي علّمها الله الإنسان، فلم يزل يفرّعها الإنسان ويرقّيها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، وهو جاد في طريقه في تنمية الصناعات والمخترعات. وذلك كلُّه داخل في تعليم الله له، وإلهامه وإيجاده تبارك وتعالى المنافع والقوى في مخلوقاته.

فالله تعالى هو الذي أوجد فيها القوى الصالحة لإيجاد المخترعات النافعة منها، والله هو الذي علم الإنسان ذلك، وذلك من آياته في الآفاق، وفي النفوس الدالة على أنَّ ما جاء به الرسول حق، وإن لم يهتدِ لذلك أكثر الخلق ضلالاً عن الأدلة الحقيقية، أو عن وجه دلالتها، أو قيام عقائد باطلة صارفة وصادفة عن الحق.

ومن ذلك: إخباره أنَّ سنته في خليقته في نظام العالم، وفي الأسباب والمسببات، والجزاء بالحسنى وبالسوأى واحدة لا تتغير ولا تتبدل، وهي كلُّها جارية على مقتضى الحكمة التي يحمد عليها، وهذا مشاهد شرعاً وقدَرَاً.

وقد يُري عباده تعالى أنَّه يغير بعض المخلوقات عن نظامها المعتاد ليعرف العباد أنَّه المتفرد بالقدرة والتصرف، وأنَّ جميع الحوادث خاضعة لمشيئته وقدرته، وأنَّ ما أخبرت به الرسل من أمور الغيب كلِّها حق، ولكن أبى الجاحدون إلا أن ينكروا ما كان الله أخبر به على ألسنة رسله مما كانوا الآن يعقلون هم نظيره، فانقلب عليهم الأمر وقلب الله قلوبهم كما لم يؤمنوا به لمّا جاءهم، واستكبروا بعقولهم على الحق.

ومن أعظم علوم الغيب التي أخبر بها القرآن وأبداها وأعادها، أنَّه أخبر أنَّه لا سبيل إلى صلاح البشر وسعادتهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة إلا باتباع هذا الدين والأخذ بإرشاده وهدايته. وهذا أمر لا يستريب فيه أحدٌ، فإنَّ هذه الأمة في عصر الخلفاء الراشدين والملوك الصالحين لمّا كانوا مهتدين بعلمه وإرشاده وتربيته الخاصة والعامة صلحت دنياهم كما صلح دينهم، وصاروا المثل الأعلى في القوة والعزة والعدل والرحمة وجميع الكمالات المستعد لها البشر.

ثم لمّا ضيعوا هدايته العلمية والعملية تحلَّلوا وانحلُّوا، ولم يزالوا في نقص وضعف وذلة حتى يراجعوا دينهم، ثم في مقابلة ذلك من العجب العجيب الذي ليس بغريب ارتقاء الأمم الأخرى، في هذه الأوقات في الصناعات المدهشة، والاختراعات الخارقة المعجزة والقوة الضخمة أنَّهم لم يزدادوا بها إلا شقاء، حتى صارت حضارتهم التي يعجبون بها ويخضع لها غيرهم مهددةً كلَّ وقت بالتدمير العام.

وجميع ساستهم وعلمائهم في حيرة عظيمة من تلافي هذا الخطر، ولن يُتلافى إلا باتباع ما جاء به القرآن والاسترشاد بهدي محمد صلى الله عليه وسلم، الجامع بين العلم والعمل والعدل، والرحمة والحكمة، ومصلحة الروح والجسد، وإصلاح الدين والدنيا والآخرة.

فالعلوم المادية والقوة المادية المحضة ضررها أكثر من نفعها، وشرها أكثر من خيرها، حيث لم تبن على الدين الحق. وانظر بعينك ترى  العجائب، فهذا الارتقاء المادي الذي لم يشاهد العالم له نظيراً إذ خلا من روح الدين، هو الحبوط والهبوط الحقيقي، والدنيا الآن كلُّها في خطر مزعج لا يعلم مدى ضرره وفظائعه إلا الله تعالى ([38]).

ومن براهينه التي وقعت مطابقة للواقع والحس والتجارب، أنَّه أخبر أنَّه آيات لأولي الألباب، لقوم يعقلون، ولأولي النهى. وهي آيات كثيرة تبين أنَّ أهل العقول وأرباب البصائر، بقدر ما أعطوا من هذه النعمة الكبرى من العقل الرصين، واللب الكامل، والرأي الصائب يكون حظهم من هدايته وإرشاداته والانتفاع به.

فتأمل هداة هذه الأمة وأئمتها ومرشديها، هل تجد أكمل منهم عقولاً وألباباً وأصوب آراءً. وتأمل هل يوجد مسألة أصولية أو فروعية في هذا الدين قد شهد أحد من العقلاء المعتبرين على فسادها أو نقصها، وكلُّ من قدح في شيء منها بيّن بالبراهين المعترف بها بين العقلاء أن الخلل في عقله ولبه وفهمه، أو في قصده وإرادته.

وإذا أردت تفصيل هذه الجملة العظيمة فاقرأ كتاب العقل والنقل لشيخ الإسلام والمسلمين ابن تيمية، وكيف برهن بالبراهين العقلية على ضعف عقول القادحين في شيء من هذا الدين، وأنَّ ما زعموه عقليات جهلياتٌ وخرافاتٌ، وقد تحدى الباري جميع الناس أن يأتوا بمثله أو ببعضه أو بعشر سور أو بسورة من مثله، وهذا هو عين هذه المسألة.

ومن ذلك ما ذكر الله من إحْكامِهِ لكتابه، وأنَّه لا يأمر إلا بكلِّ معروف وصلاح، ولا ينهى إلا عن المنكر والفساد، وقد استمرت له هذه الأوصاف الجليلة في كلِّ وقت وزمان، وجرت إرشاداته الجميلة صالحة لجميع الأوقات والأحوال والأشخاص.

فليرنا المنكرون حكماً واحداً من أحكامه مخالفاً لهذا الوصف الذي أخبر به حين إنزاله، وتحقق تحققاً لا ينكره إلا مباهت أو مقلد له، فهو الذي يَصلح لكلِّ وقت، ولا يُصلح الأمم إصلاحاً حقيقياً سواه. وقد أكمل الله به الدين، وأتم به النعمة، وقد تحقق هذا بتكميله العقائد والأخلاق والأعمال والأحوال كلِّها، والدنيا والدين، وكلُّ قصورٍ وتقصيرٍ حاصلٌ في كلِّ وقت فلفقده أو نقصه.

وهذه الجمل والأصول العظيمة نتحدى بها جميع البشر، وأنَّه جاء بجميع المحاسن والمصالح الظاهرة والباطنة، ونهى عن القبائح والمضار الظاهرة والباطنة، فليأتوا بمثال واحد صحيح مخالف لهذه الأصول التي أسّسها القرآن وجعلها قواعد يهدي بها البشر على توالي الزمان.

هذا إشارة لطيفة في إخبار القرآن عن أمور محسوسة مشاهدة بالأبصار قد وقعت طبق ما أخبر به.

أمَّا إخباره بما تفعله هداية القرآن في القلوب والأرواح والأخلاق ووجود مخبره كما وصف فأكثر من أن يذكر وأعظم من أن ينكر، ويعرفه أولوا الألباب والبصائر والاهتداء التام بهدايته العلمية والعملية، وهم أزكى الناس وأعدل الخلق شهادة، وشهادتهم عن علم ويقين ووجدان وحق يقين.

فمن ذلك إخباره أنَّه يهدي بكتابه من اتبع رضوانه سبل السلام، وقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت: 69] فمن جمع بين هذين الوصفين وهما الاجتهاد التام، وبذل المجهود مع حسن القصد لطلب رضوان الله هداه السبيل الموصلة إليه، وإلى دار كرامته، وحصولُ الهداية العلمية وهي العلم النافع، والهداية الفعلية هداية التوفيق لاتباع الحق لازمةٌ للاجتهاد وحسن القصد لا تتخلف عنهما، فمن عُدمت هدايته أو ضعفت فلفقدهما أو فقد أحدهما أو ضعفهما.

وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل] ، وهذا مشاهد لأهل البصائر.  أنَّ مَنْ جمع بين الإيمان الصحيح والعمل الصالح ـ وهو ما يحبه الله ويرضاه ـ أنَّ الله سيحييه في هذه الدار حياة طيبة. وأصل الحياة الطيبة طيب القلب، وراحته وسروره، والقناعة والرضى عن الله، فلو كان المؤمن الصادق في أضيق عيش لكانت هذه الحياة الطيبة حاصلة له بوعد الله الصادق الذي لا يخلف الميعاد.

وقال تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) } [الرعد] وحصول طمأنينة قلوب المؤمنين الصادقين بذكر اللّهِ والإنسِ به وعبادتِهِ أمرٌ لا يمتري فيه أحد من أهل الذوق والوجد.

وَمَا يجده أهل الإحسان الصادقون من ذوق حلاوة الإيمان، وحقائق اليقين والإنس بذكر الله، والطمأنينة به، والأحوالِ الزكية والشواهد المرضية، على ما أخبر به الرسول أجلُّ وأعظم من كثير من البراهين الحسية، فإنَّهم وصلوا في هذه الأمور إلى حق اليقين الذي هو أعلى مراتب اليقين والحق.

وقال تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [التغابن: 11] ، فقد تكفّل الله بهداية القلوب لكلِّ مؤمن صادق الإيمان، وإنَّما يكون مؤمناً حقاً إذا حقق أصول الإيمان، وكان إيمانه بالمأمورات يطلب منه امتثالها وبالمنهيات يقتضي خوفه تركها، وإيمانه بالقضاء والقدر يعلم أن المصائب من عند الله العزيز الحكيم الرحيم، فيرضى بذلك ويسلم وهذا أمر معلوم لأهل الإيمان الصحيح.

ومن ذلك جميع ما نذكره في دلالة القرآن على الأخلاق الجميلة الحميدة والأمر بها، ونهيه عن الأخلاق الرذيلة. فهذا من براهين التوحيد والرسالة وصحة جميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم

 النوع الثاني من علوم القرآن ومقاصده

 علم الآداب والأخلاق الكاملة

القرآن الكريم كتاب تعليم وإرشاد، وكتاب تربية على أكمل الأخلاق، وأحسن الآداب، وأسمى الأوصاف، وحث عليها بكلِّ وسيلة، وزجر عن ضدها، لا يوجد خلق كامل وإلا وقد دلّ عليه القرآن، ولا أدب حميد إلا وقد دعا إليه وبيّنه، والأخلاق الكاملة والآداب السامية تجعل صاحبها مستقيم الظاهر والباطن، معتدل الأحوال، مكتمل الأوصاف الحسنة، طاهر القلب نقيّه من كلِّ درن وآفة ونقص، قوي القلب، متوجهاً قلبه إلى أعلى الأمور وأنفعها، قائماً بالحقوق الواجبة والمستحبة، محموداً عند الله وعند خلقه، قد حاز الشرف والاعتبار الحقيقي، وسلم من كلِّ دنس وآفة، قد تواطأ ظاهره وباطنه على الاستقامة، وسلوكِ طريق الفلاح، وعلُوُ مكانة المتخلق بأخلاق القرآن وآدابه لا يمتري فيه من له أدنى مسكةٍ من عقل، لأنَّ العقل من أكبر الشواهد على حسن ما جاء به الشرع.

ولهذا ينبّه الله أولي العقول والألباب، ويوجّه إليهم الخطاب، لأنَّه كلَّما كمل عقل الإنسان عرف كمال ما جاء به الشرع، وأنَّه يستحيل وجود قانون أو نظام أو غيرها يقارب ما جاء به القرآن كمالاً وفضلاً، ورفعة وعلواً ونزاهةً، ويُعرف ذلك بتتبع ما جاء به القرآن.

فمن أخلاقه وآدابه التي فاقت جميع الأخلاق: الحثُ على الإخلاص لله في الأقوال والأفعال، والإنابة إلى الله في جميع الأحوال،  كما أمر الله بالإخلاص في آيات عديدة، وأثنى على المخلصين والمنيبين إليه، وأخبر أنَّهم المنتفعون بالآيات.

فالإنابة هي انجذاب القلب، وإقباله التام على الله، ويتحقَّق ذلك بالإخلاص لله في كلِّ ما يأتي العبد وما يذر، في معاملته لله والقيام بعبوديته، وفي معاملته للخلق والقيام بحقوقهم. فأصل استقامة القلب بهذين الأمرين، فإنَّ المنيب المخلص لله تعالى قد استقام على الصراط المستقيم، وقد تواطأ ظاهره وباطنه على الخير المحض، وقد سهلت عليه الأعمال بما في قلبه من قوة الإنابة، وما يرجو من ربه من جزيل الثواب.

ولا يخفى أنَّ النصيحة التي هي الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة» ([39]) ثلاثاً، لا يمكن وجودها ولا تمامها إلا بهذين الأمرين. فالمنيب المخلص لله لا تجده إلا ناصحاً لله ولرسوله، ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم.

قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ } [الزمر: 54] {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ } [الروم: 31]،{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)} [سبأ: 9] ، {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } [ق: 33] .

وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [البينة: 5] {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } [الزمر: 3] .

وقال في وصف النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار أفضلِ هذه الأمة: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } [المائدة: 2] .

وقال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)} [النساء] .

فالمخلص لله قد علق قلبه بأكمل ما تعلقت به القلوب من رضوان ربه وطلب ثوابه، وعمل على هذا المقصد الأعلى فهانت عليه المشقات وسهلت عليه النفقات، وسمحت نفسه بأداء الحقوق كاملة موفرة، وعلم أنَّه قد تعوض عما فقده أفضل الأعواض وأجزل الثواب وخير الغنائم.

وأيضاً من ثمرات الإخلاص أنَّه يمنع منعاً باتاً من قصد مراءاة الناس وطلب محمدتهم، والهرب من ذمهم، والعمل لأجلهم، والوقوف عند رضاهم وسخطهم، والتقيد بإرادتهم ومرادهم، وهذا هو الحرية الصحيحة أن لا يكون القلب متقيداً متعلقاً بأحدٍ من الخلق.

ومن ثمرات الإخلاص أنَّ العمل القليل من المخلص يعادل الأعمال الكثيرة من غيره، وأن أسعد الناس بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم من قال: «لا إله إلا الله خالصاً من قلبه» ([40])، وأنَّه أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله، رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ([41]). وأنَّ المخلص يصرف الله عنه من السوء والفحشاء ما لا يصرفه عن غيره. قال تعالى عن يوسف: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [يوسف: 24] قرئ بكسر اللام وفتحها، وهما متلازمتان، لأنَّ الله تعالى لإخلاصهم جعلهم من المخْلَصين.

فالمخلصون هم خلاصة الخلق وصفوتهم، وهل يوجد أكمل ممن خلصت إرادتهم ومقاصدهم لله وحده، طلباً لرضاه وثوابه، وتفرعت أعمالهم الظاهرة والباطنة على هذا الأصل الطيب الجليل، ومثلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } [إبراهيم: 24، 25] .

ومن ثمرات الإخلاص الطيبة: أنَّ المخلص إذا عمل مع الناس إحساناً قولياً، أو فعلياً أو مالياً أو غيره، لم يبال بجزائهم ولا شكرهم لأنَّه عامل الله تعالى، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ولا يثني عزمه ونشاطه قلة شكرهم له، فقد قال تعالى في حق المخلصين: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) } [الإنسان] .

 التوكل على الله والاستعانة به

خلق جليل يضطر إليه العبد في أموره كلِّها دينيِّها ودنيويها، لأنَّه وإن كان الله تعالى قد أعطى العبد قدرة وإرادة تقع بها أفعاله الاختيارية، ولم يجبره على شيء منها، فإنَّه لا حول له ولا قوة إلا بالله، فإذا اعتمد بقلبه اعتماداً كلياً قوياً على ربه في تحصيل وتكميل ما يريد فعله من أمور دينه ودنياه، ووثق به أعانه وقوّى إرادته وقدرته، ويسّر له الأمر الذي قصده، وصرف عنه الموانع أو خففها، وتضاعفت قوة العبد وازدادت قدرته، لأنَّه استمد واستماح ([42]) من قوة الله التي لا تنفد ولا تبيد.

والتوكل الحقيقي يطرد عن العبد الكسل، ويوجب له النشاط التام على الأمر الذي توكل على الله به، ولا يتصاعب شاقاً، ولا يستثقل أي عمل، ولا ييأس من النجاح وحصول مطلوبه، عكس ما يظنه بعض المنحرفين الذين لم يفهموا معنى التوكل، أو فهموه لكن إنكار القدر والقضاء صرفهم عن الحق، فحسبوا أنَّ التوكل يضعف الهمة والإرادة، وأساؤوا غاية الإساءة حيث ظنوا بربهم الظن السوء، فإنَّ الله أمر بالتوكل في آيات كثيرة.

وأخبر أنَّه من لوازم الإيمان ووعد المتوكلين: الكفاية وحصول المطلوب، وأخبر أنَّه يحبهم، وأنَّه لا يتم الدين إلا به، ولا تتم الأمور إلا به، فالدين والدنيا مفتقرات إلى التوكل.

قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [المائدة: 23] ، {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [هود: 123] ، {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } [التوبة: 129] ، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا } [الأعراف: 89] ، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [الطلاق: 3] ، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) }.

وللتوكل فوائد عظيمة:

منها: أنَّه لا يتم الإيمان والدين إلا به، وكذلك لا تتم الأقوال والأفعال والإرادات إلا به.

ومنها: أنَّ من توكل على الله كفاه، فإذا وعد الله عبده بالكفاية إذا توكل عليه، عُلِمَ أنَّ ما يحصل من الأمور الدينية والدنيوية، وأحوال الرزق وغيرها بالتوكل أعظم بكثير مما يحصل إن حصل إذا انقطع قلب العبد من التوكل.

ومنها: أنَّ التوكل على الله أكبر سبب لتيسير الأمر الذي تُوكِّل عليه ([43]) وتكميلِه وتتميمِه، ودفع الموانع الحائلة بينه وبين تكميله.

ومنها: أنَّ المتوكل على الله قد علم أنَّه اعتمد في توكله، واستند إلى من جميعُ الأمور كلِّها في ملكه، وتحت تصريفه وتدبيره، ومن جملتها: فعل العبد، فكلما فترت همته وضعف نشاطه أَمَدَّه هذا التوكل بقوة إلى قوته، وقد وثق بكفاية ربه، والوثوق والطمع في حصول المطلوب لا شك أنَّه من أعظم الأسباب الباعثة على الأعمال المرغبة فيها، وهذا أمر مشاهد معلوم.

ومنها: أنَّ المتوكل على الله حقيقة قد أبدى الافتقار التام إلى ربه، وتبرأ من حوله وقوته، ولم يعجب بشيء من عمله، ولم يتكل على نفسه لعلمه أنَّها ضعيفة مهينة، سريعة الانحلال، بل لجأ في ذلك إلى ربه، مستعيناً به في حصول مطلوبه.

وهذا هو الغنى الحقيقي، لأنَّه استغنى بربه وكفايته، وهو مع ذلك قد أبدى غاية المجهود، فتبين أنَّ التوكل لا ينافي القيام بالأسباب الدينية والدنيوية، بل تمامه بفعلها بقوة صادقة وهمة عالية، معتمدة على قوة القوي العزيز.

