ترجمات المادة
الوصف المفصل
- الواسطة
بين الحق والخلق
- تمهيـد :
- وقد
انقسم الناس في فهم الواسطة بين الحق والخلق (أي بين الله تعالى وبين عباده) إلى
ثلاث طوائف :-
- 1- من أنكر كون الرسول صلى الله عليه وسلم بعثه الله سبحانه واسطة – وحده – لتعليم الشريعة ، وأدعوا – ويا هول ما ادعوا – إن هذه الشريعة للعوام ، وراحوا يسمونها علم الظاهر ، واعتمدوا في عبادتهم على أوهام وخرافات أطلقوا عليها علم الباطن ، وسموه (كشفاً) وما هو في الحقيقة إلا وسواس أبليسية ووسائط شيطانية مخالفة لأبسط مبادئ الإسلام وشعارهم في ذلك (حدثني قلبي عن ربي) . هم في ذلك يسخرون من علماء الشريعة ، ويعينون عليهم لأنهم يأخذون علمهم ميتاً عن ميت .
- 2- ومنهم من بالغ في هذه الواسطة ، وفهمها فهماً خاطئاً ، وحملها ما لا تحمل ، فاتخذ من ذات الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والصالحين وسائط ، معتقداً أن الله سبحانه لا يقبل من عباده عملاً إلا إذا جاؤوا إليه بهؤلاء الوسطاء ليكونوا لهم وسيلة عنده ، تعالى عما يقولون علواً كبيراً ، فقد وصفوه – والعياذ بالله – بما يأبى أن يوصف به حتى الملوك المستبدون الظالمون الذين وضعوا على أبوابهم الحجاب فلا يدخل عليهم إلا من له واسطة .
- 3- ومن المسلمين من فهم هذه الواسطة بين الحق والخلق أنها الرسالة ، وهي تبليغ وتعليم وتربية ، وأدرك علو شأنها ومبلغ حاجة البشرية إليها ، فسارعوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يتخذونه الواسطة الكبرى والوسيلة العظمى لتلقي الشريعة والاستضاءة بنور الوحي ، فيتدارسون سيرته وسنته كما يتدارسون القرآن ، شعارهم في ذلك نداء الله سبحانه وتعالى : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ)
- الرسالة وساطة تبليغ :
- الرسل لا يجلبون النفع :
- العلماء ورثة الأنبياء :
- أنواع الوسائط المردودة :
- الشفاعة الباطلة والصحيحة :
- مقدار الأسباب :
- الدعاء المشروع والشفاعة :
- نعم الدنيا والدين :
- الوسائط والشرك :
- الخشية لله وحده :
- الرسول يحقق التوحيد :
- الأسباب المشروعة وغير المشروعة :
- أحدهما: أن السبب المعين لا يستقل بالمطلوب ، بل لا بد معه من أسباب أخر ، ومع هذا فلها موانـع ، فإن لم يكمل الله الأسباب ويدفع الموانع لم يحصل المقصود وهو سبحانه ما شاء كان ، وإن لم يشأ الناس ، وما شاء الناس لا يكون إلا أن يشاء الله .
- لا تدعوا مع الله أحداً
الواسطة بين الحق والخلق
لشيخ الإسلام : ابن تيمية (رحمه الله)
محمد بن جميل زينو
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيـد :
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد : فإن موضوع الواسطة بين الحق والخلق بحث خطير ، جهله أكثر المسلمين – ويا للأسف – فكان من نتيجة ذلك هذا الذي نعاني ، بعدما حرمنا نصر الله سبحانه وتعالى ، وتأييده الذي وعدنا به إذا ما لجأنا إليه واتبعنا شرعه فقال :-
(وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)
(إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)
(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ )
(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
وقد انقسم الناس في فهم الواسطة بين الحق والخلق (أي بين الله تعالى وبين عباده) إلى ثلاث طوائف :-
1- من أنكر كون الرسول صلى الله عليه وسلم بعثه الله سبحانه واسطة – وحده – لتعليم الشريعة ، وأدعوا – ويا هول ما ادعوا – إن هذه الشريعة للعوام ، وراحوا يسمونها علم الظاهر ، واعتمدوا في عبادتهم على أوهام وخرافات أطلقوا عليها علم الباطن ، وسموه (كشفاً) وما هو في الحقيقة إلا وسواس أبليسية ووسائط شيطانية مخالفة لأبسط مبادئ الإسلام وشعارهم في ذلك (حدثني قلبي عن ربي) . هم في ذلك يسخرون من علماء الشريعة ، ويعينون عليهم لأنهم يأخذون علمهم ميتاً عن ميت .
