×
خطب التوحيد المنبرية: فإن كتاب التوحيد للإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - من أعظم وأنفس وأجمع الكتب التي ألفت في التوحيد، وقد أشاد به العلماء وتتابع ثناؤهم عليه. وعلى شهرة الكتاب ونفعه العميم، وكثرة شروح العلماء عليه، ومسارعة الطلاب إلى حفظه؛ لم أجد من اعتنى به وأخرجه خُطبًا تُلقى على المنابر مع الحاجة الماسة لذلك. وحيث إن أعظم الاجتماعات التي يجتمع فيها المسلمون يوم الجمعة، ورغبة في نشر هذا العلم العظيم الذي حاد عنه الكثير؛ جمعت هذه الخطب ورتبتها على أبواب كتاب التوحيد.

خطب التوحيد المنبرية [شاملة لجميع أبواب كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد]

للشيخ محمد بن عبد الوهاب

رحمه الله

إعداد

عبد الملك القاسم


المقدمة

الحمد لله رب العالم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ وبعد:

فإن كتاب التوحيد للإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - من أعظم وأنفس وأجمع الكتب التي ألفت في التوحيد، وقد أشاد به العلماء وتتابع ثناؤهم عليه.

قال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ - رحمه الله-: هو كتاب فرد في معناه، لم يسبقه إليه سابق، ولا لحقه فيه لاحق.

وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم - رحمه الله-: ليس له نظير في الوجود.

وعلى شهرة الكتاب ونفعه العميم، وكثرة شروح العلماء عليه، ومسارعة الطلاب إلى حفظه؛ لم أجد من اعتنى به وأخرجه خُطبًا تُلقى على المنابر مع الحاجة الماسة لذلك.

وحيث إن أعظم الاجتماعات التي يجتمع فيها المسلمون يوم الجمعة، ورغبة في نشر هذا العلم العظيم الذي حاد عنه الكثير؛ جمعت هذه الخطب ورتبتها على أبواب كتاب التوحيد.

واستفدت من شروح العلماء عليه، وفي مقدمتها: (حاشية كتاب التوحيد) للشيخ عبد الرحمن بن قاسم - رحمه الله-، وكتاب (القول المفيد على كتاب التوحيد) للشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - وغيرهما من شروحات وكتابات أهل العلم؛ واستفدت كذلك من المنهـج الدراسـي المقـرر على


المرحلة المتوسطة، مستشعرًا أهمية التوحيد في حياة الفرد والأمة مع ما غلب الناس من جهل بالتوحيد وزهد فيه.

قال الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - في فتاواه: لا يُزهد في التوحيد، فإن الزهد فيه يوقع في ضده، وما هلك من هلك ممن يدعي الإسلام إلا بعدم إعطائه حقه، وظنوا أنه يكفي الاسم والشهادتان لفظًا، ولم ينظروا ما ينافيه، وما ينفي كماله؛ هل هو موجود أو مفقود؟!

وقال - رحمه الله-: ما دخلت الخرافات إلا بالتسامح في معرفة التوحيد، وبالغلو في الصالحين، وأنه يكفي التسمي باسم الإسلام، فبذلك وقع الشرك.

وحيث إن أبواب (كتاب التوحيد) تبلغ (سبعة وستين) بابًا ولطول بعض هذه الأبواب جعلتها في خطبتين، فجاء الكتاب في (اثنتين وسبعين) خطبة متكاملة، شاملة لجميع أبواب كتاب التوحيد، ولله الحمد.

أسأل الله العلي العظيم أن يجعل أعمالنا صوابًا خالصة لوجهه الكريم، وأن يجمعنا ووالدينا وذرياتنا والمسلمين في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

عبد الملك بن محمد بن عبد الرحمن القاسم


الخطبة الأولى([1])

الحمد لله أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينًا، أحمده - سبحانه - وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.

صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد...

فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أقدامكم على النار لا تقوى.

أيها المسلمون:

قريش أناس يتعبدون، ويحجون، ويعتمرون، ويتصدقون، ويصلون الرحم، ويكرمون الضيف، ويذكرون الله كثيرًا، ويعترفون أن الله وحده هو المتفرد بالخلق والتدبير، ويخلصون لله العبادة في الشدائد، لكنهم يتخذون وسائط بينهم وبين الله؛ يدعونهم، ويذبحون لهم، وينذرون لهم، ويستغيثون بهم؛ ليشفعوا لهم ويسألون الله لهم، زعمًا أنهم أقرب منهم إلى الله وسيلة.

فبعث الله محمدًا ﷺ‬ يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم - u - ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله، وأن فعلهم هذا أفسد جميع ما هم عليه من العبادة، وصاروا بذلك كفارًا مرتدين حـلال الـدم


والمال، وقاتلهم رسول الله ﷺ‬ ليكون الدعاء كله لله، والذبح كله لله، والنذر كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع أنواع العبادة كلها لله.

أيها المسلمون:

قسم العلماء - رحمهم الله - التوحيد إلى ثلاثة أقسام:

الأول : توحيد الربوبية: وهو العلم والإقرار بأن الله هو الخالق الرازق المدبر لهذا الكون

قال - عز وجل-: ﴿اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الرعد: 16]، وقال - سبحانه-: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا﴾ [هود: 6]. وقال - تعالى-: ﴿ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ﴾ [يونس: 31] وقد نفى - سبحانه - أن يكون له شريك في الخلق والرزق، قال - تعالى-: ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ﴾ [لقمان: 11] وقال - تعالى-: ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ﴾ [الملك: 21].

وقد فطر الله جميع الخلق على الإقرار بربوبيته؛ حتى إن المشركين الذين جعلوا له شريكًا في العبادة يُقرون بتفرده بالربوبية، قال - تعالى-: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾ [الزخرف: 9].

الثاني من أقسام التوحيد: توحيد الأسماء والصفات: وهو أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله ﷺ‬ من صفات الكمال ونعوت الجلال، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل.

قال - عز وجل-: ﴿ وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 180].

وقال - تعالى-: ﴿اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى﴾ [طه: 8] وكل اسم من أسماء الله فإنه يتضمن صفة من صفاته، فالعليم يدل على العلم، والحكيم يدل على الحكمة، والسميع البصير يدلان على السمع والبصر، وهكذا كل


اسم يدل على صفة من صفات الله - تعالى-.

وقد أخبر - سبحانه - أن له وجهًا، فقال - تعالى-: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: 27]، وأن له يدين، قال - تعالى-: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: 64].

وأهل السنة والجماعة من السلف الصالح وأتباعهم يثبتون أسماء الله وصفاته كما وردت في الكتاب والسنة على ظاهرها، وما تدل عليه ألفاظها من المعاني، ولا يؤولونها عن ظاهرها، ولا يحرفون ألفاظها ودلالتها عن مواضعه، وينفون عنها مشابهة صفات المخلوقين، كما قال - تعالى-: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].

عباد الله:

الثالث من أقسام التوحيد: توحيد الإلهية: وهو إفراد الله بالعبادة؛ ويتعلق بأعمال العبد وأقواله الظاهرة والباطنة، كالدعاء، والنذر، والنحر، والرجاء، والخوف، والتوكل، والرغبة، والرهبة والإنابة، وهذا النوع من التوحيد هو أول دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم، قال - تعالى-: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36] وكل رسول يبدأ بالأمر بإفراد الله في ألوهيته، كما قال نوح وهود وصالح وشعيب - عليهم السلام-: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 59] ﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ﴾ [العنكبوت: 16] وأنزل على نبينا محمد ﷺ‬: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ﴾ [الزمر: 11].

وهذا النوع من التوحيد هو موضوع دعوة الرسل، لأنه الأساس الذي تُبنى عليه جميع الأعمال، وبدون تحققه لا تصح جميع الأعمال؛ فإنه إذا لم يتحقق حصل ضده وهو الشرك، وقد قال الله - عز وجل-: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ


يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾ [النساء: 48] وقال - تعالى-: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر: 65].

وأقسام التوحيد الثلاثة متلازمة، كل نوع منها لا ينفك عن الآخر، فمتى أتى المرء بنوع ولم يأت بالآخر لم يكن موحدًا.

أيها المسلمون:

خلق الله - عز وجل - الثقلين الجن والإنس لحكمة عظيمة، وهي عبادته وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه، قال - تعالى-: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56] أي: يوحدون، وفي الآية بيان عظم شأن التوحيد، إذ كان الخلق كلهم لم يخلفوا إلا له.

وقال - تعالى-: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى﴾ [القيامة: 36] لا يؤمر ولا ينهى؛ وقال في الآية الأخرى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: 21] أي: وحدوه فقد أمرهم بما خلقوا له وأرسل الرسل بذلك.

وقد أخبر أنه - سبحانه - غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحولهم، قال - تعالى-: ﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ﴾ [الذاريات: 57].

وأمر الله الناس بعبادته وحده لا شريك له وترك ما سواه، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36].

قال ابن القيم: الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع.

فالمعبود كالأصنام، والمتبوع كالكهان والسحرة، والمطاع كالأمراء إذا أمروا بمعصية الله، وأخبر - تعالى - أنه بعث في كل طائفة وقرن وجيل من الـناس رسولاً منذ حدث الشرك في قوم نوح، إلى أن ختمهم بمحمد ﷺ‬،


يأمرهم: ﴿أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾ أي: وحدوا الله بالعبادة واتركوا وفارقوا عبادة ما سواه، ولهذا خُلقت الخليقة وأرسلت الرسل وأنزلت الكتب، وفي قوله - تعالى-: ﴿اعْبُدُواْ اللّهَ﴾ الإِثبات، وقوله ﴿وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾ النفي، وهذه طريقة القرآن يقرن النفي بالإِثبات، فينفي ما سوى الله، ويثبت عبادة الله وحده، والنفي المحض ليس بتوحيد وكذلك الإثبات بدون النفي، فلا يكون التوحيد إلا متضمنًا للنفي والإثبات، وهذا هو حقيقة التوحيد.

وفي الآية - عباد الله - بيان عظم شأن التوحيد، وإقامة الحجة على العباد، فمن عبد الله ولم يكفر بالطاغوت فليس بموحد، وما أكثر الجهل بذلك في هذا الزمان، فمن يعبد الله وهو لا يعتقد بطلان عبادة القبور فهو غير موحد.

وقال - عز وجل - في الآية الأخرى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23] الآية.

أي: أمر ووصى وأوجب على ألسن رسله أن يُعبد وحده دون ما سواه، والمراد بالقضاء هنا القضاء الشرعي الديني، واشتملت هذه الآيات على جُملة الشرائع، وابتُدِئت بالتوحيد؛ فدل على أنه أوجب الواجبات، إذ لا يبتدأ إلا بالأهم فالمهم، وختمت الآيات بالنهي عن الشرك، فدل على أنه أعظم المحرمات، وثنت بالإِحسان إلى الوالدين، فقد قرن الله - سبحانه - الإحسان إليهما بعبادته - جل وعلا-، للتنبيه على فضلهما وتأكيد حقهما، وأنه أوجب الحقوق بعد حق الله - تعالى - فالبر بهما من أسباب دخول الجنة، ولم يخص - سبحانه - نوعًا من أنواع الإِحسان إليهما ليعم جميع أنواعه؛ من لين الكلام والدعاء لهما وغير ذلك.


وقال - تعالى - في سورة النساء: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء: 36].

أمرٌ من الله - سبحانه - لعباده بعبادته وحده لا شريك له، فإنه الخالق الرازق المنُعم المتفضل على خلقه، وهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئًا، وقرن الأمر بالعبادة التي فرضها بالنهي عن الشرك الذي حرمه، فدلت على أن اجتناب الشرك شرط في صحة العبادة، فأعمال العبد من صلاة وزكاة واستغفار وغير ذلك لا تقبل إلا إذا وحد الله - سبحانه وتعالى - وأفرده بالعبادة، وتُسمى هذه الآية: آية الحقوق العشرة، وذلك لأنها تضمنت عشرة حقوق، وابتدأت بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، فدلت على أن التوحيد هو أوجب الواجبات، وأن الشرك أعظم المحرمات، وفيها تفسير التوحيد، وأنه عبادة الله وحده وترك الشرك.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: 65].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون؛ واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد البشر، أما بعد:

أيها المسلمون:

قال ابن مسعود - t-: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد ﷺ‬ التي عليها خاتمه، فليقرأ قوله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾ [الأنعام: 151 – 154].

