الوصف المفصل
- الحوار
في السيرة النبوية
- مقدمة
- الفصـل الأول الحوار ومصطلحاته (مداخل لغوية واصطلاحية)
- الفصـل الثاني ضرورة الحوار وأهميته
- الفصـل الثـالث القرآن الكريم يوجه الحوار النبوي ويؤازره
- الفصـل الرابع الحـوار النبويّ في مكة
- الفصل الخامس الحوار النبويّ مع المسلمين في المدينة
- الفصـل السادس الحـوار النبويّ مع الآخر في المدينة (المشركين واليهود والنصارى)
- الفصـل السابع منهجـية الحـوار: آدابه وشروطه ومقوماته وعوائقه
- الفصـل الثامن حوار الحضارات والأديان في ضوء معطيات السيرة النبوية
- الفصل التاسع ثمرات الحوار في مجال التربية والثقافة
- الخـاتمة
الحوار في السيرة النبوية
الدكـتور السيد علي خضر
أستاذ العلوم اللغوية المشارك
كلية التربية – جامعة المنصورة
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على خاتم رسل الله الرحمة المهداة والنعمة المسداة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه وبعد:
فها هي مسابقة معالي السيد حسن عباس شربتلي العالمية لنصرة نبي الرحمة نتواصل في دورتها الثانية بتنظيم من {المركز العالمي للتعريف بالرسول ونصرته} المنبثق من رابطة العالم الإسلامي.
ومن توفيق الله أن يتم اختيار {الحوار في السيرة النبوية} موضوعاً للمسابقة في دورتها الثانية ذلك أن الحوار أسلوب نبوي أصيل حافظ عليه النبي في جميع مراحل سيرته الشريفة مع القريب والبعيد والموافق والمخالف ويكفي في تأكيد ذلك تدبر قوله تعالى: {أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} { النحل 125} وقوله تعالى { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فأن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون} { آل عمران 64}
وحين تتحول نصرة المصطفى ومحبته إلى عمل واقتداء، ونصرة واعية لخاتم الأنبياء، فإنها تثمر أطيب الثمار وأينعها وهو ما تحقق من خلال هذه المسابقة التي زاد عدد الباحثين المتقدمين لها عن {90} باحثاً.
ولقد أسهمت البحوث المقدمة للمسابقة، والتي جاءت متزامنة مع دعوة خادم الحرمين الشريفين إلى الحوار بين أتباع الأديان والثقافات في إبراز أصالة منهج الحوار في السيرة النبوية، وبيان أهدافه ووسائله وهي بذلك تعدُّ رافداً من روافد هذه المبادرة الكريمة التي دعا إليها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، وتابعت تنفيذ مراحلها رابطة العالم الإسلامي.
ولست أدري في هذه المقدمة هل أهنئ أم أشكر من ساهم فيها برعاية أو دعم، أو فكرة أو تحكيم، أو كتابة أو تأليف، فهم جميعاً مستحقون للشكر والتقدير لكنهم قبل ذلك يُغبطون ويهنئون على ما وفقهم الله إليه من شرف المساهمة في نصرة النبي ، والتعريف به في العالمين، وأخص منهم معالي الدكتور/ عبد الله بن عبد المحسن التركي الذي قبل رئاسة المركز العالمي للتعريف بالرسول ونصرته وهيأ له الفرصة للعمل تحت مظلة رابطة العالم الإسلامي، ورأس لجان تحكيم هذه المسابقة العالمية.
كما أشكر وأهنئ أبناء معالي السيد حسن عباس شربتلي رحمه الله الشيخ عبد الرحمن والشيخ إبراهيم وإخوانهم الكرام الذين أعلنوا عن تكفل مؤسسة معالي السيد حسن عباس شربتلي الخيرية بتكاليف هذه المسابقة.
والشكر موصول لجميع العاملين في تنظيم هذه المسابقة العالمية وتحكيمها وخصوصاً رئيس اللجنة العلمية للمسابقة فضيلة الأستاذ الدكتور/عبد العزيز بن إبراهيم العُمري، كما أتقدم بالتهنئة والدعاء لجميع من شارك في هذه المسابقة بلا استثناء وأدعوهم إلى استمرار التواصل مع المركز العالمي للتعريف بالرسول ونصرته الذي يعتز بكون هذه المسابقة العالمية أحد أهم نشاطاته إضافة إلى تنظيم المؤتمرات والندوات، والمعارض والدورات، وتقديم البرامج الإعلامية، وإنشاء المواقع العالمية على شبكة الإنترنت، وطباعة الكتب بمختلف اللغات للتعريف بنبي الرحمة .
وبين يديك –أيها القارئ الكريم ثمرة يانعة من ثمار هذه المسابقة العالمية تمثلت في بحث قيّم تقدم به الدكتور/السيد علي خضر ونال التقدير اللائق به في كافة لجان تحكيم المسابقة لما اتصف به من الشمول والاستيعاب وحسن العرض والمناقشة والجد والابتكار مع الأصالة والتوثيق العلمي مما جعله يحوز الجائزة الثالثة بالمناصفة للمسابقة.
أسأل الله أن يبارك في هذا الجهد وأن يوفقه إلى ترجمته ونشره بلغات متعددة.
كما أسأله سبحانه أن يجعلنا جميعاً من أنصار نبينا محمد وحملة رسالته للعالمين وأن يزيدنا بذلك شرفاً ورفعة في الدنيا والآخرة.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أ.د.عادل بن علي الشدي
الأمين العام
للهيئة العالمية للتعريف بالرسول ونصرته
مقدمـة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل لـه، ومن يضلل فلا هادى لـه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محـمداً عبده ورسوله.
وبعد:
فإن الحوار وسيلة مثلى للدعوة إلى الله تعالى، شرعها الله في كتابه الكريم، وذكر فيه صوراً كثيرة من الحوار، إذْ حاور هو سبحانه بعضاً من خلقه حواراً مباشراً كحواره الملائكةَ الكرامَ بشأن خلق آدم، وحواره لإبليس بشأن السجود لآدم عليه السلام، وحواره مع إبراهيم عليه السلام بشأن إحياء الموتى، ومع موسى عليه السلام بشأن رؤيته سبحانه، ثم قصّ ذلك في القرآن الكريم ليأخذ منه المؤمنون العبرة والنفع في دينهم ودنياهم.
إن الحوار سنة إلهية وفطرة فطر الله تعالى عليها خلقه، فلا يهمله إلا مخالف للفطرة التي فطره الله عليها، ونعني بالإهمال هنا عدم استنفاد الوسع في حل المشكلات بالحوار واللجوء قبل ذلك إلى القوة، كما حدث ولا يزال يحدث في هذا العالم المليء بالصراع، الخاوي من ثقافة الحوار والتسامح في كثير من صراعاته وخلافاته المتزايدة يوماً بعد يوم، خاصة مع تعقد المصالح وتشابكها وزيادة القوة الفتاكة في أيدي الناس، وهي أخطار تهدد البشرية تهديداً خطيراً.
وقد شرع الله تعالى لأنبيائه عليهم السلام على مرّ التاريخ محاورةَ أقوامهم بالحسنى، وقصّ بعضاً من ذلك في كتابه الكريم، وتضمنت تلك الحوارات أسس العقيدة الوحيدة التي شرعها الله لعباده أولهم وآخرهم، إنسهم وجنهم وهي عقيدة الإسلام الذي لا يقبل الله من الناس يوم الحساب غيره.
وذكر الله تعالى أطرافاً من حوارات الخير والشر على مرّ التاريخ، كالحوار بين المؤمنين والكافرين، والحوار بين المؤمنين والمنافقين وغير ذلك.. وهكذا نجد أسلوب الحوار وسيلةَ دعوة إلى الله، وقد جاء واضحاً بيّنَ المعالم في القرآن الكريم.
والحوار أنواع وفنون، ولكن أصله أن يكون ثمة طرفان يتداولان الحديث حول مسألة ما أو قضية، فيجري بينهما كلام حول تلك المسألة أو القضية، هذا الكلام هو الحوار، أيّاً كان موضوعه أو أطرافه، إنه عملية لغوية تواصـلية.
ولقد جعل النبي من الحوار أساساً لنشر دعوته، إذْ خرج إلى الناس يكلمهم ويحاورهم، ولقي من الأذى ما كان حرياً أن يمنع كثيراً غيرَه من الاستمرار في الدعوة، لكنه كان مكلفاً بذلك مأمـوراً بالصبر واحتمال الأذى، وهكذا حاور قريشاً رجالاً ونساء، أفراداً وجماعات، ثم حاور من لقي من العرب خارجاً إليهم في المواسم عارضاً نفسَه عليهم ليحموه حتى يبلّغ عن الله تعالى، وبعد هجرته اتسع نطاق محاوراته، كما سنبين في الفصل الخاص بذلك.
وللحوار آداب وقواعد أصّلها الإسلام، والتزم بها النبي في كل محاوراته لنتعلم نحن منه الأسوة الحسنة، ولكي ينجح حوارنا الداخلي والخارجي لابدَّ لنا من التأسي بالنبي في حواراته الناجحة الهادية.
وقد اهتمت الثقافات والحضارات بالحوار، وحفظ لنا التاريخ صوراً فريدة منها، وفي العصر الحاضر صار فن الحوار بصوره المتنوعة كالتفاوض والمؤتمرات وحلقات التناقش.. صار علماً ذا قواعد وأصول مقررة تقوم على تدريسه معاهد علمية متخصصة حول العالم، هذا مع تفريطنا نحن المسلمين في هذا المجال كثيراً.
ثمة معاهد علمية تدرس الحوار بوصفه فناً من فنون التواصل الإنساني وتتناولـه بالدرس من منظور الثقافة الشفاهية، ذلك أن تعاملنا نحن البشر باللغة يتم أكثره مشافهةً في الأصل، فإذا سُجل كتابياً فإنما هو لغرض حفظه للتاريخ أو الحاجة إليه.
ولا شك أننا نحن المسلمين أحوج ما نكون اليوم إلى الحوار، الحوار الداخلي بين مكونات المشهد الداخلي لكل دولة مسلمة، والحوار الداخلي بين الدول المسلمة نفسها، والحوار الخارجي مع العالم المحيط بنا، لقد صرنا إلى وضع لا نحسد عليه بفعل قلة منا ضربت العـالم والمسلمين بما يسمى " الإرهاب " فصار الاتهام يوجه إلينا جميعاً وإلى ثقافتنا وحضارتنا بل عقيدتنا في حين أن الذين مارسوه قلة أنكرتها المجتمعات المسلمة قبل أن ينكرها الآخرون، وليس لنا اليوم أو في المنظور القريب طاقة عسكرية أو سياسية أو اقتصادية مستعدة لمواجهة الغرب، فليس أمامنا إذاً إلا الحـوار الهادئ المتعقل وسنجد لا ريب في الطرف الآخر من يفهم ذلك.
محاور الدراسة:
هذه الدراسة مؤسسة على ثلاثة محاور رئيسية تشكل بنيتها العامة هي:
1- استكشاف طبيعة الحوار ومواضعه في السنة والسيرة النبوية المباركة وعرض نماذجَ وافيةٍ منه متوافقةٍ مع تسلسل أحداث السيرة النبوية تاريخياً، مع استخلاص بعض العبر والقواعد والآداب منها.
2- عرض آداب الحوار موجزةً بأدلتها من القرآن والسيرة العملية لرسول الله .
3- دراسة أثر ذلك على واقع الحال المعاصر للمسلمين من حيث تمسكهم بمنهج الحوار، ومعوقات الحوار والآثار السلبية لغيابه عن الساحة الإسلامية، وطرق علاج ذلك عملياً من القرآن والسنة النبوية.
لقد تسارعت وتيرة الكتابة عن الحوار في العقود الأخيرة، وثمة كتب وأبحاث كثيرة منشورة فيه، وعُقدت عدة مؤتمرات كذلك عن الحوار ( ) وهذا كله إنما يظهر تجدد اهتمام الأمة المسلمة بهذا الجانب الذي نحسبها أهملته إلى حدّ ما، وهذا أمر جيد نرجو أن يؤتي ثماره الطيبة عمّا قريب.
وقد اطلعت - بفضل الله - على كثير مما كتب عن الحوار في أدبيات الثقافة المعاصرة، وهي جهود مشكورة لا أنكر استفادتي منها في هذه الدراسة، وقد لاحظت أن أكثر ما كتب كان يهتم بمسألة محورية في موضوع الحوار وهي مسألة " آداب الحوار " مع مسائل أخرى عديدة.
فما الجديد في هذه الدراسة إذاً؟
أحسب أن هذه الدراسة تنبّهت لثلاث مسائل أساسية في موضوع الحوار في السيرة النبوية هي:
1- التأصيل المصطلحي الذي يبين حقيقة الحوار ومصطلحاته لغة واصطلاحاً، وهذا يتواءم مع الاهتمام المتزايد بمسألة المصطلح في الثقافة المعاصرة.
2- الاهتمام باختيار النصوص الحوارية من السيرة والسنة النبوية متواءمةً مع التسلسل التاريخي لأحداث السيرة، بحيث يظهر أن الحوار منهج دعويّ اتبعه النبي في كل مراحل دعوته المباركة، مع استخلاص الحقائق والنتائج والآداب المتعلقة بالحوار منها.
3- الاهتمام بالتطبيقات العملية للحوار في الحياة الإسلامية المعاصرة التي هي في أشد الحاجة لممارسة الحوار عملياً لحل المشكلات الخطيرة التي تواجه المجتمعات المسلمة سواء على الصعيد الداخلي في بنية هذه المجتمعات، أم على الصعيد الخارجي في علاقاتها مع العالم المعاصر.
وقد جاءت فصول الدراسة ومباحثها محققة لهذه الأهداف على النحـو الآتي:
الفصل الأول: الحوار ومصطلحاته، مداخل لغوية واصطلاحية:
وقد جمعت فيه المصطلحات الدالة على الحوار ودرستها لغوياً واصطلاحياً وبينت الفروق بينها بإيجاز، وهذه المصطلحات هي: الحوار والجدال والمناظرة وآداب البحث والحجاج والمراء والتفاوض والمناقشة والسؤال والجواب والشورى، ثم أتبعت ذلك بمدخل لغوي لعملية الحوار.
الفصل الثاني: ضرورة الحوار وأهميته:
وبينت فيه أن الحوار ضرورة تفرضها حاجة الإنسان للتفاهم والتعايش مع أخيه الإنسان، وعدّدت في نقاط بعضاً من الفوائد العملية للحوار.
الفصل الثالث: القرآن الكريم يوجه الحوار النبوي ويؤازره:
جاءت السنة النبوية مفسرة للقرآن ومبينة لأحكامه بياناً عملياً تكفّل به النبي في المجتمع المسلم الذي عايشه، وكان القرآن والتفسير النبوي له الذي اصطلح على تسميته إجمالاً بالسنة النبوية الموجهين لحياة المسلمين في كل جوانبها، ولهذا فإن فهم طبيعة الحوار في القرآن الكريم مدخل لا بد منه لفهم الحوار في السنة النبوية، وقد بحثت في هذا الفصل بإيجاز المسائل الآتية:
1- مشروعية الحوار في القرآن.
2- من أهداف الحوار في القرآن.
3- طبيعة الحوار في بنية النص القرآنيّ.
4- الفرق بين حوارات القرآن وحوارات السنة النبوية.
5- القرآن وحوار الدعوة في مكة.
6- القرآن والحوار في المدينة النبوية.
الفصل الرابع: الحوار النبويّ في مكة:
الحوار هو الأسلوب الأمثل للدعوة إلى الله تعالى والتعليم والتنظيم في السنة النبوية، حيث حاور النبي كل من لقيه ودعاه إلى الإسلام.. وقد تتبعت في هذا الفصل بعض حوارات الدعوة إلى الله تعالى في مكة، مبيناً منهج النبي في حواره ودعوته، مستخلصاً بعض النتائج وبعض آداب الحوار من نصوص تلك المحاورات، ومنها حوار دعوة أبي طالب، ودعوة قريش علانية وحوار النبي مع عتبة بن ربيعة، وحواره مع الملأ من قريش، وحوار دعوة جماعات من أهل المدينة، وحوارات إسلام بعض الصحابة، وحوار بيعة العقبة، وحوار تثبيت المسلمين المستضعفين.
الفصل الخامس: الحوار النبويّ مع المسلمين في المدينة:
بعد الهجرة النبوية بدأ النبي في التمهيد لإقامة الدولة المسلمة التي ستحمل الرسالة إلى العالم من حولها، وقد اتخذ من الحوار الهادئ منهاجاً للتعليم والموعظة وبناء تلك الدولة إلى جانب القوة الحامية للحوار، وقد درست في هذا الفصل المسائل الآتية على سبيل التمثيل لا الحصر:
1- حوارات التعليم وتنظيم المجتمع المسلم.
2- حوارات الموعظة.
3- القصص الحواري.
4- حوارات الشورى.
5 – حوارات العفو عن المخطئين من المسلمين.
6- الحوار مع المنافقين في المدينة.
7- حوارات الحياة الآخرة.
الفصـل السادس: الحـوار النبوي مع الآخر في المدينة: (المشركين واليهود والنصارى):
حين هاجر النبي إلى المدينة أضيفت إلى مهمته أعباء أخرى كثيرة، حيث استمرت المواجهة مع قريش وأضيف إليها عبء المواجهة مع اليهود والأعراب والمنافقين، بل عامة العرب الذين ألّبتهم قريش على النبي والمسلمين، وقد أوردت شواهد لحوارات النبي الفردية والجماعية مع المشركين بعد الهجرة لنرى أنه كان يفضل الحوار ويقدمه على ما سواه من صور التعامل مع مخالفيه حتى في أصعب المواقف، ومنها حواره مع عمير بن وهب الجمحي الذي جاء إلى المدينة بسيف مسموم لقتل النبي وحوارات صلح الحديبية، وحواره مع أعرابي حاول قتله، وحواره مع أسير مشرك...
أما حواره مع اليهود فقد ذكرت منه حوار النبي مع عبد الله بن سلام وحواره مع اليهود للتأكد من نبوته وسؤالهم عن الروح ودعوة اليهود إلى الإسلام وحواره مع اليهود حول حد الزاني في التوراة وحواره مع حبر يهوديّ وحواره مع يهود خيبر.
وذكرت طرفاً من الحوار المباشر وغير المباشر مع النصارى، ومثلت لذلك بالحوار عند النجاشي، والحوار مع وفد نصارى نجران وحوار إسلام عديّ بن حاتم.
الفصل السابع: منهجية الحوار: آدابه وشروطه ومقوماته وعوائقه:
فن الحوار له شروط وآداب ينبغي الإلمام بها، وثمة عوائق تعوق نجاح الحوار وتأديته الأهدافَ المرادة منه، ولا شك أن هذه الآداب والشروط والمقومات والعوائق متصل بعضها ببعض، ومتداخل بعض منها بآخر، وقد جمعتها تحت هذا العنوان محاولاً ترتيب آداب الحوار نظرياً في صورة نقاط تجمع الموضوع، وعملياً في صورة مواقف حوارية متنوعة من القرآن الكريم والسنة والسيرة النبوية، متبعاً ذلك بتحليل أو تفسير تستنبط منه بعض الفوائد والأحكام والآداب، وفي أثناء ذلك ذكرت ما يمكن أن يعوق الحوار أو يفقده الثمرة المرجوة منه، وقد جمعت من ذلك اثنين وعشرين أدباً تمثل أهم ما ينبغي على المحاور التأدب به لينجح حواره.
الفصل الثامن: حوار الحضارات والأديان في ضوء معطيات السيرة النبوية:
الثقافات والحضارات وأدبيات الحياة هي في الحقيقة تجلّيات للعقيدة الدينية، أو هي مظاهر متنوعة لجوهر واحد هو الدين الذي تدين به الحضارة فيتجلى في مفردات حياتها، ولهذا فإن حوار الحضارات يشمل الحوار الديني ضرورة، حيث فتح الإسلام الباب واسعاً لمحاورة أهل الديانات الأخرى.
وحـوار الحضارات بمرحلتين أساسيتين: الأولى: التعارف وفهم الآخر، والثانية: محاولة الدعوة أو الإقناع والتأثير في الآخر لكسبه إلى عقيدتنا، وقد درست ذلك في ضوء المباحث الآتية:
1- الإسلام يدعو إلى حوار الحضارات.
2- أهداف حوار الحضارات.
3- الأسس التي يُبنى عليها الحوار بين الحضارات.
4- ازدياد أهمية حوار الحضارات بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م.
5- وسائل إقامة الحوار بين الحضارات.
6- عوائق حوار الحضارات.
الفصل التاسع: ثمرات الحوار في مجال التربية والثقافة:
التربية فن صناعة العقول والأجيال، إنها السبيل الأول لبناء أمة قوية في كل نواحي الحياة، ولقد كانت حياة النبي رحـلة تربوية عظيمة بالمفهوم الشامل أو العام للتـربية، وقد بينت في هذا المبحث حاجة المربي والمعلم إلى الحوار.
والثقافة هي مجموع معارف شعب ما في فترة من مراحل حياته، وتقوم على خدمتها - أي رصدها وتفسيرها وتنميتها - مؤسسات ينشئها المجتمع كالمدارس والجامعات ووسائل الإعلام والمكتبات.. إضافة إلى دور العبادة والمؤسسات الدينية وأثرها في حفظ هوية الشعب.. كل هذه مؤسسات ثقافية تحمي ثقافة الشعوب وتفسرها وتوثقها.
وللحوار آثار كبيرة في النماء الثقافي والحضاري للشعوب، وقد تناولت بعضاً من ذلك في هذا المبحث رابطاً بين الماضي والحاضر متطلعاً إلى المستقبل الذي أرى فيه أمتنا وقد فعّلت مبادئ الحوار عملياً في واقع الحياة لترتقي بذلك وتتبوأ المكانة التي تستحقها بوصفها خير أمة أخرجت للناس، وأمة الأمانة والبلاغ إلى يوم الدين، وذكرت بعضاً من عوائق حوارنا الداخلي.
وليس من شأن هذه الدراسة الاستقصاء في جمع حوارات السيرة النبوية، فذلك عمل موسوعيّ تضيق عنه صفحاتها، ولكنا سنورد شواهد كافية ونستخلص النتائج دون استقصاء مما يوافق طبيعة هذه الدراسة.
الخـاتمة:
وقد أجملت فيها بعض النتائج والاقتراحات التي تجعل من الحوار أداة فعالة ووسيلة مناسبة للتطور والرقي في بلاد الإسلام.
***
وبعد، فإني أتقدم بوافر الشكر والتحية إلى رابطة العالم الإسلامي الموقّرة وإلى مؤسسة السيد حسن عباس شربتلي الخيرية لرعايتهما للجائزة والفائزين بها وحرصهما على نشر العلم النافع، فجزى الله تعالى القائمين على هذا الأمر خير الجزاء، وجعله في ميزان حسناتهم يوم الدين. هذا، والله تعالى الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
د / السيد خضر
الفصـل الأول الحوار ومصطلحاته (مداخل لغوية واصطلاحية)
تكتسب المداخل اللغوية والاصطلاحية أهميتها من كونها أسساً ومبادئ تُبنى عليها العلوم، وقد صارت دراسة المصطلح علماًً يُدرس في الجامعات والمعاهد المتخصصة، وكل دراسة جادة لابد لها أن تبدأ من المداخل اللغوية والاصطلاحية لتحديد المفاهيم والمحاور التي ستقوم حولها الدراسة، إن " قضية المصطلح تكاد تكون من أدق القضايا في عصرنا، فالمصطلح كما هو معروف مفتاح العلم والثقافة، وبدون القدرة على استيعاب المصطلحات وتوليدها وفهمها لا يمكن استقرار علـم ولا فـهم.." ( ).
والمصطلح في تعريفات المسلمين لـه " إخراج اللفظ من معنى لغوي إلى آخر لمناسبة بينهما، وقيل: الاصطلاح اتفاق طائفة على وضع اللفظ بإزاء المعنى " ( ).
من هذا المنطلق نؤسس دراستنا لفن الحوار على الدرس الاصطلاحي أولاً، وهذه محاولة لجمع المصطلحات الدالة على الصور الحوارية المتنوعة في العربية ودراستها لغوياً واصطلاحياً.
وهذه المصطلحات هي: الحوار والجدال والمناظرة وآداب البحث والحجاج والمراء والتفاوض والمناقشة والسؤال والجواب والشورى.
***
أولاً: الحـوار: (أ) مدخل لغوي:
قال في لسان العرب:" الحَوْرُ: الرجوع عن الشيء وإلى الشيء، حار إلى الشيء وعنه حَوْراً ومَحَاراً ومَحارَة وحؤوراً: رجـع عنه وإليه " ( ) وقال أحمد بن فارس:" الحاء والواو والراء ثلاثة أصول أحدها لون، والآخر الرجوع، والثالث أن يدور الشيء دوراً.. فأما الأول فالحَوَر: شدة بياض العين في شدة سوادها.. ويُقال: حوّرتُ الثياب أي بيضتها... ويقال لأصحاب عيسى عليه السلام حواريون لأنهم كانوا يحوّرون الثياب أي يبيضونها، هذا هو الأصل ثم قيل لكل ناصر حَوَاري.. وأما الرجوع فيقال: حار إذا رجع، قال الله تعالى إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (الانشقاق:14) والعرب تقول: الباطل في حور، أي رجع ونقص، وكل نقص ورجوع حُوُر.. وتقول: كلمته فما رجع إليّ حِواراً وحَوَاراً ومَحْوَرة وحَوِيراً.. والأصل الثالث: المحور: الخشبة التي تدور فيها المحالة " ( ) ويوضح اللسان المعنى الذي يدخل في موضوعنا من مادة "حور" فيقول: "وكلمته فما رجـع إليَّ حَوَاراً وحِوَاراً ومُحاورةً وحَوِيراً ومَحْوَرةً.. أي جواباً، وأحار عليه جوابه: ردّه، والمحاورة: المجاوبة " ( ).
ولفظ المحاورة كان مستعملاً عند عرب الجاهلية بمعناه المعروف اليوم، وقد ورد في معلقة عنترة قوله عن فرسه:
فازورّ من وقـع القَـنا بلَبَـانه وشـكا إليَّ بعَـبرةٍ وتحمحُمِ
لو كان يدري ما المحاورةُ اشتكى ولكان لو علم الكلامَ مكلّمي( )
إن الأصل الدلالي الحسيّ للمادة إذاً يقوم على معنى الرجوع من شيء إلى شيء أو حال إلى حال، ولكن للمادة شبكة معقدة من الدلالات المتوالدة عبر لغة العرب الواسعة الثرية.
(ب) الحوار: مدخل اصطلاحي:
إن الأصل اللغوي وقسماً من استعمالات المادة اللغوية يدلان على أن معنى الحوار أن هناك أقوالاً تدور بين طرفين، ولابدّ لها أن تبدأ من طرف فتنتقل إلى طرف آخر، ثم تحور - ترجع - إلى الأول، وهكذا تقع المحاورة والتحاور.
والمعنى الذي يدخل ضمن المفهوم الاصطلاحي من المعاني المتقدمة هو: الحوار والمحاورة والتحاور بمعنى المرادّة في الكلام، وهو يدل - في الأصل - على وجود طرفين - فردين أو أكثر - في مواجهة، يريد كل منهما إثبات رؤيته أو وجهة نظره حقاً كانت أم باطلاً، هذا الأصل في الحوار، ولكن المصطلح يتسع ليشمل أشياء كثيرة غير هذا، فليس بالضرورة في الحوار أن يكون بين طرفين متعارضين، إنما قد يكون بين أطراف متحدة أو متقاربة في المنهج والرؤية، وذلك لحل قضية أو مسألة أو تعلّم أو استخبار.. إلخ، وهذا كله يعود إلى المحاورة والمرادّة في الكلام.
وقد انتقلت كلمة المحور من التعبير الحسّي الذي ذكرناه إلى الاستعمال المجازي بمعنى المرتكز الذي تدور حوله مجموعة أفكار متناسقة أو متكاملة وهو توسّع دلالي بديع قائم على ملاحظة الأصل اللغوي الحسي، ومن المصطلحات الشائعة الآن: محور الثقافة، ومحور التنمية ومحور التكنولوجيا، والحوار الثقافي - المعلوماتي... إلخ ( ).
وقد اتسع مفهوم الحوار دائماً عبر التاريخ مع تطور نظم الحياة والثقافة والفكر، وصرنا نجد في أدبيات الثقافة المعاصرة مصطلحات متعددة تتخذ من الحوار منطلقاً لها، ومنها على سبيل المثال حوار الحضارات والثقافات وحوار الأديان والحوار مع الذات والحوار الاجتماعي والحوار السياسي...
وحين انتشرت وسائل الإعلام الحديثة كالإذاعة والتلفاز والصحف والمجلات اتخذت من الحوار وسيلة أساسية لنقل مادتها الإعلامية عبر محاورات تتم مع أعلام الثقافة والأدب والسياسة.. فصار باب " الحوار" باباً أساسياً في كثير من وسائل الإعلام على اختلاف توجهاتها ورؤاها، ذلك أن الحوار الهادف ينتج فكراً إبداعياً وينقّب عن مكامن النفس والعقل بالسؤال والمراجعة ويستخرج من النفس أشياء لم تكن لتخرج تلقائياً دون تحريك بالسؤال أو المحاورة.
الحوار الكتابي: ثمة لون آخر من الحوار يمكن تسميته الحوار الكتابي كالرسائل والردود عليها والكتب المؤلفة في الحوار بين الأديان والحضارات وما تستتبعه من ردود، والمثال على ذلك رسائل النبي إلى ملوك عصره وأمرائه التي فتحت باب الحوار مع الحضارات المجاورة لدعوتها إلى الله تعالى، وسنرى بعضاً من ذلك في موضعه.
مادة الحوار ومصطلحه في القرآن:
وإذا عدنا إلى استعمال القرآن الكريم للمادة اللغوية (حور) فسوف نجدها مستعملة في ثلاثة عشر موضعاً أحدها بمعنى الرجوع، أي العودة إلى الحياة بعد الممات في قوله تعالى إنه ظنَّ أنْ لنْ يحورَ (الانشقاق:14) وبمعنى "بياض العين في سوادها "وذلك بلفظ "حُور" في صفة نساء الجنة في أربعة مواضع، منها مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (الطور: 20) واستعملت بمعنى أنصار عيسى عليه السلام في خمسة مواضع، منها يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَـوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ (الصف:14).
واستعملت بمعنى الحوار والمحاورة في ثلاثة مواضع:
أ- فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (الكهف:34).
ب- قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (الكهف:37).
ج- قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير (المجادلة:1).
ومن هذا الاستعراض للمادة نجد أن لفظ الحوار مستعمل في القرآن في ثلاثة مواضع بالمعنى المتعارف عليه تاريخياً وفي عصرنا كذلك، بمعنى أنه يوجد طرفان أو أكثر يترادّون الكلام ويراجع بعضهم بعضاً في موقف ما حول مسألة تهمهم.. بما يحمله كلام كل فريق من مواقف ورؤى وآراء وعقائد تجد طريقها جلياً في الكلمات وقسمات الوجوه وحركات الأيدي، تلك التي تمثل " سياق " الموقف الحواري، هذا كله صار اصطلاحاً يسمى الحوار.
ثانياً: الجـدل: (أ) مدخل لغوي:
الأصل اللغوي لمادة "جدل" في كل تصرفاتها يدل على إحكام وقوة، قال ابن فارس:" الجيم والدال واللام أصل واحد، وهو من باب استحكام الشيء في استرسال يكون فيه، وامتداد الخصومة ومراجعة الكلام " ( ) وقـال الراغب:" الجدال: المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله من جدلت الحبل أي أحكمت فتله " ( ).
والمادة تتصرف في استعمالات العرب إلى معاني القوة والشدة كما ذكرت، ولها معان كثيرة نجتزئ منها بالآتي:
1- الجَدْل: شدة الفتل، ويبدو أن هذا هو الأصل اللغوي الحسي للمادة.
2- جدلت البناء: أحكمته، والمِجْدَل: القصر المحكم البناء.
3- الأجدل: الصقر المحكم البنية.
4- ومنه الجدال، فكأن المتجادلين يدافع كل واحد منهما عن رأيه كمن يجدل حبلاً بقوة.
5- اللدد في الخصومة والقدرة عليها، جادله مجادلة وجدالاً.. ورجل جَدِل ومِجْدَل ومِجْدَال: شديد الجَدَل.
6- الجدل: مقابلة الحجة بالحجة.
7- المجادلة: المناظرة والمخاصمة ( ).
(ب) الجدل: مدخل اصطلاحي:
تولد عن هذا الأصل اللغوي مصطلح الجدل أو الجدال غير مبتعد عن هذا الأصل الحسي دلالةً، فنلحظ في الاصطلاح كذلك معاني الشدة في الخصومة وقد وضع الشريف الجرجاني ثلاثة تعريفات للجدل على النحو الآتي:
1- الجدل: هو القياس المؤلف من المشهورات والمسلمات، والغرض منه إلزام الخصم، وإفحام من هو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان.
2- الجدل: دفع المرء خصمه عن إفساد قوله بحجة أو شبهة، أو يقصد به تصحيح كلامه، وهو الخصومة في الحقيقة.
3- الجدال: عبارة عن مراء يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها " ( ).
وقال أبو حامد الغزالي:" وأما المجادلة فعبارة عن قصد إفحام الغير وتعجيزه وتنقّصه بالقدح في كلامه ونسبته إلى القصور والجهل فيه " ( ).
وقد تطورت صور الجدل والتحاور والمناظرة لتكوّن علماً ذا أصول وقواعد فصار يسمى علم الجدل أو المناظرة، وفي تعريفه قـال ابن خلدون:" وأما الجدل، وهو معرفة آداب المناظرة التي تجري بين أهل المذاهب الفقهية وغيرهم فإنه لما كان باب المناظرة في الرد والقبول متسعاً، وكل واحد من المناظرين في الاستدلال والجواب يرسل عنانه في الاحتجاج، ومنه ما يكون صواباً ومنه ما يكون خطأ، فاحتاج الأئمة إلى أن يضعوا آداباً وأحكاماً يقف المتناظران عند حدودها في الردّ والقبول، وكيف يكون حال المستدل والمجيب، وحيث يسوغ لـه أن يكون مستدلاً وكيف يكون مخصوماً منقطعاً... ولذلك قيل فيه: إنه معرفة بالقواعد من الحدود والآداب في الاستدلال التي يتوصل بها إلى حفظ رأي أو هدمه، كان ذلك الرأي في الفقه أو غيره " ( ).
وقال حاجي خليفة في تعريفه:" هو علم باحث عن الطرق التي يُقتدر بها على إبرام ونقض، وهو من فروع علم النظر، ومبني لعلم الخلاف مأخوذ من الجدل الذي هو أحـد أجـزاء مباحث المنطق، لكنه خصّ بالعـلوم الدينية " ( ).
وثمة تشابه كبير بين مباحث علمي الجدل والمناظرة، مما دعا بعضهم إلى اعتبارهما شيئاً واحداً، كما قال حاجي خليفة:" ولا يبعد أن يقال: إن علم الجدل هو علـم المناظرة لأن المآل منهما واحـد، إلا أن الجـدل أخص منه" ( ).
ولهذا السبب - أي ما يبدو فيه من الخصومة - ورد عن بعض العلماء النهي عنه، كما ذكر حاجي خليفة:" وعن بعض العلماء: إياك أن تشتغل بهذا الجدل الذي ظهر بعد انقراض الأكابر من العلماء ؛ فإنه يبعد عن الفقه ويضيع العمر ويورث الوحشة والعداوة، وهو من أشراط الساعة، وكذا ورد في الحديث.. قلنا: والإنصاف أن الجدل لإظهار الصواب على مقتضى قوله تعالى وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (النحل:125) لا بأس به وربما ينتفع به في تشحيذ الأذهان، والممنوع هو الجدل الذي يضيع الأوقات، ولا يحصل منه طائل" ( ).
مادة الجدل ومصطلحه في القرآن:
استعملت مادة "جدل " أفعالاً وأسماء في القرآن في (29) موضعاً، منها أربعة بلفظ الاسم، والبقية أفعال تتوزع بين الماضي والمضارع والأمر، والمستعمل منه في الأسماء مصدران: مصدر الثلاثي "جَدَل " ومصدر الرباعي "جِدَال" وقد سميت إحدى سور القرآن باسم المجادلة، وهو المصدر الآخر للفعل الرباعي " جادل" على وزن " فاعل" الدال بصيغته على المشاركة.
أنواع الجدال في القرآن:
أ - الجدال المذموم: الغالب على استعمال الجدل والجدال في القرآن أن يكون في أمر مكروه ؛ لأن فيه مغالبة الحق بالباطل، ولهذا يُسند الفعل في هذه الأحوال إلى الكفار، ومنه:
1- وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ (الكهف:56).
2- مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاّ الَّذِينَ كَفَرُوا (غافر:40).
قال الزمخشري:" المراد: الجدال بالباطل من الطعن فيها والقصد إلى إدحاض الحق وإطفاء نور الله... أما الجدال فيها لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها ومقادحة أهل العلم في استنباط معانيها وردّ أهل الزيغ بها وعنها فأعظم جهاد في سبيل الله " ( ).
وقد حذر النبي من هذا اللون من الجدل كما في الحديث عن أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ :" مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلا أُوتُوا الْجَدَلَ، ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللَّهِ هَذِهِ الآيَةَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (الزخرف: 58) ( ) .
ب - الجدال بالحسنى: وثمة لون آخر من الجدال في القرآن، وهو الجدال الواقع من المؤمنين لأغراض متنوعة، وهو جدال لا يراد منه إبطال الحق أو مدافعته كما هو الحال مع الكفار المجادلين، ولكنه جدال يتخذ صوراً أخرى متنوعة، ونكتفي بمثال واحد من قصص إبراهيم عليه السلام حين جاءته الملائكة يبشرونه بغلام عليم، ويخبرونه بأنهم مرسلون لإهلاك قوم لوط.. فتأخذه الرحمة والرأفة اللتين عُرف بهما في تاريخه الطويل، إن إبراهيم الحليم الأواه المنيب يريد من ربه أن يُنظِرَ قوم لوط نظرة لعلهم يؤمنون، ولكن الله تعالى أعلى وأعلم، ولهذا منع صفيه وخليله من الخوض في المسألة، فالأمر قد قضي فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إنَّ إبراهيمَ لحليمٌ أوّاهٌ منيبٌ. يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (هود:74-76).
ج - الجدال عن النفس يوم القيامة: وثمة لون ثالث من الجدال بينه القرآن، وهو جدال النفس يوم القيامة أمام الله تعالى ساعة الحساب، جدالها عن نفسها طلباً للثواب أو هرباً من العقـاب يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا (النحل:111).
وبمراجعة مادة "جدل" في المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي سنجد الأنواع نفسها التي ذكرناها في القـرآن، إذ نجد الجدل المحمود كمـا في " إن " الـم. تنـزيل.." تجادلُ عن صاحبها.. و " كأنهما فرقان من طير صواف يجادلان.. و " لقد جاءت المجادِِلةُ إلى النبي ..." فالأول في دفاع سورة السجدة عن حافظها يوم القيامة، والثاني في دفاع الزهراوين البقرة وآل عمران عن صاحبهما يوم القيامة، والثالث في مجيء خولة بنت ثعلبة إلى النبي مجادلةً في شأن ظهار زوجها منها، وهذا في الجدال المحمود، أما الجدال المذموم فمنه " فإنك منافق تجادل عن المنافقين.. لا تجادلنّ عالماً ولا جاهلاً.. يجادلونكم بشبهات القرآن.. وجدال المنافق بالكتاب.. باب النهي عن الجدال.. إيـاك والخصومة والجدال في الدين.. بـاب اجتناب البدع والجـدل.. " ( ).
بين الحوار والجدل:
ثمة قواسم مشتركة وفروق ظاهرة بين التحاور والجدال، فالتحاور مراجعة الكلام بين طرفين أو أطراف للوصول إلى الحقيقة أو التعلم أو التذكير.. إلخ، دون إشعار بخصومة، أما الجدال فهو مشعر بالخصومة غالباً لارتباطه بمعاني الشدة والقوة، وهي إذا دخلت الحوار حولته إلى جدال أو حجاج أو مراء، وبذلك فالحوار أعمُّ من الجدل.
وقد استعمل القرآن المصطلحين في الآية الأولى من سورة المجادلة، فكان حديث المرأة مع النبي بشأن زوجها "جدالاً " لأنها أشعرت بخصومة بينها وبين زوجها، ولكن لم تكن لها خصومة مع النبي فكان ما بينهما تحاوراً لا مجادلة.
ولقد كان ضمن مفاهيم الجدل في عصر النبي الدفع بالحجة ضد حق واضح لا لبس فيه، ومنه قول كعب بن مالك رضي الله عنه حين تخلف عن غزوة تبوك ثم جاء يعتذر، فقال للنبي :" إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْـلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُـذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَـدَلاً.. " ( ).
وقد ارتبط الجدل في التراث القديم بالفلسفة اليونانية التي كانت تراه نوعاً من البراعة العقلية واللفظية بغض النظر عن الوصول إلى الحقيقة العلمية، وبخاصة عند الفلاسفة السوفسطائيين.
ثالثاً: المناظرة أو آداب البحث: (أ) مدخل لغوي:
الأصل اللغوي لمادة " نظر " هو من فعل حاسة البصر، ثم يتصرف إلى معان شتى، منها المناظرة، قال الراغب:" والمناظرة: المباحثة والمباراة في النظر واستحضار كل ما يراه ببصيرته، والنظر: البحث، وهو أعم من القياس، لأن كل قياس نظر، وليس كل نظر قياساً " ( ) وفي اللسان:" التناظر: التراوض في الأمر، ونظيرك: الذي يراودك وتناظره " ( ).
(ب) مدخل اصطلاحي:
قال الجرجاني:" المناظرة لغة من النظير، أو من النظر بالبصيرة، واصطلاحاً هي النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشيئين إظهاراً للصواب " ( ) وقال حاجي خليفة عن المناظرة:" عُلم يبحث فيه عن كيفية إيراد الكلام بين المناظرين، وموضوعه الأدلة من حيث إنها يثبت بها المدعي على الغير، ومباديه أمور بينة بنفسها، والغرض منه تحصيل ملكة طرق المناظرة لئلا يقع الخبط في البحث فيتضح الصواب.. وقال ابن صدر الدين في الفوائد الخـاقانية: وهذا العلم كالمنطق يخدم العلوم كلها، لأن البحث والمناظرة عبارة عن النظر من الجانبين في النسبة بين الشيئين إظهاراً للصواب وإلزاماً للخصم " ( ).
فالمناظرة صورة حوارية قائمة على تقليب الأقوال والآراء واستخراج النتائج من المقدمات بوسائل تناسب كل علم، وفي فائدتها قال الشاطبي:" ومقصود المناظرة ردّ الخصم إلى الصواب بطريق يعرفه ؛ لأن رده بغير ما يعرفه من باب تكليف ما لا يطاق، فلا بد من رجوعهما إلى دليل يعرفه الخصم السائل معرفة الخصم المستدل " ( ).
فالمناظرة إذاً حاجة ضرورية لاستنتاج نتائج صحيحة من مقدمات متفق عليها بين الطرفين، وهي في هذا قريبة من المنطق الأرسطي لكنها تختلف عنه في صورتها الحوارية، وفي ضرورتها يقول حاجي خليفة:" فلتفاوت مراتب الطبائع والأذهان لا يخلو علم من العلوم عن تصادم الآراء وتباين الأفكار وإدارة الكلام من الجانبين للجرح والتعديل والردّ والقبول، وإلا لكان مكابرة غير مسموعة، فلا بدّ من قانون يعرّف مراتب البحث على وجه يتميز به المقبول عما هو المردود، وتلك القوانين هي عـلم آداب البحث " ( ).
وقد استعمل النبي إبراهيم عليه السلام المناظرة مع قومه ليتوصل إلى الحق من مقدمات يتفق عليها معهم، وهي أن من صفات الإله الذي يجب أن يُعبد بحق أن لا تختلف عليه الأحوال ولا يؤثر فيه كرّ الليل والنهار، وتدرّج معهم في بيان ذلك ونقض اعتقادهم في الكواكب والقمر والشمس كما قص القرآن عنه، قال الشاطبي:" يدخل تحت باب المناظرة ما إذا أجرى الخصم المحتج نفسه مجرى السائل المستفيد حتى ينقطع الخصم بأقرب الطرق كما في شأن محاجة إبراهيم قومَه بالكوكب والقمر والشمس " ( ).
والمناظر - كالمحاور - قد يسأل ابتداءً عن حكم الشيء فيكون من باب التعلم، وقد يسأل عند استشكال الأمر عليه بعد النظر في الأدلة، والأول يطلق عليه اسم المناظر اصطلاحاً لا حقيقة ( ).
وقد صار مصطلح المناظرة أكثر ارتباطاً بالمسائل العلمية في التراث الإسلامي فهي أخص من الحوار، وهي عادة ما تكون بين شخصين أو أكثر بينهم خلاف علمي واضح، فهما يتناظران لأجل الغلبة أو إظهار الحق.
رابعاً: الحِجَــاج: (أ) مدخل لغوي:
في أصول المادة اللغوية سنجد فروعاً متنوعة تمت إلى الأصل اللغوي الدال على القصد إلى شيء ما، ثم تخصص منه الحج في الشرع ليدل على الشعيرة المعروفة، كما قـال أحمد بن فارس:" وكذلك الحج، لم يكن عندهم فيه غير القصد، وسَبْر الجراح.. ثم زادت الشريعة ما زادته من شرائط الحج وشعائره.." ( ).
ومن هذا الأصل: القصد، تفرع معنى المحاجة، قال الراغب:" والحجة: الدالة المبينة للحجة أي المقصد المستقيم الذي يقتضي صحة أحد النقيضين.. والمحاجة: أن يطلب كل واحد أن يردَّ الآخر عن حجته ومحجته" ( ) والحِجاج علامة للخصومة غالباً، ولذلك ربطه ابن فارس بها في التعريف اللغوي:" حاججت فلاناً فحججته، أي غلبته بالحجة، وذلك الظفر يكون عند الخصومة " ( ).
وقد لا تكون ثمة خصومة حقيقية بين المتحاجين، إنما هو اختلاف في الرأي ظاهره الخصومة، وقد استعمل النبي الفعل"حجّ " بمعنى غلب في المحاورة لوجود الحجة معه، قال :" احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلام عِنْدَ رَبِّهِمَا فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، قَالَ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلائِكَتَهُ وَأَسْكَنَكَ فِي جَنَّتِهِ ثُمَّ أَهْبَطْتَ النَّاسَ بِخَطِيئَتِكَ إِلَى الأَرْضِ؟ فَقَالَ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلامِهِ وَأَعْطَاكَ الألْوَاحَ فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ وَقَرَّبَكَ نَجِيّاً، فَبِكَمْ وَجَدْتَ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ مُوسَى: بِأَرْبَعِينَ عَاماً، قَالَ آدَمُ: فَهَلْ وَجَدْتَ فِيهَا وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (طه:121) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَنْ عَمِلْتُ عَمَلاً كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى " ( ) أي غلبه بالحجة الساطعة.
(ب) مدخل اصطلاحي:
الحجاج لا يكون غالباً إلا بين حق وباطل كما سنرى، وهو مدافعة الخصم بالحجة أو ما يتصور أنه حجة، وهو في بعض أحواله يلتقي مع الحوار لتوافر أركان المحاورة فيه، من وجود طرفين متحاورين، ولكنه لون أخص من الحوار، إذ إن الحوار كما ذكرنا من قبل وكذلك الجدال يكونان بين عدوين متضادين، أو بين صاحبين متحدين في المنهج والطريق، ولكن يكون الحوار أو الجدال وسيلة استيضاح أو توصل إلى الحقيقة.
والحجاج والمحاجّة مصطلح دال على دفع حجة صحيحة في نفسها أو حجة يتصور صاحبها صحتها لفلّ شوكة الخصم وغلبته، فهي في ذاتها قد تكون حجة صحيحة أو واهية داحضة، ولكن تصور صاحبها صحتَها يرفعها في تصوره إلى مقام الحجة.
وفي الدرس المعاصر نجد الهدف الأساسي لعملية الحجاج " كسب تأييد المتلقي في شأن قضية أو فعل مرغوب فيه من جهة، ثم إقناع ذلك المتلقي عن طريق إشباع مشاعره وفكره معاً حتى يتقبل ويوافق على القضية أو الفعل موضوع الخطابة - الخطاب…" ( ).
مادة الحجاج ومصطلحه في القرآن:
والحجاج في القرآن على نمط واحد مطرد، ذلك أنه في جميع المواضع التي ورد فيها يقع ابتداء من الكفار وأهل الكتاب ضد فريق المؤمنين، فهو إذاً محاولة لوضع حجة باطلة مقابل حجة صحيحة، هذا في حجاج الدنيا، أما في حجاج الآخرة فلا يرد الحجاج بين أهل الجنة، بل بين أهل النار المستضعفين منهم والمستكبرين، وهو لون من التحاور الدال على الغضب والندم، أما أهل الجنة فلا حجاج بينهم، ولا يسمعون هنالك إلا قيلاً سلاماً سلاماً.
من صور المحاجّة في القرآن:
1- محاجة النمرود لإبراهيم عليه السلام في شأن الله الواحد الأحد سبحانه أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (البقرة:258).
2- والحجاج يقع كذلك من أهل الكتاب مع المسلمين في أمور بديهية معلومة للجميع، ولكنه الكبر والعناد بالباطل، وهو كثير، نذكر منه محاجتهم النبيَّ في عيسى عليه السلام، فقص الله عليهم قصته وأخبرهم حقيقته ثم قال لنبيه فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (آل عمران:61)
وحجاج القرآن من النوع الواضح الذي يبدأ بالأرضية المشتركة بين الناس جميعاً، أي هو يبدأ مع الناس متدرجاً حتى يفهم الجاهل قبل العالم ويقيم الحجة على الناس جميعاً، لقد " أخرج الله تعالى مخاطباته في محاجة خلقه في أجلى صورة ليفهم العامة ما يقنعهم وتلزمهم الحجة، وتفهم الخواص من أنبائها ما يربي على ما أدركه فهم الخطباء " ( ).
خامساً: المـراء: (أ) مدخل لغوي:
المراء لون حواري أشبه بالجدل المذموم بل يصل المراء أحياناً إلى مرتبة الكفر كما سنذكر بعد، قال في اللسان:" ماريتُ الرجل أماريه إذا جادلته، والمـرية: الشك والجدل... والمراء: المماراة والجدل.. وأصله في اللغة الجدال، وأن يستخرج الرجل من مناظره كلاماً ومعاني لخصومة وغيرها... وقال ابن الأنباري: مارى فلانٌ فلاناً معناه استخرج ما عنده من الكلام والحجة، مأخوذ من قولهم: مريتُ الناقة إذا مسحت ضرعها لتدرَّ " ( ).
(ب) مدخل اصطلاحي:
المراء أمر مذموم، لأنه مجادلة بالباطل لدحض الحق، وقد عرفه الراغب في المفردات بقوله:" المرية التردد في الأمر، وهو أخص من الشك، والامتراء والمماراة: المحاجّة فيما فيه مرية " ( ) ويزيد الشريف الجرجاني بيان حقيقة المراء بقوله:" المراء طعن في كلام الغير لإظهار خلل فيه من غير أن يرتبط به غرض سوى تحـقير الغير " ( ) وقال أبو حامد الغزالي:" وحدُّ المراء هو كل اعتراض على كلام الغير بإظهار خـلل فيه، إما في اللفظ وإما في المعنى، وإما في قصـد المتكلم " ( ).
المراء في القرآن والحديث النبوي:
المراء في لغة القرآن أمر مذموم في كل المواضع التي ورد فيها، حيث ورد نهي صريح للنبي بالابتعاد عن المراء في كل الأحوال، ومنه الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (البقرة: 147).
والمرية والمراء في بعض المواضع يقرب من معنى الشك والتكذيب، وفي بعض يقرب من معنى الحوار والمجادلة كما في فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاّ مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (الكهف:22) قال الزمخشري:" فلا تمار فيهم: فلا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف إلا جدالاً ظاهراً غير متعمق فيه، وهو أن تقص عليهم ما أوحى الله إليك فحسب ولا تزيد، من غير تجهيل لهم ولا تعنيف بهم في الردّ عليهم " ( ).
والمراء كذلك مذموم في الحديث النبوي، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ:" الْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ " ( ).
وبمراجعة مادة " مرى " في المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي نجد أن مفهوم المراء في السنة وأقوال الصحابة يعني حواراً يتحول إلى ما يشبه الخصومة بسبب الخلاف حول قضية ما، ومن ذلك بإيجاز " إنه تمارى هو والحرّ بن قيس.. امترى رجل من بني خدرة ورجل من بني عذرة.. إني تماريت أنا وصاحبي.. فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما.. تمارينا في سورة من القرآن.." ( ).
سادساً: التفـاوض: (أ) مدخل لغوي:
قال الراغب:" فاض الماء إذا سال منصبّاً.. وأفاض إناءه إذا ملأه حتى أساله.. ومنه: فاض صدره بالسر أي سال، ورجل فياض أي سخيّ، ومنه استعير: أفاضوا في الحديث إذا خاضوا فيه " ( ) وقال في اللسان:" وفاوضه في أمره: جاراه، وتفاوضوا الحديث: أخذوا فيه، وتفاوض القوم في الأمر أي فاوض فيه بعضهم بعضاً " ( ).
والمادة تستعمل في اللغة بمعان متعددة راجـعة إلى الأصل اللغوي " فيضان الماء " وصار منه " فوض الأمر إليه ".
ولم يستعمل القرآن من المادة غير هذا المعنى الأخير في موضع واحد فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ (غافر:44).
(ب) مدخل اصطلاحي:
يبدو أن مصطلح المفاوضة قد تولّد إبّان بداية العصر الأموي كما نفهم من هذا النص في لسان العرب، ففي حديث لمعاوية أنه قال لدغْْفَل بن حنظلة - وكان عالماً فصيحاً -: " بمَ ضبطتَ ما أرى؟ قال: بمفاوضة العلماء، قال: وما مفاوضة العلماء؟ قال: كنت إذا لقيت عالماً أخذت ما عنده وأعطيته ما عندي" ثم قال ابن منظور: المفاوضة: المساواة والمشاركة، وهي مفاعلة من التفويض، كأن كل واحد منهما ردّ ما عنده إلى صاحبه، أراد محادثة العلماء ومذاكرتهم في العلم " ( ).
و مصطلح التفاوض في العصر الحديث أكثر قرباً من مجالات السياسة والتجارة.. وتنبع أهميته من حاجة البشر الملحة إليه، إنه العلم الذي " نهدف من خلاله إلى التعرف على أفضل وسائل تكوين الأرضيات المشتركة والتفاهم الفعال بين بني البشر رغم اختلافاتهم وثقافاتهم وعقائدهم، إنه العلم الذي نحاول من خلاله تجنب تفجير الصراعات والجدل العقيم " ( ).
ويقترب مصطلح التفاوض في بعض صوره من مصطلح الحوار مع وجود بعض الفوارق بينهما سنذكرها بعد، والتفاوض في الاصطلاح المعاصر " موقف تعبيري حركي قائم بين طرفين أو أكثر حول قضية من القضايا يتم من خلاله عرض وجهات النظر وتبادلها وتقريبها ومواءمتها وتكييفها، واستخدام كافة أساليب الإقناع للحفاظ على المسائل القائمة أو للحصول على منفعة جديدة " ( ).
والتفاوض بصورته السابقة لون معمّق من ألوان الحوار، وهو حوار يُخطط لـه من قبل بعناية، لأن الاتفاقيات الناتجة عنه تكون ملزمة في حالة التوصل إليها، ولذا نجد العناية الدقيقة بكل خطوات عملية التفاوض، وقد صار مقدمة أساسية لكل صور المعاملات في العصر الحاضر، وصورته الفعلية تتمثل في حدوثه بين " شخصين أو فريقين، ويحاول كل فريق إقناع الآخر بوجهة نظره، وذلك من خلال تقديم الحجج وعرض الأفكار والآراء، والقدرة على توالد الأفكار والعرض والمناورة " ( ).
بين الحوار والتفاوض:
وفي المصطلح السياسي المعاصر يتقدم مصطلح التفاوض على الحوار والتحاور في التعامل السياسي، فنحن نعرف جولات المفاوضات ومراحل التفاوض وسياسة التفاوض وسيكولوجية التفاوض... فالمصطلح هو السائد في الفكر والتعامل السياسي.
والتفاوض يلتقي مع الحوار في الصورة النطرية العامة، لكن التحاور يميل اصطلاحاً إلى ما يشبه البعد عن المجالات السياسية الرسمية إلى مجالات أرحب، أو قل: إن الحوار أشمل وأوسع من مجرد عملية تفاوضية محددة بإطار زماني ومكاني محددين سـلفاً وفي مسائل محددة كذلك سلفاً، فالحوار أشمل وأوسع ولا يخضع للآليات الحرفية التي يخضع لها التفاوض.
ولكن الذي يهمنا هنا هو صورة الحدث التفاوضي والحواري، فهما عملياً صورة واحدة: لقاء أطراف مختلفة أو متفقة لمناقشة مسألة أو مسائل للوصول إلى حل أو نتيجة أو اتفاق، والإنسان يمارس التحاور والتفاوض في كثير من أمور حياته.
وقد صار التفاوض علماً يدرس في المعاهد العلمية والسياسية لأنه يشكل أساساً من أسس العلاقات الدولية والتعامل الدولي في جميع المجالات، وقد أدرجناه ضمن مصطلحات الحوار لأنه لون من ألوانه كما رأينا.
وقد صارت لعلم التفاوض أهمية كبرى في عصرنا ذي التنوع والاختلاف مع سهولة الاتصال وتقدم وسائله، وتأتي أهميته " من كونه علماً يتعلق بقضايا جوهرية ومهمة لبناء المجتمعات على النحو الأفضل، فهو إذاً علم حيوي لعملية التواصل بين أفراد المجتمع داخل كل دولة، وبين أفراد المجتمع الدولي على اتساعه " ( ).
سابعاً: المناقشة: (أ) مدخل لغوي:
المناقشة لون حواري كذلك، وهي في أصلها اللغوي تمت بصلة ضعيفة إلى هذا المعنى، ولكنها صارت في الاصطلاح المعاصر - بعد التطور الدلالي للكلمة - صورة حوارية، قال في اللسان:" نقش الشوكة ينقشها نقشاً وانتقشها: أخرجها من رجله، وبه سُمي المنقاش الذي يُنقش به، وناقشه الحساب مناقشة ونقاشاً: استقصاه، وفي الحديث:" من نوقش الحسابَ عُذّب " ( ) أي من استُقصي في محاسبته وحوقق... وأصـل المناقشة من نقش الشوكة إذا استخرجها مـن جسمه " ( ).
والمناقشة على ذلك لون حواري، ولعل أهل الجاهلية عرفوها قريبة من هذا المعنى كذلك، ومنه قول الحارث بن حلّزة:
أو نقشتم فالنقشُ يجشِمُه النا سُ وفيه الصَّحاحُ والإبراء
يقول: لو كان بيننا وبينكم محاسبة عرفتم الصحة والبراءة " ( ).
وفي المناقشة لون من استقصاء الحساب وإظهار الأخطاء... وليس ذلك ضرورياً في الحوار.