أما هم فإنهم يأخذون العلم مباشرة عن الحي القيوم ، ففتنوا بذلك كثيراً من العامة وأضلوهم ، وارتكبوا من المخالفات الشرعية ما هو مسجل في كتبهم مما دعا العلماء إلى تكفيرهم وسفك دمائهم بسبب ارتدادهم ، جاهلين أو متجاهلين المبدأ الأول من الشريعة وهو أن من عبدالله تعالى بغير ما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر لا محالة لقوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)
وهكذا زين لهم الشيطان أعمالهم بمحاربة العلم وإطفاء نوره ، فساروا في ظلمات بعضها فوق بعض ، وانصرفوا إلى أهوائهم وخيالاتهم يتعبدون الله بها ، وهم كما وصفهم الله سبحانه وتعالى في القرآن : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً) .
وقد انقسمت هذه الطائفة إلى عدة فرق وطرق يحارب بعضها بعضاً بسبب بعدها عن الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، وجميع هذه الفرق في النار كما ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي : من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) .
2- ومنهم من بالغ في هذه الواسطة ، وفهمها فهماً خاطئاً ، وحملها ما لا تحمل ، فاتخذ من ذات الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والصالحين وسائط ، معتقداً أن الله سبحانه لا يقبل من عباده عملاً إلا إذا جاؤوا إليه بهؤلاء الوسطاء ليكونوا لهم وسيلة عنده ، تعالى عما يقولون علواً كبيراً ، فقد وصفوه – والعياذ بالله – بما يأبى أن يوصف به حتى الملوك المستبدون الظالمون الذين وضعوا على أبوابهم الحجاب فلا يدخل عليهم إلا من له واسطة .
فأين هذا الاعتقاد من قوله سبحانه : (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)
وهذه الآية الكريمة تشير إلى أن الواسطة الوحيدة للوصول إليه تعالى هي الإيمان إيماناً صحيحاً ، ثم عبادته بما شرع ، وقد قدمت هذه الآية العبادة على الإيمان لتنبيه الناس إلى أهمية العمل الصالح ، وأنه الشرط الضروري ، للفوز برضا الله والحصول على جنته .
وقد ذكر سبحانه الوسيطة في القرآن ويريد بها الطاعات ، وهي الواسطة الوحيدة التي تقر بك إليه ، وتفتح لك أبواب رحمته وتدخلك جنته : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .
وقد استهزأ تعالى بالمغفلين الجاهلين الذين يتخذون من عبادة الصالحين وسيلة ، وهم أنفسهم بحاجة إلى هذه الوسيلة ، وهي الطاعة التي تقربهم إلى الله ، ولا سبيل لهم إليه بغيرها كما جاء في قوله تعالى : (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً) .
ومن المؤسف أن هؤلاء المغفلين راحوا يعتمدون على ذوات هؤلاء الوسائط ، مما أغراهم بإهمال الصالحات وارتكاب المحرمات ، الأمر الذي سبب انحطاط المسلمين الذين نسوا أو تناسوا قوله تعالى يخاطب رسوله ، وهو سيد ولد آدم : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)
وقوله صلى الله عليه وسلم لابنته وريحانة قلبه : ( يا فاطمة سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً) .
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث ، صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له) .
ولم لم يكن في النصوص على عدم جواز التوسل بذوات الأنبياء والصالحين ، غير توسل عمر بن الخطاب بدعاء العباس ، وتركه التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم لكفى في الرد على هذا الفريق ، وما أحسن ما قاله الإمام أبو حنيفة رحمه الله :
(وأكره أن يسأل الله إلا بالله) كما في الدار المختار وغيره من كتب الحنفية ، ولو جاز اتخاذ الواسطة إلى الله بذوات من ذكرنا ، لجاءت أدعية القرآن والحديث – وما أكثرها – مقرونة بالتوسل بذاتهم .