أمر الله نبيه محمدًا ﷺ‬ أن يقول لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله ﴿تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا﴾.

وقد ذكر - سبحانه - في هذه الآيات جملاً من المحرمات، ابتدأها بالنهي عن الشرك، فدل على أنه أعظم المحرمات؛ ومما يدل على عظم شأن هذه الآيات: أن ابن مسعود - t - يرى أنها اشتملت على الدين كله، فكأنها الوصية التي ختم عليها رسول الله ﷺ‬ وأبقاها لأمته.

وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل - t - قال: كنت رديف النبي ﷺ‬ على حمار، فقال ليَّ: «يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق


العباد على الله؟» قلت: الله ورسوله أعلم.

قال ﷺ‬: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا» قلت: يا رسول الله أَفلا أُبشر الناس؟ قال: «لا تبشرهم فيتكلوا».

أيها الناس:

حق العباد على الله؛ أن يوحدوه بالعبادة ويفردوه، ويتجردوا من الشرك صغيره وكبيره، ومن لم يتجرد من الشرك لم يكن آتيًا بعبادة الله وحده، بل هو مُشرك قد جعل لله ندًا في عبادته.

وفضل الله على أهل التوحيد عظيم وعطاؤه جزيل، فقد أراد معاذ - t - أن يُبشر الناس بفضل التوحيد، وفضل من تمسك به عند الله، فنهاه ﷺ‬ عن إخبارهم مخافة أن يعتمدوا على هذه البشارة، فيتركوا التنافس في الأعمال الصالحة اعتمادًا على ما يتبادر من ظاهر الحديث.

وأفاد الحديث: استحباب بشارة المسلم بما يسره من أمر الدين والدنيا وجواز كتمان العلم للمصلحة.

فاتقوا الله عباد الله؛ وراقبوه وأخلصوا العبادة له وحده دون ما سواه تفلحوا.

هذا وصلّوا - رحمكم الله - على من بعثه الله هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، فقد أمركم الله بذلك، فقال عز من قائل: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد ﷺ‬ وعلى آله وصحبه أجمعين، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين الأئمة المهديين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين.


اللهم أعز الإِسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم وفق إمامنا لما تحب وترضى وخذ بناصيته للبر والتقوى، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.

عباد الله:

إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإتياء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.


الخطبة الأولى([2])

الحمد لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون، وبعدله ضل الضالون، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، أحمده - سبحانه - على هدايته وتوفيقه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا رب لنا سواه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله - حق التقوى، فالتقوى جماع الخيرات وبها تحصل البركات.

أيها المسلمون:

التوحيد أوجب الواجبات وأعظم العبادات، رتب الله لمن حققه الثواب العظيم والأجر الجزيل في الدنيا والآخرة.

قال شيخ الإسلام: ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة الرسول والدعوة إلى غير الله ومن تدبر هذا حق التدبر وجد هذا الأمر كذلك في نفسه عمومًا وخصوصًا.

قال - سبحانه وتعالى - في سورة الأنعام: ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82]، أي أخلصوا العبادة لله وحده، ولم يخلطوا توحيدهم بشرك، ولَبْسُ الشيء بالشيء: تغطيته به وإحاطته به من جميع جهاته، ولا يغطي الإِيمان ويحيط به ويلبسه إلا الكفر.


ثم ذكر - عز وجل - ما أعد لعباده المخلصين من الجزاء: ﴿أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾، أي هم الآمنون في الدنيا والآخرة، المهتدون إلى الصراط المستقيم؛ ولما نزلت هذه الآية شق على أصحاب رسول الله ﷺ‬، ظنوا أن الظلم المشروط هو ظلم العبد نفسه، وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه، فقالوا: يا رسول الله وأيُّنا لم يظلم نفسه؟ قال: «ليس كما تقولون، لم يلبسوا إيمانهم بظلم بشرك، أو لم تسمعوا إلى قول لقمان»: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13] فبين ﷺ‬ أن من لم يلبس إيمانه بهذا الظلم كان من أهل الأمن والإهتداء، كما كان أيضًا من أهل الاصطفاء في قوله - تعالى-: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ [فاطر: 32].

والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، ومنه سمُي الشرك ظلمًا، والمشرك ظالمًا؛ لأنه وضع العبادة في غير موضعها، وصرفها لغير مستحقها. وهو على ثلاثة أنواع:

الأول منها: ظُلم العبد نفسه بالشرك، وهو أعظم أنواع الظلم، وسُميّ الشرك ظلمًا والمشرك ظالمًا؛ لأنه وضع العبادة في غير موضعها، أو صرفها لغير مستحقها، قال - تعالى-: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾.

الثاني: ظُلم العبد نفسه بالمعاصي كما في قوله - تعالى-: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [النساء: 110].

الثالث: ظُلم العبد في نفس أو مال أو عرض، فمن سلم من أنواع الظلم الثلاثة كان له الأمن التام والاهتداء التام في الدنيا والآخرة، ومن سلم من الظلم الأكبر ولم يسلم من النوعين الآخرين حصل له من نقص الأمن والاهتداء على قدر ظلمه لنفسه، وظلمه للعباد، ومن لم يسلم من الظلم


الأكبر لم يكن له أمن ولا اهتداء في الدنيا والآخرة.

وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم، عن عُبادة بن الصامت - t - قال: قال رسول الله ﷺ‬: «من شهد أَن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٍ منه، والجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل».

اشتمل هذا الحديث العظيم - عباد الله - على أربعة أمور مهمة:

الأمر الأول: شهادة أن لا إله إلا الله:

ومعنى لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا الله، ولا تنفع قائلها إلا إذا كان عارفًا معناها، عاملاً بمقتضاها، سالمًا مما ينافيها، أمَّا من تلفظ بها فقط ولم يعمل بما دلت عليه لم تنفعه.

والحاصل أن لا إله إلا الله لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفيًا وإثباتًا، واعتقد ذلك، وقَبِلْه وعمل به، وأما من قالها من غير علم بمعناها، ولا اعتقاد ولا عمل بمقتضاها من نفي الشرك وإخلاص القول والعمل لله وحده فغير نافع بالإِجماع، بل تكون حجة عليه، والمشركون الأولون جحدوها لفظًا ومعنى، فإنه ﷺ‬ لما قال لهم: «قولوا: لا إله إلا الله تُفلحوا»، قالوا: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص: 5] ومشركو زماننا قالوا بها لفظًا وجحدوها معنى، فتجد أحدهم يقولها ويأله غير الله بأنواع العبادة، بل يخلصون العبادة في الشدائد لغير الله، فهم أجهل من مشركي العرب، ومن زعم أن من أقر بأن الله وحده خالق كل شيء فهو الموحد، فليس الأمر كذلك حتى يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنه - سبحانه - وحده هو المستحق للعبادة، ويلتزم بها.

الأمر الثاني: شهادة أنَّ محمدًا عبده ورسوله:

الرسول ﷺ‬ موصوف في هذا الحديث بصفتين هما:


الأولى: أنه عبد لله ليس له شيء من خصائص الإلهية، وفي هذا رد على من غلا فيه، وتوجه إليه بالدعاء والاستغاثة، وغير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله وحده.

الثانية: أنه رسول من عند الله: أرسله الله إلى جميع الخلق، فالواجب علينا طاعته، وفي هذا رد على من ترك طاعته واتبع هواه.

ومعنى شهادة أن محمدًا رسول الله: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع.

الأمر الثالث: الوارد في حديث النبي ﷺ‬: «أنَّ عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه».

وصف ﷺ‬ عيسى - u - في هذا الحديث بأربعة أوصاف:

أنه عبد الله: وفي هذا رد على النصارى الذين زعموا أنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة؛ - تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا-.

وأنه رسوله: وفي هذا رد على اليهود الذين كذبوا برسالته، ووقعوا في عرضه.

وكلمته ألقاها إلى مريم: أي خلقه الله بكلمة (كُنْ) أرسل بها جبريل - u - إلى مريم، فنفخ فيها من روحه بإذن ربه.

«وروح منه»: فعيسى - u - روح من الأرواح التي خلقها الله كسائر الخلق، وإضافة الروح إلى الله - عز وجل - إضافة تشريف وتكريم.

الأمر الرابع: وأنَّ الجنة حق، والنار حق: الإيمان بالجنة والنار من جملة الإيمان باليوم الآخر، ولكن خصهما الرسول ﷺ‬ في هذه الشهادة بالذكر؛ لأنهما مستقر ونهاية الأبرار والفجار، فالجنة دار الأبرار، والنار دار الفجار.

وثمرة الشهادة بالأمور الأربعة السابقة التي اشتمل عليها الحديث: دخول الجنة على ما كان من العمل.


فالموحد في دخول الجنة على أحد أمرين:

إما أن يلقى الله سالمًا من جميع الذنوب فيدخل الجنة من أول وهلة.

أو أن يلقى الله وهو مصر على ذنب دون الشرك فهو تحت المشيئة، إن شاء - سبحانه - عفا عنه بفضله وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه بعدله ثم أدخله الجنة.

عباد الله:

للبخاري ومسلم من حديث عتبان: «فإنه حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله».

من تلفظ بكلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، ولم يعمل بها لم تنفعه، وقد حرم الله - عز وجل - على النار من أتى بها مخلصًا من قلبه ومات على ذلك، كما دل عليه حديث عتبان - t - الذي قيَّد حديث عبادة المطلق، بقوله: «يبتغي بذلك وجه الله».

قال شيخ الإسلام وغيره: قالها بصدق وإخلاص ويقين ومات على ذلك، فإن حقيقة التوحيد: انجذاب القلب إلى الله جملة؛ بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحًا فإذا مات على تلك الحال نال ذلك، فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال (لا إله إلا الله) وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، وما يزن خردلة، وما يزن ذرة؛ وتواترت الأحاديث بأن كثيرًا ممن يقولها يدخل النار ثم يخرج منها، وتواترت بأنه يحرم على النار من قال (لا إله إلا الله)، ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ [الروم: 30].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...


الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

عباد الله:

لا بد في شهادة (أن لا إله الله) من سبعة شروط؛ لا تنفع قائلها إلا باجتماعها.

أحدها: العلم؛ أي العلم بمعناها المراد منها وما تنفيه وما تثبته، وهو العلم المنافي للجهل بذلك.

الثاني: اليقين؛ بأن يكون قائلها مستيقنًا بما تدل عليه، فإن كان شاكًا بما تدل عليه لم تنفعه.

الثالث: القبول؛ لما اقتضته هذه الكلمة من عبادة الله وحده، وترك عبادة ما سواه.

الرابع: الانقياد؛ لما دلت عليه، قال - تعالى-: ﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ [لقمان: 22]. والعروة الوثقى: لا إله إلا الله، ومعنى يُسلم وجهه أي: ينقاد لله بالإخلاص له.

الخامس: الإخلاص؛ وهو تصفية العمل من جميع شوائب الشرك، بأن لا يقصد بقولها مطامع الدنيا ولا رياء ولا سمعة.

السادس: الصدق؛ وهو أن يقول هذه الكلمة مُصدقًا بها قلبه.

السابع: المحبة؛ لهذه الكلمة، ولما تدل عليه، ولأهلها العاملين بمقتضاها.


وركنا كلمة التوحيد: النفي والإثبات، نفي الإلهية عما سوى الله، وإثباتها لله وحده.

