الوصف المفصل
مخالفات في العقيدة
القسم العلمي بدار ابن خزيمة
مقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإن علم العقيدة هو أشرف علم يطلبه المسلم ؛ لأن شرف العلم من شرف المعلوم في قضايا الإيمان هو الله جل وعلا، وما أخبره به من الغيب.
والعقيدةُ هي أول واجب على المسلم معرفته؛ لأنها أساس الدين ورأس أمره؛ فهي رسالة الرسل جميعًا ؛ قال تعالى: }وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ{.
ولأجل ذلك فإنَّ الجهلَ بأمر التوحيد والعقيدة من أعظم المخالفات التي قد يقع فيها الناس ؛ لأن التوحيد هو مفتاح النجاة ؛ كما قال تعالى: }إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ{.
فما هي المخالفات التي يقع فيها الناس في أمر العقيدة؟
منشأ المخالفات العقدية
الجهل بأمور العقيدة:
المخالفات في مسائل العقيدة منشؤها كلها من الجهل بالعقيدة؛ فالجهل بأصول الإيمان وأمور التوحيد هو ما يجعل بعض الناس يقعون في الشرك والمخالفات ، أو يكذبون بما أخبر الله به من أمور الغيبيات ، أو يعتقدون ما لم يأذن به الله من العقائد ، أو يتعبدون بما لم يأذن به الله من العبادات ، كما قال تعالى: }بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ{ [يونس: 39] ، فأخبر الله جل وعلا في هذه الآية أن تكذيبَ من كذَّب بما أخبر به الله إنما منشؤه الجهل وعدم الإحاطة بعلمه.
وقد أمر الله - جل وعلا - عباده بتعلُّم العلم الشِّعري ، ومن ذلك فقه التوحيد الذي هو حقُّ الله على العبيد ؛ قال تعالى: }فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ{ [محمد : 19].
والعلم بـ «لا إله إلا الله» هو أساس العلم كله؛ لأنها كلمة الإخلاص الجامعة لحق الله في العبادة وحده لا شريك له ؛ فالعلم بمعناها علم بالدين كله استلزامًا واقتضاء ، ولذلك كان الأمرُ بعلمها من الضرورات التي لا يسع المسلم الجهل بها ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طلب العلم فريضة على كل مسلم».
التقليد: وينشأ عن الجهل بالعقيدة تقليدُ كثير من الناس للآخرين في أمور العقيدة واتِّباعهم لما يرونه سائدًا في المجتمع من العادات القولية والفعلية دون تثبت في أمرها من أهل العلم والمصادر الشرعية.
ومعلوم أن التقليدَ لا يجوز في أصول الدين ؛ وإنما أجازه الشارع في فروعه لمن ليست له أهلية النظر ؛ فلا يحل لأحد أن يقلد في أصول العقيدة أو يقلد أحدًا خالف ما أجمع عليه العلماء ، وكان علمه حاصلاً بالضرورة كوحدانية الله وصحة الرسالة وإثبات الأسماء الحسنى والصفات العليا لله جل وعلا.
وقد بيَّن الله جل وعلا أن تقليد العامة للسادة والكبراء دون الرجوع إلى الشرع هو سبب خذلانهم وخسرانهم يوم القيامة ، فقالوا لما رأوا مغبَّة تقليدهم : }وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ{.
وإذا تأمَّلتَ في أحوال كثير ممن ينذرون لغير الله أو يذبحون لغير الله أو يحلفون بغير الله أو يستغيثون بغير الله، وجدتهم متبعين لما جرت عليه هذه العادة الشركية في المجتمع دون النظر في حكم الشرع فيها، والأولى للمسلم أن يجتهد في تعلُّم دينه وأصول إيمانه ؛ ليعبد الله على علم وبصيرة.
الهوى: ومن أسباب وقوع بعض الناس في المخالفات العقدية اتباع الهوى والإعراض عن الهدى ؛ فإن كثيرًا ممن يلجؤون إلى السحرة والكهنة والعرافين مثلاً يدركون ويعلمون علم اليقين أنهم يخالفون ما أمر الله به من اجتناب أولئك الدَّجَّالين، لكن لغلبة الهوى وضعف الإيمان تجدهم يلجؤون ويخالفون.
الاغترار بحال أغلب الناس: ففي كل بلاد يغلب فيها انتشار البدع والشرع والمخالفات العقدية تجد الناس أكثر تأثُّرًا بالواقع منهم بالعلم الشرعي والحقّ الذي يدعو إليه أصحاب العقيدة الصحيحة، ولذلك قال الله جل وعلا: }وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ{.
وقال سبحانه: }وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ{؛
لذلك فإن من العوامل المشجعة على انتشار المخالفات العقدية اغترار الناس بحال أكثر المخالفين، واتباعهم لما جرت به العادة من المخالفات.