 النصـيحـة

أخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ الدين النصيحة، كررها ثلاثاً، وفسّرها بأنَّها النصيحة لله، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم ([44]).

وأخبر تعالى أنَّ النصيحة طريقة أنبيائه وأصفيائه، وأخبر أنَّ الحرج منفي عمن نصح لله ولرسوله. فالنصيحة لله هي القيام التام بحقوقه علماً وعملاً، ودعوة وتنفيذاً، والنصيحة لكتابه: الاجتهاد في معرفة ألفاظه ومعانيه، والعمل به والدعوة لذلك.

والنصيحة لرسوله: الإيمان به، ومحبته واتباعه، ونصر سنته، وتقديم هديه على هدي كلِّ أحد، والاجتهاد في كلِّ ما يحبه.

والنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم: أن يحب لهم الخير، ويكره لهم الشر، ويسعى في ذلك بحسب مقدوره، فيعلّم جاهلهم، ويرشد منحرفهم، ويذكر غافلهم، ويعظ معرضهم ومعارضهم، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، ويسلك كلَّ طريق فيه صلاح لإخوانه المسلمين، ويسعى في تأليف ذات بينهم، وفي إرشادهم على اختلاف طبقاتهم لمصالح دينهم ودنياهم، كلُّ أحد على حسب حاله.

وللنصيحة فوائد عظيمة:

منها:أنَّ الدين لا يتم إلا بها، بل هي الدين كما ذكره صلى الله عليه وسلم.

ومنها: أنَّ الناصح لله ولرسوله ولكتابه وللخلق نفسُ عملِ قلـبه هـذا

واستعداده وتهيئته للنصيحة من أكبر الأعمال المقربة إلى رب العالمين، فما تقرّب أحد إلى الله بمثل توطين النفس على النصيحة الشرعية المذكورة، فالناصح في عبادة مستمرة إن قام أو قعد، أو عمل، أو ترك العمل.

ومنها: أنَّ من عجز عن العمل الديني إذا كان ناصحاً لله ولرسوله، ناوياً الخير إذا تيسر له، فإنَّه لا حرج عليه، ويشارك العاملين في عملهم، فإنَّما الأعمال بالنيات.

ومنها: أنَّ الله ييسر للناصح الصادق أموراً لا تخطر له على بال، وأنَّ الساعي في نفع المسلمين إذا كان قصده النصيحة، فإنَّه يفلح وينجح، فإنْ تم ما سعى له فعلاً وهو الغالب وإلا تمَّ أجرُهُ، فمن عجز عن بعض عمل قد شرع فيه تمّم له ذلك العمل. قال تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [النساء: 100] .

ومنها: السلامة من الغش، فإنَّ من غشّ المسلمين في دينهم ودنياهم فليس منهم، والغش من أشنع الخصال القبيحة في حق القريب والبعيد، والمخالف والموافق.

فهذا القرآن العظيم يدعو إلى هذا الخلق الذي هو أفضل الأخلاق، وهو النصيحة التي أسس عليها دين الإسلام، وقام عليها بنيانه، وبان بها فضله على كلِّ شيء، فإنَّ النصح لكلِّ أحد محمود شرعاً وعقلاً وفطرة، وضده قبيح شرعاً وعقلاً وفطرة.

 الصدق في الأقوال والأفعال وجميع الأحوال

قد أمر الله بالصدق ومدح الصادقين، وأخبر أنَّ الصدق ينفع أهله في الدنيا والآخرة، وأنَّ لهم المغفرة والأجر العظيم.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) } [التوبة] ، {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)} [الزمر] ، {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } [محمد: 21] ، {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } [المائدة: 119] ، والآيات في مدح الصدق كثيرة جداً.

والصدق يهدي إلى كلِّ برّ وخير، كما أنَّ الكذب يهدي إلى كلِّ شر وفجور. والصادق حبيب إلى الله، حبيب إلى عباد الله، معتبر في شرف دينه ودنياه، بل عنوانُ الشرف والاعتبار وعلوِ المنزلة الصدقُ.

وللصدق فوائد عظيمة: منها هذه الأمور العظيمة التي أشرنا إليها من امتثال أمر الله، وحصول الأجر والثواب العظيم والمغفرة، وأنَّ الصادق ينتفع بصدقه في الدنيا والآخرة، وأنَّه يدعو إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً في أعلى الدرجات وأرفع المقامات.

ومن عُرف تحريه للصدق ارتفع مقامه عند الخلق، كما كان مرتفعاً عند الخالق واطمأن الناس لأقواله وأفعاله، وصار له مرتبة عالية في الشرف، وحسن الاعتبار والثناء الجميل، وأمن الناس من بوائقه ومكره وغدره.

ففي جميع المقامات الدينية والدنيوية لا تجد الصادق إلا في الذروة العليا، إن كان في مقام الإفتاء والتعليم والإرشاد لم يعدل الناس بقوله لقول أحد، واطمأنوا إلى إرشاداته وتعليمه وتفهيمه، لأنَّه مؤسس على الصدق، وإن شهد شهادة عامة أو شهادة خاصة ثبتت الأحكام بشهادته، وإن أخبر بخبر خاص أو عام وثق الناس لخبره وعظّموه واحترموه، حتى لو أخطأ في شيء من ذلك لوجدوا له محملاً صالحاً، وإن عامل الناس معاملة دنيوية ببيع أو شراء وإجارة أو تجارة أو حق من الحقوق الكبيرة والصغيرة، تسابق الناس إلى معاملته واطمأنوا لذلك غير مرتابين.

وحسبك بهذا الخُلُق الذي يخضع لحسنه وكماله ألبّاء الرجال، ويعترف بكماله أهل الفضل والكمال، فهو من جملة البراهين على صدق الرسول، وكمال ما جاء به من هذا الدين القيّم الذي هذا الخلق العظيم من أخلاقه، وكلُّ أخلاقه على هذا النمط، والله أعلم.

 الشجـاعـة

هذا الخلق العظيم قد أمر الله به في آيات كثيرة، وهي آيات الجهاد كلِّها. وأثنى على أهله وأخبر أنَّه طريق الرسل وساداتِ الخلق، ونهى عن ضده وهو الجبن والفشل والخوف من الخلق في سبيل جهاد الدعوة، وفي سبيل جهاد السلاح.

وهذا الخلق الجليل قد يكون غريزة مع العبد، ويتقوى بموجبات الإيمان، وقد يحتاج العبد إلى التمرن عليه، وسلوك الطرق المعينة على ذلك. فالشجاعة قوة القلب وثباته، وطمأنينته في المقامات المهمة، والأحوال الحرجة وكلٌّ يحتاج إليه، وخصوصاً الرؤساء الذين تناط بهم المهمات والأمور، فحاجتهم إليه ضرورية.

وقد دعا القرآن إليه ودعا إلى كلِّ وسيلة تعين عليه، فأمر بخوفه وحده، وأن لا يخشى العبد الخلق، فمتى قصر العبد خوفه على الله وحده، وعلم أنَّ الخلق لن يقدروا على نفعه ولا ضره إلا بمشيئة الله قوي قلبه، ثم إذا توكل على الله وقوّى اعتماده عليه ازدادت قوة قلبه، كما قال تعالى عن خيار الخلق {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} [آل عمران] .

ثم إذا علم ما يترتب على القوة في الدين والشجاعة من الأجر والثواب ازدادت قوته وتضاعفت شجاعته، كما نبه الله على هذه الحالة بقوله: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ } [النساء: 104] .

وكلما تأمل الخلقَ وعرف أحوالهم وصفاتهم، وأنَّهم ليس عندهم شيء من النفع، ولا من النصرة والدفع، وأنَّ مَدْحَهم لا يغني عن العبد شيئاً، وذمهم لا يضره شيئاً، وأنهم مع ذلك لا يريدون لك الخير إلا لمصالحهم، عرف أنَّ تعليق القلب بهم خوفاً وهيبة، وخشية ورغباً ورهباً، ضائع بل ضار، وأنَّه يتعين على العبد أن يعلق خوفه ورجاءه، وطمعه وخشيته بالله وحده، الذي عنده كلُّ شيء، وهو الذي يريد لك الخير من حيث لا تريده لنفسك، ويعلم من مصالحك ما لا تعلم، ويوصل إليك منها ما لا تقدر عليه ولا تريده.

ومن دواعي الشجاعة أن يعرف العبد أنَّ الجبن مرض وضعف في القلب، يترتب عليه التقاعد عن المصالح وتفويت المنافع، ويسلط عليه الضعفاء ويتشبه صاحبه بالخَفِرات من النساء.

ومن فوائد الشجاعة: امتثال أمر الله وأمر رسوله، والاتصاف بأوصاف أهل البصائر من أولي الألباب.

ومن فوائد ذلك: أنَّه بحسب قوة القلب يُنزل الله عليه من المعونة والسكينة ما يكون أكبر وسيلة لإدراك المطالب والنجاة من المصاعب والمتاعب.

ومن فوائده: أنَّه يتمكن صاحبه من إرشاد الخلق ونفعهم على اختلاف طبقاتهم بالحكمة والموعظة الحسنة. وأما الجبان فإنَّه يفوته خير كثير، وتمنعه الهيبة من بركة علمه وإرشاده ونصحه للعباد.

ومنها: أنَّ الشجاعة تنجي العبد من كثير من الشدائد، وتوجب له السكينة إذا مرت النوائب والمصائب، فيقابلها بما يحبه الله من الصبر والثبات واحتساب الأجر. وأمَّا الجبان فإنَّه إذا اعترته هذه الأمور انماع وذهل مصالحه، وتنوعت به الأفكار الضارة، فعملت معه المصائب والشدائد عملها الأليم، وفوّتته الخيرات والثواب الجسيم.

وهذا الخُلُق الحميد من جملة الأخلاق الفاضلة التي تتولَّد من هذا الخُلُق الجامع وهو:

 الصـبـر

هو الأساس الأكبر لكلِّ خُلُقٍ جميلٍ، والتنزه من كلِّ خُلُقٍ رذيلٍ، وهو حبس النفس على ما تكره، وعلى خلاف مرادها طلباً لرضى الله وثوابه، ويدخل فيه الصبر على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى أقدار الله المؤلمة. فلا تتم هذه الأمور الثلاثة التي تجمع الدين كلَّه إلا بالصبر.

فالطاعات خصوصاً الطاعات الشاقة، كالجهاد في سبيل الله، والعبادات المستمرة كطلب العلم والمداومة على الأقوال النافعة، والأفعال النافعة [لا تتم] ([45]) إلا بالصبر عليها، وتمرين النفس على الاستمرار عليها وملازمتها ومرابطتها، وإذا ضعف الصبر ضعفت هذه الأفعال، وربما انقطعت.

وكذلك كفّ النفس عن المعاصي وخصوصاً المعاصي التي في النفس داعٍ قويٌّ إليها، لا يتم الترك إلا بالصبر والمصابرة على مخالفة الهوى وتحمُّل مرارته.

وكذلك المصائب حين تنزل بالعبد ويريد أن يقابلها بالرضى والشكر والحمدِ لله على ذلك لا يتم ذلك إلا بالصبر واحتساب الأجر، ومتى مرَّن العبد نفسه على الصبر ووطّنها على تحمُّل المشاق والمصاعب وجدّ واجتهد في تكميل ذلك، صار عاقبته الفلاح والنجاح، وقلّ من جدّ في أمر تطلبه واستصحب الصبر إلاّ فاز بالظفر.

وقد أمر الله بالصبر وأثنى على الصابرين، وأخبر أنَّ لهم المنازل العالية والكرامات الغالية في آيات كثيرة من القرآن، وأخبر أنَّهم يوفون أجرهم بغير حساب. وحَسْبُك من خلقٍ يسهِّل على العبد مشقة الطاعات، ويهوِّن عليه ترك ما تهواه النفوس من المخالفات، ويسليه عن المصيبات، ويُمِدُّ الأخلاق الجميلة كلَّها، ويكون لها كالأساس للبنيان.

ومَتَى علم العبد ما في الطاعات من الخيرات العاجلة والآجلة، وما في المعاصي من الأضرار العاجلة والآجلة، وما في الصبر على المصائب من الثواب الجزيل، والأجر الجميل، سهل الصبر على النفس، وربما أتت به منقادة مستحلية لثمراته. وإذا كان أهل الدنيا يهون عليهم الصبر على المشقات العظيمة لتحصيل حطامها، فكيف لا يهون على المؤمن الموفق الصبر على ما يحبه الله لحصول ثمراته، ومتى صبر العبد لله مخلصاً في صبره كان الله معه، فإنَّ الله مع الصابرين بالعون والتوفيق والتأييد والتسديد.

 العـلـم

قد أمر الله بتعلم جميع العلوم النافعة، لا سيما علم ما أنزل الله على رسوله من الكتاب والحكمة، الذي يجمع كلَّ علم نافع، وأمر بسؤال أهل العلم لمن لم يعلم. وأخبر برفعتهم في الدنيا والآخرة، وأنَّهم سادات الخلق في دنياهم وأخراهم، وأئمتهم الذين بهم يقتدون، وعلى آثارهم يهتدون، وعلى طريقتهم يسلكون.

فالعلم يقصر التعبير عن كنه فضله، وعلو مرتبته، ويكفي في هذا أنَّ جميع الأقوال والأفعال والإرادات متوقفة في صحتها وفسادها، وكمالها ونقصها، وفي جميع صفاتها على العلم. ما حَكَمَ به العلم من ذلك فهو كما قال، وإنَّ العلم نور للصدور وحياة للقلوب، به يعرف الله، وبه يُعبد، وبه يعرف الحلال من الحرام، والطيِّب من الخبيث، وبه يميّز بين الأبرار والفجار، وأهل الجنة وأهل النار.

والعلم يقوِّم ما اعوجّ من الصفات، ويكمِّل ما نقص من الكمالات، ويسد الخلل، ويصلح العمل، وبه صلاح الدين والدنيا، وبضده فساد ذلك ونقصه. العلم ميراث الرسول، والعلماء ورثة الأنبياء، فإنَّ الأنبياء لم يورثوا إلا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر، ولولا العلم لكان الناس كالبهائم، والحاجة إلى العلم أعظم من الحاجة إلى الطعام والشراب.

والعلم النافع هي ([46]) العلوم الشرعية، وما أعان عليها من علوم العربية بأنواعها. ومن العلوم الشرعية تعلُّم الفنون المعينة على الدين، وعلى قوة المسلمين، وعلى الاستعداد للأعداء للمقاومة والمدافعة، فإنَّها داخلة في الجهاد في سبيل الله، فكلُّ أمرٍ أمرَ به الشارع، وهو يتوقف على أمور كانت مأموراً بها، والله أعلم ([47]).

 التوسط في كلِّ الأمور والاعتدال والاقتصاد

هذا الخلق الجليل قد دلّ عليه القرآن في آيات كثيرة عامة وخاصة:

فمن العامة: الأمر بالعدل والقسط في عدة آيات، والإخبار بأنَّ هذه الأمة وسَط وذلك في كلِّ أمورها، فهم وسط في الإيمان بالأنبياء، والقيام بحقوقهم بين من غَلوا فيهم حتى جعلوا لهم أو لبعضهم من حقوق الله الخاصة ما جعلوه، من الغلو فيهم والعبادة لهم، وبين من جفوهم، فكفروا ببعضهم أو لم يقوموا بحقهم.

وهذه الأمة ولله الحمد آمنت بكلِّ رسول أرسله الله، واعترفت بجميع ما فضّلهم الله به، وخصهم به من المزايا والخصائص التي جعلتهم أرفع الخلق في كلِّ صفة كمال، ولم يغلوا فيهم.

وهم وسَط بين من حرَّم الطيبات من الرهبان المتعبدة والمشركين. الذين حرموا ما لم يأذن به الله اتباعاً لخطوات الشيطان، وبين من استحل المحرمات والخبائث، بل اتبعوا النبي الأمي الذي يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث.

وقد أمر الله بالتوسط والاعتدال في النفقات في قوله: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } [الإسراء: 26] {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) } [الإسراء] وأثنى على المتوسطين فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [الفرقان] ، وهذا يشمل النفقة على النفس والأهل والعيال والمماليك من الآدميين والبهائم في جميع وجوه الإنفاق. فإنَّ هذه الحال فيها اعتدال خلق الإنسان وكمال حكمته، حيث قام بالواجبات، وبما ينبغي وترك ما لا ينبغي.

ومن فوائد ذلك أيضاً: أنَّ في الاعتدال سرَّ بركة، وما عال من اقتصد، وأنَّه يمنع العبد الندم، فإنَّ المسرف في الإنفاق إذا أملق واحتاج لعبت به الحسرات، وجعل يقول بلسان مقاله، أو لسان حاله: يا ليتني لم أفعل ذلك.

وأما المقتصد فإنَّه لا يندم العاقل على نفقة وضعها في محلها، وأقام بها واجباً من الواجبات، أو سدَّ بها حاجة من الحاجات، فإنَّ المال لا يقصد إلا لمثل هذه الحالة.

وأيضاً فإنَّ المسرف في النفقات، لا بد أن يكون مترفاً معتاداً أموراً، إذا عجز عنها شق عليه الأمر مشقة كبيرة، وكبر عليه الصبر، وثقل عليه حمله بخلاف المعتدل، فإنَّه سالم من هذه الحالة.

وأيضاً فإنَّ الاعتدال في النفقة أحد قسمي الرشد. فالرشد الذي هو معرفة تدبير الدنيا أن يعرف الطرق التي يحصلها فيها، فيسلك النافع منها، ثم إذا حصلت عرف كيف يصرفها ويبذلها، وعلم التدبير من العلوم النافعة ديناً ودنياً، وشرعاً وعقلاً.

 الإحسان والعفو

كم في كتاب الله من الحثّ على الإحسان إلى الخَلْق، وأنَّ الله يحب المحسنين ويجزيهم الحُسنى على إحسانهم، ويأمر بالعفو والصفح عن الزلاَّت والإساءات، وأنَّ ذلك من أعظم الحسنات.

فالإحسان هو بذل المعروف القولي والفعلي والمالي إلى الخلق. فأعظم الإحسان تعليم الجاهلين، وإرشاد الضالين، والنصيحة لجميع العالمين.

ومن الإحسان: إعانة المحتاجين، وإغاثة الملهوفين، وإزالة ضرر المضطرين، ومساعدة ذوي الحوائج على حوائجهم، وبذل الجاه والشفاعة للناس في الأمور التي تنفعهم.

ومن الإحسان المالي: جميع الصدقات المالية، سواء كانت على المحتاجين، أو على المشاريع الدينية العام نفعها.

ومن الإحسان: الهدايا والهبات للأغنياء والفقراء، خصوصاً للأقارب والجيران، ومن لهم حق على الإنسان من صاحب ومُعامل وغيرهم.

ومن أعظم أنواع الإحسان: العفو عن المخطئين المسيئين، والإغضاء عن زلاَّتهم، والعفو عن هفواتهم.

وللإحسان بوجوهه كلِّها فوائد لا تحصى.

