الوصف المفصل
الدرة في سنن الفطرة
جمع الفقير إلى الله تعالى
عبد الله بن جار الله الجار الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي فطر عباده على معرفته ومحبته، وفطرهم على محبة الخير وكراهة الشر ومحبة النافع وكراهة الضار وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ﷺ وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فقد قال الله تعالى: ]فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ[ [الروم: 30] فأمر تعالى بالاستقامة على الدين القيم وهو دين الإسلام (حَنِيفًا) أي مقبلا على الله معرضا عما سواه وهذه الاستقامة على هذا الدين (فِطْرَةَ اللهِ) أي دين الله الذي خلق الخلق من أجله وجعلهم مفطورين على محبته ولهذا قال: ]لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ[ أي المستقيم الموصل إلى جنات النعيم لمن استقام عليه وعمل بما فيه ]وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ[ ما أعد لمن استقام على هذه الفطرة فعمل بها من النعيم المقيم في جنات النعيم ولا يعلمون ما أعد لمن انحرف عنها من العذاب والنكال فهم في غيهم يعمهون وقال النبي ﷺ «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» رواه البخاري ومسلم فكل مولود في الوجود لو ترك وشأنه لصار مسلما ولكنه يتأثر بالبيئة التي يعيش فيها ويدين بدين والديه وقال النبي ﷺ «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية والسواك، واستنشاق الماء وقص الأظافر وغسل البراجم (عقد الأصابع) ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء (الاستنجاء)» قال الراوي: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة ([1]) قلت، ولعلها الختان كما في الحديث المتفق عليه «خمس من الفطرة..» وبدأ به قال ابن حجر في فتح الباري (10/ 337) والفطرة السنة القديمة التي اختارها الأنبياء واتفقت عليها الشرائع.
وقال ابن القيم رحمه الله: الفطرة فطرتان: فطرة تتعلق بالقلب وهي معرفة الله ومحبته وإيثاره على ما سواه، وفطرة عملية وهي هذه الخصال، فالأولى تزكي الروح وتطهر القلب، والثانية تطهر البدن وكل منهما تمد الأخرى وتقويها([2]).
قلت: ونظرًا لانحراف كثير من الناس عن هذه الفطرة -هداهم الله- وأخذ بنواصيهم إلى الحق حيث قلدوا أمم الشرق والغرب فحلقوا لحاهم وأطالوا شواربهم وأسبلوا ثيابهم وأطالوا أظافرهم وأعرضوا عن سنة نبيهم ﷺ لذا جمعت هذه الرسالة في مشروعية المحافظة على خصال الفطرة والالتزام بها طاعة لله ورسوله وهي مستفادة من كلام الله تعالى وكلام رسوله ﷺ وكلام المحققين من أهل العلم أسأل الله تعالى أن ينفع بها وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1- ثلاثة فوائد من حديث الفطرة
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ «ليلة أسري به أتي بإناءين في أحدهما لبن، وفي الآخر خمر، فقال اشرب أيهما شئت فأخذ اللبن فشربه فقيل: أخذت الفطرة أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك».
وفي لفظ: الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك، وفي لفظ: «أصبت أصاب الله بك أمتك على الفطرة» ([3]).
وهذا الحديث مدار موضوعنا هذا، فقد بين فيه النبي ﷺ ثلاث فوائد:
الأولى: أن الإنسان مفطور على أشياء كثيرة، ركب عليها، وهي ما يسمى بـ الفطرة، فالفطرة هي ما جبل عليه الإنسان في أصل الخلقة من الأشياء الظاهرة والباطنة تلك الأشياء التي هي من مقتضى الإنسانية والتي يكون الخروج عنها أو الإخلال بها ، خروجا عن الإنسانية أو إخلالا بها.
وهذا المعنى يفهم من كلام كثير من الأئمة كابن القيم، وابن حجر، وابن دقيق العيد، والسيوطي، وغيرهم من المحدثين، والمفسرين.
يقول ابن القيم رحمه الله: «والفطرة فطرتان: فطرة تتعلق بالقلب، وهي معرفة، الله ومحبته، وإيثاره على ما سواه وفطرة عملية، وهي هذه الخصال (يعني المذكورة في حديث الفطرة خمس..) فالأولى تزكي الروح، وتطهر القلب، والثانية تطهر البدن...».
الثانية: أن الرسالات السماوية جاءت موافقة للفطرة مؤيدة لها، منطلقة منها، ولذلك كان الإسلام دين الفطرة قال تعالى: ]فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ[ [الروم: 30].
ويعبر عن ذلك في الحديث شربه ﷺ للبن، فهو عبارة عن الإشباع الصحيح، والمنهج المنسجم مع الفطرة ، وفي اللبن من الغذاء والصحة واللذة، والغناء، عن غيره ما فيه حتى قال فيه ﷺ في حديث ابن عباس: «إنه ليس شيء يجزي مكان الطعام أو الشراب غير اللبن» ([4]).
الثالثة: أن ثمة وسائل أخرى يمكن أن يسلكها الإنسان وهي معارضة للفطرة مخالفة لها، ويمثلها الخمر في الحديث فهو رمز عن الإشباع المنحرف وسلوك الطريق المصادمة للفطرة وفي الخمر من الخبث والطيش والرجسية ما فيها فهي تغتال العقول والأموال، والأديان والأبدان.