مخالفات في عقيدة القدر
وفي مسألة القضاء والقدر زَلَّت أقدام وزاغت أفهام أبت إلا أن تُعْمل العقلَ في مسائل الغيب والاجتهاد فيما ورد فيه النص، فتفتَّقَ من تلك الفهوم مخالفون لما عليه العقيدة الصحيحة في مسألة القضاء والقدر، ومن مخالفتهم في هذا الأصل الإيماني:
نفيُ مشيئة الله في أفعال عباده ، وهذه العقيدة مخالفةٌ لما تقرر في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما أجمع عليه السَّلف الصالح من أن الله جل وعلا له المشيئة المطلقة في خلقه ، وفي أفعال عباده الظاهرة والباطنة ؛ كما قال تعالى: }وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ{ [التكوير: 29].
يقول الشيخ ابن عثيمين: فنؤمن بأن الله تعالى قد شاء كل ما في السماوات والأرض ، لا يكون شيء إلا بمشيئته ؛ ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن.
فكلُّ أفعال العباد التي تصدر عنهم لا تصدر إلا بمشيئة الله لهم والتي هي من مراتب القدر ، من نفي مشيئة الله في أفعال عباده كفر.
الاعتقاد بأن الإنسانَ مجبورٌ على أفعاله، وأنه لا خيار له في ذلك: وهذا أيضا من المخالفات العقدية في مسألة القدر ؛ فإن إثباتَ المشيئة المطلقة لله جل وعلا لا تنفي إثبات الخيار للعبد في أعماله ولا مشيئته في ظل مشيئة الله المطلقة ؛ لذلك قال تعالى: }لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ{ [التكوير: 28 ، 29].
فأثبت – سبحانه - المشيئةَ لعباده وجعل وقوعها في ظل مشيئته ، وكذلك قوله تعالى: }وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ{ [الأنعام: 112] ؛ فأثبت لهم فعل الافتراء بمشيئتهم ومشيئته لهم بذلك، وأنه – سبحانه - لو شاء أن يمنعهم من ذلك لفعل ؛ ولكنه شاء لهم ذلك الاختيار الذي اختاروه جزاء لهم على ضلالهم وإجرامهم.
يقول الشيخ ابن عثيمين: «نرى أن لا حجةَ للعاصي على معصيته بقدر الله تعالى ؛ لأن العاصي يقدم على المعصية باختياره من غير أن يعلم أن الله تعالى قدَّره عليه ؛ إذ لا يعلم أحد قدر الله تعالى إلا بعد وقوع مقدوره ؛ }وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا{ ([1]) ».
يقول العلَّامة السعدي رحمه الله : «أفعال العباد كلُّها من الطاعات والمعاصي داخلةٌ في خلق الله و قضائه وقدره، ولكنهم هم الفاعلون لها لم يجبرهم الله عليها ، مع أنها واقعة بمشيئتهم وقدرتهم».
فهي فعلهم حقيقة، وهم الموصوفون بها المثابون والمعاقبون عليها ، وهي خلق الله حقيقة ؛ فإن الله خلقهم ، وخلق مشيئتهم وقدرتهم وجميع ما يقع بذلك.
فنؤمن بـجميع نصوص الكتاب والسنة الدالة على شمول خلق الله وقدرته لكل شيء من الأعيان والأوصاف والأفعال ، كما نؤمن بـنصوص الكتاب والسُّنَّة الدَّالَّة على أن العباد هم الفاعلون حقيقة للخير والشر ، وأنهم مختارون لأفعالهم ؛ فإن الله خالق قدرتهم وإرادتهم ، وهما السبب في وجود أفعالهم وأقوالهم ، وخالق السبب التام خلق المسبب ، والله أعظم وأعدل من أن يجبرهم عليها ([2]) ؛ فالله جل وعلا:
خلق الخلائق كلَّهم وفعالهم | ||
خيرًا وشرًا دونما استثناء | ||
والذنب كونيُّ الحدوث مقدرٌ | ||
منذ القديم على بني حواء | ||
لم يرضهُ الرَّحمن شرعًا حادثًا | ||
بل أوعدَ العاصين بالضَّراء مخالفات في الأسماء والص | ||
مخالفات في الأسماء والصفات
أخي الكريم: إن الإيمان بأسماء الله وصفاته هو القسم الثالث من أقسام التوحيد ؛ فهو ركن من أركانه العظيمة لا يكمل التوحيد إلا به، ولا يتم إلا بتحقيقه ؛ قال تعالى: }رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا{ ، وقال سبحانه : }وَلِلهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا{.
وأما المخالفات التي تقع في مسألة الأسماء والصفات فهي:
1- نفي الصفات: وهو جحدُ صفات الله جل وعلا التي دلَّ عليها الكتاب والسنة؛ كنفي صفة العلو لله جل وعلا، وصفة الكلام، وسائر الصفات الإلهية التي دلت عليها النصوص الشرعية.