منها: حصول محبة الله للمحسنين التي هي أعلى ما يناله العبد.

ومنها: حصول الجزاء الكامل. قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى } [يونس: 26] وقال {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) } [الرحمن] . فالجزاء من جنس العمل، فكما أحسنوا إلى عباد الله أحسن الله إليهم وأعطاهم أفضل ما يعطي أولياءه من الجزاء الأوفى الأكمل.

   ومنها: أنَّ هذا من أكبر أسباب محبة الخلق له، من وصل إليه إحسانه ومن لم يصل إليه، وثنائهم عليه وكثرة أدعيتهم له، وذلك من الأمور المتنافس فيها.

ومنها: أنَّه يستفيد بذلك سرور القلب وراحته وطمأنينته، لا سيما إحسان العفو، فإنَّه إذا عفى عمن ظلمه وأساء إليه، زال أثر ذلك عن قلبه، وعلم أنَّه اكتسب عن ذلك من ربه أفضل جزاء وأعظم ثواب.

   وأيضاً: فمن عفى عن عباد الله عفى الله عنه، ومن سمح عنهم سامحه الله.

ومن أفضل الإحسان الذي يتمكن به الموفق من معاملة الناس على اختلاف طبقاتهم: البشاشة وحسن الخلق معهم، ومعاشرتهم باللطف والكرم، وإبداء كلِّ ما يقدر عليه من إدخال السرور عليهم، وخصوصاً الأقارب والأصحاب ونحوهم ممن يتأكد حقهم على العبد، وأنَّ العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم، ولهذا نقول:

 حُسْنُ الخُلُق

هذا هو مادة الأخلاق الجميلة كلِّها، وقد اتفق الشرع والعقل على حسنه، ورفعة قدره، وعلو مرتبته، ومداره على قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) } [الأعراف] ، أي خذ ما تيسر وعفى وتسهل من أخلاق الناس، ولا تطالبهم بما لا تقتضيه طباعهم، ولا تسمح به أخلاقهم. هذا فيما يأتيك منهم.

وأما ما تأتي إليهم فالأمر بالعرف، وهو نصحهم وأمرهم بكلِّ مستحسن شرعاً، وعقلاً وفطرة، وأعرض عمن جهل عليك بقوله أو فعله، فللَّه ما أحلى هذه الأخلاق وما أجمعها لكلِّ خير. وقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت] .

ويُمِدّه الصبرَ والحلمَ وسعةَ العقل. وفضل هذا الخلق ومرتبته فوق ما يصفه الواصف.

ومن فوائد هذا المقام الجليل: أنَّ صاحبه مستريح القلب، مطمئن النفس قد وطّن نفسه على ما يصيبه من الناس من الأذى، وقد وطّن نفسه أيضاً على إيصال النفع إليهم بكلِّ مقدوره، وقد تمكّن من إرضاء الكبير والصغير والنظير، وقد تحمَّل مَنْ لا تَحْمِلُهُ مِن ثقله الجبال، وقد خفت عنه الأثقال، وقد انقلب عدوه صديقاً حميماً، وقد أمن من فلتات الجاهلين ومضرة الأعداء أجمعين، وقد سهل عليه مطلوبه من الناس، وتيسر له نصحهم وإرشادهم والاقتداء بنبيه في قوله تعالى في وصفه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } [آل عمران: 159] الآية. ويتولد عنه خلق:

 الـرحمـة

وهي رقة القلب وصفوه ورحمته للخلق وزوال قسوته وغلظته، وهو من أخلاق صفوة الخلق.

قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) } [التوبة] .

فرأفته صلى الله عليه وسلم ورحمته لا يقاربه فيها أحد من الخلق، وهذه الرأفة والرحمة ظهرت آثارها في معاملته للخلق، ولا تنافي قوة القلب وصبره. فقد كان صلى الله عليه وسلم أصبر الخلق وأشجعهم وأقواهم قلباً مع كمال رحمته.

فقوة القلب من آثارها: الصبر والحلم والشجاعة القولية والفعلية، والقيام التام بأمر الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

ورحمة القلب من آثارها: الشفقة والحنو والنصيحة، وبذل الإحسان المتنوع، فأيُّ أخلاق تقارب هذه الأخلاق السامية الجليلة. فقوة القلب وشجاعته تنفي الضعف والخور، ورحمته تنفي القسوة والغلظة والشراسة.

وهذه الأخلاق الجميلة وإن كانت من علم الأخلاق والتربية على أحسنها، فإنَّها أيضاً داخلة في علم التوحيد، كما دخل فيه الخوف والرجاء والدعاء وغيرها.

فهي من جهة: التعبد لله تعالى بها والتقرب إليه داخلةٌ في علم التوحيد. ومن جهة: تكميلها للعبد وترقيتها لأخلاقه وتهذيب النفوس وتزكيتها داخلةٌ في علم الأخلاق.

وهذا أعظم البراهين على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى أنَّ ما جاء به من القرآن والدين هو الحق الذي لا رقي ولا علو ولا كمال ولا سعادة إلا به، وأنَّه هو الهدى العلمي الإرشادي، والهدى العملي، والتربية النافعة. والحمد لله رب العالمين.


 النوع الثالث من علوم القرآن الكلية الجامعة

 علم الأحكام في العبادات والمعاملات والمواريث والأنكحة وسائر الحقوق والروابط بين العباد ([48])

قد جعل الله القرآن تبياناً لكلِّ شيء، وهو كما تقدم كتابٌ جمع التربية النافعة والتعليم، مزج هذا بهذا، فما كان من العبادات معروفاً بين المسلمين، مفهوماً فيه هدي النبي صلى الله عليه وسلم كالصلاة والزكاة ونحوها اكتفى بذكره على وجه الإجمال أمْراً به، أو نهياً عن ضده، أو ثناء على فاعله، وبياناً لأجره وثوابه العاجل والآجل، ويكون تفصيل ذلك محوّلاً فيه على ما عُلِمَ، وعرف بين المسلمين، وكذلك المعاملات. ومن الأحكام القرآنية ما فصلت فيه الأحكام تفصيلاً كالمواريث ونحوها، فلنبدأ بذكر العبادات الواردة في القرآن فنقول مستعينين بالله:

 أحكام الصلاة

ذكر الله الصلاة في كتابه في مواضع كثيرة، يأمر بها وينهى عن تركها، ويثني على أهلها المقيمين لها، ويذكر ما لهم من الثواب، ويذم المتهاونين بها، ويذكر ما عليهم من الذم والعقاب، وهي حين يذكرها يعرفها المسلمون معرفة لا يمترون بها، قد عرفوها من هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم، ثم تناقلتها الأمة فعرفها الصغير والكبير، والعالم والجاهل، فمتى جاءت في القرآن فهموا أنَّها هذه الصلوات الخمس والجمعة، وما يتبعها من الرواتب والسنن المقيدة والمطلقة.

وقد ذكر الله بعض أحكامها: فذكر الوقت في قوله: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } [النساء: 103] أي: مفروضاً في الأوقات. وقال: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)} [الروم] ، {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ } [هود: 114] ، {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} [الإسراء] أي: أقمها لدخول هذه الأوقات، فدلوك الشمس مبتدأه الزوال ومنتهاه العصر، فيدخل فيه الظهر والعصر. وغسق الليل، أي: ظلمته التي فيها اختلاط بالضياء فيدخل في ذلك صلاة المغرب والعشاء، وقرآن الفجر، أي: صلاة الفجر، وعبّر عنها بالقرآن لاشتراط القراءة وإطالتها فيها، وقد حررت السنة هذه الأوقات تحريراً معلوماً بين المسلمين.

وقال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} [المدثر] ، وأولى ما دخل في الآية الكريمة تطهيرها للصلاة، وإذا وجب تطهير الثياب من النجاسات، فتطهير البدن للصلاة من باب أولى وأحرى.

ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}  } [المائدة: 6] الآية. فهذه الآية تدل على اشتراط النية ووجوب الطهارة للصلاة، وأنَّه يجب فيها على المحدث حدثاً أصغر تطهير هذه الأعضاء الأربعة المذكورة، وأنَّ الوجه واليدين والرجلين تغسل غسلاً، والغسل لا بد فيه من جريان الماء على هذه الأعضاء، وأنَّ الرأس يمسح مسحاً، وأنَّه يمسح كلُّه لأنَّ الله عمّم ذلك، وأنَّه يجب الترتيب بينها لأنَّ الله ذكرها مرتبة، والموالاة لأنَّ ظاهر هذا الصنيع لزوم الموالاة لكونها عبادة واحدة متصلاً بعضها ببعض، وأنَّ المحدث حدثاً أكبر كالجنابة وهي الوطء، أو الإنزال للمني، أو هما، عليه تطهير جميع بدنه، وأنَّه لا يعفى عن شيء منه حتى ما تحت الشعور الكثيفة، وكذلك ذكر الله طهارة الحائض والنفساء في سورة البقرة بقوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ } أي ينقطع دمهنَّ، فإذا تطهرن، أي: اغتسلن {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } [البقرة: 222] . ثم ذكر طهارة التراب والتيمم، وأنَّ لها أحد سببين: عدم الماء في قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } [المائدة: 6] ، وحصول الضرر بمرض ونحوه في قوله: {أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى } [النساء: 102] ، وقوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } [المائدة: 6] . صريح أنَّ التيمم عن الحدث الأصغر والأكبر؛ لأنَّه ذكره عقب الحدثين، وأنَّ النجاسة لا يُتيمم لها فتجب إزالتها مع القدرة، وتسقط مع العجز كسائر الواجبات. ويدل أنَّ محل المسح للحدثين الوجه واليدان وهما الكفان فقط، لأنَّه لما أراد إيصال الطهارة إلى المرفقين في طهارة الماء قال: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } [المائدة: 6] . واكتفى تعالى عن الحدثين بتيمم واحد، ونفى تعالى الحرج في الدين عموماً، وفي الطهارة خصوصاً فقال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } [المائدة: 6] . وأقام الله طهارة التيمم مقام طهارة الماء عند وجود الشرط، وهو الفقد للماء أو التضرر باستعماله، وهذا يقتضي أنَّ حكمها حكمها من كلِّ وجه، فما دام متطهراً بالتيمم ولم يحصل له ناقض صحيح فهو باق على طهارته، لا يبطل هذه الطهارة دخول وقت ولا خروجه، وإذا نوى به عبادة استباحها ومثلها ودونها وأعلى منها.

وفي الآية الكريمة دليل أنَّ الأحداث المذكورة ناقضة للوضوء، وهي الخارج من السبيلين ولمس النساء لشهوة، لأنَّ اللمس حيث أضيف للنساء كان المراد به الذي لشهوة كقوله: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [البقرة: 187] .

وفي قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } [المائدة: 6] دليل على أنَّ الماء باق على طهوريته، ولو تغير بالطاهرات لأنَّه داخل في اسم الماء الذي لا يجوز العدول عنه إلى التيمم. وقد استدل الإمام أحمد رحمه الله وغيره بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ } [المائدة: 3] الآية على أنَّ الماء إذا خالطته نجاسةٌ فغيّرت أحد أوصافه، أنَّه نجس لظهور أثر هذه الأشياء فيه، فيتناوله تحريم الميتة والدم إلى آخرها، فيكون نجساً خبيثاً، وإذا لم تغير أحد أوصافه أنَّه باق على طهوريته. وفي عموم قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } [الفرقان: 48] دليل على أنَّ الأصل في الماء الطهورية، فلا نعدل عن هذا الأصل إلا بدليل.

وقال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } [البقرة: 144] أي: جهته، فأوجب استقبال الجهة عند تعذر إصابة العين.

وقال تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [الأعراف: 31] أي: البسوا ثيابكم واستروا عوراتكم للصلاة، فإنَّ الزينة ما تدفع الشناعة والقبح في كشف العورة، وتمام أخذ الزينة حصول الجمال، ففيه أمر بالأمرين بستر العورة، وبتكميل اللباس كما هو مبين مفصل في السنة.

وقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } [الأعراف: 204] وأبلغ ما يدخل في هذا إنصات المأموم لقراءة إمامه في الصلاة الجهرية، وقد أمر الله بالقيام والركوع والسجود والقنوت الذي يدخل فيه السكوت. فقال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } [البقرة: 238] ، {) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } [الحج: 77] ، وقال: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ } [المزمل: 20] ، ففي هذا فضيلة هذه المذكورات وأنّها أركان للصلاة.

وسمى الله الصلاة إيماناً في قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [البقرة: 143] أي: صلاتكم لبيت المقدس قبل تحويل القبلة، لأنَّ الصلاة ميزان الإيمان.

وقد أمر الله بالمحافظة على الصلوات عموماً، وعلى صلاة العصر خصوصاً في قوله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى } [البقرة: 238] وأثنى على المحافظين عليها، وذلك يقتضي المحافظة على شروطها وأركانها وجميع ما يلزم لها وعلى مكملاتها، وكذلك الأمر بإقامتها والثناءُ على المقيمين لها يدل على ذلك.

والأمر بالمسابقة إلى الخيرات والمنافسة فيها، يدل على السعي في تكميل الصلاة وغيرها من العبادات.

وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} [الماعون] ، ويدخل في هذا الوعيد تركها بالكلية وتفويت وقتها، والإخلال بشيء مما يجب فيها، وأمَّا السهو فيها فلم يذمه الله، ولهذا وقع من النبي صلى الله عليه وسلم وسجد له سجدتين في آخر الصلاة، وأمر أمته بذلك عند وجود سببه.

وذمّ تعالى المنافقين الذين {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلا } [النساء: 142] ، ففيه وجوب الطمأنينة في الصلاة، وتكميل ركوعها وسجودها وقيامها وقعودها، لأنَّ العبد لا يسلم من هذا الذم إلا بهذا التكميل والإخلاص لله تعالى.

وَقَدْ مدح تعالى الخشوع في جميع الأحوال وفي الصلاة خصوصاً، وذلك بحضور القلب فيها وتدبر أقوالها وأفعالها، وتمام ذلك أنْ يعبد الله كأنَّه يراه، فإن لم يكن يراه فإنَّه يراه. ومن لوازم ذلك ترك الحركة في الصلاة وعدم الالتفات وإلزام النظر لمحل سجوده.

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4) } [المزمل] ، وقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ } [الإسراء: 79 ] ، {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) } [الذاريات] . ففي هذا الأمر بقيام الليل وفضله، وأن أهله هم خيار الخلق. وأخبر في آخر المزمل أنَّ الرسول وطائفة معه من المؤمنين قاموا بذلك التقدير، وأنَّ الله يسر على الناس خصوصاً أهل الأعذار من المرض والشغل، فإنَّهم يقرأون ما تيسر منه، أي: يصلون من الليل ما يَهُون عليهم ولا يَشُقْ.

واستدل بقوله: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } [البقرة: 43] على وجوب الجماعة وركنية الركوع، وفضله، وأنَّه تدرك به الركعة.

واستدل بأمر الله بالجماعة في حال الخوف على وجوب الجماعة في حالة الأمن من باب أولى.

وكذلك استدل بقوله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا } [المائدة: 58] ، و{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } [الجمعة: 9] على وجوب النداء للصلوات الخمس والجمعة، وهو المتقرر عند المسلمين صفته، وعلى وجوب الجماعة للصلوات الخمس والجمعة، وعلى وجوبها في المساجد.

وقد ذكر الله السجدات في القرآن وفي بعضها الأمر به، وذم من لم يسجد عند تلاوة الآيات، وإخباره بسجود المخلوقات فهذا يدل على مشروعية سجود التلاوة، استحباباً عند جمهور العلماء وأوجبه بعضهم، وَسَجَد صلى الله عليه وسلم في ص وقال: «سجدها داود توبة فنحن نسجدها شكراً لله» ([49]) يدل على مشروعية سجود الشكر.

وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49) }

[الطور] ، وفي الأخرى: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } [ق: 40] يدل على صلاة الليل وخصوصاً آخره، والذكر عقب الصلوات الخمس.

وقال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } [النساء: 101] فيها مشروعية قصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين، في كلِّ سفر طويل أو قصير لإطلاق الآية، فإذا اجتمع الخوف والسفر قصر عدد الصلاة الرباعية، وقصرت هيئاتها بحسب ما وردت به صلاة الخوف عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما دل عليها قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ } [النساء: 102] إلى آخرها، فإن كان سفر بلا خوف قصر العدد فقط، وهذا من فائدة التقييد بالخوف وذلك القصر المطلق.

وقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ } [النساء: 103] فيها فائدتان: إحداهما: مشروعية الذكر عقب الصلوات المكتوبات عموماً، كما تكاثرت بذلك الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم. الثانية: فيه مشروعية الذكر على وجه التأكيد بعد صلاة الخوف، لحصول بعض الخلل فيها لأجل العذر، فَكَأَنَّ في ذكر الله جبراً لما فات العبد من ذكر ربه، لأنَّ الصلاة إنَّما شرعت لإقامة ذكر الله. قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } [طه: 14] وكذلك جميع العبادات شرعت لهذا الغرض الجليل، فينبغي للعبد إذا فعل العبادة على وجه فيه نقص أن يعوض عن ذلك ويجبره بكثرة ذكره لربه.

وفي قوله تعالى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } [يونس: 87] ، أي: صلوا فيها خوفاً من فرعون وملئه دليلٌ على جواز الصلاة في البيوت لعذر من الأعذار، إمَّا خوف أو مرض أو غيرهما، لأنَّ شَرْعَ من قبلنا شَرْعٌ لنا ما لم يرد شرعنا بنسخه، بل في شرعنا من التسهيلات ما ليس في غيره.

وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } [البقرة: 115] استدل بها على جواز الصلاة على الراحلة في السفر قِبَلَ أيِّ جهةٍ توجه المصلي، وعلى صحة الصلاة إذا اجتهد إلى القبلة فأخطأها، وعلى صحة صلاة العاجز عن الاستقبال للضرورة، وعلى نفل الماشي كالراكب في السفر.

وقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } [النور: 36] يعم أحكام المساجد كلِّها، فإنَّه أمر فيها بشيئين: برفعها الذي هو تعظيمها وصيانتها عن الأوساخ، والأقذار والأنجاس الحسية والمعنوية، وتعمر العمارة اللائقة بها، ويذكر فيها اسمه بأنواع التعبد من صلاة وقراءة، وتعلم علم نافع، وتعليم، وذكر لله تعالى، فكلُّ ما قاله أهل العلم من أحكام المساجد وفصّلوه فهو داخل في هذين الأمرين، فتبارك من جعل كلامه فيه الهدى والشفاء والنور.

وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي } [الأنعام: 162] ، {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) } [الكوثر] ، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) } [الأعلى] . استدل بعموم ذلك على صلاة العيدين عيد الأضحى وعيد الفطر وعلى صدقة الفطر، ولا ريب بدخول المذكورات في هذا العموم.

وقوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } [التوبة: 84] ، {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) } [عبس] ، {فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي } [المائدة: 31] . دليل على صلاة الجنازة على المؤمنين، والقيام على قبورهم للدعاء لهم، وعلى تكفين الميت كلِّه، لأنَّه جعل بدنه كلَّه سوأة، وعلى حمله ودفنه على ما وردت به السنّة.