2- الفطرة الإنسانية
الإنسان مفطور على أشياء كثيرة:
مفطور على حب الحياة، والتعلق بالبقاء، ولذلك تجد أن الطفل مثلا وهو صبي لا يعقل لو هددته بأن تسقطه من فوق جدار أو تسقطه في بئر، أو ترمي به من سيارة فإنه يرتعد ويبكي خوفا من الموت والفناء. وهذه فطرة لا يحتاج الطفل إلى تعلمها، بل هي مخلوقة معه، وكثيرا ما تتحدث الإحصائيات عن نسبة الانتحار في العالم، لأنه يعتبرون الانتحار تصرفا شاذان يدل على انحراف في تربية هذا المجتمع أو ذاك.
فالإنسان مفطور على العبودية بطبيعته ضعيف يحتاج إلى أن يتوجه إلى معبود يسد فقره أيا كان هذا المعبود، سواء كان بحق أو بباطل.
مفطور على حب الوطن، وحب الأرض التي نشأ فيها.
ومن الفطرة أن كلا الجنسين الذكر والأنثى يميل إلى الآخر بطبيعته.
ومن الفطرة أن الإنسان يميل إلى التستر، وألا ينكشف أو يتعرى أمام الناس، ولذلك يصف المتحدثون عن المجتمعات البدائية المتخلفة هذه المجتمعات بأنها مجتمعات عارية، ليس فيها حجاب ولا لباس.
والطفل منذ صغره يحس شيئا فشيئًا بالخجل من ظهور سوءته أمام الآخرين.
كذلك غريزة حب الملكية -بكسرة الميم- فالإنسان منذ ولادته يبدأ تعلقه بأشيائه التي يعتبرها خاصة، ويعد الاعتداء عليها ظلما له، فهو متعلق بلعبه وحذائه وملابسه، وفراشه، وقد تسول له نفسه السطو على أشياء الآخرين وادعاء ملكيتها.
والظلم من شيم النفوس فإن تجد | ذا عفة فلعلة لا يظلم |
ومن الفطرة أن الإنسان يحب الاختلاط بني جنسه، ومعاشرتهم فهو مدني بالطبع كما يقول ابن خلدون نقلا عن أرسطو وهكذا تجد أن هناك أشياء كثيرة جدا، الإنسان مفطور عليها، صحيح أنها قد تنمو مع نمو عقل الإنسان، ومع تربيته ، ومع معايشته للمجتمع، لكنها موجودة في أصل الخلقة، بحيث لو لم يوجد شيء ينميها، ولا آخر يعارضها لبرزت ونمت كما تنمو الشجرة من بذرتها، ولذلك قال ﷺ في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة «كل مولود يولد على الفطرة» ([5]) وقال أهل العلم: لو ترك مولود وشأنه وحيدا في غرفة، أو صحراء، وكبر لنطق باسم الله.
3- موقف الإسلام من الفطرة
إذا كان من البدهيات في حس كل مسلم ومسلمة أن خالق هذه الفطرة، هو منزل هذا القرآن، وهو الله تعالى فمن الطبيعي أن نعلم يقينا أن هذا الدين لا بد أن يكون موافقا للفطرة، إذ يستحيل أن يكون في دين الله أو شرعه أمرا يخالف ويعارض ما فطره عليه، فالحكيم العالم بما خلق، ومن خلق، يضع الشريعة المناسبة له الملائمة لخلقه.
وكل أمر شرعي يخطر في بالك أن يعارض الفطرة فيجب أن تعلم أنه لا يخلو من أحد احتمالين.
فإما أنه أمر شرعي ولا يخالف الفطرة الصحيحة المستقيمة فمخالفته للفطرة وهم.
وإما أنه يخالف الفطرة فعلا ولكنه لا يكون أمرا شرعيا، وإن نسبه الناس إلى الدين بغير علم ولا هدى.
وألخص الكلام عن موقف الدين من الفطرة فيما يلي:
أ- جاء الدين مقرا بالفطرة، غير متنكر لها، فمثلا حب الحياة الذي هو فطرة مركوزة عند الإنسان جاء في القرآن ما يؤكد ذلك يقول الله عز وجل عن اليهود: ]وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ[ [البقرة: 96]، و«احرص» أفعل تفضيل تدل على اشتراك الناس جميعا في الحرص على الحياة، ولكن اليهود أحرصهم عليها.
إذا فحب البقاء، والحرص على الحياة فطرة يؤكد القرآن وجودها في الإنسان.
وكذلك غريزة حب المال وحب الزواج وحب الولد، بين الله تعالى وجودها في الناس ]زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ[ [آل عمران: 14].
وهذا السياق مجرده لا يدل على مدح ولا ذم، إنما هو إشارة إلى أنها فطرة فطر عليها الإنسان، وغريزة ركبت فيه، ويأتي بعد ذكر: متى تكون هذه الأشياء محمودة، ومتى تكون مذمومة؟ المهم أنها غريزة وفطرة.
ولذلك لما ذكر تعالى المؤمنين ووصفهم بأنهم لفروجهم حافظون عقب عليها بقوله: ]إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ[ [المعارج: 30] فكأن القضية قضية غريزة جبلية ليست بذاتها محل مدح أو ذم، ولكنها تحمد أو تذم بما يلابسها من القصد والنية، وطريقة الإشباع وآدابه.
وفي قضية الزواج والنكاح قد يستقذر الإنسان الجانب الجسدي فيها، خاصة الإنسان الذي فيه سمو إشراق وحياء، ولهذا جاء ذلك التعقيب يدفع هذا الشعور المترفع، ويبين أن كمال الإنسان في الاستجابة لفطرته وفق ما يرضي الله، وهاهم رسل الله وأنبيائه ينكحون ويتزوجون ]وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً[ [الرعد: 38].