عباد الله:

هناك من الناس من يظن أن التشديد في أمر التوحيد يختص بفئة من العلماء قالت بذلك، وقد ورد عليهم الشيخ عبد الله أبابطين - رحمه الله - بقوله: قولكم: إن الشيخ تقي الدين ابن تيمية شدَّد في أمر الشرك تشديدًا لا مزيد عليه، فالله - سبحانه - هو الذي شدَّد في ذلك، لقوله - سبحانه-: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: 48] في موضعين من كتابه، وقال على لسان المسيح لبني إسرائيل: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ﴾ [المائدة: 72].

وقال الله - تعالى - لنبيه ﷺ‬: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: 65] وقال - تعالى-: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 88]، وقال - سبحانه-: ﴿فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ [التوبة: 5].

وفي السُنَّة الثابتة عن النبي ﷺ‬ من التحذير عن الشرك والتشديد فيه ما لا يُحصى، وغالب الأحاديث التي يذكر فيها ﷺ‬ الكبائر يبدأها بالشرك، ولما سُئل ﷺ‬: أي الذنوب أعظم عند الله؟ قال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك».

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([3])

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعملنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70 ، 71].

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله - واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله.

عباد الله:

في الحديث الذي رواه ابن حبان، والحاكم وصححه، عن أبي سعيد الخدري - t-، عن النبي ﷺ‬، قال: «قال موسى - u-: يا رب علمني شيئًا أذكرك وأدعوك به، قال: قل يا موسى لا إله إلا الله، قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا، قال: يا موسى لو أَن السموات السبع


وعامرهن غيري، والأَرضين السبع في كفه، ولا إله إلا الله في كفه، مالت بهن لا إله إلا الله».

طلب موسى - u - من ربه أن يُعلمه ذكرًا يُثني عليه، ويتوسل إليه به؛ فأرشده به إلى قول (لا إله إلا الله) إذ هي أفضل الأذكار وأعظمها معنى، ولأجلها خلق الخلق، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، فهي ذكر ودعاء.

وهي الكلمة التي ورثها إمام الحنفاء لأتباعه إلى يوم القيامة، وهي الكلمة التي قامت بها الأرض والسموات، وفطر الله عليها جميع المخلوقات، وعليها أسست الملة، ونصبت القبلة، وجردت سيوف الجهاد، وهي محض حق الله على العباد، وهي الكلمة العاصمة للدم والمال والذرية في هذه الدار، والمنجية من عذاب القبر وعذاب النار، وهي المنشور الذي لا يدخل أحد الجنة إلا به، والحبل الذي لا يصل إلى الله إلا من تعلق بسببه، وبها انقسم الناس إلى شقي وسعيد، ومقبول وطريد، وبها انفصلت دار الكفر عن دار الإسلام، وتميزت دار النعيم من دار الشقاء والهوان، وهي العمود الحامل للفرض والسنة، و: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة».

عباد الله:

كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) عظيمة المعنى ثقيلة الوزن، ولكنه يختلف وزنها بحسب من صدرت عنه.

فالمنافق يتلفظ بها، ولكنها لا تزن عند الله شيئًا لأنه كاذبٌّ في قولها.

والمؤمن يتلفظ بها؛ ولها وزن عظيم عند الله لصدقه مع الله فيها؛ فلو وضعت السموات السبع ومن فيهن من العمار غير الله، والأرضين السبع وما فيها في كفه الميزان؛ (ولا إله إلا الله) في الكفة الأخـرى لرجـحت بهن


هذه الكلمة.

وذلك لما اشتملت عليه من نفي الشرك وتوحيد الله الذي هو أفضل الأعمال وأساس الملة والدين، ولما يجتمع لقائلها من الذكر والدعاء، وما يحصل له من تكفير الذنوب والخطايا؛ فمن قالها بإخلاص ويقين، وعمل بمقتضاها ولوازمها وحقوقها واستقام على ذلك دخل الجنة، فإن هذه الحسنة لا يوازنها شيء.

عباد الله:

إن روح هذه الكلمة وسرَّها: إفراد الرب جل ثناؤه بالمحبة والتعظيم والخوف والرجاء وتوابع ذلك من التوكل والإنابة والرغبة والرهبة؛ فلا يُحب سواه المحبة المقتضية للذل والخضوع؛ بل كل ما كان يُحب فإنما هو تبع لمحبته ووسيلة إلى محبته؛ ولا يخاف سواه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يرغب إلا إليه، ولا يرهب إلا منه، ولا يحلف إلا باسمه، ولا ينذر إلا له، ولا يتاب إلا إليه، ولا يطاع إلا أمره، ولا يحتسب إلا به، ولا يستعان في الشدائد إلا به، ولا يلتجأ إلا إليه، ولا يركع إلا له، ولا ينحني إلا له، ولا يذبح إلا له وباسمه، ويجتمع ذلك في عبارة واحدة وهي: أن لا يُعبد بجميع أنواع العبادة إلا هو سبحانه.

واعلموا - عباد الله - أن (لا إله إلا الله)، لا تنفع قائلها إلا بعد معرفة معناها، والعمل بمقتضاها، والسلامة مما يناقضها.

قيل للحسن البصري - رحمه الله - أن أناسًا يقولون: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة؟! فقال: من قالها وأدى حقها وفرضها دخل الجنة.

وقال وهب بن منبه - رحمه الله - لمن قال له: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلى؛ ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، فـإن جئت بمفـتاح له


أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك.

أيها المسلمون:

أخرج الإمام أحمد، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله ﷺ‬: «أن نوحًا - u - قال لابنه عند موته: آمرك بلا إله إلا الله، فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة لفصمتهن لا إله إلا الله» وهي أفضل الذكر، ففي الحديث الصحيح: «أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» وللنسائي وابن ماجه وغيرهما: «أفضل الذكر لا إله إلا الله» وللترمذي وغيره: «دعوة أخي ذي النون: لا إله إلا أنت» وللترمذي أيضًا وحسنه وصححه الذهبي: «يصاح برجل من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل منها مد البصر، ثم يقال أتنكر من هذا شيئًا؟ فيقول: لا يا رب، فيقال ألك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا يا رب، فيقال: بلى إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظُلم عليك، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تُظلم؛ فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة».

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: ليس كل من تكلم بالشهادتين كان بهذه المثابة، لأن هذا العبد صاحب البطاقة كان في قلبه من التوحيد واليقين والإخلاص ما أوجب أن عظم قدره حتى صار راجحًا على هذه السيئات.

وقال ابن القيم - رحمه الله-: الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما


تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض، قال: وتأمل حديث البطاقة، ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة والكثير منهم يدخل النار بذنوبه، بل اليهود أكثر من يقولوها، والذي يقولها ويخالفها أعظم كفرًا ممن يجحدها أصلاً، فإن الكافر الأصلي أهون كفرًا من المرتد.

وللترمذي وحسنه، عن أنس - t - قال: سمعت رسول الله ﷺ‬ يقول: «قال الله - تعالى-: يا ابن آدم؛ إنك لو أَتيتني بقراب الأَرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأَتيتك بقرابها مغفرة».

أي: ثم مت حال كونك لا تشرك بي شيئًا، وهذا شرط ثقيل في الوعد بحصول المغفرة، وهو السلامة من الشرك قليله وكثيره، صغيره وكبيره، ولا يسلم من ذلك إلا من أتى الله بقلب سليم.

«وقراب الأرض» أي: ملء الأرض، فمن جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة، فإن أكمل العبد توحيده وأخلصه لله وقام بشروطه أوجب ذلك مغفرة ما قد سلف من الذنوب، ومنعه من دخول النار، فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب ولو كانت قراب الأرض، وفيه سعة كرم الله وجوده وكثرة ثواب التوحيد وتكفيره الذنوب.

عباد الله:

ما لم يتحقق التوحيد وإخلاص العبادة وتمام الخضوع والانقياد والتسليم، فلا تقبل صلاة ولا زكاةٌ، ولا يصحُّ صومٌ ولا حجٌّ، ولا يزكو أيُّ عمل يُتقرب به إلى الله، قال - سبحانه-: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 88]، وقال تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا﴾.


[الفرقان: 23].

وإذا لم يتحقق التوحيد ويصدق الإِخلاص فلا تنفع شفاعة الشافعين، ولا دعاء الصالحين، حتى ولو كان الداعي سيد الأنبياء محمدًا ﷺ‬، اقرءوا إن شئتم: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ﴾ [التوبة: 80].

فاتقوا الله - عباد الله-، وحققوا إيمانكم، وأخلصوا أعمالكم، يهدكم ربكم، ويصلح بالكم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

﴿قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ * قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾ [الأنعام: 14 – 16].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه....


الخطبة الثانية

الحمد لله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، أحمده - سبحانه - وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، حَمى حِمى التوحيد، وسدَّ كل طريق يوصل إلى الشرك، فأظهر الله به دينه على الدين كله ولو كره المشركون.

صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

إن إسلام الوجه لله وإفراده بالعبادة يرتقي بالمؤمن في خُلقه وتفكيره، ينقذه من زيغ القلوب، وانحراف الأهواء، وظلمات الجهل، وأوهام الخرافة، ينقذه من المحتالين والدجالين، وأحبار السوء ورهبانه ممن يشترون بآيات الله ثمنًا قليلاً، التوحيد يحفظ الإنسان من الانفعالات بلا قيد أو ضابط.

عباد الله:

توحيد الله هو العبودية التامة له وحده - سبحانه - تحقيقًا لكلمة الحق: لا إله إلا الله محمد رسول الله ﷺ‬: في لفظها، ومعناها، والعمل بمقتضاها، يقيم المسلم عليه حياته كلها، صلاته، ونسكه، ومحياه، ومماته.


توحيد في الاعتقاد، توحيد في العبادة، وتوحيد في التشريع، توحيد تُنقى به القلوب والضمائر من الاعتقاد في ألوهية أحد غير الله، وتنقى به الجوارح والشعائر من أن تصرف لأحد غير الله، وتنقى به الأحكام الشرائع من أن تتلقاها من أحد دون الله - عز وجل-.

والتوحيد هو أول الدين وآخره، وظاهره وباطنه وقطب رحاه، وذروة سنامه، قامت عليه الأدلة، ونادت عليه الشواهد، وأوضحته الآيات، وأثبتته البراهين، نصبت عليه القبلة، وأسست عليه الملة، ووجبت به الذمة، وعصمت به الأنفس، وانفصلت به دار الكفر عن دار الإسلام، وانقسم به الناس إلى سعيد وشقي، ومهتد وغوي.

فحققوا التوحيد - عباد الله - وأخلصوا له العبادة تفلحوا.

ثم صلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين...


الخطبة الأولى([4])

الحمد لله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين، أحمده - سبحانه وأشكره، وأتوب إليه واستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله - فإن من اتقاه؛ كفاه ووقاه، وحفظه ونجَّاه.

أيها المسلمون:

دل الكتاب والسنة على أن من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، فإنه لا يحصل كمال فضله إلا بكمال تحقيقه؛ وتحقيق التوحيد قدر زائد على ماهية التوحيد، وتحقيقه على نوعين، واجب ومندوب:

فالواجب تخليصه وتصفيته عن شوائب الشرك والبدع والمعاصي وهذا مقام أصحاب اليمين؛ وهم الذين فعلوا الواجبات وتركوا المحرمات، فالشرك الأكبر ينافيه بالكلية، والشرك الأصغر ينافي كماله الواجب، والبدع تقدح في التوحيد، والمعاصي تنقص ثوابه، فلا يكون العبد محققًا للتوحيد حتى يسلم من الشرك بنوعيه، ويسلم من البدع والمعاصي.

والمندوب: تحقيق المقربين، فأضافوا إلى ما تقدم فعل المستحبات وترك المكروهات، وبعض المباحات؛ وهذا مقام السابقين المقربين، وحقيقته هو انجذاب الروح إلى الله، فلا يكون في قلبه شيء لغيره، فإذا حـصل تحقيقه بما


ذكر، فقد حصل الأمن التام، والاهتداء التام.

