الوصف المفصل
الفقه الأكبر
صالح بن فوزان الفوزان
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وتمسك بسنته وسار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد..
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»([1]).
ومعنى هذا أن من علامات إرادة الله -سبحانه وتعالى- الخير بعبده أن يوفقه الله للتفقه في دينه وأن من لم يوفقه للتفقه في الدين فإنه لم يرد به خيرًا. وفي هذا دليل على أهمية التفقه في الدين.
والله تعالى حث في كتابه الكريم على التفقه في الدين. قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122].
وذم الله سبحانه وتعالى الذين لا يفقهون. قال سبحانه: ﴿وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [المنافقون: 7].
وقال تعالى: ﴿فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ [النساء: 78].
فالذي لا يتفقه في دين الله ولا يهتم بذلك ولا يسعى لطلب العلم معناه أنه إنسان محروم من الخير لأنه لا يمكن للإنسان أن يعبد الله سبحانه وتعالى حق عبادته على الوجه الذي يرضاه إلا إذا تفقه في دينه وأدى العبادة على الوجه الذي شرعه الله سبحانه وتعالى ولا يمكن للإنسان أن يؤدي العبادة على الوجه المشروع إلا إذا تفقه في دين الله عز وجل، والذي يعمل ويعبد الله من غير فقه لا يكون عمله مؤسسًا على أساس صحيح. فقد يكون كله أو أكثره ضلالاً.
من هنا نعرف أهمية التفقه في دين الله سبحانه وتعالى وأنه أمر عظيم وأنه مطلوب من كل مسلم أن يتفقه في دين الله ولا يبقى على جهل وعلى خطأ ولا يدري كيف يعبد الله عز وجل وكيف يؤدي ما افترضه الله عليه وكذلك يحتاج للفقه في دينه في معاملاته، ويحتاج إلى الفقه في دينه في علاقته بأهله وأولاده وجيرانه وأقاربه وإخوانه، يحتاج إلى التفقه في الدين من أجل أن يعطي كل ذي حق حقه فالذي لا يتفقه في الدين لا يمكن أن يعطي أصحاب الحقوق حقوقهم على الوجه المطلوب ابتداءً من حق الله سبحانه وتعالى ثم حقوق العباد.
* * *
أنواع الفقه
والفقه في الدين على نوعين:
النوع الأول: الفقه في العقيدة:
التي هي أساس الدين فلا بد أن يعرف الإنسان ما يُصَححُ عقِيدتَهُ وما يُخِل بها وما ينقصها من الأمور الشركية أو البدعية, فالتفقه في العقيدة بمعنى أن الإنسان يتعلم عقيدة التوحيد ويتعلم ما يلزم لهذه العقيدة ويتعلم ما يُضاد هذه العقيدة أو يخل بها أو ينقصها. هذا النوع من الفقه هذا هو الأساس ويسمى عند بعض العلماء (بالفقه الأكبر) وذلك بأن يعرف الإنسان ربه -عز وجل- بأسمائه وصفاته ويعرف كيف يعبد الله حق عبادته ولماذا خلق هذا الإنسان وما المطلوب منه نحو ربه سبحانه وتعالى، وما الذي لا يجوز في حق الله سبحانه وتعالى حتى يتجنبه، هذا النوع من الفقه هو الفقه الأساسي. وهو أن يعرف أقسام التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، من أجل أن يقوم بكل نوع منها على الوجه المطلوب وكذلك إلى جانب معرفة أنواع التوحيد ومكملاته وحقوقه لابد أن يعرف ما يضاد التوحيد ويخالفه من عقائد الشرك والبدع والمخالفات حتى يتجنبها وإلا فقد يلتبس عليه الأمر، وقد يظن أن الشرك لا بأس به خصوصًا إذا نشأ في بلد أو في جيل لا يعرفان التوحيد ولا يعرفان معنى الشرك.
فإن كثيرًا من البلدان, يعتقد أهلها أن البناء على القبور والطواف بها؛ وسؤال الموتى ونداء الموتى والاستغاثة بهم وطلب الحوائج منهم, يظنون أن هذا من الدين كما قال الأوائل فيما حكاه الله تعالى عنهم: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يونس: 18].
وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: 3].
فهم يعتقدون أن هذا من الدين لأنهم أدركوا عليه آباءهم وأجدادهم وأهل بلدهم حتى ظنوه من الدين وأن الله يرضى به حتى قالوا: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾ [الأنعام: 148]. ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [النحل: 35]. فرد الله عليهم بقوله: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36].
فلو كان رضي عن ذلك ما أرسل الرسل بإنكاره؛ وذلك بسبب الجهل وعدم الرجوع إلى التوحيد الصحيح الذي جاءت به الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وهو إخلاص العبادة لله عز وجل وترك عبادة ما سواه. فقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36].
المراد بالطاغوت كل ما عبد من دون الله سبحانه وتعالى سواء سمي وليًا أو سمي شفيعًا أو سمي بأي اسم كان, فإنه طاغوت إذا كان رضي بأن يعبد من دون الله. أما الذي لا يرضى أن يعبد من دون الله لا يسمى طاغوتًا:
أما إذا عبد من دون الله. وهو لم يرض بذلك وكان ينهى عن ذلك في حياته فهذا لا يعتبر طاغوتًا لكن عبادته تعتبر شركًا بالله عز وجل وإلا فقد عبد المسيح - عليه السلام -، وعبد الملائكة، وعبد ناس من الصالحين، وهم لا يرضون بذلك بل كانوا ينهون عنه أشد النهي ويقاتلون عليه لكن لما ماتوا بنوا على قبورهم وقربوا لهم القرابين وعبدوهم من دون الله فهؤلاء لا يعتبروا طواغيت ([2]) ولكن يعتبر من عبدهم من دون الله مشركًا. ولهذا لما أنزل الله سبحانه وتعالى قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ [الأنبياء: 98].
فرح المشركون وقالوا نحن نعبد عزيرًا ونعبد المسيح ونعبد الملائكة فإذا كان هؤلاء معنا في النار فلا لوم علينا، وقد بين الله سبحانه وتعالى الرد عليهم بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى﴾ يعني عيسى - عليه السلام - والعزير والملائكة ومن عبد من دون الله من المؤمنين وهو لا يرضى بذلك.
﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء: 101-103].
فالصالحون الذين ماتوا على العقيدة الصحيحة ولكنهم عُبدوا بعد موتهم وهم لم يرضوا بذلك، هؤلاء ليس عليهم حرج مما فعله المشركون بالنسبة إليهم لأنهم لم يرضوا بذلك ولم يأمروا الناس بعبادتهم. قال تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 79، 80].
وقال الله تعالى عن المسيح - عليه السلام -: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المائدة: 117].
أما الذي يرضى بأن يعبد من دون الله, ويدعو الناس إلى عبادة نفسه فهذا طاغوت.
لا تصح عبادة الله إلا مع ترك عبادة ما سواه:
قال تعالى: ﴿أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36].
وقال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء: 36].
لم يقتصر على قوله: اعبدوا الله، بل قال: ولا تشركوا به شيئًا لأن العبادة لا تنفع إلا إذا خلت من الشرك.
قال تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110].
لم يقتصر على قوله: فليعمل عملاً صالحًا بل نهى عن الشرك لأن الإنسان قد يعمل عملاً صالحًا لكنه يفسده بالشرك بالله عز وجل فيكون عمله هباءً منثورًا لا يستفيد منه شيئًا. إن العمل الصالح لا ينفع إلا إذا خلا من الشرك وهذا خطر عظيم يحتاج منا إلى تفقه في معرفة الشرك، ما هو الشرك؟ وما أنواع الشرك؟ حتى نتجنبه، وحتى نبتعد عنه، وحتى تسلم لنا عبادتنا وديننا لله عز وجل لأن كثيرًا من الناس يظن أن الشرك هو الشرك في الربوبية فقط، وكثيرًا من الناس تساهلوا في هذا الأمر واعتبروا دراسة التوحيد ودراسة العقيدة والدعوة إلى عبادة الله. اعتبروا أن هذا يفرق بين الناس ويقولون: «نحن نريد أن نجمع الناس». ونقول لهم: الاجتماع لا يحصل إلا على التوحيد. أما الاجتماع الذي على غير التوحيد فإنه اجتماع لا خير فيه ولا فائدة منه ومآله إلى العداوة ومآله إلى الزوال، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ [الأحقاف: 5، 6].