(ب) المناقشة: مدخل اصطلاحي:
صارت المناقشة في الاصطلاح لوناً حوارياً ذا طبيعة خاصة، حيث تجتمع مجموعة من الناس لإدارة حوار حول مسألة متفق عليها من قبل، وهي في الاصطلاح " موقف مخطط يشترك فيه مجموعة من الأفراد تحت إشراف قيادة معينة وتوجيهها لبحث مشكلة أو موضوع محدد بطريقة منظمة، ويعرف كل فرد فيها دوره بهـدف الوصول إلى حـلّ تلك المشكلة " ( ).
وقد ساد هذا اللون الحواري في كثير من صور التعليم المعاصر حتى صارت المناقشة أشهر من مصطلح الحوار في عمليات التعليم المتنوعة.
ثامناً: السؤال والجواب:
السؤال والجواب لون حواري أمر الله تعالى بـه المسلمين بوصفه من أهـم وسائل التعلم، قال تعالى فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (الأنبياء:7) وهي طريقة مثلى لتلقي العلم، ولذا كثر في السنة النبوية صدور الأسئلة من الصحابة وإجابة النبي عليها، أو سؤال النبي بعضَ أصحابه بقصد التعليم والنصح، وكان الرد على تلك الأسئلة أحياناً ينزل في القرآن، وقد ورد فيه الفعل يسألونك خمس عشرة مرة متبوعاً بالجواب من عند الله تعالى ( ).
وكان السؤال كذلك يدخل ضمن محاورات الأنبياء بوصفه وسيلة تعليم، كما في سؤالات موسى للخضر عليهما السلام حتى وصل الأمر به إلى قوله قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (الكهف:76).
والتساؤل طريقة حوارية ظاهرة في أسلوب القرآن الكريم مثل:
- وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (الصافات:27).
- وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ (الكهف:19).
ثم ذكرت الآيات بعد ذلك مضمون التساؤل في صورة حوارية عن مدة لبثهم في الكهف...
وقد كان النبي يسأل أصحابه كثيراً ليعلمهم، وكان يؤثر طريقة السؤال والجواب لأنها تثير الذهن والانتباه، وفي صحيح البخاري عن عَبْد اللَّهِ بن مسعود: قَالَ النَّبِيُّ :" أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ، قَالَ: فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ " ( ).
تاسعاً: الشورى:
الشورى أساس من أسس الحكم في الإسلام، ودعامة من دعائم العمل الإسلامي في كل الميادين، ولسنا هنا في مجال بيان حقيقتها وأحكامها مفصلةً فقد تكفّلت بذلك دراسات كثيرة، ولكنا ندرجها هنا بوصفها - في جوهرها - لوناً حوارياً من طراز فريد.
أ - مدخل لغوي:
قال في اللسان:" أشار الرجل يشير إشارة إذا أومأ بيديه.. وأشرت إليه أي لوّحت إليه.. وأشار إليه باليد: أومأ، وأشار عليه بالرأي وأشار يشير إذا ما وجّه الرأي " ( ) وقال ابن فارس:" الشين والواو والراء أصلان مطردان، الأول منهما إبداء شيء وإظهاره وعرضه، والآخر أخذ شيء.." ثم جعل الشورى من هذا الأصل الثاني فقال: قال بعض أهل اللغة:" من هذا الباب شاورت فلاناً في أمري، قال: وهو مشتق من شَوْر العسلِ، فكأن المستشير يأخذ الرأي من غيره " ( ) .
قلت: ولا يبعد كذلك أن تكون راجعة إلى الأصلين معاً، فالأصل الأول بمعنى إظهار الشيء، فيكون منه إظهار الرأي لغيره إذا طلب منه أو إظهاره ابتداء على سبيل النصح.
(ب) مدخل اصطلاحي:
الشورى لون حواري يتم بين شخصين أو أكثر، وهو تقليب الأمر على وجوهه وصولاً إلى الحكم الصواب فيه، قال الراغب:" والتشاور والمشاورة والمشورة: استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض، من قولهم: شُرْت العسل إذا اتخذته من موضعه واستخرجته منه " ( ).
مادة الشورى في القرآن الكريم:
وردت مادة (شور) في القرآن في أربعة مواضع، الأول منها بمعنى الإشارة باليد فَأَشَارَتْ إِلَيْه (مريم:29) والثلاثة الأخرى بمعنى المشاورة في الأمر:
- فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ(آل عمران:159)
- وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (الشورى:38).
- فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا (البقرة:233).
وقد استعمل القرآن فعل الأمر (شاورْ) للدلالة على وجوب الشورى في الحكم، واستعمل المصدرين: شورى وتشاوُر، فالأول اسم مصدر لأن فعله شاور والثلاثي منه لا يستعمل بمعنى التشاور، والثاني مصدر خماسي فعله تشاور وهو على وزن تفاعل الدال بنفسه على المشاركة بين طرفين أو عدة أطراف.
وقد أكبرت العرب شأن الشورى حتى قبل الإسلام، وقصة بلقيس في ذلك معلومة قصها القرآن، إذْ استشارت قومها بشأن كتاب سليمان عليه السلام، ولكن الإسلام أعطى الشورى صورتها الشرعية التي تكون بها عملاً مشروعاً داخلاً في إطار منظومة العبادة بمعناها الواسع، وفي عيون الأخبار لابن قتيبة: قال عمر بن الخطاب:" الرأي الفرد كالخيط السحيل، والرأيان كالخيطين المبرمين، والثلاثة مرار لا يكاد ينتقض " ( ).
وهذا يبين لنا بجلاء أن الشورى حقيقةً عمل حواري بديع، تتعانق فيه الآراء للوصول إلى الحق، ولو جاز لأحد من الناس أن يتركها لكان الذي يتنـزل عليه وحيُ السماء، ولكنّا عرفناه من سيرته أكثرَ الناس عملاً بمبدأ الشورى، وسنذكر بعضاً من ذلك في مواضعه من الدراسة.
***
مدخل لغوي لعملية الحوار:
إن الحوار لون من ألوان الكلام، ولكن لـه طبيعة خاصة، إنه ليس سرداً أو خطبة في جمهور، إنه مواجهة فـكرية بين طرفـين متعارضين أو متقاربين بينهما بعض اختلاف، إن الحوار يمثل حالة حضور ومشاهدة، وهي حالة حية متحركة نابضة، والحوار فيه الإشارة واللمحة والنظرة والحركة، كل هذه عوامل مساعدة للغة في عملية التوصيل، والفعل اللغوي نفسه في حالة المحاورة مختلف عن الصور الأخرى للاستعمال اللغوي، ففيه استعمال للصوت بدرجات ونبرات متنوعة تناسب المقام والسياق الكلامي.
والفعل اللغوي في الحالة الحوارية تؤازره الحركة الجسمية المعبرة، وفي حديث ابن عباس عن النبي قال:" لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ مُوسَى بِمَا صَنَعَ قَوْمُهُ فِي الْعِجْلِ فَلَمْ يُلْقِ الألْوَاحَ، فَلَمَّا عَايَنَ مَا صَنَعُوا أَلْقَى الألْوَاحَ فَانْكَسَرَتْ " ( ).
لقد كان موسى حين أُخبر بفعل قومه وحيداً يتلقى التوراة بعيداً عنهم، فلم تكن هناك حالة تفاعل، أو إمكان قيام حالة حوارية لتصحيح الأمر وردّ القـوم إلى الصواب، ولكنه حين رأى قومـه وما فعلوا ورأى السامري ورأى أخاه هارون مغلوباً على أمره نشأت الحالة الحوارية بعناصرها المتنوعة، حيث قصّ القرآن الكريم أطرافاً منها، إن موسى عليه السلام في الحالة الأولى " سمع " بفعل قومه، وفي الثانية " عاين " ما فعلوه رأي العين، ولذا تبدل الحال، وزاد الانفعال، إن " الأثر العقلي الذي يأتي عن طريق العين أعمق من الأثر الذي يأتي عن طريق الأذن.. والحقيقة أن العصب البصري أقوى عدة مرات من العصـب السمعي " ( ).
والشاهد في هذا كله أن الحوار وليد حالة من التفاعل أوالصراع - غالباً - بين أطراف متعددة، ولذا فإن لـه طبيعة لغوية خاصة.
إن التحاور عملية لغوية تواصلية، ثمة أطراف في مكان واحد وزمان واحد وحدث واحد، ومن ثم تتكون العملية الحوارية من:
مرسل ← رسالة ← مستمع ← ردّ
وهكذا تدور العملية الحوارية ما بين ابتداء وردّ..
إن حالة " الحضور" هذه حالة خاصة تكون الاستجابة فيها أسرع وأوقع ؛ إذ تشارك في عملية التواصل أشياء كثيرة تفتقدها حالة السرد أو الانفراد، إن وجود أشخاص يتحاورون معاً يتيح المزيد من تلاقح الأفكار وتناقلها بوتيرة أسرع من مجرد القراءة المنفردة التي قد تحتمل العديد من التأويلات أو تكون أكثر قبولاً لحالة " الذهول " أو تشتت الذهن التي قد تصاحب القراءة أحياناً، لكن الحالة الحوارية حالة نشطة حاضرة بأشخاصها وأصواتها وإشاراتها الجسمية المتنوعة، لهذا كله يتقدم فنُ الحوار فنونَ التواصل الإنساني الأخرى في مقام الدعوة إلى الله تعالى كما صورها القرآن الكريم، وكما كان واقع الدعوة في سيرة النبي .
إن اللقاء بمعنى الحضور والمحاورة أو الدخول ضمن " النطاق الحواري " كان شرطاً لنيل شرف الصحبة النبوية، ولذا عدّه علماء الحديث شرطاً من شروط الصحبة، وقالوا في حدّ الصحابي:" إنه من رأى رسول الله وإن لم تطل صحبته له، وإن لم يرو عنه شيئاً " ( ).
فشرف الصحبة إذاً لم يكن ليُنال بغير " لقاء " ولو لساعة من زمان، ولا شك أن اللقاء غالباً يتضمن السلام والتحاور، أي التلبس بحالة الحضور بكل عناصرها، ولذا تعد هذه الحالة أعظم أثراً في إيصال الرسالة لا ريب، وفي حقيقة هذا يقول ابن الجوزي:" قد يعرض عند سماع المواعظ للسامع يقظة، فإذا انفصل عن مجلس الذكر عادت القسوة والغفلة، فتدبرت السبب في ذلك فعرفته... فالحالة العامة أن القلب لا يكون على صفة واحدة من اليقظة عند سماع الموعظة وبعدها لسببين: أحدهما: أن المواعظ كالسياط، والسياط لا تؤلم بعد انقضائها إيلامَها وقت وقوعها، والثاني: أن حالة سماع المواعظ يكون الإنسان فيها مُزاح العلة، قد تخلى بجسمه وفكره عن أسباب الدنيا، وأنصت بحضور قلبه، فإذا عاد إلى الشواغل اجتذبته بآفاتها... وهذه حالة تعم الخلق، إلا أن أرباب اليقظة يتفاوتون في بقاء الأثر.." ( ).
وهذا الذي ذكره ابن الجوزي نجد صداه في حديث الصحابي حَنْظَلَةَ الأسَيِّدِيِّ، قَالَ رضي الله عنه: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا تَقُولُ؟ قَالَ قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ عَافَسْنَا الأزْوَاجَ وَالأوْلادَ وَالضَّيْعَاتِ، فَنَسِينَا كَثِيراً، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا... فانطلَقوا إلى رسول الله فقصوا عليه فقال: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلائكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، ثَلاثَ مَرَّاتٍ " ( ).
وفي هذا بيان لتظاهر وسائل التلقي ساعة التحاور، حيث لا تُترك الكلمة وحدها لتقوم بعملية البلاغ، بل تؤازرها حالة نفسية شاملة تتمثل في الاشتراك في الموقف بكل عناصره، ومن ثم يتيقظ القلب مع الذهن والمشاعر، ونحن نعرف أثر الاجتماعات واللقاءات الجماهيرية، بل المظاهرات أحياناً في إثارة الانفعال والشعور إلى أقصى درجة، ولو كان الإنسان خالياً ما وصل إلى تلك الحالة لا ريب.
إن للكلمة المنطوقة في الحوار مكانة خاصة، إن " هناك حقيقة مهمة حول عملية الاتصال اللغوي ينبغي أن ندركها، ألا وهي أن المتكلم حين يوجه خطابه إلى المستمع فإنه لا يريد فقط أن ينقل إليه بعض الحقائق، ولكنه يريد أيضاً أن ينقل إليه مشاعره تجاه الحقائق، إن العبارات المنطوقة تكون دائماً مغلفة بمشاعر الفرد " ( ).
والحوار أساساً عملية شفاهية، وإن تحولت بعد حدوثها إلى صورة كتابية لحفظها واسترجاعها، لهذا السبب سنجد الجذر المعجمي " قول" ومشتقاته - خصوصاً الأفعال - أكثر الجذور اللغوية استعمالاً في القرآن الكريم بعد الجذر " أله "ومشتقاته، حيث ورد الجذر" أله " في (2851) موضعاً، يليه الجذر " قول " في (1721) موضعاً، وهذا إنما يبين أن القرآن الكريم يعطي التحاور أهمية كبرى بوصفه وسيلة مُثلى لإيصال دعوة الله إلى العالمين، وأن فعل القول أساس من أسس الحوار لأنه فعل شفاهي، وهو فعل يقصد به إحداث تأثير ما حيث " إن كثيراً من أفعال القول لها وظيفة حجاجية عندما تهدف إلى توجيه المتلقي نحو نتيجة معينة أو تصرفه عنها " ( ).
ولاحظ دارسو اللغة والأدب أن الحالة الحوارية حالة لغوية خاصة، لأن ثمة عناصر مقامية متنوعة مساعدة للغة في المواجهة الحوارية " إن شفاهة الحوار المباشر تزخر بالانفعالات، وتؤازرها عادة ألوان متعددة ومتضافرة من أفعال الكلام Speech Acts مثل حركات اليد والعينين وخلجات الشفاه وتغيير ملامح الوجه وأوضاع البدن " ( ).
وفي علم التفاوض تفسر حركات الجسم تفسيراً خاصاً تستشف منه أشياء كثيرة لا تنطقها الألسن، ولذا يعد من أسس التفاوض " مراعاة أسلوب الحوار وطريقته مع الآخرين.. فإن الطريقة التي نتحدث بها قد يكون لها قيمة أكثر من الكلام الذي نقوله من حيث حركات اليد وتعبيرات الوجه ومستوى ارتفاع الصوت وسرعة تدفق الكلمات والتعبيرات أو بطئها " ( ).
لهذا السبب يكون الحوار أكثر جدوى وأسرع تأثيراً لأن المحاور يستعمل كل ما أوتي من قدرة لغوية تكون في الحوار ذات طبيعة خاصة، ومن إمكانات تعبيرية عن طريق الحركة الجسمية، فيؤازر ذلك كله بعضه بعضاً.
إن اللغة في الحالة الحوارية ليست وحدها، إنها في حالة الكتابة تقوم بكل الوظائف وتجمع كل عناصر النص، ولكنها في الحالة الحوارية عنصر واحد فعال ضمن عناصر أخرى متنوعة لا تقل عنها أهمية، بل ربما تقول حركةٌ أو نظرة ما لا تستطيعه اللغة، وقد أشار الجاحظ إلى أصناف الدلالات على المعاني فقال:" وجميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ خمسة أشياء لا تنقص ولا تزيد: أولها اللفظ، ثم الإشارة، ثم العقد، ثم الخط، ثم الحال وتسمى نصبة، والنصبة هي الحـال الدالة التي تقوم مقـام تلك الأصناف ولا تقصر عن تلك الدلالات " ( ).
وقد أشار القرآن الكريم إلى نوع من هذه الحركة الجسمية المعبرة في حديثه عن الكفار في قوله تعالى وَقَالُواْ أإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً. قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً. أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً(الإسراء:49-51).
قال الراغب:" الإنغاض: تحريك الرأس نحو الغير كالمتعجب " ( ) وقال الزمخشري:" فسيحركونها نحوك تعجباً واستهزاءً " ( ) فالحركة الجسمية هنا " تحريك الرأس " لها دلالة الإعراض والتكبر عن الحق.
إن الحالة الحوارية تصاحبها حركات شتى، ولكل منها دلالة مؤثرة، حيث " أسفرت البحوث عن اكتشاف أكثر من مئة إيماءة مميـزة للوجه واليد والجسم " ( ) ولا شك أن تلك الحركة ملابسة للحالة الحوارية ومساعدة للعناصر الكلامية المكونة للموقف الحواري، وهي أبلغ في الدلالة على الحال.
والإقبال على الناس بوجه طلق حركة جسمية معبرة عن النفس، وهو مختلفٌ عن الإقبال بوجه عابس مكتئب، والناس أيّاً كان دينهم يحبون ابتسامة الوجه وانبساطه، فهو المفتاح اليسير للشخصية، يقول أحد المختصين:" إن تعبيرات الوجه تتكلم بصوت أعمق أثراً من صوت اللسان، وكأني بالابتسامة تقول لك عن صاحبها: إني أحـبك إنك تمنحني السعادة، إني سعيدٌ برؤيتك " ( ).
قلت: ولهذا جعل النبي لقاء الإخوان بالابتسامة نوعاً من الصدقات، وفي الحديث عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ :" تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ.." ( ) والابتسامة حركة وجه بدون كلام، ولكنها قد تكون أبلغ من الكلام أحياناً.
لهذا كله صارت لغويات الحوار تدرس بوصفها حالة خاصة في الاستعمال اللغوي المعاصر.
الفصـل الثاني ضرورة الحوار وأهميته
خلق الله تعالى الناس مختلفين، تلك سنته في خلقه، وقضت سنته التي لا تتبدل أن يبقوا هكذا في حياتهم الدنيا حتى يلتقوا عنده يوم الدين، قال سبحانه وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (هود:118-119) واختلاف قدرات البشر الفكرية والعلمية داع للاختلاف حتى بين أهل الدين الواحد والمذهب الواحد، تلك طبيعة البشر التي لا تنكر.
ومع هذا الاختلاف والتنوع أراد الله تعالى لخلقه منهجاً واحداً دعاهم إليه ولم يجبرهم عليه إجباراً، ليكون بعد ذلك حساب وجزاء، أراد الله تعالى منهم أن يعبدوه وحده وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (الذاريات:56).
وهذه الإرادة لكي تتحقق في واقع الثقلين المكلفين: الجـن والإنس لا بدَّ لها من فطرة سليمة مركوزة في أصل الخلق، وقد تكفل الله تعالى للثقلين بذلك فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ (الروم:30) وقال النبي :" مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَـلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاء؟ ثُمَّ يَقُولُ فِطْرَةَ اللَّهِ.. الآية " ( ).
ثم إن الناس بعد ذلك محتاجون إلى نبوة هادية لتبليغ الشرع أو المفهوم الصحيح للعبادة من الله عز وجل إلى خلقه، فصارت النبوات ضرورة للهداية إذ لا هداية بدون نبوة، إن الناس يختلفون في كـل شيء تقريباً، إذْ ما من شيء نعلمه إلا واختلف الناس حوله، إن الشمس والقمر مخلوقان، لا يكاد أحد ينكر كونهما جرمين من أجرام السماء، ولكن الناس اختلفوا حولهما، حتى عبدهما بعض الخلق، ولذا ورد النهي عن عبادتهما وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (فصلت:37) وكذلك اختلف الناس في الملائكة والأنبياء والملوك.. كل ذلك يختلف حوله الناس، وفوق هذا كله اختلفوا في ربهم الواحد الأحد سبحانه هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ (الحج:19) ومن هنا كانت ضرورة النبوات الهادية قبل الحساب والثواب والعقاب.
هذا التنوع الداعي إلى الاختلاف يحتاج إلى سبل لإزالة الاختلاف أو تقليل مخاطره ليتقارب الناس، ومن ثم دعاهم الله عز وجل إلى الحوار والتعارف دعوة صريحة يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات:13) لقد أمرهم بالتعارف، ووسيلته الأولى إقامة الحوار بين الأفراد والقبائل والشعوب والحضارات ليتعارف الناس، إن " الحوار يتطلب أولاً وقبل كل شيء الاعتراف بحتمية وجود الاختلاف بمعنى التنوع في الحياة الإنسانية المطلقة، الأمر الذي يترتب عليه مبدأ الاعتراف بوجود الآخر وأحقيته في الوجود " ( ).
إن كل النبوات التي عرفناها من القرآن الكريم أقامت حواراً صادقاً هادياً منيراً مع الشعوب التي أُرسل إليها الأنبياء والمرسلون، كل الأنبياء والرسل كانت لهم حوارات ولقاءات ودعوات إلى الله، والقرآن يذكر صوراً بديعة من تلك الحوارات التي أقامها الأنبياء مع أقوامهم.
لقد خلق الله الإنسان حراً عاقلاً مختاراً، ولأنه كذلك فقد " اقتضت حكمة الله تعالى أن تكون دعوة الإنسان إلى الإسلام من خلال الحوار والإقناع وخطاب العقل، وأن لا يُجبر أحد على اعتقاد ما لا يقتنع به، وأن لا يُحمل السلاح على معارض أو مخالف إلا في الحالات التي يصل فيها الحوار إلى طريق مسدود " ( ).
الحوار إذاً ضرورة للدعوة إلى الله، ووسيلة مثلى من وسائل الدعوة إلى الله إن اللقاء وجهاً لوجه والاستماع إلى الكلام وما يصاحب الحالة الحوارية من حضور وملابسات وإشارات حالة مثلى لنقل الأفكار والدعوات، إن الحوار المباشر يعدل كتابة رسالة وإرسالها مرات ومرات على سبيل المثال.
وقد صار لفن الحوار في الثقافات المعاصرة أهمية كبرى، ليس في مجال العلاقات المتنوعة بين الدول والجماعات فحسب، بل في مجال الأدب والمسرح والسينما والتلفاز كذلك، وانبثق عن فن الحوار فن التفاوض وإقامة العلاقات وإدارة المحاورات.
لقد توصّلت الإنسانية بعد جهد جهيد وبصورة ناقصة غير مكتملة إذاً لما أصّله القرآن والسنة النبوية منذ أربعة عشر قرناً، توصلت الإنسانية إلى تأسيس فنون للحوار والتفاوض والإقناع، وهي فنون تكاد أمتنا المعاصرة تهملها في دعوتها إلى الله تعالى، في حين تستغلها أمم أخرى أحسن استغلال في نشر مبادئها وعقائدها.
نقولها إذاً بصراحة تدعو إلى الإصلاح لا إلى التبكيت والتأنيب: لقد أهملنا كثيراً فنون الحوار التي أصّلها القرآن ورسول الإسلام في الدعوة إلى الله تعالى، وفي إظهار الحق الذي عندنا، ودرء المخاطر المحدقة بأمة الإسلام من كل حدب.
إن البشرية بعد تراكم الخبرات لعشرات القرون في مجال الآداب والفنون صارت تتوصل إلى قواعد فنية تحكم الآداب والفنون، وصارت هنالك مدارس لتعليم فنون الحوار والتواصل مع الآخرين ( ) وكيفية كتابة الحوار في المسرح والسينما وغير ذلك، ومع هذا التراكم المعرفي واستمرار التحسين والتنقيح نجد أن البشرية في النهاية تصل إلى بعض ما استعمله القرآن في أسلوبه الفذ المحكم الجميل من تقنيات للقص والسرد والحوار، مع أصول آداب التحاور التي تستخلص منه ومن سنة النبي وسيرته.
وهـا هنا أمر جدّ خطير يغفل عنه كثير من الناس، وهو مراعاة المرجعية والضوابط الشرعية في القرآن الكريم، وافتقادها في كثير من صور الفنون الحوارية التي أقامها البشر، وهذا في الحقيقة مناط الأمر كله، فالعمل في التصور الإسلامي أياً كان لا بد له من نية وقانون يحكمه، وعليه حساب فثواب أو عقاب، والمحصلة النهائية توضع في ميزان العبد يوم القيامة، هذا فارق جوهري لا يعبأ به كثير من الناس حين تقوم المقارنة بين منهج الله ومناهج البشر.
إن الحديث إذاً عن فوائد الحوار وأهميته سيبدو متشعباً، وسنجد لـه أصداء متنوعة في مباحث هذه الدراسة، ولكني أجمل بعضها إجمالاً في نقاط، تاركاً التفصيلَ والتحليلَ لمواضعه من هذه الدراسة.
من فوائد الحـوار:
1- الحوار وسيلة مثلى لنقل الأفكار وتبادل المعلومات وتنمية القدرة على التفكير والتواصل مع الآخرين، وهو وسيلة ناجعة للتعلم، وفي صحيح البخاري أن عائشة رضي الله عنها " كَانَتْ لا تَسْمَعُ شَيْئاً لا تَعْرِفُهُ إِلا رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ قَالَ:" مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: أَوَ لَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً قَالَتْ: فَقَالَ: إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ " ( ).
وشاهدنا من الحديث قول الراوي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها " كَانَتْ لا تَسْمَعُ شَيْئاً لا تَعْرِفُهُ إِلا رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ " فهي تسأل وتحاور لتتعلم.
2- الحوار وسيلة للتعارف بين الناس كما أمرنا الله تعالى في الآية المذكورة قبلُ من سورة الحجرات، ولن يتم تحقيق ذلك التعارف إلا بالتحاور، وقد صار يُعرف عندنا الآن الحوار الداخلي بين أبناء المجتمع الواحد والأمة الواحدة كحوار المثقفين والسياسيين والاقتصاديين، وحوار دعاة العلمانية مع الدعاة إلى الدين، وحوار الآخر المتمثل في حوار الأديان وحوار الحضارات وحوار الثقافات، وهذا كله يظهر في صور عديدة كالحوار المباشر أو الكتابة أو الأعمال الدرامية.. إلخ.
3- الحوار وسيلة لتجنب سوء الفهم ونشوء الصراع، إن سوء الفهم بين الأصدقاء والجيران والزملاء، بل بين الدول غالباً ما يزول بكلمة طيبة أو لقاء يسير أو تصريح مريح، المهم أن لا تأخذ الناسَ العزةُ بالإثم والاستكبار عن ابتداء المحاورة وفتح باب المراجعة والمعاتبة، ولَكَمْ رأينا في حياتنا أناساً يظلون أياماً وشهوراً متخاصمين متعادين.. ثم يكون لقاء عابر وكلمة طيبة... فيزول الخلاف بقليل من العتاب وينتهي الأمر إلى خير ومحبة، إن " كثيراً من المختلفين يمنعهم من التسليم بالحق والرجوع إلى الصواب شبهات وشكوك وأباطيل تحتاج إلى جواب وتفنيد وإبطال، والحوار يحقق هذا الهدف، فبه يمكن إزالة كل شبهة، وتفنيد كل باطل " ( ).
لهذا كان النبي لا يترك للخلافات والخصومات مجالاً للاتساع بينه وبين أحد من الناس أو بين الصحابة.. بل كان يسارع إلى إطفاء نار الفتنة، ويدعو إلى إفشاء السلام، ويحرّم على المسلم هجر أخيه المسلم فوق ثلاث ليال، ويجعل أولَ المتخاصمَين ابتداءً بالسلام على خصمه خيرهما، بل يفضل إصلاح ذات البين على كثير من الصالحات التي يحبها المسلم، إذْ هو القائل :" أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَـامِ وَالصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ: صَلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَـالِقَةُ.. وَيُـرْوَى عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ الْحَالِقَةُ، لا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِـنْ تَحْلِقُ الدِّينَ " ( ).
4- الحوار وسيلة لتنمية الفكر بالاتصال بالآخرين، وعرض الأفكار عليهم والأخذ والردّ، مما يمحص الفكر ويزيده ثباتاً ورسوخاً، ولذلك رسّخ الإسلام مبدأ الشورى، وهي عمل حواري تتلاقح فيه الأفكار والآراء للوصول إلى الرأي السديد، وقد مارسها النبي طيلة حياته المباركة.
5- الحوار وسيلة لنشر العلوم والتواصل مع الجديد في عالم يعرف الجديد كل يوم بل كل ساعة، ومن ثم تأتي أهمية المحاضرات والندوات والمؤتمرات بأنواعها المتعددة.
6- الحوار الاجتماعي بين القوى والفصائل الاجتماعية المتنوعة التي تشكل بنية المجتمعات المعاصرة، هذا الحوار الاجتماعي أساس التفاهم بينها والتعايش السلمي، وبدون التحاور والتفاهم سينقلب الأمر إلى صراع، ثمة أديان ومعتقدات تتعايش جنباً إلى جنب في مجتمع واحد، ولا بد لها من التفاهم والتعارف لحفظ نظام المجتمع أولاً، وقد أرسى الإسلام هذا المبدأ، وتعايش المسلمون عبر التاريخ، ومنذ أول يوم للإسلام في مكة، تعايشوا مع غير المسلمين بالتفاهم والتحاور، وهذا التعايش في ذاته إذا كان على أسس شرعية سليمة عُدَّ لوناً من ألوان الدعوة إلى الله.
إن المقابل لهذا التفاهم والتعايش هو الصراع الممقوت، ومآسي المسلمين في مناطق كثيرة كالبوسنة والهرسك وكشمير وجنوب الفلبين ودارفور وغيرها صـور حية لذلك، إن " إرساء قواعد الحوار البناء تعني القدرة على التعامل الناجح مـع الاختلاف، والوصول إلى أفضل البدائل المتاحة، ويضمن الحوار الفعّال ضبط الممارسة الديمقراطية وحرية التعبير عن الرأي حتى لا تتحول إلى فوضى وخروج عن الجماعة وانقسام وفرقة حين يتشبث كل طرف برأيه مهملاً أو متجاهلاً وجهات نظر الأطراف الأخرى، فالانفراد والاستبداد بالرأي هو مقدمة للطغيان، والبديل الأمثل هو الحوار " ( ).
7- الحوار وسيلة لقهر التسلط والاستبداد الفـكري والسياسي، ووسيلة لقهر التعصب والانغلاق الفكري وتجنب العنف والإرهاب بكل ألوانه وكم من حركات تعمل في مشارق الأرض ومغاربها لتحقيق أهداف تبدو أحياناً مشروعة كالاعتراف بالهوية الثقافية أو اللغة أو الدين لأقلية تعيش مع أغلبية في دولة واحدة، ولكن تلك الأقلية لا تجد آذاناً صاغية فيلجأ أفرادها أو بعضهم إلى تكوين مجموعات للعمل السري تحمل السلاح، ومن ثم يقع الصراع، وكثيراً ما يكون الضحايا من المدنيين العزل الذين لا علاقة لهم مباشرة بالأحداث أو صناعة السياسة، وإن قليلاً من التواضع والحوار من قبل القوى المسيطرة لكفيل بشد تلك الحركات إلى الحياة المدنية الهادئة بإعطائها بعض الحقوق التي تطالب بها، والصراع الكرديّ التركيّ في جنوب شرق تركيا مثال واضح لذلك.
8- وللحوار صور متنوعة منها الحجاج، وقد حدد بعض الباحثين أهداف الحجاج الخطابي والبلاغي في:
- التأثير في المتلقي (السامع أو القارئ) وجعله يتقاسم مع المخاطب اعتقاده واقتناعه الخاص.
- التأثير في المتلقي لجعله يقوم بالفعل الذي يطلبه ويريده المخاطب.
- استمالة المتلقي وإغرائه باعتباره ذهناً وعاطفة (عقلاً وقلباً) لكسب تأييده وتوافقه الضمني أو الصريح " ( ).
لقد فطنت الدول والجماعات والمؤسسات والشركات إلى أهمية هذا الفن، فن الحوار والتواصل مع الآخرين، لما له من أهمية كبرى في التواصل والتعارف والتأثير المباشر في الآخرين، فأنشأت الدول السفارات وأرسلت البعثات، وأنشأت المؤسساتُ والشركاتُ وحداتٍ متخصصةً تسمى" العلاقات العامة " وصار هذا فناً وعلماً ذا قواعد وأصول تدرس في الجامعات ومعاهد العلم، والمهمة الأولى لهذه الوحدات " حسن الاتصال مع الآخرين، للإقناع برأي، أو ترويج سلعة أو تصحيح فكرة، أو التمهيد لقضية " ( ).
9- الحوار واحد من أهم الوسائل المشروعة للدعوة إلى الله تعالى كما سنرى في القرآن وفي سنة رسول الله سواء دعوة الأفراد أو الجماعات، وسواء دعوة المسلمين لمزيد من التفاهم ونبذ الخلاف والتعلم.. أو دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، أو التفاهم والتعارف وإزالة سوء الفهم، إن الحـوار الجاد " يمكن أن يحقق فوائد جمة إذا امتلك الداعية أدواته وهو يحـاور الآخرين، ومن المؤكد أن الحوار- وفق أسس منهجية - نافذة من نوافـذ الخير والنور" ( ).
10- تحسين علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، والدول والحضارات بعضها ببعض، فذلك بديل عن الصراع والتنافر المفضي إلى الهلاك، والإسلام يقدم الحوار على الصراع، ولا يلجأ إلى الحرب إلا بعد استنفاد كل الوسائل السلمية الممكنة، وهو أمر معلوم من سنة النبي .
إن الحضارة إرث إنساني عام مشترك لا ينبغي أن تدعيه أمة أو حضارة وتحرم منه الآخرين، فالحضارة العالمية المعاصرة نتاج تاريخ طويل شاركت فيه كل الأمم والشعوب، ومن أظهر المشاركين فيه تاريخياً الأمة المسلمة، وهو ما ينبغي أن يُظهر للعالم المعاصر من خلال الحوار الإسلامي الممنهج مع مكونات العالم المعاصر.
11- إن كثيراً من شعوب العالم المعاصر تحمل مفاهيم خاطئة عن غيرها، والمسلمون أكثر من يعاني من ذلك، فالإرث القديم من الحروب بين المسلمين وغيرهم والإعلام المعاصر المعادي وبعض السلبيات في واقع المسلمين أنفسهم كل ذلك يجعل للمسلمين صوراً سلبية لدى الآخرين، والحوار من أهم الوسائل لتغيير ذلك كله.
ولقد صرنا نحن المسلمين المعاصرين نتعامل مع الآخر - غير المسلم - كأنه شيء واحد ونمط واحد من الحياة، والحقيقة خلاف ذلك، ثمة اختلاف وتباين وعدل وظلم وخير وشر... والله عز وجل بيّن للمسلمين ذلك بجلاء في شأن أهم شريحة حضارية يتعاملون معها حتى لا يقعوا في هذا الخطأ، يقول تعالى عن أهل الكتاب لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (آل عمران:113).
وكثيراً ما نرى اليوم في البرامج الحوارية مثقفين غربيين وساسة ينقمون على قومهم كثيراً من المآسي التي يجرونها على العالم بسياستهم غير الحكيمة.
12- الحوار وسيلة لإقناع المخالف إن كان ممن يقبل الحق، يقول الدكتور صالح بن حميد:" الغاية من الحوار إقامةُ الحجة، ودفعُ الشبهة والفاسد من القول والرأي، فهو تعاون من المُتناظرين على معرفة الحقيقة والتَّوصُّل إليها، ليكشف كل طرف ما خفي على صاحبه منها، والسير بطرق الاستدلال الصحيح للوصول إلى الحق " ( ) ويرى الشيخ سلمان العودة أن الحوار تبرز أهميته من جانبين: الأول: دعوة الناس إلى الإسلام، أي دعوة الكفار إلى الإسلام، ودعوة المبتدعين من المسلمين إلى السنة النبوية.. والثاني: فصل الخلاف في الأمور الاجتهادية، حيث يعد الحوار وسيلة للوصول إلى اليقين في مسألة اجتهادية اختلفت فيها أقوال المجتهدين..( ) ويقول الدكتور عبد الكريم بكار:" يصعب علينا أن نقول: إننا نملك فضيلة التسامح إذا لم نؤمن إيماناً عميقاً بجدوى الحوار في تحسين رؤيتنا للأشياء، حين نعتقد أن في كل المسائل الغامضة نقاطاً مظلمة، تحتاج إلى إضاءة، وأننا من خلال قدراتنا العقلية والمعرفية الخاصة، لا نتمكن من إضاءة تلك النقاط، فإننا نسعى إلى الحوار بوصفه الأداة الوحيدة لتوضيح الصورة الذهنية الأشياء.. من خلال الحوار نمحص الفكرة بالفكرة والمقولة بالمقولة، ومن خلال الحوار نمنح الأفكار امتدادات جديدة، كما نحرم بعض الأفكار من امتدادات غير مشروعة، ينطوي الحوار على التسامح، لأنه ينطوي على اعتراف ضمني بالقصور، ويحد من غلواء الاعتداد بالذات، وهذا هو الذي يرسخ لدينا مشاعر الحاجة إلى الآخرين، وتبدأ حركة التأثير والتأثر، والشعور بالحاجة إلى الآخرين.. إن كل واحد منا مطالب بالإيمان بأن الحوار ليس شعاراً نرفعه أو شيئاً تزييناً نتجمل به، وإنما هو مصدر لتعبير الأفكار وتنمية الاتجاهات وإزالة الأوهام ( ).
13- الحوار وسيلة من وسائل التشاور وتلاقح الآراء والأفكار، وهو صورة مثلى لإجراء الشورى، إنه " أداة وعي مشتركة تتكوكب فيها الآراء، وتستعرض فيها المسائل، ويستخلص منها ما دل عليه الدليل الشرعي أو النظري، وهو وسيلة من وسائل الشورى والتناصح والتعاون على البر والتقوى، وهو بهذا طريق النضج وسبيل الكـمال " ( ).
والشورى مبدأ إسلامي أصيل، وتحقيقها بضوابطها الشرعية سبب لمزيد من الرقي الفكري والتقدم، وسبب لنجاح اليقظة الإسلامية المعاصرة التي لا بد لها من " فتح قنوات الحوار تحقيقاً لمبدأ الشورى الذي أمر الله عز وجل به، فإحياء الحوار والمراجعة، وتشجيع صفتي المناصحة والنقد في صفوف جميع العاملين للإسلام من أهم العوامل التي تساعد على تدارك النقص وتقويم الخطأ كما تعـين على تماسك البناء ونضجه " ( ).
إن العالم يعج بألوان الحوار التي تمنع ويلات وحروباً ودماراً، إذ إن البديل الأسرع للحوار هو الحرب، وذلك ما نشهده حين يصل الحوار إلى طريق مسدود فينشب الصراع، وليس الهدف من الحوار إرغام طرف على قبول ما يقوله طرف آخر، بل " إن من أبرز أهداف الحوار تأكيد أن الغاية منه ليست الوصول بالطرف الآخر إلى قناعة المحاور وإلغاء قناعة الطرف الأول الفكرية، وإنما هي إظهار الحق المدعم بالبراهين والأدلة " ( ).
إن لغة الحوار وثقافة الحوار صمام الأمان لعالم اليوم الذي يموج بالتنوع ويقاد قسْراً إلى التوحّد على نمط واحد يروّج لـه أصحابه بوصفه النمطَ الأمثل للحياة، وتعارضه في الوقت نفسه أمم وشعوب وحضارات عديدة، لكن دعاة ذلك التوحد يملكون القوة والمال ووسائل الإعلام لفرض رؤاهم وثقافتهم، إن الحوار سوف ينقذ حضارات وأمماً من الذوبان والسقوط الحضاري في " فخ العولمة " ( ) بمعنى " الأمركة ".
وإذا لم يكن لدى غيرنا - نحن المسلمين - من شعوب الأرض ما تبكي عليه حيث تخلّت كثير منها عن ثقافتها وإرثها بل عن لغاتها أحياناً للنموذج الغربي فحضارتنا لديها ما يستحق الذود عنه بل الجهاد - وهو مصطلح يُزعج الغرب كثيراً - للحفاظ عليه، إنه الإرث العظيم، إرث الأمة الوسط، الأمة الشاهدة حين لا تُقبل شهادة غيرها، الأمة المحافظة على كلمة التوحيد التي أهملتها كل الأمم في عالم اليوم إلا هي.
إننا نعيش في عصر تشيع فيه ثقافة الحوار والتفاوض، ما من شيء في عصرنا إلا ويتفاوض الناس حوله ويتحاورون، ففي مدينة جنيف على سيبل المثال تتم سنوياً عشرة آلاف عملية تفاوضية، ومثـلها في نيويورك ( ) وهذا بدوره يملي علينا نحن أمة الإسلام أن نقعّد القواعد والأسس التفاوضية والحوارية المنبثقة عن حضارتنا وقيمنا، ولعل هذا البحث يكون محاولة في هذا السبيل.
وأخيراً نقول: إننا في حاجة ملحة إلى إشاعة ثقافة الحوار والتفاوض داخلياً وخارجياً، لمزيد من التفاهم بين المسلمين، ذلك التفاهم الذي يكاد يكون مفقوداً أو على الأقل غير فاعل، حتى وصل الأمر إلى الفرقة والاختلاف وإضاعة الفرص وتمكين العدو منا، بل الحرب بين المسلمين أحياناً !!
وإذا كان " العالم المتقدم قد أدرك أهمية هذه الثقافة الآنية والمستقبلية فما أحوجنا نحن - خاصة في إطار ظروف التقهقر الحضاري الراهن في عالمنا العربي والإسلامي- إلى تعرف أساليب استيعاب هذه الثقافة تماماً، بل علينا أن نسهم في تطويرها من واقعنا وقيم حضارتنا العـريقة " ( ).
والتربية الحوارية تربية على منهج العقل المنضبط بالشرع، ولذا فإننا "ينبغي أن نسعى في تربية الناشئة وطلبة العلم على هذا النوع من التفكير المنهجي، لكي ينطلق الطالب في تعلمه وتعليمه لفنه من قاعـدة ومنهج بدلاً من سير عشوائي ليس لـه ضـوابط تضبطه أو أعلام يهتدي بها " ( ).
هذا، وسنذكر المزيد عن أهمية الحوار ومقاصده في القرآن الكريم والسيرة والسنة النبوية في مباحث الدراسة إن شاء الله.
الفصـل الثـالث القرآن الكريم يوجه الحوار النبوي ويؤازره
إن القرآن الكريم هو دستور المسلمين وقائد حياتهم كلها نحو الخير، ولهذا أخبرت عائشة رضي الله عنها عن أخلاق النبي بخبر جامع مبين حين سئلت عنها فقالت للسائل:" أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قالَ: بَلَى، قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ كَانَ الْقُرْآنَ " ( ).
ولهذا لا يمكن فهم الحوار في السنة والسيرة دون العودة إلى حوارات القرآن التي تداخلت مع أحداث السيرة موجّهةً ومبينةً ومؤازرةً وهاديةً... سواء في الفترة المكية التي كانت المواجهة فيها مع كفار العرب ومشركيهم هي الظاهرة أو في الفترة المدنية التي أضيف إليها عبء المواجهة المباشرة مع اليهود والمنافقين والأعراب حول المدينة..
إن القرآن كان يساير الأحداث ويعقّب عليها كما حدث في غزوات بدر وأحد والأحزاب وفي أمور أخرى كثيرة، ومن ثم نجد أنفسنا بحاجة إلى فهم الحوار القرآني كأساس لفهم الحوار في السيرة النبوية.
وفي السطور القادمة سنذكر بإيجاز معالم الحوار في القرآن لتكون مدخلاً هادياً لفهم حوارات السنة النبوية، ويشمل ذلك المباحث الآتية:
1- مشروعية الحوار في القرآن.
2- من أهداف الحوار في القرآن.
3- طبيعة الحوار في بنية النص القرآنيّ.
4- الفرق بين حوارات القرآن وحوارات السنة النبوية.
5- القرآن وحوار الدعوة في مكة.
6- القرآن والحوار في المدينة النبوية.
***
1- مشروعية الحوار في القرآن:
شرع الله تعالى الحوار بوصفه وسيلة مثلى للدعوة إلى الله، دعوة البشر الذين كتب الله عليهم الاختلاف والتنوع، لكنه أراد لهم منهجاً واحداً ذا أصول عامة محددة هو منهج عبادته وحده سبحانه، لهذا أرسل الرسل وأنزل الكتب، وجعل القرآن آخرها ومهيمناً عليها وشاملاً لما جاء فيها ليكون رسالة الله الأخيرة للعالمين بين يدي الساعة، وشرع الله للناس في كتابه التعارف ووسيلته الأولى التحاور، إن القرآن الكريم " يعتمد اعتماداً كبيراً على أسلوب الحوار في توضيح المواقف، وجلاء الحقائق وهداية العقل وتحريك الوجدان واستجاشة الضمير، وفتح المسالك التي تؤدي إلى حسن التلقي والاستجابة والتدرج بالحجة، احتراماً لكرامة الإنسان وإعلاء لشأن عقله الذي ينبغي أن يقتنع على بينة ونور " ( ).
لقد فضل القرآن الحوار والمجادلة بالحسنى على السيف ابتداءً، ذلك أن الاقتناع الفكري يضمن بقاء المقتنع - غالباً - على الولاء لأنه قد صار مؤمناً بالقضية، أما الخضوع للسيف فهو خضوع مؤقت لا يضمن الاستمرار على الولاء، وهو خضوع ظاهري لا يدخل إلى أعماق القلوب والنفوس، لهذا كان الحوار والجدال منهج القرآن المختار بداية، فإذا وضح الحق ثم بقيت القلوب على عنادها كان اللجوء إلى السيف، لا حباً في الحرب، بل إحقاقاً للحق، وإنقاذاً لرقاب العباد من التردي في مهاوي الشيطان الذي أقسم ليغوينّهم وليضلنّهم أجمعين إلا عباد الله المخلصين.
ذلك المنهج هو ما كانت تتبعه حضارتنا حين فتحت الأمصار ونشرت النور فأنقذت الملايين من الجور والكفر، ذلك كله يوجزه بكلمات بليغة دالة ربعيُّ بنُ عامر- يرحمه الله - في حواره مع رستم قائد الفرس وسط عسكره وفي زينته.. فحين سأله رستم: ماذا جاء بكم؟ قال ربعيٌّ:" الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلَنا بدينه إلى خلقه لندعوَهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضيَ إلى موعود الله.." ( ).
وقد جاء الحوار في القرآن مناسباً كذلك لظروف الدعوة في مكة ثم المدينة، حيث ناسب في مكة ظروف الدعوة الفردية والقبلية التي غلبت على طابع الدعوة في مكة، أما في المدينة فقد كان الأمر أشبه بحوار الحضارات، حيث اتسع العمل الإسلامي وتنوعت محاوره ومجالاته لتأسيس دولـة جديدة، والكشف عن الفروق بين حوارات المرحلة المكية وحوارات المرحلة المدنية كشفٌ يضاف إلى رصيد إعجاز القرآن الذي يتجدد بتجدد الزمان.
والملاحظ أن أكثر حوارات القرآن مكية، وذلك يناسب حال الدعوة في المرحلة المكية حيث واجهت قوماً ذوي عناد وصلابة في الباطل وقوة في البيان ولذا نجد في القرآن المكي عموماً أموراً منها:
1- الإيجاز وقصر الآيات.
2- معالجة الموضوع الواحد أو القصة الواحدة من زوايا متعددة مع إيراد ذلك في سور متعددة كذلك، فيكون العرض للموضوع أو تكون الزاوية المعروضة منه مناسبة لطبيعة السورة التي ترد فيها، وهو من صور الإعجاز في القرآن.
3- كثرة المواضع الحوارية في السور المكية، وعلى سبيل المثال فإن سورة يوسف هي مجموعة من الحوارات المتتابعة يتخللها بعض المواضع السردية للانتقال من حوار إلى حوار.
لقد عظّم الله تعالى أمر الحوار، إذ حاور - هو سبحانه - بعضاً من خلقه ليعلمنا ضمناً أنه يفضل هذه الوسيلة للتعامل بين العباد، لقد حاور الله عز وجل الملائكة في شأن آدم، وهو قادر على قضاء الأمر دون إعلامهم، لكنه سبحانه يحب العدل ويأمر به، وحاور سبحانه إبليس محاورات متعددة متنوعة بشأن خلق آدم، وإبليس في ذلك كله يبارزه بالمعصية التي تستوجب الدمار والهلاك، ولكن الله عز وجل يحاوره ثم يُنظره، بل يعطيه مع ذلك القدرة على الوسوسة والغواية إلى يوم القيامة.
وحاور الله تعالى نوحاً في شأن ولده الذي أصر على كفره حتى أدركه الغرق فطلب نوح من الله أن ينجيه، فقال تعالى له قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (هود:46) .
وحاور الله تعالى إبراهيم حين أراد أن يعرف كيف يحيي الله الموتى، فحاوره سبحانه ولم يعنفه، بل دله على تجربة عملية يقوم بها بيديه، وحاور الله تعالى موسى حين طلب أن ينظر إليه، فما عنّفه سبحانه وما لامه، وهو الذي لا يُسأل عما يفعل، ولكنه دلّه على تجربة عملية رآها رأي العين.
هكذا يعلمنا الله عز وجل، إنه هو الخالق القادر، ويحاور المخلوقين، فلماذا لا يحاور الخلق بعضهم بعضاً؟ إنه السبيل الأمثل للتواصل والتعارف والدعوة وتقريب المذاهب وتضييق الخلاف، وهو ما أمر الله به خلقه صراحة في قوله يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(الحجرات:13).
وشرع الله عز وجل لأنبيائه الحوار مع أقوامهم، فما من نبيّ قصّ القرآن قصته وأحواله مع قومه إلا ذكر حواره معهم، وقد تعددت الحوارات في كثير من قصص الأنبياء، فنجد نوحاً عليه السلام يحاور قومه مرات ومرات، ويحاور ولده ساعة الغرق، وهو يشتد مع قومه في الحوار حتى يحسّوا منه ما يشبه الخصومة لكثرة ما يدعوهم، وهم لهذا يعدّون حواره ذاك معهم جدالاً فينادونه قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (هود:32).
وتتعدد حوارات إبراهيم عليه السلام مع الملك ومع قومه ومع الملائكة المرسلين إلى قوم لوط، وهو يشتد في محاورة قومه حتى يضيقوا به ذرعاً فيتخطوا طور المحاورة والجدال إلى ما هو أشدّ، إلى المحاجة بالباطـل وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ (الأنعام:80).
وإبراهيم عليه السلام بما عُرف عنه من حلم ورحمة إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (هود:75) إبراهيم يتخطى طور الحوار إلى طور الجدال في أمر قوم لوط حين أخبرته الملائكة بأنهم ذاهبون لإهلاكهم، ولم يكن جداله معهم من النوع المذموم، إنما هو حوار اشتدّ فيه فسمي جدالاً فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (هود:74).
ولوط عليه السلام لـه حوارات متعددة ومتنوعة طولاً وقصراً مع قومه، ولكنهم يجادلونه ويصرون على المعصية التي اخترعوها غير مسبوقين إليها، وقد أصروا على عنادهم وكفرهم حتى اللحظات الأخيرة حين رأوا رجالاً حسني الصورة يدخلون بيته فاجتمعوا ببابه... ويصل بنا الحوار إلى مرحلة الذروة التي نرى معها العناد والفجور يناطحان الحق الواضح الصريح، هنا تكون المفاجأة ومن ثم العقوبة وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَـذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ. وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَـؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ. قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ. قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ. قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (هود: 77-81)
ولأن الحوار سيكون الوسيلة المثلى للدعوة إلى الله، والأنبياء أعلامها وقادتها فقد وهب الله تعالى أنبياءه حسن البيان، فأرسل كلاً منهم بلسان قومه ليبين لهم، ولأن موسى عليه السلام كُتب عليه أن يواجه طغيان فرعون، ومن بعده عناد بني إسرائيل وعتوهم عن أمر ربهم، فقد طلب منذ اللحظة الأولى لتكليفه بالرسالة زيادةَ القدرة البيانية لديه ليواجه بها معاركه الصعبة وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي (طه:27-28) بل إنه يطلب زيادة على ذلك عون أخيه هارون بتكليف من الله تعالى، لأن هارون أفصح منه بياناً وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (القصص:34) قال الزمخشري في بيان معنى التصديق هنا: " ليس الغرض بتصديقه أن يقول له: صدقت، أو يقول للناس: صدق موسى، وإنما هو أن يلخص بلسانه الحق، ويبسط القول فيه، ويجادل به الكفار كما يفعل الرجل المنطيق ذو العارضة، فذلك جار مجرى التصديق المفيد كما يصدّق القول بالبرهان.. وفضل الفصاحة إنما يُحتاج فيه لذلك، لا لقوله: صدقت " ( ).
هكذا نجد القرآن يفضل أسلوب الحوار أولاً ليقيم الحجة على أعداء الله على مرّ التاريخ، ولا يكون هلاك أو عقاب إلا بعد حوار وإنذار متكرر، وهذا مما يجب أن تتعلم منه أمة الإسلام فتقيم حواراً متصلاً منظماً مع الأمم الأخرى لدعوتها إلى الله، وقبل ذلك دعوة العصـاة والمنافقين من أبناء أمتنا إلى الله تعالى.
2- من أهداف الحوار في القرآن:
تتنوع مقاصد الحوار وأهدافه في القرآن تنوع مقاصد القرآن نفسه، وهي تشمل أشياء لا يحدّها عند التحليل والاستقصاء حصرٌ، لأنه رسالة الله الخالدة والأخيرة إلى أهل الأرض مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ (الأنعام:38) وبعض ما جاء في القرآن سرداً بلا حوار دار حوله الحوار في السنة النبوية كثيراً، كمواضيع الميراث والفقه والعبادات، فالحوار هو الوسيلة المفضلة في كتب الله وفي سنن رسله وأنبيائه للدعوة إلى الله تعالى، ولذا تتنوع المقاصد والأهـداف، حيث "لم يقتصر الحوار على نوع معين كالعقيدة أو الدين عامة، بل شمل كل أوجـه الحياة دينية كانت أو سياسية أو اجتماعية أو غير ذلـك " ( ).
وقد ورد الحوار المباشر - أي بين أطراف تتحاور حواراً مباشراً- في القرآن الكريم في أربعين سورة، وهو قدر كبير من القرآن، خاصة إذا علمنا أن الحوار يرد في السور الطوال غالباً، ويقل في القصار، وهذه الطوال تمثل أكثر القرآن، إذ إن نصفه عند الآية الرابعة والسبعين من الكهف، والكهف هي السورة الثامنة عشرة منه.
والحوارات تتعدد كذلك في السورة الواحدة، ومجموع المواضع الحوارية في القرآن كـله حـوالي (172) موضعاً، وقد حصرت عدد الآيات في المواضع الحوارية فجاءت حوالي (921) آية بنسبة 14و76% من عدد آيات القرآن البالغ (6236) آية، هذا في مواضع الحوار المباشر فقط، أي في وجود طرفين متواجهين متحاورين مستعملين لفعل القول قولاً ورداً في الموقف الحواري، وثمة حوارات غير مباشرة لم تدخل ضمن هذا الحصر، وذلك كأن يقص الله تعالى قولاً عن الكفار أو أهل الكتاب أو المنافقين ثم يردّ عليه، فهو لون من الحوار، ولكنه حوار غير مباشر، وهو كثير في القرآن الكريم أيضاً.
وسنحاول هنا في نقاط موجزة أن نعدد ما يسعنا حصره من أهداف الحوار في القرآن الكريم.
ومن ذلك:
1- الدعوة إلى الله تعالى كما في دعوة نوح وهود وصالح وغيرهم من الأنبياء والدعوة إلى الله أي إلى توحيده وعبادته وحده، ومنها كذلك حوار يوسف مع صاحبي السجن.
2- النصح والإرشاد مع إظهار الشفقة، وهو فرع من فروع الدعوة، ولكنه يكون مع من هم أمس رحماً بالداعي، كما في دعوة نوح ولده، ودعوة إبراهيم أباه بالحسنى دون لوم أو تعنيف.
3- التعليم والتأدب كما في حوار الخضر مع موسى، حيث كان الرجلان مؤمنين، لكن الحوار معهما فيه نماذج للتعليم وآداب تلقي العلم، ولذلك قال النبي :" يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، لَوَدِدْنَا لَوْ صَـبَرَ حَتَّى يُقَـصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا " ( ).
4- اللوم والتأنيب كما في حوار موسى وهارون عند عودة موسى بألواح التوراة ليجد بني إسرائيل قد عبدوا العجل.
5- التهديد والوعيد كما في حوار موسى والسامريّ.
6- إظهـار المعجزة كما في حوار عيسى عليه السلام مع أمه وبني إسرائيل.
7- التعليم والخضوع لأمر الله كما في حوار إبراهيم مع ولده الذبيح.
8- إظهار الحق والفصل فيه كما في حوار ابني آدم وحوار موسى مع قومه بشأن البقرة وحوار خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها مع النبي .
9- التوبيخ وإقامة الحجة على المحاور لطرده من رحمة الله كما في حوارات المولى سبحانه مع إبليس.
10- التأديب والإرشاد إلى الصواب كما في محاورة نوح مع الله عز وجل بشأن ولده حين أدركه الغرق.
11- الدعوة إلى الله مع الإصلاح الاجتماعي بالدعوة إلى إقامة العدل في البيع والشراء كما في دعوة شعيب قومه، ودعوة لوط قومه لترك الفاحشة.
12- إقامة الحجة على المحاور بالبرهان العقلي كما في محاورة إبراهيم للملك ومناظرته قومه في شأن الشمس والقمر.
13- التبشير بالفرج والخير من عند الله كما في حوار الملائكة مع سارة امرأة إبراهيم حين بشروها بإسحاق.
14- الشفقة على الخلق رغبة في تأخير عذابهم لعلهم يؤمنون كما في حوار إبراهيم بشأن قوم لوط، ولم يكن بغرض رفع العذاب عنهم كما قد يظن، بل لتأخيره لعلهم يسلمون.
15- إخفاء الحقيقة والكذب كما في حوارات إخوة يوسف مع أبيهم في مواضع من السورة.
16- التذكير بالله في أصعب اللحظات، كما في حوار يوسف مع امرأة العزيز حين راودته عن نفسه.
17- طلب التمكين من السلطة إذا رأى المرء من نفسه القدرة على ذلك كما في حوار يوسف مع الملك بعد خروجه من السجن وطلبه أن يكون على خزائن الأرض.
18- العفو والصفح كما في حوار يوسف مع إخوته بعد ظهور الحقيقة.
19- الدعوة إلى الاستمساك بعقيدة التوحيد كما في حوار يعقوب مع بنيه عند الموت.
20- الدعوة إلى الصبر في أحوال الظلم والاضطهاد كما في دعوة موسى قومه إلى الاستعانة بالله والصبر على ظلم فرعون وقومه حتى يجعل الله لهم مخرجاً.
21- الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله كما في حوار موسى مع قومه لدخول الأرض المقدسة.
22- طلب زيادة الإيمان بتظاهر الأدلة كما في حوار إبراهيم مع ربه حين سأله: كيف تحيي الموتى، وكما في طلب موسى رؤية الله عز وجل، وكما في قصة الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها، وكان رجلاً مسلماً كما يدل عليه سياق القصة، وكذا طلب الحواريين المائدة من عيسى عليه السلام.
23- التثبت من البشرى لكونها مفاجأة، وذلك كما طلب زكريا آية من ربه على بشرى الولد.
24- الدعوة إلى الله باستعمال الأدلة العقلية والنقلية معاً كما في حوار مؤمن آل فرعون وقومه.
25- طلب الجائزة كما في حوار السحرة مع فرعون قبل إسلامهم.