وقد روى أهل السير، وهو في سنن ابن ماجه عن حمنة بنت جحش رضي الله عنها، وكانت تحت مصعب بن عمير رضي الله عنه، فقتل أخوها وزوجها في أحد، فقيل لها قتل أخوك، فقالت رحمه الله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، قالوا قتل زوجك، قالت واحزناه فقال رسول الله ﷺ «إن للزوج من المرأة لشعبة ما هي لشيء» ([6]) والحديث في إسناده عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف ([7]).
وهذا المعنى الدال على فطرة الترابط بين الزوجين ثابت في قوله تعالى: ]وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً[ [الروم: 21] ]وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا[ [الأعراف: 189] وقل مثل ذلك في مسألة حب التستر والتصون، حيث يمتن الله على عباده باللباس الساتر الجميل: ]يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ[ [الأعراف: 26].
وتأمل هذه المعاني نفسها في قوله تعالى: ]الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا[ [الكهف: 46].
ب- وجاء الدين موافقا لهذه الفطرة في عقائده وأحكامه، ولذلك سمي دين الفطرة فالتوحيد الذي جاء به الأنبياء كلهم، والعبادة التي أمروا بها، توافق فطرة التوجه لله، والتذلل له المغروزة في قلب كل مخلوق وقل مثل ذلك في قضايا التشريع.
فمثلا: شرع الإسلام الزواج الذي يلبي فطرة غريزية عند الإنسان وهي إشباع الظمأ العاطفي لدى الجنسين، وليس إشباع الغريزة الجنسية فحسب.
وأصل خلق الأنثى هو من الذكر ]خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا[ [النساء: 1] فالإلف يحن لإلفه، والفرع يحن لأصله، وإذا لم تجد هذه العاطفة وهذه الغريزة الطريق الحلال اتجهت إلى الطريق الحرام، وجاء الدين آذنا بالكسب الحلال الذي يلبي حاجة الإنسان إلى التملك والاستقلال.
ج- وجاء الدين منظما للفطرة، ففتح أمامها الأبواب والطرق السليمة التي تلبي حاجتها، وتشبع جوعها، لئلا تنحرف إلى غيرها، ولذلك قال تعالى: ]وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا[ [البقرة: 275] فأمام الفطرة «فطرة حب الملكية» طريقان حلال: يتمثل في البيع بجميع صوره المباحة وهو مفتوح.
وحرام: يتمثل في الربا وهو من أخبث ضروب المكاسب المحرمة، ولذلك أيضا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن الفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء»([8]).
وقد قال كثير من أهل العلم إن الزواج على القادر المحتاج إلى الزواج واجب، بدلالة هذا الحديث خاصة عند خشية الفتنة، كما في هذا الوقت الذي أصبحت المثيرات فيه لا تكاد تفارق الشاب، حتى في بيته، بل في غرفته الخاصة.
وفي مقابل ذلك حرم الإسلام الزنا وعده من الفواحش العظام وهكذا.. لا يغلق الله تعالى في وجه عباده بابا من أبواب الحرام إلا ويفتح بابا من أبواب الحلال، وهو خير منه وأيسر وأنظف وأحمد عاقبة، ولا يعرض عن الطريق النظيف المشروع إلا منحرف الفطرة ممسوخ الباطن.
ولذلك جاء في حديث أبي هريرة في قصة الإسراء الطويلة أنه ﷺ «أتى على قوم بين أيديهم لحم في قدر، نضيج ولحم آخر خبيث فجعلوا يأكلون الخبيث، ويدعون النضيج الطيب، قال يا جبريل من هؤلاء قال: هذا الرجل من أمتك يقوم من عند امرأته حلالا، فيأتي المرأة الخبيثة فيبيت معها حتى يصبح، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا، فتأتي الرجل الخبيث فتبيت عنده حتى تصبح...».
والحديث رواه ابن جرير في التفسير، والبيهقي في الدلائل، وابن أبي حاتم، والبزار وغيرهم([9]) وفيه غرابة، ولكن يشهد لصحة المعنى أن عقوبة الزاني المحصن أغلظ من عقوبة البكر ([10]).
4- سنن الفطرة
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ «عشر من الفطرة قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظافر، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء» (يعني الاستنجاء) قال الراوي: «ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة» رواه مسلم.
الفطرة هي الخلقة التي خلق الله عباده عليها وجعلهم مفطورين عليها وهي محبة الخير وإيثاره وكراهية الشر ودفعه وفطرهم حنفاء مستعدين لقبول الخير والإخلاص لله والتقرب إليه وجعل تعالى شرائع الفطرة نوعين:
أحدهما: يطهر القلب والروح وهو الإيمان بالله وتوابعه من خوفه ورجائه ومحبته والإنابة إليه، قال تعالى: ]فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[ [الروم: 30، 31] فهذه الفطرة تزك النفس وتطهر القلب وتنميه وتذهب عنه الآفات الرذيلة وتحليه بالأخلاق الجميلة وهي كلها ترجع إلى أصول الإيمان وأعمال القلوب.
والنوع الثاني: ما يعود إلى تطهير الظاهر ونظافته ودفع الأوساخ والأقذار عنه وهي هذه العشرة وهي من محاسن الدين الإسلامي إذ هي كلها تنظيف للأعضاء وتكميل لها لتتم صحتها ويظهر جمالها، فأما قص الشارب أو حفه حتى تبدوا الشفة فلما في ذلك من النظافة والتحرز مما يخرج من الأنف فإن شعر الشارب إذا تدلى على الشفة باشر به ما يتناوله من مأكول ومشروب مع تشويه الخلقة بوفرته وإن استحسنه من لا يعبأ به وفي الحديث: «من لم يأخذ من شاربه فليس منا» رواه أحمد والترمذي والنسائي وإسناده جيد وهذا بخلاف اللحية فإن الله جعلها وقارا للرجل وجمالا له واعتبر ذلك بمن يعصي الرسول ﷺ فيحلقها كيف يبقى وجهه مشوها قد ذهبت محاسنه وخصوصا وقت الكبر فيكون كالمرأة العجوز إذا وصلت إلى هذا السن ذهبت محاسنها ولو كانت في صباها من أجمل النساء وهذا شيء محسوس ولكن العوائد والتقليد الأعمى يوجب استحسان القبيح واستقباح الحسن، هذا وفي حلق اللحية محاذير:
1- تغيير خلق الله.