3- ومن المسلمين من فهم هذه الواسطة بين الحق والخلق أنها الرسالة ، وهي تبليغ وتعليم وتربية ، وأدرك علو شأنها ومبلغ حاجة البشرية إليها ، فسارعوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يتخذونه الواسطة الكبرى والوسيلة العظمى لتلقي الشريعة والاستضاءة بنور الوحي ، فيتدارسون سيرته وسنته كما يتدارسون القرآن ، شعارهم في ذلك نداء الله سبحانه وتعالى : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ)
هذه الفرقة هي الناجية التي ذكرت في الحديث السابق وبشرت بالجنة ، ومن المؤلم أن طريق هذه الطائفة مملوء بالأشواك والعقبات ، لأن الإسلام الصحيح أصبح غريباً ، وقد بعد عنه المسلمون – أغلب المسلمون – واستعاضوا عنه بالبدع والأوهام .
وهذا البلاء قديم ، ودور المصلحين فيه شاق وخطير ، قال عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه : (أننا نعالج أمراً لا يعين عليه إلا الله تعالى ، قد فني فيه الكبير ، وشاب الصغير ، وهاجر الأعرابي ، يحسبونه ديناً ، وليس هو عند الله بدين) .
ولا يدع في ذلك ، فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غربة الدين فقال : (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء) .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( طوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس) .
وقال صلى الله عليه وسلم : بعدما قيل له من الغرباء ؟
(أناس صالحون ، في أناس سوء كثير منه يعصيهم أكثر ممن يطيعهم) .
فلتعمل هذه الطائفة في دروب الإصلاح ، ولتحمل مصباح التجديد حتى يستيقظ المسلمون ويرجعوا إلى الإسلام الصحيح ، ولنقل للمعارضين المخربين ما قاله الله سبحانه لأقرانهم :
(وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) .
والآن ندع الكلام لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يشرح هذه الواسطة في رسالته القيمة : ( الواسطة بين الحق والخلق) وهي جديرة أن تكتب بماء الذهب ويتدارسها المسلمون بإمعان وتدبر ليستيقظوا من نومهم ويأخذوا بأسباب القوة والنصر والمجد ، تاركين الارتماء على قبور الأنبياء والصالحين ، والتمسح بأعتابهم بخشوع وذلة ،، وصل الله على سيدنا محمد معلم الخير ، وعلى آله وصحبه وسلم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
محمد بن جميل زينو
بسم الله الرحمن الرحيم
قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، آلله خير أما يشركون .
أما بعد فهذه رسالة في رجلين تناظرا فقال أحدهما لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله فإنا لا نقدر أن نصل إليه بغير ذلك .
الرسالة وساطة تبليغ :
الجواب : الحمد الله رب العالميـن ، إن أراد بذلك أنه لا بد من واسطة تبلغنا أمر الله فهذا حق ، فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه وما أمر به وما نهى عنه ، وما أعده لأوليائه من كرامته ، وما وعد به أعداءه من عذابه ، ولا يعرفون ما يستحقه الله تعالى من أسمائه الحسنى ، وصفاته العليا التي تعجز العقول عن معرفتها وأمثال ذلك إلا بالرسل الذين أرسلهم الله تعالى إلى عباده .
فالمؤمنون بالرسل المتبعون لهم هم المهتدون الذين يقربهم لديه زلفى ويرفع درجاتهم ، ويكرمهم في الدنيا والآخرة .
وأما المخالفون للرسل فإنهم ملعونون وهم على ربهم ضالون محجوبون ، قال الله تعالى : (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) .
وقال تعالى : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى)
قال ابن عباس : تكفل الله لمن قرآ وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة)
وقال الله تعالى عن أهل النار : (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) .
وقال الله تعالى : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) .
وقال تعالى : (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) .
وقال تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً) . ومثل هذا في القرآن كثير .
وهذا ما أجمع عليه جميع أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى ، فإنهم يثبتون الوسائط بين الله وبين عباده وهم الرسل الذين بلغوا عن الله أمره وخبره ، قال تعالى : (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) . ومن أنكر هذه الوسائط فهو كافر بإجماع أهل الملل .
والسور التي أنزلها الله بمكة مثل الأنعام والأعراف وذات (آلر) و (حم) و (طس) ونحو ذلك هي متضمنة لأصول الدين كالإيمان بالله ورسله واليوم الآخر .