26- تفويض الأمر لله وحـده كما في حوار السحرة مع فرعون بعد إسلامهم.
27- إظهار الكبر والغرور بمتاع الدنيا كما في حوار قارون مع قومه.
28- الإدلال بعلم جـديد لا يعرفه المحاور كما في حـوار الهدهد مع سليمان.
29- المشاورة، كما في حوار بلقيس مع قومها حين ورد إليها كتاب سليمان.
30- دفع الاتهام والتبرئة كما في حوار مريم مع بني إسرائيل حين رجعت إليهم برضيعها.
31- مؤازرة النبي بالقصص القرآني الواقعي المبني على الحوار كوسيلة دعوية فاعلة وأداة لغوية تبعث على تنشيط الفكر وإظهار مكامن النفوس.
32- إدارة بعض أطراف الحوار المباشر وغير المباشر مع الكفار وأهل الكتاب والمنافقين والأعراب...
33- الإنعام وإظهار الفضـل والسرور والحبور كما في حـوارات أهل الجنة.
34- اللوم والتأنيب مع العذاب الحسي والنفسي كما في حوارات أهل النار.
وهذا اللون هو الغالب على حوارات الآخرة مما يخص أصحاب النار، سواء كان ذلك في ساحة الحساب كما في حوار المولى مع عيسى بشأن اتخاذ بعض الناس إياه وأمه إلهين من دون الله، أو كان الحوار يدور في النار، وهي حوارات كثيرة متنوعة، منها ما يكون بين المولى سبحانه وأهل النار، ومنها ما يكون بين الملائكة وأهل النار، ومنها ما يكون بين أهل النار المستضعفين منهم في الدنيا والمستكبرين، وهو حوار يصل حد التخاصم إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (ص:64) ومنها ما يكون بين المؤمنين والكافرين بعد استقرار كل من الفريقين في موضعه كما في سورة الأعراف.
وقد ذكرت من قبل أن مرادنا هنا ليس الحصر، وإنما التمثيل على ذلك بما يسعنا ذكره، ليعلم الناس سعة العلوم والأغراض التي أودعها الله عز وجل في كتابه المبين الذي ما فرط فيه من شيء.
3- طبيعة الحوار في بنية النص القرآنيّ:
يأتي الحوار في سور القرآن في ثلاث صور:
1- حوار في بنية القصة القرآنية.
2- حوار في بنية المثل القرآني، كمثل صاحب الجنتين وصاحبه المؤمن في سورة الكهف.
3- حوار في بنية السورة في غير القصة أو المثل، كحكاية أقوال للكفار وأهل الكتاب والمنافقين والرد عليها.
والحوار في القرآن لـه طبيعة القرآن نفسه، إذ هو بعض القرآن، ولذا سنجد الإيجاز أحيانا والإطناب أحياناً أخرى حسب حاجة السياق والسورة والجزء المعروض من الحدث أو القصة في السورة، ولذلك نرى أن بحث قصة ما كاملة لنبي من الأنبياء لابد لها من متابعة كل المواضع التي وردت فيها القصة في القرآن الكريم.
والحوار من حيث " الحجم " أكثر وروداً في القصص القرآني من السرد والمتأمل في قصة يوسف التي جاءت كاملة في سورة واحدة يجدها مجموعة من الحوارات المتتابعة (أحصينا فيها سبعة عشر حواراً) تتخللها مواضع سردية لربط الأحداث.
وحين نتابع الحوار القرآنيّ سنجد الأفكار أمامنا حية ظاهرة تتلاقى أو تختلف إن الحوار يظهر القوة والصراع والمقاومة من جانب كل طرف ليكسب المعركة إذا كان الحوار بين أطراف متعارضة متناحرة، ويظهر الأدب والخشوع والميل إلى الحق إذا كان بين أطراف متفقة على المبادئ التي يقوم حولها الحوار، فلكل حوار إذاً سياقه الخاص، يقول الأستاذ عبد الكريم الخطيب:" والحوار هو وحده من بين أساليب القول الذي يعتمد عليه فن القصص في خلق الحركة وتلوينها وتنويعها، فبالحوار تتبادل الشخصيات مواقعها، وتزايل أماكـنها، وتبدل أحوالها وأشكالها " ( ).
والحوار في القرآن يقص ما حدث، إنه يعتمد على الحكاية، ولكن القرآن بدقته وبيانه المعجز يجعلنا نعيش الحدث لحظة بلحظة كأنما يحدث أمام أعيننا لأول مرة، إنه يحرك الأشخاص بالحوار الدال على المواقف، سواء كان الموقف صراعاً أم تعلماً حسب الهدف من الحوار، وهو يترك أثناء الحوار مجالات لعقل المتلقي ووجدانه للمشاركة في تصور الأحداث، إنه يترك بعض " الفجوات " السياقية اعتماداً على ذوق المتلقي وذكائه وحساسيته للأحداث ومن ذلك في قصة يوسف أن القرآن بعد أن ذكر قصة شراء المصريّ لـه ووصيته لامرأته بإكرام مثواه... يترك القرآن هذه الفترة من حياة يوسف ليتصورها الإنسان تصوراً، وفجأة نجد يوسف شاباً فتياً تراوده امرأة العزيز عن نفسه فيكون حوار الصراع والاتهام والسجن.
ونحن في الحوار القرآني لا نجد أشخاصاً يمثلون أدواراً أعدت لها الحوارات مسبقاً كما في الحوار الأدبي في القصة والمسرح والسينما، إننا في القرآن نلتقي مع الأشخاص صانعي الحدث، نتلقى الكلمات من أفواههم مباشرة، نسمع أصواتهم ونحس حركاتهم حية نابضة محملة بالآراء والمشاعر، إننا نسمع صوت يوسف وهو يقول لامرأة العزيز مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ (يوسف: 23) ثم نسمع صوتها باكية شاكية إلى العزيز، ونسمع ردّ يوسف وشهادة الشاهد من أهلها وبراءة يوسف الأولى، ثم حوار النسوة الذي انتهى بيوسف إلى السجن، إن القرآن يجعلنا نعيش مع الحدث كأنه يقع أمام أعيننا لحظة بلحظة، هذا مع ما نحس نحن من جلال وخشوع لتلاوة القرآن وتلقيه مما يجعل التأثير - إذا صلحت أجهزة الاستقبال عند الإنسان - أعـظم وأشد نفعاً، إن "حبكة الحوار واختيار الكلمات المناسبة لكل حال يتلبس بها المتحاورون هو الذي يبعث الحياة والحركة في القصة، وهو الذي يجعل للكلمات دلالة ذاتية تستغني عن التشخيص والتمثيل، وعن تهيئة الجو المناسب للحركة المسرحية التي تنقل الأحداث وتجسّمها " ( ).
والحوار في القرآن كذلك متنوع، ذلك أن القرآن كتاب الله المقروء الذي يفسر ويحكم كتابه المنظور، أعني الكون بكل مفرداته، ولذا ما فرّط الله تعالى في كتابه من شيء من أصول العلوم والمسائل والحاجات الإنسانية على كثرة ذلك كله وتنوعه، وقد ذكرنا أن الحوار في القرآن لـه طبيعة القرآن نفسه لغوياً، ونضيف أن لـه طبيعة القرآن نفسه موضوعياً من حيث التنوع والشمول، فنجد حوار الملائكة مع المولى سبحانه في ابتداء خلق آدم، ذلك الحوار البديع الذي يعلمنا الله تعالى فيه أنه هو القادر القوي الخالق الذي لا رادّ لقضائه.. ومع هذا يحاور بعضاً من عباده في أمر قرّره هو وحده، ليعلمنا ضمناً أن الحوار هو أفضل وسيلة عملية ممكنة للدعوة إليه هدايةً وتعليماً وإرشاداً.
وفي القرآن حوارات المولى سبحانه مع إبليس، وهي حوارات عجيبة يقف فيها مخلوق ضعيف موقف العاصي الرافض صراحة لأمر الله، وفي عرفنا نحن البشر - بما لنا من نقص وخطأ - قد لا نرى إلا الهلاك المباشر لإبليس ساعة المعصية، ولكنّا هنا مع المولى الخالق سبحانه، الحليم الصبور، إنه يحاور إبليس الذي يراجعه الكلام ويطلب النظرة إلى يوم الدين، بل يقسم لله تعالى أنه سيغوي هذا المخلوق الذي كرمه الله عليه وذريته.. سيُغويهم حتى آخر لحظة في الحياة الدنيا، مع هذا كـله يحاوره المولى سبحانه وينظره إلى يوم الدين.
وفي القرآن حوارات الرسل مع أقوامهم، وحوارات الرسل مع أتباعهم وأولادهم، وحوارات المولى مع الجمادات كالسماوات والأرض، وحوار سليمان مع الهدهد، وحوار الأخ الظالم مع أخيه المظلوم الذي ينتهي بقتل المظلوم في حوار ابني آدم، وحوارات مواقف الحشر والحساب، وحوارات أهل النار فيها، وحوارات أهل الجنة فيها، وحوارات تدور بين الطرفين كل من مكانه كما في سورة الأعراف... هكذا يتنوع الحوار بتنوع موضوعات القرآن نفسه.
4- الفرق بين حوارات القرآن وحوارات السنة النبوية:
لاشك أن ثمة فروقاً ظاهرة بين حوارات القرآن الكريم وحوارات السنة النبوية، فالقرآن يبدأ حواراته مع قصة خلق الإنسان نفسه كما في حوار الله تعالى مع الملائكة الكرام بشأن خلق آدم وإسكانه الأرض، ثم حواره سبحانه مع إبليس في مسألة السجود لآدم وتوابعها، وحوارات الرسل المتعددة مع أقوامهم على مر التاريخ، وهي حوارات تتناول مسألة العقيدة كأساس تنبني عليه كل مسائل الدين، ثم يتابع القرآن حواراته مع أهل مكة وحواراته العديدة مع أهل الكتاب في المدينة النبوية، ثم يتجاوز القرآن الحياة الدنيا إلى حوارات الآخرة وما أكثرها في القرآن الكريم كحوارات البعث والنشور والحساب والميزان وحوارات أهل الجنة وهي أقل من حوارات أهل النار التي تكثر فيه وتتنوع، كأنما توحي بترك أهل الجنة يعيشون بسلام في النعيم المقيم وتستمر حوارات العذاب في جهنم كصنف من أصناف العقوبات الكثيرة لأهل النار.
أما الحوار في السنة النبوية فهو ينصب بالأساس على الدعوة إلى الله عز وجل هاهنا في الحياة الدنيا ليسلم الناس لرب العالمين، ثم حوارات التعليم وتنظيم المجتمع المسلم، فالحوار في السنة يميل إلى التطبيق العملي على فترة الحياة الدنيا لأنها دار العمل للآخرة، أما حوار القرآن فهو شامل كما ذكرنا منذ بدء الخلق حتى الانتهاء إلى الجنة أو النار.. ولا يعني هذا خلو السنة من حوارات الآخرة، بل فيها كذلك حوارات عن الموت والقبر والبعث والحساب.. ولكنها ليست بكثرة حوارات القرآن عن الآخرة وتنوعها، وليس فيها التفصيل الدقيق الذي نجده في القرآن عن الآخرة ووصف الجنة والنار... وكأنما ركزت السنة على هذه الحياة الدنيا التي هي مجال العمل والكسب. وحوارات السنة تستهدي بحوارات القرآن الكريم في مسائلها وآدابها وأهدافها كما قال تعالى وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي (سـبأ:50).
5- القرآن وحوار الدعوة في مكة:
إن القرآن الكريم هو دستور المسلمين الأعظم في كل شئون دنياهم ودينهم وأخراهم، والسنة مفسرة له وشارحة، وفيها التطبيق العملي لآدابه وأخلاقه وتشريعاته... ومن ثم نجد القرآن الكريم يوجه دفة الحوار بين النبي وبين خصومه سواء في مرحلة الدعوة في مكة، أو في مرحلة بناء الدولة في المدينة، وما واجهه النبي من كيد المشركين والمنافقين وأهل الكتاب.
وحين نتأمل حوارات الدعوة إلى الله في مكة نجد القرآن مشاركاً فيها، فالله عز وجل يعلم ويسمع ما يقول الكفار عن النبي والإسلام وما يثيرونه من شبهات وتساؤلات واعتراضات... ومن ثم تتنـزل الآيات بالأسئلة التي يثيرونها والجواب عليها، فتقيم مبدأ الحوار معهم بصورة مباشرة.
وثمة طريق غير مباشر لإقامة الحوار كذلك في القرآن مع المعترضين والمكذبين والمعاندين، وذلك من خلال سرد قصص الأقوام السابقة مع رسلهم، فالشبهات والمشكلات واحدة أو متقاربة، ومن ثم تكون حوارات الرسل مع أقوامهم بمثابة الحوار كذلك مع المدعوين في عصر النبي وبعده إلى يوم القيامة، فالمسألة واحدة وهي الإيمان بالله عز وجل وما يتفرع عن ذلك من مسائل كثيرة، فحوار نوح مع قومه يدور حول الإيمان بالله والعقيدة الصحيحة، وهي المسألة ذاتها التي شغلت الفترة المكية من الرسالة الإسلامية، ولا يزال العالم اليوم في حاجة إلى إقامة الحوار نفسه مع غير المسلمين في العالم المعاصر لدعوة الناس إلى الله تعالى.
ونستطيع أن نحصي مئات المواضع في القرآن المكي كان الحوار فيها صريحاً بين النبي والمشركين، فكانت المسائل والشبهات تثار ابتداءً من المشركين ثم ينزل القرآن يسرد تلك الشبهات ويرد عليها بالحجة البينة كما يقول تعالى وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (الفرقان:33) وفي سورة الأنعام المكية وحدها حوالي ستة عشر موضعاً من هذا اللون الحواري، وهو بيّن كذلك في سور: يونس والنحل والإسراء والكهف والفرقان والزخرف والحواميم السبع... وفي ظني أن هذا البحث يحتاج إلى دراسة خاصة مفصلة لتتبع هذه الحوارات القرآنية المكية ومقابلتها بأحداث السيرة النبوية، ومتابعة ذلك في القرآن المدني وتغير الحوار إلى محاجة أهل الكتاب، ولا أدل على ذلك من المسائل التي أثارتها سورة البقرة مع اليهود، وهي أول سورة نزلت بالمدينة.
ومن مسائل الحوار في القرآن المكيّ:
1- الجدال حول التوحيد والألوهية.
2- الجدال حول النبوة.
3- الشبهات حول إنزال القرآن.
4- طلب المعجزات المادية.
5- الجدال حول التحليل والتحريم.
6- الجدال حول أخبار الغيب.
ولكل من هذه المسائل آيات كثيرة تتناولها بأساليب لغوية عديدة، وقد شارك القرآن فيها بتوجيه الحوار بالحسنى وإظهار الحقائق ودحض الشبهات، باللين أحياناً وبالشدة والوعيد أحياناً، ليجمع بين الوعد والوعيد وبين التشويق والتخويف كما هي عادة القرآن في دعوته ومواعظه، وسنذكر طرفاً من ذلك في مبحث قادم.
6- القرآن والحوار في المدينة النبوية:
وقد استمر السجال والحوار والجدال بين المسلمين والمشركين بعد الهجرة، وأضيف إلى ذلك عبء المواجهة المباشرة مع ثلاثة أصناف أخرى من معارضي الدعوة والدولة الناشئة، وهم أهل الكتاب من يهود ونصارى والمنافقون والأعراب المحيطون بالمدينة يتربصون بالمسلمين الدوائر، وقد أقام القرآن الحوار مع هؤلاء جميعاً إضافة إلى استمرار الحوار مع المشركين، وهكذا يمكن تصنيف حوارات القرآن في المدينة على النحو الآتي:
1- استمرار الحوار مع المسلمين أنفسهم للوعظ والتعليم والتنظيم...
2- استمرار الحوار مع المشركين.
3- الحوار مع اليهود والنصارى.
4- الحوار مع المنافقين.
5- الحوار مع الأعراب.
وهذه الفئات نفسها هي التي دار معها الحوار في السنة النبوية كذلك، وسنذكر ذلك في مواضعه.
ومع استمرار أعباء الحوار والجدال أضيف إلى ذلك أعباء الحرب التي لجأ إليها المسلمون أو اضطروا إليها للدفاع عن أنفسهم وتبليغ كلمة الله تعالى إلى الناس، فالحرب هي البديل حين لا ينفع الحوار، الحرب بشروطها وضوابطها المعلومة في الإسلام بطبيعة الحال.
والقرآن والسنة هما دستورنا نحن المسلمين، ومنهما نتعلم أن الأمة المسلمة إلى جانب تمسكها بالحوار ودعوتها إليه بوصفه الوسيلة المثلى للدعوة وحل المشكلات وتجنب الصراعات.. إلى جانب ذلك لابد أن تعدَّ العدة والقوة لحماية الحوار والانتقال إلى المراحل التالية لفشله، فلا ينبغي أن نركن إلى الحوار كحل وحيد لمشكلاتنا أو نستجديه ممن لا يعطيه أو لا يرغب فيه، أو يرغب فيه ولكنه لا يعطي فيه ثمرة تنفع، أو يُكره عليه فيجعله مطية يمرر عليها طموحاته وأطماعه كما يفعل اليهود في حوارهم الحاضر مع العرب بشأن فلسطين، فالحوار عندهم غطاء وتجميل للوجه القبيح أمام العالم بزعم إرادتهم السلام، وهم في واقع الحال يفضلون القوة ويلجأون إليها، بل في أثناء جولات التفاوض والحوار يعمل السلاح عمله في القتل والتدمير على مدار اليوم والأسبوع والسنة ! فهل ينفع الحوار مع عدو بهذه الصفة؟ لابد من القوة الحامية للحوار، والبديلة عنه إذا لم يجدِ نفعاً، قال الله تعالى وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ (الأنفال:60).
الفصـل الرابع الحـوار النبويّ في مكة
في السنة النبوية نجد الحوار الأسلوب الأمثل للدعوة إلى الله تعالى والتعليم والتنظيم، إذ " بفضل الحوار كان رسول الرحمة يوقظ النفوس اللوامة ويكسب أصحابها شحنات من الإيمان والعزم والتصميم يستطيعون بفضلها مقاومة القوى الشيطانية وتهذيب الشهوات البشرية وبسط سلطان العقل والإيمان على أقوال المؤمنين وأعمالهم، وبفضله كان يقيم الحجة والبرهان على المشركين وأهل الكتاب وغيرهم " ( ).
ولم تكن لدى النبي إجراءات معقدة لبدء الحوار أو ممارسته ولا شروط مسبقة، كان حواره مع عمقه وتناوله أدقَّ القضايا وأخطرها.. كان يسيراً رفيقاً يسرَ الإسلام نفسه ورفقَه بالناس، إنه قد جاء لإنقاذهم من النار وإدخالهم في رحمة الله، وأساس دعوته أنها مبنية على الرحمة وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (الأنبياء: 107) ولا يمكن لرسالة بنيت على الرحمة إلا أن تسلك في دعوتها كذلك مسلك الرحمة بالخلق على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم، والحوار أحد مسالك الرحمة بالإنسان، فهو يفتح أمامه الباب للمعرفة والتعلم والتدبر ليكون على بينة من أمره، وهكذا سلك النبي في دعوته مسلك الحوار كوسيلة ناجحة لدعوة الناس وتعليمهم، ولم يفرق في ذلك بين كبير وصغير، أو حر وعبد، أو رجل وامرأة، أو ملك ورعية... لقد حاور الملوك والأمراء كما حاور العبيد، وحاور المسلمين والمشركين واليهود والنصارى، وحاور الرجال والنساء... بل إن لفظ " التحاور" ورد في القرآن في حوار النبي مع امرأة مسلمة في أول سورة المجادلة.
وقد حاور النبي كلَّ من عرفهم وقابلهم من الناس، ولم يُعرف عنه أنه امتنع عن مقابلة أحد أو محاورته حتى ولو كان أشد الناس عداوةً لـه كاليهود، أو كان قد أهدر دمه كعكرمة بن أبي جهل أو كعب بن زهير، لقد رجعا تائبين فقبل منهما وعفا وأصلح، إن " المستقصي للحديث النبوي الشريف يجد أنه جعل الحوار ركيزة قوية من ركائز الدعوة إلى الله والإعلام بدينه للإقناع العقلي والاطمئنان القلبي لتثبيت العقيدة والخلق وما يفيد الناس في دنياهم وآخرتهم " ( ).
إن طبيعة الدعوة إلى الله تعالى تقتضي الخروج إلى الناس ومحاورتهم أو مجادلتهم - والجدال درجة أشدّ من الحوار - بالحسنى ؛ ذلك لأن الداعي لا يتوقع أن يذعن أكثر الناس إلى وعظه لمجرد كونه داعياً حتى لو كان نبياً مرسلاً لقد عرفنا من قصص الأنبياء مع أقوامهم صوراً شتى من الحوار والجدال، وانتهى أكثرها بالتكذيب الصريح كما قال الله عز وجل ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (المؤمنون:44) لكن ذلك التكذيب لم يمنع الرسل الكرام من محاورة أقوامهم وجدالهم بالحسنى حتى اللحظة الأخيرة قبل الإهلاك أو المفارقة، الإهلاك كما حدث مع قوم نوح وهود وصالح، أو المفارقة كما حدث مع إبراهيم حين فارق قومه وأباه إلى الأرض التي بارك الله فيها، ومع محمد حين خرج إلى المدينة مهاجراً إلى ربه.
إن الدعوة إذا لم تظهر للناس ومعـها حججها أو معجزاتها ونظامها الكامل للحياة فلن تنجح، هكذا تدّرج الأنبياء بالدعوة، ولكن المرجّح أن تكون للدعوة أطوار تمرّ بها، كالفترة السرية التي مرّت بها دعوة النبي في مكة، وهذا يمثل طور الكمون أي طور البداية والتأسيس، وذلك كما يروي الطبري:" فجعل رسول الله يذكر ما أنعم الله عليه وعلى العباد به من النبوة سرّاً إلى من يطمئن إليه من أهله ".
يتلو ذلك الجهر بالدعوة فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (الحجر:94) وهنا يبدأ الصراع ويكون معه الحوار والجدال والمحاجّة والامتراء أو المواجهة.. قال الطبري:" ثم إن الله عز وجل أمر نبيه محمداً بعد مبعثه بثلاث سنين أن يصدع بما جاءه منه، وأن يبادي الناس بأمره، ويدعو إليه، فقال لـه (فَاصْدَعْ.. الآية) وكان قبل ذلك - في السنين الثلاث من مبعثه إلى أن أُمر بإظهار الدعاء إلى الله - مستتراً مخفياً أمره وأنزل عليه وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (الشعراء: 214-216) ( ).
وقد سجلت كتب السيرة والسنة كثيراً من حوار دعوته للناس وتعليمه ووعظه وتنظيمه للمجتمع المسلم... كل ذلك بالقول اللين الحسن والرغبة الصادقة في نفع الناس في دينهم ودنياهم، فالحوار عنده منهج تربويّ دعويّ للدعوة والهداية والبناء الصالح للعالم كله، دنيا وأخراه.
ولا أدل على ذلك من كثرة الأحاديث الحوارية في سيرة النبي وسنته الشريفة، وحين ننظر في المائة حديث الأولى من صحيح البخاري نجد فيها حوالي (35) خمسة وثلاثين حواراً متنوعاً، منها ما كان بين النبي وبعض صحابته عن أمور الإسلام وشرائعه، ومنها ما كان بين بعض الصحابة وبعض ومنها ما كان بين هرقل وأبي سفيان حول رسالة النبي وصفته وإقرار هرقل بأنه هو نبي آخر الزمان وستبلغ دعوته موضع قدمي هرقل... ومنها حوار موسى مع قومه ثم قصة الخضر... وحوار جبريل مع النبي حين جاء يعلم المسلمين أمور دينهم...
وهذا العدد الكبير من الحوارات في هذه المائة من الأحاديث يُظهر بجلاء أن الحوار كان الوسيلة الأولى المفضلة لدى النبي وصحابته في الدعوة إلى الله تعالى والتعليم، فالحوار في السنة هو المنهج الذي اتبعته الدعوة إلى الله تعالى بالحسنى بكل تفصيلاتها ومراحلها.
وعلاقات المسلمين بغيرهم في مكة قامت كلها على الحوار، ولم تشرع الحرب قط في المرحلة المكية كما هو معلوم، وقد رفض النبي لصحابته الإذن بالقتال آنذاك، بل أمرهم بالصبر والمحاورة والإقناع بالحسنى، وفي بيعة العقبة الثانية التي هاجر النبي على إثرها حاول بعض الأنصار المبايعين مبادأة أهل مكة بالحرب فرفض النبي ذلك كما قال ابن هشام:" ثم قال رسول الله : ارفضّوا إلى رحالكم، قال: فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: والله الذي بعثك بالحق: إن شئتَ لنميلنَّ على أهل منى غداً بأسيافنا ! قال: فقال رسول الله : لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم، قال: فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا " ( ).
وقد آتى الحوار أكله الطيب، فأسلم مَنْ أسلم بهذه الطريقة اليسيرة المحببة إلى الناس، ولم يثبت قط أن أحداً من الناس أُجبر على ترك دينه والدخول في الإسلام، كيف والقرآن نفسه يبين ذلك بجلاء لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (البقرة:256).
فالرسالة الإسلامية إذاً كانت قائمة على الحوار ومهمتها البلاغ، بلاغ رسالة الله إلى الناس جميعاً مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ (المائدة:99) وهو بلاغ مقرون بالسلوك العملي وفق شرائع تلك الرسالة لإثبات القدوة الحسنة ودفع الشبهة عن إمكانية تحقق الرسالة في عالم الواقع، لئلا يحتجَ بعد ذلك أحد لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (الأحزاب:21).
إن الحوار النبويّ يحمل في عباراته أصول العقيدة التي يدعو إليها ويدافع عنها إنه صورة واقعية حية للدعوة إلى الله تعالى وخوض غمار المكروه من أذى الناس وشرورهم التي يُجابَه بها الداعي إلى الله على بصيرة.
ولقد ضرب النبي محمد أحسن الأمثلة في حواره مع الناس في زمانه، إذْ آتاه الله جوامع الكلم، وجعله أفصح الناطقين بالضاد، وأعطاه القدرة على الحوار والجدال بالحسنى والإقناع - إن وجد أرضاً خصبةً - من أقصر طريق، لقد استعمل النبي فن الحوار بالحسنى أحسن استعمال، وهدى الله تعالى على يديه في حياته المباركة آلافاً مؤلفة من البشر بكلمات قلائل، في عصر كان يعرف للكلمة قدرها وسحرها.
وحين ابتدأ رسول الله دعوة قومه مصرّحاً بدعوته مجاهراً بها لم يقتصر على قريش، بل " كان يعرض نفسه في المواسم - إذا كانت - على قبائل العرب يدعوهم إلى الله وإلى نصرته، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به " ( ).
ويذكر الطبري بعد ذلك خروجه إلى قبائل كندة وكلْب وبني حنيفة وبني عامر بن صعصعة.. حتى قدّر الله تعالى لـه لقاء نفر من أهل المدينة عند العقبة، وبدأت حوارات الهجرة المباركة.
وضرب النبي أحسن المثل في فن التعامل بالحسنى مع الناس، حتى مع بعض المسلمين الذين كانوا في طور " تأليف القلوب " وصار باب " مداراة الناس أو " من يُتقى فحشُه " أو ما شابه ذلك، من الأبواب المعروفة في دواوين السنة النبوية ( ).
وفي هذا الفصل نستعرض بعض حوارات الدعوة إلى الله تعالى في مكة، ولا شك أن بعضاً مما كان فيها من حوار الدعوة لم يسجل في كتب السيرة والسنة، لأن المرحلة المكية كما هو معلوم لم يكن فيها استقرار يساعد على التسجيل والتنظيم الكبير كما حدث في المدينة من توافر الصحابة واستقرار الأمر والسيادة على المدينة..
ومع ذلك سجلت كتب السيرة والسنة طرفاً من الحوار النبوي يضاف إلى رصيد الحوار القرآني في تلك الفترة كما أشرنا من قبل.
من حوارات النبي في مكة:
ونختار من ذلك اثني عشر حواراً متواءمة مع تطور مراحل الدعوة في مكة على النحو الآتي:
1- دعوة أبي طالب:
الدعوة إلى الله هي مهمة كل رسالة جاء بها رسول من عند الله، وهذه الدعوة ذات أصول وفروع، أصولها الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره … وفروعها القيام بأوامر الشريعة من عبادات مفروضة وآداب معلومة.
وقد كان المجتمع المكي حين ابتدأت نبوة محمد في حاجة ماسة إلى داعية من بيئته يفهم طبيعة الناس والمكان، ويتمرس بألوان متنوعة من النشاط اليومي لأهلها، وهكذا يجب أن تكون خبرة الداعية كبيرة بالناس والمكان مع العلم والأدب، ومن ثم بدأ النبي دعوته بعشيرته الأقربين، بل بأقرب الناس إليه زوجه خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها، فآمنت وصدقت وتبعها أبو بكر وعليٌّ في رجال معدودين، ولكن كبار رجال مكة وأشرافها يحتاجون إلي جهد عظيم، ومن ثم فتح النبي باب الحوار معهم، وكان من أولهم عمه أبو طالب الذي نازعته قريش نزاعاً طويلاً في أمر ابن أخيه، حيث قال أبو طالب لرسول الله :" يا ابنَ أخي، ما هذا الدين الذي أراك تدين به؟ قال: أي عمِّ، هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم - أو كما قال - بعثني الله به رسولاً إلى العباد، وأنت أيْ عم أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى وأحق من أجابني إليه وأعانني عليه أو كما قال، فقال أبو طالب: أي ابن أخي، إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه، ولكن والله لا يُخـلصُ إليك بشيء تكـرهه ما بقيت " ( ).
كان أبو طالب رفيقاً بابن أخيه ؛ إذ كانت علاقتهما طيبة منذ أن ضـم النبي إليه عليّاً ليربيَه عنده لفقرٍ أصاب عمَّه، حتى أسلم عليٌّ صبياً ولم يعنفه أبوه أو يحاول رده عن دينه.
وفي الحوار السابق نجد علامات ذلك الرفق بين أبي طالب والرسول فأبو طالب يسأل ابن أخيه ليفهم حقيقة ذلك الدين، فيرد عليه النبي برفق وأدب بادئاً بندائه بحرف النداء المخصص للقريب: أيْ عمِّ، وهو من أدب الحوار الجميل، ثم يبين له حقيقة تلك الرسالة التي أكرمه الله بها، ويدعوه إليها صراحة، ولكن الرجل يأبى ويعدُ ابن أخيه بالحماية.
2- دعوة قريش علانية:
ثم إن الله عز وجل أمر رسوله أن يصدع بما جاءه منه وأن يظهر دعوته للناس صراحة وعلانية ويدعوهم إلى الإسلام، وكان " بين ما أخفى رسول الله أمره واستتر به إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين من مبعثه ثم قال الله تعالى له فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (الحجر:94) وقال تعالى وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (الشعراء: 214- 215) ( ).
عند ذلك خرج النبي إلى قومه معلناً دعوته كما ذكر ابْنُ عَبَّاسٍ:" أَنَّ النَّبِيَّ خَرَجَ إِلَى الْبَطْحَاءِ فَصَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ فَنَادَى: يَا صَبَاحَاهْ ! فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ حَدَّثْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ مُصَبِّحُكُمْ أَوْ مُمَسِّيكُمْ، أَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ تَبّاً لَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ إِلَى آخِرِهَا " ( ).
بعد هذه الدعوة العلنية وبعد تكاثر الداخلين في الإسلام وظهورهم في مكة على الملأ وانتشار الأخبار عن الإسلام وخروجها إلى خارج مكة عن طريق الوفود الآتية للحج والعمرة والتجارة.. عند ذلك حمي الصراع بين الفريقين، فعادت قريش إلى أبي طالب تشكو إليه محمداً .
3- حوار مع أبي طالب حول دعوة النبي :
يروي ابن هشام أن أبا طالب " بعث إلى رسول الله فقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا، للذي كانوا قالوا له، فأَبْقِ عليَّ وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، قال: فظن رسول الله أنه قد بدا لعمه فيه بداء أنه خاذله ومسلمه وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، قال: فقال رسول الله : يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهرَه الله أو أهلكَ فيه ما تركته، قال: ثم استعبر رسول الله فبكى ثم قام، فلما ولى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا ابن أخي، قال: فأقبل عليه رسول الله فقال: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً " ( ).
إن من مميزات المكان الذي اختاره الله تعالى لنبيه أنه لم تكن فيه سلطة سياسية مهيمنة تستطيع القضاء على الدعوة الناشئة بقواتها المنظمة المدربة على القتال كما كان الحال في بلاد فارس والروم، أما في مكة فقد كان توازن القوى بين بطون قريش يحول دون ذلك، ولهذا ذهبت قريش إلى أبي طالب أقرب الناس إلى رسول الله لتشكوه إليه.
وهنا نجد الإصرار النبوي على المضي في الدعوة مهما حاولت قريش، والنبي يحاور عمه بالحسنى ويبين له حقيقة الدعوة وأنها ماضية ولن يتوقف عنها حتى تنتصرَ أو يموتَ دونها، وفي هذا قطع لمحاولات رده عن دعوته، وقطع لآمال قريش في إخماد نورها.
4- حوار النبي مع عتبة بن ربيعة:
وبعد هذا التجاذب بدأت قريش خطواتها نحو الأذى والتنكيل بالمسلمين، قال ابن إسحاق:" ثم إن قريشاً اشتد أمرهم للشقاء الذي أصابهم في عداوة رسول الله ومن أسلم معه منهم، فأغروا برسول الله سفهاءهم فكذبوه وآذوه ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون، ورسول الله مظهر لأمر الله لا يستخفي به مباد لهم بما يكرهون من عيب دينهم واعتزال أوثانهم وفراقه إياهم كفرهم " ( ).
وقريش مع ذلك كله لا يهدأ لها بال، وهي تحاول المرة بعد الأخرى إقناع محمد بالعودة عن دينه وتعده بكل ما يريد من متاع الدنيا إن هو فعل ذلك وتعرض عليه كل المغريات الدنيوية... ومن ذلك حوار النبي مع عتبة بن ربيعة.
قال ابن إسحاق:" وحدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: حُدثت أن عتبة بن ربيعة - وكان سيداً - قال يوماً وهو جالس في نادي قريش ورسول الله جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله يزيدون ويكثرون فقـالوا: بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفّهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها.
قال فقال له رسول الله : قل يا أبا الوليد أسمع، قال: يا ابن أخي، إن كنتَ إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكونَ أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه...
حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله يستمع منه قـال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع مني، قال: أفعل، فقال بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ. وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (فصلت:1- 5) ثم مضى رسول الله فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله إلى السجدة منها فسجد ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك " ( ).
في هذا الحوار حقائق وآداب كثيرة منها:
1- حيرة قريش في أمر النبي وعجزها عن مواجهته بالحجة.
2- لجوء قريش إلى وسائل الإغراء الدنيوية من المال والجاه والملك، وإعراض النبي عن كل ذلك، مما يزيد من حيرة قريش.
3- بدء الوليد حواره بالحسنى كذلك رغم شركه لأنه إنما جاء عارضاً ما عنده راغباً في إقناع النبي به.
4- حسن مقابلة النبي له، وعدم تعنيفه أو إسماعه ما يكره ابتداء، بل قال له: قل يا أبا الوليد أسمع، وفي هذا غاية الإكرام بأن كنّاه وسمع منه بأدب وإنصات.
5- استفهام النبي له عن انتهائه من الكلام بقوله: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ وهذه من نوادر آداب الحوار التي يعز وجودها في عالم التحاور، إذ غالباً ما يكتفي المتحاورون في مثل ذلك بقرائن سياق الحال الدالة على أن المحاور أنهى حديثه وينتظر الرد.
6- لم يجبه النبي بكلام من عنده، بل آثر اختصار الطريق، لأن بعضاً مما سيقوله ويردُّ به لا شك أن حوارات قد دارت حوله من قبل مرات ومرات فالكلام سيكون بعضه معاداً، ولهذا آثر النبي هذا الاختيار المبارك فقرأ عليه صدر سورة فصّلت، وهي آيات في ذروة البلاغة والحكمة وإصابة الهدف من أقصر طريق، ولولا طول المقام لأوردنا بعض تفسيرها وفوائدها، ولهذا لم يملك عتبة إزاء سماعها من النبي إلا أن يلقي يديه خلف ظهره ساكناً منصتاً لهذا الكلام العجيب الذي يأخذ بمجامع القلوب والعقول والنفوس.. بل تقشعر منه جلود أهل الحق.
7- ومما يدل على تأثر عتبة بما سمع أن النبي استرسل يرتل عليه حتى انتهى إلى موضع السجدة من السورة، وهي عند نهاية الآية الثامنة والثلاثين، وهو مقطع طويل من السورة لم يكن منتظراً من رجل كعتبة أن يستمع إليه كاملاً، لكن الرجل استمع حتى سجد النبي .
8- أنهى النبي حواره بكلام رقيق بلا جدال أو تعنيف، بل بكلام فيه الإرشاد والتخيير لمن عنده عقل: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك.
9- إن هذا كله كان كافياً أن يؤثر في عتبة لولا عصبية الجاهلية وحلف الأشقياء الذين أرسلوه نائباً عنهم لمفاوضة النبي فعاد الرجل إلى قومه مصرّاً على كفره وعناده.
10- ومع هذا لم يستطع عتبة أن يخفي بعضاً مما أثاره القرآن فيه ببلاغته وحكمته وإعجازه.. وبدا ذلك على وجهه حتى قال أصحابه حين رأوه عائداً إليهم: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به !!
5- حوار الملأ من قريش مع النبي :
لم يهدأ لقريش بال وهم يرون الدعوة الناشئة تزداد كل يوم قوة وعدداً وانتشاراً، وهم لا يستطيعون وفقَ الأعراف القبلية والعادات العربية السائدة آنذاك أن يقتلوا النبي وأصحابه ولا القضاء عليهم، فلكل منهم عشيرة تحميه رغم الخلاف الديني، ولهذا لجأت قريش إلى أساليب أخرى كالتهديد والوعيد أو الترغيب والترهيب، وفي سيرة ابن هشام قال:" اجتمع عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو سفيان بن حرب والنضر بن الحارث بن كلدة أخو بني عبد الدار وأبو البختري بن هشام والأسود بن المطلب بن أسد وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبو جـهل بن هشام وعـبد الله بن أبي أمية والعاص بن وائل ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان وأمية بن خلف أو من اجتمع منهم اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فأتهم، فجاءهم رسول الله سريعاً وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداءٌ، وكان عليهم حريصاً يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم فقالوا له: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا جئته فيما بيننا وبينك - أو كما قالوا له - فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمون التابع من الجن رئياً - فربما كان ذلك بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك.
فقال لهم رسول الله : ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليَّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبرْ لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم..
قالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئاً مما عرضناه عليك فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلداً ولا أقل ماءً ولا أشد عيشاً منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسيّرْ عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا، وليفجر لنا فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول: أحق هو أم باطل، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله وأنه بعثك رسولاً كما تقول.
فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه: ما بهذا بعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبرْ لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم..
قالوا: فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك: سل ربك أن يبعث معك ملكاً يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، وسله فليجعل لك جناناً وقصوراً وكنوزاً من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي ؛ فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم وتلتمس المعاش منا كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم.
فقال لهم رسول الله : ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً - أو كما قال - فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم.
قالوا: فأسقط السماء علينا كسفاً كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ؛ فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل.
قال: فقال رسول الله : ذلك إلى الله إن شاء أن يفعله بكم فعل.
قالوا: يا محمد أفما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذ لم نقبل منك ما جئتنا به؟ إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له: الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبداً، فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا، وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله، وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلاً " ( ).
في هذا الحوار الطويل حقائق وآداب كثيرة منها:
1- استمرار حيرة الملأ من قريش في أمر محمد ودعوته التي تلاقي نجاحاً كل يوم رغم العداوة والدعاية القوية التي تبديها قريش.
2- استمرار الملأ من قريش في المنهج نفسه الذي اتبعوه من قبل في عرض الإغراءات المادية المتنوعة على النبي ليرجع عن رأيه ويترك دعوته، وهم يقدمون لعرضهم ذلك بمقدمة استباقية فيها لوم للنبي على ما أحدثت فيهم دعوته من فرقة وخصام بين فريقي الإيمان والكفر، وجدال داخلي بين فريق الكفر نفسه لا ينقطع حولها.
3- ردّ النبي عليهم بأحسن جواب، فلم يجادلهم فيما عرضوا عليه أو يفند أقوالهم، فهو يعلم مسبقاً أنهم قوم خصمون مجادلون، ولكنه يجيبهم من أيسر طريق وأوضح مسلك: ما بي ما تقولون ! ثم ينفي عن نفسه طلب الدنيا ويبين حقيقة دعوته وأنها من عند الله، ولا يملك هو نفسه شيئاً إزاء هذا الأمر فهو مكلف بإبلاغه لهم، شاءوا أم أبوا، ويقطع النبي أملهم في إغرائه بشيء من متاع الدنيا بقوله:" ما بهذا بعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم ".
4- عند ذلك احتد الحوار فصار جدالاً وطلباً للمعجزات المادية التي يلجأ إليها الضعفاء عادة لتعجيز المحاور وتحديه فيما يقول، وهنا نستذكر أن المسائل التي طلبوا من النبي الإتيان بها سجلها القرآن في آياته المنزلة على رسوله، ومن ذلك:
أ- طلب تفجير الأنهار وسعة الرزق.
ب- طلب ملك أو ملائكة مصدقين شاهدين لمحمد فيما يخبرهم به.
ج – طلب الجنات والقصور لصاحب الدعوة لأنه مثلهم يمشي في الأسواق ويطلب الرزق لنفسه مما لا يليق - في زعمهم - بمقام النبوة.
د- طلب إنفاذ الوعيد بإسقاط السماء عليهم كسفاً..
هـ- رفض الإيمان بالرحمن.
و- ادعاؤهم عبادة الملائكة.
ز- رفض الإيمان حتى يروا ربهم وملائكته..
5- والنبي في هذا كله يجيبهم بجوابه السابق... وفي هذا بيان لثباته على مبدأ واحد لا يحيد عنه، ولا تصرفه عنه معارضة قريش القوية ولا دعايتها المغشّية الطاغية.
وقد وردت آيات كثيرة في القرآن حول هذه المسائل، حيث يذكر الله تعالى قولهم ثم يرد عليه، ونكتفي هنا ببعض أمثلة لذلك:
- وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً. قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً. أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً (الإسراء: 49-51).
- وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً(الإسراء: 90- 93).
- وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً. وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلاَ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً. انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً. تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً(الفرقان: 5-10).
6- تفرق القوم عن رسول الله فما عنفهم وما لامهم ولا دعا الله عليهم بل إن المعلوم من سيرته أنه كان يكثر الدعاء لقومه لكي يسلموا، وفيه أدب يجب أن يتحلى به المسلم في كل زمان وهو أن يتمنى لغير المسلم أياً كان أن يسلم، ويدعو الله لغير المسلمين بالهداية إلى الإسلام، وقد قَالَ النَّبِيُّ َ لعليٍّ يَوْمَ خَيْبَرَ:" فَوَاللَّهِ لأنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ " ( ) والدعاء من أسباب الهداية.
6 – حوار لأبيّ بن خلف مع النبيّ :
وقد ابتدأ الصراع بين النبي ومن آمن معه وبين الكفار منذ انطلاق الدعوة في مكة، وكان الصراع أحياناً يتم على المستوى الفردي بين الابن وأبيه، أو بين الأب وولده، أو بين المرأة وزوجها، أو الصديق وصديقه.. وكان هنالك الصراع بين الجماعتين: المؤمنة والكافرة، واتخذ ذلك ألواناً متنوعة من الأذى البدني والنفسي للمسلمين، والتكذيب لرسول الله حيث آزره القرآن في حواراته كما ذكرنا من قبل، ومن ذلك الحوار الآتي:
- قال مجاهد وعكرمة وعروة بن الزبير والسدي وقتادة:" جاء أبيُّ بن خلف لعنه الله إلى رسول الله وفي يده عظم رميم وهو يفته ويذروه في الهواء وهو يقول: يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا؟ قال : نعم يميتك الله تعالى ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار " ونزلت هذه الآيات من آخر يس أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (يـس:77) ( ).
في هذا الحوار القصير نجد استمرار تحدّي قريش لما جاء به النبي وهم في ذلك لا يألون في ضرب الأمثلة المادية التي تغري العامة من الناس وتستميلهم، وهذا أبي بن خلف يجادل النبي في شأن بعث الموتى بعد أن تفتت عظامهم وتذروها الرياح وتدوسها الأقدام.. فينزل القرآن بجوابه الشافي.
وفي الحوار معجزة لرسول الله حيث توعّد أبيّاً بالنار، ومات الرجل كافراً محادّاً لله ورسوله كما هو معلوم، وصدقت نبوءة النبي .
7 - حوار النبيّ مع أبي طالب ساعة موته:
ومن حوارات الدعوة في تلك الفترة نختار حواره مع عمه أبي طالب ساعة موته، وكان ذلك في السنة السادسة من البعثة، فعن سَعِيد بْن الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:" لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : يَا عَمِّ، قُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ.
فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟
فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ.." ( ).
ابتدأ النبي حواره مع عمه بالكلمة الجامعة والمدخل الأول والوحيد إلى ساحة الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله التي بدونها لا يكون المرء مسلماً، والنبي يطلبها من عمه ليشفع له بها عند الله، فقدم له عرضين بلفظ موجـز: لا إله إلا الله، تتبعها الشفاعة.
ولكن رفقة السوء وجلساء السوء الذين نُهينا نحن المسلمين عن مجالستهم تواجدوا عند أبي طالب في تلك الساعة الفاصلة،لم يفتح النبي حواراً معهم لظروف المقام، إذ كانت ساعة احتضار أبي طالب، ولكنه تشبث بعمه يلح عليه إلحاحاً كما جاء في الرواية " فلم يزل رسول الله يعرضها عليه ويعيد لـه تلك المقالة " ها هنا نجد التكرار بل الإلحاح في الحوار، ذلك أنها لحظات حاسمة، إما إلى الجنة وإما إلى النار، ولكن أبا طالب والقوم من حوله لا يدركون خطرها، إن قدَر الله تعالى كان قد سبق، ولكن النبي اجتهد وسعه، ليعلمنا بذلك ألا نخلد إلى الدعة والهدوء تاركين عبء الدعوة ومشقتها، وقد حزن النبي لذلك فواساه الله تعالى بقوله إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (القصص:56).
8 – حوار دعوة جماعة من أهل المدينة:
كان النبي يتطلع إلى غير مكة وأهلها لينشر دعوته، فكان يعرض نفسه على القبائل في مواسم الحج فتأبى عليه لما بينها وبين قريش من علائق ومصالح سياسية واقتصادية، ولكنه يتخذ خطوات أبعد، لقد خرج بنفسه إلى خارج مكة يعرض نفسه على أهل القرى، وفي هذا السياق جاءت رحلته إلى الطائف التي رده أهلها ردّاً غليظاً جافياً، فبدأ يبحث عن قرية أخرى، وهنا تبدأ حواراته مع بعض أهل يثرب الذين يفدون إلى مكة.
قال الطبري:" لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل، فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله ، فأتاهم فجلس إليهم، فقال لهم: هل لكم إلى خيرٍ مما جئتم له؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: أنا رسول الله، بعثني إلى العباد أدعوهم إلى الله أن يعبدوا الله، ولا يشركوا به شيئاً، وأنزل عليّ الكتاب، ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ - وكان غلاماً حدثاً -: أي قوم ؛ هذا والله خيرٌ مما جئتم له، قال: فيأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من البطحاء، فضرب بها وجه إياس بن معاذ، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا، قال: فصمت إياس، وقام رسول الله عنهم وانصرفوا إلى المدينة، فكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج " ( ).
في هذا الحوار المبارك دعوة لطيفة بالحسنى لهؤلاء الغرباء، وقد بين لهم النبي حقيقة دعوته واستعان في بيانه ذاك بآيات القرآن التي ترق لها القلوب، والقوم عرب فصحاء، ولا شك أن القرآن سيجد طريقه إلى قلوبهم بفصاحته وحلاوته وأسلوبه المميز وما فيه من حقائق ووعد ووعيد... ولئن كان القوم في عجلة من أمرهم، وجاءوا لالتماس الحلف من قريش، فإن الحوار معهم سيُنقل إلى المدينة ويصير حديثاً من أحاديث نواديها، وسيعاود الناس السؤال عن ذلك الأمر الجديد الذي تتحدث به مكة ليلَ نهارَ، وسنرى في الحوار القادم أثر ذلك كله حين يعود بعض أهل المدينة إلى مكة ثانية.
9- حوار آخر لدعوة جماعة من أهل المدينة:
وخرج رسول الله في الموسم ليعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الخزرج أراد الله بهم خيراً.. قال ابن إسحاق: " لما لقيهم رسول الله قال لهم: من أنتم؟ قـالوا: نفر من الخزرج، قال: أَمِنْ موالي يهود؟ قالوا: نعم، قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، قال: وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبياً مبعوث الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم فلما كلم رسول الله أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك، ثم انصرفوا عن رسول الله راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا " ( ).
في هذا الحوار المبارك نلتمس الحقائق الآتية:
1- من هداية الله تعالى وتوفيقه لرسوله أن يلتقي ثانية بجماعة من أهل المدينة أراد الله بهم خيراً، وفي هذه المرة لم يكونوا في عجلة من أمرهم، بل جاءوا للحج، فهم يلتمسون بذلك القربى إلى الله، ولكنها قربى على طريقة أهل الجاهلية.
2- دعاهم النبي بأسلوبه الجميل وبيانه اللطيف، واستعان بآيات القرآن في ذلك كما كان دأبه في محاوراته ودعوته إلى الله.
3- كان أولئك النفر من الخزرج يعيشون مع اليهود في المدينة ويتسمعون منهم الأخبار عن قرب ظهور نبي يتبعه اليهود فيظهرون به على العرب.. وهنا وافقت هذه المعلومات المسبقة حقيقة ما وجدوه في مكة، فتظاهرت الدلائل عندهم على صدق محمد فيما دعاهم إليه، ورجوا أن يكونوا من السابقين إلى ذلك الخير.
4- أسلم أولئك الكرام، ثم تذكروا قومهم وما بين الأوس والخزرج من عداوة وثارات، فرجوا أن يكون الإسلام مخلصاً لهم من ذلك كله، ومما هو أكبر منه، من الشرك بالله عز وجل... وهنا وعدوا الرسول بأنهم سيدعون قومهم إلى الإسلام.
وهذه الخطوة الكبيرة تُعدّ أول سابقة مبشرة بانتشار الإسلام خارج مكة، وسوف تتلوها خطوات تفضي في النهاية إلى هجرة النبي إلى المدينة.
10 - حوارات إسلام بعض الصحابة:
في تلك الفترة العصيبة من الصراع بين الحق والباطل بدأ أفراد من قبائل شتى يتوافدون على مكة فيسمعون بالحدث العظيم، تغطي على نوره دعاية قريش القوية النافذة، ولكن أشعة من نور تظهر من خلل الحجب التي تغشّي بها قريش ذلك النور، وما إن يسقط الشعاع المبارك على أحد هؤلاء المتشوقين إلى الخلاص من الجاهلية حتى يسلم مكانه.
ومن هؤلاء الذين أسلموا من خلال حوارهم مع النبي :
أ – حوار إسلام أبي ذر:
روى ابْنُ عَبَّاسٍ عن أبي ذَرٍّ قال:" كُنْتُ رَجُلاً مِنْ غِفَارٍ فَبَلَغَنَا أَنَّ رَجُلاً قَدْ خَرَجَ بِمَكَّةَ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَقُلْتُ لأخِي: انْطَلِقْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ كَلِّمْهُ وَأْتِنِي بِخَبَرِهِ، فَانْطَلَقَ فَلَقِيَهُ ثُمَّ رَجَعَ فَقُلْتُ: مَا عِنْدَكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلاً يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ وَيَنْهَى عَنْ الشَّرِّ، فَقُلْتُ لَهُ: لَمْ تَشْفِنِي مِنْ الْخَبَرِ، فَأَخَذْتُ جِرَاباً وَعَصاً ثُمَّ أَقْبَلْتُ إِلَى مَكَّةَ، فَجَعَلْتُ لا أَعْرِفُهُ وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْأَلَ عَنْهُ، وَأَشْرَبُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَأَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ، قَالَ: فَمَرَّ بِي عَلِيٌّ فَقَالَ: كَأَنَّ الرَّجُلَ غَرِيبٌ؟! قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَانْطَلِقْ إِلَى الْمَنْزِلِ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ لا يَسْأَلُنِي عَنْ شَيْءٍ وَلا أُخْبِرُهُ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ لأَسْأَلَ عَنْهُ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُخْبِرُنِي عَنْهُ بِشَيْءٍ، قَالَ فَمَرَّ بِي عَلِيٌّ فَقَالَ: أَمَا نَالَ لِلرَّجُلِ يَعْرِفُ مَنْزِلَهُ بَعْدُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لا، قَالَ: انْطَلِقْ مَعِي، قَالَ فَقَالَ: مَا أَمْرُكَ وَمَا أَقْدَمَكَ هَذِهِ الْبَلْدَةَ؟ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: إِنْ كَتَمْتَ عَلَيَّ أَخْبَرْتُكَ، قَالَ: فَإِنِّي أَفْعَلُ، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: بَلَغَنَا أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ هَا هُنَا رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَأَرْسَلْتُ أَخِي لِيُكَلِّمَهُ فَرَجَعَ وَلَمْ يَشْفِنِي مِنْ الْخَبَرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَلْقَاهُ، فَقَالَ لَهُ: أَمَا إِنَّكَ قَدْ رَشَدْتَ، هَذَا وَجْهِي إِلَيْهِ فَاتَّبِعْنِي، ادْخُلْ حَيْثُ أَدْخُلُ، فَإِنِّي إِنْ رَأَيْتُ أَحَداً أَخَافُهُ عَلَيْكَ قُمْتُ إِلَى الْحَائِطِ كَأَنِّي أُصْلِحُ نَعْلِي وَامْضِ أَنْتَ، فَمَضَى وَمَضَيْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ وَدَخَلْتُ مَعَهُ عَلَى النَّبِيِّ فَقُلْتُ لَهُ: اعْرِضْ عَلَيَّ الإسْلاَم، فَعَرَضَهُ فَأَسْلَمْتُ مَكَانِي، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا ذَرٍّ، اكْتُمْ هَذَا الأمْرَ وَارْجِعْ إِلَى بَلَدِكَ، فَإِذَا بَلَغَكَ ظُهُورُنَا فَأَقْبِلْ، فَقُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ.. الحديث " ( ).
هذا رجل أراد الله به الخير، وساقه إليه مبكراً فصار من الأوائل، ويبدو من سياق الحوار أنه كان في فترة مبكرة من دعوة النبي وفي حال احتدام عداوة قريش له.
وفي الحديث نرى رجاحة عقل أبي ذر رضي الله عنه، فهو يعلم مسبقاً عداوة قريش لهذا الأمر ولكل من يدين به، لهذا لم يبادر أحداً بالسؤال عنه، بل انتظر حتى يجد الفرصة المناسبة لذلك، وها هو يجدها عند أحد الفتيان الذين أسلموا، إنه عليّ فتى قريش وسيد من ساداتها، وعليٌّ رغم صغر سنه ذو عقل راجح حكيم، يعلم حقيقة الأمر، ولهذا أخفى الأمر عن أعين الناس واستعان بالحيلة لينجو صاحبه من أذى قريش إن اكتشفت أمره.
وها هو أبو ذر يسلم مكانه، لقد وجد ضالته التي ينشدها منذ سنين، وحينذاك أمره النبي بكتمان أمره انتظاراً لظهور أمر النبي واشتداده، ولكن أبا ذر كان رجلاً ذا طبيعة خاصة، بل كان من نوادر الرجال، وهو لهذا يريد على الفور أن يسمع قريشاً ما تكرهه.
ولقد فعل أبو ذر ما وعد، فخرج إلى الكعبة فصرخ بلا إله إلا الله بين أظهر القوم فضربوه حتى أدموه، ثم عاد وعادوا... ولا شك أن لفعل أبي ذر ذاك أثراً إعلامياً هائلاً، فالمجتمع المكي والوافدون إلى مكة سيعلمون بما حـدث، وسيصبح حديث أنديتهم وسمرهم، وهو على كل حال يؤثر في مكانة قريش، لقد هانت حتى على الغرباء الذين يبادونها بما تكره !
ب – حوار إسلام عمرو بن عبسة:
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِيُّ: كُنْتُ وَأَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَظُنُّ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ضَلالَةٍ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَعْبُدُونَ الأَوْثَانَ، فَسَمِعْتُ بِرَجُلٍ بِمَكَّةَ يُخْبِرُ أَخْبَاراً، فَقَعَدْتُ عَلَى رَاحِلَتِي فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ مُسْتَخْفِياً جُرَءَاءُ عَلَيْهِ قَوْمُهُ، فَتَلَطَّفْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا نَبِيٌّ، فَقُلْتُ: وَمَا نَبِيٌّ؟ قَالَ: أَرْسَلَنِي اللَّهُ، فَقُلْتُ: وَبِأَيِّ شَيْءٍ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الأرْحَامِ وَكَسْرِ الأوْثَانِ وَأَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ لا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ، قُلْتُ لَهُ: فَمَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: حُرٌّ وَعَبْدٌ، قَالَ: وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ وَبِلالٌ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ، فَقُلْتُ: إِنِّي مُتَّبِعُكَ، قَالَ: إِنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ يَوْمَكَ هَذَا، أَلا تَرَى حَالِي وَحَالَ النَّاسِ؟ وَلَكِنْ ارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ فَإِذَا سَمِعْتَ بِي قَدْ ظَهَرْتُ فَأْتِنِي.. الحديث " ( ).
وهذا حكيم آخر رأى بفطرته ضلال الجاهلية، ولكنه لم يكن يجد السبيل إلى الله عز وجلّ، ولذا فإن النبوة هي أصل الهداية إلى الله عز وجل، فلو اجتمع أهل الأرض على شيء مخالف للدين الحق فهو باطل ولا يُعبد الله تعالى بغير نبوة هادية.
وفي هذا الحوار نجد الصدق والإيجاز من المتحاورين، نلاحظ ذلك من قصر السؤال والجواب، والسؤال عن الأصول وعدم التطرق إلى مسائل فرعية، وهنا كانت الاستجابة الكريمة فأسلم عمرو بن عبسة رضي الله عنه، وسمع بنصيحة النبي فعاد إلى قومه ثم هاجر بعد ذلك إلى المدينة...
ج – حوار إسلام ضماد الأزدي:
عَن ابْنِ عَبَّاسٍ:" أَنَّ ضِمَاداً قَدِمَ مَكَّةَ وَكَانَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ وَكَانَ يَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ، فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُونَ إِنَّ مُحَمَّداً مَجْنُونٌ، فَقَالَ: لَوْ أَنِّي رَأَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللَّهَ يَشْفِيهِ عَلَى يَدَيَّ، قَالَ: فَلَقِيَهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ، وَإِنَّ اللَّهَ يَشْفِي عَلَى يَدِي مَنْ شَاءَ، فَهَلْ لَكَ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ، قَالَ: فَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلاءِ فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ: فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ وَقَوْلَ السَّحَرَةِ وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلاءِ، وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ.