2- ومخالفة سنة الرسول ﷺ.
3- والتشبه بالنساء الملعون فاعله.
4- والتشبه بالكفرة والمشركين والمجوس ومن تشبه بقوم فهو منهم.
5- وتشويه الخلقة وتقبيح الصورة وذهاب الجمال.
وأما قص الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة، وهي الشعر الذي حول الفرج، وغسل البراجم وهي مطاوي البدن التي تجتمع فيها الأوساخ فلها من التنظيف وإزالة المؤذيات والأوساخ وخفة البدن ونشاطه ما هو معروف.
وأما المضمضة والاستنشاق فإنهما مشروعان في طهارة الحدث الأصغر والأكبر بالاتفاق وهما فرضان فيهما تطهير الفم والأنف وتنظيفهما لأن الفم والأنف يتوارد عليهما كثير من الأوساخ والأبخرة ونحوها وهو مضطر إلى إزالة ذلك، وكذلك السواك يطهر الفم ويرضي الرب، ويجلو الأسنان ولهذا يشرع كل وقت ويتأكد عند الوضوء والصلاة والانتباه من النوم وتغير الفم وصفرة الأسنان وقراءة القرآن وأما الاستنجاء وهو إزالة الخارج من السبيلين بالماء أو بالأحجار أو بهما معها وهو أفضل هو لازم وشرط من شروط الطهارة.
فعلم أن هذه الأشياء كلها تكمل ظاهر الإنسان وتطهره وتنظفه وتدفع عنه الأشياء الضارة والمستقبحة، والنظافة من الإيمان، والمقصود أن الفطرة شاملة لجميع الشريعة باطنها وظاهرها لأنها تنقي الباطن من الأخلاق الرذيلة وتحليه بالأخلاق الجميلة التي ترجع إلى عقائد الإيمان والتوحيد والإخلاص لله والإنابة إليه وتنقي الظاهر من الأنجاس والأوساخ وأسبابها وتطهره الطهارتين الحسية والمعنوية ولهذا قال ﷺ «الطهور شطر الإيمان»([11]) وقال تعالى: ]إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ[ [البقرة: 222] فالشريعة كلها طهارة وزكاء وتكميل وحث على معالي الأمور ونهى عن سفاسها وبالله التوفيق اهـ. من بهجة قلوب الأبرار ببعض تصرف.
ما يستفاد من الحديث:
1- فطر الله الخلق على محبة الخير وكراهية الشر.
2- من السنة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، والمضمضة، والاستنشاق وقص الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة، والاستنجاء.
3- إرشاد الرسول ﷺ الأمة إلى ما ينفعهم وتحذيرهم مما يضرهم.
4- الحث على النظافة والطهارة من الأحداث والأنجاس والأقذار.
5- كمال الشريعة وأنها جاءت بجلب المنافع ودفع المضار.
5- خصال الفطرة ([12])
الحمد لله الذي فطر الخلق على ما تستحسنه العقول وأيد ذلك بما أنزله على الرسول فطرة الله التي جبل الناس عليها خلقًا وأمرهم بها تعبدًا وشرعًا وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له، عجزت عن إدراك حكمته الألباب، وذلت لعزته وعظمته جميع الصعاب وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث بالحنيفية ملة إبراهيم الذي اجتباه ربه وهداه إلى صراط مستقيم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم القويم وسلم تسليمًا.
أما بعد:
أيها المؤمنون اتقوا الله تعالى، وأقيموا وجوهكم للدين حنفاء متمسكين بالفطرة التي فطر الناس عليها وهي طهارة الباطن والظاهر فأما طهارة الباطن فهي تطهير القلب من الإشراك وإخلاص العبادة لله وحده والقيام بالأعمال الصالحات وأما طهارة الظاهر فمنها ما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: «عشر من الفطرة قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء يعني الاستنجاء» قال الراوي ونسيت العاشرة «إلا أن تكون المضمضة» ([13]).
وفي حديث أبي هريرة ([14]) رضي الله عنه أن الختان من الفطرة فهذه الأشياء العشرة كلها طهارة وتنظيف تقضي بها الفطرة، وتستحسنها العقول كما أن الشرع قد جاء بها وحث عليها فمنها قص الشارب وإحفاؤه فإن بقاءه يجمع الأوساخ التي تمر به من الأنف فإذا شرب الإنسان تلوث شرابه بها، فجاء الشرع والفطرة بإحفائه، وأما إعفاء اللحية وهو عدم التعرض لها بقص أو حلق أو نتف فلأن الله خلقها تمييزًا بين الذكور والإناث وإظهارًا للرجولة والقوة ولذلك لا تظهر إلا عند الحاجة إليها، في وقت قوة الإنسان وجلده.