وقد قص الله قصص الكفار الذين كذبوا الرسل وكيف أهلكهم ونصر رسله والذين آمنوا ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) .
وقال تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)
فهذه الوسائط تطاع وتتبع ويقتدى بها كما قال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّه)
وقال تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)
وقال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)
وقال تعالى : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) .
وقال تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) .
الرسل لا يجلبون النفع :
وإن أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة في جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم يسألونه ذلك ويرجعون إليه فيه ، فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع ويجتنبون المشار ، لكن الشفاعة لمن يأذن الله لـه فيها قال الله تعالى : (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) .
وقال تعالى : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)
وقال تعالى : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً) .
وقال تعالى : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) .
وقالت طائفة من السلف : أقوام يدعون المسيح والعزيز والملائكة ، فبين الله أن الملائكة والأنبياء لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويلا ، وأنهم يتقربون الله ويرجون رحمته ويخافون عذابه .
وقال تعالى : (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) .
فبين سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً كفر ، فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم يسألهم جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يسألهم غفران الذنب ، وهداية القلوب ، وتفريج الكروب ، وسد الفاقات فهو كافر بإجماع المسلمين .
ولقد قال تعالى : (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) .
وقال تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) .
وقال تعالى : (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً) .
وقال تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) .
وقال تعالى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) .
وقال الله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) .
وقال تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) .
وقال الله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) .
ومثل هذا في القرآن كثير .
العلماء ورثة الأنبياء :
ومن سوى الأنبياء من مشايخ العلم والدين ، فمن أثبتهم وسائط بين الرسول وأمته يبلغونهم ويعلمونهم ويؤدبونهم ويقتدون بهم فقد أصاب في ذلك .
وهؤلاء إذا أجمعوا فإجماعهم حجة قاطعة لا يجتمعون على ضلالة وإن تنازعوا في شئ ردوه إلى الله والرسول ، اذ الواحد منهم ليس بمعصوم على الإطلاق ، بل كل أحد من الناس يؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( العلماء ورثة الأنبياء فإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر) .
ومن أثبتهم وسائط بين الله وبين خلقه كالحجاب الذين بين الملك ورعيته بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه ، فالله إنما يهدي عباده ويرزقهم بتوسطهم فالخلق يسألونهم وهم يسألون الله ، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك الحوائج للناس لقربهم منهم ، والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك ، أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب للحوائج ، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل ، وهؤلاء مشبهون لله شبهوا المخلوق بالخالق وجعلوا لله أنداداً .
أنواع الوسائط المردودة :
وفي القرآن الكريم من الرد على هؤلاء ما لم تتسع له هذه الفتوى ، فإن الوسائط التي بين الملوك وبين الناس يكونون على أحد وجوه ثلاثة .
الوجه الأول : إما لإخبارهم من أحوال الناس بما لا يعرفونه ، ومن قال إن الله لا يعلم أحوال عباده حتى يخبره بذلك بعض الملائكة أو الأنبياء أو غيرهم فهو كافر ، بل هو سبحانه يعلم السر وأخفى ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وهو السميع البصير ، يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات ، لا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل ولا يتبرم بإلحاح الملحين .
الوجه الثاني : أن يكون الملك عاجزاً عن تدبير رعيته ودفع أعدائه إلا بأعوان يعينونه ، فلابد له من أنصار وأعوان لذله وعجزه ، والله سبحانه ليس له ظهير ولا ولي من الذل ، قال الله تعالى : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) .
وقال تعالى : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) .
وكل ما في الوجود من الأسباب فهو خالقه وربه ومليكه فهو الغني عن كل ما سواه ، وكل ما سواه فقير إليه ، بخلاف الملوك المحتاجين إلـى ظهرائهم وهم في الحقيقة شركاؤهم في الملك ، والله تعالى ليس له شريك في الملك ، بل لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير .
والوجه الثالث : أن يكون الملك ليس مريداً لنفع رعيته والإحسان إليهم ورحمتهم إلا بمحرك يحركه من خارج ، فإذا خاطب الملك من ينصحه ويعظمه أو من يدل بحيث يكون يرجوه ويخافه تحركت إرادة الملك وهمته في قضاء حوائج رعيته ، إما لما حصل في قلبه ن كلام الناصح الواعظ المشير ، وإما لما يحصل من الرغبة أو الرهبة من كلام المدل عليه ، والله تعالى هو رب كل شئ ومليكه ، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها ، وكل الأشياء إنما تكون بمشيئته ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وهو إذا أجرى نفع العباد بعضهم على بعض : فجعل هذا يحسن إلى هذا ويدعو له ويشفع فيه ونحو ذلك ، فهو الذي خلق ذلك كله ، وهو الذي خلق في قلب هذا المحسن الداعي الشافع إرادة الإحسان والدعاء والشفاعة .
لا يجوز أن يكون في الوجود من يكرهه على خلاف مراده ، أو يعلمه ما لم يكن يعلم ، أو من يرجوه الرب ويخافه .
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يقولن أحدكم اللهم أغفر لي أن شئت ، اللهم أرحمني إن شئت ، ولكن ليعزم المسألة فإنه لا مكره له) .
والشفعاء الذين يشفعون عنده : لا يشفعون إلا بإذنه ، كمال قال : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) .
وقال الله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) .
وقال الله تعالى : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) .
فبين أن كل من دُعي من دونه : ليس له ملك ولا شرك في الملك ولا هو ظهير ، وأن شفاعتهم لا تنفع إلا لمن أذن له .
وهذا بخلاف الملوك فإن الشافع عندهم قد يكون له ملك ، وقد يكون شريكاً لهم في الملك ، وقد يكون مظاهراً لهم معاوناً لهم على ملكهم .
وهؤلاء يشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك هم وغيرهم ، والملك يقبل شفاعتهم تارة بحاجته إليهم ، وتارة لخوف منهم ، وتارة لجزاء إحسانهم إليه ومكافأتهم وإنعامهم عليه ، حتى إنه يقبل شفاعة ولده وزوجته ، لذلك فإنه محتاج إلى الزوجة والى الولد ، حتى لو أعرض عنه ولده وزوجته لتضرر بذلك ، ويقبل شفاعة مملوكة ، فإذا لم يقبل شفاعته يخاف أن لا يطيعه ، أو أن يسعى في ضرره ، وشفاعة العباد بعضهم عند بعض كلها من هذا الجنس ، فلا يقبل أحد شفاعة أحد إلا لرغبة أو رهبة ، والله تعالى لا يرجو أحداً ، ولا يخافه ولا يحتاج إلى أحد ، بل هو الغني ، قال الله تعالى : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) . إلى قوله تعالى : (قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) .
والمشركون يتخذون شفعاء من جنس ما يعدونه من الشفاعة .
قال الله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) .
وقال تعالى : (فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) .
وأخبر عن المشركين أنهم قالوا : (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) .
قال الله تعالى: (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) .
الشفاعة الباطلة والصحيحة :
قال الله تعالى : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً) .
فأخبر أن ما يُدعى من دونه لا يملك كشف ضر ولا تحويله ، وأنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه ، ويتقربون إليه ، فهو سبحانه قد نفى ما للملائكة والأنبياء إلا الشفاعة بإذنه ، والشفاعة هي الدعاء ، ولا ريب أن دعاء الخلق بعضهم لبعض نافع والله قد أمر بذلك .
لكن الداعي الشافع ليس له أن يدعو ويشفع إلا بإذن الله له في ذلك ، فلا يشفع شفاعة نُهي عنها ، كالشفاعة للمشركين والدعاء لهم بالمغفرة .
قال تعالى : (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) .
وقال تعالى في حق المنافقين : (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) .
وقد ثبت في الصحيح أن الله نهى نبيه عن الاستغفار للمشركين والمنافقين وأخبر أنه لا يغفر لهم كما في قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) .
وقوله تعالى : (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) .
وقد قال تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) – في الدعاء - ، ومن الاعتداء في الدعاء أن يسأل العبد ما لم يكن الرب ليفعله مثل : أن يسأله منازل الأنبياء وليس منهم ، أو المغفرة للمشركين ونحو ذلك ، أو يسأله ما فيه معصية الله كإعانته على الكفر والفسوق والعصيان .
فالشفيع هو الذي أذن الله له في الشفاعة : وشفاعته في الدعاء الذي ليس فيه عدوان ، ولو سأل أحدهم دعاء لا يصلح له لا يقر عليه ، فإنهم معصومون أن يقروا على ذلك ، كما قال نوح عليه السلام : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) .