وقال تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ * يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ﴾ [الزخرف: 67-69].
الاجتماع المثمر لا يكون إلا على العقيدة الصحيحة، ومن هنا يجب علينا أن نعرف العقيدة الصحيحة وأن ندعو إليها دائمًا وأبدًا.
وأن ندرسها ونسأل عنها وندرِّسُها في مدارسنا ومعاهدنا وكلياتنا لأنها هي الأساس وهي الفقه الأكبر.
النوع الثاني: الفقه في الأمور العملية:
الفقه في أحكام الصلاة، الفقه في أحكام الزكاة، الفقه في أحكام الصيام، الفقه في أحكام الحج، الفقه في أحكام البيع والشراء والمعاملات، الفقه في أحكام النكاح والطلاق والعدة، الفقه في أحكام الطهارة الكبرى والصغرى وهكذا، فالفقه في هذه الأمور، هو أيضًا مكمل للفقه الأول وتابع له ولا ينفع هذا الفقه إلا بعد أن يتحقق الفقه الأكبر.
فلو أن الإنسان تَبَحَّر في فقه المعاملات وفي فقه الصلاة والزكاة والصوم والحج ولكنه لا يعرف الفقه الأكبر أو يتساهل فيه فإن هذا الفقه لا يفيده شيئًا لأنها لا تصح صلاة ولا تصح زكاة ولا صيام ولا حج ولا عمرة ولا أي عبادة إلا بعد أن يتحقق الفقه الأكبر وهو التوحيد، إذن هذا الفقه الثاني مكمل للأول وتابع له وإن كان كثير من الناس يهتمون بالفقه الثاني ويتساهلون في الفقه الأول كما ذكرنا لكم، وهذا من الجهل العظيم والتفريط الأعظم وهذا بمنزلة من يعالج بدنًا قد قطع رأسه, والبدن الذي قطع رأسه لا فائدة منه لأنه يصبح جيفة هامدة ولو عالجته بأنواع العلاج.
* * *
وسائل تحصيل الفقه بقسميه
ما دمنا عرفنا أهمية الفقه وعرفنا أقسام الفقه ومنزلة كل قسم من الدين علينا أن نعرف الوسائل التي نحصل بواسطتها على الفقه في الدين:
أولاً – التعلم:
الفقه في الدين إنما يحصل بالتعلم بالجلوس في حلقات التدريس. وفي فصول الدراسة المنهجية، الجلوس للتعلم أمام المعلم, هذه هي أول وسيلة وأحسن وسيلة إلى تحصيل العلم. الدراسة على أيدي العلماء، الجلوس في حلق الذكر، سواء إن كانت في المساجد أو في المدارس أو في أي مكان.
يقول الشاعر:
من لم يذق ذل التعلم ساعة | ||
تجرع كأس الجهل طول حياته | ||
الإنسان لا يتكبر على طلب العلم ولا يقول: أنا إنسان لي مكانة، ما يليق بي أن أجلس بين يدي مدرس في المسجد أو في الفصل أو في المدرسة، أنا أكبر من ذلك، هذا غلط لابد أن تجلس، لابد أن ترابط نفسك في طلب العلم، لابد أن تصبر على التعب وعلى المشقة في طلب العلم، تتحمل العناء والسهر وطول الجلوس أمام المعلم، وإلا فإنك ستعيش جاهلاً تتجرع كأس الجهل طول حياتك.
* * *
القدوة في طلب العلم
جبريل عليه الصلاة والسلام الروح الأمين جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بحضرة أصحابه دخل عليهم كما يقول عمر - رضي الله عنه -: (بينما نحن جلوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ دخل علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد فجلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع يديه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإيمان قال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره» قال: صدقت. قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه. ثم قال: أخبرني عن الإسلام قال: «الإسلام أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً». وفي رواية: «وأن تحج البيت وتعتمر». فقال: صدقت أخبرني عن الإحسان قال: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك». قال: صدقت. أخبرني عن الساعة قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل». يعني أنا وأنت في ذلك سواء كل منا لا يعرف متى تقوم الساعة لأن هذا لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾ [لقمان: 34].
﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا﴾ [الأحزاب: 63].
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا﴾ [النازعات: 42-44].
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ﴾ [الأعراف: 187].
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل». قال: أخبرني عن أمارتها يعني العلامات. علامات قيام الساعة تكون آخر الزمان، وإذا ظهرت فإنها تدل على قرب قيام الساعة، وهي علامات كثيرة منها علامات كبار وعلامات دون ذلك، قال: «أن تلد الأمة ربتها – يعني سيدتها – وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان» فمن علامات الساعة تطاول الأعراب والبادية في تشييد المباني لأنه معروف أن البادية كانت ترحل وتتبع مواطن المطر لا تبني بيوتًا ولا تنزل في القرى والأمصار، ولكن في آخر الزمان يتوطنون في المدن والقرى ويبنون ويتطاولون في البنيان، هذا من علامات الساعة. قال: ثم خرج الرجل بعد ما أنهى جلسته مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الراوي: ولبثنا مليًا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أتدرون من السائل»؟ قال الله ورسوله أعلم قال: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم»([3]).
أي أن جبريل أراد أن يعلم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - كيف تتعلم دينها، كيف تجلس بين يدي المعلم بأدب واحترام، فجلس بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - بأدب واحترام مجلس التلميذ من معلمه من أجل أن يعلم الصحابة والأمة كيف يتلقون العلم بأدب، يسألون والمعلم يجيب على كل سؤال. ففي هذا الحديث بيان لأهمية تعلم العلم من العلماء والجلوس بين أيديهم والتأدب معهم وحسن السؤال. هذا موسى - عليه السلام - ذكر الله لكم نبأه أنه ذهب وسافر لطلب العلم لما سمع أن في الأرض من عنده علم ليس عند موسى - عليه السلام -، ذهب يبحث عنه وتكبد المشاق حتى لقيه، فقال: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ [الكهف: 66، 67].
فموسى كليم الله - عليه السلام - ذهب لطلب العلم وصبر على المشاق مما يدل على أن العلم لا يحصل عفوًا، وإنما لابد له من مشقة، ولابد له من تعب، ولا بد له من سفر إذا اقتضى الأمر، ولابد من اغتراب أيضًا.
ثانيًا: ومن وسائل العلم تدبر القرآن:
فحينما تقرأ القرآن فإنك تتدبر معانيه ما معني هذه الآية، ما معنى هذه الكلمة، وليس المطلوب أن تتخرَّص من عندك، هذا لا يجوز لكن ترجع إلى كتب التفسير الصحيحة الموثوقة، فتعرف معنى كلام الله سبحانه وتعالى كذلك فتعرف معنى كلام الرسول إذا قرأت حديثًا من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يكفي أن تقرأ ألفاظه وتمر عليه مرورًا عابرًا. بل لا بد أن تتفقه في معانيها وتعرف مراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من كل كلمة وكل حديث ولا تتخرَّص، ولكن ترجع إلى الشروح شروح الأحاديث وتكثر من المطالعة في كتب الفقه والمطالعة في كتب العقيدة والمطالعة في كتب اللغة.
ثالثًا: ومن وسائل تحصيل العلم بعد كثرة المطالعة في الكتب:
سؤال أهل العلم:
فعليك أن تسأل أهل العلم يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء: 7].
والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال»([4]).
فلا يمنعك الحياء من أن تسأل فإن الحياء الذي يمنع من سؤال أهل العلم ليس محمودًا وإنما هو جبن وخور وضعف، ولا يمنعك التكبر من أن تسأل أهل العلم فإن بعض الناس يرى أنه إذا سأل العلماء نقص ذلك من قدره، والواقع أن سؤال أهل العلم من الكمال ومن الرجولة ولا يعتبر من الذلة وبقدر الحاجة، أما سؤال العلماء فهذا مرغوب فيه إلا إذا كان السؤال على وجه التعنت أو على وجه التعاظم فهذا لا يجوز، فالذي يسأل العلماء للتعجيز أو ليظهر الإنسان نفسه أمام الناس فهذا لا يجوز.