قَالَ: فَقَالَ: هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الإِسْلامِ، قَالَ: فَبَايَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ وَعَلَى قَوْمِكَ؟ قَالَ: وَعَلَى قَوْمِي، قَالَ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ سَرِيَّةً فَمَرُّوا بِقَوْمِهِ فَقَالَ صَاحِبُ السَّرِيَّةِ لِلْجَيْشِ: هَلْ أَصَبْتُمْ مِنْ هَؤُلاِء شَيْئاً؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: أَصَبْتُ مِنْهُمْ مِطْـهَرَةً، فَقَالَ: رُدُّوهَا فَإِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمُ ضِمَاد " ( ).
وهذا الرجل ساقه الله تعالى بفعل الدعاية المعادية من قريش إلى التحقق من صحة ما تدعيه قريش بشأن محمد فيذهب متطوعاً ليدور ذلك الحوار الكريم بينه وبين رسول الله ولقد آتى الله تعالى نبيه من الحكمة والفراسة ما يمكنه من استكشاف طبيعة من يخاطبه فيكون ذلك عوناً له على الوصول إلى قلبه من أقصر طريق إن كان ممن يعقل... وهذا ما حدث مع ضماد الأزدي رضي الله عنه.
لم يبدأ النبي حواره مع ضماد بدعوته مباشرة أو الحديث عن نفسه، فهو يعرف أن الرجل يدعي شيئاً من الحكمة ومعرفة بالرقية، ولا بد أن له فصاحة ومعرفة بالبيان.. فبدأه بذلك البيان الرائع: إن الحمد لله... وهي كلمات لا عهد لضماد ولا للعرب بمثلها من قبل.. وهنا آتت أكلها الطيب لقد استعادها ضماد من الرسول ثلاث مرات !! فكان رد ضماد: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ وَقَوْلَ السَّحَرَةِ وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ، فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلاءِ، وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ..
هنا تظهر حكمة النبي وبراعته في إدارة الحوار، إنه يعرف بفضل الله وعونه مفاتيح الشخصية العربية، فيعطي لكل شخصية مفتاحها المناسب، وهذا لا ريب أحد أسباب نجاح دعوته المباركة، وفي الحديث بيان أدب الصحابة الرفيع في حفظهم حق قوم ضماد بعد ذلك بسنين كثيرة، وهو درس في الوفاء وحسن المعاملة يعزُّ وجود نظيره في عالم البشر.
11- حوار بيعة العقبة:
لاشك أن تلك اللقاءات العديدة مع أهل المدينة قد تركت آثارها فيمن حضرها منهم، وأنهم نقلوا تلك الأخبار والأحاديث إلى المدينة فصارت بعضاً من حديث أهلها يدور بينهم ويتزيّد الناس فيه كعادتهم، حتى صار هنالك شوق إلى ذلك الأمر وصاحبه .
وفي موسم تالٍ يأتي بعض أهل المدينة إلى مكة فيقابلون النبي وتكون بيعة العقبة الأولى، ويرسل معهم النبي مصعب بن عمير داعياً ومعلماً، وفي الموسم التالي تكون البيعة الخالدة، بيعة العقبة الثانية التي مهدت لهجرة النبي إلى المدينة.
وفي إحدى ليالي موسم الحج واعد النبي أهل العقبة الثانية منتصف الليل لئلا تراهم قريش أو المشركون من أهل المدينة ممن خرجوا معهم إلى الموسم، وصحب النبيَّ عمُّه العباس بن عبد المطلب، وفي الخلاء بعيداً عن الأعين ومراقبة قريش دار الحوار الآتي:
" قال العباس لمن حضر البيعة الثانية: إن محمداً منا حيث علمتم ؛ وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا ؛ وهو في عز من قومه ومنعة في بلده ؛ وإنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم ؛ فإن كنتم ترون أنكم وافون لـه بما دعوتموه إليه ؛ ومانعوه ممن خالفه ؛ فأنتم وما تحملتم من ذلك ؛ وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم ؛ فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعةٍ من قومه وبلده.
قالوا: قد سمعنا ما قلت ؛ فتكلم يا رسول الله ؛ وخذ لنفسك وربك ما أحببت.
فتكلم رسول الله ، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغّب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.
قال: فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: والذي بعثك بالحق، لنمعنّك مما نمنع منه أُزُرَنا، فبايعْنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحرب وأهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر.
قال: فاعترض القول - والبراء يكلم رسول الله - أبو الهيثم بن التيهان حليف بني عبد الأشهل، فقال: يا رسول الله ؛ إن بيننا وبين الناس حبالاً، وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟!
قال: فتبسم رسول الله ، ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم ! ( ) أنتم مني وأنا منكم ؛ أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم " ( ).
لا شك أن هذا الحوار المبارك كان ذا آثار خطيرة ومباشرة في توجيه حركة الدعوة الإسلامية كلها، إنها عما قريب ستنتقل إلى المدينة التي أسلم كثير من أهلها وصارت للإسلام فيها قاعدة عريضة من الأتباع قادرة على حماية الدعوة، وقادرة على تنظيم صفوف أول جماعة مسلمة بقيادة النبي وهي اللبنة لأولى لبناء الدولة المسلمة.
وفي هذا الحوار نلاحظ الحقائق الآتية:
1- حكمة النبي في مواعدة المسلمين سراً وليلاً لئلا تراهم قريش أو أقاربهم من مشركي يثرب الذين حضروا معهم، وبهذا نتعلم أن الوعد بالنصر الإلهي يتطلب القيام بالأسباب وبذل الوسع فيها، ولا يكفي أن يعتمد المسلم على وعد الله تعالى له بالنصر دون التماس الأسباب ما استطاع، هذا المفهوم واضح من القرآن الكريم والسنة النبوية , ولهذا قال الله تعالى لمريم وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً (مريم:25) وهو سبحانه قادر على إنزال الرطب إليها دون هزَ النخلة وهي المجهدة من آلام المخاض والوضـع، ولكن لابد للمسلم من التماس الأسباب أولاً.
2- أن النبي اصطحب عمه العباس رغم أنه لم يكن أسلم حتى ذلك اليوم، ولكن روابط الدم عند العرب كانت قوية، وكانت للعباس مكانة في قريش وعند أهل يثرب كذلك، وفي ذلك تقوية لمركز النبي التفاوضي، رغم أنه يفاوض مسلمين، لكن الشيطان يجري من ابن آدم... ففي حضور العباس إيحاء بأن آل عبد المطلب غير تاركي ولدهم إلا لأيد أمينة صادقة قادرة على حمايته.
وقد تكلم العباس أولاً فأحسن عرض القضية واستوثق لابن أخيه من القوم، وفي تقديم النبي عمَّه للحديث والمفاوضة إجلالٌ للكبير وتأدبٌ معه، رغم المخالفة آنذاك، ولكن سياق الموقف والحال يستدعي ذلك، وهذا من الفقه النبوي الدقيق.
3- وافق أهل البيعة على ما قال العباس، وندبوا النبي للكلام ليشترط لنفسه ما شاء، فتكلم النبي وتلا القرآن.. ثم بايعهم.
4- انبرى أهل البيعة بحماس شديد يعطون النبي ما شاء من العهود والمواثيق، كما قال البراء بن معرور رضي الله عنه.
5- أراد أهل البيعة أن يستوثقوا لأنفسهم في مستقبل الأيام حين يظهر النبي ويشتد أمره، وهذا ما جاء في كلام أبي الهيثم بن التيهان رضي الله عنه، حيث عرض مسألة شائكة، وهي أن اليهود في المدينة سيكونون أعداء للجماعة الجديدة، وأن ذلك سيؤدي إلى قطـع علاقات المسلمين مـع اليهود، وهنا يأتي الرد النبوي المبارك الذي يستشرف آفاق الغيب وينطق عنه بإذن الله، قال النبي :" بل الدم الدم، والهدم الهدم ! أنتم مني وأنا منكم ؛ أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم ".
6- كان هذا الحوار المبارك فاتحة الخير للإسلام والمسلمين، حيث أمر النبي أصحابه بالهجرة سراً إلى يثرب، وأصبحت شوارع مكة وديارها تشهد كل يوم تناقصاً في أعداد المسلمين على حين غفلة من قريش... بعد ذلك أذن الله لرسوله في الهجرة المباركة إلى يثرب - المدينة بعد ذلك - ليجد هنالك جموعاً تتحرق شوقاً إلى لقائه، وهنا تبدأ رحلة الدولة المسلمة.
12- حوار تثبيت المسلمين المستضعفين:
كان أذى قريش يشتد بالمسلمين كل يوم، ويلقون من ضروب العنت والمشقة ألواناً، وكان من الطبيعيّ مع ذلك أن يشكو بعضهم لرسول الله شيئاً من ذلك كما حدث مع عمار بن ياسر فأنزل الله فيه مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (النحل:106) ( ).
وممن اشتكوا لرسول الله ذلك الأذى خَبَّابُِ بْنُِ الأَرَتِّ رضي الله عنه، قَالَ:" شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا لَهُ: أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا ! أَلا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا ! قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ " ( ).
إن خبّاباً رضي الله عنه يشكو لرسول الله شدة أذى قريش للمسلمين، فيحاوره هذا الحوار الجميل الذي يبث فيه عزيمة الصبر والثبات في نفس المؤمن ويبيّن وجوب التأسي بالصالحين من السابقين، ثم ذكر ذلك الوعد العظيم بانتصار الإسلام بعد ذلك كله.
هذه مجموعة من حوارات النبي في مكة أردنا بها التمثيل فحسب لا الحصر، لنرى من ذلك كله أن الحوار كان - ولا يزال - من أنجع الطرق وأفضلها في الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة، وأن الرفق بالناس يُثمر ما لا يثمر العنف والغلظة، ولقد مرت تلك السنون العشر من عمر الدعوة في مكة فلم نعرف فيها أن النبي لعن أو سب أو ضرب أو قتل أو قاتل أو أمر بشيء من ذلك كله، ورغم الأذى الهائل الذي لقيه وأصحابه فقد كان يعفو عن فاعليه ويصفح، كما في الحديث عن عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ :" هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِـبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الأخْشَبَيْنِ !! فَقَالَ النَّبِيُّ : بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً !! " ( ).
مرة واحدة دعا فيها النبي على بعض مستكبري قريش الذين بلغ بهم الحقد والعداء مبلغه كما في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض: أَيُّكُمْ يَجِيءُ بِسَلَى جَزُورِ بَنِي فُلانٍ فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَجَاءَ بِهِ فَنَظَرَ حَتَّى سَجَدَ النَّبِيُّ وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَأَنَا أَنْظُرُ لا أُغْنِي شَيْئاً لَوْ كَانَ لِي مَنَعَةٌ، قَالَ: فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَرَسُولُ اللَّهِ سَاجِدٌ لا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ فَطَرَحَتْ عَنْ ظَهْرِهِ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ ! ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ، قَالَ: وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ مُسْتَجَابَةٌ، ثُمَّ سَمَّى: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَـلَفٍ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَعَدَّ السَّابِعَ فَلَمْ يَحْفَظْ، قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَرْعَى فِي الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْر " ( ٍ).
وفي ختام هذه المرحلة يهاجر النبي وصحبه إلى المدينة لتنشأ دولة ذات سلطان، ولتكون القوة الحامية للحوار والبديلة عنه إذا لم يجد نفعاً.
الفصل الخامس الحوار النبويّ مع المسلمين في المدينة
إن طرق البلاغ النبوي للرسالة عن الله عز وجل كانت متنوعة، فالقرآن ينزل بالآيات فيبلغها النبي ويعمل بها ليكون الأسوة الحسنة للناس في العمل بالقرآن وبيان أحكامه عملياً في واقع الحياة، وذلك البيان النبوي للقرآن هو ما اصطُلح عليه باسم السنة النبوية، وهي كل ما قاله النبي أو فعله أو أقرّ أحداً من صحابته على قوله أو فعله، قال الله تعالى وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (النحل: 44).
والسنة القولية المروية تأتي على أحوال متعددة كذلك، فمنها السردي دون سؤال أو حوار، بل يقوله النبي ابتداء كالخطب وبعض المواعظ والأوامر والنواهي، ومنها الحواري الذي يكون عن سؤال من النبي لأصحابه أو العكس، أو حوار للمشورة وإبداء الرأي في مسألة ما، وحديثنا هنا هو حول هذه السنة الحوارية، لبيان كيف اتخذ النبي من الحوار وسيلة فعّالة للدعوة والتعليم والوعظ والمشورة وتنظيم أمور المجتمع المسلم، وذلك في مجال الحوار مع المسلمين، وسوف نستعين ببعض ما في السنة غير الحوارية من آداب وأخلاق يُستعان بها في المحاورة.
وقد تعددت حوارات النبي مع المسلمين وتنوعت بقدر تعدد الموضوعات التي دارت حولها وتنوعها، بحيث شملت كل أمور الدعوة والحياة المسلمة، ولغرض الدراسة يمكن أن تُعدد أمهات المسائل التي دار حولها الحوار النبوي مع المسلمين في المدينة على النحو الآتي:
1- حوارات التعليم وتنظيم المجتمع المسلم.
2- حوارات الموعظة.
3- القصص الحواري.
4- حوارات الشورى.
5 – حوارات العفو عن المخطئين من المسلمين.
6- الحوار مع المنافقين في المدينة.
7- حوارات الحياة الآخرة.
ولعلي أشير هنا إلى أن كتب السنة يتكون معظمها من هذا القسم من السنة النبوية الخاص بتنظيم المجتمع المسلم وفق معالم الشريعة، ومنه السنة الحوارية، ذلك أن اهتمام الصحابة الأول كان منصباً على رواية السنة العملية بقسميها القولي والفعلي لتتبينَ معالمُ الشريعة الإسلامية، ولهذا سنكتفي بالقليل من تلك الشواهد الحديثية بمقدار ما يستبين أمرُ الاهتمام بأسلوب المحاورة في منهج النبي التعليميّ والتربويّ والدعويّ.
وسأذكر هنا بعضاً من ذلك بإيجاز، ثم أتبعه بما يكون من تفسير أو تعليل يناسب موضوع الدراسة.
1- حوارات التعليم وتنظيم المجتمع المسلم:
كانت دعوة النبي إلى الله تسير في خطين متوازيين ثابتين:
الأول: دعوة غير المسلمين إلى الإسلام.
الثاني: تعليم المسلمين أمور دينهم، وتنظيم حياة المجتمع المسلم وفق التعاليم الشرعية التي تدّرج القرآن والنبي في فرضها وتعليمها ليلائم ذلك طبيعة الخلق في الإنسان الذي يصعب عليه تركُ ما ألف وتعوّد إلا بعـد مجاهدة وتصبّر.
وكان ذلك التعليم والتنظيم يأتيان في إطار أوسع هو إطار إنشاء الدولة الإسلامية بالمدينة، حيث " بدأ الرسول منذ دخوله المدينة يسعى إلى إنجاز المهام الملقاة على عاتقه في مطلع المرحلة الجديدة من الدعوة التي تستهدف إنشاء الدولة الإسلامية على أسس راسخة وتهيئة كافة الشروط والمتطلبات لتحقيق هذا الهدف.." ( ) ولا شك أن تعليم المسلمين أمور دينهم وتنظيم حياة المجتمع المسلم على أسس الإسلام عقيدةً وشريعةً كان على رأس المهام التي حققها النبي في المدينة.
ومن حوارات التعليم وتنظيم المجتمع المسلم - وهي كثيرة جداً في دواوين السنة - نختار ما يأتي:
أ - حوار جبريل مع النبي :
إن جبريل عليه السلام كان المبلغ عن رب العزة سبحانه، وقد علّم النبيَّ كيفية الصلاة حين فرضها الله تعالى فأمّه جبريل في الصلاة وبيّن له كيف يصلي، وفي الحديث الآتي ينزل جبريل في صورة بشر يحاور النبي عن أمور الإسلام ليعلّم المسلمين أمور دينهم من خلال هذا الحوار المبارك مع رسول الله .
عن عُمَرَ بْن الْخَطَّابِ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِـذَيْهِ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي عَـنِ الإسْلامِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : الإِسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً.
قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ.
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإيمَانِ.
قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ.
قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ.
قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ.
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ.
قَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ.
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا.
قَالَ: أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ.
قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيّاً، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا عُـمَرُ، أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ : فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ " ( ).
وهذا الحوار يعتمد على السؤال والجواب، وهو من الأساليب الشائعة في عملية التعلم كما ذكرنا من قبل، ذلك أن فيه شداً للانتباه وإثارة للذهن وتوقعاً للجواب.. مما يسهّل عملية التلقي والتعلم، وكانت المفاجأة بعد انتهاء الحوار أن أحد طرفيه كان جبريل عليه السلام.
وقد انتهج جبريل عليه السلام أسلوب الحوار مع النبي لأنه أوقعُ في النفوس وأكثر شدّاً للانتباه، وكشف الحوار المبارك عن أصول الإسلام من العقيدة والعبادة وبعض علامات الساعة، مما يحتاج المسلم إلى معرفته والعمل به، وفيه من أدب الحوار أن يصدّق المحاورُ محاورَه ويثني عليه إذا صدق وأحسن، وفي ذلك تعميق لأواصر الألفة والمحبة بين الناس.
ب - حوار حول بعض فرائض الإسلام:
عن أَنَسِ قال: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ فِي الْمَسْجِدِ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ وَالنَّبِيُّ مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَقُلْنَا: هَذَا الرَّجُلُ الأبْيَضُ الْمُتَّكِئُ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ : قَدْ أَجَبْتُكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّبِيِّ : إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَلا تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ، فَقَالَ: سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ، فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ، آللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنْ السَّنَةِ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ : اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَقَالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي، وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ..ِ " ( ).
كان بعض العرب ممن أسلم يريد التثبت من حقيقة الإسلام بنفسه ليكون على بينة من أمره، ولهذا كثرت الهجرة والوفود إلى المدينة خاصة في السنوات الأخيرة من حياة النبي للتثبت والمبايعة والتعلم المباشر من رسول الله ، وفي هذا الحوار نجد ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه يسأل عن أمور الإسلام، وفي الحديث فوائد كثيرة لا يتسع المقام لسردها، لكنا نذكر بعضاً من آداب الحوار فيه، حيث نادى ضمامٌ رسولَ الله بقوله: يا بن عبد المطلب، وقد كان مشهوراً بينهم بذلك لموت أبيه وهو صغير وكفالة جده له، ولمكانة جده في العرب، وفيه ابتداء ضمام بأن أخذ لنفسه أماناً من النبي لتشدده في السؤال، وقد أجابه النبي إلى ما أراد، وهو من سعة حلمه وصبره على الناس، وفيه تثبت الرجل باستعمال أساليب التوكيد المتعددة في كلامه ليتأكد من صحة الأمر... وفيه إفصاح ضمام عن نفسه بعد أن سأل، وذلك من فقهه رضي الله عنه، إذ إنه قدم لأمر خطير ؛ ولذا أخّر التعريف بنفسه، ولم ينسَ قومه أن يذكرهم عند رسول الله .
ج - حوار وفد عبد القيس:
عن ابن عباس قَالَ:" إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوْا النَّبِيَّ َ قَالَ: مَنْ الْقَوْمُ أَوْ مَنْ الْوَفْدُ؟ قَالُوا: رَبِيعَةُ، قَالَ: مَرْحَباً بِالْقَوْمِ أَوْ بِالْوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا وَلا نَدَامَى.
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكَ إِلا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا وَنَدْخُلْ بِهِ الْجَنَّةَ، وَسَأَلُوهُ عَنْ الأشْرِبَةِ، فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ أَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الإيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصِيَامُ رَمَضَانَ وَأَنْ تُعْطُوا مِنْ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ الْحَنْتَمِ وَالدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ - وَرُبَّمَا قَالَ: الْمُقَيَّرِ - وَقَـالَ: احْفَظُوهُنَّ وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ " ( ).
هؤلاء الكرام جاءوا مسترشدين، فسألوا النبي عن أمور دينهم فأجابهم بلفظ موجز جامع، ونلاحظ هنا أن النبي أدخل مفهوم الإسلام الذي ذكره في حديث جبريل ضمن مفهوم الإيمان، وذلك ليعلم الناس أنهما متلازمان، ثم نهاهم عن الخمر بالنهي عن الانتباذ في الآنية التي يخمّرون فيها شرابهم.
ونلاحظ من أدب الحوار النبوي في هذا الحديث ترحيبه بهم وإخباره عنهم بأنهم غير خزايا ولا ندامى.. وهو من كمال رحمته ورفقه بالمسلمين وحسن استقبال الغرباء ومجالستهم والاستماع إليهم ووعظهم... ومن أدب الحوار كذلك سؤالهم عن أمهات المسائل التي تنفعهم في دينهم، وذلك في قولهم:" فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا وَنَدْخُلْ بِهِ الْجَنَّةَ ".
د - حوار أعرابي يريد أن يتعلّم:
عن أبي أَيُّوبَ أَنَّ أَعْرَابِيّاً عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ وَهُوَ فِي سَفَرٍ فَأَخَذَ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ أَوْ بِزِمَامِهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي بِمَا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ وَمَا يُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ.
قَالَ: فَكَفَّ النَّبِيُّ ثُمَّ نَظَرَ فِي أَصْحَابِهِ ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ وُفِّقَ أَوْ لَقَدْ هُدِيَ، قَالَ: كَيْفَ قُلْتَ؟ قَالَ: فَأَعَادَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ : تَعْبُدُ اللَّهَ لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ، دَعِ النَّاقَةَ " ( ).
إن النبي كان رفيقاً رحيماً، يستوي عنده الناس في المعاملة، فكما جالس الملوك والأمراء ودعاهم ووعظهم، جالس عامة الناس رجالاً ونساءً وحاورهم ودعاهم بالحسنى، وهذه واقعة من وقائع كثيرة تدل على ذلك، فالنبي كان في سفر، والمسافر يشغله سفره عن أمور كثيرة، ولكن النبي لا يشغله سفره عن الدعوة إلى الله، ولذا مدح الأعرابي الذي سأله ذلك السؤال الجامع وهو على ناقته بقوله:" لَقَدْ وُفِّقَ أَوْ لَقَدْ هُدِيَ " بل زاد على ذلك أن استعاده السؤالَ ثانيةً ليسمع أصحابه ويتعلم الناس، ثم وعظه بجوامع الخير من العبادة وصلة الرحم.
هـ - حوار عن الفقه النبوي في العطاء:
يأمر القرآن المسلمين بالتدبر والتفقه ويمدح أهل العلم والفقه والتفكر في آيات كثيرة، وذلك يعني إعمال الفكر في أمور الشرع للوقوف على أسرارها وفضائلها وبركاتها ليكون أدعى إلى زيادة الإيمان، ومن الأمور المعلومة في الشرع الإسلامي كراهية تزكية المسلم القولية لنفسه أو لغيره بالمبالغة في التزكية والمدح فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (النجم:32).
أما تزكية النفس بعمل الصالحات فهو محبوب مندوب إليه، ويتضح ذلك من الحوار الآتي، فعن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَى رَهْطاً وَسَعْدٌ جَالِسٌ، فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ رَجُلاً هُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلانٍ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لأرَاهُ مُؤْمِناً، فَقَالَ: أَوْ مُسْلِماً، فَسَكَتُّ قَلِيلاً، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُـلانٍ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لأرَاهُ مُؤْمِناً، فَقَالَ: أَوْ مُسْلِماً، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي وَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ يَا سَعْدُ، إِنِّي لأعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ " ( ).
وفي هذا الحديث من أدب الحوار وفقهه أن النبي صبر على مراجعة سعد له وتكراره مقولته، وأنه أعاد الجواب نفسه ليعلم سعداً والمسلمين في مسألة التزكية المباشرة، لأن مرتبة الإيمان أعلى من مرتبة الإسلام، ففي كلام سعد لون من التزكية للرجل وهو جالس معهم... قال ابن حجر:" المعنى أن إطلاق المسلم على من لم يختبر حاله الخبرة الباطنة أولي من إطلاق المؤمن لأن الإسلام معلوم بحكم الظاهر " ( ) ثم كانت الثمرة المباركة من الحوار أن النبي يؤلف القلوب ببعض المال مخافة أن يرجع المؤلفة قلوبهم عن دينهم أو يفتنوا، وهو فقه مبارك تحتاج الأمة اليوم إلى العمل به.
و - حوار عن موعد الساعة:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:" بَيْنَمَا النَّبِيُّ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنْ السَّاعَةِ؟ قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: إِذَا وُسِّدَ الأمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ " ( ).
في هذا الحديث من أدب الحوار أن السائل ينبغي له الانتظار حتى يفرغ المتحدث من كلامه لئلا يقطع عليه تسلسل أفكاره وترابطها، وفيه كذلك اعتناء النبي بمسألة السائل وعدم إهمالها، وسؤاله عن الرجل وإجابته إياه بعد ذلك بهذه العلامة من علامات الساعة، وفيها تحذير من إسناد الأمر إلى غير أهله، وقد صار هذا الأمر من أخطر المشكلات الداخلية للعالم الإسلامي المعاصر في كثير من المجالات !
ز - حوار حول شجرة مثلها كمثل المؤمن:
لم تكن أحاديث النبي وحواراته مع المسلمين تقتصر على الوعظ والتعليم المباشرين، بل كان يعلمهم بطرق شتى أولها الأسوة الحسنة في قوله وفعله واتّباعه ما أنزل الله، وكان يضرب لهم الأمثال التي لا يعقلها إلا العالِمون، ومنها هذا المثل المبارك للمسلم:
عَنْ عبد الله بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ :" إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ؟ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَاسْتَحْيَيْتُ، ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ " ( ).
في هذا المثل الحواري يعلّم الرسول المسلمين حقيقة جميلة وهي مَثَل المسلم وكونه مثل النخلة التي لا يسقط ورقها بل هي دائمة الخضرة وخيرها مرجو كل حين من ثمارها وجريدها وظلها... وهكذا المسلم الحق يرجى خيره في كل عمل وحين، والنبي يستعمل لذلك أسلوب السؤال والجواب ليحرك العقول.
2- حوارات الموعظة:
الوعظ أسلوب تربوي يهدف إلى ترقيق القلوب وتهذيب النفوس للمسلم فإذا كان للكافر فهو لدعوته إلى الإسلام وتذكيره بالثواب والعقاب، والنبي كان يعظ أصحابه ويذكّرهم، ولكنه لم يكن يكثر عليهم أو يطيل الموعظة كما قال ابن مسعود:" كَانَ النَّبِيُّ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأَيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا " ( ) وسنختار هنا حوار موعظته للنساء.
- حوار موعظة النساء:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ فِي أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ ؛ فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ، فَقُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ، قُلْنَ: وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟ قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا، أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟ قُلـْنَ: بَلَى، قَالَ: فَذَلِـكِ مِنْ نُقْصَـانِ دِينِهَا " ( ).
في هذا الحوار المبارك بين رسول الله ونساء المؤمنين فوائد جليلة، نذكر منها ما يخص أدب الحوار وفقهه، حيث ناداهنّ النبي وأمرهن بالصدقة إكراماً لهن، وحذرهن من النار وذكر لهن سبب ذلك حين سألنه، والنقصان الذي ذكره النبي ليس تنقّصاً من شأن النساء، بل هو أمر يتعلق بطبيعة خلقهن الذي فطرهن الله تعالى عليه كما هو معلوم... وفي هذا رد على الذين أساءوا فهم هذه النصوص، بل أساءوا فهم موقف الإسلام من النساء عامة، والواقع أنه لا تُعرف حضارة أنصفت النساء وحفظت لهن حقوقهن كما فعلت حضارة الإسلام، ولكن بعض المسلمين أحياناً يسيء فهم الدين أو حتى عرضه على الآخرين...
3- القصص الحواري:
في السنة النبوية كثير من قصص الأولين من صالحي المسلمين، وأمة الإسلام واحدة على مر الزمان، والدين عند الله واحد هو الإسلام.. فقصص الصالحين في القرآن والسنة فيها بيان لعقيدة الإسلام وأخلاقه وآدابه الممتدة عبر التاريخ، ومن ذلك القصص المبارك قصة الملك والساحر والغلام، ففي صحيح مسلم عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلاماً أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلاماً يُعَلِّمُهُ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلامَهُ فَأَعْجَبَهُ، فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتْ النَّاسَ فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمْ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟ فَأَخَذَ حَجَراً فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ، فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ، أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي، قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنْ ابْتُلِيتَ فَلا تَدُلَّ عَلَيَّ.
وَكَانَ الْغُلامُ يُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأدْوَاءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ: مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي، فَقَالَ: إِنِّي لا أَشْفِي أَحَداً، إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ، فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ، فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ، فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلامِ، فَجِيءَ بِالْغُلامِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَيْ بُنَيَّ، قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ؟ فَقَالَ: إِنِّي لا أَشْفِي أَحَداً إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ: عَنْ دِينِكَ فَأَبَى، فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ: لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلامِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَـالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلا فَاطْرَحُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَرَجَفَ بِهِمْ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلا فَاقْذِفُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَانْكَفَأَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ.
فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْماً مِنْ كِنَانَتِي ثُمَّ ضَعْ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلامِ ثُمَّ ارْمِنِي فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْماً مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلامِ ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلامِ، فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ؟ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ، فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ، وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ فَفَعَلُوا، حَتَّى جَاءَتْ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا فَقَالَ لَهَا الْغُلامِ: يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ " ( ).
في هذا الحديث المبارك عدة حوارات ينبئ كل منها عن عقيدة صاحبه ومبادئه وأفكاره، من الملك الخائف على ملكه المستعين بالساحر المؤيد لمَلِكه في استمرار كفره وظلمه، والراهب الصالح المنقطع إلى عبادة الله، والغلام ذي الفطرة الخالصة النقية، وجليس الملك الذي آمن بالله فشفاه وجعل الغلام سبباً في ذلك.. وأخيراً حوار الصبي مع أمه حين تقاعست عن دخول نار الأخدود.. وهو من المعجزات الظاهرة..
وفي السنة العديد من مثل هذا القصص الذي يتخذ الحوار أسلوباً له، لأن أسلوب الحوار يساعد على تشخيص الأفكار وإخراجها في صورة حية متحركة على لسان المشاركين في الحوار.
إن ذلك كله مما يشد أزر المسلم في دينه ويؤهله للصبر على الأذى في سبيل الله ولو كان القتل حرقاً بالنار، وقد خلّد الله تعالى ذكر هؤلاء في سورة البروج.
4- حوارات الشورى:
أمر الله تعالى نبيه بالمشاورة، وكانت سنة خلفائه وأصحابه من بعده رضوان الله عليهم، وقد ضرب النبي أحسن الأمثلة في التشاور مـع أصحابه، فكـان يستشيرهم فيما لم ينزل عليه فيه وحي من الله تعالى كما استشارهم في غزوة بدر والأسرى فيها، وكذا غزوة أحد وصلح الحديبية وغير ذلك، وقد عرفنا أن الشورى ضرب من الحوار الهادئ الفعال تُتداول فيه الآراء وتُمحص للوصول إلى الحقيقة والقرار الصائب، وسنكتفي بمثالين لذلك من غزوتي بدر والأحزاب.
أ - الشورى في غزوة بدر:
من مشاورات النبي لأصحابه في غزوة بدر نورد هنا بعضها من تاريخ الطبري حيث يروي عن ابن إسحاق:" وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار النبي الناس، وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال فأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال فأحسن، ثم قـام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أمرك الله فنحن معك ؛ والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (المائدة:24) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد - يعني مدينة الحبشة – لجالـدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال لـه رسول الله خيراً ودعا له بخير " ( ).
قلت: أما أبو بكر وعمر والمقداد فهم من المهاجرين، وموقف المهاجرين من أهل مكة معروف... ولكن الرسول إنما يريد رأي الأنصار، فهو الذي يقرر مصير المعركة، ذلك أن الأنصار حينما بايعوا النبي بيعة العقبة شرطوا له أن يحموه وأصحابه ما داموا داخل المدينة، أما الحرب خارجها فلم تكن من شروط تلك البيعة.
بعد أن تكلم أولئك الكرام الذين ذكرنا، قال رسول الله ثانيةً: أشيروا عليَّ أيها الناسُ، فقام سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فقال: والله لكأنك تريدنا يا رسولَ الله ! قال : أجلْ.
قال سعد: فقد آمنا بك وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامضِ يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق، إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لَصُبُرٌ عند الحرب، صُدُقٌ عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقرُّ به عينك فسرْ بنا على بركة الله.
فقال : سيروا على بركة الله، وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم ! ( ).
في هذا الحوار يكشف النبي عن سنة الشورى مع أصحابه، فهم سيخرجون إلى القتال، ولا بد أن يكونوا مستعدين لذلك، وقد اجتذب أهل المدينة إلى ذلك بأسلوبه الرقيق " أشيروا عليّ أيها الناس " وهـذا ما جـعل سعد بن معاذ رضي الله عنه يفطن إلى أنه يريد الأنصار خاصة في هذا الموقف، فكان جوابه البليغ المعبر الذي على إثره خرج المسلمون مهاجرين وأنصاراً إلى المعركة، ما عدا نفراً قليلاً تخلفوا لأن الخروج لم يكن عزيمة ولا كان القتال متوقعاً.
وفي مرحلة الاستعداد للمعركة نزل المسلمون منزلاً استعداداً للمعركة، ولكن أحد الجنود المخلصين رأى بخبرته العسكرية أن هناك ما هو أفضل من ذلك، ولم يكن النبي يحجر على أحد رأيه أو مشورته لصالح المسلمين، ففي تاريخ الطبري " أن الحباب بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنـزلٌ أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخره، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟
قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة.
فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس لك بمنـزل، انهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نُعوِّر ما سواه من القُلُب، ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون.
فقال رسول الله : لقد أشرت بالرأي، فنهض رسول الله ومن معه من الناس، فسار حتى أتى أدنى ماء من القوم ؛ فنزل عليه، ثم أمر بالقُلب فعُوّرت، وبنى حوضاً على القليب الذي نزل عليه فمُلىء ماء، ثم قذفوا فيه الآنية " ( ).
في هذا الموقف يكشف النبي عن خلق عالٍ من تقبل النصح والمشورة من أتباعه المخلصين، وهو يترك للمواهب الفردية أن تبرز وتتفاعل لتصب في نهر الحركة الإسلامية الفاعلة، وليس كما يفعل كثير من القادة حين ينفردون بالرأي ويحجرون على الأتباع ويحتكرون الساحة القيادية والإعلامية، فتموت المواهب وتندثر الأفكار التي تغشّي عليها دعاية السلطة ووهجها، وبذلك يخسر المسلمون الكثير جراء إهدار مبدأ الشورى والحوار الفعّال.
ب - الشورى في غزوة الأحزاب:
في شوال من السنة الخامسة للهجرة اجتمعت الأحزاب: قريش بقيادة أبي سفيان، وغطفان بقيادة عُيَينة بن حِصْن الفَزَاري، اجتمعوا لحرب المسلمين، وذلك بإيعاز من سلام بن أبي الحُقَيْق وحُيَيّ بن أخطب اليهوديين وجماعة آخرين من يهود، خرجوا حتى قدموا على قريش فدعوهم إلى حرب رسول الله والمسلمين، وقالوا: إنا سنكون معكم حتى نستأصلهم... فقالت قريش: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول والعلمِ بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أَفدينُنا خيرٌ أم دينه؟
قال أولئك النفر من يهود: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحـق منه !! فأنزل الله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (النساء:51) ( ).
على أثر زيارة يهود هذه اجتمع أولئك الذين ذكرنا لحرب المسلمين، فخندق رسولُ الله حول المدينة خندقاً بمشورة سلمان الفارسي رضي الله عنه، فحاصرتها الأحزاب قريباً من عشرين ليلةً، واشتد البلاء بالمسلمين، حتى إن رسول الله أرسل إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف المُرِّي قائدي غطفان يصالحهما على إعطائهما ثلثَ ثمار المدينة شريطة أن يرجعوا بمن معهم إلى ديارهم بغير حرب ويتركوا قريشاً وحدها... وأرسل النبي إلى سيدي الأنصار: سعد بن عبادة وسعد بن معاذ يستشيرهما في الأمر، فقالا: يا رسول الله، أهذا أمر تحبه فنصنعه، أم شيء أمرك الله عز وجل به، لا بدّ لنا من عمل بـه؟ أم شيء تصنعه لنا؟
قال رسول الله : لا بل لكم... فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله عز وجل وعبادة الأوثان، ولا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منا تمرةً إلا قِرَى الضيف أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا؟ لا حاجة لنا بهذا، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم ! فتهلل وجهُ رسول الله وقال: فأنت وذاك ! ( ).
ومع أن الأمر في السنة الخامسة كان قد استقر للمسلمين في المدينة وانصهر المهاجرون والأنصار في بوتقة الإسلام إخوةً متحابين، فإن الرسول لم ينسَ قط للأنصار فضلهم ومكانتهم، ولم يترك مشورة كبارهم في الأمور الكبيرة كالقتال، ولهذا استشار السعدين رضي الله عنهما في أمر مصالحة بعض القبائل على جزء من ثمار المدينة، ليخذّلهم عن قريش، وهنا تستوقفنا حصافة رأي سعد بن معاذ رضي الله عنه، إذ استفهم عن ذلك الرأي: أهو من الشرع فلا يجتهد معه، أم هو جهد النبي الشخصي أخذاً بالأسباب فتجوز مراجعته، فلما عرف أنه جهد النبي كان منه ذلك الموقف القوي الذي سُرّ به النبي .
تلكم سنة النبي وأخلاقه المباركة، فمع أنه النبيُّ الموحى إليه المؤيد بوحي الله وعونه، فهو يستشير أصحابه ممن لهم الرأي والمكانة، ليعلّم المسلمين ضمناً أن هذا هو أفضل السبل للحياة الناجحة القائمة على الحوار والشورى، وإن غياب ذلك الحوار عن كثير من ساحات التعامل بين المسلمين اليوم في كل المستويات لهو سبب أساس لكثير من مشكلات المسلمين التي يمكن حلها أو التفاهم حولها إذا فعّل المسلمون مبادئ الحوار والشورى كما أمرهم الله وكما فعل نبيهم .
5 – حوارات العفو عن المخطئين من المسلمين.
إن الإنسان في الإسلام لا يتحول بخطيئته إلى شيطان يستحق اللعن والطرد كما يُعامل في كثير من الحضارات الأخرى، بل هو بشر خطاء توّاب رجّاع إلى ربه لا تنقطع صلته بربه مهما ارتكب من ذنوب، ولا يُطرد من رحمته إلا إذا مات على الكفر.
وفيما يأتي موقفان للعفو - مما ليس فيه حدٌّ شرعيٌّ - عن المخطئين من المسلمين، ومواقف العفو كثيرة في سيرة النبيّ .
أ- حوار العفو عن حاطب بن أبي بلتعة:
كان حاطب بن أبي بلتعة من أهل بدر ذوي المكانة الكبيرة بين المسلمين، ولكنه وقع في خطأ كبير هدد أمن المسلمين وهم في طريقهم لفتح مكة المكرمة في العام الثامن للهجرة، حيث حاول إخبار قريش بتوجه المسلمين إليهم، والرجل بشرٌ ليس معصوماً من الخطأ، والأخطاء تقدّر بقدرها، جاء في الحديث عن عليّ رضي الله عنه قال:" بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ فَقَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوا مِنْهَا، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، قُلْنَا لَهَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ، قَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، قَالَ: فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ فَإِذَا فِيه ِ" مـِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمـْرِ رَسُولِ اللَّهِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : يَا حَاطِبُ، مَا هَذَا؟
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لا تَعْجَلْ عَلَيَّ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ - يَقُولُ كُنْتُ حَلِيفاً - وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَداً يَحْمُونَ قَرَابَتِي، وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَاداً عَنْ دِينِي وَلا رِضا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإسْلامِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ.
فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ !
فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْراً، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى مَنْ شَهِدَ بَدْراً فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ السُّورَةَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (أول سورة الممتحنة) ( ).
لقد أظهر الحوار عن مكنون نفس الرجل، ولو عوقب قبل ذلك لهلك، ولكنه أظهر في حوار النبي حقيقة موقفه، وشهد له النبي بالصدق، ومع أنه خطأ جسيم غير متوقع من رجل في مثل هذه المكانة فإن الإسلام دين الرحمة والعفو، وللرجل سابقات في فعل الخير منها مشاركته في غزوة بدر، لهذا كله عفا عنه النبي .
لقد أخطأ الرجل، وكان يستحق العقوبة، ولكن عفو النبي - بعد إذن الله عز وجل - كان درساً بليغاً لكل القادة.
ب - حوار النبي مع وحشي قاتل حمزة:
كان حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه مقاتلاً وفارساً شديد البأس، وقتل عدداً من رجالات قريش يوم بدر، فدبرت له هند امرأة أبي سفيان مكيدة خبيثة، حيث وعدت عبداً حبشياً لها الحريةَ إن قتل حمزة، وكان وحشيٌ هذا معروفاً بدقة التصويب بالحربة، فقصد لحمزة يوم أحد فقتله.. وحزن عليه النبي حزناً شديداً.. ثم أسلم وحشي بعد ذلك، وها هو يقصُّ لقاءه بعد ذلك برسول الله ، قال:" بعد ذلك قدمتُ على رسول الله المدينة، فلم يرعْه إلا بي قائماً على رأسه أتشهّدُ بشهادة الحق ؛ فلما رآني قال: أوحشيٌ؟ قلت: نعم يا رسولَ الله، قال: اقعد فحدثني كيف قتلت حمزة، قال: فحدثته.. فلما فرغت من حديثي، قال: ويحَك ! غيّبْ عني وجهَك فلا أَرَينَّك، قال: فكنت أتنكّبُ رسولَ الله حيث كان لئلا يراني، حتى قبضه الله " ( ) وفي روية للبخاري قال وحشي:" قدمت على رسول الله فلما رآني قال: آنت وحشيٌّ؟ قلت: نعم، قال: أنت قتلتَ حمزةَ؟ قلـتُ: قد كـان من الأمر ما بلغك، قـال: فهل تستطيعُ أنْ تغيّبَ وجـهَك عني؟ " ( ).
لو كان وحشي هذا عند أحد غير النبي أكان لقي مثل تلك المعاملة الحسنة؟ لقد عفا عنه، وقبل منه إسلامه، ومن ذا يردّ رجلاً جاء مسلماً نادماً؟ ولكن النبي بشر من البشر، يفرح ويحزن ويغضب... لقد حزن لفقد عمه الفارس الشجاع، ولهذا لا يريد أن يرى قاتله يذهب ويجيء أمام عينيه يذكّره بعمه وبجريمة هند حين مثلّت به فشقت بطنه وأخذت قطعة من كبده فلاكتها بفمها ثم لفظتها !! وقد كشف الحوار عن خلق العفو الجميل من أخلاق النبي محمد .
6- الحوار مع المنافقين في المدينة.
لم يكن العرب قبل الإسلام يعرفون ظاهرة النفاق بشكل واسع كالذي عرفناه عنها في المدينة إبّان عصر النبوة، ذلك أن طبيعة العربيّ آنذاك، وما جُبل عليه من الأنفة وحب الحرية والانطلاق من القيود السياسية ما عدا القيود القبلية الضيقة.. كل ذلك لم يكن يبرر له اصطناع النفاق والمداراة، لهذا السبب لم تعرف اللغة العربية قبل الإسلام مصطلح " النفاق " ولا اسم الفاعل " المنافق " كما قال أحمد بن فارس:" فأما المنافق فاسم جاء به الإسلام لقوم أبطنوا غير ما أظهروا، وكان الأصل من نافقاء اليربوع" ( ).
وعلى هذا الحال من حب العربي للصدق والأنفة وعدم الحاجة إلى النفاق مضى الشطر المكي من دعوة النبي محمد ﷺ بما كان فيه من صراحة معهودة.
ثم يأتي العهد المدني وتقوى شوكة المسلمين فيظهر النفاق لمخادعة القوة الجديدة، ومن الدلائل على ذلك أن لفظ " النفاق " ومشتقاته أفعالاً وأسماءً قد ورد في القرآن الكريم في (37) موضعاً وردت كلها في القرآن المدني، وليس منها موضع واحد في القرآن المكيّ ( ) !!
والحديث عن النفاق والمنافقين يشغل مساحة كبيرة من آي القرآن الكريم، ذلك أنهم شكلوا خطراً داهماً في المدينة على المجتمع المسلم الناشئ، فكان حديث القرآن عنهم على قدر ما أثاروا من مشكلات ( ) ولنلاحظ أن الحديث عن الكفار في أول سورة البقرة جاء في آيتين فقط (6-7) وتلاه الحديث عن المنافقين في ثلاث عشرة آية (8-20) وكفاه دليلاً على تعاظـم حركة النفاق في المدينة، بل إن إحدى سور القرآن سُميت باسمهم " سورة المنافقون " ولهذا كله جعلهم الله تعالى في النار تحت أرجل الكافرين في طينة الخبال وفي الغسلين عصـارة أهل النار، حيث تنبت شجرة الزقوم التي تخرج في أصـل الجحيم ذات طلع كأنه رؤوس الشياطين.. هنالك مثوى المنافقين كما قال الله تعالى إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (النساء: 145).
لقد مثل المنافقون خطراً حقيقياً على الدعوة الناشئة، كما يقول الدكتور عماد الدين خليل:" ومنذ ذلك الحين - أي بعد نصر بدر - برزت إلى الوجود قوة جديدة في مواجهة الحركة الإسلامية سببت لها الكثير من المتاعب والمحن، ووضعت في دروبها الحواجز والعقبات، ومارست إزاءها من الداخل عمليات تخريبية لا حصر لها " ( ).
ولعل من أخطرها موقفهم الغادر في غزوة الخندق، حيث خذّلوا بعض الناس عن الصبر في مواجهة القوات المحاصرة للمدينة، وتحالفوا مع اليهود للقضاء على المقاومة من الداخل، وقد سجّل القرآن ذلك عليهم مفصَّلاً في سورة الأحزاب.
وفي كتب السيرة والسنة مواقف كثيرة وحوارات مع قادة المنافقين في المدينة كعبد الله بن أبيّ بن سلول وغيره، ونختار منها قصة مسجد الضرار.
كان المنافقون يجهدون في إخفاء شأنهم عن رسول الله والمسلمين ولكن القرآن كان ينزل من عند الله فيفضحهم أولاً بأول حتى لا تسري سمومهم في المجتمع المسلم، ومن ذلك اتخاذهم مسجداً يؤويهم بعيداً عن أعين المسلمين.. جاء في تاريخ الطبري:" وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهزُ إلى تبوك، فقالوا: يا رسولَ الله، إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحـاجة والليلة المطـيرة والليلة الشاتية، وإنا نحـبُّ أنْ تأتيَنا فتصليَ لنا فيه فقال: إني على جناح سفر وحال شغل.. ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه، فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله مالكَ بن الدُّخْشَم أخـا بني سالم بن عوف ومـعن بن عـدي أو أخاه عاصم بن عدي أخا بني العجلان فقال: انطلـقا إلى المسجد الظالـم أهلُه فاهدماه وحرِّقاه فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف وهم رهط مـالك بن الدخشم، فقال مالك لمعن: أنظرني حتى أخرجَ إليك بنار من أهلي، فدخل إلى أهله فأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه ناراً، ثم خرجا يشتدان حتى دخلا المسجد وفيه أهلُه فحرقاه وهدماه، وتفرقوا عنه ونزل فيهم من القـرآن ما نزل " ( ).
أما القرآن الذي أنزله الله في ذلك فهو قوله تعالى وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ( التوبة: 107 - 108).
كان النبي يعامل المنافقين على الظاهر ويترك سرائرهم لله عز وجل، ولهذا قبل منهم العرض بمباركة مسجدهم، ولكنه أجّلهم لحين العودة من سفره إلى تبوك، فلما أخبره الله تعالى حقيقة أمرهم أحرق مسجدهم، ومع ذلك لم يعاقب أحداً منهم.
7- حوارات الحياة الآخرة:
إن حوارات الآخرة في القرآن كثيرة، وهي حوارات تمتد من ساحة الحساب في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة يقضي الله فيه بين العباد إلى النار وحوارات أهلها التي لا تنقضي لأنهم باقون فيها أبداً، وتمتد إلى الجنة وحوارات أهلها المشعرة بالسعادة والنعيم المقيم...
وقد وردت في السنة النبوية كذلك حوارات عن الدار الآخرة منذ لحظات دخول القبر وسؤال الملكين إلى حوارات ساحة الحساب فالنار أو الجنة، ومن ذلك:
أ – حوار في ساحة الحساب:
في الحوار الآتي نبأ عجيب عن سعة رحمة الله تعالى وعفوه وكرمه، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي قال:" ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ وَيَبْقَى رَجُلٌ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ ! اصْرِفْ وَجْهِي عَنْ النَّارِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا، فَيَدْعُو اللَّهَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَهُ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ بِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ؟ فَيَقُولُ: لا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، وَيُعْطِي رَبَّهُ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ، فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْجَنَّةِ وَرَآهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ ثُمَّ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ، قَدِّمْنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ لا تَسْأَلُنِي غَيْرَ الَّذِي أَعْطَيْتُكَ؟ وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْـدَرَكَ ! فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، وَيَدْعُو اللَّهَ حَتَّى يَقُولَ لَهُ: فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ؟ فَيَقُولُ: لا وَعِزَّتِكَ، فَيُعْطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ، فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا قَامَ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ انْفَهَقَتْ لَهُ الْجَنَّةُ فَرَأَى مَا فِيهَا مِنْ الْخَيْرِ وَالسُّرُورِ، فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ ثُمَّ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ أَنْ لا تَسْأَلَ غَيْرَ مَا أُعْطِيتَ؟ وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ ! فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، لا أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ، فَلا يَزَالُ يَدْعُو اللَّهَ حَتَّى يَضْحَكَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْهُ، فَإِذَا ضَحِكَ اللَّهُ مِنْهُ قَالَ: ادْخُلْ الْجَنَّةَ، فَإِذَا دَخَلَهَا قَـالَ اللَّهُ لَهُ: تَمَنَّهْ، فَيَسْأَلُ رَبَّهُ وَيَتَمَنَّى حَتَّى إِنَّ اللَّهَ لَيُذَكِّرُهُ مِنْ كَذَا وَكَـذَا حَتَّى إِذَا انْقَطَـعَتْ بِهِ الأمَانِيُّ قَـالَ اللَّهُ تَعَـالَى: ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ " ( ).
هذا الحوار المبارك بين الله تعالى وواحد من خلقه ينبئ عن أمور كثيرة أولها سعة رحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء، وعفوه عن ذلك العبد الحانث بقسمه مراراً.. إنها طبيعة الإنسان في الدنيا والآخرة: ينسى ويخطئ ويتوب، والله تعالى يصبر عليه في كل ذلك يمهله ولا يهمله، يؤجل عقابه في الدنيا مراراً لعله يتوب، ويدعوه إلى التوبة ليلَ نهار، أما في الآخرة فعفوه ورحمته أوسع وأشمل، وفي الحوار بيان لذلك كله، وبيان لطبيعة الإنسان التي خُلق عليها، من النسيان والخطأ والغفلة... لهذا فتح الله له باب التوبة، وبيان لعِظَم نعيم الجنة، فإذا كان هذا مُلْكَ آخر أهل الجنة دخولاً، فكيف بأولهم؟
ب – حوار في النار:
إن أهل النار يتحاورون فيها طويلاً، ولا يشغلهم العذاب عن التلاوم والعتاب، بل هما من العذاب النفسي الذي توعّدهم الله تعالى به، ومن ذلك الحديث عن أسامة بن زيد عن النبي قال:" يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلانُ، مَا شَأْنُكَ؟ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ " ( ).
يكشف هذا الحوار الذي يجري في النار عن صنف من البشر يقول ما لا يفعل، ويتخذ النفاق سلماً لتحقيق مآربه في الحياة الدنيا، وهو لذلك يعذب في الآخرة بهذا العذاب الأليم المهين، فهو يدور في النار حول أمعائه الخارجة عن بطنه كما يدور الحمار بالرحى، والجزاء من جنس العمل، لقد كان يدعو الناس ولا يعمل بما يقول، كالحمار يدور بالرحى يطحن لأهلها يفيدهم ولا يستفيد من ذلك شيئاً...
ج – حوار في الجنة:
في مقابل حوارات أهل النار نجد حوارات أهل الجنة المنبئة عن السعادة الدائمة والنعيم المقيم، وهم يتحاورون فيما بينهم يذكرون أيام الحياة الدنيا ويذكرون نعمة الله عليهم، ولكن الأعظم من ذلك هو حوار ربهم سبحانه معهم حين يخاطبهم ويسمعهم صوته الكريم ويريهم وجهه الجليل، فعند ذلك تتم السعادة ويكتمل الحبور بنعمة الله، والحوار الآتي ينبئ عن شيء من ذلك فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ :" إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ؟! فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِـلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَداً " ( ).
هذا حوار بديع بين الله تعالى وأهل الجنة ينبئ عن عظيم نعيمهم وسعادتهم، فالله عز وجل يخاطبهم ويسمعهم صوته الكريم، وفي ذاك من الكرامة والنعيم ما لا يحدُّه الوصف، ثم إن الله تعالى يسألهم عن رضاهم بما هم فيه فيحمدونه ويشكرون فضله ونعمته، ولكن الحوار ينبئ عن نعمة أخرى أعظم من كل ذلك الذي هم فيه، وهي نعمة الرضوان الإلهي عليهم والأمان بعد ذلك كله من سخط الله عز وجل، ويا لها من نعم تستحق العمل الدائب للحصول عليها ! ويكشف الحوار عن أدب أهل الجنة مع ربهم سبحانه في إجابة ندائه بقولهم:" لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ ".
وهكذا نجد أن النبي استعمل أسلوب الحوار لوصف بعض أحوال الدار الآخرة، لأن أسلوب الحوار يجعل المادة المعروضة حية شاخصة تتحرك على ألسنة المشاركين فيه حاملة معها العقائد والأفكار والتصورات، منبئة مع ذلك كله عن أحوال أصحابها من خير أو شر.
هذه الحوارات مع المسلمين تكشف عن طبيعة الدعوة الإسلامية التي جاءت لخير البشر وسعادتهم في الدارين، واتخذت من التعليم والهداية سبيلاً إلى الرقي بالإنسان في كل مجالات حياته، وذلك التعليم يتخذ من الحوار الهادئ سبيلاً له لينفذ إلى قلوب الناس برفق ولين، هذا الرفق واللين وتلك الرحمة التي طبعت بطابعها سيرة النبي محمد الذي وصفه ربه بقوله لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (التوبة:128) وهو المعلم الذي قال الله له فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين (آل عمران: 159) وهو الرفيق بالناس القائل:" يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ " ( ).
الفصـل السادس الحـوار النبويّ مع الآخر في المدينة (المشركين واليهود والنصارى)
أولاً: الحوار مع المشركين :
لم ينقطع حوار النبي مع غير المسلمين بعد هجرته إلى المدينة، بل ظل يدعوهم إلى الإسلام، وظل ينتظر دائماً مسلمين جدداً يأتونه من مكة خاصة ومن بلاد العرب عامة، وهو في ذلك كله دائب في دعوة الناس جميعاً بالحسنى.
وحين هاجر النبي إلى المدينة أضيفت إلى مهمته أعباء أخرى كثيرة، فلقد كان معظم المواجهة في مكة مع قريش، ولكن المواجهة في المدينة استمرت مع قريش وأضيف إليها عبء المواجهة مع اليهود والأعراب والمنافقين، بل عامة العرب الذين ألّبتهم قريش على النبي والمسلمين.
وتعددت حوارات النبي مع قريش وغيرها من العرب استمراراً لمنهج الدعوة، ولكن في المواقف التي لم يجدِ الحوار فيها نفعاً لجأ المسلمون إلى القتال ولهذا فلا بد للحوار من قوة تحميه، ونحن نرى في عالمنا المعاصر أن الحوار إذا لم تكن له قوة تحميه فهو إما فاشل وإما تُفرض فيه الشروط المجحفة بحق الطرف الضعيف، والقضية الفلسطينية خير مثال على ذلك.
وسنكتفي هنا بشواهد لحوارات النبي الفردية والجماعية مع المشركين بعد الهجرة النبوية ؛ لنرى أنه كان يفضل الحوار ويقدمه على ما سواه من صور التعامل مع مخالفيه حتى في أصعب المواقف، ومن ذلك:
1 – حوار النبي مع عمير بن وهب الجمحي.
2- في صلح الحديبية.
3 – حوار مع أعرابي حاول قتل النبي .
4- حوار مع أسير مشرك.
***
1 – حوار النبي مع عمير بن وهب الجمحي:
اتفق صفوان بن أمية بُعيد غزوة بدر مع عمير بن وهب الجمحي أن يخرج عمير إلى المدينة محاولاً قتلَ النبي ، فأمسك به عمر بن الخطاب حين رآه داخلاً المدينةَ وجاء به إلى النبي فلما رآه وعمر آخذٌ بحمالة سيفه، قال: أرسله يا عمر، ودار هذا الحوار البديع الهادئ الذي أسلم عمير في نهايته.
قال النبي : ادنُ يا عمير، فدنا ثم قال: أنعموا صباحاً، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم.
فقال رسول الله : قد أكرمَنا اللهُ بتحية خير من تحيتك يا عمير ؛ بالسلام تحية أهل الجنة.
قال: أما والله يا محمد إن كنتُ لحديث عهد بها.
قال: ما جاء بك يا عمير؟
قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم، فأحسنوا فيه.
قال: فما بالُ السيف في عنقك؟!
قال: قبّحها الله من سيوف ! وهل أغنت شيئاً !
قال: اصدقني بالذي جئت لـه.
قال: ما جئت إلا لذلك.
فقال : بلى، قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحِجْر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلتَ: لولا دين عليّ وعيالي لخرجتُ حتى أقتل محمداً فتحمّل لك صفوان بدينك وعيالك، على أن تقتلني له، والله عز وجل حائل بيني وبينك.
فقال عمير: أشهد أنك رسول الله ؛ قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي ؛ وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان ؛ فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله ؛ فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم تشهد شهادة الحق ؛ فقال رسول الله : فقّهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه وعلموه القرآن وأطلقوا له أسيره " ( ).
إن هذا الحوار يكشف بعض ملامح الخلق النبوي العظيم، ويبين كيف يقنع الخصم بكلمات قلائل، وكيف يعفو عند المقدرة، إنه عفو لن نجد له مثيلاً في حياتنا المعاصرة التي تحاسب على خلجات النفوس وفلتات اللسان، وتقتل بالشبهة والظن، وليس من مفرداتها العفو عند المقدرة والمسامحة، ولذا كثر الخلاف والنـزاع والقتل والدمار، إن العالم اليوم في حاجة إلى التعلم من هذا النبع النبوي الشريف الصافي، والمسلمون اليوم في حاجة إلى التعامل مع الخصوم بمثل هذا الخلق النبوي الجميل، شريطة أن تحميه القوة اللازمة حتى لا يُعدّ من باب الضعف.