قال الله تعالى : (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) .
وكل داع شافع دعا الله سبحانه وتعالى وشفع ، فلا يكون دعاؤه وشفاعته إلا بقضاء الله وقدره ومشيئته ، وهو الذي يجيب الدعاء ويقبل الشفاعة ، فهو الذي خلق السبب والمسبب ، والدعاء من جملة الأسباب التي قدرها الله سبحانه وتعالى .
مقدار الأسباب :
وإذا كان كذلك فالالتفات إلى الأسباب شرك ([1]) في التوحيد ، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل ، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع ([2]) بل العبد يجب أن يكون توكله ودعاؤه وسؤاله ورغبته إلى الله سبحانه وتعالى ، والله يقدر له من الأسباب من دعاء الخلق وغيرهم ما شاء الله .
الدعاء المشروع والشفاعة :
والدعاء مشروع أن يدعو الأعلى للأدنى والأدنى للأعلى ، فطلب الشفاعة والدعاء من الأنبياء كما كان المسلمون يستشفعون بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء ، ويطلبون منه الدعاء ، بل وكذلك بعده استسقى عمر والمسلمون بالعباس عمه ، والناس يطلبون الشفاعة يوم القيامة من الأنبياء ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وهو سيد الشفعاء ، وله شفاعات يختص بها ، ومع هذا فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا عليّ فإنه من صلى عليّ صلى الله عليه عشراً ، ثم سلوا الله لي الوسيلة ، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون ذلك العبد ، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة) .
(وقد قال لعمر لما أراد أن يعتمر وودعه ، يا أخي لا تنسني من دعائك) .
فالنبي صلى الله عليه وسلم قد طلب من أمته أن تدعو له ، ولكن ليس ذلك من باب سؤالهم ، بل أمره بذلك لهم كأمره لهم بسائر الطاعات التي يثابون عليها مع أنه صلى الله عليه وسلم له مثل أجورهم في كل ما يعلمونه ، فإنه قد صح عنه أنه قال : ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً ) .
وهو داعي الأمة إلى كل هدى فله مثل أجورهم في كل ما اتبعوه فيه ، وكذلك إذا صلوا عليه فإن الله يصلي على أحدهم عشراً ، وله مثل أجورهم مع ما يستجيبه من دعائهم له ، فذلك الدعاء قد أعطاهم الله أجرهم عليه ، وصار ما حصل له به من النفع نعمة من الله عليه .
وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال : (ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكّلَ الله به ملكاً كلما دعا لأخيه بدعوة قال الملك الموكّلُ به آمين ولك مثل ذلك ) .
وفي حديث آخر : ( أسرع الدعاء دعوة غائب لغائب) .
فالدعاء للغير ينتفع به الداعي والمدعو له ، وإن كان الداعي دون المدعو له ، فدعاء المؤمن لأخيه ينتفع به الداعي والمدعو له ، فمن قال لغيره أدعُ لي وقصد انتفاعهما جميعاً بذلك كان هو وأخوه متعاونين علـى البر والتقوى ، فهو نبه المسئول وأشار عليه بما ينفعهما .
والمسئول فعل ما ينفعهما بمنزلة من يأمر غيره ببر وتقوى ، فيُثاب المأمور على فعله ، والآمر أيضاً يثاب مثل ثوابه لكونه دعا إليه ، لا سيما ومن الأدعية ما يؤمر بها العبد كما قال الله تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) .
فأمره بالاستغفار ثم قال : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً) .
فذكر سبحانه استغفارهم واستغفار الرسول لهم إذ ذاك مما أمر به الرسول حيث أمره أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات ، ولم يأمر الله مخلوقاً أن يسأل مخلوقاً شيئاً لم يأمر الله المخلوق به ، بل ما أمر الله العبد أمر إيجاب أو استحباب ، ففعله هو عبادة لله وطاعة وقربة إلى الله ، وصلاح لفاعله وحسنة فيه ، وإذا فعل ذلك كان أعظم لإحسان الله إليه وإنعامه عليه ، بل أجل نعمة أنعم الله بها على عباده أن هداهم للإيمان .
والإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة والحسنات ، وكلما ازداد العبد عملاً للخير ازداد إيمانه ، هذا هو الإنعام الحقيقي المذكور في قوله تعالى : (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) .
