الوصف المفصل
التلبية بالتوحيد
إن أوّل ما يبدأ به المسلم من أعمال حجّه هو الإهلال بالتوحيد، مُعلنًا من خلال كلمات التلبية العظيمة توحيده لله وحده ونبذه للشرك والتنديد، ثم يمضي - راشدًا على البيت العتيق يردِّدُ تلك الكلمات "لبيك اللهمّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" وهو عالم بما دلّت عليه من الإخلاص والتوحيد ووجوب إفرادِ الله وحده بالعبادةِ والبعدِ عن اتخاذِ الشركاء مع الله، مستشعر لذلك مستحضر له، مقرٌّ بأنَّ ربه سبحانه المتفردَ بالنِّعمة والعطاء والهبة والنَّعماء لا شريك له هو المتفرِّد بالتوحيد لا ندَّ له ؛ ولذا فإنَّ الملبي بهذه الكلمات حقّاً وصدقاً لا يدعو إلا الله، ولا يستغيث إلا بالله، ولا يتوكّل إلا على الله، ولا يذبح ولا ينذر إلا لله ولا يصرف شيئا من العبادة إلا لله. وهذا أصل عظيم وأساس متين يجب أن تبنى عليه كلُّ طاعة يتقرب بها العبدُ إلى الله عزّ وجل، الحجُّ وغيره ولذا قال الله تعالى في سورة الحج: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 27- 31].
فحذَّر - سبحانه - في هذا السياق المبارك من الشرك وأمر باجتنابه وبيَّن قبحَه وسوءَ عاقبته، وأنَّ فاعله كأنما خرَّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الرِّيح في مكان سحيق، ولذا فإن نعمة الله علينا - أمّة الإسلام - عظيمة ومنته كبيرة أن هدانا لتوحيده، ووفقنا لهذا الإهلال العظيم بالإخلاص والتوحيد والبراءة من الشرك والتنديد، بعد أن كان أهل الشرك يُهلُّون باتخاذ الأنداد والشركاء مع أنهم مقرّون بأن الخالق لهم هو الله وحده وأنه المالك لكل شيء، وأنه وحده مولي النعمة ومسديها. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم رحمه الله " ليس أحد يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمن بالله، ويعرف أن الله ربه، وأن الله خالقه ورازقه وهو يشرك به، ألا ترى كيف قال إبراهيم: {أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ، أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75- 77]، قد عرَف أنهم يعبدون رب العالمين مع ما يعبدون.
قال: فليس أحد يشرك إلا وهو يؤمن به، ألا ترى كيف كانت العرب تلبي، تقول: "لبيك لا شريك له إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك، المشركون كانوا يقولون هذا"؛ روه ابن جرير الطبري في "تفسيره".
وفي "صحيح مسلم" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، قال: فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ويلكم قد قد"؛ أي: تفي، فيقولون: إلا شريكًا هو لك تملكه ومن ملك، يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت".
فهذه حال أهل الشرك والتنديد في تلبيتهم؛ حيث يُدْخِلون مع الله في التلبية الشركاءَ والأندادَ، ويجعلون ملكها بيده ويقرُّون بأنها لا تملك شيئًا، وهذا ضلال مبين - عافى الله أمّة الإسلام منه وهداهم إلى الإهلال بالتوحيد بتلك الكلمات النيِّرات: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".
وقوله: "إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" متضمّن جملة من البراهين العظيمة على وجوب توحيد الله وإخلاص العبادة له، والإقبال عليه وحده بالذل والخضوع، والرغبة والرهبة والركوع والسجود، والخوف والرجاء وسائر أنواع العبادة، وتتلخص هذه البراهين في أمور خمسة:
الأول: أن الحمد كله لله سبحانه، فهو - تبارك وتعالى - الحميد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، المستحقّ لكل حمد ومحبة وثناء لما اتصف به من صفات الحمد التي هي صفات الجمال والجلال، ولما أنعم به على خلقه من النعم الجزال، فهو المحمود على كل حال، وهو سبحانه حميد من جميع الوجوه؛ لأن جميع أسمائه حمد، وصفاته حمد، وأفعاله حمد وأحكامه حمد، وفضله وإحسانه إلى عباده حمد، والخلق والأمر إنما قام بحمد، ووجِد بحمده، وظهر بحمده، وكانت الغاية منه هي حمده، وقد نبَّه الله سبحانه على شمول حمده لخلقه وأمره بأن حمد نفسه في أول الخلق وآخره، وعند الأمر والشرع، وحمد نفسه على ربوبيته للعالمين، وحمد نفسه على تفرده بالإلهية وعلى حياته، وحمد نفسه على امتناع اتصافه بما لا يليق به من اتخاذ الولد والشريك إلى غير ذلك من أنواع ما حمد الله به نفسه في كتابه، وكلُّ ذلك برهان جليٌّ على أنه وحده المعبود بحقٍّ ولا معبودَ بحقٍّ سواه: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 65].
الثاني: أنّ النعمة كلها لله؛ لهذا عرَّفها باللام المفيدة للاستغراق أي: النعمُ كلها لك يا الله أنت موليها ومسديها والمنعم بها {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} [النحل: 53]، ونعمه سبحانه على عباده لا حصر لها ولا عد؛ من جزيل المواهب، وسعة العطايا، وكريم الأيادي، وسعة رحمته لهم، وبرّه ولطفه، وإجابته لدعوات المضطرين، وكشف كربات المكروبين، وإغاثة الملهوفين، وأعظم ذلك هدايته خاصته من عبادة إلى سبيل دار السلام، ومدافعته عنهم أحسن الدفاع، إلى غير ذلك من نعمه وعطاياه. أفيليق بأن يُجعل مع من هذا فضله ومنّه شريكٌ {وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِل-هَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ * وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ} [النحل: 51- 56].