عباد الله:

ذكر الله - عز وجل - إبراهيم u بصفات عالية هي الغاية في تحقيق التوحيد، فقال - عز وجل-: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: 120].

وصف الله خليله إبراهيم u بهذه الصفات التي هي الغاية في تحقيق التوحيد، وأثنى عليه بها؛ فقال: ﴿كَانَ أُمَّةً﴾ أي: إمامًا على الحنيفية، قدوة يقتدى به، معلمًا للخير؛ أو لما اجتمع فيه من صفات الكمال والخير والأخلاق الحميدة ما يجتمع في أمة استحق اسمها، فإنه أمة على الحق وحده، وإمام لجميع الحنفاء، يقتدون به في ذلك، ﴿قَانِتًا﴾ أي: خاشعًا مطيعًا، والقنوت دوام الطاعة، ﴿حَنِيفًا﴾ أي: منحرفًا عن الشرك إلى التوحيد، مقبلاً على الله، معرضًا عن كل ما سواه، ﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ فارقهم بالقلب واللسان والبدن، وأنكر ما كانوا عليه من الشرك، وما ذاك إلا من أجل تحقيقه التوحيد، بل ضم إلى ذلك البراءة من المشركين، وعاب ما كانوا عليه وكفَّرهم، كما قال الله عنه ﴿إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ﴾ [الزخرف: 26] فتبرأ من العابد قبل المعبود، وضم إلى ذلك أن اعتزلهم، فلم يكن منهم بأي اعتبار كان، قال - تعالى-: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا﴾ [مريم: 48] فهذا هو تحقيق التوحيد، وقد وصف الله عز وجل خليله بهذه الصفات التي هي الغاية في تحقيق التوحيد، وقد أمرنا بالتأسي والاقتداء به؛ فقال - تعالى-: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ [الممتحنة: 4].


عباد الله:

وصف - جل وعلا - المؤمنين السابقين إلى الجنة فأثنى عليهم بصفات حميدة، ومناقب عزيزة؛ فقال - تعالى - عنهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ﴾ [المؤمنون: 57] خائفون وجلون ﴿وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ [المؤمنون: 58] أي يؤمنون بآياته الكونية والشرعية، ثم طبع على أعملهم الصالحة بطابع الإِخلاص، وهو السلامة من الشرك قليله وكثيره، صغيره وكبيره، فقال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ﴾ لا يعبدون معه غيره، بل يوحدونه، ويعلمون أنه لا إله إلا هو الأحد الصمد، ومن كان كذلك فقد بلغ النهاية من تحقيق التوحيد الموجب لدخول الجنة بغير حساب، ومن لا فلا؛ وذلك لأن الأعمال من حيث هي لا تصح مع الشرك الأكبر، فإن سلم من الأكبر فإن الأعمال لا تزكو ولا تنمو إلا بالسلام من الشرك الأصغر.

عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أَيكم رأَى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: أما إِني لم أَكن في صلاة ولكني لُدغت، قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت، قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي قال: وما حدثكم؟

قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة، قال: قد أَحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي ﷺ‬، قال: «عُرضت عليَّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل له: هذا موسى وقومه، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك


ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب» ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله ﷺ‬، وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإِسلام فلم يشركوا بالله شيئًا وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله ﷺ‬ فأخبروه فقال: «هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون»، فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: «أنت منهم» ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: «سبقك بها عكاشة».

ودخول هؤلاء الجنة بدون حساب لتحقيقهم التوحيد فهم: «لا يسترقون» أي: لا يطلبون من يرقيهم لقوة توكلهم على الله، ولعزة نفوسهم عن التذلل لغير الله، جعلنا الله وإياكم منهم بمنه وكرمه.

وفي رواية لمسلم: «ولا يرقون» قال شيخ الإِسلام: هذه الزيادة وهم من الراوي، لم يقل النبي ﷺ‬: «ولا يرقون» وقد سُئل ﷺ‬ عن الرُقى فقال: «من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل» وقال: «لا بأس بالرقى إذا لم تكن شركًا» وقد رقى جبريل النبي ﷺ‬، ورقى النبي ﷺ‬ أصحابه، والفرق بين الراقي والمُسترقي: أن المسترقي سائل مستعط ملتفت إلى غير الله بقلبه، والراقي مُحسن، وإنما المراد وصف السبعين ألفًا بتمام التوكل، فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم.

وقوله: «ولا يكتوون» أي: لا يسألون غيرهم أن يكويهم، كما لا يسألون غيرهم أن يرقيهم، وهي أعم من أن يسألوا ذلك أو يُفعل بهم باختيارهم، والكي في نفسه جائز، كما في الصحيح عن جابر أن النبي ﷺ‬ بعث إلى أبي بن كعب طبيبًا فقطع له عرقًا وكواه، وكوى أنس من ذات الجنب، والنبي


ﷺ‬ حي [رواه البخاري].

والاسترقاء والاكتواء جائزان، ولكن تركهما أفضل وأكمل في تحقيق التوحيد.

ثم قال ﷺ‬: «ولا يتطيرون»: أي: لا يتشاءمون بالطيور ولا بالشهور ونحوها، قال ﷺ‬: «الطيرة شرك» [رواه أبو داود].

«وعلى ربهم يتوكلون» أي: يعتمدون على الله وحده لا شريك له في جلب المنافع ودفع المضار مع فعل الأسباب المشروعة.

والحديث - عباد الله - لا يدل على أن المحقيقين للتوحيد لا يباشرون الأسباب، وإنما المقصود أنهم يتركون الأمور المكروهة، كالاكتواء، والاستقراء، مع حاجتهم إليها لكمال توكلهم على الله - عز وجل-.

أما مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهة فيها؛ كأن يرقي الإنسان نفسه، أو يستشفي بالعسل أو الحبة السوداء، أو نحو ذلك، فليس تركه مشروعًا لقوله ﷺ‬: «تداووا فإن الله - تعالى - لم يُنزل داءً إلا أنزل له شفاء، عَلِمه من عَلِمه، وجَهله من جَهله» [رواه أحمد].

وفي الصحيح، عن ابن عباس مرفوعًا: «الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنهي أمتي عن الكي» وفي لفظ: «وما أحب أن أكتوي».

قال ابن القيم: قد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنوع: أحدها: فعله. والثاني: عدم محبته، والثالث: الثناء على من تركه، والرابع: النهي عنه، ولا تعارض بينها فإن فعله له يدل على جوازه، وعدم محبته لا يدل على المنع منه، وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل وأكمل، أي: في تحقيق التوحيد، فكأن النبي ﷺ‬ قال: هم الذين أخلصوا أعمالهم


وتركوا ما لا بأس به، حذرًا مما به البأس، وأما النهي عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهة، فمن تركهما توكلاً لا تجلدًا ولا تصبرًا فهو من كمال تحقيق التوحيد، ومن تركهما تجلدًا وتصبرًا لم يكن تركه من التوحيد في شيء فضلاً عن أن يكون من تحقيقه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: 2].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله، عَظُم شأنه، ودام سلطانه، أحمده - سبحانه - وأشكره، عن امتنانه، وجزل إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، به علا منار الإِسلام، وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين؛ ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الناس: أوصيكم - ونفسي - بتقوى الله - عز وجل-، فإن تقوى الله خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلف: ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128].

أيها المسلمون:

هؤلاء الموحدون تركوا الشرك رأسًا، ولم ينزلوا حوائجهم بأحد فيسألونه الرقية فما فوقها، وتركوا الكي وإن كان يراد للشفاء؛ والحامل لهم على ذلك قوة توكلهم على الله، وتفويض أمورهم إليه، وثقتهم به، ورضاهم عنه، وصدق الالتجاء إليه، وإنزال حوائجهم به - سبحانه وتعالى - والاعتماد بالقلب الذي هو نهاية تحقيق التوحيد، وهو الأصل الجامع، الذي تفرعت عنه تلك الأفعال والخصال، والحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلاً، فإن مباشرة الأسباب في الجملة أمر فطري ضروري، بل نفس التوكل مباشرة لأعظم الأسباب، وإنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها توكلاً على الله كالإِكتواء


والاِسترقاء، وأما مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهة فيه فغير قادح في التوكل، فلا يكون تركه مشروعًا لما في الصحيحين: «ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء، عَلِمه من عَلِمه، وجَهلِه من جَهلِه» وأخرج أحمد: «يا عباد الله: تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد» قالوا: ما هو؟ قال: «الهرم».

قال ابن القيم - رحمه الله-: وقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، والأمر بالتداوي، وأنه لا يُنافي التوكل، كما لا ينافيه دفع ألم الجوع والعطش، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب، وتعطيلها يقدح في التوكل، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً، ولا توكله عجزًا.

جعلنا الله وإياكم من المتوكلين على الله حق التوكل، ورزقنا الجنة بلا حساب ولا عذاب.

هذا وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([5])

الحمد لله أهل الحمد والشكر، والإِحسان والبر، أحمده - سبحانه - وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، نعمه تجل عن الحصر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، أكرم رسول نزل عليه أشرف ذكر، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين؛ ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الحشر.

أما بعد:

فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله - عز وجل-، فتقوى الله أكرم ما أسررتم، وأجمل ما أظهرتم، وأفضل ما ادخرتم، أعاننا الله على لزومها، وأوجب لنا ثوابها.

عباد الله:

لأجل توحيد الله - عز وجل - وإفراده بالعبادة؛ خُلقت الخليقة، ولتحقيقه شُرعت كل عبادة، فالتوحيد هو الغاية العظمى، والهدف الأسمى، والمقصد الأسنى؛ قال - تعالى-: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].

ولما ذكرنا التوحيد وفضله وتحقيقه في الخطبة السابقة؛ ناسب أن نذكر في هذه الخطبة الخوف من ضده وهو الشرك، ليحذره المؤمن ويخافه على نفسه.

فقد كان الأنبياء يخافون على أنفسهم الوقوع فيه، وقد حذر الله الأنبيـاء


-مع منزلتهم العالية - من الوقوع في الشرك - وحاشاهم ذلك - قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الزمر: 65] وعلى ذلك سار السلف الصالح من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

قال حذيفة - t-: كان الناس يسألون رسول الله ﷺ‬ عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه، وفي الحديث: «من أمن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه».

وفي الحديث الذي رواه مسلم أنه ﷺ‬ كان يكثر من قول: «يا مُقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» قيل له: يا رسول الله وإن القلوب لتتقلب؟ قال: «إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، يُقلبها كيف يشاء» فإن شاء - سبحانه - أقامها على دينه، وإن شاء أزاغها، فالعبد إذا من الله عليه بالتوحيد علمًا وعملاً؛ فعليه الخوف من زوال هذه النعمة العظيمة.

وحقيقة الخوف من الشرك؛ صدق الالتجاء إلى الله والاعتماد عليه والابتهال والتضرع إليه، والبحث والتفتيش عن الشرك ووسائله وذرائعه؛ ليسلم من الوقوع فيه، فإن عقابه عظيم وجرمه كبير.

قال الله - تعالى-: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: 48].

أي: لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به، أي عادل غيره به فيما يختص به - سبحانه - وصارف خالص حقه لغيره، ومشبه المخلوق العاجز بمن له الكمال المطلق من جميع الوجوه، وإذا كان من مات على الشرك لا يُغفر له، وجب على العبد شدة الخوف من الشرك الذي هذا شأنه عند الله، ومع كونه أعظم الذنوب عند الله -سبحانه-، ولا يغفر لمن لقيه فهو هضم للربوبية، وتنقص للألوهية، وسوء ظن برب العالمين.


ثم قال - سبحانه وتعالى-: ﴿ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾.