وتكليفه بمهمات الأمور أما في حال صغره فلا تظهر لأنه حينئذ لا يتحمل الأعباء فجاء الشرع والقدر والفطرة بوجودها وإبقائها وقد أمر النبي ﷺ بإعفائها وإرخائها وتوفيرها، وقال: «خالفوا المشركين أعفوا اللحى وأحفوا الشوارب»([15]) وكان ﷺ وأصحابه قد هدوا إلى الفطرة، فكانوا يوفرون لحاهم([16]) وخير الهدي هدي محمد ﷺ وأصحابه فإنهم على النور المبين والصراط المستقيم، فحلق اللحية حرام لأنه خروج عن الفطرة، ومخالفة للرسل، وأتباعهم وموافقة للمشركين وتغيير لخلق الله تعالى بلا إذن منه وليس إبقاء اللحية من الأمور العادية كما يظنه بعض الناس، وإنما هو من الأمور التعبدية التي أمر بها رسول الله ﷺ والأصل في أوامر النبي ﷺ التعبد والوجوب حتى يقوم دليل على خلاف ذلك قال الله تعالى: ]فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[ [النور: 63] والفتنة فتنة الدين قد يرد المرء أمر النبي ﷺ فيزيغ قلبه فيهلك، والنبي ﷺ أمر بإعفاء اللحية وأمر بمخالفة المشركين فإذا فرض أن من المشركين الآن من يعفي لحيته فإننا لن نترك أمر النبي ﷺ بإعفائها من أجل أن بعض المشركين يعفيها لأن المشرك الذي يعفيها هو المتشبه بنا ولسنا نحن المتشبهين به، ومن الفطرة السواك لأن فيه تنظيفا للأسنان، وما يتسوك عليه من الفم، ويتأكد السواك عند المضمضة، في الوضوء وعند الصلاة وعند القيام من النوم وإذا دخل الإنسان بيته لأن النبي ﷺ إذا دخل البيت فأول ما يبدأ به السواك([17]) «ومن الفطرة استنشاق الماء» لأنه ينظف الأنف من الأوساخ «وقص الأظفار من الفطرة» لأن الأظفار إذا طالت اجتمع فيها من الأوساخ ما يكون ضررًا على الإنسان وغسل البراجم من الفطرة، والبراجم: هي الفروض التي بين مفاصل الأصابع لأنها قد تجمع أوساخًا فمن الفطرة تعاهدها وغسلها ومن الفطرة نتف الآباط، لأن الشعر فيها يجمع أوساخًا تحدث منه رائحة كريهة، والنتف يزيل الشعر، ويضعف أصولها فمن لم ينتف الإبط فليحلقه أو يجعل فيه شيئًا يزيله.
وحلق العانة من الفطرة: وهي الشعر النابت حول القبل لأن في ذلك تقوية للمثانة ولأن بقاء الشعر يجمع أوساخًا قد يكون فيه ضرر على المثانة التي هي مجمع البول وقد وقت النبي ﷺ في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا تترك أكثر من أربعين ليلة ([18]) .
وأما الاستنجاء فإنه من الفطرة: لأنه تطهير للمحل الذي يخرج منه البول أو الغائط وأما الختان وهو ما يسمى بالطهار فهو من الفطرة لأنه يكمل الطهارة وفعله في زمن الصغر أفضل، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ]فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ[ [الروم: 30-32].
6- خمس من الفطرة
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: «الفطرة خمس الختان والاستحداد وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الآباط» ([19]).
الفطرة: الجبلة التي خلق الله الناس عليها وجبل طباعهم على فعلها، وهي السنة القديمة التي اختارها الأنبياء، وقوله تعالى: ]فطرت الله التي فطر الناس عليها[ [الروم: 30] أي دين الله، وقوله ﷺ «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه أو يمجسانه» ([20]) أي لو ترك لأداه نظره إلى الدين الحق وهو التوحيد قوله «الفطرة خمس» إلى آخره، الحصر مبالغة لتأكيد أمر الخمس المذكورة، كقوله «الدين النصيحة» ([21]) «والحج عرفة» ([22]) وفي رواية خمس من الفطرة وقد ثبت في أحاديث أخر زيادة عن الخمس الختان، وهو واجب على الذكور مستحب للنساء، وروي الختان «سنة في الرجال مكرمة في النساء» أخرجه أحمد والبيهقي ، قال في المدخل: إن السنة إظهار ختان الذكر وإخفاء ختان الأنثى.
«والاستحداد» هو إزالة شعر العانة بالحديد، ويجوز بغير ذلك كالنتف والنورة، و«قص الشارب» أخذه حتى يبدو حرف الشفة وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه: قال :قال رسول الله ﷺ «من لم يأخذ من شاربه فليس منا» رواه أحمد والنسائي الترمذي، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله ﷺ «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس» متفق عليه، وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه ([23]) وعن عائشة رضى الله عنها: أن النبي ﷺ أبصر رجلا وشاربه طويل فقال: ائتوني بمقص وسواك فجعل السواك على طرفه ثم أخذ ما جاوزه ([24]) «وتقليم الأظفار» قطع ما طال منها على اللحم، وفي ذلك تحسين الهيئة وكمال الطهارة قال الحافظ: ولم يثبت في ترتيب الأصابع عند القص شيء من الأحاديث قوله ونتف الآباط إزالة ما نبت عليها من الشعر بالنتف وهو السنة ويجوز إزالته بغير ذلك وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: وقت لنا رسول الله ﷺ قص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة ألا تترك أكثر من أربعين ليلة رواه الخمسة إلا ابن ماجه.
7- من خصال الفطرة إعفاء اللحية
عن زكريا بن أبي زائدة عن مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيب عن ابن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ «عشر من الفطرة ([25]) قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظافر وغسل البراجم ونتف الإبط، وحلق العانة وانتقاص الماء يعني الاستنجاء قال زكريا قال مصعب ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة» ([26]).
أما الفطرة، فقد قال الراغب: أصل الفطر الشق طولا، ويطلق على الوهى وعلى الاختراع.