التَّمثيل: وهو أن يقول القائل بقلبه أو لسانه: صفات الله تعالى كصفات المخلوقين؛ فيعتقد أن سمعَ الله كسمع المخلوقين، ويديه كيدي المخلوقين وهكذا.
التكييف وهو أن يقول القائل بقلبه أو لسانه: كيفية صفات الله كذا، وكذا، فيجعل لها كيفية معينة معلومة عنده.
التفويض: وهو نفي معاني الصفات الإلهية مع نفي الكيفية، وتفويض معناها إلى الله، وهذا أيضًا نوع من أنواع التعطيل؛ لأن معاني الصفات معلومة وكيفيتها مجهولة.
والواقعون في هذه المخالفات مغبونون في معرفة الله سبحانه بصفاته وأسمائه؛ فهم أبعد الناس عن تذوُّق حلاوة الإيمان.. تلك الحلاوة التي لا تنشأ إلا في قلب العارف بالله جل وعلا والعالم بجمال صفاته وجلال نعوته.
فالمعطل للصفات والمكيف لها والمحرف لمعانيها، كلهم يظنون بالله ظنًّا خاطئًا يؤثر سلبًا على إيمانهم، وقد لام الله من يظن به ظن السوء فقال: }وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ{ [فصلت: 21، 23].
يقول الشيخ ابن عثيمين في كتابه عقيدة أهل السنة والجماعة: «ونرى وجوب إجراء نصوص الكتاب والسنة في ذلك على ظاهرها وحملها على حقيقتها اللائقة بالله عز وجل، ونتبرأ من طريق المحرفين لها الذين صرفوها إلى غير ما أراد الله بها ورسوله، ومن طريق الغالين فيها الذين حملوها على التمثيل أو تكلفوا لمدلولها التكييف».
والواجب على المسلم في نصوص الصفات أن يسلك مسلك أهل السنة والجماعة، وهو الإيمان بها، واعتقاد صحة ما دلت عليه، وإثباته له سبحانه على الوجه اللائق به، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، وهذا هو المسلك الصحيح الذي سلكه السلف الصالح واتفقوا عليه.
وأهل السنة والجماعة يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تمثيل ولا تكييف، ومن غير تحريف ولا تعطيل.
وهذا الباب العظيم قد زلَّت فيه أقدام وضلَّت فيه أفهام، وهدى الله فيه أهل السنة والجماعة إلى الحق؛ وهو الإيمان بجميع أسماء الله وصفاته الثابتة من الكتاب و السنة من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل؛ بل يؤمنون بأن الله سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير؛ فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يحرِّفون الكلم عن مواضعه، ولا يُلحدون في أسمائه وآياته، ولا يكيِّفون ولا يمثِّلون صفاته بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه لا سمي له ولا كفء له، ولا يقاس بخلقه - سبحانه وتعالى ؛ فإنه – سبحانه - أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً وأحسن حديثًا من خلقه ، والله - جل وعلا - قد جمع فيما به نفسه بين النفي المجمل والإثبات المفصَّل، فنفى عنه جميع النقائص والعيوب؛ كنفي الند، والشريك، والنوم، والموت، وسائر النقائص والصفات الناقصة على سبيل الإجمال كما جاء في الكتاب والسنة؛ كقوله تعالى: }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ{، ونثبت له صفات الكمال ونعوت الجلال والجمال بالتفصيل الذي ذكره الله في كتابه وأخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة الثابتة.
نواقض التوحيد
1- الشرك بالله جل و علا: وهو نوعان: شرك في الربوبية؛ وهو أن يعتقد العبد أن لله شريكًا في خلق بعض المخلوقات أو تدبيرها.
النوع الثاني: الشرك في العبادة؛ وهو قسمان: شرك أكبر، وشرك أصغر؛ فالشرك الأكبر أن يصرف العبد نوعًا من أنواع العبادة لغير الله؛ كأن يدعو غير الله، أو يرجوه أو يخافه؛ فهذا مخرجٌ من الدين، وصاحبه مخلَّدٌ في النار.
وأما الشرك الأصغر: فالوسائل والطرق المفضية إلى الشرك إذا لم تبلغ رتبة العبادة؛ كالحلف بغير الله والرياء ونحو ذلك.
2- من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم أو يستغيث بهم، فهذا من الشرك بالله الذي يناقض التوحيد؛ لأن صرفَ العبادة لا يكون إلا لله وحده، وهذا هو معنى لا إله إلا الله؛ أي: لا معبود بحق إلا الله، والعبادة تشمل الدعاء، والاستغاثة، والخوف، والرجاء، ونحو ذلك.
وأما الاستغاثة بغير الله فهي شركٌ باطل؛ كما قال تعالى: }ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ{ [الحج: 62].