وفي قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) .
نعم الدنيا والدين :
بل نعم الدنيا بدون الدين هل من نعمة أم لا ؟
فيه قولان مشهوران للعلماء من أصحابنا وغيرهم .
والتحقيق أنها نعمة من وجه ، وإن لم يكن نعمة تامة من وجه ، وأما الإنعام بالدين الذي ينبغي طلبه فهو ما أمر الله به من واجب ومستحب ، فهو الخير الذي ينبغي طلبه باتفاق المسلمين ، وهو النعمة الحقيقية عند أهل السنة إذ عندهم أن الله هو الذي أنعم بفعل الخير ، والقدرية عندهم إنما أنعم بالقدرة عليه الصالحة للضدين فقط ، والمقصود هنا أن الله لم يأمر مخلوقاً أن يسأل مخلوقاً إلا ما كان مصلحة لذلك المخلوق ، إما واجباً أو مستحباً ، فإنه سبحانه لا يطلب من العبد إلا ذلك ، فكيف يأمر غيره أن يطلب منه غير ذلك ؟
بل حرم على العبد أن يسأل العبد ماله إلا عند الضرورة ، وإن كان قصده مصلحة المأمور أو مصلحته ومصلحة المأمور ، فهذا يثاب على ذلك ، وإن كان قصده حصول مطلوبة من غير قصد منه لانتفاع المأمور فهذا من نفسه أتي .
ومثل هذا السؤال لا يأمر الله به قط ، بل قد نهى عنه إذ هذا السؤال محض للمخلوق من غير قصده لنفعه ولا لمصلحته ، والله يأمرنا أن نعبده ونرغب إليه ويأمرنا أن نحسن إلى عباده .
وإذا لم يقصد لا هذا ولا هذا فلم يقصد الرغبة إلى الله ودعائه وهو الصلاة ، ولا قصد الإحسـان إلى الخلق الذي هو الزكاة ، وإن كان العبد قد لا يأثم بمثل هذا السؤال ، لكن فرق ما بين ما يؤمر به العبد وما يؤذن له فيه ، ألا ترى أنه قال في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب أنهم لا يسترقون .
وإن كان الاسترقاء جائزاً ، وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع .
الوسائط والشرك :
والمقصود هنا أن من أثبت وسائط بين الله وبين خلقه كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية فهو مشرك ، بل هذا دين المشركين عبادة الأوثان كانوا يقولون إنها تماثيل الأنبياء والصالحين ، وإنها وسائل يتقربون بها إلى الله ([3]) وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى ، حيث قال : (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) .
وقال تعالى : (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) .
أي فليستجيبوا لي إذا دعوتهم بالأمر والنهي ، وليؤمنوا بي أن أجيب دعاءهم لي بالمسألة والتضرع .
وقال تعالى : (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) .
وقال تعالى : (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) .
وقال تعالى : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ)
وقال تعالى : (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) .
وقد بين الله هذا التوحيد في كتابه وحسم مواد الإشراك به حتى لا يخاف أحد غير الله ، ولا يرجو سواه ولا يتوكل إلا عليه .
الخشية لله وحده :
قال تعالى : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ) .
وقال تعالى : (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) .
وقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ) .
وقال تعالى : (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ) .
وقال تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) .
فبين أن الطاعة لله ورسوله ، وأما الخشية فلله وحده .
قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ) ونظيره قوله تعالى : (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) .
الرسول يحقق التوحيد :
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق هذا التوحيد لأمته ويحسم عنهم مواد الشرك إذ هذا تحقيق قولنا لا إله إلا الله ، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب بكمال المحبة والتعظيم والإجلال والإكرام والرجاء والخوف حتى قال لهم : ( لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد) .
(وقال له رجل ما شاء الله وشئت فقال أجعلتني لله نداً قل ما شاء الله وحده) .
وقال : ( من حلف بغير الله فقد أشرك) .
وقال لابن عباس ( إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله جف القلم بما أنت لاق ، فلو جهدت الخليقة على أن تنفعك لم تنفعك إلا بشئ كتبه الله لك ، ولو جهدت أن تضرك لم تضرك إلا بشئ كتبه الله عليك) .
وقال أيضاً ( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، فإنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله) .