وقال أبو شامة: أصل الفطرة الخلقة المبتدأة، ومنه فاطر السموات والأرض، أي مبتدئ خلقهن، والمراد بقوله ﷺ «كل مولود يولد على الفطرة» أي على ما ابتدأ الله خلقه عليه، وفيه إشارة إلى قوله تعالى: ]فطرت الله التي فطر الناس عليها[ والمعنى أن كل أحد لو ترك وقت ولادته وما يؤديه إليه نظره لأداه إلى الدين والحق وهو التوحيد ، ويؤيده أيضًا قوله تعالى: ]فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ[ وإليه يشير في بقية الحديث حيث عقبه بقوله: «فأبواه يهودانه أو ينصرانه..»([27]).
وفي النهاية الفطرة: أي السنة، يعني سنن الأنبياء عليهم السلام التي أمرنا أن نقتدي بهم فيها، وقال الإمام أبو بكر ابن العربي رحمه الله في شرح الموطأ: عندي أن الخصال المذكورة في هذا الحديث كلها واجبة، فإن المرء لو تركها لم تبق صورته على صورة الآدميين فكيف من جملة المسلمين ([28]).
وقد تعقبه أبو شامة: بأن الأشياء التي مقصودها مطلوب لتحسين الخلق وهي النظافة لا تحتاج إلى ورود أمر إيجاب للشارع فيها اكتفاء بدواعي الأنفس، فمجرد الندب إليها كاف، والحديث الذي يقصده هو قوله ﷺ «الفطرة خمس، الاختتان والاستحداد» وفي رواية: «حلق العانة وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط»([29]).
وقال أبو سليمان: ذهب أكثر العلماء إلى أنها أي الفطرة السنة وكذا ذكره جماعة غير الخطابي ، قالوا: ومعناه أنها من سنن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وقيل: هي الدين.
وقال السيوطي رحمه الله: وأحسن ما قيل في تفسير الفطرة أنها السنة القديمة التي اختارها الأنبياء، واتفقت عليها الشرائع فكأنها أمر جبلي فطروا عليه اهـ ([30]).
وقال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله بعد أن ذكر الخلاف في معنى الفطرة وأولى الوجوه بما ذكرنا: أن تكون الفطرة ما جبل الله الخلق عليه، وجبل طباعهم على فعله، وهي كراهة ما في جسده مما هو ليس من زينته ([31]) اهـ.
وقال الإمام المحقق شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية رحمه الله في تحفة المودود بأحكام المولود، عند كلامه على حديث الفطرة خمس.
والفطرة فطرتان: فطرة تتعلق بالقلب وهي معرفة الله ومحبته وإيثاره على ما سواه، وفطرة عملية، وهي هذه الخصال، فالأولى تزكي الروح وتطهر القلب، والثانية: تطهر البدن، وكل منهما تمد الأخرى وتقويها، وكان رأس فطرة البدن الختان اهـ([32]).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله ويتعلق بهذه الخصال أي خصال الفطرة مصالح دينية ودنيوية تدرك بالتتبع، منها تحسين الهيئة وتنظيف البدن جملة وتفصيلا، والاحتياط للطهارتين والإحسان إلى المخالط والمقارن بكف ما يتأذى به من رائحة كريهة، ومخالفة شعار الكفار من المجوس واليهود والنصارى وعباد الأوثان، وامتثال أمر الشارع والمحافظة على ما أشار إليه قوله تعالى: ]وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ[ لما فيه المحافظة على هذا الخصال من مناسبة ذلك، وكأنه قيل قد حسنت صوركم فلا تشوهوها بما يقبحها، أو حافظوا على ما يستمر به حسنها وفي المحافظة عليها محافظة على المروءة وعلى التآلف المطلوب، لأن الإنسان إذا بدا في الهيئة الجميلة كان أدعى لانبساط النفس إليه فيقبل قوله ويحمد رأيه والعكس بالعكس اهـ ([33]).
شبهة:
كون إعفاء اللحية من خصال الفطرة يدل على عدم وجوبها بدلالة اقترانه بما هو مستحب.
الجواب:
الصحيح أن يقال: إن كون إعفاء اللحية أحد خصال الفطرة لا يدل بذاته على الوجوب، وإنما يستفاد الوجوب من أدلة أخرى ودلالة الاقتران هنا لا تقوى على معارضة أدلة الوجوب، أما الاستدلال باقتران الإعفاء بغيره من خصال الفطرة الغير واجبة فمردود بأنه لا يمتنع قرن الواجب بغيره.
قال الإمام النووي رحمه الله: قد يقرن المختلفان كقول الله تعالى: ]كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ[ [الأنعام: 141].
والأكل مباح ، والإيتاء واجب، وقوله تعالى: ]فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ[ [النور: 23].
والإيتاء واجب، والكتابة سنة، ونظائره في الكتاب والسنة كثيرة مشهورة اهـ([34]).
قال الحافظ: نقل ابن دقيق العيد عن بعض العلماء أنه قال: دل الخبر على أن الفطرة بمعنى الدين، والأصل فيما أضيف إلى الشيء أن يكون من أركانه لا من زوائده حتى يقوم دليل على خلافه، وقد ورد الأمر باتباع إبراهم عليه السلام وثبت أن هذه الخصال يعني خصال الفطرة أمر بها إبراهيم عليه السلام، وكل شيء أمر الله باتباعه فهو على الوجوب لمن أمر به قال الحافظ: وتعقب بأن وجوب الاتباع لا يقتضي وجوب كل متبوع فيه، بل يتم الأمر بالامتثال، فإن كان واجبا على المتبوع كان واجبا على التابع أو ندبا فندب، فيتوقف ثبوت وجوب هذه الخصال على الأمة على ثبوت كونها واجبة على الخليل عليه السلام اهـ ([35]).