3- اعتقاد عدم اكتمال الإسلام: وهذا يقتضي التشكيك في رسالة الإسلام ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أنزل الله - جل وعلا - عليه الدين كاملاً، وقال تعالى: }الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا{ [المائدة: 3]؛ فمن شكَّ في اكتمال الإسلام فهو كافر.
4- الاستهزاء بشيء من دين الله: فقد كان الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يمزحون ويضحكون ويقولون: ما رأينا مثل قرائنا أرغب بطونًا ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء - يعنون الصحابة ؛ فأنزل الله فيهم: }وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ{ [التوبة: 65، 66].
فهؤلاء إنما قالوا هذا الكلام على سبيل المزاح والضحك، ومع ذلك حكم الله بكفرهم ولم يقبل اعتذارهم؛ فكيف بمن يسخر بالسنن والفرائض، ويعيب على المؤمنين التزامهم بالطاعة والسنة.
من أبغض شيئًا مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد كفر ولو عمل به ظاهرًا؛ لأن قدمَ الإسلام لا تقوم إلا على التسليم والاستسلام؛ فمن أبغض شيئًا من شريعة الله فقد ناقض إيمانه بكمال الشريعة وعدلها ونفعها للخلق؛ قال تعالى: }وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ{.
6- عدم تكفير المشركين وتصديقهم: فمن اعتقد بصحة إيمان اليهود و النصارى والمشركين فهو كافر خارج عن الملة ؛ لأن الله - جل وعلا - يقول: }إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ{، ويقول سبحانه: }وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ{؛ فالإسلام دينٌ مهيمنٌ على الشرائع السابقة وحاكمٌ عليها وناسخٌ لشريعتها؛ فمن سَوَّى بينه وبين الدِّيانات السابقة أو شَكَّ في هيمنته عليها كفر، ومن هنا يُعْلَم بطلان الدعوة إلى وحدة الأديان، والإقرار بصدق عقيدة اليهود والنصارى؛ كيف وقد كفَّرهم الله - جل وعلا - فقال تعالى: }لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ{ وقال سبحانه: }لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا{.
7- ممارسة أنواع السحر: لقوله تعالى: }وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ{.
8- مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المؤمنين:
قال تعالى: }لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ{.
وقال تعالى في وصف المؤمنين: }أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ{؛ فمن ودَّ المشركين ونصرهم على المسلمين فقد برئت منه ذمة الله ورسوله.
9- الاعتقاد في إمكان الخروج عن الشريعة:
فمن اعتقد أن بإمكانه الخروج عن شريعة الله فقد خرج من ديوان العبودية لله؛ قال تعالى: }وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ{.
10- الإعراض عن دين الله: فمن استكبر عن شريعة الله معرضًا عن تعلمها والعمل بها استخفافًا وعنادًا كفر.
مخالفات شركية
ومن أخطر المخالفات العقدية الوقوع في الشرك بالله:
يقول ابن القيم - رحمه الله - : «أخبر الله سبحانه أنَّ القصدَ بالخلق والأمر أن يعرف بأسمائه وصفاته ويعبده وحده لا يشرك له، وأن يقوم الناس بالقسط؛ وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض؛ كما قال الله تعالى: }لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ{».
فأخبر - سبحانه - أنه أرسل رسلَه وأنزل كتبَه ليقوم الناس بالقسط - وهو العدل ، ومن أعظم القسط التوحيد؛ وهو رأس العدل وقوامه، وأن الشركَ ظلمٌ؛ كما قال تعالى: }إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ{.
فالشرك أظلم الظلم، والتوحيد أعدل العدل؛ فما كان أشد منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر.. فلما كان الشِّركُ منافيًا بالذَّات لهذا المقصود كان أكبر الكبائر على الإطلاق، وحرَّم اللهُ الجنةَ على كل مشرك، وأباح دمه وماله وأهله لأهل التوحيد، وأن يتخذوهم عبيدًا لهم لما تركوا القيام بعبوديته، وأبى الله أن يقبل لمشرك عملاً أو يقبل فيه شفاعة أو يستجيب له في الآخرة، أو يقبل له فيها رجاء؛ فإن المشرك أجهل الجاهلين بالله؛ حيث جعل له من خلقه ندًّا؛ وذلك غاية الجهل به، كما أنه غايةُ الظلم منه، وإن كان المشرك في الواقع لم يظلم ربه وإنما ظلم نفسه ([3]). وإليك أخي أشهر المخالفات الشركية:
دعاء غير الله: كمن يدعو الأموات ممن يعتقد صلاحهم وولايتهم ويتضرع إليهم لقضاء الحاجات وتفريج الكربات؛ قال تعالى: }وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ{.
وقال تعالى: }فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ{.