أحكام الزكاة

قد أمر الله بها في مواضع من كتابه وبالنفقة، وأثنى على القائمين بذلك، وذم المانعين لها، وتوعدهم بالوعيد الشديد، وأنَّهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة، وأنَّهم يعذبون بكنوزهم ويحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، وأنَّها من أعظم فروض الدين.

وقال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } [التوبة: 103] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)} [البقرة] ، {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [الأنعام: 141] ، {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)} [التوبة] .

استدل بذلك على مسائل كثيرة من أحكام الزكاة، منها وجوب الزكاة في كلِّ ما يتمول، أي ينمى ويعد للربح والتنمية والكسب، وذلك كالنقود والعروض للتجارة، وهو كلُّ ما أرصد للبيع والشراء لأجل الربح، والحبوب والثمار الموسقة، والمواشي التي تنمى لولادتها أو للاتجار بها، وأنَّ زكاة الحبوب والثمار إنَّما تجب عند الحصاد والجذاذ، لأنَّه الوقت الذي يسهل إخراجه على أرباب الثمار والزروع، والوقت الذي تتعلق به أطماع المستحقين. وأما من عداهما فلا بد من حولان الحول، وفيه بعث السعاة لقبض زكاة المال الظاهر، وأنَّ الساعي، وكذلك الآخذ للزكاة ينبغي أن يدعو للمخرج دعاء يناسب الحال لهذه الفائدة التي ذكرها الله أنَّ الدعاء يسكن القلب، وينشّط المخرج وهو شكر له على ذلك، وأنَّه يجب إخراج الوسط فلا يجب على المخرج أن يخرج العالي، ولا يحل له أن يعدل إلى الدون، وفيها مصالح الزكاة، وأنَّها تطهر أهلها من الصفات الذميمة، وتزكيهم بالأخلاق الكريمة، وتطهر المال، وتقيه الآفات، وأنَّها لهؤلاء الأصناف الثمانية. منهم من يأخذ لحاجته كالفقير والمسكين، والفقير أشد حاجة فهو المحتاج المضطر، والغارمين لأنفسهم، وفي الرقاب يدخل فيه إعتاق الرقاب من الرق، وإعانة المكاتبين، وفداء أسرى المسلمين، وابن السبيل وهو الغريب المنقطع به عن بلده. ومنهم من يأخذ للحاجة إليه وقيامه بمصلحة عمومية، وذلك كالعاملين عليها من جاب لها، وحافظ وكاتب وقاسم، والمؤلفة قلوبهم ممن يرجى إسلامهم أو يخشى شرهم، أو يرجى قوة إسلامهم أو إسلام نظيره، والغارمين لإصلاح ذات البين بين الطوائف وأهل البلدان والقبائل والمجاهدين في سبيل الله، ومن الجهاد في سبيل الله العلم والتعلم والتعليم للعلوم الشرعية، ومن جمع من هؤلاء وصفين أو أكثر أعطي بحسب ما فيه من الأوصاف.

وقوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } [البقرة: 271] فيها حث على إخفاء الصدقات إذا أعطيت الفقراء، فإن بذلت في المصالح العامة فالأولى إظهارها لما في ذلك من المصالح.

ونهى تعالى عن اتباعها بالمنّ على الله، أو على المعطَى، أو الأذية لِلمُعْطَى، وتقدم أنَّه استدل بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) } [الأعلى] على زكاة الفطر. وأمَّا مقادير الأنصباء والواجبات فمفصل بالسنة.

وقد أمر تعالى بإخلاص النفقات لله من الواجبات والمستحبات، وأخبر عن مضاعفتها وعن حبوط عمل المرائي والعاصي ([50])، وضرب لذلك الأمثال المقربة للمعاني غاية التقريب.

 أحكام الصيام والاعتكاف وتوابعها

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } [البقرة: 183] إلى قوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [البقرة: 187] .

يؤخذ من هذه الآيات الكريمات من أحكام الصيام شيء كثير. منها: أنَّ شهر رمضان مكتوب على هذه الأمة، وأنَّ الصيام من الشرائع العامة التي شرعت على لسان كلِّ نبي أرسله الله، لعموم نفعه، وكثرة مصالحه. ويجمع مصالحه قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 183] ، أي: شرعنا لكم الصيام لتقوموا بتقوى الله التي بها النجاة والفلاح والسعادة، فإنَّ الصيام من أعظم أركان التقوى، وهو بنفسه يعين على تقوى الله في كلِّ الأحوال، فإنَّه يمرن النفوس على الصبر عما تهواه مما يلائمها ويوافق طبيعتها، فمتى تمرنت النفس على ذلك بالصيام هان عليها ترك المحارم التي لا تتم التقوى إلا بتركها، وأيضاً فنفس الصيام ترك للمفطرات المحرمة لخصوص الصيام، وكذلك يدعو إلى رحمة الفقير، فإنَّ الإخلاص لله والإحسان لعباد الله هو جماع التقوى، وكلاهما موجود معناه في الصيام.

وفيها: أنَّه يجب صيام رمضان برؤية هلاله على كلِّ مقيم صحيح، وبتمام الشهر الذي قبله من باب أولى، وأنَّ المريض مرضاً يرجى زواله والمسافر له الفطر، ويقضي عدته من أيام أُخر، وعموم ذلك كلَّ سفر طويل أو قصير، وأنَّه يصح قضاء أيام قصار باردة على أيام طوال حارة، وأنَّ من فاته رمضان قضى عدد أيامه. وأما المريض مرضاً لا يرجى زواله والكبير والكبيرة اللذان لا يستطيعان الصيام فيفطرون ويطعمون عن كلِّ يوم مسكيناً. وبهذا فسر ابن عباس وغيره: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } [البقرة: 184] ، أي: يتكلفونه بمشقة غير محتملة، أولى من القول بنسخها، وعلل ذلك كلَّه تعالى بقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة: 185] .

ومنها: استحباب التكبير ليلة عيد الفطر، والإكثار من ذكر الله وشكره على إتمام العدة.

ومنها: حل الوقاع للزوجات ليالي الصيام، وأنَّ حله وحل الأكل والشرب ينتهي إلى طلوع الفجر، ففيه جواز صيام الجنب، لأنَّ من لازم هذه الإباحة أن يدركه الفجر وهو جنب، ومثله صيام الحائض إذا انقطع دمها.

ومنها: استحباب تأخير السحور لقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ } [البقرة: 187] وأنَّه يجوز الأكل والشرب مع الشك في طلوع الفجر، ومنها استحباب الفطور وتعجيله.

ومنها: أنَّ حد الصيام الشرعي هو الإمساك عن جميع المفطرات، من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس.

ومنها: كراهة الوصال للصائم، لأنَّ الله لم يجعل الليل محلاً للصوم.

ومنها: أنَّ جميع ما يؤكل، وكلَّ ما يشرب، والجماع من أعظم مفطرات الصائم.

  ومنها: مشروعية الاعتكاف حيث إنَّ الله أضافه إلى المؤمنين، وأنَّه لا بد أن يكون في المسجد، وأنَّ مباشرة النساء بالوطء ومقدماته ممنوع منها المعتكف.

وفيه إشارة إلى أنَّ الاعتكاف في آخر رمضان أفضل من غيره لتواتر الأحاديث فيه، لأنَّ الله أتبع الاعتكاف لأحكام الصيام وقد أثنى الله على الصائمين في مواضع كثيرة من القرآن، وذكر ما لهم من الفضل والثواب، وهذا يتناول الفرض والنفل وخصوصاً الأيام التي حثّ صلى الله عليه وسلم على صيامها، كصيام ثلاثة أيام من كلِّ شهر، وست من شوال، ويوم عرفة، واليوم التاسع والعاشر من المحرم، والاثنين والخميس، فإنَّها من أفضل ما يدخل في آيات الصيام.

وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } [الدخان: 3] ، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)  } [القدر] فيها فضيلة ليلة القدر والعمل فيها، وأنَّها في رمضان. وأخبر صلى الله عليه وسلم أنَّها ترجى في عشره الأخيرة خصوصاً أفرادها، لأنَّ الله ذكر أنَّه أنزل القرآن في رمضان وأخبر أنَّه أنزله في ليلة القدر، وذلك صريح أنَّها في رمضان.

 أحكام المناسك

قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران: 97] . وقال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [البقرة: 196] إلى قوله: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } [البقرة: 203] الآية فيها فوائد كثيرة:

منها: أنَّ الحج أحد أركان الإسلام ومبانيه، وأنَّ الله أوجبه على الناس كلِّهم، ثم خص المستطيعين إليه السبيل، وهذا الشرط الأعظم لوجوب الحج، فمن تمت استطاعته في بدنه وماله ولم يَمنع من ذلك خوف، وجب عليه المبادرة إلى الحج، لأنَّ الأمر المطلق يقتضي الفور، ومن عجز في بدنه وقدر في ماله وهو يرجو زوال هذا العجز صبر إلى زواله، فإن كان لا يرجو زواله أو كان كبيراً لا يقدر الثبوت على المركوب، استناب عنه من يحج عنه. وكذلك من مات بعدما وجب عليه وجب على أوليائه الاستنابة عنه، والاستطاعة هي القدرة على ثمن الراحلة أو أجرتها أو أجرة المراكب البرية والبحرية ذهاباً ورجوعاً. ولهذا أطلق الله استطاعة السبيل ليشمل ما حدث ويحدث إلى يوم القيامة، وهذا من بلاغة القرآن وبراهين صدقه. وقد أمر الله بإتمام الحج والعمرة لله، وهذا شامل للفرض منهما وللنفل، فمن فرض الحج والعمرة بأن أوجبهما على نفسه بدخوله في النسك، وجب عليه الإتمام إلا أن يحصل له حصر عن الوصول إلى البيت بعدو أو غيره، فيذبح هديه ويحلق رأسه ويحل من نسكه، ومن ساق الهدي قرن بين النسكين كما فعل صلى الله عليه وسلم ولم يحل له أن يحلق رأسه حتى يبلغ الهدي محله يوم النحر، فيحل من النسكين جميعاً.

وفيها دليل على مشروعية سوق الهدي من الحل، ويؤخذ مشروعية تقليده من قوله: {وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ } [المائدة: 97] وأنَّ العمرة تندرج في الحج، وتكون أفعالهما جميعاً والحل منهما جميعاً، وأوجب الله على المتمتع ما استيسر من الهدي وهو ما يجزي في الأضحية جذع ضان، أو ثني معز، أو سبع بدنة، أو سبع بقرة، فمن لم يجد ذلك فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج لا يتجاوز بها أيام التشريق. وقد أباح الشارع صيامها في هذه الحال فقط وسبعة إذا رجع، وإنما يجب الدم أو بدله على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، لأنَّ من الحكمة في وجوب الهدي أو بدله الشكر لله على نعمة حصول النسكين في سفر واحد، ومن كان أهله في مكة أو قربها لم يكن عليه شيء. ومفهوم الآية أنَّ المفرد للحج ليس عليه هدي، وأما القارن فإنَّه داخل في المتمتع، ولا بد أن يقع إحرام النسكين في أشهر الحج وهي: شوال وذو القعدة وذو الحجة. وأرشد الله من فرض فيها، أي: أوجب فيهنَّ الحج أن لا يرفث والرفث الوطء ومقدماته، لأنَّ الوطء مفسدٌ للنسك ومقدماته منقصةٌ له، ولا يفسق ويشمل ذلك جميع المعاصي، وأما الجدال فهو المخاصمة والمنازعة وكثرة الجدال، لأنَّ هذه الأمور تشغل العبد عما هو بصدده من النسك.

ولما نهى عما ينافي النسك وينقصه أمر وحثَّ على كلِّ ما يكمّله من أفعال الخير كلِّها فقال: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } [البقرة: 197] وحثَّ أيضاً على كثرة الزاد، لأنَّه يكفِ الإنسان ويغنيه عن الخلق ويبسط به نفسه ورفقته، ويتمكن من فعل الإحسان.

وأباح تعالى للحاج والمعتمر الاشتغال بالتجارة والمكاسب، بشرط أن لا تشغله عن تكميل نسكه.

وقوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } [البقرة: 198] في هذا أنَّ الوقوف بعرفة من أعظم شعائر الحج، لأنَّ الله خاطب به جميع الحاج، وأخبر أنَّهم لا بد أن يفيضوا منها، وهذا أحد أركان الحج الأربعة وهي: الإحرام الذي هو نية الدخول في النسك المذكور في قوله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } [البقرة: 197] والوقوف بعرفة والطواف المذكور في قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] خصه بالذكر لشرفه وأنَّه أعظم أركان الحج، ولأنَّه تشترط له الطهارة دون بقية المناسك، ولأنَّه يتطوع به كلَّ وقت، والسعي بين الصفا والمروة لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } [البقرة: 158] مع حثِّ الله على تعظيم شعائر الدين. فهذه أركان الحج والعمرة، إلا أنَّ العمرة المفردة لا وقوف فيها بعرفة وتوابعها.

وفي الآية الأمر بذكر الله عند المشعر الحرام وهو مزدلفة، الواجب منه أن يدرك جزء من آخر الليل، أي: من النصف الثاني من ليلة النحر والأكمل المبيت بها، وبعد صلاة الفجر يقف عند المشعر ويهلل الله ويحمده ويستغفره حتى يقارب طلوع الشمس.

وقوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } [البقرة: 199] يدخل في ذلك الرمي والنحر والحلق وطواف الإفاضة والسعي والمبيت بمنى ليالي أيام التشريق، كما عرف ذلك من هديه صلى الله عليه وسلم وقوله: «خذوا عني مناسككم»([51]).

كمـا أنَّ قـولـه تـعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } [الحج: 29]

يشمل جميع ما شرع في الحج من الأركان والواجبات والسنن.

وقد أمر تعالى بكثرة ذكره واستغفاره عند كمال النسك، ختماً لهذا النسك بالتوبة والاستغفار، وشكراً لنعمةِ الله على تكميله، وأمر بذكره في الأيام المعدودات وهي أيام التشريق، وأباح التعجل في يومين بأن يرمي ثاني أيام التشريق الجمرات الثلاث، ثم ينفر من منى قبل غروب الشمس، فإن غربت وهو في منى تعين عليه المبيت تلك الليلة والرمي للجمرات الثلاث من الغد.

وقوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [البقرة: 125] فيه مشروعية ركعتي الطواف وأنَّ الأفضل أن يكونا خلف مقام إبراهيم.

أحكام الذبائح من الهدايا والضحايا

قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} [الكوثر] ، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) } [الأنعام] ، {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] ، {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) } [الصافات] ، {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } [النحل: 123] .

ففي هذه الآيات الأمر بالذبح لله وحده على اسمه وأمر بإخلاصها لله وحده، والذبح الذي هو عبادة الهدايا للبيت الحرام الشامل للواجب منها والمستحب، والأضاحي في عيد النحر في جميع الأقطار اقتداء بإبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم، وأخبر تعالى أنَّ فيها خيراً للعباد. وهذا شامل للخير الديني وهو التقرب بها إلى الله، وحصول الحسنات ورفعة الدرجات، وتكفير السيئات وتكميل النسك وللخير الدنيوي. ولهذا أمر بالأكل منها والإطعام، فيشترك في الانتفاع بها الأغنياء والفقراء.

وقد بيّنت السنّة أنَّها لا بد أن تكون من الأنعام الثلاثة، وأن تكون كاملةً في أسنانها وسالمة من العيوب، كما هو مفصّل في السنّة.

 أحكام الجهاد وتوابعه

كم في كتاب الله من الآيات المتعلقة بالجهاد أمراً به، وحثاً عليه، وبياناً لفضله، وفضل أهله وكمالهم، وكثرة ثوابهم، وعلو درجاتهم، وذكر ثمراته الجميلة، ونَهْياً عن ضده، وبيان ما على المتقاعدين عنه من النقص العظيم والعقوبات الدنيوية والأخروية، وكم فيه من ذكر مضاعفة النفقة فيه وأنَّها من أعظم الجهاد.

والجهاد نوعان: جهاد الدعوة إلى دين الإسلام، والتحذير من الأديان الباطلة وهذا مفروض منذ ابتدأت الرسالة، وهو فرض في كلِّ وقت بما يناسب الوقت ويليق به.

قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل: 125] ، وقال تعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا } [الفرقان: 52] ، أي: جاهد أهل الباطل كلَّهم بالقرآن، فهذا فرض عين على كلِّ مسلم أن يقوم بما يقدر عليه ويعلمه، وعلى أهل العلم من ذلك ما ليس على غيرهم، لأنَّ معهم السلاح التام الحقيقي لهذا الجهاد، وهو العلم الذي خلاصته وروحه شرح ما في دين الإسلام من المحاسن والمزايا والفضائل شرحاً يطابق الواقع، فإنَّه إذا شُرح على هذا الوجه وبُيّنت محاسنه وفضائله قبله كلُّ منصف قصده الحق، وكان أيضاً ذلك قامعاً للمبطلين الملحدين الذين {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)} [التوبة] .

ثم الموازنة بين عقائده وأخلاقه وفضائله وأعماله وبين غيره، فعند ذلك يتضح الفرق العظيم.

ثم إبداء براهين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم الكلية والجزئية، وصدقه وصدق ما جاء به من الحق الذي هو الكتاب والسنّة. فهذه الأصول بيانها بحسب الإمكان هو أكبر الجهاد، وهي أعظم الطرق التي دعا عباده بها إلى دينه، وأمر نبيه ومن قام مقامه أن يدعو بها.

النوع الثاني: الجهاد باليد والسلاح، فهذا فرض كفاية قتال الكفار المحاربين، وقد يكون فرض عين إذا حضر الزحف، وإذا حصر بلده عدو وإذا استنفره الإمام أو من قام مقامه، كما نص الله على ذلك نصاً يدل على فرضيته وتعيّنه.

والجهاد باليد والسلاح يتبع المصلحة، كما كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم هادن ووادع حيث كانت المصلحة، وحارب حيث اقتضت المصلحة. فعلى المسلمين أن يسلكوا هديه ويتشاوروا في أمرهم، ويعملوا في كلِّ وقت ما يناسبه ويصلح له.

وقد أمر الله بالتثبت في الأمور كلِّها، وخصوصاً في أمور الجهاد وتولية الأكمل والأمثل من الرجال في الولاية الكبرى، وفي ولايات الجيوش والسرايا وغيرها، فإنَّها من أعظم ما يدخل في الأمانات التي أمر أن تؤدى إلى أهلها.

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} [الأنفال] . فهذه التعاليم العالية من الله لعباده في جهاد الأعداء، متى استرشدوا بها تمت أمورهم. وقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } [الأنفال: 60] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ } [النساء: 71] .

فهذه الآيات دخل فيها فعل جميع الأسباب، واستعمال جميع القوة المقدورة، والأخذ بالحذر من الأعداء. فجميع علم السياسة يرجع إلى هذين الأصلين الاستعداد بالمستطاع من القوة للأعداء، بحسب الزمان والمكان والحال، واستعمال الحذر من مكر الأعداء وخداعهم وطرقهم ومسالكهم والتوقي من شرورهم مع التوكل على الله كما أمر الله بذلك كلِّه.