الثالث: أن الملك كله لله، لا مالك إلا هو، وجميع الأشياء هو المالك لها، المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة، وفي هذا إثبات لكمال قوّته وعزّته وقدرته، وأنّ علمه محيط بكل شيء وأن مشيئته نافذة، وقدرته شاملة،وحكمته واسعة، وأنّ له الحكم العام للعالم العلوي والسفلي، والحكم العام في الدنيا والآخرة، وأنه المتصرِّف في ملكه بما يشاء تصرف ملك قادر قاهر عادل رحيم حكيم خبير تام الملك لا ينازعه في ملكه منازع، ولا يعارضه فيه معارض، وهذا من براهين وجوب توحيده، كما قال سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر: 6]، وقال سبحانه: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 11]، أما من سوى الله فلا يملك لنفسه نفعًا أو ضرًّا ولا حياةً ولا موتًا ولا نشورًا، فضلاً عن أن يملك شيئًا من ذلك لغيره {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة: 76]، {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ} [سبأ: 22].
الرابع: أن هذه التلبية متضمّنة للإخبار عن اجتماع الملك والنعمة والحمد لله - عزّ وجل -، وهذا نوعٌ آخر من الثناء عليه، غير الثناء بمفردات تلك الأوصاف العليّة، فله سبحانه من أوصافه العلى نوعا ثناء: نوعٌ متعلّق بكل صفةٍ صفةٍ على انفرادها، ونوعٌ متعلّق باجتماعها، وهو كمال مع كمال وهو عامة الكمال، والله سبحانه يفرِّق في صفاته بين الملك والحمد، وسوغ هذا المعنى أن اقتران أحدهما بالآخر من أعظم الكمال، والملك وحده كمال، والحمد كمال، واقتران أحدهما بالآخر كمال، فإذا اجتمع الملك المتضمن للقدرة، مع النعمة المتضمنة لغاية النفع والإحسان والرّحمة، مع الحمد المتضمن لعامة الجلال والإكرام الدّاعي إلي محبته، كان في ذلك من العظمة والكمال والجلال ما هو أولى به وهو أهله، وكان في ذكر العبد له ومعرفته به من انجذاب قلبه إلى الله وإقباله عليه والتوجه بدواعي المحبة كلها إليه ما هو مقصود العبودية ولبّها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"؛ قاله ابن القيم - رحمه الله - في كتابه "تهذيب السنن" (2/ 339).
الخامس: في قوله: "لا شريك له" وقد تكرّرت في التلبية مرَّتين، مرة عقب إجابته بقوله "لبيك"، ومرة عقب قوله: "إنّ الحمد والنعمة لك والملك" فالأول يتضمّن أنه لا شريك له في إجابة هذه الدّعوة، والثاني يتضمّن أنه لا شريك له في الحمد والنعمة والملك، وإذا تقرّر أن الحمد كله من الله، والنعمة كلها من الله، والملك كله له، ليس له شريك في ذلك بوجه من الوجوه فليُفرد وحده بالتلبية والخضوع والمحبّة والانقياد والطاعة والإذعان، وكيف يُجعل مع الله شريكًا في العبادة من لا يملك في هذا الكون من قطمير، وليس له مع الله شركة في الملك، ولا يملك نفعًا ولا دفعًا، وليس بيده عطاءٌ ولا منعٌ، تعالى الله عما يشركون؛ بل إنّ الأمر كله لله لا شريك له وهذا من أبْيَن ما يكون من دلالةٍ على فساد الشرك، وأنّ أهله من أسفه الناس وأضلهم عن سواء السبيل.
فهذه خمسة دلائل عظيمة وبراهين جليلة على وجوب التوحيد والإخلاص اشتملت عليها كلمات التلبية وأرشدت إليها بوضوح وجلاء.
وقد قال الصحابي الجليل جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - كما في "صحيح مسلم" عندما وصف حجّة النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "فأهلَّ بالتوحيد، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"، فوصف - رضي الله عنه - هذا الإهلال بأنه إهلالٌ بالتوحيد لما تضمَّنته كلمات التلبية من تحقيق الإخلاص، ونَبذ الشرك، وإقامة الحُجَّة والبرهان على ذلك، وفي هذا أيضًا دلالة على أن هذه الكلمات ليست ألفاظًا مجرّدة لا تدلُّ على معانٍ؛ بل لها معنى عظيم، ومدلول جليل، ألا وهو روح الدِّين وأساسه وأصله الذي عليه يُبنَى توحيد الله - عزّ وجل -.
ولهذا فإن الواجب على كل من أهلَّ بهذه الكلمات أن يعرف ما دلَّت عليه من معنى، وأن يستحضر ما تضمّنته من دلالة وأن يحقِّق ذلك، ليكون صادقًا في إهلاله، موافقًا كلامُه حقيقةَ حاله؛ بحيث يكون مستمسكًا بالتوحيد، محافظًا عليه مراعيًا لحقوقه، مجانبًا لنواقضه وما يضاده من الشرك بالله، حذِرًا تمام الحذر من الوقوع فيه، أو في شيء من أسبابه ووسائله وطرقه؛ إذ هو أعظم ذنب وأكبر جُرْم.
أجارنا الله جميعًا من الشرك، وحمانا من وسائله وذرائعه ورزقنا التوحيد والإخلاص، إنه سبحانه سميع الدعاء وهو أهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.