النذر لغير الله: كأن يقول: عليَّ نذر لفلان من الأولياء أن أفعل كذا، أو أذبح كذا؛ فهذا من الشرك بالله؛ لأن النذرَ لا يكون إلا لله تعالى وحده.
محبة غير الله: قال تعالى: }وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلهِ{؛ فمن أحبَّ غيرَ الله كمحبَّة الله فهو مشركٌ بالله تعالى لا يقبل منه صرفًا ولا عدلاً.
شرك الطاعة: كمن يُحلُّ لنفسه طاعة غير الله جل وعلا؛ وفي ذلك يقول سبحانه عن النصارى: }اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ{.
الذبح لغير الله: كمن يذبح القرابين والذبائح للأولياء والصالحين وغيرهم تقرُّبًا إليهم وطمعًا ورجاء في نفعهم؛ وهذا كلُّه من الشِّرك الأكبر.
الحلف بغير الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك»([4]).
وهذا النوع هو من الشرك الأصغر الذي لا يخلَّد صاحبُه في النار؛ لكنه من الذنوب العظيمة.
الشركُ الخفيُّ: وهو الرياء والسمعة، وإرادة غير الله بالعبادات؛ كمن يُحْسن صلاته إذا رآه الناس، ويتصدَّق لأجل أن يمدح، ويفعل الخير لأجل أن يقدِّرَه النَّاسُ ويثنوا عليه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أخوفَ ما أخاف عليكم الشِّركُ الأصغر: الرياء؛ يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء»([5]). ومن ذلك أيضًا مَنْ يقوم بالأعمال الشَّرْعيَّة لأجل المال.
يقول ابن القيم - رحمه الله: «وأما الشرك في الإرادات والنيات فذلك البحر الذي لا ساحل له، وقلَّ من ينجو منه؛ فمن أراد بعمله غير وجه الله ونوى شيئًا غير التقرب إليه وطلب الجزاءَ منه، فقد أشرك في نيته وإرادته»([6]).
فاحذر أخي من هذه الأنواع وغيرها مما هو من باب الشرك كالرجاء من غير الله والخوف من غير الله واستعمال التمائم، والخيط، والحلق وتعليقها دفعًا للبلاء، والطيرة، وغير ذلك مما هو مبسوط في كتب التوحيد.
قال تعالى: }لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ *{.
وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» قلنا: بلى يا رسول الله. قال: «الشرك بالله، وعقوق الوالدين»([7]).
زيارة الكُهَّان والعرافين لالتماس معرفة الغيب: فقد قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فسأله عن شيء فَصَدَّقَه لم تُقْبَل له صلاة أربعين يومًا».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَتى كاهنًا فَصَدَّقه بما يقول فقد كَفر بما أُنزل على محمد».
فالكهانة من الشرك؛ لأن الكاهن مدَّع لمعرفة الغيب، وقد قال تعالى: }وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ{؛ فالله - جل وعلا - وحده المختصُّ بعلم الغيبيات، ومن لجأ إلى العَرَّاف أو الكاهن لالتماس معرفة الغيب فقد أشرك، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقد كفر بما أنزل على محمد».
استعمال السحر واللجوء إلى السحرة: وهو من أخطر المخالفات العقدية التي يقع فيها ضعاف الإيمان؛ قال تعالى: }وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ{.
وقال صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السَّبْعَ الموبقات». وذكر منها «السحر».
ومن المخالَفات أيضًا استعمالُ السِّحر للتداوي من السحر: وهو أمر تحصل به مفاسد عقدية خطيرة؛ لأن عامةَ السَّحَرة يستعملون طرقًا شركية في العلاج، ويشترطون على المريض أن يقدِّم القرابين للشياطين وأن يذبح الذبائح للجن، أو يعلق تمائم شركية أو نحو ذلك من صور الشرك عند السحرة؛ وجاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة فقال: «هي من عمل الشيطان». والنشرة هي حلُّ السحر عن المسحور.
وهي نوعان: نوع يكون بحلِّ السحر بسحر مثله؛ فكلٌّ من الساحر والمسحور يتقرب إلى الشيطان بما يحب فيبطل تأثير السحر عن المسحور؛ فهذا لا يجوز. الثاني: أن يكون حلُّ السحر بالرُّقي والتَّعوُّذات والأدعية الشرعية والأدوية المباحة؛ فهذا جائز.
ومن التَّعوُّذات الشَّرعيَّة قراءة المعوذتين: الفلق: }قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ{، والناس: }قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ{، وقال بعضُ أهل العلم في علاج السِّحر: يدقُّ سبع ورقات من السدر ويخلطها بالماء ويقرأ عليه آية الكرسي والمعوذتين وآيات السحر، ثم يحسو من الماء المقروء عليه ثلاث حسوات ثم يغتسل منه ويكرر هذه الرقية مرة، وثلاث، وسبع مرات.