وقد ندب الله إلى السلم إذا جنح إليه الأعداء، مع التوكل عليه وأخذ الحذر، كما أمر بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. وأمر بالأسر عند الإثخان في العدو، ثم الوالي مخيّر بين المنِّ على الأسرى، أو فدائهم بمال، أو أسير مسلم، أو قتلهم، أو رقهم.

وذكر الأموال الشرعية ثلاثة أقسام: أموال الزكاة، وتقدم أنها للأصناف الثمانية، والغنيمة للغانمين تقسم أربعة أخماسها بينهم؛ للفارس على فرس عربي ثلاثة أسهم، وعلى فرس هجين سهمان، وللراجل سهم والخُمُس الآخر يجعل لهؤلاء الذين سماهم الله {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } [الأنفال: 41] .

وأموال الفيء كالجزية والخراج وخمس الخمس، والأموال المجهول أربابها وما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب يكون للمصالح كلِّها، ويبدأ منها بالأهم فالأهم، وأحكام الجهاد ومتعلقاته كثيرة في الكتاب والسنّة والله أعلم.

 أحكام البيوع والمعاملات

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } [المائدة: 1] ، {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } [البقرة: 275] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } [النساء: 29] ، {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا } [البقرة: 29] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } [آل عمران: 130] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } [الجمعة: 9، 10] ، {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } [النور: 37] الآية، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } [المنافقون: 9] ، {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ } [المائدة: 90] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } إلى قوله: {عَلِيمٌ } [البقرة: 282] ، {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } [البقرة: 267] . يستفاد من هذه النصوص كثير من أحكام المعاملات.

فمنها: أنَّها دلت على أنَّ الأصل صحة جميع البيوع والمعاملات، إلا ما استثناه الشارع وأباحت جميع أنواع التجارة، تجارة الإدارة، وتجارة التربص والانتظار بالسلع فرصها ومواسمها، وتجارة الإجارات، وتجارة الديون، وكلَّ ما دخل في اسم التجارة.

ومنها: أنَّ جميع العقود تنعقد بما دل عليها من قول وفعل، لأنَّ الله أباحها ولم يحدد لها ألفاظاً مخصوصة، فكلما عده الناس بيعاً وتجارة ومعاملة انعقدت به المعاملات.

ومنها: وجوب الوفاء بجميع العقود والشروط في كلِّ المعاملات، إلا ما استثناه الشارع كالعقود والشروط التي تحل حراماً، أو تحرم حلالاً، أو ما جعل له الشارع خيار مجلس أو عيب ونحوه أو ما اتفق المتعاقدان على استثناء خيار شرط أو غيره، أو ما كان في الأصل غير لازم كعقود الوكالات ونحوها.

ومنها: أنَّ المعاملات مع إباحتها فالمشتغل بها غير مذموم، إذا لم تلهه عن ذكر الله الواجب من صلاة ونحوها، فإن ألهت عن ذلك فهي مذمومة وصاحبها خاسر.

ومنها: اشتراط التراضي من المتعاملين في كلِّ المعاملات، بأن يأتي بذلك اختياراً فإن أكره أحدهما بغير حق لم تكن المعاملة صحيحة، فإن امتنع أحدهما مما وجب عليه وأكره على الواجب كانت المعاملة صحيحة.

ومنها: أنَّه يستفاد من اشتراط التراضي أنَّ من اشترى معيباً لم يعلمه، أو غبن بنجش، أو تلقي جلب، أو اغترار أو نحو ذلك أنَّ له الخيار، لكونه لم يحصل الرضى المعتبر.

ومنها: أنَّ الربا بجميع أنواعه من أعظم المحرمات، وأنَّه مفسد للعقد وإن تراضى به المتعاقدان، لأنَّه ليس لهما أن يتراضيا على ما لا يرضي الله ورسوله.

وأنواع الربا ثلاثة: ربا الفضل: بأن يبيع مكيلاً بمكيل من جنسه متفاضلاً، أو موزوناً بموزون من جنسه متفاضلاً، فإنَّ الشارع شرط في بيع الشيء بجنسه إذا كان مكيلاً أو موزوناً شرطين التماثل في القدر والقبض قبل التفرق.

وربا النسيئة: أن يبيع المكيل بالمكيل، أو الموزون بالموزون ولو من غير جنسه، ويتفرقا قبل قبض العوضين، وأشد أنواعه ما ذكره الله بقوله: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } [آل عمران: 130] وذلك أن يحل الدين عليه، ثم يقلبه عليه ببيعة أخرى إلى أجل فيتضاعف ما في الذمة من غير منفعة، ولا مصلحة تعود على المعامل، وذلك ظلم من صاحب الدين، وسواء تعاملا هذه المعاملة صريحاً، أو تحيلا عليها بحيلة من الحيل وصورةِ عقد غير مقصود، فكلُّ حيلة يتوسل بها إلى إسقاط الواجبات، أو استحلال المحرمات فإنَّها باطلة غير نافذة، لأنَّ العبرة في المعاني والمقاصد لا عبرة بالألفاظ التي لا يقصد معناها.

وأمَّا ربا القرض فأن يقرضه شيئاً ويشترط في مقابلة ذلك نفعاً أيَّ نفع يكون، فهذا الشرط هو الذي أخرجه من موضوع القرض والإحسان، وأدخله في موضوع المعاملات فصارت حقيقته دراهم بدراهم إلى أجل ـ مثلاً ـ وذلك النفع المشروط هو الربح ([52]).

وأمَّا الميسر فإنَّه نوعان: مغالبات ومعاملات: فمتى كانت المعاملة فيها خطر وغرر وجهالة فهي من الميسر، وهو أنواع كثيرة مثل: بيع الآبق وبيع المجهولات أعيانها، أو صفاتها، أو مقاديرها، أو بيع المنابذات، أو الملامسات، أو استنثاء المجهول من المعلوم، أو يشرط في المزارعة، أو المساقاة، أو المغارسة، أو المضاربة، أو المشاركات كلِّها مصلحة أحد المعينات، وللآخر الآخر فيكون كلٌّ منهما مخاطراً، وذلك أنَّ مبنى المشاركات على العدل، واستواء المتعاملين في المغنم والمغرم، فشرط خلاف ذلك ميسر وخطر وفي ذلك مفاسد كثيرة.

ومن عامل معاملة محرمة فعليه أن يتوب إلى الله، ويرجع المعاملة إلى العدل الذي أباحه الله، ويرفض ما فيها من ربا وميسر وتغرير وغش ونحوها من المحاذير الشرعية.

وأما آية الدين فما أجمعها لأحكام المعاملات وأكثر فوائدها، فإنَّ الله أرشد عباده إلى حفظ أموالهم ونظامها في المعاملات، وإلى تحريرها بالكتابة والشهود وضبطها بالوثائق، وذَكَرَ الطرقَ وأرشدَ إلى سلوكها ويسّرها غاية التيسير، ونفى كلَّ ضرر وظلم فيها من الجانبين، وأمر بغاية العدل وهي من البراهين على أنَّ دين الإسلام قد تكفل للبشر بصلاح دينهم ودنياهم، حيث أباح كلَّ معاملة نافعة وحرم كلَّ معاملة ضارة، وبيّن الطرق التي تحفظ بها وتضبط المعاملات والحقوق.

فمن فوائدها: جواز الديون كلِّها سواء كانت دين سَلَمٍ، بأن يسلم الثمن ويكون المثمن مؤجلاً إلى أجل مسمى، أو ديناً مطلقاً كأن يشتري شيئاً حاضراً بثمن في ذمته إلى أجل مسمى، لأنَّ الله نسبه للمؤمنين وأقرهم عليه وهذا خاصية المباح.

ومنها: اشتراط العلم بالمبيع والثمن والأجل. أمَّا الأجل فمصرّح به في قوله: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } [البقرة: 282] . وأمَّا علم الثمن والمثمن فمن باب التنبيه، إلى إنَّه إذا شرط العلم بالأجل الذي هو فرعه، فالأصل من باب أولى وأحرى.

ومنها: الأمر بكتابة الديون المؤجلة، والرخصة في ترك الكتابة في المعاملات الحاضرة، والحكمة في ذلك ظاهرة وهو الحاجة والضرورة في المؤجلة، والمشقة في الحاضرة المتكررة.

ومنها: الإرشاد إلى الإشهاد في المعاملات كلِّها حاضرة أو مؤجلة، وهي أعظم الوثائق وأنفعها وأوسعها.

وقد أمر بأعلى ما يكون فيها بإشهاد رجلين أو رجل وامرأتين من الشهود المرضيين بين الناس، وبَيَّن الحكمة في كون المرأة الواحدة لا تقوم مقام الرجل أنَّ ذاكرة الرجل أقوى من المرأة، فلهذا جبر هذا النقص بزيادة العدد، وبَيَّن الحكمة في ذلك بقوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } [البقرة: 282] .

ومنها: أمر الشهود أن ينقادوا للشهادة، وأن لا يأبوا إذا دعوا للتحمل أو للأداء لما في ذلك من القيام بحق المسلم، وفك المنازعات، ولما فيه من الخير والأجر عند الله تعالى.

ولهذا ينبغي للشاهد أن يقصد بتحمله للشهادة وأدائها وجه الله والقيام بالواجب لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } [الطلاق: 2] وزَجَر غاية الزجر عن كتمان الشهادة ومن باب أولى شهادة الزور، فكلاهما من كبائر الذنوب كتمان الشهادة، والشهادة بالباطل، فإنَّه ظلم في حق الله وظلم للمتعاملين كليهما. أمَّا المظلوم فظاهر وأمَّا الظالم فإنَّ شاهد الزور له وكاتمَ الشهادةِ الحق عليه قد أعانه على الظلم والعدوان.

وفيها دليل أنَّ شهادة الرجلين والرجل والمرأتين مقبولة في جميع المعاملات والأموال، وليس في ذلك نفي لقبول غيرها، لأنَّ الله إنَّما ذكر أعلى الحالات التي يحفظ بها الحقوق، وما يحكم به الحاكم أعمُّ من ذلك. فقد ثبت أنَّه صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد الواحد ويمين صاحب الحق ([53]).

ومنها: أنَّ الله أقام المرأتين مقام الرجل، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «أليس شهادة المرأة نصف شهادة الرجل» ([54]) وأطلق ذلك. ومقتضاه أن يكون في كلِّ الأحوال ولأهل العلم هنا تفصيلات كثيرة، وما دلت عليه النصوص يجب تقديمه على كلِّ قول.

ومنها: أنَّ من نسي شهادته ثم ذكرها، أنَّ شهادته صحيحة لقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } [البقرة: 282] .

وقوله: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ } [البقرة: 282] يدل على أنَّه ينبغي أن يكون الكاتب كامل الصفات، عالماً بالعدل، سالكاً لطريق العدل، معتبراً عند الناس، وأنَّه لا يحل له أن يميل مع أحد المتعاملين لقرابة، أو صحبة أو نحوهما، فإنَّه خلاف العدل.

ومنها: أنَّ معرفة الكتابة من نعمة الله على العبد، وكونه معتبراً عند الناس مرضياً عندهم، وتتوجه له حاجاتهم، ويمنُّ الله عليه بقضائها والقيام بها، فبهذا تتم عليه النعمة وعليه أن يشكر الله على ذلك ولهذا قال: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ } [البقرة: 282] .

وقوله: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ } [البقرة: 282] ، لأنَّه يكتب الحق الذي يُقِرُّ بِهِ، وفي هذا أنَّ الإقرار من أعظم الطرق التي تثبت بها الحقوق، وأنَّه لا عذر لمن أقرّ، وأنّه لو أقرّ ثم أنكر بعد ذلك، أو ادعى غلطاً أو نسياناً أنَّه لا يقبل منه؛ لأنَّ الحق ثبت باعترافه، فدعواه ارتفاع ذلك دعوى مجردة لا تقبل.

وفي هذا أنَّه لا يكتب ما أملاه من له الحق حتى يعترف به من عليه الحق اعترافاً معتبراً.

{فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا } [البقرة: 282] ، أي: لا يعرف المصلحة ولا يحسن المعاملة {أَوْ ضَعِيفًا } [البقرة: 282] ، أي: صغيراً، ومن باب أولى المجنون، {أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ } [البقرة: 282] لخرس أو حياء الأنثى {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ } [البقرة: 282] ، فيها إثبات الولاية على القاصرين وأنَّ وليهم ينوب منابهم في التصرفات والإقرارات، ويترتب عليه أنَّه لو زالت عنهم الموانع وأرادوا إلغاء تصرفات وليهم أو اتهموه بغير بيّنة فليس لهم ذلك لكونه قام مقامهم.

وفيه أنَّه لا عبرة بإقرار الصغير والسفيه والمجنون ولا بتصرفاتهم، لأنَّ الله لم يجعل لهم هنا إقراراً ولا معاملة ولا إملاء، بل جعل ذلك لوليهم، ففيه إثبات الحجر عليهم، ومنعهم من التصرفات والتبرعات والإقرارات على أموالهم، وذلك عين مصلحتهم وهذا من محاسن الشريعة، حيث لم يمكن القاصرين من أموالهم خوف الضرر عليهم. ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا } [النساء: 5] .

وإثبات النيابة عن المرأة الخفرة، فيه إثبات الوكالة، وأنَّ الوكيل إذا أقرّ فيما وكّل فيه فإقراره مقبول.

وفيه دليل على أنَّه ينبغي معرفة حسن الإملاء وتعلم ذلك، وكذلك الكتابة خصوصاً تعلم كتابة الوثائق ومعرفة اصطلاح الناس فيها، فإنَّ ذلك نعم العون على هذا المقصود.

ثم حثّ على كتابة الصغير والكبير فقال: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ } [البقرة: 282] . ففي هذا أنَّ التدقيق في المعاملات والمحاسبات أولى من الإهمال وبناءِ الأمور على المساهلة، فالتدقيق وتحرير المعاملة لها محل، وباب المعروف والإحسان له محل آخر، والتمييز بين الأمرين له أهمية كبيرة، بل الغالب أنَّ الإحسان لا يكون له ذلك الموقع حتى تعلم الأمور على سواء بين المتعاملين.

ثم بيّن تعالى الحِكَم والمصالح العظيمة المترتبة على هذه الإرشادات القرآنية فقال: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } [البقرة: 282] ، أي: أقرب لسلوك العدل وأقوم للشهادة، أي: أثبت لها لانبنائها على الكتابة وتأيدها وتذكرها بها، {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا }، أي: يزول بذلك الشك في المعاملة، ولا يستريب بعض المتعاملين ببعض. فكلُّ هذه مقاصد جليلة تدعو الضرورة والحاجة إليها.

وفيه دليل على أنَّ الوثائق يؤيد بعضها بعضاً، وأنَّ الله يحب من المتعاملين أن تكون المعاملة صريحة لا امتراء فيها، وبهذا تدوم المعاملة ويزول الريب.

وقال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } [البقرة: 282] ، أي: ولا حرج إذا لم يتوثقوا بكتابة ولا شهادة، ولكن على كلِّ واحد ممن أمنه صاحبه ووثق به أن يؤدي أمانته ويشكر أخاه الذي وثق به، فيكون واجباً عليه من جهتين: من جهة لزوم تقوى الله ووجوبها في كلِّ حال، ومن جهة أنَّ أخاك إذا وثق بك وأمنك فقد فعل معك معروفاً، فعليك أن تقابل الإحسان بالإحسان وفي هذا تنبيه على كلِّ ما في معناه، وأنَّ من عمل معك معروفاً في المعاملة فما جزاؤه إلا الوفاء معه ومقابلته بمثل عمله، كما أنَّ في قوله: {أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} تنبيه على أنَّ من خصّه الله بنعمة يحتاج الناس إليها، أنَّ مِن شُكره الله على هذه النعمة أن يبذلها للناس إذا احتاجوا إليها، وهو لا مضرة عليه فيغنم ولا يغرم.

ومنها: مشروعية وثيقة الرهن وخصوصاً في السفر عند الحاجة إليه لفقد الكاتب أو الشاهد، وأنَّ المقصود من الرهن أن يكون وثيقة بالدين إذا تعذر الوفاء بيع بالدين، وله مقصود آخر وهو أنَّه إذا كان له غرماء غيره قدم صاحب الرهن به عليهم.

وفيه أنَّ أكمل حالات الرهن أن يكون مقبوضاً، وليس في الآية دليل على أنَّه لا يكون رهناً إلا إذا قبض، لأنَّ الله إنَّما ذكر أعلى الحالات، بل مفهوم قوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } [البقرة: 283] أنَّها قد تكون غير مقبوضة، لكنها أقل توثقة من المقبوضة، كما أنَّ الشيء القليل أو الذي في الذمة أقل توثقة من الكثير أو من العين.

ومنها: النهي عن مضارة الكاتب والشهيد أو يضاران هما للمتعاملين، فعلى كلٍّ منهما سلوك الطريق الذي فيه إرفاق وسهولة.

ومنها: أنَّه تعالى تعاهد من يُخشى منه خيانة تخفى كالمملي للحق الذي عليه، والمؤتَمَن الذي وثق المعامل بأمانته وذمته بالحث على لزوم التقوى وتذكيره برعاية حق أخيه لكون الحق لا بيّنة به.

قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } [يوسف: 72] . اسْتُدِل بها على صحة الكَفَالة والضَمَان والجَعَالة، وأنَّه يجوز تقدير الجعالة بما يتقارب علمه كحِمْلِ البعير ونحوه.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } [النساء: 58] . استدل به على ثبوت الأمانات ووجوب حفظها في حرز مثلها وأدائها إلى أهلها: الذي ائتمن الإنسان، أو إلى وكيله ومن يحفظ ماله عادة، وأنَّ كلَّ مؤتمن مقبول قوله في التلف وعدم التفريط، وأنَّ الإنسان مقبول قوله على ما تحت يده من الأمانات لأنَّ هذا مقتضى التأمين.

وقوله: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } [القصص: 26] فيه مشروعية الإجارة وجوازها في كلِّ المنافع المباحة، وأنَّ خير من عاملته بإجارة أو غيرها مَنْ جَمَعَ الوصفين، القوة التي هي الكفاءة للعمل المقصود من الإنسان والأمانة، فإنَّ النقص إما فقد الصفتين أو إحداهما.

قوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } [النساء: 128] ، {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } [الحجرات: 10] وهذا عام في جميع الحقوق المالية وغيرها، وسواء عند الإقرار أو الإنكار. فالصلح جائز ومأمور به بين الناس إلا صلحاً أحل حراماً أو حرّم حلالاً، وعموم ذلك يقتضي جواز الصلح عن جميع الحقوق حتى حقوق الخيار والشفعة وغيرها، ويقتضي جواز الصلح عن المؤجل ببعضه حالاً، والصلح بين الجيران في الحقوق المتعلقة بالجوار.

وقد أمر تعالى بالإحسان إلى الوالدين والأقربين والجيران والمساكين وغيرهم، فيشمل ذلك الإحسان القولي والفعلي، ويختلف باختلاف الأشخاص والأوقات وجميع الأحوال.

وقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [الأنعام: 152] فيها الولاية على اليتيم وإحسان تدبير ماله، وقد أمر باختباره عند بلوغه، فإذا علم رشده وهو حفظ ماله ومعرفته للتصرف والتصريف دفع له ماله.

قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ } [البقرة: 180] نُسخت الوصية للورثة بآيات الميراث، وبقيت في غيرهم من الأقارب ونحوها من طرق البر والخيرات.

ويُسْتَدَلُّ على الوقوف والهبات والوصايا، وكذلك على القرض والعارية ونحوها من التبرعات في الأعيان أو في المنافع، بعموم أمره تعالى بالإحسان وثنائه على المحسنين، وبيان فضائلهم وثوابهم. فهذه المذكورات كلُّها داخلة في الإحسان، ولكن ينبغي أن يعلم أن الإحسان إنما يكون إحساناً حقيقياً إذا لم يتضمن ظلماً وجوراً، وإلا فترك الإحسان هو الإحسان مثل أن يكون تبرعه يتضمن ترك واجب من دين، أو مضارة وارث، أو إضرار بمن لا تحل مضارته فهذا لا يجوز.

وقوله: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ } [التوبة: 91] يدل على أنَّ المؤتَمن إذا كان بغير جُعْل أنَّ قوله مقبول في رد الأمانة، كما يقبل قول كلِّ مؤتمن في دعوى التلف وعدم التفريط.

وقوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } [البقرة: 182] فيها إرشاد إلى تنبيه المعتدي في وصيته، ونصيحة من بعده في تعديل وصيته إذا كانت جائرة.

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ } [المائدة: 106] إلى آخر الآيات. فيها: أنَّ الوصية مشروعة وأنَّه يكفي فيها شهادة اثنين من المسلمين، فإن لم يحضر المحتضر إلا كفار، قبلت فيها شهادة اثنين منهم للضرورة، فإن خيف منهما خيانة حلفا بعد الصلاة ما خانا وما كتما، وإن اطّلع على خيانة منهما بأن قامت الشواهد على ذلك، حلف اثنان من أولياء الميت على خيانتهما، وأنَّ شهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا ثم يغرمان المال.

 أحكام المواريث

قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } [النساء: 11] والآية التي في آخر السورة. لقد فصّل الله في هذه الآيات أحكام المواريث تفصيلاً تاماً، فذكر ميراث الأولاد وهم أولاد الصُلْبِ الذكور والإناث وأولاد البنين، كذلك الذكور والإناث دون أولاد البنات، فذكر أنَّهم إذا اجتمع منهم ذكور وإناث في درجة واحدة فللذكر مثل حظ الأنثيين، وأنَّهم في هذه الحال يكونون عَصَبَةً لا يستحق معهم أحدٌ من القرابة شيئاً سوى الوالدين فقط، لكلِّ واحد السدس. ومن باب أولى إذا كان الأولاد ذكوراً خلّصاً وإذا كانوا إناثاً فللواحدة التي ليس معها في درجتها أحد النصف، وللثنتين فأكثر الثلثان، فإن كانت الواحدة في الدرجة العالية كبنت الصلب ومعها بنت أو بنات ابن، فللعالية النصف ويبقى السدس تكملة الثلثين لبنات الابن.

وذكر ميراث الأبوين مع الأولاد لكلِّ واحد منهما السدس. أما الأم فلا تزيد عليه، وكذلك الأب مع الأولاد الذكور أو مع البنات إذا استغرقت الفروض، فإن بقي شيء بعد أخذ البنات فروضهن أخذه الأب تعصيباً لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس الذي في الصحيح: «الحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر» ([55]). وهو أولى من الأبعدين، فإن كان أم وأب ومعهما أحد الزوجين أخذ أحد الزوجين فرضه والباقي للأم ثلثه وللأب الباقي، فإن كان للميت أخوة فلأمه السدس.

والجد حكمه حكم الأب في جميع أحكام الفرائض بالاتفاق، إلا في العمريتين المذكورتين فإن للأم مع الأب ثلث الباقي، ومع الجد ثلث المال كلِّه، وإلا مع الإخوة لغير أم، فإنَّ العلماء اختلفوا فمنهم من ورثهم مع الجد على تفاصيل كثيرة معروفة كزيد بن ثابت رضي الله عنه، ومن وافقه من الصحابة والأئمة، ومنهم من أسقطهم بالجد كقول أبي بكر رضي الله عنه، ومن وافقه من الصحابة والأئمة وهو القول الذي ترجحه الأدلة الكثيرة.

وذكر ميراث الزوجين وأنَّ للزوج نصف ما تركت زوجته، إذا لم يكن لها ولدٌ ذكرٌ أو أنثى واحدٌ أو متعددٌ ولدُ صُلْبٍ، أو ولدُ ابن منه، أو من غيره، والربع بوجود الولد المذكور، وأنَّ للزوجة الثمن مع الولد والربع مع عدمه.

وذكر ميراث الإخوة من كلِّ جهة: أما الأخوة من الأم فلم يورثهم إلا في الكلالة، أي: إذا كان الميت ليس له أولاد صلب ولا أولاد ابن لا ذكور ولا إناث ولا أب، ولا جد، فللواحد منهم السدس وللاثنين فأكثر الثلث ذكورهم وإناثهم واحد. وأما الأخوة الأشقاء أو لأب فالذكور منهم عصبة، وكذلك إذا كان معهم إناث كان للذكر مثل حظ الأنثيين، والواحدة من الإناث لها النصف والثنتان فأكثر الثلثان، فإن كانت شقيقة ومعها أخت من أب أو أخوات كان للشقيقة النصف وللتي لأب السدس تكملة الثلثين. وقوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } [الأنفال: 75] . يستدل بعمومها على إرث جميع عصبة الأقارب، ولم يورث الله الأخوات مع إخوتهن إلا البنات والأخوات للميت. وأما أولاد الإخوة والأعمام وأولادهم مهما تفاوتت درجاتهم، فإنَّه يختص الذكر بالميراث دون أخواته.

وأما الجدة من جهة الأم أو من جهة الأب إذا عدمت الأم، فقد ثبت أنَّه صلى الله عليه وسلم جعل لها السدس ولا تزيد عليه.

وأما مسائل العول فأخذها الصحابة رضي الله عنهم من عموم أمره تعالى بالعدل، والعول هو العدل المستطاع، كما بسط ذلك في غير هذا الموضع.

وقوله في عدة مواضع {مِمَّا تَرَكَ } يدل على أنَّ جميع الورثة يرثون كلَّما خلفه ميتهم من الأعيان والديون والحقوق، حتى ما يجب له بعد موته من دية ونحوها.

وأما ميراث الرد فيؤخذ أيضاً من مأخذ العول، لأنَّ القاعدة الشرعية أنَّ الأموال المشتركة زيادتها أو نقصها بين المشتركين بحسب حصصهم، والعولُ والردُ فرد من أفراد ذلك.

وكذلك ميراث ذوي الأرحام مأخوذ من قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } [الأنفال: 75] فعند عدم أهل الفروض والعصبات يكون ذوو الأرحام أولى من غيرهم. وأمَّا صفة إرثهم فحيث كانوا مدلين بأصحاب فروض أو عصبات جعلوا بمنزلتهم لأنَّهم فرعهم.

الأحكام المتعلقة بالنساء وهي كثيرة جداً ذكرها الله في كتابه لامتزاج أحكام النساء بالرجال وكثرة الحقوق بينهما والتعلقات.

 أحكام النكاح والصداق وتوابع ذلك من العشرة وحقوق الزوجية

قد أمر الله بالنكاح في عدة آيات وقال: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) } [النساء] ، وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) } [النساء] ، وقال: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } [النساء: 24] ، وذكر قصة تزوج موسى لابنة صاحب مدين على أن يأجره ثمان أو عشر حجج، وقال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } [النساء: 19] ، {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [البقرة: 228] الآية.

فدلت هذه الآيات على الأمر بالتزوج وجوباً أو استحباباً بحسب الأحوال، وحث على تخير النساء الكُمّل، {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ } [النساء: 34] . وقال صلى الله عليه وسلم: «تنكح المرأة لأربع: لمالها وجمالها وحسبها ودينها، فاظفر بذات الدين تربت يمينك» ([56])، وذلك لنفعها زوجها في دينه ودنياه، وحفظها نفسها وماله وحسن تدبيرها ونفعها للعائلة وتربية الأولاد تربية دينية.

وأباح للرجل أن يتزوج إلى أربع من الحرائر، ومن الإماء ما شاء بملك اليمين، وحث على الاقتصار على واحدة عند الخوف من الظلم.

وأمَر بإيتاء النساء صدُقاتهن، وأن المهر يصلح بالقليل والكثير والأموال والمنافع، وأمَرَ من عنده يتيمة هو وليها أن لا يظلمها، وأنَّه إن رغب في نكاحها أن يقسط لها في مهرها فلا ينقصه عما تستحقه، ومن رغب عنها أن لا يعضلها ويمنعها الزواج حتى تعطيه شيئاً من مالها، أو حتى يُعطى من صداقها فإنَّ هذا ظلم، بل يتعين عليه أن يجتهد في مصلحتها كما يجتهد لبناته، وأنَّ المرأة إذا كانت رشيدة وطابت نفسها له بشيء من صداقها، فله أكله بلا حرج إن لم يكن ذلك بسبب عضله لها، فإن عضلها ظلماً لتفتدي منه بما أتاها أو ببعضه، فقد أتى إثماً عظيماً. وبيّن تعالى أنَّ الحكمة في ذلك أنَّه كيف يأخذه وقد استوفى المنفعة وأفضى بعضهم إلى بعض، {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } [النساء: 21] وهو التزام الزواج المتضمن للقيام بجميع الحقوق التي أولها إيفاؤها الصداق، وإنَّما يتنصف الصداق إذا طلق قبل الدخول وقد فرض لها مهراً، فلها نصف ما فرض إلا إن عفى أحدهما عن نصفه فيكون للآخر. ففي هذه الآيات أنَّ الصداق ملكٌ للزوجة، وأنَّه يتقرر كلُّه بالدخول وكذلك بالموت لتمام وقته.

وأمر تعالى كلاً من الزوجين أن يعاشر الآخر بالمعروف من الصحبة الجميلة اللائقة بحالهما وكف الأذى، وأن لا يمطل كلٌّ منهما بحق الآخر، ولا يتكره لبذله ويدخل في المعاشرة بالمعروف أنَّ النفقة والكسوة والمسكن وتوابع ذلك راجع إلى العرف إذا اختلفا في تقديره وتحديده، وأنَّه تابع ليسر الزوج وعسره. قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آَتَاهَا } [الطلاق: 7] وقد أرشد الله وحثّ على الصبر على الزوجات ولو كرهها الزوج، فعسى أن يكون منها خير كثير يبدل الله الكراهة بالمحبة، وتتبدل طباعها أو يرزق منها أولاداً أو يكون له من مقارنتها وصحبتها وتوليها لماله مصالح كثيرة.

وقوله: {وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا } [النساء: 20] يدل على جواز كثرة المهر،

مع أنَّ الأولى السهولة فيه وفي غيره فخير النساء أسهلهن مؤنة.

وقد حرّم تعالى من الأقارب سبعاً: الأمهات وهنَّ كلُّ أنثى لها عليك ولادة، والبنات وهنَّ كلُّ أنثى لك عليها ولادة، والأخوات من كلِّ جهة، وبناتهن وبنات الإخوة وإن نزلن، والعمات وهنَّ كلُّ أنثى أخت لأبيك أو لأحد أجدادك، والخالات وهنَّ كلُّ أنثى أخت لأمك أو لأحد جداتك وما سواهنَّ من الأقارب حلالٌ؛ كبنات العم وبنات العمات ([57]) وبنات الأخوال وبنات الخالات، ويحرم من الرضاع نظير ما يحرم بالنسب من جهة المرضعة، ومن جهة زوجها الذي له اللبن، وأما من جهة الطفل الراضع فلا ينتشر التحريم في الرضاع إلا عليه وعلى ذريته.

وحرّم تعالى من الصهر أربعاً ثلاث بمجرد العقد وهن أمهات زوجاتك، وحلائل أولادك، وحلائل آبائك، وبنات الزوجات إذا دخل بأمهنَّ، فإن لم يدخل بها فلا جناح عليه في الربائب.

وحرّم تعالى الجمع بين الأخوات، وحرمت السنّة الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها، وحرم المملوكة على الحر إلا إذا عدم الطول وخاف العنت وهي مسلمة.

وحرّم على المسلم نكاح الكافرة والإمساك بعصمتها إلا المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى، وحرّم إنكاح المسلمة للكافر، وحرّم نكاح الزانية حتى تتوب، ومن طلقها ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره نكاحاً صحيحاً ويطأها ويطلقها وتنقضي عدتها.

وقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } [الأحزاب: 50] . صريح على أنَّه ليس للمؤمنين أن ينكحوا إلا بمهر مسمى أو مفروض بعد ذلك، وأنَّه إذا شرط نفيه لغى الشرط، وهل يبطل مع ذلك النكاح أو يجب مهر المثل مع صحة العقد. فيه قولان لأهل العلم، وهذا أيضاً يدل على تحريم نكاح الشغار بأن يزوج كلُّ واحد الآخر موليته، ومهر كلِّ واحدة بضع الأخرى.

وقد ذكر الله أنَّه لو تزوجها ولم يفرض لها صداقاً ثم يطلقها قبل المسيس، أنَّ لها المتعة على الموسع قدره وعلى المقتر قدره.

وأمَّا متعة الزوجة المطلقة في غير هذه المسألة فإنَّها سنّة مؤكدة كما قال تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } [البقرة] .

وقد ذكر الله خطاب الأولياء في شأن النساء في عدة مواضع، مثل قوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } [البقرة: 232] وذلك دليل على اعتبار الولي في النكاح، كما أنَّ قوله: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا غَلِيظًا } [النساء: 21] دليل على الإيجاب والقبول، لأنَّ من جملة الميثاق الغليظ إيجاب النكاح وقبوله المتضمن للقيام بجميع حقوق الزوجية ومنه المهر وتوابعه. وفي قوله: {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ } [البقرة: 232] دليل على اعتبار رضى الزوجين وأنَّ ذلك التراضي مقيد بالمعروف، فلو رضيت غير كفو لها فلأوليائها منعها من تزوجه.

وقد أمر الله الزوج إذا نشزت زوجته أن يعظها ويهجرها في المضجع، فإن لم تعتدل أن يضربها، وأنَّه إذا خيف الشقاق بينهما وخيف أن لا تقبل الحالة الالتئام أنْ يجتمع حكمان: واحد من أهل الزوج وواحد من أهل الزوجة، فينظران في الاجتماع بينهما إن أمكن بطريقة من الطرق، إما ببذل عوض أو إسقاط حق من الحقوق أو بغير ذلك، فلا يعدلا عن ذلك وإلا فلهما التفريق بينهما بخلع أو بتطليق بحسب ما تقتضيه الأحوال.

 أحكام الطلاق والخُلع والعِدَد والنفقة والرضاع والإيلاء والظهار واللعان وتوابع ذلك من الرجعة وغيرها

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [الطلاق: 1] الآية، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا (49)} [الأحزاب] ، {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } [البقرة: 228] إلى أن قال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ } [البقرة: 229] إلى أن قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } [البقرة: 230] ، {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [الطلاق: 4] ، وقال: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } [البقرة: 234] .

يستفاد من هذه الآيات أحكام كثيرة في الطلاق والرجعة والعدة. تقدم أنَّ الله حثّ على إمساك النساء والصبر عليهن، وأنَّه عسى أن يكون فيه خير كثير، وهذا يدل على محبة الله للاتفاق بين الزوجين وكراهته للفراق، وهذه الآيات دالة على إباحة الطلاق وهو من نعمه على عباده، إذ فيه دفع ضرر ومشاق كثيرة عند الاحتياج إليه.

ومَعَ ذلك فقد أمر عباده إذا أرادوا أن يطلقوا أن يلزموا الحدود الشرعية التي هي صلاح دينهم ودنياهم فيطلقونهن لعدتهن، فسرها صلى الله عليه وسلم بأنَّها تكون طاهرة من الحيض من غير جماع حصل بهذا الطهر، فبهذا تكون مطلقة لعدتها وتعرف أنَّها شرعت فيها، وكذلك إذا طلقت بعدما استبان حملها. وهذا يدل على أن الطلاق في الحيض أو في الطهر الذي حصل فيه وطء، ولم يستبن حملها أنَّه حرام، وكذلك لا يحل أن يطلقها أكثر من واحدة لقوله: {وَلا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } [البقرة: 231] ، ولم يذكر الله الألفاظ التي يحصل بها الطلاق ولم يعينها، فدل على أنَّه كلُّ لفظ يفهم منه الطلاق بصريحه أو كنايته إذا تعينت بالنية أو القرينة، فإنَّه يقع بها الطلاق.

ودلّ على أن الطلاق الذي تحصل به الرجعة طلقة أو طلقتان، فإن طلقها الثالثة لم تحل له إلا بعد زوج ينكحها نكاحاً صحيحاً ويطؤها، ثم يطلقها وتعتد بعده. وفي قوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا } [البقرة: 230] يدل على تحريم نكاح التحليل لأنَّه ليس بنكاح شرعي ولا يفيد الحل.

ودلّ قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } [البقرة: 228] على أنَّ الرجعية زوجة حكمها حكم الزوجات في كلِّ شيء، إلا أنَّه لا قَسْم لها، وأنَّه له رجعتها رضيت أو كرهت لكونه أحق بها.

واشترط الله للرجعة شروطاً:

أحدها: أن يكون في طلاق، فإن كان في فسخ من الفسوخ، فلا رجعة فيها لقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ } [البقرة: 228] .

الثاني: أن يكون الطلاق واحدة أو اثنتين لأنَّ قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ [البقرة: 229] يعني الذي يحصل به الرجعة، ثم صرح بعد ذلك أنَّه إن طلقها لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره.

الثالث: أن تكون في العدة لقوله: {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } [البقرة: 228] .

الرابع: أن لا يقصد برجعتها الإضرار بها، بل يقصد إرجاعها لزواجه الحقيقي.

الخامس: أن لا يقع الطلاق على عوض، فإن وقع على عوض فهو الخلع أو معناه، والله تعالى سمى الخلع فداء، فلو كان له عليها رجعة لم يحصل الفداء.

  السادس: أن لا يكون الطلاق قبل الدخول لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } [الأحزاب: 49] .

ودلت هذه الآية على أنَّ الطلاق لا يقع إلا بعد النكاح، فلو عَلَّقَهُ على نكاحه لها أو نَجَّزَهُ لأجنبية لم يقع.

ودلت على أنَّ المفارقة في الحياة لا عدة عليها، وأمَّا بعد الدخول فإن كانت تحيض فعدتها ثلاثة أقراء كاملة، تبتدي بها بعد الطلاق. وظاهر الآية طالت مدتها أو قصرت، فإن كانت صغيرة أو لم تحض، أو كانت آيسة من الحيض فعدتها ثلاثة أشهر، وإن كانت حاملاً فعدتها بوضع الحمل كلِّه، وإن أشكل أمرها فلم يُدْرَ هل هي حامل أم لا، بعدما كانت تحيض ولم تيأس مكثت تسعة أشهر احتياطاً للحمل، ثم اعتدت بثلاثة أشهر.