أي: يغفر ما دون الشرك من الذنوب لمن يشاء من عباده، وفي الصحيح أنه ﷺ‬ أعطى ثلاثًا منها: «وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئًا المقحمات» [رواه مسلم] يعني الكبائر، ففيه فضل السلامة من الشرك قليله وكثيره، صغيره وكبيره، فتبين بهذه الآية ونحوها أن الشرك أعظم الذنوب؛ لأن الله أخبر أنه لا يغفر لمن لم يتب منه، وأما ما دونه من الذنوب فهو داخل تحت المشيئة، إن شاء غفر لمن لقيه به، وإن شاء عذبه.

عباد الله:

يجب الحذر من الشرك كله ومن ذلك: ما وقع فيه كثير من المنتسبين إلى الإِسلام من الشرك الأكبر وذلك بالغلو في الأنبياء والصالحين، بسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، والنذر والذبح لهم، وطلب الشفاعة منهم، وقد حذر النبي ﷺ‬ أمته من ذلك.

ولا كفارة لهذا الشرك إلا بالتوبة منه، وإخلاص العمل لله وحده، وإلا فمن مات عليه فإنه مُخلد في النار، قال -تعالى-: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ [المائدة: 72].

أيها المسلمون:

الخليل - u - يدعو ربه بدعاء عظيم: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: 35].

أي: اجعلني وبنيَّ في حيز وجانب عن عبادة الأصنام، وباعد بيننا وبينها، وهذا مما يخيف العبد، فإذن كان الخليل - u - إمام الحنفاء الذي جعله الله أمة وحده، وابتُلي بكلمات فأتمهن، وقد كسر الأصنام بيده، يخاف أن يقع في الشرك، فكيف يأمن الوقوع فيه من هو دونه


بمراتب، بل أولى بالخوف منه وعدم الأمن بالوقوع فيه.

قال إبراهيم التيمي: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟!

وقد وقع فيه الكثير من هذه الأمة بعد القرون المفضلة، فبنيت المساجد والمشاهد على القبور وغيرها، وصرفت لها العبادات بأنواعها، وشابهوا ما وقع في الجاهلية وأعظم واتخذوا ذلك دينًا، وهي أوثان وأصنام، فإن الصنم ما كان مصورًا على أي صورة، والوثن ما عُبد مما ليس له صورة كالحجر والأبنية، وقد يُسمى الصنم وثنًا، كما قال الخليل: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾ [العنكبوت: 17] فالأصنام أوثان كما أن القبور بالنص أوثان، فالوثن أعم.

وقال بعض العلماء: كل ما عبد من دون الله، بل كل ما يشغل عن الله يقال له صنم، وقد بين الخليل - u - السبب الذي أوجب له الخوف من ذلك بقول: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ﴾ [إبراهيم: 36].

ومن أنواع الشرك ما ذكره النبي ﷺ‬ بقوله: «أَخوف ما أَخاف عليكم الشرك الأصغر» فسُئل عنه فقال: «الرياءُ» [رواه أحمد والطبراني].

عباد الله:

لم يترك النبي ﷺ‬ خيرًا إلا دل عليه، ولا شرًا إلا حذرها منه، ومن أعظم الشرك الذي حذرها منه الرياء؛ وهو أن يُظهر العبد عبادته أو يُحسنها ليراه الناس فيمدحونه عليها؛ وهذا شرك أصغر يُبطل العمل الذي قارنه، ويأثم صاحبه؛ لأن الله - عز وجل - لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا.

فإذا كان ﷺ‬ يخاف الشرك على أصحابه؛ الذين وحدوا الله ورغبوا إلى ما أمروا به وهاجروا وجاهدوا وعرفوا ما دعاهم إليه نبيهم، فكيف لا يخافه وما فوقه من لا يدانيهم، ومن لا نسبة له إليهم في علم ولا عـمل، خصوصًا


إذا عُرف أن أكثر الناس اليوم بل كثير من علماء الأمصار لا يعرفون من التوحيد إلا ما أقر به المشركون، لم يعرفوا معنى الإلهية التي نفتها كلمة الإِخلاص عن كل ما سوى الله، ويقولون من قالها فهو المسلم وإن فعل ما فعل، فينبغي للإِنسان أن يحذر كل الحذر، ويخاف أن يقع في الشرك الأكبر إذا كان الشرك الأصغر مخوفًا على الصالحين، وقد أخبر ﷺ‬ أمته بوقوع الشرك، وقد عمت به البلوى في أكثر الأقطار، حتى اتخذوه دينًا، مع ظهور البراهين في النهي عنه، والتخويف منه، وأفاد الحديث أن الرياء من الشرك الأصغر، وأنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين.

والشرك قسمان أكبر وأصغر، وبينهما فرق في الحكم والحد، فالأكبر أن يسوي غير الله بالله فيما هو من خصائص الله كالمحبة والدعاء والذبح، وحكمه أنه لا يُغفر لصاحبه أبدًا إلا بالتوبة، وأنه يحبط جميع الأعمال، وأن صاحبه خالد مُخلد في النار، والأصغر هو ما أتى في النصوص أنه شرك، ولم يصل إلى حد الشرك الأكبر، وحكمه أنه لا يُغفر لصاحبه إلا بالتوبة؛ لعموم قوله - تعالى-: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾ وأنه يُحبط العمل الذي قارنه، ولا يوجب التخليد في النار، ولا ينقل عن الملة، ويدخل تحت الموازنة، وإن حصل معه حسنات راجحة على ذنوبه دخل الجنة وإلا دخل النار.

أيها المسلمون:

الدعاء عبادة من أجَّل العبادات، وأعظم القربات فمن جعل لله ندًا يدعوه سواء كان ملكًا مقربًا، أو نبيًا مرسلاً، أو عبدًا صالحًا، أو غير ذلك؛ فقد وقع في الشرك الأكبر الذي لا ينفع معه عمل صالح ولو كان صاحبه من أعبد الناس. قال - تعالى-: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ


عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60].

وفي الحديث الذي رواه البخاري عن النبي ﷺ‬ أنه قال: «من مات وهو يدعو لله ندًا دخل النار».

في هذا الحديث التحذير من الشرك والتخويف منه، فمن جعل لله ندًا في العبادة؛ يدعوه ويسأله ويستغيث به، نبيًّا كان أو غيره دخل النار.

والند المثل والشبيه، واتخاذ الند على قسمين: أن يجعل لله شريكًا في أنواع العبادة أو بعضها، فهذا شرك أكبر، والثاني: ما كان من نوع الشرك الأصغر، كقول الرجل: ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، وكيسير الرياء.

قال شيخ الإسلام: وكبخله - لحب المال - ببعض الواجب هو شرك أصغر، وحبه لها يبغضه الله، حتى يقدم هواه على محبة الله شرك أصغر.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ [المائدة: 72].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....


الخطبة الثانية

الحمد لله شرح صدور المؤمنين فانقادوا لطاعته، وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، فلم يجدوا حرجًا في امتثال شريعته، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

عباد الله:

روى مسلم، عن جابر - t - أَن رسول الله ﷺ‬ قال: «من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقيه يُشرك به شيئًا دخل النار».

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: هذا حديث الموجبتين؛ موجبة السعادة، وموجبة الشقاوة.

وفي الحديث يبين ﷺ‬ أن من مات لم يتخذ مع الله شريكًا في الإلهية، ولا في الخلق، ولا في العبادة دخل الجنة، ففيه فضيلة السلامة من الشرك، ومن حديث أبي ذر - t-، أن النبي ﷺ‬ قال: «أتاني جبرائيل فبشرني أنه من مات من أمتك لا يُشرك بالله شيئًا دخل الجنة» قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق» وفي الرابعة: «على رغم أنف أبي ذر» ودخول من مات غير مشرك الجنة مقطوع به، لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرًا عليها دخلها أولاً، وإلا فهو تحت المشيئة، فإن عفا عنه دخلها أولاً، وإلا عُذب ثم خرج من النار وأُدخل الجنة.

فإذا كان التغليظ في النهي عن الشرك بهذه الشدة فينبغي شدة الخوف


منه. وقوله: «شيئًا نكرة تعم قليل الشرك وكثيره، أما الأكبر فلا عمل معه البتة، ويوجب الخلود في النار، ولا فرق بين الكافر عنادًا وغيره، ولا بين من انتسب إلى ملة الإسلام أو خالفها، ومن المعلوم بالضرورة من الدين المجُمع عليه عند أهل السنة أن من مات لا يشرك بالله شيئًا يدخل الجنة، وإن جرت عليه قبل ذلك أنواع من العذاب والمحن، وأما الشرك الأصغر كيسير الرياء، وقول الرجل: ما شاء الله وشئت، وما لي إلا الله وأنت، ونحو ذلك فيطلق عليه الشرك كما في حديث: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» ونحو ذلك، ولكن لا يخرج بذلك من الملة بالكلية، ولا ستحق اسم الكفر على الإطلاق، فهو أخف من الأكبر، وقد يكون أكبر بحسب حال قائله ومقصده.

عباد الله:

الشرك خفي جدًا، فقد يكون في الإنسان وهو لا يشعر إلا بعد المحاسبة الدقيقة، ولهذا قال سفيان الثوري - رحمه الله-: ما جاهدت نفسي على شيء ما جاهدتها على الإخلاص.

فحاسبوا أنفسكم، وتفقدوا أعمالكم، وأصلحوا قلوبكم، تسعدوا وتفلحوا.

هذا وصلوا على نبي الرحمة...


الخطبة الأولى([6])

الحمد لله أهل التقوى والمغفرة، أحاطك بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، له ما في السموات وما بينهما وما تحت الثرى، أحمده - سبحانه - وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، أخشى الناس لربه وأتقى، دل على سبيل الهدى، وحذر من طريق الردى، صلى الله عليه وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه معالم الهدى ومصابيح الدجى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى.

أما بعد عباد الله:

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله - عز وجل-، فهي عماد المؤمن في الدنيا، وأنيسه في قبره، ودليله في الأخرى يوم يلقى الله إلى جنات النعيم.

أيها المسلمون:

أكرمكم الله - عز وجل - بهذا الدين العظيم، وامتن عليكم بسلوك صراطه المستقيم؛ وبعث إليكم محمدًا ﷺ‬، معلمًا وهاديًا إلى الطريق القويم.

وبعد هذا الجود والكرم من رب العالمين، أمركم جل وعلا بالدعوة إلى هذا الدين؛ فالدعوة إلى الله من أَزكى الأعمال، وأفضل المهمات، إذ هي وظيفة الرسل - عليهم الصلاة والسلام-، ويترتب عليها الأجور العظيمة التي ينالها من دعا إلى الله - عز وجل-، وأخلص النية لله، لقوله ﷺ‬: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم


شيئًا» [رواه مسلم].

ولما كان التوحيد أعظم الأمور وأهمها في الدعوة إلى الله. لا ينبغي لمن عرف ذلك أن يقتصر على نفسه، فإن الرجل إذا علم وجب عليه العمل، فإذا علم وعمل وجبت عليه الدعوة إلى الله، حتى يكون من ورثة الأنبياء وعلى طريقهم وطريق أتباعهم، قال الحسن لما تلا قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33] قال: هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحًا في إجابته.

أيها المسلمون:

الدعوة إلى الله هي الدعوة إلى توحيده والإيمان به وبما جاءت به رسله، وذلك يتضمن الدعوة إلى أركان الإِسلام وأصول الإيمان والإِحسان بل الأمر بما أمر به،

والنهي عما نهي عنه، ولا تتم إلا بذلك، وأول ما يبدأ به الدعوة إلى التوحيد الذي هو معنى الشهادة، كما كان شأن المرسلين وأتباعهم، وكل واحد من الأمة يجب عليه أن يقوم من الدعوة بما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره.

قال الله - تعالى - لبنينا محمد ﷺ‬: ﴿قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108].