2- في صلح الحديبية:
بعد هزيمة الأحزاب دون قتال تطلع المسلمون إلى مكة، وجمع النبي الجموع لأداء العمرة وزيارة بيت الله الحرام، ولكنهم حملوا معهم السلاح استعداداً للقتال إذا أصرت قريش على منعهم، ولعل النبي كان يريد من التوجه نحو مكة زعزعة مكانة قريش قائدة المعارضة ضد المسلمين، ويريد كذلك أن يثبت للعرب جميعاً أن إرث إبراهيم وإسماعيل والبيت الحرام والحج والعمرة... كل ذلك هو إرث المسلمين لا إرث المشركين، وأن لهم كل الحق فيه، فإذا اهتزت مكانة قريش أو عُقدت معها هدنة تفرغ النبي للجبهات الأخرى المفتوحة على الصراع كالجبهة النصرانية البيزنطية المؤيدة للقبائل في شمال الجزيرة العربية، والجبهة اليهودية الداخلية المتربصة بالمسلمين المتحالفة مع المنافقين داخل المدينة.
ومنهج الإسلام الثابت أنه دين سلام يدعو إلى الحوار واللين والرحمة والرفق بالبشر، ما لم يصر الطرف الآخر على القوة، وهكذا فتح النبي باب الحوار مع قريش في هذا الأمر فيما عرف بصلح الحديبية، وهو أظهر مواقف الحوار الحاسمة في تلك الفترة، وكان الصلح رغم شروطه المجحفة فتحاً مبيناً للمسلمين.
جاء في صحيح البخاري:" جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيٍّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ وَمَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنْ الْبَيْتِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ وَإِنَّ قُرَيْشاً قَدْ نَهِكَتْهُمْ الْحَرْبُ وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ فَإِنْ أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا وَإِلا فَقَدْ جَمُّوا، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ.
فَقَالَ بُدَيْلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ، قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشاً قَالَ: إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلاً فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: لا حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَيْءٍ، وَقَالَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ: هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَهَلْ تَتَّهِمُونِي؟ قَالُوا: لا، قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظَ فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ لَكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ اقْبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِيهِ، قَالُوا: ائْتِهِ، فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ فَقَالَ النَّبِيُّ نَحْواً مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: أَيْ مُحَمَّدُ، أَرَأَيْتَ إِنْ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ، هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ؟ وَإِنْ تَكُنِ الأخْرَى فَإِنِّي وَاللَّهِ لأرَى وُجُوهاً وَإِنِّي لأرَى أَوْشَاباً مِنْ النَّاسِ خَلِيقاً أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْر الصِّدِّيقُ: امْصُصْ بِبَظْرِ اللاتِ !! أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ؟ فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ قَالُوا: أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلا يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لأجَبْتُكَ، قَالَ: وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِيِّ ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ وَقَالَ لَهُ: أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَقَالَ: أَيْ غُدَرُ، أَلَسْتُ أَسْعَى فِي غَدْرَتِكَ؟ وَكَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْماً فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ فَقَالَ النَّبِيُّ : أَمَّا الإسْلامَ فَأَقْبَلُ وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ.
ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ بِعَيْنَيْهِ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ نُخَامَةً إِلا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيماً لَهُ.
فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكاً قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ مُحَمَّداً، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيماً لَهُ وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا.
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ: دَعُونِي آتِيهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِيِّ وَأَصْحَابِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : هَذَا فُلانٌ، وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا لَهُ فَبُعِثَتْ لَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلاءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنْ الْبَيْتِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ: رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنْ الْبَيْتِ.
فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ فَقَالَ: دَعُونِي آتِيهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّبِيُّ : هَذَا مِكْرَزٌ وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ النَّبِيُّ : لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ، قَالَ مَعْمَرٌ قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَاباً، فَدَعَا النَّبِيُّ الْكَاتِبَ فَقَالَ النَّبِيُّ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ وَلَكِنْ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ لا نَكْتُبُهَا إِلا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ : اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنْ الْبَيْتِ وَلا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنْ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ : وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُـولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ مُحَـمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: لا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ : عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَكَتَبَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، قَالَ الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللَّه ! كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِماً، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ : إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ، قَالَ: فَوَاللَّهِ إِذاً لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَداً، قَالَ النَّبِيُّ : فَأَجِزْهُ لِي، قَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ، قَالَ: بَلَى فَافْعَلْ، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ قَالَ مِكْرَزٌ: بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ، قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ: أَيْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِماً؟ أَلا تَرَوْنَ مَا قَـدْ لَقِيتُ؟ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَاباً شَدِيداً فِي اللَّهِ.." ( ).
ولعلنا نستخلص من الحوارات التي جرت في ذلك الصلح بعض النتائج حول آداب الدعوة والحوار، منها:
1- أن الحوار النبوي لم يقتصر على رسل قريش للمصالحة، بل تعداه إلى كبار الصحابة الذين اعترض بعضهم صراحة - ولكن في أدب جمّ - على شروط الصلح المجحفة، وكذلك حوار أبي جندل بن سهيل بن عمرو الذي وقع المسلمون بسببه في هم وغم ! والنبي في ذلك كله يستعمل الحكمة وينظر بتوفيق الله إلى المستقبل نظرة بعيدة تتجاوز مفردات الواقعة والأحداث الجارية.
2- أن النبي حرص على إظهار دعوته في كل المواقف، وإظهار السبب السلمي لمجيئه إلى مكة، وظهرت حكمته في معاملة كل رسول من قريش بما يليق به، مما كان له أكبر الأثر في تفهم أولئك الرسل لموقف المسلمين، بل الميل إليه أحياناً .
3- أظهر النبي خطته منذ البداية، فذكر أنه لم يأت لحرب أحد، بل جاء للعمرة وزيارة البيت " إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ " وهو يعلم حقيقة قريش وما آل إليه أمرها من الضعف والتفكك بعد عدة هزائم وحروب لم تُحقق لها نتائج تذكر، ومع هذا العرض السلمي يلوّح النبي بالقوة المساندة للحوار " وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ ".
وحين أصرت قريش على صد المسلمين عن البيت واحتجزت عثمان بن عفان رضي الله عنه حين أرسله إليهم النبي .. استعد المسلمون للقتال وكانت بيعة الرضوان التي خلّدها الله تعالى في القرآن لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (الفتح:18) وحين رأت قريش ذلك لانَ موقفها واستعدت للمفاوضات، وهذا تأكيد لما ذكرناه مراراً في هذه الدراسة من أن الحوار لابد له من قوة تحميه وتحل محله إذا لزم الأمر ( ).
4- أن قريشاً لم تكن كذلك تريد الحرب، ولم تكن مستعدة لها، ولكنها كانت تريد الحفاظ على شيء من كرامتها المعنوية ومكانتها بين العرب كما قال سهيل بن عمرو:" وَاللَّهِ لا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ " يعني العمرة.
5- أظهرت ملابسات الحوار المكانة الفريدة لأبي بكر رضي الله عنه بين صحابة رسول الله فهو لم يعترض على شيء من شروط الصلح ( ) بل واجه عمر بالتسليم الكامل لأمر النبي وأبو بكر المعروف باللين والرفق، حين يحتاج الأمر إلى الشدة نجده أشد الصحابة في الحق، ظهر ذلك من موقفه من حركة الردة بعد موت النبي وظهر قبل ذلك في حـواره مع عروة بن مسعود في هذا الموقف حين سخر منه بهذا الأسلوب اللاذع !
وهذا يعلمنا من أدب الحوار أن المحاور إذا تجاوز الحد وجب صده وإن خرج ذلك عن الحد المراعى في الحوار حتى يعود إلى رشده، والدليل على صحة موقف أبي بكر وكلامه أن النبي لم يلمْه على ما قال لعروة !
6- أن النبي قبل من صحابته - وبخاصة عمر - مراجعته في أمر الصلح مراراً، ولم يعنّف أحداً منهم على موقفه، ويدل ذلك على سعة رحمته وحلمه ، فهو النبي الموحى إليه المؤيد من الله، ومع ذلك يتسع حلمه لأولئك المعارضين لشروط الصلح التي ظاهرها غبنُ المسلمين، ولكنه كان يذكّر أولئك بأسلوب رقيق بأنه رسول الله ولن يخزيَه الله أبداً.. ( ).
7- أن عقل عروة بن مسعود الراجح وحواره مع النبي ورؤيته للصحابة يطيعون أمر النبي ويوقرونه كما ذكر لقريش.. كل ذلك دفعه إلى الإسلام بعد ذلك فأسلم رضي الله عنه، ولا شك أن ذلك الموقف مع النبي قد وقر في نفسه حتى أسلمه إلى الإسلام، ثم عاد إلى قومه بالطائف يدعوهم إلى الله فقتلوه ثم تابوا وأسلموا ! ( ).
8- أن كل ما فعله النبي في ذلك الصلح كان بتوفيق الله وهدايته، ومع ذلك سمح للتفاعلات البشرية أن تتداخل لتكون القدوةُ الحسنة والتعلم المباشر وتلاقح الآراء، وهذا منهج بجب على المسلمين التأسي به، منهج التحاور والتشاور، خاصة عند الاختلاف.
9- أن صلح الحديبية كان فتحاً مبيناً للإسلام والمسلمين رغم شروط الصلح التي كان ظاهرها ضد المسلمين، وفي طريق العودة من الحرب نزلت سورة الفتح كما قال ابن كثير:" نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله من الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام فيقضي عمرته فيه وحالوا بينه وبين ذلك ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة وأن يرجع عامه هذا ثم يأتي من قابل، فأجابهم إلى ذلك على تكرّه من جمـاعة من الصحابة منهم عـمر بن الخطاب " ( ).
10- أن الحوار مع غير المسلم جائز لتحقيق مصلحة المسلمين وحقن الدماء وحفظ الأموال، وأن المشركين والظالمين وأهل الأهواء إذا عظّموا أمر الله تعالى في شيء وجب إعانتهم فيما ظاهره الخير لعلهم يهتدون إلى الحق، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله من فوائد صلح الحديبية:" أن المشركين وأهل البدع والفجور والبغاة والظلمة إذا طلبوا أمراً يعظّمون فيه حرمة من حرمات الله تعالى أجيبوا إليه وأعطوه وأعينوا عليه وإن منعوا غيره، فيعاونون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى لا على كفرهم وبغيهم، ويمنعون مما سوى ذلك.. وهذا من أدق المواضع وأصعبها وأشقها على النفوس، ولذلك ضاق عنه من الصحابة من ضاق " ( )
3 – حوار مع أعرابي حاول قتل النبي :
تعددت محاولات المشركين قتلَ رسول الله ظناً منهم أن دعوته ستموت بموته أو قتله، ولكن الله تعالى تعهّد لرسوله بحفظ حياته من أولئك بقوله يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين (المائدة:67).
ومن هذه المحاولات المتعددة ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله أنه قال: " غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ غَزْوَةً قِبَلَ نَجْدٍ، فَأَدْرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَعَلَّقَ سَيْفَهُ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، قَالَ: وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْوَادِي يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : إِنَّ رَجُلاً أَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ فَأَخَذَ السَّيْفَ فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي، فَلَمْ أَشْعُرْ إِلا وَالسَّيْفُ صَـلْتاً فِي يَدِهِ فَقَـالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّانِيَةِ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ، قَالَ: فَشَـامَ السَّيْفَ، فَهَا هُـوَ ذَا جَالِسٌ، ثُمَّ لَمْ يَعْـرِضْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ "( ).
وفي هذا الموقف يتضح خلق العفو عند رسول الله فلو أنه قتل الأعرابي ما كان عليه من حرج، ولكنه رسول الرحمة للناس جميعاً، ولعل هذا الموقف يؤثر في الأعرابي فيسلم فينقذه الله تعالى من النار بإذنه.
4- حوار مع أسير مشرك:
وهذا أسير مشرك تأتي به خيل المسلمين، وكان ذا مكانة في قومه، فكيف عامله النبي ؟
جاء في الحديث عن أَبَي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتُرِكَ حَتَّى كَانَ الْغَدُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ، إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ، فَقَالَ: أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ !
فَانْطَلَقَ إِلَى نَخلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ لا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، يَا مُحَمَّدُ، وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الأرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلادِ إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: صَبَوْتَ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ وَلا وَاللَّهِ، لا يَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ " ( ).
كان شغل النبي الشاغل أن يسلم الناس لرب العالمين، هكذا جاء برسالة الرحمة لإنقاذهم من النار، ولذا تلطف في معاملة الأسير المشرك، وخاطبه خطاباً رقيقاً، ولم يلمه أو يعنفه.. بل أطلق سراحه بعد أن رأى الرجل في المسجد النبوي من الخير ما رأى، من الصلاة والذكر والدعاء والوعظ والتحابّ والتراحم بين المسلمين، فما لبث أن دخل الإسلام قلبه، وقال لرسول الله ما قال من جميل القول، وفعل ما فعل مع أعداء رسول الله من أهل مكة.
ثانياً: الحوار المباشر مع اليهود:
حين تسامعت يهودُ بمقدم النبي إلى المدينة ازدادوا قلقاً، لعلمهم يقيناً أنه هو النبي المذكور عندهم في التوراة باسمه وصفته، ولكنهم حسدوه لأنه من العرب، ولكنّ ثمة رجالاً منهم عرفوا الحق فاتبعوه.
وقد أمر الله المسلمين بالصبر على أذى أهل الكتاب حين يبقى في مجال القول، ولكن حين يتعداه إلى الفعل فالدفاع عن النفس حق لكل إنسان، قال تعالى لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (آل عمران:186) ووضع القرآن القواعد الجليلة لمحاورتهم بالحسنى والإحسان إلى مسالميهم، قال تعالى لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (الممتحنة:8).
وقد امتد الحوار بين النبي واليهود إلى مجالات عديدة منها الدعوة والعقيدة والتشريع والمعاملات الاقتصادية والاجتماعية، وهم في ذلك كله يخالفونه سراً وجهراً ويناصبونه والمسلمين العداء، ويتمنون لو أبطلوا دعوته بالكيد والمكر ؛ لأنهم عاجزون عن إبطاها بالقوة العسكرية، وكان مما يلجأون إليه التعنت والتحدي بما عندهم من علم من بقايا التوراة مما سلم من تحريفهم، فيسألون رسول الله عن أشياء من ذلك لعله يعجز عن الجواب فيتهمونه بالكذب، قال ابن إسحاق:" وكانت أحبار يهود هم الذين يسألون رسول الله ويتعنتونه ويأتونه باللبس ليلبسوا الحق بالباطل، فكان القرآن ينزل فيهم فيما يسألون عنه إلا قليلاً من المسائل في الحلال والحرام كان المسلمون يسألون عنها " ( ).
كانت هنالك روح عدائية مسيطرة ضد الإسلام منذ البداية لأسباب عديدة أخطرها الحسد كما قال تعالى عن أهل الكتاب أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً (النساء:54) وذلك بسبب خروج النبوة من بني إسرائيل إلى العرب، حيث " إن معظم الكتابيين من يهود ونصارى الذين كانوا يقطنون شبه جزيرة العرب كانوا ينتظرون بلهفة أن تكون النبوة الخاتمة خارج سلالات العرب، وهو ما يفسر مسارعة كثير منهم إلى التجهم المبكر في وجه الرسول الخاتم محمد بن عبد الله بل بإمكاننا الذهاب إلى أن بعض هؤلاء كان ينتظر الصراع مع الدين الجديد الخاتم ومع أهله قبل بدء الوحي نفسه ؛ يفهم ذلك من معطيين على الأقل، الأول: اشتراك اليهود والنصارى في جريمة تحريف الوحي الإلهي والاستهانة بقدسية النبوة، وإحساسهم بأن كتاب النبوة الأخير سيكون خلاصة أخيرة للدين الحق الذي طمسوا بتدبيرهم وكيدهم معظم معالمه وأهمها، والثاني: علم الكثير من علمائهم ورهبانهم وحكامهم من خلال صحائف الوحي أن النبي الخاتم سيكون نبياً عربياً ( ).
وقد نزل القرآن يفضح كذبهم وزورهم وبهتانهم وتحريفهم للكتب السماوية بل قتلهم الأنبياء... مما ذكره القرآن مفصلاً عن جرائمهم، ثم بين القرآن للمسلمين في آيات كثيرة أن هؤلاء لن يؤمنوا وسوف يبقون على عدائهم للمسلمين حتى قيام الساعة، ومع ذلك لم يقفل باب الحوار معهم، بل جادلهم وأمر المسلمين بجدالهم بالحسنى، لبيان الحق لعل بعضهم يسلم، وهذا ما وقع قديماً وحديثاً، حيث يسلم أفراد منهم بعد معرفة الحق.
ولست أذكر من مجموع ما قرأت من سيرة النبي وكتب السنة أن هناك موقفاً واحداً تعاطف فيه اليهود مع المسلمين أو أبدوا روحاً أخوية تجاه أناس مؤمنين بالله الواحد الأحد، بل إن كل المواقف التي سنحت لهم فيها الفرصة للغدر والخيانة قد انتهزوها للقضاء على الدعوة الإسلامية، إنه عداء مستمر وحقد دفين إذاً تمتلئ به الشخصية اليهودية ضد الإسلام، هذا مع وجود كثير من المواقف الإيجابية والمتسامحة من الطرف الإسلامي.
ومع ذلك كله فإن النبي عاملهم بالحسنى والحوار والمسالمة ودعاهم إلى الإسلام صراحة حتى كان منهم الغدر والخيانة فعاقبهم النبي عدة مرات.
وفي كتب السنة والسيرة حوارات كثيرة للنبي مع اليهود نختار منها الحوارات الآتية:
1- حوار عبد الله بن سلام مع النبي .
2- حوار اليهود مع النبي للتأكد من نبوته. 3- سؤالهم عن الروح.
4- دعوة اليهود إلى الإسلام.
5- حوار النبي مع اليهود حول حد الزاني في التوراة.
6- حوار النبي مع حبر يهوديّ.
7- حوار النبي مع يهود خيبر.
***
1- حوار عبد الله بن سلام مع النبي :
كان عبد الله بن سلام عالم اليهود وحبرهم المقدم في المدينة، وحين وصلت الأنباء إلى المدينة بدخول النبي إلى قباء كان عبد الله يعمل في نخل له، فلما سمع بذلك ترك نخله وأسرع إلى النبي .
ولنسمع منه الحديث، قَالَ:" لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَقِيلَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ... فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَثْبَتُّ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلامٍ " ( ).
وقد كانت للنبي علامات معروفة عند أهل الكتاب، تحقق عبد الله من بعضها، ثم إنه أراد أن يتحقق من علم النبي ليزداد إيماناً، فسأله أسئلة لا يعلم الجواب عنها إلا نبيّ.
وفي صحيح البخاري عن أنس أن عبد الله بن سلام أتى رسول الله مقدمَه إلى المدينة فقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلاثٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إِلا نَبِيٌّ:
- مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟
- وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟
- وَمَا بَالُ الْوَلَدِ يَنْزِعُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ؟
قَالَ : أَخْبَرَنِي بِهِ جِبْرِيلُ آنِفاً، قَالَ ابْنُ سَلامٍ: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ الْمَلائِكَةِ !!
قَالَ : أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُهُمْ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ الْحُوتِ، وَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدَ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ نَزَعَتِ الْوَلَدَ.
قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ، فَاسْأَلْهُمْ عَنِّي قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلامِي.
فَجَاءَتِ الْيَهُودُ، فَقَالَ النَّبِيُّ : أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ فِيكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا وَأَفْضَلُنَا وَابْنُ أَفْضَلِنَا.
فَقَالَ النَّبِيُّ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ؟
قَالُوا: أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ !! فَأَعَادَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ.
فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُـولُ اللَّهِ، قَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا، وَتَنَقَّصُوهُ، قَـالَ: هَذَا كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ " ( ).
لقد كشف هذا الحوار عن أمور كثيرة، منها أن أصل الدين واحد عند الله هو الإسلام، وأن اليهود رغم تحريفهم التوراة بقي لهم بعض العلم دون تحريف ويخفونه عن كثير من الناس، وأن رأسهم وسيدهم بالمدينة كان يعلم حقيقة أمرهم وما هم فيه من ضلال وبهتان، وأن الرجل لما أراد الله به الخير أسلم وترك يهوديته المحرفة، وأن لليهود عقلية خاصة ينبغي على المسلمين دراستها جيداً للتعامل معهم بما يستحقون..
إنها العقلية نفسها إذاً التي يتعامل بها اليهود اليوم مع الناس عامة والمسلمين والعرب خاصة , وُعود براقة لا يُنفذ منها شيء , وكذب وبهتان وزور ومؤامرات لا تنتهي , فما أشبه الليلةَ بالبارحة , ولكن أكثر المسلمين اليوم لا يتدبر هذا الأمر , حتى علا اليهود في أرضنا وبلادنا وأفسدوا.
2- حوار اليهود مع النبي للتأكد من نبوته:
ذكر بعض المفسرين ورواة الحديث أن هذه الآيات قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ. مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ (البقرة: 97-98) نزلت في مجيء اليهود إلى النبي للتأكد من صدق نبوته ( ).
وفي مسند الإمام أحمد عن ابْنِ عَبَّاسٍ قال:" حَضَرَتْ عِصَابَةٌ مِنَ الْيَهُودِ نَبِيَّ اللَّهِ يَوْماً، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، حَدِّثْنَا عَنْ خِلالٍ نَسْأَلُكَ عَنْهُنَّ لا يَعْلَمُهُنَّ إِلا نَبِيٌّ، قَالَ: سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ، وَلَكِنِ اجْعَلُوا لِي ذِمَّةَ اللَّهِ وَمَا أَخَذَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلام عَلَى بَنِيهِ لَئِنْ حَدَّثْتُكُمْ شَيْئاً فَعَرَفْتُمُوهُ لَتُتَابِعُنِّي عَلَى الإسْلامِ، قَالُوا: فَذَلِكَ لَكَ، قَالَ: فَسَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ.
قَالُوا: أَخْبِرْنَا عَنْ أَرْبَعِ خِلالٍ نَسْأَلُكَ عَنْهُنَّ:
- أَخْبِرْنَا أَيُّ الطَّعَامِ حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مـِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ؟
- وَأَخْبِرْنَا كَيْفَ مَاءُ الْمَرْأَةِ وَمَاءُ الرَّجُلِ، كَيْفَ يَكُونُ الذَّكَرُ مِنْهُ؟
- وَأَخْبِرْنَا كَيْفَ هَذَا النَّبِيُّ الأمِّيُّ فِي النَّوْمِ؟ وَمَنْ وَلِيُّهُ مِنَ الْمَلائِكَةِ؟
قَالَ: فَعَلَيْكُمْ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ لَئِنْ أَنَا أَخْبَرْتُكُمْ لَتُتَابِعُنِّي؟ قَالَ: فَأَعْطَوْهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ.
قَالَ: فَأَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلام مَرِضَ مَرَضاً شَدِيداً وَطَالَ سَقَمُهُ فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذْراً لَئِنْ شَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ سَقَمِهِ لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ وَأَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لُحْمَانُ الإِبِلِ، وَأَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانُهَا؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ.
فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ أَبْيَضُ غَلِيظٌ وَأَنَّ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ رَقِيقٌ فَأَيُّهُمَا عَلا كَانَ لَهُ الْوَلَدُ وَالشَّبَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ، إِنْ عَلا مَاءُ الرَّجُلِ عَلَى مَاءِ الْمَرْأَةِ كَانَ ذَكَراً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإِنْ عَلا مَاءُ الْمَرْأَةِ عَلَى مَاءِ الرَّجُلِ كَانَ أُنْثَى بِإِذْنِ اللَّهِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ.
فَأَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ الأمِّيَّ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلا يَنَامُ قَلْبُهُ؟
قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ.
قَالُوا: وَأَنْتَ الآنَ، فَحَدِّثْنَا: مَنْ وَلِيُّكَ مِنَ الْمَلائِكَةِ؟ فَعِنْدَهَا نُجَامِعُكَ أَوْ نُفَارِقُكَ !!
قَالَ: فَإِنَّ وَلِيِّيَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام، وَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيّاً قَطُّ إِلا وَهُوَ وَلِيُّهُ.
قَالُوا: فَعِنْدَهَا نُفَارِقُكَ، لَوْ كَانَ وَلِيُّكَ سِوَاهُ مِنَ الْمَلائِكَةِ لَتَابَعْنَاكَ وَصَدَّقْنَاكَ !! قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكُمْ مِنْ أَنْ تُصَدِّقُوهُ؟ قَالُوا: إِنَّهُ عَدُوُّنَا !!
قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ(البقرة:96) إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ فَعِنْدَ ذَلِكَ بَـاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ (البقرة: 101) ( ).
هذا الحوار بين جماعة من اليهود والنبي يلخص بجلاء حقيقة موقف اليهود من رسالة الإسلام، فهم يعلمون أنه الحق، وقد اختبروا - بما عندهم من بقايا التوراة بغير تحريف - اختبروا صدق النبيّ وهم قد شهدوا بداية أن ما يسألون عنه لا يعلمه إلا نبي، وذلك يعني أنهم يخفون ما عندهم من قليل العلم عن الناس وهو مضاد لرسالات الأنبياء.
وقد أخذ منهم النبي الميثاق ليتابعنه إن أجابهم عما سألوا، ولكنهم أهل غدر ونقض للمواثيق، ولكن الحوار في النهاية يكشف عن أمر عجيب لا يتصور صدوره من بشر إلا أن يكونوا فجاراً جاحدين، وذلكم هو عداوتهم جبريل عليه السلام لأنه ينزل بالحق من عند الله !
3- سؤال اليهود عن الروح:
كان اليهود يتعنتون في سؤال رسول الله عن أشياء ليجدوا ثغرة للتشنيع عليه، ولكن الله تعالى خذلهم في نياتهم تلك، وعلّم رسوله كل ما سألوا عنه ومن ذلك سؤالهم عن الروح كما يروي عبد الله بن مسعود قال:" بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ فِي خَرِبِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ، فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تَسْأَلُوهُ لا يَجِيءُ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنَسْأَلَنَّهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَـالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا الرُّوحُ؟ فَسَكَتَ فَقُلْتُ إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ فَقُمْتُ، فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ قَالَ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتُوا مِنْ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً قَالَ الأعْمَشُ: هَكَذَا فِي قِرَاءَتِنَا ( ).
وقد كشف الحوار عن مسألة هامة في حياة البشر، وهي أنهم - رغم كل ما يكتشفونه حتى اليوم - ما أوتوا من العلم إلا قليلا، وهي حقيقة يعلمها العالمون على مر التاريخ.
4- دعوة اليهود إلى الإسلام:
الإسلام دين للعالمين كافة كما قال الله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون (سبأ: 8 2) ولذا شملت دعوة النبي كل من استطاع الوصول إليه أو الكتابة إليه من أهل زمانه، واليهود مشمولون كغيرهم بالدعوة إلى الإسلام، لهذا خرج إليهم النبي في بيت عبادتهم ودعاهم إلى الإسلام صراحة كما في هذا الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَـالَ:" بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ، فَقَامَ النَّبِيُّ فَنَادَاهُمْ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا، فَقَالُوا: قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَقَالَ ذَلِكَ أُرِيدُ، ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ فَقَالُوا: قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: اعْلَمُوا أَنَّ الأرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئاً فَلْيَبِعْهُ، وَإِلا فَاعْلَمُوا أَنَّمَا الأرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ " ( ).
إننا - رغم كل العوائق المعاصرة - نحتاج إلى الدعوة نفسها لأهل الأرض جميعاً، ولكن يشترط لنا أولاً أن يضبط المسلمون حياتهم وفق معالم الشريعة التي أكرمهم الله بها من الحق والعدل والخير... عندها نستطيع أن نقدم للعالم الأسوة الحسنة.
5- حوار النبي مع اليهود حول حد الزاني في التوراة:
عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ بِيَهُودِيٍّ مُحَمَّماً مَجْلُوداً فَدَعَاهُمْ فَقَالَ: هَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَدَعَا رَجُلاً مِنْ عُلَمَائِهِمْ فَقَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟ قَالَ: لا، وَلَوْلا أَنَّكَ نَشَدْتَنِي بِهَذَا لَمْ أُخْبِرْكَ، نَجِدُهُ الرَّجْمَ، وَلَكِنَّهُ كَثُرَ فِي أَشْرَافِنَا فَكُنَّا إِذَا أَخَذْنَا الشَّرِيفَ تَرَكْنَاهُ وَإِذَا أَخَذْنَا الضَّعِيفَ أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ، قُلْنَا: تَعَالَوْا فَلْنَجْتَمِعْ عَلَى شَيْءٍ نُقِيمُهُ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ، فَجَعَلْنَا التَّحْمِيمَ وَالْجَلْدَ مَكَانَ الرَّجْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِلَى قَوْلِهِ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ (المائدة: 41) يَقُولُ: ائْتُوا مُحَمَّداً فَإِنْ أَمَرَكُمْ بِالتَّحْمِيمِ وَالْجَلْدِ فَخُذُوهُ، وَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالرَّجْمِ فَاحْذَرُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ لَمْ يَحْـكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ (المائدة: 44) وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (المائدة: 45) وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (المائدة: 47) فِي الْكُفَّارِ كُلُّهَا " ( ).
يكشف هذا الحوار عن خيانة أخرى كبيرة من خيانات اليهود وما أكثرها، لقد بدلوا أحكام التوراة، فأقاموها على الضعيف وتركوا القوي.. فلما أعياهم ذلك اصطلحوا على تبديل شرع الله فجعلوا تسويد الوجه والجلد للزاني بديلاً عن الرجم، ولكن النبي بعد أن افتضح أمرهم على الملأ أحيا شرع الله تعالى فأمر برجم الزاني المحصن كما هو شرع الله تعالى في التوراة وفي شريعة الإسلام.
والسؤال عن حد الزاني المحصن في التوراة وكونه الرجم كما في شريعة الإسلام يظهر كفر اليهود بتبديل شريعة التوراة.
وفي استحلاف النبي لليهودي بالله الذي أنزل التوراة على موسى لفتة دالة على أنه يؤمن بموسى والتوراة الصحيحة غير المحرفة، ليتنبه اليهود لعلهم يسلمون أو يفقهون.
أليس في ذلك زاجر قوي لبعض حكام المسلمين اليوم ممن يبدلون أحكام الله تعالى بأحكام وضعية بالية؟ أليس الله تعالى أحقَّ بأن يحكَّمَ شرعه في عباده؟ إن الحوار يكشف عن هذه الحقائق بجلاء ليعلم المسلمون حكاماً ومحكومين ضرورة العودة إلى الحكم بما أنزل الله.
6- حوار النبي مع حبر يهوديّ:
عن ثَوْبَانَ قَالَ: كُنْتُ قَائِماً عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ فَجَاءَ حِبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، فَدَفَعْتُهُ دَفْعَةً كَادَ يُصْرَعُ مِنْهَا، فَقَالَ: لِمَ تَدْفَعُنِي؟ فَقُلْتُ: أَلا تَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: إِنَّمَا نَدْعُوهُ بِاسْمِهِ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ أَهْلُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : إِنَّ اسْمِي مُحَمَّدٌ الَّذِي سَمَّانِي بِهِ أَهْلِي، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: جِئْتُ أَسْأَلُكَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ : أَيَنْفَعُكَ شَيْءٌ إِنْ حَدَّثْتُكَ؟ قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ، فَنَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ بِعُودٍ مَعَهُ فَقَالَ: سَلْ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَوَاتُ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ.
قَالَ: فَمَنْ أَوَّلُ النَّاسِ إِجَازَةً؟
قَالَ: فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ.
قَالَ الْيَهُودِيُّ: فَمَا تُحْفَتُهُمْ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ زِيَادَةُ كَبِدِ النُّونِ.
قَالَ: فَمَا غِذَاؤُهُمْ عَلَى إِثْرِهَا؟
قَالَ: يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أَطْرَافِهَا.
قَالَ: فَمَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ؟
قَالَ: مِنْ عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً.
قَالَ: صَدَقْتَ.
قَالَ: وَجِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ شَيْءٍ لا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأرْضِ إِلا نَبِيٌّ أَوْ رَجُلٌ أَوْ رَجُلانِ.
قَالَ: يَنْفَعُكَ إِنْ حَدَّثْتُكَ؟
قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ.
قَالَ: جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ الْوَلَدِ.
قَالَ: مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ فَإِذَا اجْتَمَعَا فَعَلا مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِيَّ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإِذَا عَلا مَنِيُّ الْمَرْأَةِ مَنِيَّ الرَّجُلِ آنَثَا بِإِذْنِ اللَّهِ.
قَالَ الْيَهُودِيُّ: لَقَدْ صَدَقْتَ وَإِنَّكَ لَنَبِيٌّ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَذَهَبَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : لَقَدْ سَأَلَنِي هَذَا عَنْ الَّذِي سَأَلَنِي عَنْهُ وَمَا لِي عِلْمٌ بِشَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى أَتَانِيَ اللَّهُ بِهِ " ( ).
يكشف هذا الحوار عن أمور عديدة، منها تأكد أحبار يهود من صدق نبوة محمد بما عندهم من الدلائل على ذلك، ومنها كتمانهم العلم عن الناس، فإذا كان ذلك العلم الذي سأل عنه رسول الله موجوداً في التوراة فلماذا لا يعلمه إلا نبي أو رجل أو رجلان؟ لماذا لا ينتشر على الناس كما هو الحال في الإسلام؟ والعجب هنا أن يشهد الرجل بصدق النبي وبأنه نبي ثم لا يسلم، وقد قال الله تعالى في القرآن موبخاً لهم قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ (الأنعام: 91).
وفي بقاء الحبر اليهودي على كفره بعد تأكده من صدق نبوة النبي تعليم للمحاور أو الداعي المسلم بأن عليه أن يتوقع من الحوار كل الاحتمالات من الحوار، وأن عليه البلاغ، والهدايةُ من الله تعالى.
وفي هذا الحديث من أدب الحوار التجاوز عن المخالفات غير الجوهرية التي قد تعوق الهدف الأساس من الحوار كما فعل النبي بتجاوزه عن جفاء اليهودي وغلظته.
وفي هذا الحوار من أدب التعلم مسألة يجدر بطالب العلم أن يتنبه إليها، ألا وهي السؤال عما ينفع والعمل بما يعلم، لقول النبي " أَيَنْفَعُكَ شَيْءٌ إِنْ حَدَّثْتُكَ؟ " فهذا من أدب التعلم والحوار الذي يتأدب به المتعلمون، وفيه حقيقة أن فقراء المهاجرين من أمة محمد هم أول الناس دخولاً الجنة قبل الأمم كلها، وذلك لكرامتهم على الله تعالى.
7- حوار النبي مع يهود خيبر:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ، فَقَالَ النَّبِيُّ:" اجْمَعُوا إِلَيَّ مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ يَهُودَ، فَجُمِعُوا لَهُ فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، قَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ : مَنْ أَبُوكُمْ؟ قَالُوا: فُلانٌ، فَقَالَ: كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلانٌ، قَالُوا: صَدَقْتَ قَالَ: فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُ عَنْهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ وَإِنْ كَذَبْنَا عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا، فَقَالَ لَهُمْ: مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ قَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيراً ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ : اخْسَئُوا فِيهَا، وَاللَّهِ لا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَداً، ثُمَّ قَالَ: هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، قَالَ: هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمّاً؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِباً نَسْتَرِيحُ وَإِنْ كُنْتَ نَبِيّاً لَمْ يَضُرَّكَ " ( ).
فتح الله تعالى معقل اليهود المحصن شمالي المدينة بما فيه من حصون وزروع وثمار.. فتحه للمسلمين بقليل من القتال والحصار، ولأن خيبر بعيدة عن المدينة قبِل النبي من اليهود عرضهم أن يزرعوها ويعطوا نصف ثمارها للمسلمين، فقبل ذلك منهم شريطة أن يجليهم حين يشاء منها.
بعد ذلك الصلح أقام المسلمون أياماً وعادت العلاقات مع اليهود واختلطوا بالمسلمين لدرجة أن امرأة منهم أهدت شاة مصلية إلى رسول الله ولكنها وضعت فيها سماً بعلم اليهود وتدبيرهم، ويكشف الحوار عن نفسية اليهود وعقليتهم المبنية على الغدر والخيانة، والغريب في أمرهم أن عندهم بقايا علم من التوراة يكشف لههم النبي عنها مرة بعد أخرى ليتأكدوا من صحة نبوته، وبعد أن يثبت ذلك لهم مراراً نراهم يجحدونه ويكذبون على الله ورسوله والناس جميعاً !
وفي هذا الحوار نجد اليهود يلجأون إلى الغدر والخيانة والتصفية الجسدية لمعارضيهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وها هم يفعلون ذلك اليوم في فلسطين ولبنان وغيرها.
ومن أدب المحاورة فيه أن المحاور إذا أخطأ أو كذب وجب رده على الفور كما فعل النبي معهم حين قَالَ لَهُمْ:" مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ قَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيراً ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ : اخْسَئُوا فِيهَا، وَاللَّهِ لا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَداً ".
ومع أن أحد صحابة النبي مات من ذلك السم الذي اكتشفه النبي بوحي من الله بعد لقمة أو لقمتين.. مع ذلك لم يعاقبهم النبي ووفّى بالصلح الذي عقده معهم، وقد كانوا يستحقون القتل قصاصاً وعقوبة، لكنه لم يفعل لعلهم يعقلون.
إن الحوار مع اليهود كما جاء في القرآن والسنة يُستخلص منه المعرفة الدقيقة بالعقلية والنفسية اليهودية المبنية على العصبية والكذب والبهتان وبخس الناس أشياءهم والغدر والخيانة، ولا شك أن مآسي المسلمين اليوم يعود شطر منها إلى تدبير اليهود ومكرهم في فلسطين وغيرها من بلاد العالم، وهم وراء الحملات الإعلامية المسعورة حول العالم اليوم ضد الإسلام والمسلمين، ولكن ينبغي أن نذكر أننا نحن المسلمين نقدم لهم المادة الأولية لهذا كله من تخلفنا وتفرقنا وإهمالنا كثيراً من معالم الشرع الحنيف العادل الذي أكرمنا الله به.
ثالثاً: الحوار المباشر مع النصارى:
لم يكن بالمدينة عدد كبير من النصارى، بل لم تذكر المصادر التاريخية أو الحديثية - فيما أعلم - أن النبي والمسلمين تعاملوا مباشرة مع أحد من النصارى من أهل المدينة، ولكن التعامل معهم كان على مستوى المراسلات كما في رسائله إلى هرقل والمقوقس والنجاشي وبعض أمراء العرب المتنصرين التابعين للروم أو مقابلة مع بعضهم ممن يعيشون خارج المدينة، وكانت قد سرت فرية من أهل مكة عاونهم فيها بعض اليهود حين زعموا أن النبي يتلقى بعض ما يأتي به من غلام نصراني عبد لواحد من أهل مكة، فردّ الله تعالى عليهم الفرية وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (النحل:103) ( ).
وقد ظن بعض أهل مكة ممن لم يجدوا مغمزاً للدعوة الناشئة أن محمداً يتلقى تعاليمه أو يصوغ بعض ما يأتي به من أخبار يتلقفها من ذلك الغلام، لكن الله تعالى كذبهم وحاجّهم بالعقل، إذ إن ذلك الغلام أعجمي، والكلام المنزل على محمد بلسان عربي مبين يعجزون - وهم أهل الفصاحة والبيان - عن الإتيان بمثله !
وفي السيرة والسنة النبوية ثلاث لقاءات مباشرة بين الإسلام والنصرانية - فيما أحسب -:
الأول: لقاء المسلمين المهاجرين إلى الحبشة مع النجاشي وحاشيته وأساقفته، والثاني: لقاء النبي مع عديّ بن حاتم الطائي الذي كان زعيماً نصرانياً، والثالث: لقاء النبي مع وفد نصارى نجران، وفي تلك اللقاءات حوارات صريحة وممتعة تتضح فيها الحقائق وتُدحض فيها الشبهات ( ).
ونحن نرجح أن تكون ثمة لقاءات أخرى مع النصارى لكن لم تحفظ أو لم تكن ذات أهمية واضحة في سير الحوار، كلقاء النبي بورقة بن نوفل في أول البعثة، ولقاء الجارود بن عمرو الذي كان نصرانياً فأسلم، ولقاء النبي مع " عدّاس " العبد النصراني لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وكان ذلك في الطائف حين رد أهلُها النبيَّ وصاحبه وآذوهما.
وهذا عرض موجز لتلك الحوارات الثلاثة مع بعض ما فيه من فوائد:
1- الحوار عند النجاشي ( ):
حين اشتد الأذى بالمسلمين في مكة استأذنوا النبي في الخروج منها فأشار عليهم بالخروج إلى الحبشة، وذكر لهم أن فيها ملكاً لا يظلم الناس عنده، فهاجر جمع من الصحابة، ووجدوا عند الرجل الأمن وسعة العيش، لكن قريشاً لم تترك المهاجرين وشأنهم، بل أرسلت في طلبهم بزعم خروجهم على دينها وسلطانها، وعدم متابعتهم للملك في دينه كذلك.
وائتمر الملأ من قريش على أن يرسلوا رجلين إلى النجاشي، ونظروا إلى أحب الهدايا إلى المـلك وبطارقته فجمعوا لهم، وأرسـلوا عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة، وعمرو بن العاص، وعمرو يومذاك داهية من دواهي العرب مُحنّك مُجرّب، وحين وصل عمرو وصاحبه بالهدايا إلى أرض الحبشة بدآ بحاشية الملك فوزعا عليهم الهدايا، وأخّرا هدايا الملك، حتى إذا فرغا من الحاشية قالا: سلوا الملك أن يسلَّمنا هؤلاء قبل أن يكلمهم، وإنما فعلا ذلك لما يعلمان من عدله، فخافا أن ينصف المسلمين !
وأوصل الرجلان هداياهما إلى النجاشي، ثم استأذنا في الدخول عليه فأذن لهما، فقالا: أيها الملك، إنه قد أَوى إلى أرضك غِلْمان سفهاء من قومنا، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد أرسلَنا إليك أشرافُ قومنا لتردّهم إليهم.
وفي سيرة ابن هشام:" ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجـل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول: والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن، فلما جاءوا وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال لهم: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟
فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له: أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - فعدد عليه أمور الإسلام - فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه عليَّ فقرأ عليه صـدراً من (كهيعص) فبكى والله النجاشي حتى اخضلّت لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يُكادون " ( ).
وهكذا بطلت مكيدة الرجلين، لكن عَمْراً يعرف قول الإسلام في المسيح ومخالفته لما يقول النصارى، فدبر مكيدة وعاد إلى الملك ليكيد للمسلمين، فاجتمع المسلمون وأجمعوا على مصارحة الملك وقول الحق، قال ابن هشام: " فلما دخلوا عليه قال لهم: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟ قالت: فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا يقول: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذارء البتول.
فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عوداً ثم قال: والله ما عدا عيسى بنُ مريم ما قلت هذا العود ! قالت: فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله ! اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي - والشيوم: الآمنون - من سبكم غرم ثم قال: من سبكم غرم ثم قال: من سبكم غرم. ما أحب أن لي ديراً من ذهب وأني آذيت رجلاً منكم " ( ).
هذا الحوار البديع بين النجاشي وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يكشف عن حقيقة موقف الإسلام من عيسى بن مريم، فهو نبي كريم مرسل، وليس إلهاً ولا ابن إله كما يزعم كثير من الناس قديماً وحديثاً، والراسخون في العلم من أهل الكتاب يعلمون ذلك لا شك، وهاهو النجاشي يصدق بذلك وتعارضه أساقفته فلا يأبه لاعتراضهم، ويكشف الحوار عن فقه عميق لجعفر رضي الله عنه، في جمعه لعقائد الإسلام وأخلاقه وآدابه بهذا اللفظ الموجز الدال، وفي اختياره صدر سورة مريم وما فيها من ذكر زكريا ويحيى ومريم وعيسى... مما يناسب المقام عند النجاشي، ثم يبين الحوار كذلك أن الصدق خير وسيلة للنجاة، وقد مدح القرآن الصادقين وأمر المسلمين بالصدق يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِين (التوبة:119) وقد نزلت هذه الآية في سياق موقف مشابه حين صدق الثلاثة المخلّفون في غزوة تبوك رسولَ الله الحديثَ، فتاب الله عليهم لصدقهم وتوبتهم.
وقد أسلم النجاشي بعد ذلك كما هو معلوم , ويوم موته رضي الله عنه أخبر النبي أصحابه بذلك , وخرج بهم إلى المصلّى فصلى صلاة الغائب عليه ؛ لأنه لم يكن عنده من يصلي عليه من المسلمين.
2- الحوار مع وفد نصارى نجران:
ولعل أظهر محاولات الاتصال المباشر بين النبي والنصارى كانت في السنة التاسعة للهجرة حين أرسل إلى نصارى اليمن يدعوهم، فأرسلوا وفداً منهم إلى المدينة للاطلاع على الأمر، وهو مشهور في كتب السيرة والتاريخ بوفد نصارى نجران ( ).
وقد ذكر المفسرون أن الآيات من أول سورة آل عمران إلى ثلاث وثمانين منها نزلت في مناسبة مجيء وفد نصارى نجران إلى النبي ( ).
وفي الجزء المذكور من السورة آيات كثيرة في محاجة أهل الكتاب، حيث فتح باب الحوار معهم في المدينة كما ذكرنا من قبل، وحين وصل الحوار إلى طريق مسدود بشأن إسلامهم، وأبوا إلا البقاء على دينهم، أمر الله تعالى رسوله بالمباهلة، قال تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ. فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (آل عمران: 59-61).
وجاء في صحيح البخاري عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ:" جَاءَ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ صَاحِبَا نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ يُرِيدَانِ أَنْ يُلاعِنَاهُ، قَالَ: فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لا تَفْعَلْ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيّاً فَلاعَنَّا لا نُفْلِحُ نَحْنُ وَلا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا، قَالا: إِنَّا نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَنَا، وَابْعَـثْ مَعَنَا رَجُلاً أَمِيناً وَلا تَبْعَثْ مَعَنَا إِلا أَمِيناً، فَقَـالَ : لأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلاً أَمِيناً حَقَّ أَمِينٍ، فَاسْتَشْرَفَ لَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: قُـمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، فَلَمَّا قَامَ قَـالَ رَسُولُ اللَّهِ : هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ " ( ).
قال ابن حجر: " وفيها - أي فوائد قصة وفد نجران - جواز مجادلة أهل الكتاب، وقد تجب إذا تعينت مصلحته، وفيها مشروعية مباهلة المخالف إذا أصر بعد ظهور الحجة.." ( ).
قال ابن هشام:" فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله : أسلما، قـالا: قد أسلمنا، قال: إنكما لم تسلما فأسلما، قالا: بلى قد أسلمنا قبلك، قال: كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولداً وعبادتكما الصليبَ وأكلكما الخنزيرَ، قالا: فمن أبوه يا محمد؟ فصمت عنهما رسول الله فلم يجبهما، فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم كله صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية " ( ).
وقال الطبري في قوله تعالى إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (آل عمران:62) " فلما فصل جل ثناؤه بين نبيه محمد وبين الوفد من نصارى نجران بالقضاء الفاصل والحكم العادل أمره إن هم تولوا عما دعاهم إليه من الإقرار بوحدانية الله وأنه لا ولد له ولا صاحبة وأن عيسى عبده ورسوله وأبوا إلا الجدل والخصومة أن يدعوهم إلى الملاعنة، ففعل ذلك رسول الله فلما فعل ذلك رسول الله انخذلوا فامتنعوا من الملاعنة ودعوا إلى المصالحة " ( ) عند ذلك أقروا بالجزية للمسلمين فأحسن المسلمون إليهم وحفظوا لهم العهود التي أعطاهم النبي حين وفدوا عليه بالمدينة ( ).
ويتضح من هذا اللقاء حرص النبي على الأدب النبوي الجميل في المعاملة والحلم على المجادلين، وقد كانوا في مدينته وتحت سلطانه ولم يمسَّهم بأذى، بل أكرم وفادتهم والتزم بأدب الجدال معهم بالحسنى كما أمره ربه، وكان حريصاً على إظهار الحق ليقيم الحجة على مجادليه، وانتهى الحوار معهم بإقرارهم بالحق مع إعراضهم عنه، إذ لو صدقوا لباهلوا ولكنهم جبنوا عن المباهلة لعلمهم أنه نبي، وذلك كما فعل آل فرعون مع آيات موسى عليه السلام وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً (النمل:14).
ونتعلم من هذا الحوار أن على المحاور المسلم أن يبذل أقصى جهده مخلصاً لله تعالى، فإن لم يستجب الطرف الآخر فذلك قضاء الله وقدره.. وأن نتجاوب مع الطرف الآخر فيما يُرجى نفعه، كإرسال النبي أبا عبيدة معهم حكماً بينهم.
هذه حقائق ينبغي أن نستفيد نحن المسلمين منها في حوارنا اليوم مع العالم النصراني خاصة، لقد تحولنا من مهمة الدعوة إلى مهمة الدفاع عن الاتهامات التي يكيلها لنا العالم النصراني، وهو خطأ ينبغي تجاوزه.
ونحن نرغب إلى من يمارس الحوار عملياً اليوم مع النصارى أن يتأدب بأدب القرآن وأدب النبي في ذلك، كائنة ما كانت النتائج، فالله وحده يهدي من يشاء، فليكن همنا الأول إظهار الحقائق وإبطال الشبهات دون خضوع أو إقرار بالباطل الذي يظهره مجادلو النصارى في مثل تلك الحوارات التي يحرصون فيها على اصطحاب النساء الجميلات المتبرجات وإظهار الصلبان وعمل القداسات وإظهار المنكرات كشرب الخمور وأكل لحوم الخنازير... كل ذلك يجب أن يكون موضع استنكار من المحاور المسلم، بل عليه أن يترك موضع الحوار إذا ظهر فيه شيء محرم كشرب الخمر، وعن جابر: أن النبي قال:" وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا بِالْخَمْرِ " ( ) إن أصول الدين الحق واحدة، والزنا والخمر ولحم الخنزير حرام عند أهل الكتاب كما هي عند المسلمين، ولكن القوم حرفوا وبدلوا.
2- حوار إسلام عديّ بن حاتم:
كان عَدِيّ سيّد قومه طيّء من قبائل اليمن، وكان فيهم شريفاً مطاعاً وكان قد تنصّر وصار يأخذ لنفسه ربع غنائمهم، واقتنع بهاتين: النصرانية المحرّفة والسلطان، قال: فلما سمعت برسول الله كرهته، وكان عدي يعلم أن دعوة الإسلام ماضية إلى الأمام، فكل الشواهد والحوادث تدل على ذلك، فلا مجال للمكابرة، ولذلك أمر راعياً له أن يجهز إبلاً سماناً قوية على مقربة منه، وقال له: إذا سمعت بجيش محمد قد وطئ أرضنا فآذني، ثم هرب إلى الشام ووقعت أخته في الأسر، فأكرمها النبي وأطلق سراحها، فلحقت بأخيها وأشارت عليه بالذهاب إلى النبي ( ).
قال عدي:" فخرجت حتى أقدم على رسول الله المدينة، فدخلت عليه وهو في مسجده فسلمت عليه فقال: من الرجل؟
فقلت: عدي بن حاتم.
فقام رسول الله فانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته فوقف لها طويلاً تكلمه في حاجتها، قال: فقلت في نفسي: والله ما هذا بملك، ثم مضى رسول الله حتى دخل بيته فتناول وسادة من أدم محشوة ليفاً فقذفها إليَّ فقال لي: اجلس على هذه، قال قلت: لا، بل أنت فاجلس عليها، قال: لا، بل أنت، فجلست وجلس رسول الله بالأرض، قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك !
ثم قال: إيه يا عدي بن حاتم، ألم تك ركوسيا؟ قال: قلت: بلى، قال: أولم تكن تسير في قومك بالمرباع؟ قال: قلت: بلى، قال: فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك !! قال: قلت: أجل والله، وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل.
قال ثم قال: لعله يا عديَّ بن حاتم إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكنَّ المال يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه ولعله إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فوالله ليوشكنَّ أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف إلا الله، ولعله إنما يمنعك من الدخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايمُ اللهِ ليوشكنَّ أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت، قال: فأسلمت.
فكان عديّ بن حاتم يقول: مضت الثنتان وبقيت الثالثة، والله لتكونَنَّ !! قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فُتحت، ورأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف شيئاً حتى تحجَّ هذا البيت، وايمُ اللهِ لتكونَنَّ الثالثة، ليفيضَنَّ المالُ حتى لا يوجدَ من يأخذُه " ( ).
لقد أراد النبي بالأسوة الحسنة والفعل المباشر أن يعلّم عدياً بعضاً من حقيقة النبوة، فهي الرحمة والتواضع للناس والبعد عن الترف وزخرف الحياة الدنيا طمعاً في وعد الله بالنعيم المقيم في الآخرة، هكذا تعلم عدي في طريقه إلى بيت النبي وحين دخل البيت لم يجد قصراً منيفاً ولا عيشاً ناعماً، بل وجد وسادة طرحها له النبي ليجلس عليها.
هذا درس جليل من دروس النبوة المباركة، ثم يأتي الحوار النبوي بعد ذلك ليجهز على البقية الباقية من الشك أو التردد عند عدي، لقد أخبره النبي بحقيقة حاله ومخالفته قواعد الدين الذي كان يتبعه، ثم أخبره هذه الأخبار الثلاثة التي ستكون بإذن الله، عند ذلك لم يجد الرجل بداً من الاستجابة لصوت الحق، فأسلم وصار يحدّث بعد ذلك بحديث إسلامه هذا ليكون عبرة ودرساً للناس، وهكذا كان " نهج احتواء المخالف واللين معه سلوكاً نبوياً لم يزل ملازماً للنبي في أصعب المواقف وأكثرها إثـارة للغضب من قبل مخالفيه " ( ).
كانت تلك - فيما أعلم - أظهر مواقف اللقاء المباشر مع النصارى في حياة النبي ولكن النبي أرسل إلى ملوكٍ وأمراء من النصارى رسائل يدعوهم فيها إلى الإسلام، وسيأتي طرف من ذلك في مبحث حوار الحضارات.
ومن مجموع المحاورات المذكورة في هذا الفصل وغيره من حوارات الآخر في السيرة النبوية نجد أن النبي كان معهم عادلاً مقسطاً همه الأول دعوة هؤلاء إلى الإسلام وإنقاذهم من النار رحمة بهم وبعامة البشر لأنه مرسل رحمة للعالمين وقد عامل المخالفين له في معظم الأحوال بالعفو، إلا من لجأ إلى القوة أو الغدر، فالرد عليه لابد أن يكون بالقوة ليرتدع هو وغيره، قال تعالى فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُون (الأنفال:57) قال ابن كثير:" أي نكل بهم، قاله ابن عباس والحسن البصري والضحاك والسدّي وعطاء الخراساني وابن عيينة، ومعناه: غلّظ عقوبتهم وأثخنهم قتلاً ليخافَ مَنْ سواهم من الأعداء من العرب وغيرهم ويصيروا لهم عبرة " ( )
إن أسلوب النبي في معاملة الآخر يمثل قمة الرقي الحضاري الذي عرفته الإنسانية، إن مواقف أقل من هذه شأناً كانت تُقطع فيها الرقاب وتحرق الأجساد في مشارق الأرض ومغاربها قديماً وحديثاً مع العدو أو المخالف أو المخطئ، وجاءت سيرة محمد نوراً يشع للبشرية يعلمها كيف تعفو وتصفح.
الفصـل السابع منهجـية الحـوار: آدابه وشروطه ومقوماته وعوائقه
إن لفن الحوار شروطاً وآداباً ينبغي الإلمام بها، وثمة عوائق تعوق نجاح الحوار وتأديته الأهدافَ المرادة منه، ولا شك أن هذه الآداب والشروط والمقومات والعوائق متصل بعضها ببعض، ومتداخل بعض منها بآخر، ولذا جمعتها تحت هذا العنوان محاولاً ترتيب آداب الحوار نظرياً في صورة نقاط تجمع الموضوع، وعملياً في صورة مواقف حوارية متنوعة من القرآن الكريم والسنة والسيرة النبوية، متبعاً ذلك بتحليل أو تفسير تستنبط منه بعض الفوائد والأحكام والآداب، وفي أثناء ذلك سنذكر ما يمكن أن يعوق الحوار أو يفقده الثمرة المرجوة منه.
أما مصطلح " آداب الحوار " فنقول في تعريفه: إنه مجموعة الآداب والأخلاق التي يجب على المتحاورين اتباعها بغية تحقيق أهداف الحوار، وهي المزيد من التفاهم والإسهام في حل المشكلات، مع الإبقاء على العلاقات الإنسانية القائمة في حالة حسنة دون تغير إلى الأسوأ نتيجة اختلاف الآراء.
وهنا نذكر كذلك أن لكل حالة حوارية أو تفاوضية سياقها وظروفها الخاصة، فقد تكون هنالك علاقات حسنة موجودة بالفعل بين أطراف الحوار أو التفاوض، وقد يكون غير ذلك، وتتعدد الأهداف حسب كل حالة حوارية كذلك.
ولا شك أن آداب الحوار ومسائله منثورة في مثاني آي القرآن الكريم وأحاديث النبي وأقوال الصحابة والتابعين والعلماء، وهي كثيرة متنوعة، ولذا نحاول هنا جمعها في صورة نقاط لكل منها عنوان جامع لآداب متعددة، ومع ذلك فإني أراني في حاجة ملحة إلى الإيجاز في هذا الفصل على وجه الخصوص لكثرة مادته وتشعبها، إذ إن مادته - أي آداب الحوار- هي أكثر مادة الكتب التي أُلفت حول موضوع الحوار قديماً وحديثاً.
والسؤال الآن: هل يتوجب على المحاور أن يستحضر كل هذه الآداب على كثرتها وتفرعها حين يحاور؟ والجواب أن ذلك أمر قد يشق على الكثير من الناس، ولكن الأوفق في نظرنا أن يستعمل منها ويستحضر ما يمليه واقع الحال أو سياق الحال الذي فيه المحاورة بكل ملابساته.
وأنا أذكر هنا أنني بعد طول تدبر في آداب الحوار في القرآن والسنة النبوية لم أجد فروقاً كبيرة بين آداب الحوار مع المسلم وغير المسلم، هناك فرق في طريقة الدعوة لا شك، لأن المسلم يسلّم بالأدلة الشرعية ابتداءً، أما في إدارة الحوار فالإنسان هو الإنسان من حيث حاجته للرفق واللين والاحترام...
وهذا عرض موجز لآداب الحوار ومقوماته وشروطه وعوائقه:
1- تحقيق النية:
كل عمل في الإسلام صغيراً كان أم كبيراً لا بدّ لـه من نية خالصة لله عز وجل، وتحقيق الإخلاص في النية لله ينبغي أن يتحقق عملياً في واقع الحياة لقوله تعالى قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (الأنعام:162) وقد وضح النبي حقيقة النية بحديثه " إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْه " ( ).