التَّوَسُّل البدعيُّ: وذلك كالتَّوَسُّل بطلب الدُّعاء من الأموات، أو التَّوَسُّل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو التوسل بذوات المخلوقين.
وطلب الدعاء لا يجوز؛ بل إنَّه من السَّفَه؛ لأنَّ الميتَ لا يَقْدر على الدُّعاء، وقد انتهى عمله، ووافاه أجله، ولذلك فإن طلبَ الشفاعة من الأموات لا يجوز؛ لأنه طلبٌ محالٌ! وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومعاوية بن أبي سفيان، ومن بحضرتهما من الصحابة والتابعين، لما أجدبوا استسقوا واستشفعوا بمن كان حيًّا كالعبَّاس وكيزيد بن الأسود، ولم يتوسلوا، ولم يستشفعوا، ولم يستسقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لا عند قبره، ولا عند غيره؛ بل عدلوا إلى البدل كالعباس وكيزيد، وقد قال عمر: (اللهم إنَّا كنَّا نتوسَّل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسَّل بعمِّ نبيِّنا فاسقنا) ([8]) ؛ فجعلوا بدلا من ذلك لما تعذر أن يتوسلوا به على الوجه المشروع الذي كانوا يفعلونه، وقد كان يمكنهم أن يأتوا إلى قبره صلى الله عليه وسلم فيتوسَّلوا به لو كان جائزًا؛ فتركُهم لذلك دليلٌ على عدم جواز التَّوسُّل بالأموات؛ لا بدعائهم ولا بشفاعتهم.
وكذلك التَّوَسُّل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز: وأما الحديث الذي فيه: «إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم». فهو حديث مكذوبٌ على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد حكم العلماء بوضعه، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله، ولم يقم دليل صحيح على جواز التَّوَسُّل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم؛ وما دام لم يصح فيه دليل فهو لا يجوز؛ لأنَّ الأصلَ في العبادة التَّوَقُّف حتى تثبت بدليل صحيح صريح.
وكذلك لا يجوز التَّوَسُّلُ بحقِّ المخلوق لأمرين:
الأول: أن الله جل وعلا لا يجب عليه حق لأحد؛ وإنما هو – سبحانه - من يتفضَّلُ على المخلوق بذلك؛ كما قال تعالى: }وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ{؛ فكونُ المطيع يستحقُّ الجزاءَ هو استحقاقُ فضل وإنعام، وليس هو استحقاقُ مقابلة كما يستحق على المخلوق.
الثاني: أن هذا الحقَّ الذي تفضَّلَ الله به على عبده هو حقٌّ خاصٌّ به لا علاقة لغيره به؛ فإذا توسَّل به غير مستحقه كان متوسِّلاً بأمر أجنبيٍّ لا علاقة لغيره به، وهذا لا يجديه شيئًا؛ وأما حديث: «أسألك بحقِّ السائلين» فهو حديث ضعيف([9]).
المناهي اللَّفظية في العقيدة
قولُ ما شاء الله وشاء فلان: قال صلى الله عليه وسلم لمَّا قال له رجل: "ما شاء الله وشئت": «أجعلتَني لله ندًّا! قل ما شاء الله وحده»([10]).
فالصَّوابُ أن يقولَ المسلم: ما شاء الله ثم فلان؛ لأن «ثم» تفيد الترتيبَ مع التراخي؛ فتجعل مشيئة العبد تابعةً لمشيئة الله؛ وأما الواو فتقتضي الاشتراك والجمع، ولا تقتضي ترتيبًا ولا تعقيبًا.
الحلف بغير الله: كمن يحلف بالحياة أو بالأولياء والموتى، أو بالنعم، أو نحو ذلك؛ فكلُّها من المناهي الشرعية التي تخالف ما تقرر في العقيدة؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك». وذلك لأن القسمَ لا يكون إلا بمعظم، ولا يجوز تعظيم غير الله سبحانه.
قول: «فلان شكله غلط»: ففي هذه العبارة تعقيب على خلق الله الذي أتقن كل شيء خلقه، وصور فأحسن؛ فليس الإنسان من أوجد نفسه، ولا هو من صوَّر نفسه؛ لذلك فإن الذامَّ لخلقته هو ذامٌّ لمشيئة الله في الأصل، وتعقيب على حكمه وقضائه؛ }وَاللهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ{.
قول: الله ورسوله أعلم: وهذه العبارة لا يجوز قولها إلا في الأمور الشرعية؛ أما الأمور الكونية فلا يقال فيها إلا: "الله أعلم"؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عالمٌ بالأمور الشرعية؛ فقد علَّمه ربُّه ذلك، وأخبرنا بذلك فقال: }وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا{.