تنبيه:
ذهب كثير من العلماء إلى إيجاب بعض خصال الفطرة منهم الإمام الشافعي رحمه الله فقد أوجب الختان، وكذا أوجب إعفاء اللحية وكذلك جمهور أصحابه، وقال به من الأقدمين عطاء وهو الذي ورد عنه القول بكراهية حلق اللحية، قال: لو أسلم الكبير لم يتم إسلامه حتى يختتن.
وعن زيد بن أرقم قال ﷺ «من لم يأخذ من شاربه فليس منا»([36]) واستدل بهذا على وجوب الأخذ من الشارب ([37]).
وقد سبق ذكر أن القاضي ابن العربي أوجب الختان والاستحداد ونتف الإبط وتقليم الأظافر، والخلاف في المضمضة والاستنشاق معروف مشهور أهي واجبة أم لا.
وقال ابن القيم رحمه الله ([38]) ثم إن الخصال المذكورة في الحديث منها ما هو واجب كالمضمضة والاستنشاق ([39]) والاستنجاء، ومنها ما هو مستحب كالسواك، وأما تقليم الأظافر، فإن الظفر إذا طال جدا بحيث يجتمع تحته الوسخ، وجب تقليمه لصحة الطهارة، وأما قص الشارب فالدليل يقتضي وجوبه إذا طال، وهذا الذي يتعين القول به لأمر رسول الله ﷺ به ولقوله ﷺ «ومن لم يأخذ من شاربه فليس منا» اهـ ([40]).
وقد روى الأمام أحمد وأصحاب السنن أن رسول الله ﷺ وقت لهم في قص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة أن لا تترك أكثر من أربعين ليلة، واستدل به على وجوب هذه الخصال، وهذه الأحاديث مبينة لما أجمل في حديث «عشر من الفطرة» والمبين مقدم على المجمل كما هو معلوم ([41]).
8- مشروعية الختان وأنه من خصال الفطرة([42])
في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «الفطرة خمس الختان، الاستحداد وقص الشارب، وتقليم الأظفار ، ونتف الإبط»([43]).
فجعل الختان رأس خصال الفطرة، وإنما كانت هذه الخصال من الفطرة، لأن الفطرة، هي الحنيفية ملة إبراهيم وهذه الخصال أمر بها إبراهيم، هي من الكلمات التي ابتلاه ربه بهن، كما ذكر عبد الرزاق: عن معمر عن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس في هذه الآية، قال: ابتلاه بالطهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد، وخمس في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس، وفي الجسد، تقليم الأظفار، وحلق العانة والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء.
والفطرة فطرتان: فطرة تتعلق بالقلب، وهي معرفة الله ومحبته وإيثاره على ما سواه، وفطرة عملية: وهي هذه الخصال، فالأولى: تزكي الروح وتطهر القلب، والثانية تطهر البدن، وكل منهما تمد الأخرى وتقويها، وكان رأس فطرة البدن: الختان.
وفي مسند الإمام أحمد من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ «من الفطرة، أو الفطرة المضمضة والاستنشاق وقص الشارب، والسواك وتقليم الأظفار، وغسل البراجم ونتف الإبط، والاستحداد والاختتان، والانتضاح»([44]).
وقد اشتركت خصال الفطرة في الطهارة والنظافة، وأخذ الفضلات المستقذرة التي يألفها الشيطان، ويجاورها من بني آدم، وله بالعزلة اتصال واختصاص.
وقال غير واحد من السلف: من صلى وحج واختتن فهو حنيف، فالحج والختان: شعار الحنيفية، وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها، قال الراعي ([45]) يخاطب أبا بكر رضي الله عنه:
أخليفة الرحمن إنا معشر | حنفاء نسجد بكرة وأصيلا | |
عرب نرى لله في أموالنا | حق الزكاة منزلاً تنزيلا |
حكمة الختان وفوائده
الختان من محاسن الشرائع التي شرعها الله سبحانه لعباده، ويجمل بها محاسنهم الظاهرة والباطنة، فهو مكمل للفطرة التي فطرهم عليها، ولهذا كان من تمام الحنيفية ملة إبراهيم، وأصل مشروعية الختان لتكميل الحنيفية، فإن الله عز وجل لما عاهد إبراهيم، وعده أن يجعله للناس إمامًا، ووعده أن يكون أبًّا لشعوب كثيرة، وأن يكون الأنبياء والملوك من صلبه، وأن يكثر نسله، وأخبره أنه جاعل بينه وبين نسله علامة العهد أن يختنوا كل مولود منهم، ويكون عهدي هذا ميسما في أجسادهم، فالختان علم للدخول في ملة إبراهيم، وهذا موافق لتأويل من تأول قوله تعالى: ]صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً[ [البقرة: 138] على الختان.
فالختان للحنفاء بمنزلة الصبغ والتعميد لعباد الصليب فهم يطهرون أولادهم بزعمهم حين يصبغونهم في المعمودية ويقولون: الآن صار نصرانيا، فشرع الله سبحانه للحنفاء صبغة الحنيفية وجعل ميسمها الختان فقال: ]صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً[ [البقرة: 138] قد جعل الله سبحانه السمات علامة لمن يضاف إليه المعلم بها، ولهذا الناس يسمون دوابهم ومواشيهم بأنواع السمات، حتى يكون ما يضاف منها إلى كل إنسان معروفًا بسمته، وثم قد تكون هذه السمة متوارثة في أمة بعد أمة.