أي: هذه الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها من الدعاء إلى توحيد الله وإخلاص العبادة لله وحده؛ طريقتي ومسلكي ودعوتي إلى الله وحده لا شريك له، لا إلى حظ ولا رياسة، بل إلى الله، ﴿عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ بذلك ويقين وبرهان وعلم مني به: ﴿أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: 108] أي:


ويدعو إليه على بصيرة أيضًا من اتبعني وصدقني وآمن بي، والبصيرة: المعرفة التي يُميزُ بها بين الحق والباطل،: ﴿وَسُبْحَانَ اللّهِ﴾ أي: أنزه الله وأعظمه وأقدسه وأجله عن أن يكون له شريك في ملكه أو نظير أو ند، تقدس وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا: ﴿وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ في الاعتقاد والعمل والمسكن، لستُ منهم ولا هم مني، بأي نسبة كانوا؛ بحيث لا يُعد منهم بوجه من الوجوه، إن نظر في الاجتماعات فليس منهم، وإن جلسوا في المجالس فليس منهم، وإن خرجوا إلى المحافل فليس منهم، فليس منهم في أي حال من الأحوال، وفيه وجوب الهجرة، وهو معلوم بالكتاب والسنة والإِجماع.

والنصوص في الدعوة إلى الله كثيرة، كقوله - تعالى-: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125] وقوله - جل وعلا-: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ﴾ [فصلت: 33] وهي واجبة على من اتبع محمدًا ﷺ‬ أن يدعو إلى الله كما دعا إليه.

وذكر ابن القيم - رحمه الله-: أن مراتب الدعوة ثلاثة أقسام، وذلك بحسب حال المدعو؛ فإنه إما أن يكون طالبًا للحق محبًا له مؤثرًا له على غيره إذا عرفه، فهذا يُدعى بالحكمة، ولا يحتاج إلى موعظة وجدالا، وإما أن يكون مشتغلاً بضد الحق لكنه لو عرفه آثره واتبعه، فهذا يحتاج إلى الموعظة بالترغيب والترهيب، وإما أن يكون معاندًا معارضًا، فهذا يُجادل بالتي هي أحسن، فإن رجع وإلا انتقل معه إلا الجلاد إن أمكن.

عباد الله:

لا بد في الدعوة إلى الله من شرطين: أن تكون خالصة لوجه الله - تعالى-، وأن تكون على وفق سنة رسول الله ﷺ‬، وأن يكون الداعي عارفًا بما يدعو


إليه، فإن أخل بالأول كان مشركًا، وإن أخل بالثاني كان مبتدعًا.

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله-: فيه أن الدعوة إلى الله طريق من اتبعه ﷺ‬، وفيه التنبيه على الإِخلاص، لأن كثيرًا لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه، وأن البصيرة من الفرائض، وأن من دلائل حسن التوحيد كونه تنزيهًا لله عن المسبَّة، وأن من دلائل قُبح الشرك كونه مسبة لله، وفيه إبعاد المسلم عن المشركين أن لا يصير منهم ولو لم يُشرك.

وفي الحديث عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أَن رسول الله ﷺ‬ لما بعث معاذًا إلى اليمن، قال له: «إنك تأْتي قومًا من أَهل الكتاب [يعني بذلك اليهود والنصارى] فليكن أَول ما تدعوهم إليه شهادة أَن لا إله إلا الله».

فلا واجب على المكلفين أعظم من التوحيد علمًا وعملاً، ومن أدلته هذا النص وغيره، فإن قوله: «فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا اله» مع قوله: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب» يعني أنهم أهل علوم، وكتب وحجج، ومع ذلك أمره أن يدعوهم إلى إفراد الله بالعبادة، لكونهم محتاجين إلى أن تُبين لهم ذلك، فإن منهم من يجهله، أو يعلمه ولكن الشهوة تمنعه من ذلك، وحب المال والجاه والرياسة - والعياذ بالله-، وفيه أنه لا يُحكم بإسلام شخص إلا بالنطق بالشهادتين، كما هو مذهب أهل السنة.

أيها المسلمون:

قال شيخ الإسلام: قد عُلم بالاضطرار من دين الرسول، واتفقت الأمة أن أصل الإسلام، وأول ما يؤمر به الخلق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلمًا، وإذا لم يتكلم مع القدرة فهو كافر، باتفاق المسلمين.


وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: وفيه أن التوحيد أول واجب، والنبي ﷺ‬ أخذ عشر سنين كلها في الدعوة إلى التوحيد، والنهي عن ضده وهو الشرك، وفيه أن الإِنسان قد يكون من أهل العلم، ولا يعرفها، أو يعرفها ولا يعمل بها، والتنبيه على التعليم بالتدريج، والبداءة بالأهم فالمهم.

ثم قال ﷺ‬: «فإن هم أطاعوك لذلك».

أي: شهدوا وانقادوا لذلك، وكفروا بما يعبد من دون الله.

«فأَعلمهم أَن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أَطاعوك لذلك؛ فأَعلمهم أَن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أَغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أَطاعوك لذلك؛ فإياك وكرائم أَموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإِنه ليس بينها وبين الله حجاب» [رواه البخاري ومسلم].

ثنى ﷺ‬ بالأعمال بعد التوحيد لأنها لا تصح بدونه، فهو شرط لصحة جميع الأعمال؛ وفيه أن الصلاة أول واجب بعد الشهادتين، وأن المطالبة بالفرائض في الدنيا لا تكون إلا بعد الإسلام، فإن حصل دُعي إلى الصلاة، وإلا لم يُدع إليها، فإن الصلاة وغيرها من سائر الأعمال لا تصح بدونه.

ثم حذر ﷺ‬ من أخذ كرائم الأموال، فيحُرم على جابي الزكاة أخذها، ويحرُم على صاحب المال إخراج الرديء من ماله؛ بل الوسط، لأن ذلك سبب لإخراجها بطيب نفس ونية صحيحة، فإن طابت نفسه بكريم ماله جاز ذلك، وحذر ﷺ‬ من الظُلم فقال: «واتق دعوة المظلوم» لأن الظُلم ظلمات يوم القيامة، ودعوة المضطر لا ترد ولا تحجب عن الله.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33].


الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ومصطفاه من خلقه، كتب الفلاح لمن اتبعه وسار على نهجه، ففاز في الحال والمآل، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله أيها المؤمنون، فبتقوى الله تزكو الأعمال، وتنال الدرجات، وارغبوا فيما عنده، فبيده الخير وهو على كل شيء قدير، اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء.

في الحديث عن سهل بن سعد - t-: أن رسول الله ﷺ‬ قال يوم خيبر: «لأعطين الراية غدًا رجلاً يُحب الله ورسوله، ويُحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه»، فبات الناس يَدُوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبحوا غدوا على رسول الله ﷺ‬ كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: «أين علي بن أبي طالب؟» فقيل له: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه فأُتي به فبصق في عينيه، ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال: «انفذ على رِسْلِك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم» [رواه البخاري ومسلم].

في هذا الحديث العظيم أمر ﷺ‬ عـليًا - t - قـبل أن يفتح خيبر أن


يدعو أهلها إلى الإسلام، وأصل الإِسلام: هو التوحيد. وهكذا ينبغي لأهل الإسلام أن يكون قصدهم بجهادهم هداية الخلق إلى الإِسلام والدخول فيه.

ثم أمره ﷺ‬ إن هم أجابوه إلى الإسلام أن يخبرهم بما يجب من شرائعه التي لا بد من فعلها كالصلاة والزكاة وغير ذلك.

أيها المسلمون:

منَّ الله عليكم بهذا الدين العظيم فاحصروا على هداية ودعوة الكفار للدخول في هذا الدين، لإنقاذهم من النار في الآخرة، والشقاء والضياع والضلال في الدنيا، لكم بهذا الأجر العظيم، فقد حلف ﷺ‬ ترغيبًا في الدعوة إلى الله فقال: «فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم» أي: هداية رجل واحد على يديك خير لك من الإِبل الحُمُر، وهي أنفس أموال العرب في حينها.

وهذا مثل للتقريب إلى الأذهان، وإلا فنعيم الآخرة لا يماثله شيء من نعيم الدنيا.

ومن أساليب الدعوة إلى الله؛ بيان ما أمرنا الله به من إفراده بالعبادة وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والصدقة على الفقير، وغير ذلك مما يوافق الفطرة والعقل السليم، وكذا بيان ما نهانا الله عنه من اتخاذ شريك له في العبادة، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، والظلم وغير ذلك مما تأباه الفطرة والعقل السليم، فمن أراد الله هدايته شرح صدره للإِسلام، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.

قال شيخ الإِسلام: ينبغي لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر أن يكون فـقيهًا فيما يأمر به، فقيهًا فيما ينهى عنه، رفيقًا فيما يأمر به رفيقًا فيما ينهى


عنه، حليمًا فيما يأمر به، حليمًا فيما ينهى عنه، فالفقه قبل الأمر: ليعرف المعروف فيأمر به، ويعَرفُ المنكر فيُنكره، والرفق عند الأمر: ليسلك أقرب الطرق إلى تحصيل المقصود، والحلم بعد الأمر: ليصبر على أذى المأمور المنهي.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([7])

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70 ، 71].

أما بعد:

فاتقوا الله - أيها المسلمون - اتقوه في السر والعلن، فإن تقوى الله - عز وجل - سبب الأمن في الدنيا، والهداية في الآخرة: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82].

أيها المسلمون:

يقول الله عز وجل: ﴿قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ


أَقْرَبُ﴾ [الإسراء: 56 – 57].

نزلت هذه الآية الكريمة فيمن يعبد الملائكة والأنبياء، وقيل: نزلت في أناس كانوا يعبدون الجن، فأسلم الجن وبقي من يعبدهم على عبادته، ولا منافاة بين القولين فإنها عامة لكل من دعا غير الله - تعالى - وهذا المدعو صالح في نفسه؛ وقد بينت الآية أن الذين يدعوهم أهل الشرك من الملائكة والأنبياء والصالحين، خَلقٌ من خلق الله، يتقربون إلى الله بعبادته وطاعته وحده، ويرجون رحمته ويخافون عذابه، لا يملكون كشف الضر ولا جلب النفع لأحد فكيف يُدعون مع الله؟ ففي هذه الآية بطلان عبادة غير الله، فهل العابد الخائف الراجي يستحق أن يُعبد؟!

قال شيخ الإِسلام: فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعوًا، وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجو رحمته، ويخاف عذابه، فكل من دعا ميتًا أو غائبًا من الأنبياء والصالحين، سواء كان بلفظ الإستغاثة، أو غيرها فقد تناولته هذه الآية، كما تتناول من دعا الملائكة والجن، فقد نهى الله عن دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين، ولا تحويله، لا يرفعونه بالكلية، ولا يحولونه من موضع إلى موضع آخر، كتغيير صفته أو قدره، ولهذا قال ﴿وَلاَ تَحْوِيلاً﴾ نكرة تعم أنواع التحويل؛ فكل من دعا ميتًا أو غائبًا من الأنبياء والصالحين، أو دعا الملائكة فقد دعا من لا يُغيثه، ولا يملك كشف الضر عنه ولا تحويله.

فإذا كان دعاء الأولياء والصالحين شركًا، عرفنا أن التوحيد هو دعاء الله وحده لا شريك له؛ فكان في هذه الآية تفسير التوحيد، وأنها دلت على أن دعوة الله وحده هي التوحيد.

وكل من أشرك بالله - تعالى - لم تصح له عبادة، فقـريش مثلاً كانوا


يحجون ويعتمرون ويتصدقون ويصلون الرحم، ويكرمون الضيف، ويذكرون الله، ويعترفون بأن الله هو المتفرد بالخلق، والرزق، والتدبير، ولكنهم يتخذون وسائط بينهم وبين الله يدعونهم ويذبحون لهم.

ففعلهم هذا أفسد جميع عباداتهم، وقد دعا ﷺ‬ هؤلاء المشركين إلى إفراد الله بالعبادة؛ بقوله ﷺ‬ كما روى ذلك الإمام أحمد: «قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» فأبوا أن يقولولها، لأنهم يعرفون معناها - لا معبود بحق إلا الله - وقالوا: ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ص: 5] فقاتلهم ﷺ‬ ليكون الدين كله لله.