ومن هنا فإن من يكتب على أعماله: }وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ{ هو مخطئ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرى العمل بعد موته، وكذلك من يسأل عن أمر غيبي لا علاقة له بالشرع، فيقول: الله ورسوله أعلم. كأن يسأل عن فلان أين يذهب أو نحو ذلك؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب؛ لذلك يحرم نسبة علم الغيب إليه؛ قال تعالى عنه: }وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ{.
قول: «أنا مؤمن إن شاء الله» على سبيل الشك:
فمن قال: «أنا مؤمن إن شاء الله على سبيل الشك والريب فقد ارتكب جرمًا عظيمًا؛ لأن الاستثناء في الإيمان على سبيل الشك كفر، ولا يحل للمؤمن أن يشكَّ في إيمانه، وأما قول من قال: «أنا مؤمن إن شاء الله». على سبيل الخوف من تزكية النفس وأن ينسب لها الإيمان المطلق، فهذا عمل مشروع، وأما من قال أنا مؤمن إن شاء الله. يريد بذلك التَّبرُّك بالمشيئة أو بيان أن إيمانه لم يكن إلا بمشيئة الله وإرادته فهذا أيضًا كلام مشروع لا محظور فيه».
قول: «إن الله على ما يشاء قدير»:
قال الشيخ ابن العثيمين رحمه الله: «هذا لا ينبغي لوجوه: الأول: أن الله تعالى إذا ذكر وصف نفسه بالقدرة لم يقيد ذلك بالمشيئة؛ كما في قوله تعالى: }وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{، الثاني: أن تقييد القدرة بالمشيئة خلاف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه؛ فقد قال الله عنهم: }يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{ ولم يقولوا: (إنك على ما تشاء قدير). وخير الطريق طريق الأنبياء وأتباعهم؛ فإنَّهم أهدى علمًا وأقومُ عملاً.
الثالث: أنَّ تقييدَ القدرة بالمشيئة يوهم اختصاصًا بما يشاؤه الله تعالى فقط؛ فإذا تبيَّن أن وصف الله تعالى بالقدرة لا يقيَّد بالمشيئة - بل يطلق كما أطلقه الله تعالى لنفسه - فإن ذلك لا يعارضه قول الله تعالى: }وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ{؛ فإن المقيدَ هنا بالمشيئة هو الجمع لا القدرة.
قول: «لا يغفر الله لفلان»: وهذا أيضًا لا يجوز لأنه من باب التألِّي على الله عز وجل، وقد ثبت في الصحيح أن رجلاً كان مسرفًا على نفسه، وكان يمر به رجل آخر فيقول: والله لا يغفر الله لفلان. فقال الله عز وجل: «من ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفر لفلان، قد غفرت له، وأحبطت عملك».
فالتألِّي على الله لا يجوز؛ كأن يقول المسلم: «فلان لن يهديه الله». أو: «فلان لن يدخل الجنة». أو: «فلان سيدخل النار». فهذا كله من الغيب، والله جل وعلا أعلم بعباده يغفر لمن يشاء ويعذِّب من يشاء.
قول: «دُفن في مثواه الأخير»: وهذه العبارة تقتضي أن القبر آخر شيء يستقرُّ فيه الإنسان وهو خلاف ما تقرر في العقيدة الصحيحة من أن القبر أول منازل الآخرة، وأن المثوى الأخير هو الجنة أو النار وليس القبر.
إطلاق لفظ الكفر على المؤمن أو لفظ الإيمان على الكافر: كمن يشتم أخاه المسلم بلفظ الكفر في حالة الغضب، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قال المسلم لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما». وكمن يترحم على موتى الكفار تعاطفًا ومودة، أو يطلق عليهم لفظ الشهداء أو نحو ذلك.
مخالَفات متنوعة
الطواف بالقبور: وهو من المخالفات الشركية التي يقع فيها كثير ممن يجهلون حقيقة توحيد العبادة لله سبحانه، والطواف بالقبور فيه تعظيم للمقبور وعبادة له؛ لأن الطوافَ عبادةٌ لم يأذن بها الله جل وعلا إلا في البيت العتيق وهو الكعبة المشرفة؛ قال تعالى: }وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ{؛ أما الطواف بغير الكعبة فهو من الشرك بالله، والطواف صلاة، والصلاة عند القبور لا تشرع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك»([11])، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتَّخذون القبور مساجد»([12]).
التَّطَيُّر: وأصله التشاؤم بالطيور واعتبار قدومها وأحوالها وأصواتها وذهابها دليلا على الحسنة أو السيئة، والتَّطيُّر في زماننا لا يقصر على التشاؤم بأحوال الطيور؛ بل يتعدَّى ذلك إلى التشاؤم بالأشخاص والأزمان ونحو ذلك، وكل هذا من المخالفات العقدية التي تناقض عقيدةَ التوحيد؛ لأن النفعَ والضرَّ بيد الله وحده، وأنى لطير أو حجر أو شخص أن ينفع أو يضر إلا بإذن الله، وقد سمع ابن عباس رضي الله عنه أقوامًا سمعوا أصوات طير فقالوا: خير خير. فزجرهم بقوله: «لا خيرَ ولا شرَّ، وأيُّ شيء عند هذا الطير».