والحوار عمل من الأعمال، ولذا لا بدّ له من نية خالصة لله تعالى تتمثل في إحقاق الحق وإظهاره على الناس، إذ " ينبغي على المسلم ألاّ يدخل في حوار ما إذا لم يكن متأكداً من أن نيته لله عز وجل، فليس المقصود من الحوار أن يظهر المحاور براعته وثقافته أو أن يتفوق على الآخرين " ( ) فالمراد الأول من الحوار إظهار الحق.
يستوي في هذا الحوار المخطط له مسبقاً كحلقات النقاش والتفاوض.. والحوار الذي يأتي عرضاً دونما سابق إعداد له، في هذا كله ينبغي أن تكون نية العبد خالصة فيه لله بإظهار الحق والدفاع عنه، ومسألة النية كبيرة ليس هنا محل بسطها.
وقد لا تكفي النية السليمة وسلامة القصد لإنجاح الحوار، فلا بد مع ذلك من تكامل الآداب المرعية، فقد تظن في نفسك أو في غيرك صلاح النية ولكن لا تتبع الأسلوب الصحيح لتحقيقها، وهنا يقع الخلط، ويلتبس على كثير من العامة صلاح بعض الناس - في رأيهم - مع أخطاء يقوم بها هؤلاء المفترض صلاحهم، ولذا ورد التحذير من هذا الخطأ، إذْ يجب أنْ " لا يصرفك صلاح الرجل عن التحقيق في صحة منهجه، كما أنه ينبغي أن لا يصرفك صحة منهج الرجل عن النظر إلى مدى صلاحه وإخلاصه، إذ إنه لا بد للأمرين معاً: صلاح النية، وصحة المنهج " ( ).
وتحقيق النية في العمل كله شرط حصول الثواب، ولهذا يفتقد الثواب ويضيع القصد إذا كان الغرض من التحاور حب الرئاسة وشهوة الغلبة والفخر كما يقول الجاحظ:" إذْ كان مع التلاقي يشتد التصنع، ويكثر التظالم، وتفرط العصبية وتقوى الحمية، وعند المواجهة والمقابلة يشتدُّ حب الغلبة، وشهوة المباهاة والرياسة، مع الاستحياء من الرجوع، والأنفة من الخضوع، وعن جميع ذلك تحدث الضغائن، ويظهر التباين، وإذا كانت القلوب على هذه الصفة وعلى هذه الهيئة امتنعت من التعـرف، وعميت عن مواضع الدلالة " ( ).
2 - ضرورة ترتيب عناصر الحوار:
إن المحاور لديه قضية يؤمن بها ويريد عرضها، وهذه القضية ذات عناصر متنوعة، وهنا لابدّ لـه من ترتيب هذه العناصر ليضمن الفوز من أقصر طريق، إنك حين تدعو شخصاً إلى الإسلام لن تبدأ معه بذكر الصلاة والصوم أو مجمل العبادات، إنه لا يعرف لماذا يؤدي هذه الأعمال ولمن، لذا فإن البداية السليمة أن تكون بالعقيدة، بالدعوة إلى الإيمان بالله الواحد ومعرفة صفاته، وحين تذعن النفس لهذا الإله الواحد الخالق القادر... حينذاك سيكون من اليسير عليها أن تتبع أوامره وتنتهي عما نهى عنه، أو ستكون الثمرة المرجوة من الإيمان وهي الطاعة التي تولد المحبة والأعمال الصالحة.
بهذا الفقه كانت حوارات الدعوة إلى الله في السنة النبوية عامة، ومنها أوامر النبي إلى معاذ بن جبل حين أرسله إلى أهل اليمن كما في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ بَعَثَ مُعَاذاً رَضِي اللَّه عَنْه إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِّلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهـِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ " وفي رواية مسلم " فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ " ( ).
إن ترتيب عناصر الحوار شرط أساس لنجاحه إن كُتب له النجاح، وقد رُتبت في الحديث النبوي المذكور أحسن ترتيب ؛ لأنه بدأ بالأصل الذي تبنى عليه الجزئيات والفروع، وهو التوحيد، والمخالفة في الأصل تعني ضرورة المخالفة في الفرع، كما يقول الشاطبي:" وإن كان المناظر مخالفاً لـه في الكليات التي ينبني عليها النظر في المسألة فلا تستقيم لـه الاستعانة به، ولا ينتفع به في مناظرته، إذ ما من وجه جزئي في مسألته إلا وهو مبني على كلِّي وإذا خـالف في الكلي ففي الجزئي المبني عليه أولى.." ( ).
ونستدرك هنا فنقول: إن هذا التدرّج يخصّ المناظر، والنبي لم يأمر معاذاً بمناظرة أهل الكتاب، ولكنه أمره بدعوتهم بالتدرّج المذكور في الحديث والجامع بين الحديث وما أوردناه من نص الشاطبي ضرورة ترتيب عناصر الموضوع، وهو أمر يخص المحاورة والمناظرة على حد سواء، ولا شك أن دعوة معاذ كانت ذات أبعاد حوارية كذلك كما هو المعلوم في أمثال ذلك.
وهذا الفقه النبوي هو في الحقيقة فقه لمقاصد القرآن وآدابه في الدعوة إلى الله تعالى، فهي تبدأ عند جميع الأنبياء والرسل بالدعوة إلى الإيمان بالله تعالى أولاً ثم تكون العبادات والمعاملات والأخلاق التي تبنى على العقيدة، ولهذا كان مجمل الدعوة الإسلامية في مكة يدور حول العقيدة وكلمة التوحيد أولاً، حتى إن بعض العبادات تأخر فرضها إلى المرحلة المدنية التي بدأت بعد ثلاثة عشر عاماً في مكة هي عمر الدعوة هنالك، فالصوم والحج والزكاة، وتنظيم أمور الصلاة كالقبلة والقصر والجمع وأمور الجهاد في سبيل الله.. كل هذه الأمور إنما كانت في المدينة بعد أن رسخت كلمة التوحيد في القلوب وعرفت ربها وخالقها وآمنت بثوابه وعقابه، وهكذا كانت دعوة الأنبياء جميعاً إلى الله تعالى تبدأ بالإيمان به سبحانه ثم بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر... ولهذا نلاحظ في قصص الأنبياء غالباً الابتداء بالدعوة إلى عبادة الله تعالى وحده، والعبادة هنا بمعنى الإيمان به سبحانه إلهاً خالقاً رازقاً معبوداً بحق.. والكلمة نفسها نجدها عند كثير من الأنبياء في ابتداء محاورة أقوامهم، ففي سورة الأعراف:
1- لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ (59).
2- وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ (65).
3- وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَـوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ (73).
4- وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَـاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ (85).
والملاحظ من آداب الحوار هنا نداء الرسل أقوامهم بـ"يا قوم" لأنهم منهم ويحبون لهم الخير، وليسوا غرباء عن الأهل والديار..
هذا الترتيب لخطوات الدعوة هنا وهناك وحي من الله تعالى، وهو يعلّم الناس بهذا الفقه المبارك ليتربوا في مدرسة القرآن قولاً وفعلاً، وها هي البشرية حين تبلغ من نفسها بعض الرشد وتؤصّل مناهـج علـومها الاجتماعية لا تخرج عن أصداء القرآن وآدابه، فقد أصل المحدثون فن " التفاوض " الذي يُستعمل مصطلحاً أساسياً في علوم السياسة والاقتصاد، ووجدوا أن من شروطه " ترتيب خطوات التفاوض.. ويعني ترتيب الأفكار والتعريف بالمشكلة، وتحديد الأولويات والبحث عن فرص النجاح ومعرفة عناصر القوة والضعف لديك ولدى الطرف الآخر.." ( ).
ويدخل ضمن ترتيب عناصر الحوار " ضرورة تحديد أولويات التفاوض، وهنا علينا تحديد أهمية كل نقطة ووزنها، ومن ثم تحديد أولويات التحدث بشأنها، وتصديرها على قائمة موضوعات النقاش أو تهميشها أو السكوت عنها، وهـل نبدأ بالمشكلات الرئيسية أو الفرعية " ( ).
وهنا نذكر على سبيل المثال مفاوضات الفلسطينيين مع الإسرائيليين، حيث يحاول المفاوض اليهودي دائماً الدخول في موضوعات جزئية وإجراءات شكلية وتضخيم المطالب اليهودية واستنفاد قدرة المفاوض الفلسطيني في أشياء هامشية دون الدخول إلى المشكلات الأساسية كالاحتلال واللاجئين وإقامة الدولة.
إن ترتيب عناصر الحوار ضرورة علمية منهجية، وإن " الحوار المنهجي مفيد في إيصال الفكرة للآخرين، ومفيد أيضاً في تدريب المحاور نفسه، إذ إنه يرتقي بطريقته في التفكير المتزن، مما يجعـله مقبولاً من الآخرين بدرجة أكبر ويجعل احتمال اقتناعهم بأفكاره أكبر أيضاً " ( ).
3 - البدء في التحاور بالنقاط المشتركة:
إذا كان المتحاوران مختلفين اختلافاً كبيراً فلا بد للمحاور الناجح من الابتداء بالنقاط المشتركة ليجذب الطرف الآخر وينشطه للتحاور، فمحاورة أهل الكتاب تبدأ من تقرير حقيقة أن هناك إلهاً خالقاً أرسل أنبياء من قبل.. هذا الاقتناع لا خلاف عليه بيننا وبين أهل الكتاب فهم يؤمنون بوجود الله وببعثة الرسل، ومن ثم نبدأ معهم في التحاور بذلك لأنه أصل مشترك.. ثم يتطرق الحوار بعد ذلك إلى خروجهم عن مقتضى الوحدانية بزعمهم أن لله تعالى أولاداً، كما قالت اليهود في عزير والنصارى في المسيح، وكإنكارهم بعثة النبي .. إلخ، إن الحوار " إذا بدأ بما هو موضع خلاف أو نزاع أو وجهات نظر متعارضة، فإن ذلك قد ينسف الحوار من أوله، أو على الأقل يغير القلوب ويكدّر الخواطر، إن المحاور الذي يبدأ بتقديم نقاط الاتفاق بينه وبين الطرف الآخر إنما يبدأ في الحقيقة بكـسب ثقته، ويبني معه جسـراً من التفاهم.." ( ).
ويدخل في هذا بناء الأرضية المشتركة مع الطرف الآخر إن لم تكن موجودة كما يقول بعض الخبراء:" في أي وقت تفتح فيه أو تقدم موضوعاً ينبغي عليك أن تربطه بالخلفية الثقافية للمستمع.. إلى ما يعرفه بالفعل لكي تنتقل من المعروف إلى المجهول.. بعد أن تؤسس أرضية مشتركة تذكرُ الهدف وتوضح بتعابير لا لبس فيها الهـدف الذي يهدف الحديث إلى تحقيقه" ( ).
4 - التحاور مع من يفقه الحوار:
إن من شروط نجاح الحوار وجود أطراف مستعدة للتحاور ومستعدة لبحث المسائل موضوع الخلاف، فإذا لم يكن لدى أحد الطرفين رغبة في بحث المسألة فلا داعي إذاً لضياع الجهد والوقت، ولكن الدعاة أحياناً - مع وجود الإيمان بالدعوة والحماس لها - يواصلون الحوار برغم هذا العائق الخطير، ولم يكن الأنبياء يقطعون الحوار مع أقوامهم حتى آخر لحظة في دعوتهم، وبأمر مباشر من الله تعالى، وفي حوار صالح مع قومه فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (هود:65) فقد ظل يحاورهم حتى آخر لحظة، ثم أمره الله بترك الحوار بعد عقرهم الناقة، وتوعّدهم ثلاثة أيام يكون بعدها الهلاك، وقد يكون الأمر أقرب من ذلك، إذ ظل لوط يحاور أهل قريته حتى آخر يوم، فأمره الله تعالى بالخروج ليلاً لأن العذاب سيكون في الصباح فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (هود:81) هكذا كانت دعوة الأنبياء حواراً دائماً متصلاً لا ينهيه إلا مجيء العذاب والهلاك في كثير من الأحوال.
وقد أخبر الله تعالى عن هذا الصنف من الناس، ذلك الذي تتضح أمامه الحقائق والآيات ولكنه يغلق قلبه وأذنه عن استقبال الخير، فهذا لا يجدي معه حوار ولا تنفع نصيحة كما قال تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (الأنعام:25) لقد خرج الأمر من التحاور إذاً إلى الجدال المذموم، مما يعيق التواصل ويمنع سبل الاهتداء، وحينئذٍ لا يجدي الحوار نفعاً بل تجدي السنون ونقص الأموال والأنفس والثمرات، فإن لم يُجْدِ هذا كلُّه فالهلاك.
وقد حاور النبي قومه كثيراً... ثم تمرّ الأيام وتجتمع قريش عند أبي طالب يشتكون محمداً إلى أقرب الناس إليه، عمه المدافع عنه حمية وصلة للرحم، فحاور أبو طالب ابن أخيه فقال النبي : أي عمّ، أوَ لا أدعوهم إلى ما هوَ خير لهم منها؟ قال: وإلامَ تدعوهم؟ قال: أدعوهم إلى أن يتكلّموا بكلمة تدين لهم بها العرب، ويملكون بها العجم، قال: فقال أبو جهل من بين القـوم: ما هي؟ وأبيك لنعطينَّكها وعشراً أمثالها، قال: تقول: لا إله إلا الله، قال: فنفروا وتفرقوا وقالوا: سلنا غير هذه، فقال: لو جئتموني بالشمس حتى تضعُوها في يدي ما سألتُكم غيرها ! قال: فغضبوا وقاموا من عنده غضابى، وقالوا: والله لنشتمنَّك وإلهك الذي يأمرك بهذا " ( ).
وحين يصل الحوار إلى طريق مسدود يؤمر المحاور بالسكوت، لأنه يكون أبلغ من الكلام، قال تعالى وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً (الفرقان 63).
وإذا رأى المحاور محاوره يخبط خبط عشواء بلا علم فلا بدّ لـه من قطع الحديث، إذ لا فائدة في الاستمرار، بل قد يجرّ ذلك إلى مزيد من البلاء والجهل، قال تعالى وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (الأنعام::68).
وإذا لم يصدق المحاور موضوع الحوار فالأفضل السكوت حتى تتضح الحقائق لهذا أُمرت مريم عليها السلام بالسكوت في أمر ولادتها عيسى بغير أب، لأن الأمر أكبر من أن يحيط به حوار مريم مع بني إسرائيل أو من اقتناعهم به مهما اجتهدت، فالأفضل السكوت لتتدخل المعجزة وينطق الوليد بكلمة الحق.
5 - الإعراض عن المحاور المجادل المتكبر:
إذا تعدى الحوار الآداب المرعية وخرج إلى التكذيب والجدال بالباطل فإن الأفضل إغلاق باب الحوار، لهذا أمرت مريم بإغلاق باب الحوار مع بني إسرائيل بشأن صبيها الذي حملت به فجأة، وتركت الحوارَ لعيسى لتكون المعجزة، وقد أمرنا بالإعـراض عن المجادلين بالباطـل وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ (الأنعام: 68) وقال تعالى فيهم مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (الزخرف: 58) وفي الحديث عن النبي " أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الألَدُّ الْخَصِمُ " ( ).
وحين خرج الرسول إلى ثقيف عمد إلى بعض سادتها، ومنهم ثلاثة إخوة: عمرو ومسعود وحبيب أولاد عمرو بن عمير، فجلس إليهم وحدثهم وكانوا حلفاء قريش ولهم روابط وثيقة بها... فدعاهم النبي إلى الله وكلمهم بما جاء لهم من نصرته على الإسلام والقيام معه على مَنْ خالفه من قومه، فقال أحدهم: هو يمرُط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك ! وقال الآخر: أما وجد اللهُ أحداً يرسله غيرك؟! وقال الثالث: والله لا أكلمك أبداً لئن كنت رسولاً من الله كما تقول، لأنت أعظم خطراً من أردّ عليك الكلام ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك !" ( ).
وهكذا أعرض الثلاثة عن الحق بحجج داحضة واهية، وأغلق النبي باب الحوار معهم فلم يرد عليهم شيئاً ؛ إذْ قد أغلقوا منافذ الاستقبال، وأولها العقل الواعي المتدبر.
6 - الإلمام بموضوع الحوار وعدم الخوض فيما لا يعلم:
من أسباب نجاح الحوار وسرعة تأثيره أن يلم المحاور بعناصر موضوعه وأن تكون لديه الحجج الدامغة والمعلومات المناسبة التي يفاجئ بها الخصم، وقد بين الله تعالى لأهل الكتاب خطأ دعواهم في إبراهيم ولامهم على جدالهم فيما لا علم لهم به فقال: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إِلاّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ. هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (آل عمران:65-66).
وأمر الله تعالى رسوله والمسلمين والناس جميعاً بالالتزام العلمي واتباع الأدلة وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (الإسراء:36) قال ابن كثير:" وقال قتادة: لا تقل: رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم، فإن الله سائلك عن ذلك كله.. إلى أن قال: إن الله تعالى نهى عن القول بلا علم.." ( ) فالقول بلا علم من باب الظن المنهي عنه، وفي الحديث النبوي: قَالَ النَّبِيُّ :" إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ " ( ).
وعلى المحاور أن يعد موضوع حواره إعداداً جيداً بأدلته وعناصره، والإتقان في كل أمرٍ محمودٌ مطالبٌ به كما في الحديث " إن اللهَ يحبُّ إذا عملَ أحدُكم عملاً أنْ يتقنَه " ( ) وهو في مجال المحاورة التي أساسها الدعوة إلى الله أكثر تطلباً.
وفي قصة إسلام عديّ بن حاتم الطائي مواقف حوارية بديعة ذكرنا بعضها، ومنها شاهد على ما نحن بصدده، حيث قال رسول الله لعديّ:" إيـه يا عـديَّ بن حاتم، ألـم تكُ رَكُوسِيّاً؟ قال: بلى، قال : أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع؟ ( ) قال: بلى، قال : فإن ذلك لم يكن يحلُّ لك في دينك ! قال عدي: قلت: أجل والله، وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يُجهل" ( ).
فانظر إلى حكمة النبي حيث فاجأ عديّاً بأنه على دين يخالف أوامره، وكانت مفاجأة أذهلت الرجل وعلم أن في الأمر شيئاً آخر مع الخبرة العملية، إنه وحـي السماء !
لا بدَّ إذاً للمحاور الناجح من التسلح بالعلم والمعرفة، خاصة في الموضوع الذي سيحاور فيه، إن " موضوع الحوار والعلم بتفاصيله والتسلح بالحجج والبراهين المؤيدة لـه سلاح فعال في يد المحاور الناجح يمكنه من الوقوف على أرض ثابتة وليس على رمال متحركة، وحق الاعتراض والتخطئة والتصدي للمحاورة والجدال لا يتأتى لجاهل في مواجهة عالم.. " ( ).
إن المحاور الجاد لابدّ لـه أن يلم بأطراف القضية ويفترض لها الاحتمالات والشبهات ويعدّ الردود عليها بالأدلة، فذلك أكثر إقناعاً وأسرع إذا كان لدى الخصم استعداد لتقبل الحق وعدم التمادي في الباطل، إن محادثة جمهور كبير، ومحاورته أمر شاق ينبغي أن يعتمد على الفطنة والذكاء والمعلومات الصحيحة الدقيقة، إنها السبيل الوحيد لاجتذاب احترام المحاورين واهتمامهم ومن ثم إقناعهم، ومن الطرق العملية في إعداد موضوع الحوار أو الندوة أو المناقشة على سبيل المثال أن تقوم "بزيارة للمكتبة، واستعراض الموضوع، وأثناء قراءتك للصحف والمجلات جهّز مقصاً بجانبك لاستخدامه في قصّ الفقرات المتصلة بموضوع البحث.. وتبدأ عن طريقها في إعداد ملف المعلومات الخاص بك، ويجب أن تتوقع الموضوعات التي من المحتمل أن يطلب منك الحديث عنها في خلال خمس سنوات أو عشر مقبلة.." ( ).
ومما يدخل في هذا الباب أيضاً النظر في أدلة المخالفين لـه في الرأي، والمعتاد أن ينشغل المحاور بأدلته لإقناع خصمه، ولعله ينسى في خضم المحاورة أو الجدال مطالبته الخصم بأدلته.." لا يكن نظرك في المسألة أو في الموضوع مقتصراً على أدلتك، بل يجب أن يشمل أدلة مخالفك أيضاً، وذلك لوزن أدلة القولين بميزان عدل، ليظهر الحق من الباطل، والحق لا يضره البحث والتحقيق، بل ذلك من صالحه " ( ).
ويدخل في باب الإلمام بموضوع الحوار كذلك مناقشة النفس، وهو حوار داخلي مع النفس قبل مناقشة الآخرين لتوقع أدلة الآخرين وردودهم على القضية محل المناقشة، إذْ يجب أن " تبدأ أولاً بسؤالك نفسك عن أدلة رأيك لترى هل عندك أدلة تثبت بها ما تذهب إليه أم لا، فإن بدت لك أدلة فناقش بها نفسك لترى هل يصح لك الاستدلال بها أم لا " ( ).
إن الإسلام يعظم شأن العلم والبرهان والحجة، ويذم الجاهل الذي يتبع هواه بغير علم، وينهى عن القول بغير علم.
7 - إظهار احترام المحاور:
للإنسان من حيث هو إنسان كرامة وفضل بخلق الله لـه بيديه ونفخه فيه من روحـه كما قال سبحانه وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (الإسراء:70) وكان النبي يظهر الاحترام الكبير لكل من خالفه في الدين إذا لم يكن منه أذى أو اعتداء.. وهو أدب قرآني، ولا غرو فقد كانت أخلاقه هي أخلاق القرآن العليا.
ومن الآداب المرعية في فن التفاوض " التركيز على حل المشكلات وتجنب التعرض للأشخاص بأي نوع من أنواع التشويه …" ( ).
ومن أدب إبراهيم عليه السلام في دعوته أنه لم يسبّ الملك الذي ادعى أنه إله من دون الله، ولم يواجهه بما يوجب غضب الملك عليه، وإنما في محاججته إياه ألقى عليه حجة ساطعة لم يملك الملك أمامها إلا أن يبهت، وكذا في محاجة قومه كان يناديهم بلفظ "يا قوم " وينادي أباه بأحسن الألفاظ " يا أبت.." كل هذا مما يلين القلوب ويقرّب الآراء إذا لم يحل الهوى والشيطان دون ذلك.
وقد رأينا كل الأنبياء ينادون أقوامهم بلفظ "يا قوم" وخطاب سليمان إلى بلقيس الذي بدأه بـ"بسم الله الرحمن الرحيم " فلم يسب ولم يلعن، وإن كان قد استعمل لوناً خفيفاً من التهديد أول مرة، ثم زاد من جرعة التهديد في المرة الثانية، والتهديد الذي يمنع إراقة الدماء وإزهاق الأرواح أمر لا غبار عليه، بل هو أمر مرغوب مندوب إليه، ولهذا كله وصفت المرأةُ - وهي الكافرةُ ساعتها - كتاب سليمان بأنه كتاب كريم، ولا يكون لـه هذا الوصف من مخالف إلا لاشتماله على آداب الدعوة والحوار التي تؤصلها شريعة الله الواحدة في كل زمان ومكان، وهذا الأدب كثير في سنة النبي نذكر منه على سبيل المثال كتابه إلى هرقل الذي رواه البخاري في حديث طويل، ونص الكتاب:
" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإسْلامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأرِيسِيِّينَ، و يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاًَ وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (آل عمران: 64) ( ).
ونلاحظ في الكتاب من آداب الدعوة إلى الله:
1- الإيجاز الشديد مع الإحاطة بموضوع الرسالة، ذلك أنها من نسج الذي أوتي جوامع الكلم ولا ينطق عن الهوى.
2- مراعاة حال المدعو وإظهار احترامه، وذلك لمكانته في قـومه، ولاستمالته إلى الحق، ولذا قال: إلى هرقل عظيم الروم، ونلاحظ الدقة في التعبير حيث حصر عظمته في قومه، فهي ليست عظمة مطلقة أو عالمية، والمعنى أن المشرك لا مكانة له إلا عند أمثاله ومن هم على شاكلته.
3- السلام على من اتبع الهدى، سلام عام على كل من يتبع الهدى، ولذا خرج منه هرقل والمشركون لأنهم لا يتبعون الهدى، وهي دقة متناهية في اختيار الألفاظ والتراكيب، فلم يبدأه بالسلام عليه وإنما على كل من اتبع الهدى، وهذا النوع من التسليم أدب قرآني تأدب به موسى وهارون حين أرسلهما الله إلى فرعون فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّـلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (طه:47).
4- الدعوة الصريحة إلى الإسلام بلفظ موجز لا يحتمل التأويل" أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم ".
5- استعمال الترغيب والترهيب معاً " أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ".
6- الاستعانة بالآيات التي تخصُّ الموضوع كما ذكر في الآية الكريمة من سورة آل عمران.
وثمة فارق ظاهر بين المداهنة والنفاق اللذين ذمهما الإسلام وبين مداراة الناس، فالمداراة فن من فنون المعاملة بين الناس، والمداهنة لون من النفاق، وهي أن تثني على الرجل، فإذا تركته ذممته ووقعت فيه... أما المدارة فأن تقابله بوجه طلق مبتسم وأن تحاوره بالحسنى ولا تنقص من قدره، حتى لو اختلفت معه.. وعَنْ عَائِشَةَ " أَنَّ رَجُلاً اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ وَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ، فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِيُّ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : يَا عَائِشَةُ، مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشاً؟ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ " ( ).
وقد أمر الله تعالى موسى وهارون حين أمرهما بالذهاب إلى فرعون بقوله فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (طـه:44).
هكذا ضرب النبي - كما كان إخوانه الأنبياء من قبل - أحسن الأمثلة في احترام المحاور ؛ لأن الإنسان جُبل على حب ذاته وكرامته، فإذا أُهين غضب، وإذا غضب لم يقبل حقاً ولا عدلاً.
8 - عدم التكبر على المحاور:
وهذا الأدب مكمل للأدب السابق ومتمم لـه، إذ لابد أن يشعر المحاور وإن كان مخالفاً بأن الذي يدعوه يهدف أولاً إلى مصلحته ويبغي لـه الخير، كما قال شعيب عليه السلام لقومه إِنْ أُرِيدُ إِلاّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ (هود: 88).
إن التكبر أمر مذموم وهو مرض إبليس الذي أخرجه إلى الكفر، والناس لا يقبلون من متكبر أياً كان موقعه أو منصبه أو مكانته، فإن قبلوا منه لمكانة لـه أو سلطان فعلى مضض وكره وتربص إلى حين.. ولهذا أوصى لقمان ولده بقوله وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (لقمان: 18).
ولا ينبغي أن يبدأ الحوار بتخطئة الآخر واتهامه، فلماذا الحوار إذاً؟ إن الحوار سبيل لبيان الحق، وإذا بدأنا بالإدانة والاتهام فلن يظهر الحق، وسوف يصر الطرف الآخر على موقفه، ومن ثم تضيع الحقيقة، وهذا ثابت فيما أوردناه من حوارات النبي .
ولم يثبت قطُّ في حوار للنبي أنه سبّ محاوره أو لعنه أو قبّح أو تنقّص... حتى في أشد الأزمات وأحلك الأوقات، ولعل حواره مع مبعوثي قريش في صلح الحديبية خير شاهد على ذلك كما ذكرناه من قبل، فحين أملى النـبي شروط الصلح مع قريش على عليّ بن أبي طالب بحضور سهيل بن عمرو ممثلاً لقريش قال النبي لعلي:" اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: لا أعرف هذا ! ولكن اكتب باسمك اللهم، فقال رسول الله : اكتب باسمك اللهم فكتبها، ثم قال: اكتب: هذا ما صالح عليه محمدٌ رسول الله سهيلَ بن عمرو، قال: فقال سهيل: لو شهدتُ أنك رسول الله لم أقاتلْك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، قال: فقال رسـول الله : اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيلَ بن عمرو " ( ).
إن بشاشة الوجه ولين الجانب وخفض الجناح وإلقاء السلام أمور كالسحر في اجتذاب القلوب والنفوس، وفي الحديث " لا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئاً وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ " ( ) إن اللقاء بوجه طلق وبإلقاء السلام يفتح مغاليق القلوب ويقارب بين الأرواح، لهذا السبب ورد ذم المجادل المتكبر عن الحق وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ. ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (الحج: 8-9).
9 - الجدال والمحاورة بالتي هي أحسن:
إن اتباع الحسنى في القول والفعل كاف في جذب القلوب والعقول الواعية، ولهذا أُمر المسلمون بمجادلة أهل الكتاب بالتي هـي أحسن وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ (العنكبوت:46) قال ابن كثير:" قال قتادة وغير واحد: هذه الآية منسوخة بآية السيف، ولم يبق معهم مجادلة، وإنما هو الإسلام أو الجزية أو السيف، وقال آخرون: بل هي باقية محكـمة لمن أراد الاستبصار منهم في الدين فيجادل ليكـون أنجع فيه " ( ).
إن الله عز وجل يعلمنا - من خلال أسلوب القرآن نفسه - كيف نحاور المخالف بالتي هي أحسن، إن الله تعالى يورد كثيراً من الشبهات والأقوال الشنيعة التي يقولها أعداؤه، ثم يردّ عليها ويفندها بالحجج الدامغة، فقد ذكر قول فرعون أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى (النازعات:24) وقوله مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي (القصص:38) وقول النمرود أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ (البقرة :258) وقول اليهود والنصارى وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ (التوبة:30) وغير ذلك كثير، والله تعالى قادر على إهلاك هؤلاء جميعاً بكفرهم، ولكنه أملى لهم وحاورهم على لسان أنبيائه، لتكتمل عليهم الحجة يوم القيامة، ولم يمنعه سبحانه كفر من كفر عن دعوته أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (الزخرف:25).
وكانت سنة النبي وأفعاله وفي غزواته دعوة الناس إلى الله بالحسنى، وعدم ابتدائهم بالحرب إلا بعد أن يغدروا كما فعل مع يهود المدينة، والدليل كذلك محاورته مع وفد نصارى نجران، وقد استمرت أياماً حتى نزلت آية المباهلة فدعاهم إليها فخافوا وقبلوا بالجزية.
والدعوة بالحسنى دعوة عامة للمسلم وغير المسلم كما قال تعالى ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (النحل:125) وإن كان الجدال في الدعوة بين المسلمين مذموماً، ويباح التحاور للتعلم والمناظرة، أما الجدال بين المسلمين في الدين فهو أمر مذموم.
والدعوة بالحسنى أدب قرآني أُمر به المرسلون على مر التاريخ، وحين أرسل الله تعالى موسى وهارون إلى فرعون الذي بلغ المدى في كفره فزعم أنه إله، قال تعالى لهما فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (طه:42) هذا مع علم الله تعالى المسبق أن فرعون لن يؤمن، وسيبقى على كفره حتى الغرق ولكنه مع ذلك أمرهما بما أمر ليكون ذلك نبراساً وأدباً ومنهاجاً مستمراً للدعاة إلى يوم القيامة، وإذا لم ينجح هذا الأدب مع فرعون، فلعله ينجح مع غيره فيتذكر أو يخشى.
وقد حاور النبي اليهود مراراً وتكراراً، فما سبّ أحداً منهم ولا تنقّصه بل كان على الدوام يحاورهم بالحسنى ويُظهر احترام محاوريه ورغبته الشديدة في هدايتهم إلى الحق، حتى حين كانوا يشتدون في القول وينشرون الأكاذيب كعادتهم كان يقابلهم بالحسنى ويفضح أكاذيبهم، ومن ذلك سؤاله لهم في غزوة خيبر عن أهل النار، قَالَ:" فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُ عَنْهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَا عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا، فَقَالَ لَهُمْ: مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ قَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيراً ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا ! فَقَالَ النَّبِيُّ : اخْسَئُوا فِيهَا، وَاللَّهِ لا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَداً.." ( )
10 - التذكير بالله تعالى والاستيثاق من المحاوَر:
إن التذكير بقدرة الله تعالى وصفاته أثناء المحاورة لمما يلين من موقف الخصم ولذلك استوثق موسى عليه السلام من الرجل الصالح من أهل مدين حين عقد معه عقد الإجارة مقابل زواج ابنته قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (القصص:28) فقد ذكّره بالله تعالى وشهادته على العقد وكونه وكيلاً يعلم الأمر.
وقد حدثت محاورة بين اثنين من الصحابة أحدهما مدين للآخر، فأخذ الدائن يحلف أن لا يضع من الدين أو يؤخر، وهنا سمعه رسول الله فتدخل في الحوار بكلمة يسيرة أطفأت غضب الدائن وجعلته يتنازل - طـاعةً لله ورسوله - عن بعض حقه كما في الحديث عن عائشة قالت:" سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُمَا، وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ فِي شَيْءٍ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لا أَفْعَلُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: أَيْنَ الْمُتَأَلِّي عَلَى اللَّهِ لا يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ؟ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَهُ أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ " ( ).
وحين بلغت الشهوة برجل مداها واستمكن من ابنة عمه مقابل مائة دينار، وقعد بين شعبها الأربع ليفعل المعصية.. ذكّرته بالله عز وجل فارتدع، ففي حديث الثلاثة أصحاب الغار " قالت المرأة: اتق الله ولا تفضَّ الخاتم إلا بحقه" ( ) فقام الرجل عنها دون أذى حين ذكّرته بالله تعالى السميع البصير.
ومن ذلك ما كان من عمر بن الخطاب حين " قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولاً كَانُوا أَوْ شُبَّاناً، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لابْنِ أَخِيهِ: يَا ابْنَ أَخِي، لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ، فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْه، قَـالَ: سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: هِيْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، ولا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ ! فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِه.
فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (الأعراف:199) وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ، وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تلاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافاً عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ " ( ) لقد توقف عمر حين ذُكّر بالله وتليت عليه آياته.
وينبغي للمحاور التذكير بالله دائماً حتى ولو كان المحاوَر لا يؤمن بالله تعالى وهذا أدب قرآني ورد في حوارات الأنبياء مع رسلهم، وقد قال موسى وهارون لفرعون قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (طه:47) وقال هود لقومه أَوَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (الأعراف:63).
إن التذكير بالله تعالى أصل من أصول الحوار والدعوة، وهو رد على من يريدون إقامة الحوار بين الثقافات والأديان في عصرنا دون الخوض في مسائل العقيدة، وهو حوار غير مجد نفعاً لأنه مبني على ضياع الأصل الأصيل في هذا كله، ألا وهو توحيد الله تعالى كما سنفصل ذلك في موضع آخر.
والاستيثاق من المحاور وأخذ العهد عليه أن يذعن إلى الحق إذا ظهر لـه الحق واجب، سواء استجاب أم لم يستجب، المهم الصدع بالحق لتظهر الغلبة لمن يستحق، وذلك كما فعل النبي مع اليهود في شأن عبد الله بن سلام حين أسلم فقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ، إِنْ عَلِمُوا بِإِسْلامِي قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ بَهَتُونِي عِنْدَكَ، فَجَاءَتِ الْيَهُودُ وَدَخَلَ عَبْد ُاللَّهِ الْبَيْتَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: أَيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ؟ قَالُوا: أَعْلَمُنَا وَابْنُ أَعْلَمِنَا وَأَخْيرُنَا وَابْنُ أَخْيَرِنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْد ُاللَّهِ؟
قَالُوا: أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ.
فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ فَقَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا وَوَقَعُوا فِيهِ " ( ).
11 - الصبر والتواضع:
إن التحلي بالصبر والتواضع للمحاور يجعلانه يشعر بأن الذي أمامه لا يريد شيئاً إلا الحق والحقيقة في ذاتها، والوصول إلى الحقيقة فيه نفع للناس، وقد لقي رسول الله من الناس إبّان دعوته ألواناً من التطاول فما ضجر وما سب وما لعن، لقد ابتسم للرجل الذي خنقه بثيابه طالباً بعض المـال حتى احمرّت رقبته الشريفة فما زجره وما لعنه.. بل أعطاه ما سأل، ففي الحديث عَنْ أَنَسٍ قَالَ:" كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ ثُمَّ قَالَ: مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ !! فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ " ( ).
وحين زعم فرعون أنه رب العالمين وهدّد موسى بالسجن إن اتخذ إلهاً غيره صاوله موسى بالحجة وليس بالسب واللعن قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ. قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (الشعراء:29-30).
إن الصبر والهدوء والاعتماد على الحجة الناصعة والدليل البين سبل هامة لنجاح الحوار، حتى إذا لم يقتنع المحاور فإنه يظل في دخيلة نفسه عالماً بأنه على الباطل وأن خصمه على الحق.. وهذه قد تؤدي في النهاية إلى الهزيمة النفسية إذا لم تأت الهزيمة من سلطان أعلى، وقد قال الله تعالى في فرعون وقومه بشأن آيات موسى وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً (النمل:14) فهم قد عرفوا أن موسى على الحق واستيقنوا أن الآيات التي جاء بها حق، ولكن منعهم الكبر حتى جاءهم وعد الله بالهلاك.
والتواضع خلق إسلامي جميل، ما رُزقه أحد إلا حببه الله إلى الخلق وجعل لـه في قلوب الناس مؤمنهم وفاسقهم مكانة طيبة، فإذا تحاور مع الناس تلهفوا على حديثه وقبلوا منه، ولهذا أوصى الله تعالى رسله وأتباعهم بالتواضع وفي الحديث عن النبي قال:" وَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلا يَبْغِي أَحَـدٌ عَلَى أَحَدٍ " ( ) إنه " التواضع الذي يستصغر به الإنسان نفسه وجهده، بحيث لا يقف من خصمه موقف التحدي ولكن موقف المسترشد المتعرّض بنفسه لمساقط الغيث، وعلى جسر من هذا التواضع الذي يفتح الطريق أمـام الرأي الآخر تنجلي معركة الرأي عـن فوائد كثيرة " ( ).
12 - الهدوء وتجنب الغضب والعفو عند المقدرة:
من الأمور التي تضعف الحوار وتخرجه إلى الخصومة واللدد اللجوء إلى الغضب، ولقد نهينا عن الغضب كما أكده النبي بتكرار النهي عنه كما في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ : أَوْصِنِي، قَالَ: لا تَغْضَبْ فَرَدَّدَ مِرَاراً قَالَ: لا تَغْضَبْ " ( ) وفي الحديث الآخر" لا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ " ( ) ذلك أن الغضب مخرج للإنسان عن شعوره وتعقّله، فإذا حدث شيء من ذلك أفسد الحوار، وأحدث اللدد والخصومة، وربما استتبع العداوة، كما هو مشاهد في الحياة " إن كثيراً من الخلاف في وجهات النظر - حتى بين الزملاء والأصدقاء - يذهب بالمودة والمحبة، فاحرص كل الحرص على ألا يقع هذا، واخطب ودّ أخيك أو صديقك " ( ) .
إن الغضب من أخطر آفات الحوار، لأنه يخرج الإنسان عن حدود السلوك القويم، يقول الدكتور أحمد كمال أبو المجد:" إن الحوار لا يكاد يبدأ جدالاً بالتي هي أحسن … حتى تتسلل إليه الحدة والشدة وتستولي على بعض أطرافه روح الضيق بالمخالفين والمسارعة إلى اتهامهم في أفكارهم ونياتهم، وأخذهم بالشبهة وسوء الظن، واستثارتهم باللفظ الجارح والعبارة القاسية، ويترك بعضهم ساحة الحوار إيثاراً للسلامة ويختار بعضهم أن يدفع السيئة فيرد على الصيحة بأعلى منها، يتلقى التهمة فيوجه مثلها أو أشد … ثم لا تلبث القضايا التي بدأ الحوار بقصد خدمتها أن تضيع وسط الاتهامات المتبادلة " ( ).
13 - مخاطبة الناس على قدر عقولهم:
خلق الله الناس متفاوتين في العقل والعلم.. ولذا ينبغي لمن يطلب النجاح لدعوته أن يترفّق بالناس، وأن يعرف قدر الإمكان ثقافة المخاطب وخلفياته الثقافية والتعليمية والحضارية، إن ذلك كله يؤثر على مجرى التحاور معه، وقد سُئل النبي سؤالاً واحداً في أوقات متفرقة، فأجاب عنه إجابات متنوعة، وإنما يكون ذلك على أقدار السائلين وحاجة المقام، فقد سئل : مَتَى السَّاعَةُ؟ وكانت الأجوبة متنوعة في كل مرة على النحو الآتي:
1- في حديث جبريل عليه السلام قَالَ:" متى الساعة؟ قال: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا، إِذَا وَلَدَتِ الأَمَةُ رَبَّهَا، وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإبِلِ الْبُهْمُ فِي الْبُنْيَانِ، فِي خَمْسٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إِلا اللَّهُ، ثُمَّ تَلا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ... (لقمان:34) ( ).
2- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:" بَيْنَمَا النَّبِيُّ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟ قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ، قَالَ: كَيْفَ إِضَـاعَتُهَا؟ قَالَ: إِذَا وُسِّدَ الأَمْـرُ إِلَى غَيْرِ أَهْـلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَة " ( ).
3- عَنْ أَنَسٍ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ عَنِ السَّاعَةِ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَالَ: لا شَيْءَ إِلا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَالَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ " ( ).
4- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأعْرَابِ جُفَاةٌ يَأْتُونَ النَّبِيَّ فَيَسْأَلُونَهُ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَكَانَ يَنْظُرُ إِلَى أَصْغَرِهِمْ فَيَقُولُ: إِنْ يَعِشْ هَذَا لا يُدْرِكْهُ الْهَـرَمُ حَتَّى تَقـُومَ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ، قـَالَ هِشَـامٌ: يَعْنِي مـَوْتَهُمْ " ( ).
لهذا كله أُمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم، وعن عَلِيّ قال: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ ( وعن عَبْدَ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْماً حَدِيثاً لا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً " ( ).
لقد أجاب النبي كلَّ سائل بما يصلحه، ولا تعارض بين الأجوبة، بل كل منها يبين جانباً من الحقيقة، وهو من الترفق بالناس ورحمتهم ومحبة نفعهم وإرشادهم إلى ما ينفعهم عملياً في أمور الدين والدنيا معاً، وهكذا كانت أقوال الصحابيين الكريمين مأخوذة من هديه .
ولقد تطورت مناهج العلوم الشرعية تطوراً كبيراً، وصارت ذات مصطلحات يجهلها أكثر العامة من المسلمين، فإذا جاء العالم إلى مقام الموعظة فينبغي عليه أن يترفق بعامة الناس، إن الخطيب إذا قام في صلاة الجمعة يحدث الناس عن الجرح والتعديل والتدليس والعنعنة.. إلخ من مصطلحات علم الحديث على سبيل المثال فلن يجد آذاناً صاغية، فالمستمعون هنا عادة لا يفهمون من هذه المصطلحات شيئاً إلا إذا كان فيهم ذو علم بالحديث ومصطلحاته، وليس المقام كذلك مناسباً لذلك.
ومما يدخل تحت هذا المعنى عدم بدء المحاورة بإظهار أخطاء الآخرين وجهالاتهم والتشنيع عليهم، حتى لو كانوا يستحقون ذلك، فإنه يؤدي إلى النفور والصدّ عن المحاورة، وذلك " لأن نفوس الناس مجبولة على النفرة ممن يجرحها ويقابلها لأول وهلة بالتخطئة والنقد، فينبغي للداعي للحق والمجادل عنه أن يقدم لذلك بمقدمة حسنة " ( ).
14 - الاعتراف بالحق والإذعان له والإقرار بالخطأ:
من الأمور التي تنصف الخصم وتساعد على قبوله للحق - إن كان من أهله - أن يعترف المحاور بالخطأ ويقدم الاعتذار إن كان ثمة ما يوجب ذلك، وهو أدب قرآني تأدب به موسى عليه السلام في محاورة فرعون وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ. قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (الشعراء: 19-20).
لقد أعطى موسى النَّصَفَة من نفسه وأقرّ بالخطأ، وهو أمر محمود يبين للمحاور أنك صاحب حق تدافع عنه، ولا تبغي عن الحقيقة بديلاً، ولا تدافع عن أهواء عنّت لك من هنا أو هناك، إنك إذاً صاحب قضية مؤمن بها منافح عنها، وهدفك في النهاية هو انتصار الحقيقة.
ولا يدخل في باب الاعتراف بالحق أن تخضع للمجادل وتقرَّ له بما يراه خطأ لديك، وهو ليس من باب الخطأ، وإنما يكون مما تثار حوله الشبهات إذ قد "يستولي عليك شعور خفي بضرورة التخلص مما يعيبه الخصم قبل أن تتحقق من صدق دعواه بأن ذلك أمر يُعاب " ( ).
إن هذا الأمر يوقع لا ريب في أخطاء منهجية كالذي نراه من اندفاع بعض المسلمين إلى إنكار بعض المسلّمات في ديننا أو تأويلها أو الاعتذار عنها أمام شبهات يثيرها أعداء الإسلام، وذلك كتعدد زوجات النبي زيادة على سائر المسلمين، وتعدد الزوجات في الإسلام، ومخالطة الرجال للنساء أو سفرهن بغير محارم، وغير ذلك مما يثيره المستشرقون وأعداء الإسلام، فيضطر بعض المسلمين إلى الاعتذار مما لا اعتذار منه، فذلك ديننا وشرعتنا ومنهاجنا شاءوا أم أبـوا، وما علـينا إلا البلاغ والبيان والتفسير، لا الاعـتذار والاستخذاء.
ويلحق بهذا ما يبديه بعض أهل الحماس للدين والدفاع عنه من إنكارٍ أو تأويل لبعض المسلّمات لينفوا أشياء تثار حولها الشبهات " فلا يوقعنك حماس الردّ على المخالف أو صاحب الشبهة في إنكار شيء ثابت من دينك" ( ) وذلك كمن ينكرون وجود السحر جملة أو ينكرون كرامات بعض الصالحين وذلك كله ثابت في الكتاب والسنة بأدلة يعلمها أهل العلم.
15- ترك الاعتراض والشغب على العلماء والولاة ما كانوا على الحق:
إذا وثقت بمكانة المحاور ومدى علمه بموضوع الحوار فيجب التسليم والقبول بما يقول ما دمت تراه محقاً ولا يبغي إلا الحقيقة، وليس لـه مأرب شخصي في شيء مما يقول..
وفي هذا المقام نتذكر محاورة عمر بن الخطاب للنبي في صلح الحديبية وكيف أنه تردد مرات بين النبي وأبي بكر محاوراً ومناقشاً.. حتى قال لـه رسول الله آخر الأمر:" أنا عبدُ الله ورسوله، ولن أخالفَ أمرَه، ولن يضيعني " ( ) وهنا اقتنع عمر، ولم يغضب منه رسول الله لعلمه بأنها الحميّة للحق.
ومثل هذا في كثير من بلاد الإسلام اليوم قد تُقطع فيه الرقاب أو يفضي بصاحبه إلى السجن أو فقد منصبه أو عمله أو الملاحقة الأمنية...
ومن هذا القبيل الذي تكون المحاورة فيه لوناً من محاولة التعرف على الحق ثم الإذعان لـه حين يتضح محاورةُ الملائكة لرب العزة سبحانه في خلق آدم، وهو لم يكن اعتراضاً وإنما كان استفساراً عن الحكمة من إسكانه الأرضَ.
أما المحاورة التي أخذت صورة الاعتراض مع شيء من سوء الأدب فهي محاورة بني إسرائيل مع موسى بشأن البقرة، وأقبح منها اعتراض إبليس في محاورته لله عز وجل بشأن خلق آدم والسجود لـه، إذ خرج من محاورته بالكفر، وكفى به خذلاناً وخسراناً.
وقد يورث الإعراض عن الحق ولو كان يسيراً الأذى لصاحبه وسوء الذكر وفي الحديث عن سعيد بن المسيب عَنْ أَبِيهِ " أَنَّ أَبَاهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ فَقَالَ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ:حَزْنٌ: قَالَ: أَنْتَ سَهْلٌ، قَالَ: لا أُغَيِّرُ اسْماً سَمَّانِيهِ أَبِي، قَـالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: فَمَا زَالَتِ الْحُزُونَةُ فِينَا بَعْدُ " ( ) ذلك أن الرجل اعترض على النبي في تغيير اسمه إلى ما هو أحسن، وهو ما يخالف الأمر بطاعة الرسول الذي لا ينطق عن الهوى.
16 - الإنصاف:
إن إنصاف الخصم وجعله يشعر بأن وجهة نظره مفهومة أمر أساس لنجاح المحاورة، والإنصاف معناه إعطاؤه حقه في الكلام والنقاش بغير تضييق عليه، ليبسط رأيه واضحاً، ثم يأخذ المحاور في ردّه الذي ينقض قول الآخر أو يعدله حسب سياق المحاورة.
والإنصاف لون من العدل الذي أمرنا به حتى مع من نخالفهم ونبغضهم قال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (المائدة:8).
وهذا الأدب التحاوري أدب قرآني تبعه الأنبياء وغيرهم من الصالحين، لقد كانوا يعطون الفرصة لخصومهم ليقولوا ما يشاءون ثم يردّون عليهم بالحجة الدامغة طلباً للهداية وإظهار الحق، وليس لمأرب شخصي أو حاجة دنيوية، وفي حوارات موسى مع فرعون صور فريدة لذلك كما في سور: طه والشعراء والقصص وغيرها.
إن المنافسة قد تحجب الحقيقة، وحب الفوز قد يدفع إلى الظلم وهضم حقوق الخصم، والإسلام يأمر بالعدل المطلق، حتى مع غير المسلم، إن المخالف في الدين ويعيش في بلاد الإسلام يدخل تحت مسمى " أهل الذمة " أي العهد، صوناً لحقوقه من أن تهضم، وإذا نظم الإسلام الحياة على هذا النمط الفريد، فهو في باب الحوار يعلمنا هذا الأدب أيضاً، حتى بين المسلمين في المعاملات اليومية يأمرنا الإسلام بقول الحـق يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ (النساء:135) إن " في كيان الإنسان داعية الحسد، مع حب العلو في الأرض بغير الحق، إلى جانب ميله إلى تأكيد ذاته دائماً، ولو على أشلاء الآخرين، أما الذي يشهد لغيره بالفضل منصفاً لـه فقد ارتفع فـوق الهواتف النفسية ولاءً منه للحق وحدَه " ( ).
وحين يفتقد الحوار الإنصاف والعدل يفقد الإقناع، بل يُقابل بالسخرية، ومن أمثلة ذلك أن قريشاً حين تأكّد لديها " أن أبا طالب غيرُ مسلمٍ محمداً إليهم ولا مفرط في نصرته، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا: يا أبا طالب، هذا عُمارة ابن الوليد أنهدُ فتىً في قريش وأشعره وأجمله، فخذه فلك عقلُه ونُصرته، واتخذْه ولداً ؛ فهو لك، وأسلم لنا ابن أخيك - هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرّق جماعة قومك، وسفّه أحلامهم - فنقتله ؛ فإنما رجل كرجل !
فقال: والله لبئس ما تسومونني ! أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلُونه ! هذا والله مالا يكون أبداً " ( ).
لقد فشل الحوار لأن القوم لم ينصفوا ولم يعدلوا، ومن ثم سهل على أبي طالب ردهم.
إن الإنصاف يجعل الطرف الآخر - رغم المخالفة - يحترم محاوره ويقدره، وربما يدعوه ذلك إلى الإذعان للحق آخر الأمر، لهذا يُعد من آداب الحوار " أن تكون حواراتك مع الطرف الآخر تتسم بقـدر من النـزاهة والمعقولية بحيث يؤدي ذلك إلى وجود جسور من التفاهم المنطقي العقلاني " ( ) ومما يدخل تحت الإنصاف كذلك "حسن الفهم لحجج الطرف الآخـر وأدلته وأقواله، والخلفيات المؤثرة على أفعـاله وتصرفاته " ( ).
17 - الصدق:
الصدق هو ذكر الشيء على حقيقته دون زيادة أو نقص أو تزوير، والصدق أساس لاستقامة الحياة، قال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (التوبة:111) وقد وردت الآية في موضع يدعو إلى التدبر، إذ وردت تعقيباً على حديث الثلاثة الذين خُلّفوا في غزوة تبوك، ونجتزئ من حديثهم بما يخص مسألة الصدق.
قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ - أحد الثلاثة-: "فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّهُ - أي النبي - تَوَجَّهَ قَافِلاً - يعني من الغزو - حَضَرَنِي هَمِّي وَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ، وَأَقُولُ: بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَداً؟ وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي، فَلَمَّا قِيلَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَظَلَّ قَادِماً زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ وَعَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَداً بِشَيْءٍ فِيهِ كَذِبٌ فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ... فَجِئْتُهُ، فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ ثُمَّ قَالَ: تَعَالَ، فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَـالَ لِي: مَا خَلَّفَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى، إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَـدَلاً، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صـِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إِنِّي لأرْجُـو فِيهِ عَـفْوَ اللَّه " ( ِ).
وقد جاء مرارة بن الربيع وهلال بن أمية فقالا كما قال كعب، وصدقا الله ورسوله فكان من أمر الثلاثة ما كان، لقد كان الصدق في الحوار مع النبي إذاً سبباً لمنجاة هؤلاء بعد الدرس الذي تلقوه عملياً من المجتمع المسلم، لقد تعلم المسلمون أن الصدق منجاة حتى في أضيق الأوقات وأشدها قسوة وعسراً.
18 - القدوة الحسنة:
القدوة الحسنة ركن أساس من أركان الدعوة، إن الداعي إلى أمر لا بد أن يكون أول السابقين إليه، وفي حوار شعيب عليه السلام مع قومه وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ (هود:88) فهو يدعوهم إلى أمر يبدأ فيه بنفسه، وينهاهم عن أمور ينتهي هو قبلهم عن إتيانها، وهذا ضابط الأسوة الحسنة، وكم تضيع ثمار دعوات لا يراعي فيها أصحابها هذا الركن من أركان الدعوة، إن عامة الناس تضخّم هفوة العالم والداعي، ولا يغفرون له صغائر يغفرونها لغيره من الناس، ولقد ضرب النبي في هذا الميدان أروع الأمثلة مما هو معلوم من جمّاع سنته الشريفة، كان يأمر الناس بصيام التطوع إن استطاعوا، وهو أكثرهم صيام تطوع، وكذا الصلاة وحسن الخلق...
وهذه الأسوة الحسنة يأخذها المحاور أو المجادل في المقام الأول، إذ ستكون من أوائل حججه أن يرمي خصمه بأنه لا يتبع عملياً ما يدعو إليه نظرياً، إذ لو كان يؤمن بدعوته حق الإيمان - في رأي خصمه - لكان أول الملتزمين بها لقد عرفنا في حياتنا العملية صوراً لذلك كثيرة، فترى الداعية - على سبيل المثال - ينهى الناس عن الأمر ولا ينتهي، ومن ثم تموت دعوته بغير ثمار وترى الحكام يدعون إلى العدل وأكثرهم لا يعدلون، ويدعون إلى التقدم العلمي والإداري ولا يسلكون إليه السبل الصحيحة...
هذا على المستوى العام والسلوك اليومي، أما على المستوى الآني أي اللحظة التي يجري فيها الحوار فالأمر أخطر من ذلك وأشد، إذ التعلق بهذه اللحظة أكثر للمخالطة والملاحظة الحاصلة، فلا بد للمحاور من الاحتراس واليقظة، وفي كثير مما يسمى اليوم بحوار الأديان، خصوصاً بين الإسلام والنصرانية تحدث في ساحات الحوار أشياء ينبغي على المسلم إنكارها، ولكن قد يتهاون بشأنها المسلم المحاور فتكون المصيبة كما يقول بعض علماء الإسـلام الذين يحضرون مثل هذه اللقاءات " تتسم لقاءات الحوار وخصوصاً في الغرب بمناسبات منظمة يشيع فيها مظاهر يفترض أن ينكرها ويتحاشاها المسلم، مثل شرب الخمور، والاختلاط الواسع، علماً بأن هذه المظاهر مقبولة عند المسيحيين ولا تشكل لهم أي حرج " ( ).
19 - إيثار الحق أولاً:
القصد من التحاور أو الجدال لا بد أن يكون إظهار الحق في ذاته، لا إرضاءً لمخلوق أياً كانت درجته على حساب الحق الذي أمرنا بإعلائه وإظهاره، وكم تعرض للناس الشبهات والأهواء فيؤثرون الخلق على الحق طمعاً في متاع عاجل أو سلطان زائل، لقد كان النبي يغضب للحق إذا انتهك ولا يغضب لنفسه كما قالت عائشة:" عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ شَيْئاً قَطُّ بِيَدِهِ وَلا امْرَأَةً وَلا خَادِماً، إِلا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " ( ).
ومما يوقع في هذا أيضاً تصور أن الصلاح والعلم في بعض الناس يمنعهم من الخطأ أو اتباع الهوى في بعض المسائل، وهي شبهة تدخل على كثير من الناس، فالأصل في الإنسان أنه ليس معصـوماً من الخطأ إلا من قضى الله تعالى لـه بذلك من خلقه، ولهذا وضح النبي القضية بجلاء في حـديثه: " لَولا أَنَّكُمْ تُذْنِبُونَ لَخَلَقَ اللَّهُ خَلْقاً يُذْنِبُونَ يَغْفِرُ لَهُمْ " ( ).
يقول الدكتور الرحيلي:" وينبغي أن يكون الإنسان باحثاً عن الحق بصدق ونزاهة، فيسلك طريق الوصول إليه ويحتكم إلى الأدلة والقواعد الصحيحة، ويبتعد عن كل ما يصده عن الحق، وإن كان ممن يحب أو من يربطه به نسب أو علاقة أخرى.." ( ).
20 - الثقة بالنفس:
ينبغي للمحاور ما دام يدافع عن الحق أن لا يهاب محاوره، وأن يقدم حججه ناصعة مجلوة، لا يضره في ذلك كيد عدو أو جهل جاهل، أو تجاهل كبير، فالحق أكبر من هذا كله، ولو أن أصحاب الحق لم يضعوا هذا في نصابهم ما تقدم رجلان ضعيفان فقيران كموسى وهارون إلى فرعون ذي الأوتاد والجنود والعذاب... ولكنهما على حق، ومعهما ربهما يسمع ويرى ولهذا تحول الفزع خفياً إلى قلب فرعون وهو يحاورهما بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ولولا الثقة بالنفس ما خرج محمد على قومه بدعوته الجديدة داعياً إلى الله ليل نهار، يدعو الصغير والكبير والعبد والحر والمرأة والرجل، وقد كان يدعو كل من يراه، ويخرج في الموسم فيعرض نفسه على القبائل ليهاجر ويضمنوا لـه الحماية وحرية الدعوة إلى الله، ورغم كثرة المعارضين ورغم خوف القبائل من سلطان قريش وسطوتها، خرج فحاور أهل المدينة ورغّبهم حتى وجد عندهم طلبته، فهاجر إليهم.
وسلك أصحابه رضوان الله عليهم مسلكه، فما هاب أحد منهم الخروج إلى دعوة أو إلى حرب، خرج بعضهم برسائل منه إلى ملوك العالم آنذاك خرجوا بغير خوف من لقاء أولئك الملوك الذين طالما سمعوا عنهم وعن طغيانهم وإذلالهم لأقوامهم، وأخبار تلك السفارات معلومة سنذكرها في موضع آخر.