والمشركون الأوائل عرفوا معنى (لا إله إلا الله)، فامتنعوا عن قولها، على النقيض من حال كثير ممن ينتسب إلى الإسلام اليوم يقولون: (لا إله إلا الله) صباح مساء ولا يعرفون معناها، فتجدهم يصلون، ويصومون، ويحجون، ويتصدقون، ومع ذلك يدعون الأنبياء والصالحين أو غير ذلك من المعبودات الباطلة، فوقعوا في الشرك الأكبر الذي ينافي كلمة التوحيد.

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله-: فلا خير في رجلٍ جُهال الكفار أعلم منه بلا إله إلا الله.

وبهذا يتبين أن شرك المتأخرين هو جنس شرك الأولين، بل المتأخرين أشد فإنهم يشركون في الرخاء والشدة، وأولئك يشركون في الرخاء فقط.

عباد الله:

ذكر الله - عز وجل - قصة إبراهيم - u - مع قومه وهي غاية التوحيد، فقال - تعالى-: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الزخرف: 26 – 28].


تبرأ إبراهيم - u - إمام الحنفاء من كل ما يعبده أبوه وقومه، ولم يستثن إلا الذي خلقه، وهذا واجب على كل مسلم فالعبادة حق الله فلا بد من إخلاصها له وحده.

أما من يعبد الله ويعبد معه غيره فهذا هو الشرك، وهو الواقع من قوم إبراهيم - u - فقد عبدوا الله، وعبدوا معه آلهتهم، كما دلت الآية، قال - تعالى-: ﴿إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ وهذا مع الأسف - هو واقع كثير ممن ينتسب إلى الإِسلام، فيعبدون الله، ويعبدون معه غيره من أصحاب القبور بالذبح لها، والطواف حولها، وغير ذلك، فوقعوا في الشرك الأكبر.

والكلمة الباقية هي: (لا إله إلا الله) بإجماع أهل العلم، وقد عبر عنها الخليل - u - بمعناها الذي أريدت به؛ فعبر عما نفته بقوله: ﴿إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُون﴾، وعما أثبتته بقوله: ﴿إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي ﴾ أي خلقني، فقصر العبادة على الله وحده، ونفاها عن كل ما سواه ببراءته من ذلك.

قال ابن كثير: هذه الكلمة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما سواه من الأوثان، وهي (لا إله إلا الله)، جعلها في ذريته، يقتدي به فيها من هداه الله منهم.

عباد الله:

حققوا التوحيد في أنفسكم تفوزوا برضا ربكم، فإن من فضائل تحقيق التوحيد مغفرة الذنوب وتكفيرها، ومن فضائله أنه السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة ودفع عقوبتهما.

ومن أجلِّ فوائده أنه يمنع الخلود في النار إذا كان في القلب منه أدنى مثقال حبة خردل، وأنه إذا أكمل في القلب يمنع دخول النار بالكلية.


ومنها: أنه يحصل لصاحبه الهدى الكامل والأمن التام في الدنيا والآخرة ومنها: أنه السبب الوحيد لنيل رضا الله وثوابه، وأن أسعد الناس بشفاعة محمد ﷺ‬ من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه.

ومن أعظم فضائله: أن جميع الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها وفي ترتيب الثواب عليها على التوحيد، فكلما قوي التوحيد والإِخلاص لله كملت هذه الأمور وتمت.

ومن فضائله: أنه يسهِّل على العبد فعل الخيرات وترك المنكرات، ويسليه عند المصيبات، فالمخلص لله في إيمانه وتوحيده تخف عليه الطاعات، لما يرجو من ثواب ربه ورضوانه، ويهون عليه ترك ما تهواه النفس من المعاصي، لما يخشى من سخطه وعقابه.

ومنها أن التوحيد إذا كمل في القلب حبَّب الله لصاحبه الإيمان وزيَّنه في قلبه، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، وجعله من الراشدين.

ومنها: أنه يخفف عن العبد المكاره، ويهون عليه الآلام، فبحسب تكميل العبد للتوحيد والإِيمان، يكون تلقيه المكاره والآلام بقلب منشرح ونفس مطمئنة وتسليم ورضا بأقدار الله المؤلمة.

ومن أعظم فضائل: أنه يحرِّر العبد من رق المخلوقين والتعلق بهم وخوفهم ورجائهم والعمل لأجلهم، وهذا هو العز الحقيقي والشرف العالي، ويكون مع ذلك متألهًا متعبدًا لله، لا يرجو سواه، ولا يخشى إلا إياه، ولا ينيب إلا إليه، وبذلك يتم فلاحه ويتحقق نجاحه.

ومن فضائله التي لا يلحقه فيها شيء: أن التوحيد إذا تم وكمل في القلب وتحقق تحققًا كاملاً بالإِخلاص التام، فإنه يُصير القليل من عمله كثيرًا، وتُضـاعف أعماله وأقواله بغير حصر ولا حساب، ورجحت كلمة


الإخلاص في ميزان العبد بحيث لا تقابلها السموات والأرض وعمارها من جميع خلق الله، وذلك لكمال إخلاص قائلها، وكم ممن يقولها لا تبلغ هذا المبلغ، لأنه لم يكن في قلبه من التوحيد والإِخلاص الكامل مثل ولا قريبُّ مما قام بقلب هذا العبد.

ومن فضائل التوحيد: أن الله تكفل لأهله بالفتح والنصر في الدنيا، والعز والشرف، وحصول الهداية، والتيسير لليسرى وإصلاح الأحوال، والتسديد في الأقوال والأفعال.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله الذي خلق الجنة وجعل مفتاحها لا إله إلا الله، أحمده - سبحانه - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مخلص فيها، موقن بها، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، جدد ما اندرس من معلمها، ومع ذلك قال له ربه: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [محمد: 19]، فصدع بها ونادى، ووالى عليها وعادى، وقال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها».

دعا إلى هذه الكلمة عشر سنين ولم يدع قبلها إلى زكاة ولا صيام، ولا حج وعمرة إلى بيت الله الحرام، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه؛ الذين جاهدوا من امتنع من قولها، أو صد عنها، أو نقضها.

أما بعد:

فيا عباد الله: اتقوا الله حق التقوى، وأخلصوا العبادة لربكم تسعدوا وتنجوا.

أيها المسلمون:

توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له هو لب دعوة الرسل وذروة سنامها، والحد الفاصل بين الإِيمان والكفر، والإِسلام والشرك، وهو القدر المنجي من الخلود في النار في الآخرة، والعاصم للدم والمال والذرية في الدنيا.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا الأصل وهو التوحيد هو أصل الدين الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين دينًا غيره، وبه أرسل الرسل وأنزل


الكتب، كما قال - تعالى-: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ [الزخرف: 45] وقال - تعالى-: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25] وقال - تعالى-: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ﴾ [النحل: 36].

وقد ذكر الله - عز وجل - عن كل رسول من الرسل أنه افتتح دعوته بأن قال لقومه: ﴿اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 59].

جعلنا الله وإياكم من أهل التوحيد ممن أخلصوا العبادة لربهم وتابعوا سنة نبيهم.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([8])

الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، وفق من شاء من عباده للعمل بما يحبه ويرضاه، أحمده - سبحانه - وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا نعبد إلا إياه، في السماء إله، وفي الأرض إله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، طوبى لمن والاه وتولاه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، جاهدوا في الله حق جهاده، وكان هواهم تبعًا لهداه، والتابعين ومن أتبعهم بإحسان إلى يوم أن نلقاه.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله - وراقبوه، فإن السعيد من قدم زادًا لأخراه.

أيها المسلمون:

عاب الله - عز وجل - وحذر من الوقوع فيما وقع فيه اليهود والنصارى، قال - تعالى - عنهم: ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 31].

أقام ربنا - سبحانه وتعالى - لعباده شريعة ومنهاجًا يصلح لكل زمان ومكان، فأحل لهم ما ينفعهم، وحرم عليهم ما يضرهم، وأخبر - سبحانه - في الآية عن اليهود والنصارى، أنهم أطاعوا علماءهم وعبادهم في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، فأنزلهم بذلك منزلة الرب الذي مـن خصائصه التحليل والتحريم، فمن أطاع مخلوقًا في تحليل الحرام أو تحريم


الحلال، فقد اتخذه شريكًا مع الله، وذلك شرك أكبر ينافي التوحيد، وهو شرك الطاعة.

وفسر رسول الله ﷺ‬ قول الله - عز وجل-: ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ﴾ لعدي بن حاتم - t-، لما قال إنهم لم يعبدوهم، فقال: «بلى إنهم حرموا عليهم الحلال، وحللوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم» [رواه أحمد وغيره، وحسنه الترمذي].

وقوله: ﴿وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ [التوبة: 31] أي: اتخذوه ربًا بعبادتهم له: ﴿وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ فدلت على أن من أطاع غير الله في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحله فقد اتخذه ربًا ومعبودًا، وجعله لله شريكًا، وذلك ينافي التوحيد؛ فكل معبود رب، وكل مطاع ومتبع على غير ما شرعه الله ورسوله فقد اتخذه المطيع ربًا ومعبودًا.

قال شيخ الإسلام - رحمه الله-: وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا، على وجهين: أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على هذا التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرمه الله، أو تحريم ما أحل، اتباعًا لرؤسائهم، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل، فهذا كفر، وقد جعله الله شركًا.

الثاني: أن يكون اعتقادهم بتحريم الحلال، وتحليل الحرام ثابتًا، لكونهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب، كما ثبت: «إنما الطاعة في المعروف» ثم ذكر المحُرم للحلال إن كان مجتهدًا قصده اتباع الرسول ﷺ‬، ولكن خفي عليه الحق، وقد اتقى الله، فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه؛ ولكـن من علم أن هذا خطأ ثم اتبعه، وعدل عن قول الرسول ﷺ‬


فله نصيب من هذا الشرك، لا سيما إن اتبع في ذلك هواه، ونصره باليد واللسان، مع علمه بأنه مخالف للرسول ﷺ‬، فهذا شرك، وإن كان المتبع للمجتهد عاجزًا، وفعل ما يقدر عليه فلا يؤاخذ إن أخطأ.

عباد الله:

ذم الله حال المشركين حيث جعلوا لله أندادًا، أي: أمثالاً ونظراء، يعبدونهم معه، قال - تعالى-: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ﴾ [البقرة: 165].

أي: يسوونهم في المحبة المقتضية الذل للمحبوب، والخضوع له، كحب الله، وهو الله لا إله إلا هو، لا ضد له، ولا ند له، ولا شريك له، وكل من صرف من العبادة شيئًا لغير الله رغبة إليه، أو رهبة منه، فقد اتخذه ندًا لله، وفي الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعًا قال: أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك».

ثم قال - عز وجل - ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ﴾ من أصحاب الأنداد لأندادهم، ولحبهم له، وتمام معرفتهم به لا يشركون به شيئًا، بل يعبدونه وحده، ثم توعد المشركين بقوله - تعالى - ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ يقول: لو علموا ما يعاينونه هنا، وما يحل بهم من الأمر الفظيع على شركهم، لانتهوا عما هم فيه من الضلالة.

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله-: ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنهم يحبون الله حبًا عظيمًا ولم يدخلهم في الإِسلام، فكيف بمن أحب الند حبًا أكبر من حب الله؟! فكيف بمن لم يُحب إلا الند وحده ولم يحب الله؟!.


فمن أشرك مع الله غيره في المحبة فقد جعله شريكًا لله في العبادة، واتخذ ندًا من دون الله، وذلك هو الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، لقوله: ﴿وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ والمراد محبة التأله والتعظيم، المختصة برب العالمين، التي هي إحدى القاعدتين اللتين عليهما مدار العبادة.