ولما سُئل عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - بماذا حصَّلت هذا العلم؟ قال: «لسان سؤول وقلب عقول» بلسان سؤول يعني كثير السؤال لأهل العلم، وقلب عقول يعني يعقل ما يقال له ويفهم ما يقال له وبذلك يتحصل العلم شيئًا فشيئًا، ومجاهد بن جبر التابعي الجليل -رحمه الله- يقول: «إن هذا العلم لا يناله مستحيي ولا مستكبر»([5]).
رابعًا: ومن وسائل طلب العلم:
الاستماع للمحاضرات والندوات التي تعقد في المساجد وخطبة الجمعة كل أسبوع، فإذا حضرت وسألت عما أشكل في الخطبة أو غيرها فإنه مع مرور الأسابيع والأيام والأزمنة يتكون عندك علم عظيم لأن خطبة الجمعة إنما شرعت من أجل تعليم الناس وتفهيمهم وتذكيرهم، وقد تساهل الناس اليوم في حضور خطب الجمعة فلا يأتي أكثرهم إلا عند الإقامة أو بعد ما يفوت أول الصلاة أو عند السلام من الصلاة وهذا حرمان عظيم يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ [الجمعة: 9].
وذكر الله المراد به الخطبة ويراد به الصلاة ولكن الأساس الخطبة، ولهذا قال في نهاية السورة: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا﴾ [الجمعة: 11].
فحضور الخطبة فيه خير كثير وعدم حضورها فيه حرمان للإنسان ولهذا أمر من يحضر أن ينصت للخطيب وألا يتكلم ولا يتحرك حتى تفرغ الخطبة من أجل أن يستفيد.
خامسًا: ومن وسائل التعلم:
الاستماع للبرامج النافعة التي تذاع في الإذاعة إذا تتبعها الإنسان وحرص عليها فإنه يحصل على علم غزير؛ ففيها فتاوى وفيها مواضيع يتكلم عنها العلماء ويوضحونها للناس إذا كنت في بيتك أو في سيارتك ما عليكم إلا أن تفتح إذاعة القرآن وتستمع، وبهذا يتحصل عندك من العلم الشيء الكثير، وتنبهك هذه البرامج إلى أشياء كنت غافلاً عنها وتتعلم أشياء كنت تجهلها.
أما إذا أعرضت وغفلت، ولم تلق بالاً، ولم تحضر عند مدرس، ولم تقرأ في كتاب، ولم تستمع إلى محاضرة أو خطبة جمعة ولا تستمع إلى برنامج ديني فمن أين يتحصل لك العلم؟ ستبقى في جهلك طول حياتك وربما تعبد الله على جهل وضلال، فلا تستفيد من عبادتك.
هذا، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين والعمل الصالح، وأن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* *
([1]) رواه البخاري «كتاب العلم» (1: 71 ص42) ط السلفية؛ ورواه مسلم «كتاب الزكاة» (جزء 3/ ص128/ نووي) كلاهما عن معاوية t.
([2]) وإنما عبدوا الشيطان الذي أمرهم بهذا، فهم بهذا الاعتبار عبدوا الطاغوت.
([3]) رواه مسلم «كتاب الإيمان» (1/ ص: 157/ بشرح النووي)؛ والإمام أحمد في «المسند» (1: برقم: 184، 367)، بتحقيق أحمد شاكر؛ والترمذي «كتاب الإيمان» (5/2610)؛ والنسائي «كتاب الإيمان وشرائعه» (8/4990)؛ وابن ماجة «المقدمة» (1/63).
([4]) رواه أبو داود «كتاب الطهارة» (1/336، 337)؛ والإمام أحمد في «المسند» (5/3057)، بتحقيق العلامة أحمد شاكر؛ وابن ماجة «كتاب الطهارة» (1/572) والدارقطني في سننه «كتاب الطهارة» (1/190، 191).
([5]) رواه البخاري في صحيحه «كتاب العلم»، باب الحياء في العلم (1/ رقم الباب 50/ ص63) ط السلفية.