وقال : ( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) .
وقال : ( لا تتخذوا قبري عبداً ، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم) .
وقال في مرضه : ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) . يُحذر ما صنعوا .
قالت عائشة رضي الله عنها : (ولولا ذلك لأبرز قبره ، ولكن كره أن يُتخذ مسجداً)
ومع علم المؤمن أن الله رب كل شئ ومليكه ، فإنه لا يُنكر ما خلقه الله من الأسباب ، كما جعل المطر سبباً لإنباب النبات .
قال الله تعالى : (وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) .
وكما جعل الشمس والقمر سبباً لما يخلقه بهما ، وكما جعل الشفاعة والدعاء سبباً لما يقضيه بذلك مثل صلاة المسلمين على جنازة الميت ، فإن ذلك من الأسباب التي يرحمه الله بها ويثيب عليها المصلين عليه .
الأسباب المشروعة وغير المشروعة :
لكن ينبغي أن يُرف في الأسباب ثلاثة أمور :-
أحدهما: أن السبب المعين لا يستقل بالمطلوب ، بل لا بد معه من أسباب أخر ، ومع هذا فلها موانـع ، فإن لم يكمل الله الأسباب ويدفع الموانع لم يحصل المقصود وهو سبحانه ما شاء كان ، وإن لم يشأ الناس ، وما شاء الناس لا يكون إلا أن يشاء الله .
الثاني : أن لا يجوز أن يعتقد أن الشئ سبب إلا بعلم ، فمن أثبت شيئاً بلا علم أو يخالف الشرع كان مبطلاً ، مثل من يظن أن النذر سبب في دفع الباء وحصول النعماء .
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال : ( إنه لا يأتي بخير ، وإنما يستخرج به البخيل) .
الثالث : أن الأعمال الدينية لا يجوز أن يتخذ منها شئ سبباً إلا أن تكون مشروعة ، فإن العبادات مبناها على التوقيف ، فلا يجوز للإنسان أن يشرك بالله فيدعو غيره ، وإن ظن أن ذلك سبب في حصوله بعض أغراضه ، وكذلك لا يعبد الله بالبدع المخالفة للشريعة وإن ظن ذلك ، فإن الشياطين قد تُعين الإنسان على بعض مقاصده إذا أشرك ، وقد يحصل بالكفر والفسوق والعصيان بعض أغراض الإنسان ، فلا يحل له ذلك ، إذ المفسدة الحاصلة بذلك أعظم من المصلحة الحاصلة به ، إذ الرسول صلى الله عليه وسلم بُعث بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها ، فما أمر الله به فمصلحته راجحة ، وما نهى عنه فمفسدته راجحة ، وهذه الجمل لها بسط لا تحتمله هذه الوريقات .. والله أعلم ؛؛
لا تدعوا مع الله أحداً
قولوا لمن يدعو سوى الرحمن يا داعياً غير الإله ألا ائتد أنسيت أنك عبده وفقيره الله أقرب من دعوت لكربه هل جاء دعوى غيره في سنة ؟ إن كنت فيما تدعيه على هدى والله ما دعت الصحابة غيره لكن هذا الفعل كان لديهمو ليس التوسل والتقرب بالهوى هذا كتاب الله يفصل بيننا إن التوسل في الكتاب لواضح | متخشعاً في ذلة العبد إن الدعاء عبادة الرحمن ودعاؤه قد جاء في القرآن وهو المجيب بلا توسط ثان أم أنت في تابع الشيطان ؟ فلتأتينا بسواطع البرهان يتقربون به كذي الأوثان شركاً ، وفروا منه للإيمان بل بالتقى والبر والإحسان هل جاء فيه : توسلوا بفلان ؟ وإذا فطنت فإنه نوعان ([4]) . |
([1]) وذلك إذا اعتقد أن هذه الأسباب تؤثر بنفسها دون أن ينظر إلى مسبب الأسباب وهو الله .
([2]) يجب على المؤمن الأخذ بالأسباب المشروعة والتوكل على الله لقوله صلى الله عليه وسلم للرجل (أعقلها وتوكل) .
([3]) قال تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) .
([4]) 1- توسل المؤمنين : بطاعة الله وأسمائه والعمل الصالح .
2- توسل المشركين : بدعائهم لأوليائهم الممثلة في الأصنام .