وقد حكى الله جل وعلا عن المشركين تطيُّرهم بالرسل كما قال سبحانه عن قوم موسى: }وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ{، وقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم علاجَ الطِّيَرة؛ وذلك بنسبة الخير إلى الله وحده والثقة به وحده: «اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك».
وقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك».
وهنا مسألة قد تشكل على بعض الناس؛ وهي قوله صلى الله عليه وسلم: «إن كان الشؤم ففي ثلاث: في الدابة والمرأة أو البقعة»؛ فالشُّؤمُ في هذا الحديث ليس معناه جوازَ الاعتقاد في هذه الثلاث أنها تنفع أو تضر؛ وإنما يرادُ به جوازُ مفارقة هذه الأمور الثلاثة لأنها أعيان مخلوقة قد تكون مجبولةً على شرٍّ؛ فهو مقارن لها، ومصاحب لها؛ فإذا رأى المسلم ذلك جاز له أن يفارقها تخلُّصًا من شرِّها المقارن لها؛ فيبيع الدَّابَّة، ويفارق الزوجة، ويبيع البقعة؛ كما هو مشروع مفارقة أقران السوء.
سوءُ الظن بالله جل وعلا: فإن مقتضى الإيمان بالله ومعرفته سبحانه أن يكون المؤمن حسن الظن بربه يوقره في أفعاله وقلبه ولا يظن به إلا خيرًا فإن ذلك مقتضى الإيمان بعدله ورحمته ولطفه وبره وإحسانه وإنعامه، ومن لم يتأمل قلبه هذه الصفات ساء ظنُّه.
ومن صُور سوء الظَّنِّ بالله القنوط من رحمته سبحانه واليأس من عفوه ونصره: وقد عاب الله جل وعلا هذا القنوط واليأس وجعله من صفات أجهل الخلق بالله وأبعدهم عن معرفته وهم الكفار فقال تعالى: }وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ{.
ومن صور الظَّنِّ بالله أيضًا: الاستعجال في الدعاء وتركه يأسًا من الاستجابة؛ ويُعَدُّ هذا الظَّنُّ من موانع الإجابة؛ كما جاء في الحديث؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل». قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: «يقول قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء»([13]).
يقول ابن رجب الحنبليُّ: «فالعبد لا يستعجل في عدم إجابة الدعاء؛ لأن اللهَ قد يؤخِّر الإجابةَ لأسباب: إما لعدم القيام بالشروط أو الوقوع في الموانع، أو لأسباب أخرى تكون في صالح العبد وهو لا يدري؛ فعلى العبد إذا لم يستجب دعاؤه أن يراجع نفسه ويتوب إلى الله تعالى من جميع المعاصي، ويبشر بالخير العاجل والآجل، والله تعالى يقول: }وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ{؛ فما دام العبد يُلحُّ في الدُّعاء ويطمع في الإجابة من غير قطع فهو قريب من الإجابة، ومن أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له»([14]).
التَّنجيم: والمقصود به الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية وادِّعاء تأثيرها لما فيه من ادِّعاء علم الغيب والشَّعْوَذَة، وهو ضرب من ضروب السحر والشعوذة.
قال الخطابي رحمه الله: علم النجوم المنهيُّ عنه هو ما يدَّعيه أهل التَّنجيم من علم الكوائن والحوادث التي ستقع في مستقبل الزمان كأوقات هبوب الرياح ومجيء الأمطار وتغيُّر الأسعار، وما في معناها من الأمور التي يزعمون أنها تدرك معرفتها بمسير الكواكب في مجاريها واجتماعها وافتراقها؛ يدَّعون أن لها تأثيرًا على السُّفليَّات؛ وهذا منهم حكم على الغيب وتحاطٌّ لعلم قد استأثر الله بعلمه؛ فلا يعلم الغيب سواه.
قال قتادة رحمه الله: «خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأوَّل فيها غير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبَه وتكلَّف ما لا علم له به».
([1]) عقيدة أهل السنة والجماعة / لابن عثيمين.
([2]) سؤال وجواب في أهم المهمات / للسعدي (25).
([3]) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي.
([4]) رواه أحمد.
([5]) رواه أحمد.
([6]) الجواب الكافي.
([7]) رواه البخاري.
([8]) رواه البخاري.
([9]) السلسلة الضعيفة للألباني (24).
([10]) رواه أحمد.
([11]) رواه مسلم.
([12]) رواه أحمد.
([13]) رواه مسلم.
([14]) جامع العلوم والحكم (2/404).