ولهذا يذم الرجل، ويشتم، ويعير بأنه ابن القلفاء، إشارة إلى غلمتها، وأي زينة أحسن من أخذ ما طال وجاوز الحد من جلدة القلفة وشعر العانة، وشعر الإبط، وشعر الشارب، وما طال من الظفر فإن الشيطان يختبي تحت ذلك كله ويألفه ويقطن فيه حتى إنه ينفخ في إحليل الأقلف وفرج القلفاء ما لا ينفخ في المختون، ويختبئ في شعر العانة، وتحت الأظفار، فالغرلة أقبح في موضعها من الظفر الطويل والشارب الطويل والعانة الفاحشة الطول، ولا يخفى على ذي الحس السليم قبح الغرلة، وما في إزالتها من التحسين والتنظيف والتزيين ولهذا لما ابتلى الله خليله إبراهيم بإزالة هذه الأمور فأتمهن، جعله إمامًا للناس هذا مع ما فيه من بهاء الوجه وضيائه، وفي تركه من الكسفة التي ترى عليه.
وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
([1]) رواه مسلم في صحيحه.
([2]) تحفة الودود بأحكام المولود 99-100.
([3]) صحيح البخاري مع الفتح (6/ 428-476)، (8/ 391)، (10/ 35-69)، مسلم (1/ 1144)، (1، 154، 3/ 159).
([4]) الترمذي (3455) سنن أبي داود (3730) ابن ماجه 3322 وحسنه الحافظ ابن حجر في تخريج الأذكار.
([5]) رواه البخاري (3/218- 346)، ومسلم (4/2048).
([6]) سنن ابن ماجه (1/ 507).
([7]) ميزان الاعتدال (2/ 465) والتاريخ الصغير للبخاري (2/ 159) والمجروحين لابن حبان (2/ 6)
([8]) البخاري (9/ 113)، مسلم (1018/2).
([9]) تفسير الطبري (8/ 6) سورة الإسراء، زوائد البزار (1/ 39) الدلائل للبيهقي (2/ 398).
([10]) رسالة نداء الفطرة لدى الرجل والمرأة للشيخ سلمان العودة ص (5- 13).
([11]) رواه مسلم.
([12])خطب الشيخ محمد الصالح العثيمين 124.
([13]) رواه مسلم.
([14]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
([15]) متفق عليه.
([16]) روى مسلم عن جابر قال: كان رسول الله ﷺ كثير شعر اللحية.
([17]) رواه مسلم وغيره.
([18]) رواه مسلم.
([19]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
([20]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
([21]) رواه مسلم.
([22]) رواه الإمام أحمد وأهل السنن الأربعة.
([23]) ليس في حجة على جواز الأخذ من اللحية وابن عمر رضي الله عنهما هو الذي روى لنا عن النبي ﷺ قوله: «وفروا اللحى، وأعفوا اللحى» متفق عليه أي اتركوها وافرة والحجة في روايته لا في رأيه.
([24]) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 166): رواه البزار وفيه عبد الرحمن بن مسهر وهو كذاب.
([25]) قوله: عشر من الفطرة يدل على عدم انحصارها فيها والله أعلم.
([26]) رواه مسلم وأحمد والنسائي والترمذي.
قال الشوكاني الحديث أخرجه أيضا أبو داود من حديث عمار، وصححه ابن السكن، قال الحافظ: وهو معلول، ورواه الحاكم والبيهقي من حديث ابن عباس موقوفا في تفسير قوله تعالى: ]وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات[ قال: خمس في الرأس وخمس في الجسد فذكره اهـ وانظر تحقيقه في المجموع شرح المهذب للنووي (1/ 316).
([27]) نيل الأوطار (1/ 123، 124).
([28]) فتح الباري (10/ 339، 340).
([29]) متفق عليه.
([30]) تنوير الحوالك شرح موطأ الإمام مالك (2/ 219).
([31]) إحكام الأحكام بحاشية العدة (1/ 339).
([32]) تحفة المودود بأحكام المولود ص 161.
([33]) فتح الباري (10/ 339).
([34]) المجموع شرح المهذب (1/ 317، 318).
([35]) فتح الباري (10: 340).
([36]) رواه الترمذي وأحمد والنسائي قال الترمذي: صحيح وقال الحافظ: سنده قوي.
([37]) فتح الباري: (1/ 340).
([38]) تحفة المودود (177).
([39]) انظر تلخيص الحبير للحافظ ابن حجر (1/ 88، 89).
([40]) رواه الإمام أحمد والترمذي النسائي والضياء عن زيد بن أرقم رضي الله عنه وصححه الألباني.
([41]) أدلة تحريم حلق اللحية للشيخ محمد بن أحمد بن إسماعيل (56-59).
([42]) تحفة المودود بأحكام المولود لابن القيم بتحقيق بشير محمد عيون ص99.
([43]) رواه البخاري رقم (5889) في اللباس: باب قص الشارب، ورقم (5891) باب تقليم الأظفار، ورقم (6207) في الاستئذان باب الختان بعد الكبر، ونتف الإبط ومسلم رقم (257) في الطهارة باب خصال الفطرة والموطأ (2/ 921) والترمذي رقم (2757) في الأدب، وأبو داود رقم (4198) في الرجل: باب أخذ الشارب والنسائي (1/ 14، 15) في الطهارة في باب تقليم الأظفار، وباب نتف الإبط، وابن ماجه رقم (292) في الطهارة باب الفطرة.
([44]) رواه أحمد في المسند (4/ 264) وابن ماجه رقم (294) في الطهارة: باب الفطرة، وإسناده ضعيف، ولكن له شواهد بمعناه يقوى بها، فالحديث حسن كما قال الألباني في صحيح الجامع رقم (5782).
([45]) ديوانه 136، 137 طبع المجمع العلمي العربي بدمشق في الأصل منزل وهو خطأ والتصحيح من شعر الراعي النميري.