هذا خلق العقلاء على مر الزمان، تكون الثقة بالنفس جزءاً من سلوكهم ودعوتهم، وفي عيون الأخبار " قدم إياس بن معاوية الشام وهو غلام فقدم خصماً لـه إلى قاض لعبد الملك بن مروان، وكان خصمه شيخاً كبيراً، فقال له القاضي: أتقدم شيخاً كبيراً؟ فقـال إياس: الحق أكبر منه، قال: اسكت، قال: فمن ينطق بحجتي؟ قال: ما أظنك تقول حقاً حتى تقوم، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقام القاضي فدخل على عبد الملك فأخبره بالخبر فقال: اقض حاجته وأخرجه من الشام لا يفسد عليَّ الناس " ( ).
21 - مراعاة الظروف المناسبة للتحاور:
المراد هنا مراعاة السياق الزماني والمكاني للعملية الحوارية، إن لكل مكان حكماً في التحاور، فالمسجد غير النادي العام أو مكتب العمل أو مكان النـزهة، والاستعداد للتحاور في كل مكان من هذه الأماكن قد يختلف عن الاستعداد للتحاور في غيره، وكذلك زمان التحاور، فالخروج إلى نزهة للترويح عن النفس لا يحتمل التحاور في الأمور بالغة الدقة أو الصعوبة والتعقيد، والحوار في قطار أو سيارة أو طائرة يختلف عن الحوار في قاعة درس يحضرها أناس متقاربون في المستوى العلمي ويجمعهم إطار علمي واحد وبينهم جسور مشتركة من التفاهم، وهذا الأمر عليه الأدلة من القرآن والسنة، وفي محاورات يوسف مع إخوته لم يبد لهم من أول مرة حقيقة أمره، حتى يصل بهم إلى الاعتراف بالفقر والحاجة إلى المعونة والخطأ.. ومن ثم تكون التوبة الصادقة، وحين وصلوا إلى الدرجة المرادة قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (يوسف:78) عند هذا الحد من الافتقار والتذلل وطلب الصدقة اختار يوسف الوقت المناسب لإظهار الحق قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ. قَالُوا أَإِنَّكَ لأنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (يوسف 89-90) وهنا لم يجد الإخوة أمامهم إلا الإذعان والخضوع التام والاعتذار الصريح.. ولو أن يوسف اختار الظرف غير المناسب لخسر إخوته، إذ لو أخبرهم أول مرة بحقيقة أمره فلربما تخلفوا عن العودة إليه خوفاً من بطشه، ولكنها الحكمة التي يؤتيها الله عز وجل من يشاء.
22 - مراعاة الجوانب " الفنية " للحوار المباشر، ومنها:
أ – مراعاة درجة الصوت:
من الأمور المؤثرة في التعامل في دنيا الناس استعمال الإنسان لصوته في الحديث، فثمة مواضع يكون فيها رفع الصوت محموداً كدرس العلم والأذان والاستغاثة، وذلك كما أمر النبي العباس أن ينادي في الناس في غزوة حنين، لكن خفض الصوت في غير ذلك أمر محمود يدل على التواضع والتعقل، وهو أدب قرآني، قال تعالى وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ (لقمان:19) وقال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ (الحجرات:3).
وفي إدارة الحوار ينبغي للمحاور أن تكون درجة صوته مناسبة للسياق الذي يتحدث فيه، فرفع الصوت بحيث يزعج الآخرين أمر مرفوض، وكذلك خفضه بحيث لا يسمع الآخرين أمر مرفوض كذلك، وقد " وُجد بالخبرة والتجربة أن الصوت المعتدل الهادئ المتأني من غير صراخ أو صياح، ومن غير إسرار وإخفات هو الأدخل والأنفذ إلى الأعماق، والأحفظ لجلال الكلمة ووقار المتكلم " ( ).
ورفع الصوت، وانتفاخ الأوداج، لا يولِّد إلا غيظاً وحقداً وحَنَقاً، ومن أجل هذا فليحرص المحاور ألا يرفع صوته أكثر من الحاجة، فهذا رعونة وإيذاء للنفس وللغير، ورفع الصوت لا يقوّي حجة ولا يجلب دليلاً ولا يقيم برهاناً ؛ بل إن صاحب الصوت العالي لم يَعْلُ صوته – في الغالب – إلا لضعف حجته وقلة بضاعته، فيستر عجزه بالصراخ ويواري ضعفه بالعويل، وهدوء الصوت عنوان العقل والاتزان، والفكر المنظم والنقد " ( ).
ب - حسن الاستماع:
إن حسن الاستماع والإنصات للمحاور أمر مساعد على نجاح الحوار، ولقد ضرب النبي في ذلك أروع الأمثلة كما في محاوراته مع أهل مكة وغيرهم.
وقد ذكرنا من قبل استماع النبي لعتبة بن ربيعة باهتمام وإنصات ودون مقاطعة حتى فرغ فقال النـبي : أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع مني، قال: أفعل " ( ) وحسن الاستماع من النبي للرجل جعله يجلس ويستمع كذلك، وإن لم يهتد، فتلك قضية أخرى.
إن المحاور الجيد هو الذي ينتظر، ويتأكد مما يسمعه، ويستوضح أي غموض حتى يتأكد قبل إصدار الحكم ( ).
وكثيراً ما نرى ونسمع محاورات في التلفاز والمذياع فنجد هذا الأدب مفتقداً في كثير منها، إذ يتحدث أحد المتحاورين فلا يصبر عليه الآخر فيقاطعه قبل تمام حديثه، وربما دعاه إلى ذلك أن الأول أراد أن يستأثر لنفسه بالحديث فأطال، وهي آفة أخرى من آفات التحاور، وهنا تسمع صوتين يتحدثان معاً ومن ثم يتدخل المذيع أو مدير الحوار.. وتكون صورة مؤسفة تضيع معها بعض معالم القضية موضوع الحوار.
ج - عدم الاستئثار بالحديث ومراعاة الوقت:
من آفات التحاور أن يستأثر أحد الأطراف بالحديث كأنه موكل به كله، ولا يدري أن للطرف الآخر رأياً يريد بسطه، وقضية ينافح عنها، إن الاستئثار بالحديث إذاً قد يخرج اللقاء من طور الحوار إلى طور الموعظة المسرودة كالخطبة أو درس العلم، إن على المحاور " أن يراعي الوقت في أثناء كلامه، فإذا كان في مؤتمر وأعطي دقائق معينة التزم بذلك، وإذا لم يحدد له الوقت حدده هو من تلقاء نفسه حسب طبيعة الموقف" ( ).
إن كثيراً من البرامج المتنوعة التي تقوم على الحوار، خصوصاً التي تجري في وسائل الإعلام لها وقت محدد سلفاً، ولذا ينبغي على المتحاورين مراعاة هذا الوقت بدقة، وكثيراً ما أسمع مدير الحوار في البرامج الحوارية يتدخل لوقف الحوار عند النقطة التي يرى معها أن الحوار قد خرج عن الوقت المحدد أو الموضوع المثار.. ومن ثم ففيه حرج للمحاور، وهو لو تأدّب بآداب الحوار لكان في غنى عن ذلك إذا قدّر للأمر قدره، هذا الأدب أدب قرآني كذلك، لقد تميزت حوارات القرآن بالإيجاز والدقة وجمال العرض وإصابة الهدف من أقصر طريق، إن أطول الحوارات فيه قد لا يتجاوز الصفحة، فإذا طال الحوار عن ذلك - كما في حوارات نوح عليه السلام في سورة هود - تخلله السرد في بعض المواقف.
وقد كان حديث النبي إلى الناس عـادة قصيراً موجـزاً كما قالت عائشة رَضِي اللَّه عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ " كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثاً لَوْ عَـدَّهُ الْعَادُّ لأحْصَاهُ " ( ) وفي حديث ابن مسعود قَالَ:" كَانَ النَّبِيُّ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا " ( ).
والنبي نفسه قد أمر المتحدث - ولو كان في خطبة الجمعة - بإقصار الخطبة، لأنه أمر يتعلق بقدرة الإنسان على التركيز والمتابعة فيما يسمع، وهي قدرة لا تحب الطول، وفي حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى:" كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُكْثِرُ الذِّكْرَ وَيُقِلُّ اللَّغْوَ وَيُطِيلُ الصَّلاةَ وَيُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ، ولا يَـأْنَفُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الأرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ فَيَقْضِيَ لَـهُ الْحَاجَةَ " ( ).
وبعد، فهذه مجموعة من الآداب والأخلاق اللازمة لنجاح الحوار، سردتها مع أدلتها لتكون عوناً على ممارسة الحوار الناجح، ونشر ثقافة الحوار في مجتمعاتنا العربية والمسلمة، بين أفراد الأسرة وبين الجيران والأهل والأصدقاء، وبين الحكام والمحكومين، وبيننا وبين الآخر من الأديان والحضارات الكثيرة حول العالم، إنه أحسن سبيل للتقدم إذا خلصت النيات لله تعالى، فكل شيء قابل للتحاور والتفاهم، ولم تكن عند النبي خطوط حمراء يحظر على الناس الحديث فيها ما لم يكن إثماً أو حراماً.
الفصـل الثامن حوار الحضارات والأديان في ضوء معطيات السيرة النبوية
إن كل حضارة معروفة قديماً أو حديثاً إن هي في مجموعها إلا تجلّ وتمثيل لدين أو عقيدة قامت عليهما، حقاً كان ذلك الدين - أي من عند الله - أم باطلاً من مخترعات الإنسان على مرّ التاريخ، إن القارئ المتدبر لأكثر فصول تاريخ الإنسانية يعلم يقيناً أنه ما من أمة إلا كانت لها عقيدة تؤمن بها وتتجلى في مظاهر شتى من سلوك أبنائها وتصوراتهم ومفردات حياتهم، لهذا كله أثبت الله تعالى للمؤمنين ديناً هو من عنده فقال إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ (آل عمران:19) وأثبت للكفار كذلك ديناً اخترعوه فقال لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (الكافرون:6).
إن الثقافات والحضارات وأدبيات الحياة ما هي إذاً إلا تجلّيات للعقيدة الدينية أو هي مظاهر متنوعة لجوهر واحد هو الدين الذي تدين به الحضارة فيتجلى في مفردات حياتها، ولهذا فإن حوار الحضارات يشمل الحوار الديني ضرورة.
وثمة فروق أساسية بين تحـاور أبناء الحضارة الواحدة وتحاور أبـناء الحضارات المختلفة، إن تحاورنا نحن أبناء الحضارة الإسلامية على سبيل المثال ينطلق من مسلمات معترف بها متفق عليها كأسس الإيمان وأركان الإسلام والثوابت الشرعية.. ومن ثم تكون قيمة البرهان أو الدليل العلمي مؤثرة في الإقناع عند الاختلاف، لأن هذا الدليل غير مدحوض عند أطراف الحوار، إن هذا متحقق في كثير من حوارات تاريخنا التي دونتها كتب التاريخ والسير، وحين يكون الاتفاق على هذه الأصول يحدث الإقناع إلا من زائغ هالك أو مبتدع، كما حدث في حوار عبد الله بن عباس مع الخوارج حينما انطلق معهم من الأصول العلمية الثابتة المتفق عليها لحضارتنا فاستجاب أكثرهم خضوعاً للدليل، ولكن فريقاً زائغاً منهم لم يستجب.
أما تحاور الحضارات فإن الفهم ومعرفة الآخر سيكون البداية منه، لأن أبناء الحضارة الأخرى لن يعترفوا بأدلتنا النقلية من القرآن والسنة ابتداء، لابد معها من الأدلة العقلية سواء استنبطها العلماء من القرآن والسنة أو هداهم الله تعالى إليها، ويلي الفهم والتعارف محاولة عرض هذه الأصول بالحسنى للتأثـير أو الإقناع.
حـوار الحضارات إذاًَ ينبغي أن يمـر بمرحلتين أساسيتين:
الأولى: التعارف وفهم الآخر.
الثانية: محاولة الدعوة أو الإقناع والتأثير في الآخر لكسبه إلى عقيدتنا.
وهذا كله تمارسه بإتقان الحضارة الغربية ومؤسسات الدعوة إلى المسيحية المسماة بمؤسسات التبشير.
ثمة موروث ضخم من العداوة بين الحضارتين الإسلامية والمسيحية، ولا يزال ذلك الموروث مـؤثراً فاعلاً، إنه يعيش في الـلاوعي الجمعي للحضارتين، ويُستدعى على الفور إلى منطقة الوعي مع أول احتكاك فردي أو جماعي، ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال " من الأسهل على الأمريكي الأبيض أن يصحح علاقته مع الأمريكي الزنجي أو المكسيكي من أن يعيد النظر في علاقته مع العربي المسلم، لقد جرى تعديل النظرة إلى الصيني وإلى الأفريقي.. أما العربي المسلم فما يزال عرضة لنظرة دونية تبعاً لموروث تاريخي يضرب في الأعماق إلى أيام روما على الأقل، مروراً بالفتح العربي والحروب الصليبية وفتوح بني عثمان وعصـر الاستعمار" ( ).
ولا شك أن أزمة الرسوم والكتابات الساخرة من النبي محمد المستعرة هذه الأيام في أوربا هي أثر من آثار ذلك العداء الدفين المستتر في اللاوعي الجمعي لشعوب أوربا، وها هو يُستثار مرة بعد أخرى فيخرج مكنونه في صور شتى من العداء للإسلام ورسوله والمسلمين، وهو ما نبهنا إليه القرآن دائماً حين عالج علاقتنا بأهل الكتاب وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ (البقرة:120).
إن الحوار مع الآخر - غير المسلم - لا يزال متخلفاً في ثقافتنا المعاصرة كما هو شأن كثير من أمورنا نحن المسلمين، إنه لم يصبح بعدُ منهجاً محدداً أو عملاً مؤسسياً يقوم عليه متخصصون دارسون وملمّون بمسائل الحوار وآدابه وضوابطه وبثقافة الآخر وعلومه وأخلاقه وآدابه.. إلخ، وذلك لدرء الهجمة الشريرة الشرسة على الإسلام والمسلمين، ولاستكمال شروط الدعوة إلى الله تعالى التي هي هدف أساس من أهداف المسلمين مع غيرهم دائماً، فهل يمكن معالجة ذلك كله إلا بفتح قنوات الحوار مع الأخر؟ ( ).
ومباحث هذا الفصل على النحو الآتي:
أولاً: الإسلام يدعو إلى حوار الحضارات.
ثانياً: أهداف حوار الحضارات.
ثالثاً: الأسس التي يُبنى عليها الحوار بين الحضارات.
رابعاً: ازدياد أهمية حوار الحضارات بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م.
خامساً: وسائل إقامة الحوار بين الحضارات.
سادساً: عوائق حوار الحضارات.
ونفصل الحديث في هذه المباحث على النحو الآتي:
أولاً: الإسلام يدعو إلى حوار الحضارات ( ):
لقد فتح الإسلام الباب واسعاً لمحاورة أهل الديانات الأخرى، ما كان منها كتابياً كاليهودية والنصرانية، وما كان وثنياً شركياً، ذلك أن الإسلام هو الدين الخاتم والحق في آن معاً، فهو الرسالة الخاتمة ورسوله الرسول الخاتم المرسل إلى العالمين كافة.. كل هذه أصول مقررة في منهج الإسلام، ولذا كانت ضرورة إقامة الحوار مع كل الأديان بل مع كل البشر لدعوتهم بالحسنى إلى الدين الحق، إن حقل الدعوة الإسلامية إذاً هو العالم كله بلا استثناء، والوسيلة الأولى التي تبدأ بها هذه الدعوة هي المحاورة بالحسنى، ولهذا كله وجدنا سيرة النبي في دعوته تتخذ الحوار منهجاً أصيلاً ثابتاً في كل مساراتها، وهو ما رأينا شواهد كافية منه في مباحث هذه الدراسة.
والذي يتدبر القرآن المكي يجد أن حواراته كانت بالأساس موجهة إلى كفار العرب، ومن ثم إلى كفار العالم كله، وكان الحوار مع أهل الكتاب مؤجلاً - في علم الله - إلى المرحلة المدنية من الدعوة، ولذا نجد مواضع الحوار مع أهل الكتاب - اليهود والنصارى - ظاهرة في القرآن المدني كما في سور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وهن من طوال السور.
وأنا أفرق هنا بين ثلاثة أشياء:
1- القصص الوارد في القرآن المكي عن أهل الكتاب وأنبياء بني إسرائيل.
2- الآيات الداعية إلى محاورتهم، ومنها المكي والمدني.
3- الآيات التي أقامت الحوار فعلاً معهم - كما سنورد - وهي في القرآن المدني، وهذه مقصود حديثنا هنا.
فالفارق معلوم بين هذه الأمور، ذلك أن المسلمين واجهوا في المدينة اليهود مواجهة مباشرة وخالطوهم في الديار والأسواق والزروع... فكان لابد من إقامة الحوار لإقامة الحجة، واستتبع ذلك إقامة الحوار مع النصارى، وكانت المدينة هي ميدان هذه المحاورات، وهذا الذي ذكرته تؤيده الشواهد والإحصاءات سنذكر بعضها.
ومن الإحصاءات الدالة في هذا المقام:
1- ورد مصطلح " أهل الكتاب " في (31) موضعاً في القرآن الكريم كلُّها مدنية ما عدا موضعاً واحداً يُنهى فيه المسلمون عن جدال أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، وهو أدب قرآني حواري ذكرناه من قبل وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (العنكبوت:46) وهذا كله يؤيد حقيقة أن حوار الأديان أو الحضارات المختص بأهل الكتاب إنما بدأ وتأسس في المرحلة المدنية من الدعوة.
2- يؤيد ذلك، ويؤيد الدعوة الصريحة إلى إقامة الحوار معهم ورود مصطلح " أهل الكتاب" منادى بلفظ " يا أهل الكتاب " في أحد عشر موضعاً من المواضع السابقة، مما يؤكد دعوة القرآن إلى إقامة الحوار معهم على أسس عقائدية سليمة لإقامة الحجة عليهم في الدنيا والآخرة.
3- ورد ذكر بني إسرائيل كثيراً في القرآن، ولكن النداء "يا بني إسرائيل" الذي يعني ضمناً توجيه الحوار إليهم ومساءلتهم ورد في ستة مواضع منها خمسة مدنية وموضع واحد مكي (طه:80).
4- ورد لفظ " اليهود وهود" بمعنى اليهود" ويهودي في اثنى عشر موضعاً في القرآن كلها مدنية.
5- ورد لفظ النصارى ونصراني في خمسة عشر موضعاً في القرآن كلها مدنية.
6- ورد لفظ " أهل الإنجيل " في موضع واحد مدني.
هذا الإحصاء يؤكد أولاً ضرورة إقامة الحوار مع اليهود والنصارى بوصفه سبيلاً ناجحاً للدعوة إلى الله تعالى، ويؤكد كذلك اتساق مراحل الدعوة في عصر النبوة مع أهل مـكة والعرب من الكفار، ثم مـع أهل الكتاب، وليس معنى ذلك أن دعوة العرب في العصر المدني قد خفتت أو قل نصيبها إن شواهد التاريخ ضد ذلك، ولكن الأحرى أن نقول: إن عبء الدعوة في المدينة قد اتسع ليضاف إليه دعوة أهل الكتاب وما تجره من متاعب وأذى أحياناً للمسلمين، ثم دعوة أهل الأرض جميعاً التي ابتدأها رسول الله برسائله إلى الملوك والأمراء في عصره كما سنورد بعد.
إن حوار الإسلام مع الحضارات أيّاً كانت ينبغي أن يبنى على العقيدة أولاً لأنها أساس الإيمان، إنها الأُسُّ الذي يبنى عليه كل شيء بعد ذلك، ولذا بدأ بها الأنبياء جميعاً، وهي أوضح مسائل الدعوة في العهد المكي، والدعوة إلى تجاوزها اليوم في حوار الحضارات بزعم التقريب والتأليف ونبذ الخلاف دعوة خاطئة لا ريب ومخالفة لأسس الدعوة الإسلامية، وقد ذكرت ذلك من قبل مستشهداً بحديث النبي حين بعث معاذاً إلى أهل اليمن فَقَالَ له:" ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِّلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ " ( ).
إن الإسلام إذاً يدعو إلى الحوار لأن رسالته عالمية للناس جميعاً، والرسالة بما لها من صبغة العالمية لابدّ لها أن تفتح حواراً مع جميع الحضارات والثقافات والأديان، لأن لها بعداً ربانياً لا يوجد في حضارة أخرى، قال تعالى يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات:13) قال ابن كثير:" فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء عليهما السلام سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية وهي طـاعة الله تعالى ومتابعة رسـوله " ( ).
وهذا البعد هو الذي يعطي الحضارة الإسلامية الربانية الميزة والتفوق، لابد إذاً من مهمة البلاغ، وأول أدواتها وأكثرها تأثيراً الحوار.
وعالمية الإسلام ثابتة في نصوص كثيرة من القرآن والسنة، نذكر منها على سبيل المثال:
1- وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً (سبأ:28).
2- وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين (الأنبياء:107).
3- قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً (الأعراف:158).
ولفظ " الناس " الدال بوضعه على البشر جميعاً - وإن استعمل في بعض سياقات القرآن لطائفة منهم فقط - هذا اللفظ يكثر استعماله في القرآن لإثبات هذه الحقيقة ؛ إذ ورد في (241) موضعاً في القرآن الكريم.
ويجب على المسلمين استثمار هذه المبادئ السامية في محاورة الآخرين بالحسنى لتحقيق أهداف الحوار كما أرادها الله تعالى، وأولها الدعوة إليه سبحانه على بصيرة وهدى، ومن أحـاديث النبي المبينة لعالمية الدعوة الإسلامية:
1- عن جَابِر بْن عَبْد ِاللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ :" أُعْطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأنْبِيَاءِ قَبْلِي، نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً، وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْـتُ إِلَى النَّاسِ، كَافَّةً وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ " ( ).
2- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ:" وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ " ( ).
هذه نصوص دالة من الأصلين اللذين بُني عليهما الإسلام: القرآن والسنة الصحيحة، وفيهما من الدعوة إلى الحوار مع البشر جميعاً نصوصٌ كثيرة ذكرنا بعضها من قبل، والحوار لذلك نهج رباني وسنة نبوية " لقد نُظّم الحوار بعناية فائقة عن طريق الوحي في آيات قرآنية واضحة الدلالة لضبط هدفه وطرائق استعماله، وبذلك أصبح الحوار نهجاً ربانياً، أي جزءاً من عقيدة المسلم ومن ثوابتها التي لا تقبل التغيير... إن الحوار بمقتضى ذلك مؤسسة دينية مفروضة من الله على عباده أهل الأرض... مما يعني إلزامية الحوار وشموله لكل تعامل مع الغير " ( ).
ومما يعطي للمحاور المسلم قوة وميزة في ميدان الحوار والجدال أن الإسلام يعترف بجميع النبوات والشرائع السماوية قبله ويعدها مسلمة ويجعل الإسلام امتداداً وخاتماً لها، وهو بهذا يحترم الأنبياء والمرسلين والذين اتبعوهم بإحسان، إن ذلك ينبغي أن يكون مدخلاً أصيلاً للتحاور مع غير المسلمين، خصوصاً أهل الكتابين من اليهود والنصارى الذين حاججهم القرآن كثيراً بأدلة عقلية قاطعة وأخرى نقلية، ونذكّر منها على وجه الخصوص بما جاء مفصلاً في سورة آل عمران كقوله تعالى يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (آل عمران:65).
هكذا كان منهج القرآن ومنهج نبي الإسلام الخروجَ إلى الناس جميعاً ومحاورتهم ومجادلتهم بالحسنى لتحقيق أهداف الدعوة إلى الله تعالى، وفي هذا يقول رسولنا :" الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْراً مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ " ( ).
الإسلام إذاً "يرفض التعالي الحضاري ويقبل الحوار " ( ) وهو يرفض التعالي الحضاري لمجرد التعالي، لكنه في ذاته لا ريب يحمل القيم العليا في هذه الحياة الدنيا، تلك القيم التي ينبغي لأتباعه أن يعملوا بها وأن يبلغوها للعالم أجمع بكل السبل الممكنة وأولها الحوار.
وعلى المسلمين في حوارهم الحضاري المعاصر أن يتجاوزوا الدائرة الغربية التي حصروا أنفسهم فيها لأسباب كثيرة، فهنالك الدائرة الصينية والهندية (غير المسلمة) والشرقية النصرانية واللاتينية والأفريقية غير المسلمة.. كل هذه دوائر لم يحاورها المسلمون حواراً جاداً ناجحاً للدعوة والتعارف وإزالة الوهم بشأن الإسلام والأفكار الخاطئة عنه، لقد استأثر الغرب بالنصيب الأكبر من حوار المسلمين واهتمامهم لقوته الاقتصادية والسياسية والعسكرية والإعلامية، ولكن ذلك لم يثمر حتى اليوم شيئاً ذا بال، لقد عاد الغرب إلى حقده وعصبيته الدفينة بقوة هذه الأيام بعد أن خفّت حدة المواجهة مع العالم الإسلامي المعاصر لعدة عقود على الأقل (1950- 1990م) وذلك على وجه التقريب قبل سقوط الاتحاد السوفيتي فيما سمي بفترة الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي، وما أحـدثه ذلك من توازن على المستوى العالمي، واليوم تستعر أوار حرب إعلامية شرسة ضد المسلمين وتنتج آثارها السيئة في السياسة والاقتصاد وكل مجالات الحياة، فليبحث المسلمون عن شركاء آخرين في هذا العالم، مع عدم إهمال الحوار مع الغرب في الوقت نفسه، ولعلنا نلاحظ من حوار النبي أنه تحرك في كل الاتجاهات المعروفة في عصره، ولم يترك أحداً تصله دعوته إلا دعاه وأرسل إليه، وتحركت رسله في جميع الدوائر الجغرافية المحيطة بجزيرة العرب، حيث فارس في الشرق والروم في الشمال والقبط في الغرب (مصر) والحبشة في الجنوب الغربي.. كل هؤلاء تواصل معهم النبي بالدعوة لفتح باب الحوار، وينبغي علينا التأسي به في ذلك كله.
ولقد عمل أسلافنا بمبدأ التحرك الدعويّ في كل الاتجاهات في كثير من مراحل تاريخ أمتنا المسلمة، على مستوى الدول والأفراد، لقد انتشر الإسلام في جنوب شرق آسيا في إندونيسيا وماليزيا وغيرهما عن طريق تجار مسلمين كانوا دعاة وتجاراً أمناء قدموا القدوة الحسنة في التعامل، وانتشر الإسلام في كثير من ربوع أفريقيا بالطريقة نفسها، وها هو اليوم يكتسب كل يوم أناساً يهتدون إلى الله في مشارق الأرض ومغاربها من خلال الدعوة بالحسنى والتحاور والجدال بالتي هي أحسن الذي يقوم به بعض المسلمين هنا وهناك رغم الدعاية العاتية من أعداء الإسلام والعدوان الظالم المستمر عليهم في مناطق كثيرة من العالم المعاصر.
إن الإسلام الذي ينتشر اليوم في ربوع العالم، حتى في الغرب الذي يناصبه العداء لم يصل إلى هناك بحدّ السيف كما يزعم الحاقدون، بل بالدعوة والحوار، ورغم كل المعوقات والحملات الظالمة من كل لون ينتشر الإسلام سريعاً، ومنذ أشهر خرجت إحدى المظاهرات في ألمانيا تنادي: أوقفوا أسلمة أوربا !! فهل ثمة سيوف للمسلمين تعمل اليوم في أوربا لأسلمة أهلها؟!
ولقد تبنت الدول الإسلامية منهج الحوار عملاً بالمبادئ الإسلامية التي ذكرناها، وفي عام 1999 م أقرت القمة الإسلامية الثامنة التي عقدت في طهران الطلبَ من الأمم المتحدة أن تعلن عام 2001م عاماً للحوار بين الحضارات، وقد قبلت الجمعية العامة للأمم المتحدة ذلك في دورتها الثالثة والخمسين في سبتمبر 1999م ووافقت على ذلك بالإجماع.
وكان فريق من الخبراء الحكوميين في الدول الإسلامية قد عقد اجتماعاً في جدة بالمملكة العربية السعودية في سبتمبر 2000م لوضع برنامج العمل التنفيذي للحوار بين الحضارات، وقد ذكر برنامج العمل أنه " إدراكاً لما طرأ على بنية العلاقات بين الأمم والشعوب من تحوّلات كبرى نتيجة سقوط الحواجز التي كانت تعزل بعضهم عن بعض، ووعياً بالآثار الكبيرة التي ترتبت على العولمة وسقوط هذه الحواجز على ميادين التجارة والاقتصاد والسوق العالمي لتبادل السلع والخدمات، فضلاً عن آثارها على السياسة والعلاقات الدولية، وبصفة خاصة آثارها على الثقافات المعاصرة وعلى القيم الإنسانية، وهي آثار بعضها إيجابي نافع يخدم قضايا العدل والسلام والمساواة، وبعضها سلبي يحتاج إلى تدارك وحذر وعلاج جماعي ؛ فإن الجمعية العامة للأمم المتحدة تعلن وتقرّ هذا البرنامج وما اشتمل عليه من عناصر وما تضمنه من آليات ووسائل، كما تدعو جميع الشعوب والحكومات ومنظمات المجتمع المدني للبدء في تنفيذه تعبيراً عن التوافق العالمي لإقرار السلام والعدل وإشاعة روح التسامح والتعاطف وتبادل المعرفة والخبرات بين أبناء الثقافات والحضارات المتعددة " ( ).
ثانياً: أهداف حوار الحضارات:
إن الحوار وسيلة مثلى لإثبات الوجود على الساحة الدولية التي لا تعترف إلا بالقوي، ومن صور القوة المعترف بها قوة التحاور انطلاقاً من الأصول الحضارية ووصولاً إلى إمكانات التعاون والفرص الإيجابية الممكنة، يجب التنبيه على ذلك في جولات الحوار، إن لدينا - نحن المسلمين - أمة تقارب خمس سكان العالم، وحضارة تضرب في التاريخ أربعة عشر قرناً وأرضاً شاسعة تمتلئ بالخيرات وتكاد تتحكم بحكم موقعها في قلب العالم، وتكاد تحتكر أهم سلعة على المستوى العالمي - أعني النفط - إنتاجاً ومخزوناً احتياطياً، هذا مع الإرث الحضاري والأخلاقي والعلمي المتنوع الخالد، ذلك الذي أثرى حضارات العالم حوله لقرون.
لقد ظلت العقلية الغربية طوال قرون كثيرة - ولا تزال - تنظر إلى نفسها على أنها مركز العالم، كما يقول مونتجمري وات ( ):" فالحضارة الأوربية (أو العالم المسيحي Christendom) كانت ولفترة طويلة تتصرف كما لو أنها الوحيدة التي تستحق الاهتمام، واعتبر الأوربيون أنفسهم وحدهم من بين كل البشر الجديرين بالاعتبار " ( ).
ظل الغرب إذاً طويلاً يقول كلمته ويفرضها على العالم، وآن له أن يسمع للآخرين.. فلم تعد الدولة والقوة في ميدان العلم والثقافة مقصورة عليه، ثمة دول وشعوب أخرى تتقدم اليوم نحو الإبداع والسبق العلمي..
ويجب ألا ننظر إلى حوار الحضارات من منظور القوة والضعف فقط، مع أنهما من الواقع الذي لا ينكر على المستوى الدولي، فالولايات المتحدة أو أوربا على سبيل المثال مرهوبة الجانب وتفعل ما تريد هنا أو هنالك دون خوف حقيقي من الحكومات أو الشعوب الأخرى، والدول القوية تصوغ القوانين وتستصدر القرارات من المنظمات الدولية التي أسستها وأسكنتها ديارها وأنفقت عليها لتكون تحت سيطرتها وتساعدها في تحقيق مآربها، هذه حقائق يتجمّل الإعلام في عرضها حتى لا يفزع الضعفاء، وليس على الضعيف ها هنا إلا أن يرفع صوته يحاور ويفاوض، يجب أن يصل صوت المستضعفين إلى شعوب الغرب التي قد تكون أكثر تقبلاً من حكوماتها لأفكار الحوار والحرية وحقوق الإنسان.
إن استمالة شعب ما إلى قضية عادلة لا يكون إلا بالحوار وحسن عرض القضية، والحوار ينبغي أن يكون مع مؤسسات ذلك الشعب السياسية والاجتماعية والثقافية، إننا نحن المسلمين أحوج ما نكون اليوم للتحاور الإيجابي مع الغرب، مع الشعوب قبل الحكومات، وفي حاجة ماسة إلى تطوير وسائل الحوار.
ولا شك أن أهداف حوار الحضارات كثيرة متنوعة، ولكنا هنا سنوجز بعضاً منها في نقاط، وهذه الأهداف تحدّها رؤيتنا نحن المسلمين لحوار الحضارات وآمالنا التي نريد أن نحققها من خلاله، ومـن ذلك على سبيل المثال:
1- تصحيح الصورة المشوهة للمسلمين في الدول غير الإسلامية، خصوصاً دول الغرب ذات القوة والنفوذ على المستوى العالمي، وتشويه صورة المسلمين لـه أسباب عديدة نذكر منها الإرث التاريخي لليهود والنصارى في علاقتهم مع المسلمين منذ عصر النبوة مروراً بالصراع مع اليهود ثم الصراع مع النصارى في الأندلس والحروب الصليبية وصراع الدولة العثمانية التركية مع أوربا ثم الحلقة الاستعمارية الطويلة وصولاً إلى آخر صورها متمثلاً في إنشاء ما يسمى بوطن قومي لليهود في فلسطين.
إن هذا كله ألقى بظلال قاتمة على صورة المسلمين في الغرب، وجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م لتصب الوقود على النار بخصوص هذه الصورة التي ازدادت سوءاً وقبحاً كما قال أحد الصحفيين الغربيين:"لم تُشوه سمعة جماعة دينية أو ثقافية أو قومية ويحطّ من قدرها بشكل مركز ومنظم كما حدث للعرب " ( ).
لقد شُوهت صورة الإسلام والمسلمين خصوصاً بعد الأحداث المأساوية في الحادي عشر من سبتمبر 2001، ومن ثم أصبح لزاماً علينا المجاهدة لتصحيح ذلك " إن الصور السلبية المتبادلة بين العرب والمسلمين وبين الغربيين أمريكيين وغير أمريكيين تقف في مقدمة الظواهر التي ينبغي معالجتها " ( ).
2- الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة ومنهاج حق، والدعوة هنا بمفهومها الواسع، كتعريف الآخر بعقيدتنا وحضارتنا ومبادئنا وأخلاقنا، إن علينا مهمة البلاغ، وهي الأمانة التي تحملناها حين رضينا بالله رباً والإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً، إننا مقصرون لا شك في إبلاغ رسالتنا إلى العالم من حولنا، ولابد من إنشاء أجهزة متخصصة لدعوة غير المسلمين عن طريق الحوار والوسائل الأخرى الكثيرة التي أنتجتها ثقافة الاتصالات والمعلومات، لقد تغير العصر وتغيرت معه أساليب الحياة، ولابد لنا من استثمار التقدم الهائل في وسائل الإعلام والاتصال لصالح الإسلام، لم تعد الدعوة مقصورة على الوعظ الديني المباشر مع أهميته، ولكننا بصدد عوالم أخرى متفتحة من الاتصالات والمعلومات تمكننا من الحوار مع الآخر، إن شبكة المعلومات الدولية وما توفره من اتصالات ومعلومات وإمكانات الحوار والمراسلة عن طريق البريد الآلي تعد سبلاً مثلى للدعوة لم نحسن استغلالها بعد، لقد كان الحوار الوسيلة الأولى للقرآن وللنبي في الدعوة، وها نحن في حاجة إلى العودة إليه مرة أخرى، لكن بأسلوب يناسب لغة العصر ولا يخرج عن الأطر الشرعية.
إننا في واقع الأمر لا نطمع أن يسلم كثير من أهل تلك البلاد والحضارات التي نريد التحاور معها، ذلك قدَر الله تعالى القائل وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (يوسف: 103) ولكنا نطمع أن نزيل الغشاوة والصورة المشوهة التي صُورنا بها من خلال إعلام مغرض غير منصف، ونطمع أن يعرف الآخر عنا ما عندنا من قيم وأخلاق تصلح أساساً لحضارة عالمية عادلة، ونطمع كذلك - وهو واجب علينا - أن نقيم الحجة على هؤلاء معذرةً لنا أمام الله تعالى حين يسألنا عن أمانة البلاغ وبـلاغ الأمانة وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (الأعراف:164) لقد دعوهم وحاوروهم مع علمهم من خلال سنن الله تعالى في الثواب والعقاب أن هؤلاء سوف يهلكهم الله عز وجل، حتى إن بعضهم تساءل عن جدوى الدعوة والموعظة مع علمهم بذلك، فكان الرد مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ أي ليقيموا عليهم الحجة بالبلاغ، ويبرئوا ساحتهم أمام الله عز وجل، وهكذا ينبغي أن يكون هدفنا من حوار الدعوة إلى الله تعالى، وهذا النهج سنه لنا رسولنا حين أرسل إلى ملوك زمانه وأمرائه برسائل يدعوهم فيها إلى الإسلام، ويحملهم تبعات رفض الدعوة، ويحملهم تبعاً لذلك أوزارهم وأوزار أقوامهم إذا لم يسلموا.
3- يهدف الحوار من منظور إسلامي إلى المشاركة في حل مشكلات العالم المعاصر، تلك المشكلات التي لم تعد مقصورة على بلد واحد أو أمة أو حضارة واحدة، وأوضح مثال على ذلك مشكلات البيئة والأسرة والمخدرات والأمراض العابرة للحدود وآخرها " انفلونزا الطيور " هذه كلها مشكلات عالمية تحتاج إلى علاج بالمحاورة والتشاور والتنسيق.
4- إقرار مبادئ العدل والمساواة بين البشر، إذ هم من أصل واحد ويعيشون في عالم واحد وينتهون إلى مصير دنيوي واحد هو الموت ثم البعث بعده فالحساب.. وهذه المبادئ معلومة في حضارتنا التي تحترم الإنسان لكونه بشراً مخلوقاً لله تعالى مكرماً منه بنفخة علوية.
5- العمل على إعداد برامج التنمية والتطور للدول الفقيرة والمتخلفة انطلاقاً من المبدأ السابق الذي يقر المساواة وحق الشعوب في الحياة الحرة الكريمة، تلك التي لا تعرفها كثير من شعوب عالمنا اليوم.
6- الدعوة إلى إقامة نظام اقتصادي عالمي جديد يتمتع بحرية حركة الأفراد ورأس المال والسلع والخدمات بما يحقق مزيداً من النمو والتطور للشعوب الفقيرة، ويراعي مصالح الدول الفقيرة التي تهدد اقتصادها بعض الطفرات والتلاعب بالأموال هنا أو هناك كما حدث لدول جنوب شرق آسيا في أزمتها الاقتصادية في عقد التسعينات من القرن الماضي.
7- إشاعة ثقافة الحوار والتفاوض والتفاهم بين الحضارات المختلفة، وإدخالها ضمن مؤسسات المجتمع كالمؤسسات السياسية والاجتماعية والتعليمية... يقول الأستاذ عبد الله كنون:" كما أننا لسنا بحاجة إلى القول بأن آثار الدعوة إلى التقارب الإسلامي المسيحي لا تظهر على عمل الساسة المسيحيين في الغرب والشرق، فتمالؤهم على الإسلام والموقف العدائي الذي يقفونه من العرب في قضية فلسطين ما يزال هو هو، وما ذلك إلا لأنهم لا يؤمنون بهذا التقارب ولا بما يدعو إليه رجال الكنيسة من الحوار الإسلامي المسيحي، وإيمانهم الوحيد إنما هو بالقوة لا غير، فإذا أراد المسلمون أن يكون لهم شأن فلا يعولوا على شيء من هذه الدعوات التي تنبعث من هنا وهناك، وإنما عليهم أن يوحدوا كلمتهم وصفوفهم ويقابلوا التحدي بمثله ويعدوا لهم كما أمرهم الله ما استطاعوا من قوة " ( ) ولا يعني هذا بالطبع إغلاق باب الحوار، بل إعداد القوة التي تحمي الحوار وتجعله فاعلاً، أو الحوار من منطلق القوة الحامية.
8- إزالة روح العداء والاستعلاء الموجودة بصورة عامة لدى بعض الحضارات تجاه الآخرين، ونذكر هنا الحضارة الغربية والوجه الأمريكي منها خاصة، ذلك الذي يرى نفسه فقط أحق بالسيادة والسيطرة، ويطلب من الآخرين صراحة مجاراته واتباع نهجه وتصوراته في الحياة، وروح العداء هذه قد تكون عند الطبقات الدنيا من الشعب، وقد تكون عند الحكومات كما سمعنا من تصريحات رئيس وزراء إيطاليا الأسبق "بيرلسكوني" - بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر - وقد أساء فيها إلى الحضارة الإسلامية صراحة.
9- الدعوة إلى ضمان حقوق الأقليات أياً كان جنسها أو دينها داخل بلادها، وعدم الضغط على أصحابها للذوبان في المجتمع والتخلي عن مبادئهم وعقائدهم، لأن ذلك مخالف لحرية الإنسان التي أقرها الوحي من الله، وأقرتها القوانين والمواثيق والمعاهدات الدولية.
ومن الملاحظ أن الأقليات المسلمة هي أكثر الأقليـات تعرضاً للضغط والاضطهاد بل التنكيل أحياناً، والأمثلة على ذلك كثيرة في الفلبين وبورما وتايلاند والهند وأثيوبيا وأخيراً الأقليات المسلمة في الغرب... في حين يرتفع الصراخ والمناداة بحقوق الإنسان حين تكون هناك شبهة اعتداء ولو يسير على أقليات من ديانات أخرى كما حدث في تيمور الشرقية التي جاهدت الأمم المتحدة بدعم غربي غير محدود لانتزاعها من إندونيسيا لتقام عليها دولة نصرانية مستقلة بدعم من مجلس الكنائس العالمي الذي يدعمه الغرب بكل قوة وأُعـلن قيام تـلك الـدولة رسمياً في احتفالات ضـخمة ( ) ويجب علينا أن نستثمر هذا كله إعلامياً وحوارياً للتذكير بمأساة فلسطين، وهي أقـدم وأكثر دمـوية وعدواناً.
10- توظيف وسائل الإعلام المتنوعة لخدمة الدعوة إلى الحوار وإقامة العلاقات مع الآخر، والتواصل من خلال برامج تدعو إلى التعارف والتعاون لا التناحر والتقاتل.
11- نقل حقيقة " الآخر " دون مساس بكرامته أو حقوقه أو الحطّ من قدره ومكانته أو ثقافته أو عقائده.. إنني أتابع منذ سنوات الحملات المغرضة التي تشنها بعض المنظمات الدولية ومنها منظمة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة ضد المملكة العربية السعودية لأنها تطبق الحدود الشرعية كالجَلْد وقطع يد السارق والقصاص الشرعي.. حيث تزعم تلك المنظمات غير المنصفة أن تلك العقوبات تخالف المواثيق والمعاهدات الدولية !! لا بدَّ إذاً من الحوار العلمي المنظم لنوصل رسالتنا إلى الآخرين.
12- مكافحة الإرهاب المنظم حول العالم، ذلك الإرهاب الذي تمارسه جماعات من كل الحضارات والأديان، ولكنه لأسباب ليس ثم محل بسطها صار يُلصق بالإسلام والمسلمين، مع أن بعض هذه المجموعات الإرهابية يؤذي المسلمين أنفسهم، هذا مع ضرورة توسيع مفهوم الإرهاب ليشمل إرهاب الدولة، كذلك الإرهاب المنظم الذي تمارسه إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
إن موجات الإرهاب والتطرف التي تجتاح العالم لا ينبغي لها أن تلصق بالإسلام وحده، ففي كثير من بلاد العالم جماعات من هذا النوع، كان منها في أيرلندا الشمالية الجيش الجمهوري الأيرلندي، وفي أسبانيا منظمة إيتا، وفي إيطاليا المافيا، وفي اليابان الجيش الأحمر، وغير ذلك كثير، فلماذا تلصق تهمة الإرهاب بالمنظمات المنتمية إلى بلاد إسلامية فقط؟ هذا مع أن بعض المنظمات التي تتبنى العنف في تلك البلاد لم تقم بهذا إلا بعد تجاوزات ضد المسلمين وصلت حد المذابح وجرائم الحرب كما يحدث في جنوب الفلبين وفي الشيشان والبوسنة وكوسوفو على سبيل المثال.
13- تنمية دور الأخلاق في مجتمعات العالم، ذلك الدور الذي تتهدده مخاطر كثيرة أهمها الانحلال الخلقي والشذوذ الجنسي وتجارة الجنس والمخدرات.
14- بيان وظيفة المال في المجتمع بوصفه وسيلة لا غاية، وسيلة لإعمار الأرض والحياة الحرة الكريمة لأهلها، وكون البشر في جيلنا مستخلفين على ثروات الأرض ولا يحل لهم استنـزافها وهضم حقوق الأجيال المقبلة.
ثالثاً: الأسس التي يُبنى عليها حوار الحضارات:
لكي ينجح الحوار بين الحضارات لابد له من أسس سليمة يؤسس عليها، أسس تقبلها جميع الأطراف وتتعامل بموجبها، نذكر منها على سبيل المثال:
1- احترام كل طرف للأطراف الأخرى، أياً كان جنسها أو لونها أو عقيدتها أو قوتها العسكرية أو الاقتصادية... ذلك أن الناس كلهم لآدم وآدم من تراب...
والاختلاف لا يعني بالضرورة التصادم والتناحر، وبالحوار يتعايش الناس رغم الخلاف والتنوع، إن مشروعنا الحضاري نحن المسلمين " لا يتصادم بالضرورة مع الغرب، ولكنه يسعى للتعايش معه، دون هيمنة أو سيطرة من طرف على آخر " ( ).
2- الاتفاق على اعتبار الحوار مدخلاً للتعارف لا لهضم حقوق الآخرين والاستعلاء عليهم، أو اتخاذ الحوار منبراً لفرض الآراء والدعوة إلى اتباع الأقوى، وهو ما تعاني منه على سبيل المثال حوارات الإسلام والمسيحية، كما يتساءل الأستاذ كامل الشريف:" أم أن للحوار - أي من قبل المسيحيين - هدفاً آخر هو فتح آفاق جديدة للتبشير المسيحي، واستخدام أساليب حديثة مباشرة وغير مباشرة بدل الأساليب القديمة التي تعطلت مع التغيرات السياسية العميقة؟ " ( ).
3- الاعتراف ابتداء بأن جمّاع الحضارة الإنسانية إرث إنساني عام مشترك بين أبناء البشرية، لم تقم به حضارة واحدة، بل شاركت كل حضارة فيه بنصيب، إذْ من المعلوم أن " كل العلوم التي تكون الطبيعة موضوعها وظواهرها والمادة وخصائصها هي من قبيل الفكر الذي هو مشترك إنساني عام، وذلك لأن مناهجها تتميز بالحياد العلمي.. وتلك الحقائق هي بنت الدليل، ولا تختلف باختلاف مذاهب وعقائد وأجناس وفلسفات.. ومن ثم فهي لا تتغاير بتغاير القوميات والحضارات " ( ) ولهذا فإن خيرات الحضارة المعاصرة ينبغي أن لا تكون - كما هي الآن حقاً - حكراً لدول قليلة تمتلك العلم والمال والتقنية، وتمنع تدفق ذلك كله إلى الدول الفقيرة، وتحتكر وتستهلك معظم الإنتاج العالمي من السلع والخدمات.
ومعنى ذلك كما قدمنا أنه لا يحق لجهة أن تدعي ذلك التراث العلمي كله دون الآخرين، كما هو الحال في رؤية الحضارة الغربية المعاصرة لذاتها وللآخرين.
4- عدم الإذعان لحضارة واحدة بوصفها الحضارة التي تعطي ولا تأخذ لامتلاكها القوة والمال، وهو ما تحاول الحضارة الغربية فرضه على الحضارات الأخرى.
5- إن تنوع الحضارات والثقافات إرث إنساني عام، بل هو سنة من سنن خلق الله تعالى وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (هود:118) ولا ينبغي لهذا الاختلاف أن يؤدي إلى التناحر والهلاك، بل إلى إغناء النفس الإنسانية، وإغناء تجربة الإنسان على الأرض بوصفه مستخلفاً فيها، إن هذا الاختلاف والتنوع سنة كونية لا ينبغي لها أن تمنع الحوار والتعارف.
6- إظهار أسس الإسلام وقواعده كما تحاول كل حضارة أن تظهر شعائرها وطقوسها من خلال الحوار وغيره من صور الالتقاء والتعامل.
7- الانطلاق من الأرضية المشتركة بين الحضارات، وهي كوننا بشراً مخلوقين، ربنا واحد، وأصلنا واحد ومآلنا واحد، والله تعالى تعترف بوحدانيته ووجوده أكثر الشعوب، لكن تختلف في مفهوم الربوبية الذي يجعل من الله الواحد رباً حاكماً مسيطراً معبوداً بحق، وهو ما تنفرد به الحضارة الإسلامية التي اتخذته إلهاً ورباً، هذا المفهوم قديم ذكره القرآن الكريم وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (الزخرف: 87) إن هذا المدخل - أي اعتراف أكثر الناس بإله لهذا الكون - ينبغي أن يكون مدخلاً لحوارنا نحن المسلمين مع الآخرين، لنكمل به النقص الخطير في مفهوم الألوهية والربوبية في عالمنا.
8- إن الإسلام يقرّ التعايش مع الآخر بشرط احترامه لمبادئنا ونظمنا وحضارتنا وما نختاره لأنفسنا من نظم وعقائد.
9- إن الإسلام لا يقرّ نظرية " صدام الحضارات " التي يتبناها الغرب محاولاً السيطرة بها على العالم، وإنما يقر الحوار والتفاهم كما هو ظاهر من نصوصه الكثيرة في هذا الشأن.
10- إن رسالة الإسلام هي رسالة الحوار التي أوجبت على المسلمين أن يحاوروا الآخرين وأن يحترموا العقل وما يصل إليه من نتائج، والإسلام يعتبر الحوار الحضاري ثمرة للتصور الإسلامي للإنسان الذي يقوم على أمرين:
أ- تحديد غاية الوجود الإنساني وهي عبادة الله تعالى بالمعنى الواسع والشامل لمفهوم العبادة.
ب- أن الإسلام لا ينظر إلى هذه الحياة الدنيا فقط، بحيث يقتصر الحوار على الأمـور الدنيوية، ولكن الإسـلام يمـدّ الوعـي إلى ما وراء الحياة الدنيا " ( ).
11- إن حوارنا نحن المسلمين مع الغرب لا ينبغي أن يضيع في أمور شكلية وفرعية وجزئية بعيداً عن الأصول، ذلك أن الفروع والجزئيات إنما هي نتاج الأصول والتصورات الكلية، أو هي التحقق العملي لها في مفردات الحياة اليومية، فالصلاة عماد الدين ولكنها ناتج مفهوم أكبر هو الإيمان بالله تعالى، إن محاوري حضارتنا - خصوصاً من النصارى - يعرفون أصول عقيدتنا ومخالفتها الصريحة لعقيدتهم في المسيح في مسائل الخلق والصلب والقيامة والفداء.. وفي الوقت نفسه ينكرون المبادئ الأساسية التي يقوم عليها الإسلام من نزول القرآن وكونه كلام الله وينكرون نبوة محمد ثم هم بعد هذا كله يحاورون بعيداً عنه، وهو الأمر " الذي حدا بشيخ الأزهر في آخر دعوة للمشاركة في مؤتمرات الحوار أن يدعو النصارى إلى الإقرار أولاً بالكليات، وعدم إضاعة الوقت في جزئيات وصغائر لا طائل من بحثها، ومن هذه الكليات التسليم بأن القرآن وحي وأن محمداً رسول، وإلا فما معنى أن يكون الحوار باسم " الديانات السماوية " إذا لم يسلم المحـاور بأن القرآن وحي؟ " ( ).
12- لا ينبغي لنا نحن المسلمين أن نعامل الحضارة الغربية بوصفها مجموعاً متناسقاً من القيم والمبادئ، لا، ليست هي هكذا، ثمة خلافات وتناقضات جوهرية داخل منظومة المبادئ والقيم الممثلة لتلك الحضارة، وليست الدول الممثلة لتلك الحضارة على قدم واحدة في عداوتها للحضارة الإسلامية، إذ تقف الولايات المتحدة - أو بعض الجهات المتنفذة فيها وذات الصلة باليهود - على رأس القائمة في العداوة، وتتمثل أبرز صورها في مساعدة إسرائيل بلا حدود للسيطرة على العرب والمسلمين وإضعافهم، تليها بريطانيا...
رابعاً: ازدياد أهمية حوار الحضارات بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م.
لقد صار هذا التاريخ حدّاً فاصلاً بين عهدين، فقبله كانت الاتهامات للإسلام والمسلمين تدور في بعض المحافل الغربية هنا وهناك، دون أن تكون نهجاً ثابتاً أو فلسفة متكاملة.. ولكن بعده صار الأمر أكثر خطورة حقاً، لقد ألصقت الاتهامات مباشرة بالإسلام والمسلمين، وأفلح الإعلام الغربي الذي يسوس المجتمعات هنالك في رسم صورة كريهة للمسلمين وصلت إلى المستوى الشعبي، حتى صار الناس في بيوتهم يتوجسون خيفة من جار مسلم أو مسافر مسلم على طائرة هنا أو هناك، هذه أمور يلمسها المرء واضحة للعيان بعد الأحداث المأساوية المذكورة، ولقد عم ذلك كل قطاعات الشعوب هنالك تقريباً من الساسة إلى من هم أدنى، ومن تصريحات الرئيس الأمريكي ببدء حرب صليبية ثالثة إلى تصريحات رئيس وزراء إيطاليا الأسبق حول سمو الحضارة الغربية وعلوها على الحضارة الإسلامية...
لهذا كله ازدادت الدعوة إلى حوار الحضارات بصورة لافتة عقب تلك الأحداث، وعقدت المؤتمرات على مستويات متعددة هنا وهنالك، وصارت مادة حوار الحضارات مادة أساسية في كل وسائل الإعلام، وعقدت مؤتمرات وندوات في كثير من الجامعات والمؤسسات الثقافية والسياسية، واهتمت الصحف والمجلات ووسائل الإعلام المتنوعة بهذا الموضوع حتى صار مادة أساسية فيها جميعاً.
هذه الصحوة المفاجئة تعكس لا ريب بعداً غائباً عن ثقافتنا ومعاملاتنا هو بعد الحـوار، الحوار الداخلي بين أبناء حضارتنا، والحوار الخارجي مع الحضارات الأخرى، هذا مع ما قد رأيناه في مباحث هذه الدراسة من وجود أصول للحوار في تراثنا قرآناً وسنةً وتاريخاً.
ونحن نعود فنؤكد أن الإهمال في هذا الجانب من جوانب ثقافتنا وحضارتنا هو مظهر من مظاهر الإهمال التي تلف علاقتنا كلها بموروثنا الحضاري والأخلاقي عموماً، يقول الدكتور محمود عمارة:" إذا كنا نريد حل مشكلاتنا، والخـروج بالأمة الإسلامية من النفق المظـلم، فإنه لا سبيل إلى تحقيق هـذا الأمل إلا بالحـوار الذي نتفاعل به مع واقع الحياة أخـذاً وعطاءً " ( ).
لقد قيل الكثير عن أهمية الحوار قبل التاريخ المذكور، لكنا نقول: إن أهمية الحوار الآن وحاجتنا إليه صارت ضرورة ملحة، لقد تغير الزمان وتغيرت وسائل الاتصال وسبل الدعوة والحوار، وتعددت وتنوعت هذه السبل كالتلفاز والمذياع والمجلات والصحف والكتب والأفلام والمسلسلات والإنترنت... إلخ، هذه صور التعامل العصري مع المادة العلمية والثقافية، ولابد لنا من استثمارها في حدود الضوابط الشرعية للحوار الفعال المثمر مع الحضارات الأخرى من حولنا.
لقد انساق الغرب وراء مقولة المفكر السياسي الأمريكي "صموئيل هنتنجتون " ( ) عن صراع الحضارات، تلك المقولة التي كرّسها وجمع لها الشواهد المنتقاة في كتاب بعنوان " صراع الحضارات " وذلك بعد سقوط العدو التقليدي للحضارة الغربية متمثلاً في انهيار النظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي، حيث رأى هذا المفكر أن العدو المقبل للحضارة الغربية هو الإسلام الذي يتمتع بحضارة راقية ممتدة من جنوب شرق آسيا مروراً بالحضارة الفارسية والتركية ثم العربية والأفريقية الشمالية.. وكلها حضارات متنوعة تحت حضارة رئيسية واحدة هي الحضارة الإسلامية، هذا المجموع الهائل من البشر والوحدة والتنوع والثروة والمكان والمكانة... يمثل صلب الحضارة الإسلامية، ويشكل في رأي هنتنجتون التحدي الأكبر للحضارة الغربية بعد سقوط الشيوعية، واستمرت هذه المقولة في التفاعل حتى أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتجد التربة خصبة لتنبت ثمارها الخبيثة حرباً ضروساً على كثير من المستويات والصُعُد ضد الإسلام وأهله وحضارته.
لقد افتقد هنتنجتون - مثل كثير من كبار مثقفي الغرب - النظرة الموضوعية نحو حضارة الإسلام وأصوله الثابتة، يقول فهمي هويدي:" إن الإسلام كدين هو السابق، إن لم يكن الأوحد، الذي قدّم إطاراً عقيدياً واضحاً للعلاقة مع الآخر، جديراً بالاحترام، حيث تضمنت النصوص المرجعية في الإسلام - والقرآن على رأسها - مبادئ غاية في الرقي تؤسس عالماً تقـوم العلاقات فيه على التعاون على البرّ والخـير بين المختلفين " ( ).
هذا الظلم الحضاري الذي تمارسه حضارة الغرب القوية اقصادياً وعسكرياً يقابله تعقّل ودعوة إلى الحوار من قبل حضارتنا الإسلامية، لقد ازدادت الدعوات إلى إقامة الحوار مع الآخر، مع الغرب وغيره.
ونحن نختم هذا المبحث بذكر بعض التوصيات الصادرة عن واحدة من الندوات والمؤتمرات الكثيرة التي عقدت في الفترة الأخيرة، ونتائجها وتوصياتها تتشابه إلى حد كبير، مما يبين اتفاق عقلاء حضارتنا على هذا المبدأ الحضاري وضرورة تفعيله على أسس سليمة، ومن هذه التوصيات:
1- وضع استراتيجية بعيدة المدى لتفعيل الحوار بين الحضارات والثقافات وذلك من خلال استخدام معطيات التقنية الحديثة لتدعيم هذا الحوار الحضاري وتشجيع مجالات الترجمة في هذا الخصوص.
2- تكثيف اللقاءات الإسلامية مع الحضارات الأخرى لدراسة المسائل التي تهم الطرفين من أجل تشكيل مفاهيم مشتركة حولها وتحرير النفوس والعقول من وطأة الصراع التاريخي بين الحضارات.
3- بذل الجهود الدولية السلمية الفاعلة من أجل حل المشكلات الكبرى المعقدة والمزمنة التي تشكو منها المناطق التي يتولد فيها العنف ويتنامى.