وأما المتوفى عنها فعدتها إن كانت حاملاً بوضع الحمل، وإن لم تكن حاملاً فبأربعة أشهر وعشر احتياطاً عن الحمل.

وفي قوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ } [البقرة: 240] فيها تنبيه على الإحداد على المتوفى عنها زوجها، وأنَّها تترك في وقت عدتها كلَّما يدعو إلى نكاحها من ثياب الجمال والحلي والطيب والكحل والحنا ونحوها، كما وردت مفصلة في السنّة.

وقوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ } [البقرة: 235] الآية. التعريض الذي نفى الله الحرج فيه في خطبة البائن بوفاة أو ثلاث أو فسخ. فالتصريح لا يحل والتعريض الذي يحتمل الخطبة ويحتمل غيرها لا بأس به، وأمَّا الرجعية فلا تحل خطبتها لا تصريحاً ولا تعريضاً لأنَّها في حكم الزوجات، وفي هذه الآية تحريم العقد على المعتدة، لأنَّه إذا حرمت خطبتها، فمن باب أولى نفس العقد فهو حرام غير منعقد.

وأما نفقة المطلقة ما دامت في العدة، فإن كانت رجعية فلها النفقة، لأنَّ الله جعلها زوجة وزوجها أحق بها، فلها ما للزوجات من النفقة والكسوة والمسكن.

وأما البائن فإن كانت حاملاً فلها النفقة لأجل حملها لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [الطلاق: 6] وإن لم تكن حاملاً، فليس لها نفقة واجبة ولا كسوة.

وأما نفقة الرضاع فهي على الأب؛ فإن كانت أمه في حبال أبيه فنفقة الزوجة تندرج فيها نفقة الرضاع لقوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } [البقرة: 233] فلم يوجب غيرها، وإن لم تكن في حباله، فعليه لها أجرة الرضاع لقوله: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [الطلاق: 6] وأمر تعالى أن {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ } [البقرة: 233] وهذا شامل لكلِّ ضرر.

وقوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } [البقرة: 233] . استدل بها على نفقة القريب المحتاج إذا كان وارثه غنياً وارثاً له، وهذا الشرط الأخير في غير الأصول والفروع، فالغني منهم عليه نفقة الفقير وارثاً كان أو غير وارث.

وقوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ } [البقرة: 229] فيه جواز الخلع عند خوف أن لا يقيما حدود الله، وأنَّه يجوز بالقليل والكثير، وأنَّه فدية لا يحسب من الطلاق، وليس فيه رجعة.

قوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 241] يشمل كلَّ مطلقة فينبغي لمن طلق زوجته أن يمتعها بالمتيسر من المال، وذلك من أفضل الإحسان، ومن مكارم الأخلاق لأنَّها في هذه الحال منكسر خاطرها، قليل في الغالب ما في يدها، ولا تجب إلا إذا طلقها قبل الدخول ولم يسم لها مهراً.

وقد أرشد الله الزوج إلى أن يمسك زوجته بمعروف أو يفارقها بمعروف، وذلك للسلامة من التبعة ولراحة الطرفين وبقاء الألفة بين الأصهار، وحصول الحياة الطيبة المانعة من الأكدار، فهل أحسن من هذا الحكم لقوم يوقنون.

واستدل بقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [البقرة: 233] مع قوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } [الأحقاف: 15] . أنَّ أقل مدة يمكن حياة الحمل فيها ستة أشهر، لأنَّك إذا ألقيت الحولين من الثلاثين شهراً بقي ستة أشهر للحمل.

قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) } [البقرة] . فيها حكم الإيلاء وهو حلف الزوج على ترك وطء زوجته أبداً، أو مدة تزيد على أربعة أشهر، فإذا طلبت الزوجة حقها من الوطء وامتنع لإيلائه ضَربت له مدة أربعة أشهر، ثم إمَّا أن يطأ ويكفّر عن يمينه، وإمَّا أن تلزمه بالطلاق.

ويؤخذ من معنى الآية أنَّ الزوج إذا امتنع مما يجب عليه من فراش، أو وطء، أو نفقة، أو كسوة، أو مسكن، أو نحوها من الواجبات التي لا عذر له في تركها، والحَّت في طلبها حقها أنَّ لها الفسخ.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } [النور: 6] الآيات. لما ذكر تعالى أنَّ من قذف غيره بالزنا، فعليه حد القذف ثمانون جلدة إن لم يأت بأربعة شهداء. استثنى من رمى زوجته بالزنا وأنكرت، فإن له أن يلاعنها بأن يشهد أربع شهادات إنَّه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنا، ويزيد في الخامسة وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم تقابله فتشهد أربع شهادات بالله إنَّه لمن الكاذبين فيما رماها به من الزنا، وتزيد في الخامسة وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. فإذا تم اللعان بينهما ترتب عليه سقوط حد القذف عنه وسقوط العذاب عنها وهو حد الزنا أو الحبس، وانتفى الولد المنفي بهذا اللعان وحصلت الفرقة المؤبدة بينهما.

قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } [المجادلة: 1] الآيات. ذكر الله حكم الظهار، وأنَّه منكر من القول وزور، وأنَّه إذا أراد أن يعود لوطئها بعد هذا التحريم بأن يحرمها صريحاً أو يقول: هي علي كظهر أمي أعتق رقبة مؤمنة من قبل أن يتماسا فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً.

 أحكام الأيمان والنذر والعتق

قال تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } [المائدة: 89] . فالحلف إن كان على أمر ماض وهو كذب قد تعمده صاحبه، فعليه من الإثم ما على الكاذبين، فإن كانت اليمين فاجرة يقتطع بها مال امرئ مسلم، فهي اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار، فإن كان يظن صدق نفسه أو وقعت في عرض كلام الرجل، كقوله: لا والله، بلى والله في معرض كلامه فهي لغو اليمين لا إثم فيها ولا كفارة، فإن عقدها على مستقبل وحنث بفعل ما حلف على تركه، أو ترك ما حلف على فعله عالماً ذاكراً فعليه هذه الكفارة، يخيّر بين العتق وإطعام عشرة مساكين وكسوتهم، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام.

ومثل الحلف لفظ التحريم إذا حرّم على نفسه شيئاً طعاماً أو شراباً أو لباساً أو منزلاً أو غيرها، فحكمه حكم اليمين إذا فعل ما حرّمه على نفسه، وهذا التحريم من باب الاعتداء كما ذكره الله.

وكذلك لو حلف بالنذر وهو النذر الذي يسميه العلماء نذر اللجاج والغضب، فإنَّ مجراه مجرى اليمين.

وأما النذر الحقيقي الذي ينجزه العبد، أو يعلقه على أمر يحبه وينذر طاعة من الطاعات كقوله: لله عليَّ أن أعتق أو أحج أو أتصدق، أو إن شفى الله مريضي فلله عليَّ صدقة بكذا. فيحصل له ما علقه عليه فهذا يتعين عليه الوفاء به وقد مدح الله الموفين بنذورهم.

وقوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) } [البلد] وكون الله ذكر العتق كفارة للظهار والقتل والأيمان. وقال تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } [النور: 33] دليل على فضيلة العتق، وأنَّه من أجلّ الطاعات وأحبها إلى الله.

وفيه الأمر بكتابة الرقيق الذي يُعلم فيه الخير، أي: صلاح في الدين وصلاح في الدنيا. وأما الذي يخشى منه الفساد أو يخشى أن يكون شحاذاً كلًّا على الناس، فليس في عتقه وكتابته كثير فائدة.

وفيه الحث على إعطاء المكاتبين ما يوفون به كتابتهم وأمر السيد أن يضع عنه أو يخفف عنه من كتابته.

 أحكام الحدود

جعل الله الحدود على الجرائم العظيمة حماية عنها وردعاً ونكالاً. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } [البقرة: 178] الآيات. {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } [المائدة: 45] الآية وقال تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً } [النساء: 92] الآية إلى أن قال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) } [النساء] .

قسّم الله القتل إلى عمد فيه الوعيد الشديد وفيه القصاص، فيخير أولياء الدم بين القصاص والعفو إلى الدية والعفو بلا شيء، فإذا اختاروا القصاص فعلوا بالقاتل كما فعل بالمقتول من غير زيادة في صفة القتل، ولا قتل لغير من جنى. قال تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ } [الإسراء: 33] أي: يتجاوز حقه إلى غيره. ولهذا لو لزم القود أنثى حاملاً لم تقتل حتى تضع. وشرط الله المكافأة في الحرية والرق، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه لا يقتل مسلم بكافر ([58]). وأمَّا الذكر فيقتل بالأنثى تقديماً لعموم قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } [المائدة: 45] على مفهوم قوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ } [البقرة: 178] ويؤيده قتله صلى الله عليه وسلم لليهودي الذي رض رأس الجارية بين حجرين حين اعترف ([59]). فيدل على قتل الرجل بالمرأة وعلى أنَّه يفعل بالقاتل كما فعل بالمقتول كما هو ظاهر الآية، لأنَّ القصاص أن يفعل بالجاني كما فعل بالمجني عليه، وكذلك الأطراف والجروح تجري مجرى النفس، يؤخذ كلُّ عضو بما يماثله اسماً ومحلاً.

فإن عفوا إلى الدية فعليهم الاتباع بالمعروف، وعلى المؤدي أن يؤدي بإحسان من غير مماطلة ولا مناقصة ولا بخس، وهذا الإرشاد الذي نبّه الله عباده عليه في جنس المعاملات أنَّ الناس ما بين طالب ومطلوب، فعلى الطالب أن يتبع بالمعروف والمساهلة والمياسرة، وعلى المطلوب أن يؤدي بإحسان يسلّم الحق تاماً لا نقص فيه ولا مطل، هو أكمل المعاملات وأشرفها وصاحب هذه المعاملة قد حاز الفضيلتين شرف الدنيا وأجر الآخرة.

والقسم الثاني: الخطأ، فهذا لم يجعل الله فيه قصاصاً ولا رتب عليه إثماً ووعيداً، وإنَّما أوجب فيه الكفارة على القاتل عتق رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فليصم شهرين متتابعين، ودية مسلّمة إلى أهل المقتول يسلمها عاقلة القاتل. وقد فصلت السُنّة مقادير ديات النفوس والأطراف والجروح.

 وقال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ } [المائدة: 33] . هذا حد قطّاع الطريق. من العلماء من قال: إنَّ الإمام مخيّر فيهم في هذه الأشياء يفعل ما يراه أصلح، ومن العلماء من قال: إنَّ هذه العقوبات متفاوتة في غلظها فهي تبع الجنايات، فمن قَتَلَ وأخذ مالاً قتل وصلب، ومن قتل ولم يأخذ مالاً قتل ولم يصلب، ومن أخذ مالاً ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، ومن أخاف السبيل نفي من الأرض وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما([60]) وهو أولى.

 وقال تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا (15) } [النساء] . وهذا السبيل الذي ذكره الله قد بينّه صلى الله عليه وسلم بأن المحصن يرجم حتى يموت، والبكر يجلد مائة ويغرب عاماً. وقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } [النور: 2] .

وقد شرط تعالى لثبوت هذا الحد أن يشهد فيه أربعة رجال عدول، والإقرار تنوب الأربع عن الأربعة.

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا } [النور: 4، 5] . الرمي المذكور هنا هو الرمي بالزنى، فعلى القاذف ثمانون جلدة وترد شهادته، إلا أن تاب بأن أكذب نفسه.

وقد أمر تعالى بقطع يد السارق والسارقة، وذلك إذا ثبتت السرقة ببيّنة أو إقرار.

قوله تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } [البقرة: 194] ، {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ } [النساء: 148] . استدل بذلك على القصاص في الأطراف والجروح وإتلاف الأموال واللطمة ونحوها، ومقابلة الشاتم بمثله من غير اعتداء.

 أحكام الأطعمة والأشربة والذبائح والصيد والضيافة والاستئذان والسلام

قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا } [البقرة: 29] ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ } [الأعراف: 32] ، {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } [المائدة: 96] . وقال في وصف النبي صلى الله عليه وسلم ووصف دينه: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } [الأعراف: 157] ،{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } [المائدة: 3] الآيات، إلى أن قال: {م يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } [المائدة: 4] ، {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } [الأنعام: 119] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا } [البقرة: 168] ، {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ } [الأنعام: 145] الآية {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [الأنعام: 143] الآيات.

هذه الآيات تدل على أنَّ الأصل في الأطعمة الحل، إلا ما صرح الشارع بتحريمه. وقد صرح بحل بهيمة الأنعام وبحل حيوانات البحر، صيده ما صيد حياً، وطعامه ما وجد فيه ميتاً، ولم يستثنِ شيئاً. وأحل صيود البر كلَّها، لأنَّه لم يحرمها إلا في الإحرام، وأحل الحبوب والثمار وجميع الطيبات، وشرط لحل حيوانات البر إن كان مقدوراً عليها أن تذكى، كما قال: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } [المائدة: 3] ، وذكر اسم الله عليه، وما عجز عنه برميه بما يجرح، أو إرسال الجوارح المعلمة عليه من الطيور والكلاب وشَرْطُ تعليمها بأن تسترسل إذا أرسلت، وتنزجر إذا زجرت وتمسك على صاحبها ولا تأكل منها، وبأن يذكر اسم الله عليها عند إرسالها، وحرم الميتة وهي ما مات حتف أنفه، أو بسبب لا يبيح؛ كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، وما أكل السبع إلا ما أدرك من هذه، وذكي ذكاة شرعية، وحرّم الخنزير، وحرّم النبي صلى الله عليه وسلم كلَّ ذي ناب من السباع وكلَّ ذي مخلب من الطير، وما نهى عن قتله أو أمر بقتله كالفواسق والحشرات وجميع المستخبثات وجميع ما فيه ضرر، فكلُّ ما أحله فهو نافع، ولم يحرم على العباد إلا ما يضرهم في أديانهم وأبدانهم وأعراضهم وعقولهم كالمسكرات ومع ذلك قال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ } [المائدة: 3] أي: مجاعة {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ } [المائدة: 3] أي: مائل إليه، بأن يتزود منها، أو يأكل فوق ما يزيل ضرورته. وحرم تعالى ما ذبح لغير الله.

وقال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) } [الذاريات] الآيات. فيها دلالة على أنَّ الضيافة من ملة إبراهيم التي أمرنا باتباعها، وأنَّ تمامها إكرام الضيف كما قال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» ([61]). وفيه أنَّه قرّب ضيافتهم إليهم ولم يحوجهم إلى الذهاب إلى محل آخر، وفيه العرض عليهم بلطف لقوله: {أَلَا تَأْكُلُونَ } [الصافات: 91] .

وقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } [النساء: 86] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } [النور: 27] . في هذا مشروعية السلام، وأنَّه من شعار المسلمين، وأنَّه ينبغي الابتداء بالسلام وأنَّ الراد عليه أن يقابل التحية بمثلها، أو أحسن منها قولاً وبشاشة وملاطفة، فإنَّ السلام والتحية تحسن بما يقترن بها من اللطف وحسن اللقاء والإيناس وإدخال السرور على أخيك المسلم.

وفيه الإرشاد لعباده أن لا يدخلوا بيوتاً غير بيوتهم إلا بإذن أهلها، فإن أذنوا وإلا وجب عليه الرجوع. وحرّم عليه التطفل والأكل والشرب من بيوت الناس بدون إذن، إلا من جرت عادتهم بالرضى بذلك كالذي استثنى الله بقوله: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ } [النور: 61] إلى آخرها.

ونهى عن الدخول إلا بإذن، إلا المماليك والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، حيث كانوا مترددين طوافين على الناس، فلهم الدخول بلا إذن إلا في أوقات العورات الثلاث، حين اليقظة من النوم ووقت النوم ووقت الظهيرة.

وقد أمر بالسلام عند دخول البيوت سواء كانت للإنسان أو لغيره فإنَّها تحية مباركة طيبة.

 أحكام متنوعة في الأصول والفروع والآداب

قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) } [الأنعام] . تدل الآية على النهي عن مجالسة أصحاب المعاصي والقعود معهم ما داموا على معصيتهم، وأنَّه يجب على من سمع الكلام المحرم أن يمنع صاحبه، فإن لم يتمكن من ذلك وجب عليه القيام من ذلك المجلس، وكذلك فاعل المحرم ولهذا أتى باللفظ العام في قوله: {الظَّالِمِينَ }.

قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } [الأنعام: 90] . دليل على أنَّ شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بنسخه، لأنَّ هداهم ما هم عليه من العقائد والأخلاق والأعمال.

قوله: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } [الأنعام: 108] . فيها سد الذرائع عن الأمور المحرمة، وأنَّ المباح أو المستحب إذا أفضى إلى مفسدة نهي عنه.

ويستدل بقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة: 185] ، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة: 286] وفي الأخرى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [الطلاق: 7] ، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج: 78] على أنَّ المشقة تجلب التيسير.

قوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ } [الأنعام: 152] ، {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } [الأعراف: 85] فيها وجوب النصح في المعاملات كلِّها، وتحريم البخس والغش فيها.

قوله: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } [هود: 41] ، وقوله: {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) } [الزخرف] . يدل على استحباب هذه الأذكار عند ركوب كلِّ مركوب من دابة، وسفينة ومراكب برية وبحرية وهوائية.

قوله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا } [يوسف: 26] الآية. يدل على اعتبار القرائن وشواهد الأحوال.

قوله: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [يوسف: 55] ، {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } [القصص: 26] . يدل على اعتبار الكفاءة والأمانات في الولايات والوظائف كلِّها بحسب ما يليق بالولاية، فإن لم يحصل الأكمل في هذه الصفات فالأمثل فيها.

وقوله: {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } [يوسف: 97] ، {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي } [إبراهيم: 40] ، { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [الأحقاف: 15] . يدل على الاجتهاد في الدعاء للوالدين والذرية وعلى طلب الدعاء من الوالدين والفضلاء.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) } [الحجر] . يدل على أنَّ التسبيح والتحميد والإكثار من ذكر الله، والاشتغال بعبادته مع ما فيه من الخيرات والأجور، أنَّها تشرح الصدر وتهون المشاق وتسلي عن المصائب.

قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) } [الضحى] ، {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) } [الشرح] . فيه الترغيب في إكرام اليتيم، والزجر عن الإساءة إليه، وفيه حسن الخلق مع السائل للمال والعلم، والتحدث بنعم الله مع نفسك، ومع الخلق، والاشتغال بعبادة الله عند الفراغ من الأشغال الدنيوية، وكثرة الرغبة إلى الله في جميع المطالب الدينية والدنيوية.

قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) } [النحل] ، { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } [الأعراف: 200] . فيه الحث على الاستعاذة بالله من الشيطان عند القراءة في الصلاة وخارجها، وعندما ينزغ الشيطان العبد ويحس بوساوسه التي تدور على التثبيط عن الخير والترغيب في الشر، فالاستعاذة بالله منه تدفع شره وكيده.

قوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا } [الكهف: 19] . تدل على صحة الوكالة والتوكل، وعلى المشاركة في الطعام وغيره، وعلى اختيار الطيب منه، وعلى الاحتراز عن الأمور الضارة، وعلى أنَّه ينبغي كتمان السر الذي تضر إذاعته ضرراً عاماً أو خاصاً.

قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) } [الكهف] . ينبغي للعبد أن يسترشد بهذه الوصايا النافعة، ولا يحكم على الأمور المستقبلة المتعلقة بفعله حتى يقرنها بمشيئة الله، وعند نسيانه مطلقاً يذكر الله ويرجوه الهداية كلَّ وقت لأرشد الأمور وأحبها إليه.

قوله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) } [الكهف] . ينبغي لمن أعجبه شيء مما أعطاه الله أن يقول ذلك لأنَّه اعتراف بالنعمة وحراسةٌ لها من كلِّ آفة.

يستفاد من قصة موسى مع الخضر أدب المتعلم مع المعلم، وأنَّ المفسدة الجزئية تغتفر في جانب المصلحة العظيمة، وأنَّ إفساد مال الغير إذا تضمن إصلاحه من وجه آخر أرجح من إفساده فإنَّه محمود، وأنَّ الرجل الصالح يحفظه الله في نفسه وذريته، وأنَّ كثيراً من الأمور الكريهة للعبد قد تكون خيراً وتجلب خيراً كثيراً وتدفع شراً كثيراً.

وفي بناء ذي القرنين للسد فيه أنَّه ينبغي إعانة الضعفاء ودفع شرور المعتدين بكلِّ وسيلة، وأنَّ ذلك من نعمة الله في حق الضعفاء وفي حق من أعانهم.

قوله: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا } [طه: 44] فيه استحباب اللين في خطاب الرؤساء والعظماء.

وفي قوله: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } [طه] . أدبُ طالب العلم، وأنَّه ينبغي له أن يتأنى في تدبره وتأمله للعلم ولا يستعجل بالحكم على الأشياء ولا يعجب بنفسه، ويسأل ربه العلم النافع والتسهيل.

قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا } [طه: 131] فيه أنَّه ينبغي للموفق أن لا ينظر إلى زينة الدنيا نظر المعجب المفتون، وأن يقنع برزق ربه، وأن يتعوض مما منع منه من الدنيا بزاد التقوى الذي هو عبادة الله واللهج بذكره.

قوله: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } [الأنبياء: 88] ينبغي لكلِّ مؤمن وقع في كربة وضيق أن يدعو بهذه الدعوة {إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [الأنبياء: 87] .

قوله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)  } [النور] . هذا إرشاد منه لعباده إذا سمعوا الأقوال القادحة في إخوانهم المؤمنين رجعوا إلى ما علموا من إيمانهم، وإلى ظاهر أحوالهم ولم يلتفتوا إلى أقوال القادحين، بل رجعوا إلى الأصل وأنكروا ما ينافيه.

{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) } [النور] هذا متعين على كلِّ مؤمن.

قوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ } [الفرقان: 27] الآيات، مع قوله: {ط الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) } [الزخرف] فيها التحذير من صحبة الأشرار والترغيب في صحبة الأخيار.

قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } [لقمان: 6] يدخل فيه كلُّ حديث يلهي العبد عن الخير من الغناء وغيره.

قوله: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا } [الأحزاب: 32] فيه أدب المرأة في خطاب الرجال الأجانب، أن لا تخشن الكلام ولا تلينه، بل تقول قولاً معروفاً.

قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) } [الأحزاب] فيه النهي عن أذية المؤمنين القولية والفعلية بغير استحقاق.

قوله: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [ص: 26] فيه ضابط ما يجب على الحكام والقضاة من الحكم بين الناس بالحق المتضمن لمعرفته وتنفيذه وعدم الميل واتباع الهوى.

قوله: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ } [ص: 44] فيه التخفيف عن الضعيف وعن الحبيب لله.

قوله: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [الزمر: 18] هذا الضابط في الواجب على مستمع القول أن يتبع أحسنه وهو الحق المأمور به.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [الحجرات: 1] إلى آخر السورة. فيها الإرشاد من الله لعباده أن يتأدبوا معه ومع رسوله بالخضوع والانقياد والطاعة، وأن لا يقدموا على ذلك شيئاً، وأن يخضعوا بالقول عند رسوله، وفيها الحث على التأني والتثبت والإصلاح بين المؤمنين بكلِّ وسيلة، والزجر عن السخرية وسوء الظن والغيبة والنميمة، والحث على معرفة الأنساب ومعرفة الاتصال بين الإنسان وبين غيره، وبيان حقيقة الإيمان وشهود منة الله على العبد بتوفيقه للإيمان.

قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) } [الواقعة] أي: منعهم الترف من أداء الواجبات، وكانوا يصرون على عظائم المنكرات، فلذلك استحقوا هذه العقوبات.

يستدل بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) } [الصف] وما بعدها، على أن من تكلم بالحق وعمل بخلافه أنَّه ممقوت مذموم، وأنَّ الحمد والعواقب الحميدة لمن توافق ظاهره وباطنه وأقواله وأفعاله.

قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16] . تدل على أنَّه لا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة.

ويستدل بقصة أصحاب الجنة وما عاقبهم الله به على التحذير من التشبه بهم، والترغيب في الإحسان عند الحصاد والجذاذ على الفقراء والمساكين.

قوله: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) } [الأعلى] مفهوم الآية أنَّه إذا ترتب على التذكير مضرة أرجح، ترك التذكير خوف وقوع المنكر.

قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة] والآيات الشبيهة بها فيها الحث على فعل الخير وإن قلّ، والتحذير من قليل الشر وكثيره.

قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) } [الإخلاص: 1] ، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) } [الفلق] ، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) } [الناس] إلى آخر السور الثلاث صَدَّرَ كلاً منها بالأمر بقول ما تضمنته كلُّ سورة. ففي {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) } أمر بقول التوحيد، وكلِّ ما دل على الثناء على الله، ووصفه بصفات الكمال وتنزيهه عن ضدها. وفي السورتين الأخيرتين أمر باللجأ إليه من جميع الشرور الداخلية والخارجية والظاهرة والباطنة والله أعلم.

وقد ذكر الله القرعة في موضعين حين تنازعوا في مريم أيهم يكفلها، وحين تساهم يونس ومن معه أيهم يلقى في اليم. فيدل على استعمال القرعة عند إبهام المستحق، وعند التزاحم في الحق إذا لم يكن لأحدهما مزية ترجيح ولا تمكن المشاركة. وأما قرعة الميسر والرهان ففي غير ذلك من مواضع الخطر، مثل أن يعرف أنَّ الشيء مشترك بينهما فيريدان أن يقترعا عليه فهذا الذي لا يحل لأنَّه ميسر ظاهر.

قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } [البقرة: 151] ولم يقل في موضع واحد أنَّه يخبر أو يُعَلّم ما يُعْلَمُ خلافه، بُرْهان على أنَّه صلى الله عليه وسلم لا يأتي بما تحيله العقول، ولا بأمر يعلم يقيناً نقيضه وهذا أحد براهين الرسالة.

قوله: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ } [الشورى: 16] الآية. فيها أكبر برهان على أنَّ من آمن بالله ورسوله إيماناً تاماً، وعلم مراد الرسول صلى الله عليه وسلم قطعاً، تيقّن ثبوت جميع ما أخبر به، وعلم أنَّ ما عارض ذلك فهو باطل، وأنَّه ليس بعد الحق إلا الضلال. فهذا الإيمان التام والعلم القطعي الإجمالي يدفع كلَّ باطل ناقضه، فإن اهتدى بعد ذلك لتفصيل رد الشبه الباطلة وإلا كفاه هذا الأصل.

وقد أخبر في عدة آيات أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ البلاغ المبين، وذلك يفيد أنَّ كلامه فيه الهدى التام، وأنَّه يستحيل أن يريد بكلامه غير ما يفهمه الناس ويتبادر إلى أذهانهم منه، ويمتنع أن يريد به الاحتمالات البعيدة، لأنَّ هذا ينافي ما وصفه الله به، فإنَّه أعلم الخلق وأنصحهم وأفصحهم، فمن قدح في شيء من بيانه فهو قادح به، إذ هذا يوجب أن يكون بيانه للحق أكمل من بيان كلِّ أحد.

قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } [الأحزاب: 4] فيها أنَّ جميع المسائل الأصولية والفروعية قد قالها الله وبيّنها بالأدلة والبراهين. فقوله: {الْحَقَّ } بيانه للمسائل، وهدايته السبيل إرشاده للدلائل.

قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } [البقرة: 213] فيه أصرح الدلالة على أنَّ جميع مسائل الاختلاف بين الناس يتعين ردها إلى الكتاب، وأنَّ فيه حَلَّها وحكمَها، وأنَّ غير الكتاب لا يفصل النزاع ولا يحل الخلاف، لا عقل، ولا قياس، ولا رأي أحد من الخلق كائناً ما كان.

قوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ } [آل عمران: 73] ونحوها من الآيات. تدل على أنَّ من طلب الهدى والرشد من غير الكتاب والسنّة ضلّ، لأنَّ الهدى محصور في هدى الله الذي أرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم.

***

هذا

آخر ما وُجِدَ في المخطوطة،

 ولـعـل الـمـصـنـف ـ رحـمـه الله ـ

 لم يذكر خاتمةً للكتاب ـ كما هي عادته ـ

 على اعتبار أنَّه قد يضيف شيئاً من الفوائد المتفرقة

 المندرجة تحت العنوان السابق «أحكام متنوعة» والله أعلم،

 وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.



[1]- وقد فعل ذلك رحمه الله حيث ألف كتابه «تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن» وهو مطبوع متداول.

[2]- وقد كان لدى الشيخ رحمه الله اتجاه إلى إفراد علم التوحيد وعلم الأخلاق في رسالة مستقلة، حيث كلف أحد تلاميذه بنسخ ما يتعلق بهما من هذه الرسالة، وكتب لها مقدمة خاصة، قال فيها: «... وأجل ما احتوى عليه [أي: القرآن] علم التوحيد وأصول العقائد وعلم الأخلاق التي لا صلاح ولا فلاح ولا نجاح للخلق إلا بها... لهذا جعلت هذه الرسالة خاصة في هذين النوعين من علوم القرآن، إذ بإصلاح العقائد والأخلاق تصلح الأمور كلُّها» غير أنَّه لم يُنسخ من هذه المخطوطة إلا جزءٌ كبيرٌ من القسم المتعلق بالتوحيد فحسب، فجاءت في (42) صفحة، فرغ من نسخها في 1367هـ، وهي محفوظة لدى أبناء الشيخ حفظهم الله باسم «بستان الموقنين وقرة عيون المؤمنين» كما هو مثبت في غلافها بخط المصنف نفسه، وعليها تصويبات بخطه رحمه الله، أما الذي قام بنسخها بتكليف من المصنف فهو الشيخ عبد العزيز بن صالح الدامغ، ـ حفظه الله ـ كما أفادني بذلك الأستاذ مساعد بن عبد الله السعدي وفقه الله، ثم عثرنا على نسخة ثالثة للكتاب تقع في (48) صفحة، بخط الشيخ عبد العزيز بن صالح الدامغ، فرغ من نسخها في 18/1/1367هـ، وكان الاتجاه فيها إلى أفراد النوع الأول فقط، المتعلق بالاعتقاد والتوحيد، وقد كتب لها ـ رحمه الله ـ مقدمة خاصة قال فيها: «أما بعد: فهذه رسالة في علم التوحيد وأصول الدين وعقائد[هـ] سهلة الألفاظ جليلة المعاني جمعت فيها من غرر هذا العلم ونكته أصولاً جمة وفوائد مهمة يحتاجها، بل يضطر إليها المبتدي والمتوسط والمنتهي، استخلصتها من كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وما أجمع عليه أئمة السلف المعتبرون...» وجعلها بعنوان «فتح الرب الحميد في علم العقائد وأصول التوحيد»، كما هو مثبت على غلافها بخط المصنف نفسه رحمه الله تعالى.

[3]- رواه البخاري (رقم: 2736)، ومسلم (رقم: 2677).

[4]- وممن قال بذلك ابن مندة في كتابه التوحيد (2/21).

[5]- رواه ابن جرير في تفسيره (1/54).

[6]- أي: قام بتدبير أمورهم، وتصريف شؤونهم.

[7]- وهي تبلغ عشرين قولاً جمعها السيوطي في كتابه «الدر المنظم في الاسم الأعظم» وكثير منها ظاهر ضعفه لعدم قيام دليل صحيح صريح على صحته وثبوته.

[8]- وممن ذهب إلى ذلك سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، ففي تعليقٍ له على كتاب فقه الأدعية والأذكار (ص155)، قال: «والصواب أنَّ الأعظم بمعنى العظيم، وأنَّ أسماء الله سبحانه كلّها حسنى، وكلّها عظيمة، ومن سأل الله سبحانه بشيء منها صادقاً مخلصاً سالماً من الموانع رُجيت إجابته، ويدل على ذلك اختلاف الأحاديث الواردة في ذلك، ولأنَّ المعنى يقتضي ذلك، فكلُّ أسمائه حسنى، وكلّها عظمى عز وجل، والله ولي التوفيق» اهـ.

[9]- حديث رواه مسلم في صحيحه (رقم: 2999).

[10]- رواه مسلم (رقم: 2577)،

[11]- ما بين المعكوفتين زيادة من النسخة الثالثة، وهي ملحقة بخط الشيخ ابن سعدي رحمه الله.

[12]- القائل لهذا البيت هو نفيل بن حبيب، قاله حين رأى ما أنزل الله عز وجل من نقمته بأبرهة ومَنْ معه حينما قصدوا هدم البيت الحرام.

انظر: تفسير الطبري (15/303)، ولفظه فيه: «والأشرم المغلوب».

[13]- أوردها صاحب الكشاف (1/57) ولم ينسبها لقائل.

[14]- الديجور: الظلام. معجم مقاييس اللغة لابن فارس (2/329).

[15]- وانظر أمثلة نفيسة جداً لهذا المعنى في كتاب «المواهب الربانية من الآيات القرآنية» للمؤلف رحمه الله (ص: 70 وما بعدها).

[16]- رواه أحمد (2/376)، وأبو داود (رقم: 4090)، وابن ماجه (4174)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم: 541).

[17]- رواه ابن جرير في تفسيره (12/25).

[18]- رواه مسلم في صحيحه (رقم: 222).

[19]- رواه البخاري (رقم: 6446) ومسلم (رقم: 1051).

[20]- رواه أحمد: (4/177)، والترمذي (رقم: 3525)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم: 1536).

[21]- رواه البخاري (رقم: 6502).

[22]- رواه مسلم (رقم: 2804).

[23]- تقدم ص50.

[24]- رواه أحمد (1/293)، والترمذي (رقم: 2516).

[25]- كذا في الأصل ولعلها «إلى حالة أعلى من ذلك».

[26]- رواه مسلم (رقم: 2713). وهو في أذكار النوم.

[27]- ما بين المعكوفتين زيادة يقتضيها السياق.

[28]- رواه مسلم (رقم: 763).

[29]- رواه البخاري (رقم: 2475)، ومسلم (رقم: 57).

[30]- جزء من حديث «قنوت الوتر» رواه الإمام أحمد (1/200)، وغيره.

[31]- كما في صحيح مسلم (برقم: 181) من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه.

[32]- حديث الشفاعة الطويل الذي أورد معناه المصنف رواه البخاري (رقم: 7410)، ومسلم (رقم: 193).

[33]- انظر القاعدة الثامنة والعشرين من كتاب المصنف «القواعد الحسان المتعلقة بتفسير القرآن» ص60.

[34]- إلى هنا انتهى المنسوخ في «بستان العارفين..» وجاء في خاتمته «.. وأنَّه كتب في اللوح المحفوظ جميع الحوادث بمواقيتها بحكمته وقدرته، وأنَّ أعمال العباد مع أنَّهم فاعلون لها حقيقة فإنَّها داخلة في قضائه وقدره، فالله خالقهم وخالق جميع صفاتهم، وخالق السبب التام خالقٌ للمسبب، فلا يجبرهم عليها بل وقعت بإرادتهم وقدرتهم، وهم الذين عملوها واستحقوا جزاءها من خير وشر، والله أعلم وصلى الله على محمد وسلم».

وإلى هنا ـ كذلك ـ انتهت النسخة التي بعنوان: «فتح الرب الحميد..».

[35]- رواه البخاري (رقم: 7553)، ومسلم (رقم: 2751).

[36]- في الأصل {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ} الآية، والصواب المثبت، والشاهد من الآية هو قوله تعالى: {{كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ}} حيث إنَّ فيها ذكرَ وعد الله السابق لنبيه صلّى الله عليه وسلّم بأن تكون غنائمُ خيبر خاصة بمن شهد معه الحديبية.

[37]- انظر كتاب المصنف «الدلائل القرآنية في أنَّ العلوم والأعمال النافعة العصرية داخلة في الدين الإسلامي».

[38]- ولو رأى ـ رحمه الله ـ وقتنا هذا فما عساه قائل؟! نسأل الله العافية واللطف.

[39]- رواه مسلم (رقم: 55).

[40]- كما ثبت ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المخرج في صحيح البخاري (رقم: 99).

[41]- حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رواه البخاري (رقم: 1423).

[42]- في القاموس المحيط (310): «استمحته: سألته العطاء».

[43]- لعل العبارة: «الذي تُوكِّل عليه فيه».

[44]- كما في حديث تميم بن أوس الداري رضي الله عنه المخرج في صحيح مسلم (رقم: 55).

[45]- ما بين المعكوفتين زيادة يقتضيها السياق.

[46]- كذا في الأصل، ولعلها: «والعلوم النافعة هي...».

[47]- في الأصل بعد والله أعلم زيادة «والعلوم الضارة كالسحر ونحوها مما هو ضرر محض»، وهي جملة غير تامة.

[48]- لما أنهى المصنف رحمه الله كتابة ما كتبه في هذا النوع أعاد نسخه مرة أخرى مع تحرير جديد للصياغة وتغيير في الترتيب والتنظيم وحذف لما يمكن الاستغناء عنه، ولهذا اعتمدت هنا على نسخه الأخير، ولم أر حاجة إلى مقابلته مع النسخ الأول للفروقات الكبيرة بينهما.

[49]- أخرجه النسائي (رقم: 957)، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي.

[50]- في النسخة الأولى: «المان».

[51]- أخرجه مسلم (رقم: 1297).

[52]- في النسخة الأولى: «فصار دراهم بدراهم والربح ذلك النفع».

[53]- أخرجه الترمذي (رقم: 1345)، وابن ماجه (2368)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي.

[54]- أخرجه البخاري (رقم: 304)، ومسلم (رقم: 79).

[55]- أخرجه مسلم (رقم: 1615).

[56]- أخرجه البخاري (رقم: 5090)، ومسلم (رقم: 1466).

[57]- في الأصل: «الأعمام».

[58]- رواه البخاري (111).

[59]- رواه البخاري (2413) ومسلم (1672).

[60]- انظر تفسير ابن جرير الطبري (4/213).

[61]- أخرجه البخاري (رقم: 6018)، ومسلم (رقم: 47).