4- التأكيد على أهمية القيم الدينية والروحية والأخلاقية في تحقيق التعايش الآمن بين المجتمعات البشرية من الكوارث والفقر والجهل والتدهور الأخلاقي.
5- إشاعة روح التسامح والمساواة والتضامن واحترام التنوع الثقافي بين الشعوب وخصوصيته.
6- زيـادة الاهتمام بالأقليات الدينية والعرقية وضحـايا الحروب والكوارث.
7- التركيز على التعليم وإشاعة ثقافة الحوار لكونهما السبيل الأفضل لتحقيق التعارف بين المجتمعات.
8- تشجيع العلماء والباحثين والأكاديميين في الجامعات ومراكز البحوث على إنجاز بحوث ميدانية وتطبيقية تتعلق بحوار الحضارات وربطها بالنشاط العلمي لأعضاء هيئة التدريس والباحثين.
9- التأكيد على عقد المؤتمرات النوعية ومعارض الكتب ومنتديات الفكر والثقافة العالمية والمشاركة فيها بما يسهم في إثراء التفاعل بين حضارات الشعوب وثقافاتها ( ).
خامساً: سبل إقامة حوار الحضارات
من أهم الصور المعاصرة لإقامة حوار الحضارات المؤتمراتُ المتنوعة التي تعقد باسم حوار الحضارات أو حوار الأديان، وهذه المؤتمرات كثيرة متنوعة، وفيها يكون اللقاء وجهاً لوجه، ولا شك أن اللقاء يزيل كثيراً من الشك واللبس وسوء النية، ويوفر مزيداً من الاطلاع على الحقائق بعيداً عن الادعاءات، خصوصاً فيما يتعلق بصورة المسلمين لدى الآخرين، إذ إن عندنا نحن المسلمين رصـيداً كافياً من المعرفة الحقيقية باليهود والنصارى من خلال نصوصنا الثابتة كالقرآن وصحيح السنة، ثم من خلال تعاملاتنا المتنوعة معهم قديماً وحديثاً، وفي المقابل فإن ثمة خلطاً كبيراً ومزاعم وافتراءات في تصورات الغربيين عمـوماً عن الإسلام والمسلمين وفي معرفتهم بالإسلام وعقيـدة وشريعة.
إن أمتنا في حاجة إلى مؤسسات فاعلة يقوم على شأنها أهل العقيدة والخبرة العملية الواقعية، ويجب أن تعطى هذه المؤسسات حرية كبيرة في العمل والتحرك لتدارك النقص الخطير في سبل حوارنا مع الآخر ووسائله، كما ذكرنا من قبل، ثمة إمكانات كثيرة للحوار بين المسلمين والعالم من حولهم، فهم في قلب العالم مكاناً واقتصاداً وتأثيراً فاعلاً، لكن المسلمين لم يستثمروا كثيراً مما رزقهم الله في حوار الآخر ودعوته والتأثير فيه، لا تزال لدينا إمكانات كثيرة متاحة ولكنها مهملة ( ).
ويجب أن يكون من الأهداف الأساسية لذلك:
1- الدعوة إلى الله بمفهومها الشامل.
2- تصحيح صورة الإسلام والمسلمين لدى الآخرين.
3- الدفاع عن حقوق المسلمين دولاً وأقليات.
إننا إذا لم نفعل ذلك فسوف يتجاوزنا قطار الحياة القوي الهادر، ذلك الذي يسحق الضعفاء، والله تعالى يحب المؤمن القوي، وهو خير عنده من المؤمن الضعيف، إن ثقافة عصر المعلومات المتوسعة دوماً وما تستتبعه من مظاهر العولمة تكاد تسحق الأمم الضعيفة التي تنكص عن اللحاق بأدوات العصر ووسائله في عملية التواصل والتحاور، ومن مخاطرها العاجلة كما يقول الدكتور نبيل علي:" ستضمر ثقافتنا أمـام جحافل ثقافة العولمة الوافدة وحوار الحضارات، ويكفي الإشارة هنا إلى ما فعلته الشركات الأمريكية في استغلال منتجات الصنـاعات اليدوية في الدول النامية من إندونيسيا إلى المكسيك جاعـلة منها تجـارة عـالمية لا يتجـاوز نصيب الصـانع المبدع فيها10 % " ( ).
وعلى هذا نرى أن سبل إقامة الحوار مع الحضارات الأخرى كثيرة متنوعة، ولا بد لنا من أن نواكب ظروف العصر الذي نحياه وأنظمته الثقافية والمعرفية ولن يكون التأثير فاعلاً إلا باتباع هذه الأنظمة التي هي بمثابة لغة دولية موحدة يتعارف بها الناس، ونذكر من ذلك على سبيل المثال:
1- تفعيل دور المؤتمرات والندوات التي تخص حوار الأديان والحضارات، والانطلاق من الأسس والثوابت التي تحدثنا عنها في هذا المجال، والاهتمام الخاص بالمتخصصين في حضارتنا وتراثنا من علماء الحضارات الأخرى، تقول إحدى المستشرقات الإسبانيات عن زيارتها للبلاد العربية:" أود أن أقول: إننا بحاجة ماسة إلى مثل هذه الزيارات لكم، فهي تفتح أمام أعيننا عوالم بالغة الثراء وتلهمنا الكثير، ومن خلالها نلمس بأناملنا ونصافح بعيوننا هذا العالم الذي وهبنا أنفسنا له: عالم الشرق الجميل، فلا يكفي أن نعيش ونموت ونحن نتعامل معه عن بعد من خلال الصحف والمجلات والكتب... وهذه الرحلة الإنسانية أو الحج الثقافي الذي نقوم به ضرورة لكل مستعرب يهتم بكم وبإيداعكم، فالكتب لا تكفينا لنعرفكم على حقيقتكم، إذ إن اللغة في حياتها وتفاعلها مع البشر يضفيان كثيراً، ويفصحان عما هو كامن أو مسكوت عنه وراء السطور " ( ).
ولعل هذا يؤكد أهمية اللقاء المباشر والحوار الفعال لإزالة الغموض والشك والفهم الخاطئ، والمسلمون اليوم في أمس الحاجة إلى تفعيل ذلك اللون من الحوار الحضاري، بدعوة هؤلاء الأعلام والباحثين إلى بلادنا وإكرامهم - في حدود الشرع - وفتح آفاق الحوار معهم، فذلك أبلغ من الاكتفاء بنشر الكتب أو إصدار البيانات، إن آثار اللقاء المباشر أكثر عمقاً وتأثيراً لا ريب.
2- الاستعانة بالجاليات والجماعات والأقليات المسلمة في البلاد غير الإسلامية، ذلك أن هؤلاء لا تنقصهم الغيرة على دينهم وعقيدتهم، وهم أكثر الناس دراية بأحوال البلاد التي يعيشون فيها وعادات أهلها وسبل التعامل معهم... لابد إذاً من الاستفادة القصوى من هؤلاء المسلمين، ولا يكون ذلك إلا بالتنظيم الدقيق والاستفادة من سبل الاتصالات الحديثة في هـذا الشأن، وإن المرء ليعجب من النظام اليهودي في ذلك، إذ إن لدى الدولة المغتصبة المقامة في فلسطين معلومات مفصلة عن اليهود في العالم، وهي تستفيد بهم استفادة ضخمة على كل المستويات، فلا أقل من أن نعامل نحن المسلمين الأقليات والجاليات الإسلامية بما يشبه ذلك من الإحصاء والمتابعة والمساعدة.. ثم الاستفادة بعد ذلك.
3- وفي هذا السياق نذكر أيضاً ضرورة الاستفادة من الدارسين المبعوثين إلى تلك الدول من بلادنا الإسلامية، يجب أن يكون ضمن واجبات الدارس هنالك تحليل بعض أصول الحضارة المبتعَث إلى إحدى بلدانها، وترجمة ذلك إلى لغتنا العربية، وليكن ذلك بالتنسيق مع المؤسسات المختصة بالحوار، ذلك أننا نؤمن بأن المعايشة والمعاينة أكبر أثراً وأشد تأثيراً من القراءات المجردة في الكتب والمشاهدات في وسائل الإعلام عن بعد.
4- ولابد من الاستعانة بأقوال العقلاء والمنصفين من أبناء الحضارات التي نحاورها، فيكون كلامهم حجة على إخوانهم، كما يذكر الأستاذ عبد الله كنون:" وقد ظهر أخيراً بحث لثمانية من كبار علماء اللاهوت البروتستانت في جامعة أكسفورد بإنجلترا أنكروا فيه ألوهية المسيح وبنوته لله، وأخرجوه في كتاب خاص تخاطفته الأيدي..." ( ).
هل استفدنا نحن المسلمين من ذلك في حوارنا مع الحضارة المسيحية؟ هل ترجم البحث إلى العربية لمزيد من المعرفة بطبيعة الموضوع؟
5- وفي هذا السياق نذكر أيضاً وجوب الاستفادة من نتائج الأبحاث العلمية التي تؤيد وجهات النظر العربية والإسلامية في مجال الحوار وإثبات الحقوق المسلوبة، ونذكر على سبيل المثال هذا البحث الذي أجراه أحد العلماء الإسبان وتوصل فيه إلى أن التحليل المعملي لدماء عينة ممثلة من الفلسطينيين من قطاع غزة، وعينة مقابلة من اليهود هناك أثبتت أن اليهود مستعمرون colonists أي غرباء عن الشعب الأصلي للمنطقة، مما يدحض عملياً حق اليهود المزعوم في هذه الأرض، وقد قامت معركة يهودية ضد الباحث وبحثه والمجلة التي نشرت البحـث، حتى إن المجلة اعتـذرت عن ذلك !! ( ).
ولم يعد يكفي في ذلك أن نقول للناس: إن لدينا تراثاً يقول كذا وكذا.. لابد للناس أن يروا أثر هذا التراث الذي نفاخرهم به في سلوكنا وحضارتنا المعاصرة، ولابد كذلك من إيصال دعوتنا إلى الناس حولنا بصورة تلائم العصر الذي نحياه وأدواته المتنوعة المتجددة كما يقول الدكتور أحمد زويل: " ومن ناحية توصيل المعلومة للعقل الغربي، فليس كافياً على الإطلاق استخدام منهج الإحالة إلى التاريخ، وإلى ما قاله الرواة بشأن الإسلام، لابد من توصيل المعلومات إلى العقل الغربي بطريقة واضحة وسلسة " ( ).
قلت: وليس معنى ذلك أيضاً تغيير الثوابت المعلومة من ديننا إرضاء لرغبات غيرنا لننال بعضاً من رضاه، إنما المراد التجديد في عرض هذه الثوابت بأساليب العصر.
6- لابد كذلك من التحدث بلغة العصر الذي نحياه كما ذكرنا، وفي هذا السياق توفر شبكة المعلومات الدولية " الإنترنت " فرصاً هائلة ورخيصة الثمن نسبياً لحوار الثقافات والأديان كما يقول الدكتور نبيل علي:" حوار الأديان هو أهم محاور الحوار الثقافي، وهو الحوار الذي أصبح ممكناً ولازماً في آن، لقد وفرت شبكة الإنترنت ساحة ساخنة للتثاقف الديني، يشهد على ذلك هذا العدد الوفير من المواقع الدينية الممثلة لمختلف الأديان والطوائف، لقد وفّرت دراسات الدين المقارن الأسس النظرية من أجل حوار أكثر موضوعية وفاعلية بين الأديان في إطار توجّه أشمل لبلورة نظرية عامة لتراث الإنسانية الديني " ( ).
إن من المؤسف أن إسرائيل تسبقنا في استغلال الشبكة أولاً للترويج للدعاية الصهيونية، ثم لتشويه صورة الإسلام والمسلمين، بل لتحريف النصوص الإسلامية ووضعها على الشبكة بوصفها نصوصاً إسلامية صحيحة، والمحاولات في ذلك كثيرة، إن عدد المواقع العربية مجتمعة على الشبكة المذكورة يبدو مقارباً لعدد المواقع الإسرائيلية !! مع الفارق المعلوم بين عدد السكان بطبيعة الحال " ( ).
7- إن لدينا نحن المسلمين طاقة هائلة لم نستفد منها بعد في حوار الحضارات، أعني بذلك الطاقة الدبلوماسية التي حصرناها في نطاق ضيق، ولم نستفد من تجارب الغرب في ذلك، إن النشاط الدبلوماسي للغرب يمثل مؤسسات متكاملة للمتابعة والدراسة والتحليل بل التجسس أحياناً على الدول التي فيها تلك البعثات، ويُستعمل هذا كله في محاولات التأثير على صناعة القرار السياسي والاقتصادي في تلك الدول حيث إن صناعة " المعلومات " غدت أكثر الصناعات جدوى سياسياً واقتصادياً.
ولو رجعنا إلى تراثنا لوجدنا أن السفارات والمراسلات الدبلوماسية في حضارتنا وإرثنا الثقافي كان الهدف الأصلي منها الدعوة إلى الله تعالى، كما كانت رسالة سليمان إلى بلقيس، وكما كانت رسائل النبي إلى ملوك عصره وحكامه المعروفين على الساحة الدولية آنذاك، ولا بأس أن نذكّر بطرف من هذه الرسائل بوصفها صورة مناسبة لذلك العصر - ولعصرنا كذلك - لإقامة الحوار مع الآخر بالحسنى، وقد أوردنا منها في موضع سابق رسالة النبي إلى هرقل.
يقصّ الطبري في أحداث السنة السادسة للهجرة خروج رسل رسول الله إلى الملوك والأمراء، ويذكر ابن سعد في الطبقات رسلاً كثيرين أرسلهم النبي إلى الملوك والأمراء، غير أننا نختار هنا أهم أولئك الملوك والأمراء في ذلك الوقت لما كان لهم من تأثير على الأحداث، وكانت الرسل إلى هؤلاء على النحو الآتي:
1- دِحْية بن خليفة الكلبي أرسله النبي إلى قيصر ملك الروم.
2- عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك الفرس.
3- حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس حاكم مصر.
4- عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي حاكم الحبشة.
5- سليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة.
6- شجاع بن وهب إلى الحارث بن أبي شمر الغساني في دمشق.
7- العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى صاحب البحرين.
8- عمرو العاص إلى جَيْفر بن جُلَنْدى وأخيه صاحبي عُمان " ( ).
والملاحظ أن الإطار المكاني لهذه الرسائل يشمل:
1- العرب الوثنيين في أنحاء الجزيرة العربية.
2- النصارى في الشام ومصر والحبشة ومن تبعهم من العرب.
3- الفرس المجوس في الشرق ومن تبعهم من العرب.
وهذه المحاور تمثل الدوائر الأكثر قرباً إلى الدعوة الناشئة، وقد أصبح أكثرها بعد قليل في حوزة الدولة الإسلامية، وهذه الدوائر نفسها شغلت حيزاً غير قليل من قصص القرآن وأحداثه تأكيداً على عالمية الدعوة، ففيها قصص سبأ والأخدود في اليمن، وقصص الأنبياء في الشام أرض النبوات، ومصر التي زارها إبراهيم وعاش فيها يوسف وأبواه وإخوته وموسى وهارون.. وأحداث انتصار الفرس على الروم ثم الدولة للروم عليهم كما في أوائل سورة الروم.. هذه الدوائر الجغرافية هي التي تحرك الرسول فيها بادئ الأمر سياسياً وإعلامياً برسائله إلى الملوك والأمراء لفتح باب الحوار والدعوة إلى الله بالحسنى وتعريف الآخر بالحضارة الناشئة وأسسها الثابتة.. ثم تابع الخلفاء من بعده تحركهم فيها عسكرياً وسياسياً لنشر دين الله في الآفاق.
أما الإطار الزماني لتلك الرسائل بما له من أهمية كذلك فقد كان في أواخر السنة السادسة للهجرة حين هزم الله الأحزاب وردّهم خائبين، وبشر النبي المسلمين بأنهم بعد يوم الأحزاب يغزون الكفار ولا يغزوهم الكفار، وبعد تطهير المدينة من الوباء اليهودي المتمثل في آخر جيوب اليهود في المدينة بني قريظة، وامتد الإطار الزماني لهذه الرسائل حتى فتح مكة.
ونذكر من هذه الرسائل رسالته إلى كسرى ملك الفرس، ونصها " بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلامٌ على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله ؛ وشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلى الناس كـافة، لينذر من كان حياً ؛ أسلم تسلم، فإن أبيت فعـليك إثم المجوس " ( ).
هكذا كانت السفارات السياسية أساساً للدعوة إلى الله وفتح باب الحوار مع الحضارات الأخرى، ويجب أن تكون الدعوة وتصحيح المفاهيم جزءاً أساسياً اليوم من بعثات المسلمين في الدول غير الإسلامية وفق الضوابط الشرعية لذلك.
8- الاستفادة من وسائل الإعلام الموجهة من بلاد عربية وإسلامية نحو البلاد غير الإسلامية، ومنها الإذاعات الموجهة والقنوات الفضائية وهي من الوسائل الفعالة لنقل أصول حضارتنا إلى الآخرين وتصحيح صورتنا المشوهة عند كثير من أبناء الحضارات الأخرى.
9- استمالة المعتدلين من علماء الغرب وإقامة حوار خاص معهم ودعوتهم في زيارات علمية وترفيهية - في حدود الشرع - إلى بلادنا، وتزويدهم بالكتب والمعلومات التي تصحح وجهات نظرهم عن الإسلام، إن هذا العمل تمارسه مؤسسات الغرب مع بعض مثقفينا، لكنها تختار منهم نوعاً خاصاً يؤمن بأفكارهم ويساعد على نشرها في ديارنا بوسائل متنوعة، وفرق بين من ينشر الضلال والانحلال في بلادنا، ومن نطالبه بتصحيح صورتنا المشوهة لدى الأخر بالعدل والإنصاف وإظهار حضارتنا بصورتها الحقيقية.
10- لماذا لا تنشئ أمتنا منهج " الاستغراب" مقابلاً لمنهج الاستشراق الذي ساعد لا ريب في تشويه صورة الإسلام والمسلمين بما ينشره من افتراءات وأكاذيب؟ إننا حقاً في حاجة إلى مؤسسات متخصصة تدرس الغرب وطرق تفكيره قادة وشعوباً واتجاهات سياسية ودينية... ولا ريب أن ذلك سوف يساعد أمتنا في رسم سياسات التعامل مع الآخر بعد فهمه جيداً، لقد كان الاستشراق مقدمة وتمهيداً، ثم عوناً مباشراً للاستعمار الغربي لبلاد الإسلام، فهل نعي الدرس؟
سادساً: عوائق حوار الحضارات:
لكي ينجح حوار الحضارات لابد من إزالة العوائق التي تعترض سبيله، وأهم هذه العوائق الفهم الخاطئ المتوارث بين أطراف الحوار، إن كثيراً من حقائق حضارتنا الإسلامية على سبيل المثال مجهولة لدى الآخر الذي نريد أن نحاوره بل هناك خلط ولبس كبيران في صورتنا لدى الآخر، هنالك اتهامات وترّهات وأباطيل تفوق الخيال، نسجتها أساطير شعبية متوارثة في أوربا منذ الفترة الأندلسية ثم الحروب الصليبية ثم الحروب التركية العثمانية مع أوربا، قال بولدوين ( ):" إن العالم المسيحي أو أجزاء هامة منه على الأقل ظلت تواجه خطر عالم إسلامي معاد لفترة تقرب من الألف سنة تمتد من تاريخ وفاة النبي عام 632م حتى انهيار آخر هجوم عثماني أمام فيينا عام 1863م.. إن الإسلام كان الدين الوحيد الذي جاء عقب المسيحية، وغنم منها مناطق شاسعة، وكبّدها هزائم عسكرية كبرى" ( ).
وما تزال كثير من أسس الإسلام مرفوضة من الآخرين أو مجهولة تماماً، وإذْ يعترف المسلمون بعيسى عليه السلام نبياً مرسلاً لا تعترف المسيحية بمحمد نبياً مرسلاً، وذلك مما يخلّ بمبادئ الحوار العادل بين الحضارتين، إن " قضية الوضع الديني لنبي الإسلام محمد هي واحدة من الإشكاليات المعقدة في الحوار المعاصر بين هاتين الديانتين " .
وهذا مثال فحسب، وثمة كثير غيره مما يعوق الحوار، وسببه رفض الطرف الآخر للحقائق والمسلمات التي نؤمن بها أو جهله بها.
إن قيام الحوار على أسس عادلة - كما ذكرنا بعضها من قبل - لا يمكن أن يتم في مثل هذه الأجواء، كما تقول الدكتورة فريدة جاد الحق:" وإذا دققنا النظر في فكرة حوار الثقافات المطروحة بشكل أساسي بين الثقافتين الغربية والإسلامية فسنجد أن الغرب هنا وضع عاملين أو سببين أساسيين يمنعان من وجود حوار حقيقي: الأول: جهل الغرب بالإسلام، وهو ما دفع المفكر إدوارد سعيد إلى كتابة مقاله عن" صدام الجهالات أو صراعها "رداً على مقولة هنتنجتون، مما دفع بعامل الجـهل إلى أن يكون هو المسئول عن رؤية الغرب هـذه للإسلام.. الثاني: المعرفة الناقصة عن الإسلام.." ( ).
وتشير الكاتبة كذلك إلى سيادة ثقافة الاستعلاء التي تحكم تعاملات الغرب وحواره مع الآخر، وهو من عوائق قيام حوار عادل منصف، هذه النزعة الاستعلائية تمثلها كتابات وأفلام ومواد إعلامية وثقافية كثيرة، وتظهر أحياناً بصورة لافتة للنظر كما صار إليه الحال بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ونذكر منها على سبيل المثال أقوال رئيس وزراء إيطاليا ورئيسة وزراء بريطانيا السابقة، وموقف رئيس وزراء فرنسا السابق المستقيل ليونيل جوسبان ( ) بعد هزيمته الكبيرة في انتخابات الرئاسة الفرنسية، تلك التصريحات التي تكتسب زخماً إعلامياً وانتشاراً بسبب مكانة أصحابها السياسية.
وفي خضم الأحداث المتلاحقة لا ننسى الدور الفاعل للحركة الصهيونية المتنفذة في الولايات المتحدة والغرب عموماً في حربها ضد الإسلام، ففي الولايات المتحدة حيث يقود الإعلام المجتمع ويوجه رؤيته للحياة، يسيطر اليهود على كثير من وسائل الإعلام ودور النشر وصناعة السينما، فمؤسسة " نيوهاوس " التابعة لليهود وتلعب دوراً أساسياً في تشكيل الرأي العام الأمريكي تمتلك اثنتي عشرةَ قناة تليفزيونية و87 محطة كابل و24 مجلة و26 صحيفة يومية، وفي مجموع الولايات المتحدة يصدر1600 صحيفة منها 25% فقط بعيداً عن اليهود ( ) أضف إلى ذلك مركز صناعة السينما في هوليود وملاهي والت ديزني.. كل هذه المؤسسات الفاعلة تلعب بها أيدي الصهيونية وتستغلها لتحقيق مآربها، ومن أهمها حرب الإسلام والمسلمين.
ومن الجانب الإسلامي هنالك عوائق ظاهرة أيضاً، منها على سبيل المثال شعور الطرف الإسلامي بالحرج لأنه صار في موقف المتهم بعد تلك الأحداث المأساوية، إذ المشاركون فيها - كما قيل - هم من المسلمين، ومن عدة بلدان مسلمة، ولهم مؤيدون من هنا وهنالك...وهنا يمكن الدفاع عن أنفسنا بالتساؤل عن السبب الذي أدى إلى هذه النتيجة، حتى مع عدم قبول الجمهور المسلم بتلك الأحداث واستنكاره لها على كل المستويات، لكن أليس هو الظلم والاستغلال الذي مارسه الغرب ضد المسلمين طيلة قرون عديدة، وما يزال يمارسه حتى اليوم بصور عديدة ظاهرة للعيان؟
والعائق الثاني من قبل الطرف الإسلامي عائق داخلي، إذ لا شك أن أكثر ما يواجهه المسلمون في حوارهم الحضاري من حرج يتمثل في التناقض الصارخ بين الأسس والأصول الحضارية التي نقدمها للناس نظرياً، وبين واقع المسلمين من التخلف والفرقة والخلاف الداخلي، ومن ثم يُطالب المحاور المسلم ويُسأل عن سبب تخلف بلاد الإسلام في مجالات السياسة والعلوم والاقتصاد والنظم الاجتماعية في ضوء هذا الرصيد الهائل من المبادئ العلمية والأخلاقية التي نقدمها نظرياً على الأقل، هذه معضلة تخصنا نحن وحدنا، ولن يحلها أحد غيرنا، ولن يكفي في هذا الدفع بأننا خارجون من احتلال دام قروناً... ثمة دول تحاورنا كانت لها الأحوال نفسها ثم سبقتنا في هذا المضمار إن المرض كامن فينا، وعلاجه بأيدينا، هذا ما يذكّرنا به القرآن دائـماً إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ (الرعد:11).
ولا ينبغي لنا نحـن المسلمين في خضم الأحداث الكثيرة المتلاحقة والحملات المعادية لنا أن نذهل عن حقيقة أوضاعنا نحن السياسية الاجتماعية والاقتصادية والعلمية، إن كثيراً من بلادنا لا يزال متخلفاً فقيراً، وإن كثيراً مما يُلصق بنا من اتهامات موجود عند بعضنا، ولو كان قليلاً، إن نظمنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية... كل ذلك لا يزال دون الحد الذي يجعلنا مقبولين كحضارة فاعلة مؤثرة على المستوى الدولي، وأوضح مثال على ذلك بلد مثل تركيا المسلمة التي تحاول منذ أمد بعيد الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، ومع ذلك ترفض أوربا ذلك لتدني مستوى الحريات في تركيا ونقص العدل الاجتماعي وهضم حقوق الأقليات، وهي أقليات مسلمة كالأكراد يتم حرمانها من لغاتها وممارسة أقل حقوقها، إن المعايير الأوربية لحقوق الإنسان على سبيل المثال قد تختلف مع معاييرنا الإسلامية، ولكنا نحن لم نعلن بعد الالتزام بأي منهما صراحة، وهو ما يوقعنا في مأزق خطير، خصوصاً عند عقد جولات الحوار، فلا نحن بأوضاعنا حققنا التقدم الذي يليق بنا، ولا نحن حققنا إرثنا الحضاري في واقعنا الذي نعيش ( ).
الفصل التاسع ثمرات الحوار في مجال التربية والثقافة
أولاً: ثمرات الحوار في مجال التربية:
التربية هي فن صناعة العقول والأجيال، إنها السبيل الأول لبناء أمة قوية في كل نواحي الحياة، لقد كانت حياة النبي رحـلة تربوية عظيمة بالمفهوم الشامل أو العام للتـربية، ذلك المفهوم الذي يعني أن كل أفراد المجتمع محتاجون إلى قدر من التعلّم الدائم أو هو بالمفهوم القرآني " زيادة العلم " التي أُمر الرسول أن يدعو بها ربه وقل ربِّ زدني علماً (طه: 114).
لقد قصرنا نحن المسلمين مفهوم التربية في عصرنا في معنى ضيق وحدود معلومة تبدأ بتعليم الطفل وتنتهي به إلى الدراسة الجامعية، ثم تنتهي علاقته بمؤسسات التعليم إلى الأبد إلا فئة قليلة من طالبي الدراسات العليا والبحوث، وهذا - فيما أحسب - تخلف خطير عن المفهوم الأساسي للتربية كما نفهمه من أصلي الإسلام العظيمين: القرآن والسنة.
ومع ذلك، ولضرورة البحث المنهجية في هذا الفصل، سنقصر حديثنا على دور الحوار وأثره في العملية التربوية بالمفهوم المعاصر للتربية ؛ إذْ يرى الباحث أنه قد وفّى في فصول الكتاب المتنوعة الجانبَ الأوسع لدور الحوار في التربية العامة والتعليم المستمر لكافة أفراد الأمة.
وفي التربية المعاصرة تتم دراسة أثر الحوار ودوره في العملية التربوية من منظور أوسع يسمى الاتجاه التواصلي Comunication Approch في التعليم وهذا المنهج يقوم على تعلم العلوم من خلال الاتصال والتحاور والمناقشة، ولعلنا نعود بالذاكرة إلى القرون الأولى من الحضارة الإسلامية لنجد المنهج النبوي في التربية يعتمد على التواصل الشفاهي والحوار والمناقشة، واستمر ذلك قروناً في حلقات التعليم في المساجد ودور العلم ومجالس الخلفاء والأمراء والعلماء، حيث تبقى المادة العلمية موضوع الدرس حية ماثلة في النطق والسمع، تتناقلها الألسن وتتلقاها الأسماع فترسخ في الذهن بسرعة ودقة أكثر من القراءة الصامتة في الكتب، ويأتي دور الكتابة بعد ذلك لتسجيل تلك الحوارات للرجوع إليها وحفظها للأجيال.
إن السماع والنطق من خلال المحاورة والمناقشة يحققان الضبط للألفاظ والجمل والأفكار، ويعلمان الدقة واختيار الكلمات الدالة وحسن تنسيق الكلام وإدارته.
والمنهج التواصلي يُدرس اليوم كذلك في علم اللغة الحديث بوصفه المنهج الأمثل لدراسة اللغة وتدريسها، لما يتيحه من حياة المادة اللغوية نطقاً وسماعاً وأداءً، وفي هذا السياق تدرس اللغة بوصفها أداة للتواصل الإنساني، ويتم تدريب المتعلمين على الطرق الفنية للتواصل والتحاور مع الآخرين، أي توظيف اللغة عملياً في مواقف الحياة المتنوعة، مما يكسب المتعلم القدرة على التحدث والنطق السليم، ويعلمه آداب الاستماع والمحاورة والردّ، ويزيل كثيراً من المشكلات التي يواجهها المتعلمون في هذا المجال كالخجل أو التلعثم أو اضطراب التفكير.
إن التحاور يولّد الكلمات والجمل، ويدفع بها العقل إلى اللسان، ومعنى التوليد هنا أن العقل يستعمل المخزون لديه من مفردات اللغة وصور تراكيبها في توليد معان جديدة بإعادة تركيب تلك الكلمات وفق أصول الإسناد التي تعوّد عليها واختزنها، ففي اللغة العربية يكتسب الإنسان دائماً صوراً وأنماطاً للجملة تختزنها الذاكرة، وحين يحتاج المتكلم إلى أداء معنى تسعفه الذاكرة بكلمات يعيد تركيبها وفق أنماط العربية كأن يبدأ بجملة اسمية أو فعلية، وقد لوحظ أنه في أثناء عملية التحاور أو التخاطب " تزداد نسبة تسميع الكلمات التي تتلقاها الذاكرة ويزداد ترددها على الذهن، ويتكرر استرجاع مجموعات كبيرة منها ربما لفترات طويلة ومستمرة بحسب الفرص المتاحة لهذا التخاطب أو التحاور، وهذا لا يعمل فقط على تمكين الفرد من نطق هذه الكلمات نطقاً سليماً وإدراك ما تنتجه حروفها أو ترتبط به أصواتها من إيقاعات مختلفة التأثير، وإنما يزيد أيضاً من ثبات هذه الكلمات في الذاكرة ويسهل على مكتسبها استرجاعها من هذه الذاكرة واستحضارها عند الحاجة إليها دون بطء، مما يؤثر إيجابياً على تطور الطلاقة اللغوية أو نموها لديه " ( ).
إن مؤازرة الحواس بعضها بعضاً في التعلّم أسلوب أمثل أثبتت الدراسات العلمية جدواه، إنه يبقي المادة العلمية حية في النفوس والعقول، والحوار تُستعمل منه على الأقل حاستا السمع والبصر، وهما أهم الحواس عند الإنسان إضافة إلى الحركات الجسمية المصاحبة، فإذا شارك الطالب مشاركة عملية في الحوار أو قام بإجراء التجربة المعملية بنفسه زادت لديه نسبة الاستيعاب، لأنه يشارك في صنع الحدث التعليمي، لقد أثبتت الدراسات أن الناس يتذكرون " خمسة عشر بالمائة مما يسمعونه، وخمسين بالمائة مما يرونه، نضيف إلى ذلك الحقيقة التي أثبتها البحث، وهي أن الناس يتذكرون حـوالي ثمانين في المائة مما يفعلونه " ( ).
ويذكر أساتذة التربية المعاصرون " المناقشة " ضمن طرق التدريس الأكثر قبولاً وجدوى في مجال التعليم، والمناقشة " تقوم في جوهرها على الحوار، وفيها يعتمد المعلم على معارف التلاميذ وخبراتهم السابقة فيوجه نشاطهم بغية فهم القضية الجديدة مستخدماً الأسئلة المتنوعة وإجابات التلاميذ لتحقيق أهداف درسه " ( ).
وقد أكدت الأبحاث من خلال حساب تواتر المناشط اللغوية أن المحادثة تأتي في المرتبة الأولى من حيث أهميتها فالقراءة والكتابة، وفي دراسة قام بها عالمٌ غربي لحصر المناشط التربوية التي يحتاجها الإنسان في حياته توصل إلى أن هناك ثلاثة وسبعين منشطاً لغوياً جمعها في تسعة أنواع رئيسية وأسماها المواقف الوظيفية في الحياة وهي: المحادثة والمناقشة الجماعية وكتابة الرسائل والمذكرات والتقارير وإلقاء الكلمات في المناسبات المختلفة وقص القصص، وتوجيه التعليمات والإرشادات والتفسيرات " ( ).
وتبادل الأسئلة والأجوبة يعتمد على " لون من الحوار الشفوي بين المدرس والتلميذ يؤدي في النهاية بالتلميذ في الفصل إلى التوصل إلى المعلومات والمفاهيم الأساسية " ( ).
إن كثيراً من الأنشطة المدرسية سواء العلمية أو الفنية يمكن أن تؤدى في صور حوارية، مما يمكن الطلاب من معايشة اللغة واكتسابها والقدرة على الحديث بها، ذلك لما في الحوار من مواجهة تزيل الخجل والتردد، وتساعد كذلك على زيادة الحصيلة اللغوية للطالب، حيث ينادي المختصون بضرورة " إقامة حلقات حوار أو مناقشة أو مناظرة.. بين مجموعات من التلاميذ المتقاربين في مستوياتهم العقلية والتعليمية، تطرح فيها موضوعات علمية أو ثقافية أو قضايا تهم وتشدّ مجموع المشتركين في هذه الحلقات وتحثهم على الحديث أو التحاور " ( ).
ويذكر علماء التربية كذلك " الطريقة الحوارية " ضمن طرق التدريس وهي " طريقة الحوار والنقاش بالأسئلة والأجوبة للوصول إلى حقيقة من الحقائق، وتنسب هذه الطريقة إلى سقراط الذي كان يستعمل تلك الطريقة مع غيره متظاهراً بالجهـل ليرشد المتعلم حتى يصـل إلى الحقيقة " ( ).
ثانياً: ثمرات الحوار في مجال الثقافة العامة:
الثقافة هي مجموع معارف شعب ما في فترة من مراحل حياته، وهي بذلك تعد أمراً خاصاً بذلك الشعب تنبع من عقائده وعاداته وأخلاقه.. وتقوم على خدمتها - أي رصدها وتفسيرها وتنميتها - مؤسسات ينشئها المجتمع كالمدارس والجامعات ووسائل الإعلام والمكتبات.. إضافة إلى دور العبادة والمؤسسات الدينية وأثرها في حفظ هوية الشعب.. كل هذه مؤسسات ثقافية تحمي ثقافة الشعوب وتفسرها وتوثقها.
والقائمون على هذه المؤسسات غالباً هم من خواص المثقفين وذوي المؤهلات العلمية المناسبة لمجال عملهم، إنهم قادة الرأي والفكر، ولذا فإن التزامهم بالتفاهم والتحاور ضروري لتقدم المجتمع وتطوير نظمه الفكرية والثقافية والحضارية.
لقد تنوعت التخصصات العلمية في عصرنا تنوعاً هائلاً، وتعددت الاهتمامات والأنشطة، واختلفت المشارب، وهو أمر لم يكن معروفاً على نطاق واسع في بدء الدعوة الإسلامية، وهذه سنة الحياة لا ريب، ومع هذا كله يكثر التنوع والخلاف، فكيف يلتقي الناس على أسس مشتركة يتفقون عليها ثم يتحمل كلٌّ بتخصصه وفنه؟ لابد من الالتقاء والتحاور والتشاور.
ومن مشكلات حياتنا الثقافية أن مثقفينا لم يعودوا يلتقون وجهاً لوجه كثيراً إن كثيراً منهم يعتمد على الكتاب والمقال كأداة توصيل وتواصل ثقافي، والكتاب والمقال قد يستدعيان نقداً أو رداً، ومن ثم تنشأ الردود.. كل ذلك دون اللقاء المباشر الذي تعودنا منه أن يحلّ كثيراً من المغاليق والإشكالات ويزيل اللبس وسوء الفهم ويذيب المشاعر المتناقضة ويسهل الألفة والتواصل.
إن العناصر التوصيلية المتوفرة في الجو الحواري تختلف عنها في الكتاب والمقال فعناصر المقام - كما سردنا بعضها من قبل - تساعد على توضيح الفكرة وتحديد المراد.
وهكذا لابد أن نعيد إلى حياتنا الثقافية حلقات الحوار الحرّ الذي لا يخضع للمراقبة والتتبع، وبخاصة المراقبة الأمنية بمعناها الحرفي المعروف في كثير من بلادنا، حيث تأخذ بالشبهة وتسجن بالظن في أحيان كثيرة، هذا مع أن التحاور ونقد الذات أول أسس الحكم بل الحياة الناجحة.
ثمة روافد ثقافية متنوعة تنوعاً هائلاً تصب كلها في نهر ثقافة الأمة المسلمة، وفيها كثير مما شابه الخبث والكيد والمكر، والسبيل إلى التنقية هو اللقاء والتحاور لبناء أرضية مشتركة تتحدد فيها الأطر العامة المشتركة، وهي أطر لابد أن تنبع من جمّاع حضارة الأمة ودورها ومهمتها في هذه الحياة الدنيا بوصفها الأمة الوسط، أمة الدعوة الوحيدة الصحيحة إلى الله تعالى في عالم اليوم حتى قيام الساعة، ولقد عاشت أمتنا قروناً طوالاً في تلك الأطر العامة التي نشير إليها فأبدعت للإنسانية خير حضارة أخرجت للناس، وعندما أهملت هذه الأطر وتنوعت المشارب صارت الأمة إلى حال لا تحسد عليها في ظرفها الراهن.
إن كثيراً من مثقفينا يفتقدون اللقاء الحيّ والتفاهم من خلال الحوار، ليست لدينا برامج منظمة لذلك، حتى ثقافة المؤتمرات بأنواعها المختلفة تقوم غالباً على فنون " الإلقاء " الذي هو نوع من الخطابة، قد تكون اللقاءات الجانبية في تلك المؤتمرات والندوات أحياناً أهم من المؤتمرات، تلك التي تتيح اللقاء والتحاور.. وقد يقول المرء لأخيه منفردين ما لا يقوله لـه أمام الناس أو على منصة الحديث.
يجب أن نقرَّ بأن مناخنا الفكري لا يشجع على الإبداع إلا نادراً، لانعدام التحاور الفعال الذي يقوّم الفكر ويمحصه، إننا لا نفعّل سياسة الشورى التي هي أصل من أصول ديننا، إن التحاور والتشاور سبيل عظيم لتقدم الفكر والعلم والثقافة والحضارة كلها، ثمة مجال معهما كبير لتقليب الفكرة ومعرفة الخير فيها والشر، والصالح والضارّ، ثمة عقول تتلاقى وتتلاقح، وهي حينئذ لا تجتمع على ضلالة.
إن أزمة الحوار السياسي والاجتماعي في بلادنا ما هي إلا نتيجة لأزمة أكبر هي أزمة الحوار الثقافي بالمفهوم العام للثقافة بوصفها جماع معارف المجتمع وعاداته وتقاليده، إن المثقفين " على الرغم من رفعهم شعارات الحوار الديمقراطي والنقاش العقلاني ليسوا أكثر ديمقراطية أو عقلانية من سواهم، بسبب نرجسيتهم الثقافية النابعة من اعتقادهم بأنهم يمثلون صفوة المجتمع وضمير الأمم وعقول البشرية، والشاهد على ذلك أن الساحات الثقافية هي أرض خصـبة للحروب الرمزية ولاستراتيجيات الرفض والإلغاء " ( ).
إن تنوع نظم التعليم واختلافها لدرجة التباين في بلادنا، حيث توجد المدارس الحكومية والخاصة وكذلك الجامعات بنوعيها، والمدارس الأجنبية ومدارس اللغات، والكليات العسكرية والدينية.. إلخ، كل ذلك يؤدي إلى التنوع، وليس ذلك شرّاً في ذاته، لكن الشر يأتي حين يتصور كل من هؤلاء أنه يمتلك الحقيقة وحده، وليس للآخرين إلا الخضوع له ولمنطقه ولما تعلمه... هنا يحدث التنازع وتنشب المعارك بين العلماني والديني، وبين العسكري والثقافي، وبين الأمني والديني، واليساري مع اليميني.. وحينئذ يكون دور الحوار والتفاهم أساسياً لاستغلال ذلك التنوع لصالح المجتمع كله، لا لتكريس ثقافة الفرقة والاختلاف ثم الصراع، إننا بحاجة ماسة إلى مؤسسات نظامية للتحاور الاجتماعي الفعال لجمع هذه المختلفات في مشهدنا الثقافي والسياسي على أسس مشتركة أو حدود دنيا من التفاهم والتعايش.
إن مشكلات التطرف والإرهاب في بلاد المسلمين - على سبيل المثال - كان يمكن معالجة كثير منها بالحوار الهادئ البناء المبني على الأسس المتفق عليها لثقافتنا، ولكن بين مَنْ ومَنْ يكون الحوار؟.
إن الجماعات الدينية التي تسمى" الأصولية " ( ) وهي الداعية صراحة إلى العودة إلى أصول الإسلام الصافية، مع اختلاف مناهجها في تحقيق تلك الدعوة، هذه الجماعات تتمسك بأصول ثابتة ترى فيها الحق كله ولا تبيح أو تقبل ما سواها، والنخب السياسية لدينا منفتحة على العالم بفعل الاحتكاك المباشر بغير المسلمين، وكثير من هذه النخب يرى التمسك بتلك الأصول التي تدعو إليها الجماعات الدينية، يرى ذلك عبئاً عليه، وقد يعرضه للمساءلة أمام الشعوب أو الاتهام بالأصولية من جانب غير المسلمين.. وهي أمور تكرهها النخب السياسية لا ريب، ولهذا تترك هذه النخب معالجة المسألة برمتها - مسألة الصدام مع الجماعات الدينية - تتركها للمحور الأمني ليتعامل معها دون فتح حوار معها، وهو تعامل بتفويض مطلق ومسبق من النخبة السياسية بإطلاق يد الأمن في التعامل بدون حدود أو قوانين ضابطة، ومن ثم يقع الصدام والتناحر، إنها حلقة مفرغة كان من الممكن أن يكون للحوار دور في إصلاحها، ولكن ذلك لـمّا يحدثْ ! إننا لا نزال بحاجة إلى حوار جاد مع الذين لم يحملوا السلاح ولم يحرضوا على القتل من هؤلاء، أما الذين حملوا السلاح وخرجوا على الحكام فلهم شأن آخر.
إن الأسس المشتركة لإجراء الحوار متوفرة لا ريب، وهي الأسس المكونة لحضارتنا العربية الإسلامية، لكن الرغبة الحقيقية في الحوار غير موجودة فيما نظن، فالنخب السياسية قد ترى نفسها مشغولة بأمور كثيرة وواقعة تحت ضغوط دولية شديدة لا يشعر بها عامة الناس.
وفي العالم الديمقراطي يتم إشراك كل القوى الاجتماعية فيما يهم المجتمع من قضايا، ويتم توزيع الأدوار ما بين حكومات ومعارضة وفق نظم معلومة تتيح لكل أن يقول رأيه بصراحة ليقرر الشعب بعد ذلك ما سوف يختاره، ومن ثم يظهر المشهد السياسي كله متوازناً منسجماً مع طبيعة الموضوع ومصالح الأمة، وبذلك يكتسب الموقف المتخذ قوة ومصداقية على المستوى المحلي والدولي، ولا ريب أن الأمر مختلف عن ذلك في بلادنا الإسلامية عموماً !
ونحن نرى بعض العلاج في جمع القوى المختلفة لشعوبنا على مائدة الحوار الاجتماعي البناء، الحوار الذي يفتح كل الملفات ولا يستثني " المحرمات " السياسية المعهودة في كثير من بلداننا، لم يكن في عصر النبوة والخلافة الراشدة شيء من تلك المحرمات، كل المسائل والموضوعات كانت عرضة للحوار والمناقشة، هذا هو السبيل لبناء حد أدنى مشترك من التفاهم والتواصل والاتفاق على حل مشكلاتنا، وبذلك نتجنب المزيد من المشكلات الداخلية والتهميش على المستوى الدولي، إننا نعتقد أن الدول الكبرى تتعامل معنا من منطق حوارنا الداخلي ونظامنا السياسي.
إن الصراع في الجزائر، وبين المغرب وجبهة تحـرير الصحراء الغربية " البوليساريو " والصراع في الصومال ومشكلات السودان والأكراد في العراق وتركيا وإيران وسوريا... كل هذه المشكلات وغيرها كثير لن تحل إلا بالحوار الحقيقي، لقد فشل في حلها الجانب العسكري والأمني حتى اليوم، واستنـزفت ملايين الأرواح وكثيراً من المال والخير الذي كان كفيلاً بإحداث تغييرات جذرية في بنية المجتمعات المذكورة، إن قليلاً من التنازل من الجانب الأقوى هو على كل حال أفضل كثيراً من الخسائر الهائلة والدمار والتأخر الذي يسيطر على المشهد الإسلامي في مناطق كثيرة.
ثمة تجارب ناجحة في هذا الميدان يمكن التأسيّ بها والانتفاع بخبراتها التحاورية والتفاوضية، كما حدث بين دول مجلس التعاون الخليجي التي تسوّي المشكلات فيما بينها بالحوار الجاد بالحسنى والأخوة الإسلامية في كثير من الأحوال رغم الضغوط الخارجية المتزايدة عليها.
أليس الحوار الداخلي بيننا لحل مشكلاتنا خيراً من تركها للمنظمات الدولية التي قد لا تكون صادقة النية في حلها؟ لقد تدخلت الأمم المتحدة في الصراع على الصحراء الغربية منذ عشر سنين أو يزيد دون نتيجة حقيقية، في حين تم حل الصراع في أيرلندا الشمالية بتدخل قوي من القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة، بل إن رئيسها السابق - بيل كلينتون - حضر توقيع اتفاق السلام الذي توصل إليه الطرفان بمعونة أمريكية، في حين تقاعست تلك السياسة عن حل مشكلة الصحراء الغربية وغيرها من مشكلاتنا التي ربما يُراد لها – سواء جهلنا ذلك أم تجاهلناه - الاستمرارُ لا الحل !
من عوائق حوارنا الداخلي:
ثمة عوائق كثيرة للحوار الداخلي في بلادنا المسلمة، منها على سبيل المثال:
1- القيود الحكومية على بعض مسائل الحوار وموضوعاته، فالحكومات هي الطرف الأقوى سلطاناً ومالاً ونفوذاً، ولذا يتم كبت المعارضة ولو كانت على حق في بعض ما تدعو إليه أو تطالب به، ومن ثم تفرض الحكومات الحلول الأمنية بوصفها أسهل الحلول لديها، ولكن المعالجات الأمنية لا تحل المشكلات بل تؤجلها وتدفع إلى العمل السري المختفي عن أعين الحكومات، ومن ثم تنشأ المشكلات التي عانت المجتمعات المسلمة من ويلاتها حتى اليوم.
2- وعلى المستوى الاجتماعي نجد هذه القيود نفسها من الطرف الأقوى، على مستوى الأحزاب والجماعات والإدارات الحكومية والشركات والقبائل والأسر.. ثمة أنواع من الضغط وإهمال الحوار والتشاور والتفرد باتخاذ القرار، وهذا كله مخالف للمنهج الإسلامي في الحوار قرآناً وسنة.
وهذه الأطراف القوية عادة ما تفرض شروطاً مسبقة للحوار، مما يجهض عملية الحوار ابتداءً، ويخرج المسائل الجوهرية المراد النقاش حولها من دوائر الحوار، ومن المعلوم في القرآن والسنة أنه لم تكن ثمة موضوعات خارج نطاق الحوار أو التفكير الإنساني، فكل شيء في حياة النبي ودعوته بل خاصة أمره كان قابلاً للنقاش والحـوار، والسنة والسيرة النبوية مليئة بالأخبار في ذلك.
ومما يدل على ذلك - وهو من أعجب ما نراه في السنة - هذا الحوار الداخلي بين الإنسان ونفسه، وهو - وإن كان فيه وسواس من الشيطان - فإنه حوار داخلي يبين بجلاء أنه ليس هنالك ممنوعات في الحوار ؛ لأن الحوار يظهر الحق جلياً، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ :" لا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ: هَذَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ " ( ) هذا أخطر أمور الحياة كلها وجوهر الوجود: التوحيد، ومع ذلك فهو قابل للتساؤل والحوار لإظهار وجه الحق لا للاستمرار في الشك، والحوار حول التوحيد في القرآن كثير كما هو معلوم والحق في نفسه لا يضره النقاش حوله لأنه يزيده وضوحاً وبياناً، وإنما يخاف من ذلك ضعيف الحجة فاقد البيّنة، وإذا كان هذا في شأن العقيدة، فما ظنك بما هو أقل منها من مسائل الحياة والمصالح الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؟ لماذا نجد كل هذه الملفات المغلقة والمسكوت عنها في جوانب شتى من حياتنا الإسلامية المعاصرة؟
هذا هو الإسلام وهذه حياتنا، والفلاح لا ريب سيكون بعرض حياتنا هذه على الإسلام وضبطها على موازين الشرع.
أليس من الأفضل إذاً أن نعود إلى أصولنا الحضارية نستمد منها مبادئ الخير الذي أكرمنا الله به؟ ألم يأمرنا ربنا بالتحاور والتعارف ونبذ الخلاف والصراع؟ ألم تكن تلك هي سنة نبينا محمد ؟
الخـاتمة
لقد اجتهدت في هذه الدراسة مخلصاً - فيما أحسب - العملَ لله ما وسعني الجهدُ، مؤمّلاً أن أتوصلَ - مع إخواني ممن كتبوا عن الموضوع - إلى تأصيل إسلامي لفن الحوار الذي أصّلت لـه دراساتٌ غربية كثيرة، وقد صار لتلك الدراسات في الغرب وقعٌ وصدى في بلدانها، حتى أثمر ذلك خبراتٍ تفاوضيةً وتحاورية قويةً مؤثرة، توضع في مستوى التقدم العلمي والتكنولوجي والاقتصادي هنالك.
واللافت للنظر أن كثيراً من تلك القواعد التي أُصلت هنالك تلتقي مع القواعد التي ذكرتها لفن الحوار من أصولنا الشرعية وتراثنا العلمي الكبير، لكن ثمةً فروقاً بيّنة بين القاعدة المنضبطة بأصل شرعي، وبين عمل اجتهادي يتوصل إليه البشر قد يكون فيه الصواب أو الخطأ، إذ يدخل الأول في منظومة العبادة بوصفه قربة إلى الله تعالى وسلوكاً عِبادياً، ويظل كذلك منضبطاً بتحقيق مصلحة البشر، في حين يهدف الثاني غالباً إلى الكسب الدنيوي أولاً، ولا يهدف إلى تحقيق مصالح شرعية، وأوضح مثال على ذلك تحاور الغرب مع العرب حول احتلال فلسطين، إذ يحاور الغرب ذو القدرة التفاوضية القوية مدافعاً مستميتاً عن حق إسرائيل في الوجود والأمن، دون النظر إلى حقوق أصحاب الأرض الأصليين، إنه استغلال للقدرة التحاورية غير المنضبطة بأصول شرعية في نصر الباطل وهزيمة الحق.
وقد استعرضت في مثاني الدراسة مصطلحات الحوار الشائعة، وهى كل صورة قائمة على التحاور بين طرفين، ووجدنا لذلك أصولاً ومصطلحات متعددة في تراثنا.
والقرآن الكريم أعطى الحوار أهمية كبرى، إذ حاور المولى سبحانه بعضاً من خلقه، وجعل الحوار أداة كل نبي أرسله فأمره بلقاء قومه وحوارهم وجدالهم بالحسنى، ومن هذا كله نتعلم نحن المسلمين لنقيم الحوار الداخلي والحوار مع الآخر على هدي من ديننا الحنـيف .
إن القرآن يعلمنا آداب الحوار من خلال سرد الحوارات التي أُمرنا بتدبرها والتفكر فيها ملياً، وذلك كله لنتعلم ونسلك في دنيانا سلوكاً منضبطاً متوافقاً مع شرعتنا ومنهاجنا الرباني الخالد، ومن تلك الحوارات الخالدة في القرآن والسنة نستطيع أن نستنبط ونؤصل قواعد لآداب الحوار.
وهكذا وجدنا رسولنا الأسوةَ الحسنةَ يحاور قومه منذ مبدأ دعوته إلى الله وجدناه يحاور قومه صغيرهم والكبير، نساءهم والرجال، فقراءهم والأغنياء يدعوهم بصبر وجَلَد وأناة إلى الله، لا يملُّ الدعوة وتكرارها صباحَ مساءَ، ولا يصدّه عن ذلك صدودُ كثير منهم عن متابعة الدعوة بالحسنى التي أداتها ووسيلتها الأولى اللقاء وجهاً لوجه والتحاور بالحسنى، وقد أوردت من ذلك حوارات متنوعة من صحاح الأحاديث والأخبار.
والنبي حاور عشيرته الأقربين منذراً ومبشراً، وحاور العرب مَنْ لقي منهم، وحين هاجر وأنشأ الدولة المسلمة أصّل الحوار نهجاً للشورى والتعلم الدائم، وحاور اليهود والنصارى، وأرسل رسله برسائل إلى ملوك زمانه وأمرائه فاتحاً باب التحاور والدعوة شرقاً وغرباً، وذلك كله بهدف الدعوة إلى الله الواحد الأحد.
وحوارنا الداخلي في العصر الحاضر متأزّم كذلك، ثمة مختلفات ومتنوعات في بلادنا تصل حدَّ التناقض والتناحر أحياناً، كلٌّ يرى الحق معه والباطل مع غيره، والحل الأمثل لذلك هو اللقاء والتحاور، بغير ذلك ستبقى الفرقة والانقسام وسوء الظن، لقد فرّطنا في هذا كثيراً كذلك، ثمة حاجة إلى تأصيل للحوار الداخلي والخارجي معاً.
والإسلام دعوة للناس كافة، ورسوله مرسلٌ رحمةً للعالمين، ولذا فتح الإسلام باب التحاور مع كل الحضارات والأديان لا يستثني من ذلك أحداً، فالأرض كل الأرض، والناس كل الناس مجال الدعوة إلى الله، لتقام الحجة على الناس ولا يكون لكافرهم حجة على الله يوم القيامة بعدما أنزل الكتب وأرسل الرسل خاتماً بمحمد .
إننا يجب أن نتعلم من هذا كله استمرار الحوار والدعوة إلى الله بالحسنى، إن علينا مهمة البلاغ وأمانته، ونحن نعترف بأن أمتنا قد فرّطت في هذا الجانب كثيراً، على الأقل بعد هزيمتها أمام حركة الاستعمار الغربي القريبة العهد.
ومع تقدم وسائل الاتصال وتنوعها يجب على أمتنا أن تستثمر ذلك كله في حوار الآخرين بالحسنى لدعوتهم إلى الله، ثمة أهداف أساسية لحوارنا مع الآخر أولها أن ندعوه إلى الله، ويتفرع عن ذلك أهداف كثيرة كالإصلاح والعدل والمساواة …
إن علينا نحن المسلمين أن نحاور كل شعوب الأرض لنشر هذا الدين وبيان حقيقته بعد أن تداعت علينا كثير من الأمم بالأذى والتطاول والعدوان على مقدساتنا، وبخاصة على القرآن الكريم وشخص النبي أكرم الخلق.
وفي هذا العصر الذي يتميز بثورة المعلومات والاتصالات وانسياب المعلومات عبر أوعية التقنيات الحديثة المتجددة كل يوم حتى صار العالم كالقرية الصغيرة... في هذا الخضم المتلاطم علينا نحن المسلمين أن نصدع بكلمة الحق صريحة للناس أجمعين.
إن فترة ضعفنا الحضاري لن تدوم، والمبشرات بانتهائها على كل حال آتية ولا يجب أن يمنعنا ذلك الضعف من الصدع بالحق، ومن بيان أن الإسلام هو الدين الحق الوحيد في عالم اليوم حتى قيام الساعة لمن أراد معرفة الله وطاعته والفوز بجنته، وأن ما سوى الإسلام من الأديان باطل لا يقبله الله تعالى مهما كانت قوة معتنقيه وسلطانهم وأموالهم.
إن العالم اليوم أحوج ما يكون لرسالة محمد رسالة الرحمة لإنقاذ شعوبه من القهر والتخلف والظلم، لقد كثرت المشكلات وتعاظمت وازداد الفساد وتعددت صوره، وليس هنالك مخرج إلا باتباع منهج الله الحق، ولكن ذلك المنهج نفسه غير معروف عند كثير من الخلق، وهذه مهمتنا نحن المسلمين اليوم، وسوف يسألنا ربنا عن هذه الأمانة من جهتين:
الأولى: العمل بها، والثانية: إبلاغها للناس ودعوتهم إليها.
ولدينا اليوم بحمد الله كل الإمكانيات المادية لفعل ذلك، ولكن نحتاج إلى إرادة سياسية واجتماعية لفعل ذلك كله.
وفي مجال التربية المعاصرة أهملنا كذلك فنون الحوار والمناقشة، ليس لدى كثير من مدارسنا وجامعاتنا متسع من الوقت والمكان لإجراء حلقات النقاش والتحاور، مع ما لذلك من أهمية كبرى أثبتتها الدراسات التجريبية حول العالم.
ليست هذه دعوة للتنقّص ولا لليأس حين نذكر أننا على المستوى الحضاري والمستوى الداخلي أهملنا فنون التحاور والتشاور، هذا هو الواقع الذي لا ينكره كل منصف متدبر لأحوال أمتنا، ولكنها دعوة إلى تجاوز ذلك الواقع الذي لا نحسد عليه إلى ما هو أفضل وأكثر انضباطاً واتساقاً مع أصولنا الشرعية التي هي هدى للعالمين، وذلك استمراراً لحمل الأمانة التي كُلفنا بها بوصفنا الأمة الوسط، أمة الشهادة على الناس في الدنيا والآخرة، الأمة التي تُقبل شهادتها حين تُرفض شهادات الآخرين، قال تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (البقرة:143) وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَـالَ رَسُولُ اللَّهِ :" يَجِيءُ نُوحٌ وَأُمَّتُهُ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ فَيَقُولُ لأمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: لا، مَا جَـاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ ! فَيَقُولُ لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَنَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ.. الآية " وفي رواية ابن ماجه " فَتُدْعَى أُمَّةُ مُحَمَّدٍ فَيُقَالُ: هَلْ بَلَّغَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: وَمَا عِلْمُكُمْ بِذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا بِذَلِكَ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا فَصَدَّقْنَاهُ " ( ).
هذا، والله تعالى الموفق والهادي إلى سواء السبيل.