وهذا هو الذي اعترف به المشركون، وهم بين أطباق الجحيم، أنهم صاروا في الجحيم بسببه، حيث قالوا: ﴿إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: 98] ومن المعلوم أنهم ما ساووهم به في الخلق والتدبير، إنما ساووهم به في هذه المحبة؛ فدلت الآية على أن من اتخذ ندًا مع الله، يحبه كمحبة الله فقد أشرك الشرك الأكبر، المنافي للتوحيد؛ فإذا عرفنا أن هذا شرك، فالتوحيد ضده، وهو أن يفرد الرب بهذه المحبة المختصة، التي هي التوحيد؛ وبذلك ظهر معنى التوحيد وتفسيره، وشهادة أن (لا إله إلا الله).

وأما محبة الملائمات وهي المحبة الطبيعية فلا تكون شركًا كمحبة الجائع للطعام، ومحبة الوالد لولده، والولد لوالده.

قال الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - عن أقسام المحبة:

الأول: أن يحب الله حبًا أشد من غيره؛ فهذا هو التوحيد.

الثاني: أن يحب غير الله كمحبة الله، وهذا شرك.

الثالث: أن يحب غير الله أشد حبًا من الله، وهذا أعظم مما قبله.

الرابع: أن يحب غير الله وليس في قلبه محبة الله - تعالى-، وهذا أعظم وأطم.

والمحبة لها أسباب ومتعلقات، وتختلف باختلاف متعلقها، كما أن الفرح يختلف باختلاف متعلقه وأسبابه، فعندما يفرح بالطرب؛ فليس هذا كفرحه بذكر الله ونحوه.


حتى نوع المحبة يختلف، يحب والده ويحب ولده وبينهما فرق، ويحب الله ويحب ولده، ولكن بين المحبتين فرقًا، فجميع الأمور الباطنة في المحبة والفرح والحزن تختلف باختلاف متعلقها.

ثم قال - رحمه الله-: فما بالك برجل يحب غير الله أكثر من محبته لله؟! وما بالك برجل يحب غير الله ولا يحب الله؟! فهذا أقبح وأعظم، وهذا موجود في كثير من المنتسبين للإِسلام اليوم؛ فإنَّهم يحبون أولياءهم أكثر مما يحبون الله، ولهذا لو قيل له: احلف بالله؛ حلف صادقًا أو كاذبًا، أمَّ الولي؛ فلا يحلف به إلا صادقًا، وتجد كثيرًا منهم يأتون إلى مكة والمدينة ويرون أنَّ زيارة قبل الرسول ﷺ‬ أعظم من زيارة البيت؛ لأنَّهم يجدون في نفوسهم حبَّا لرسول الله ﷺ‬ كحبِّ الله، أو أعظم، وهذا شرك؛ لأن الله يعلم أننا ما أحببنا رسول الله ﷺ‬ إلا لحب الله، ولأنَّه رسول الله، فنحن نحبه بمحبة الله، لكن هؤلاء يجعلون محبة الله تابعة لمحبة الرسول ﷺ‬ إن أحبوا الله.

أيها المسلمون:

في الصحيح عن النبي ﷺ‬ أنه قال: «من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله: حرم ماله ودمه وحسابه على الله».

علق ﷺ‬ عصمة المال والدم؛ في هذا الحديث بأمرين.

الأول: قول: (لا إله إلا الله) عن علم ويقين؛ كما قد قيد ذلك في قولها في غير ما حديث، فإن من قالها في زمن النبي ﷺ‬ قبل وجود النفاق، لا يقولها إلا عن صدق وعمل بها، وعلم بما دلت عليه من النفي والإثبات.

والثاني: الكفر بما يعبد من دون الله، فلم يكتف باللفظ المجرد عن المعنى، بل لا بد من قولها، والعمل بها، والبراءة مما ينافيها.

فإن النبي ﷺ‬ علق عصمة الدم بالأمرين جميعًا، قولها عـن عـلم ويقين،


والكفر بما يعبد من دون الله، ففيه أنه لا يحرم ماله ودمه إلا إذا قال (لا إله إلا الله)، وكفر بما يعبد من دون الله، فإن قالها ولم يكفر بما يعبد من دون الله لم يأت بما يعصم ماله ودمه، وفيه معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا﴾ [البقرة: 256].

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله-: وهذا من أعظم ما يبين لك معنى (لا إله إلا الله)، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصمًا للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك؛ الكفر بما يُعبد من دون الله، فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه، فيا لها من مسألة، ما أجلها وأعظمها! ويا له من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع.

وهذا هو الشرط المصحح لقول (لا إله إلا الله)، فلا يصح قولها بدون هذه الخمس التي ذكر أصلاً، قال - تعالى-: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ﴾ [البقرة: 193] وقال: ﴿فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ [التوبة: 5] الآية أمر بقتالهم حتى يتوبوا من الشرك، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن أبوا ذلك أو بعض قوتلوا إجماعًا، بل أجمعوا على أن من قال (لا إله إلا الله)، ولم يعتقد معناها، ولم يعمل بمقتضاها، أنه يقاتل حتى يعمل بما دلت عليه من النفي والإِثبات.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾ [النساء: 48].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله لا تحصى نعمه، أحمده - سبحانه - وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، وأشهد أنَّ نبينا رسول الله محمد، اللهم صلِّ وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله أيها الناس، فتقوى الله خير زاد.

أيها المسلمون:

قال الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - في قوله ﷺ‬: «وكفر بما يُعبد من دون الله» دليل على أنَّه لا يكفي مجرد التلفظ بلا إله إلا الله، بل لا بد أن تكفر بعبادة من يُعبد من دون الله بل وتكفر أيضًا بكل كفر، فمن يقول: لا إله إلا الله، ويرى أن النصارى واليهود اليوم على دين صحيح فليس بمسلم، ومن يرى الأديان أفكارًا يختار منها ما يريد فليس بمسلم، بل الأديان عقائد مفروضة من قبل الله - عز وجل-، يخضع الناس لها.

وفي الصحيحين: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» وفي رواية: «ويؤمنوا بي وبما جئت به» فلا بد من الإيمان بجميع ما جاء به الرسول ﷺ‬، فأيما طائفة امتنعت عن الالتزام بشريعة من شرائع الإسلام الظاهرة، فإنه يجب قتالها، كما قاتل أبو بكر


مانعي الزكاة، واتفق عليه الصحابة والفقهاء.

«فمن قال لا إله إلا الله وكفر بما يُعبد من دون الله عصم ماله ودمه».

ثم قال ﷺ‬ في تمام الحديث: «وحسابه على الله - عز وجل ـ»، أي: الله - تبارك وتعالى - هو الذي يتولى حسابه، وهو المطلع على السرائر، فإن كان صادقًا جازاه بجنات النعيم، وإن كان منافقًا عذبه العذاب الأليم، وأما في الدنيا فالحكم على الظاهر، فمن أتى بالتوحيد، والتزم بشرائعه ظاهرًا، وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([9])

الحمد لله حمدًا يليق بجلاله، والشكر له على جزيل إنعامه وجميل أفضاله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في أسمائه وصفاته وأفعاله، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمدًا عبده ورسوله الصادق في فعاله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فأوصيكم أيها الناس - ونفسي - بتقوى الله، فاتقوه - رحمكم الله - تقوى من أناب إليه، واحذروه حذر من يؤمن بيوم العرض عليه، واعبدوه مخلصين له الدين، وراقبوه مراقبة أهل اليقين، وعلى الله فتوكلوا إنْ كنتم مؤمنين.

عباد الله:

لما كان الإنسان في حياته ومعيشته يطلب السلامة والنجاة، ويحذر الشرور والآفات، كان له ملجأ وملاذٌ يستعين به على حفظ نفسه وولده ونعمه ومحبوباته وذلكم هو رب العالمين - جل جلاله-.

وربما انحرف بعض الناس عن اللجوء إلى هذا الرب العظيم ذي القوة والجبروت، فيتجهون إلى أمور محرمة ظنًا منهم أنها تحميهم وتحمي أولادهم ونعمهم، وتحافظ على محبوباتهم، ومن ذلك لبس الحلقة والخيط ونحـوهما، لرفع البلاء أو دفعه، والحلقة: كل شيء استدار من صُفْر


وغيره، والخيط ونحوهما: كالودعة والتميمة والمسمار والخرزة ونحو ذلك لرفع البلاء أو إزالته بعد نزوله، أو دفعه ومنعه قبل نزوله، ويجمع ذلك شيء واحد وهو الطلب من غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله؛ واتخاذ تلك الأشياء ونحوها من أعمال الجاهلية، وكانوا يعلقونها على أولادهم ودوابهم، وذلك شرك أكبر ينافي التوحيد بالكلية، أو شرك أصغر ينافي كماله الواجب؛ لأنه الشافي الكافي من كل شيء هو الله - سبحانه - وطلب الشفاء والبركة بالحلق والخيوط وغيرها هضم لجناب التوحيد.

ولبسها على قسمين: اعتقاد أنه سبب، فشرك أصغر، أو يدفع أو ينفع فشرك أكبر؛ لأنه اعتقد أن هناك متصرفًا بالنفع والضر غير الله - سبحانه-.

وقد أمر الله - عز وجل - نبيه ﷺ‬ أن يقول للمشركين: ﴿قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ﴾ [الزمر] أي: أخبروني عن الذين تدعون من دون الله، وتسألونهم من الأنداد والآلهة، إن أصابني مرض أو فقر أو بلاء أو شدة ﴿هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ﴾ أي: أنتم تعلمون أنهم لا يقدرون على ذلك أصلاً، وتعترفون بذلك؛ ﴿أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ﴾ صحة وعافية وخير: ﴿هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ﴾ أي: أنتم تعلمون أنهم لا يستطيعون شيئًا من الأمر، وتعترفون أنهم لا يقدرون على شيء من ذلك، فإذا علمتم أنهم لا يقدرون على ذلك؛ فلم تعلقون عليهم من دون الله؟ ثم أمر الله نبيه ﷺ‬ بقوله: ﴿قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ أي: الله كاف من توكل عليه، وفوض أمره إليه واعتمد عليه، فإذا كانت آلهتهم التي يدعون من دون الله لا قدرة لها على كشف ضر أراده الله بعبده، أو إمساك رحمة أنزلها على عبده، فيلزمهم بذلك أن يكون الله - سبحانه وتعالى - هو معبودهـم وحـده، المفـوض


إليه جميع أمورهم، لزومًا لا محيد لهم عنه.

وهذا في القرآن كثير، يقيم - تعالى - الحجة على المشركين بما يبطل شركهم بالله، وتسويتهم غيره به في العبادة، بضرب الأمثال وغير ذلك مما يعلمون به أن ذلك لله وحده، ويقرون به، على ما يجحدونه من عبادته وحده، هذا وهم إنما كانوا يدعونها على معنى أنها وسائط وشفعاء عند الله: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: 3] لا على أنهم يكشفون الضر، ويجيبون دعاء المضطر، كما قال - تعالى-: ﴿إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ [النحل: 53] قال مقاتل: سألهم النبي ﷺ‬ فسكتوا، لأنهم لا يعتقدون ذلك فيها؛ وإذا كان ذلك كذلك بطلت عبادتهم الآلهة مع الله، وإذا بطلت فلبس الحلقة والخيط ونحوهما كذلك.

وهذه الآية وأمثالها تبطل تعلق القلب بغير الله في جلب نفع، أو دفع ضره، وأن ذلك لا يكون إلا بالله وحده، وأن جميع أنواع العبادة لا يصلح منها شيء لغير الله، كما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وكذلك لا يصلح شيء من أنواع التعلقات بغير الله - عز وجل-.

عباد الله:

يتخذ الناس أسبابًا للشفاء من الأسقام والأمراض، وهذه الأسباب تنقسم إلى قسمين:

الأول منها: أسباب مباحة؛ وهي ما ثبت بطريق مشروع أو مباح؛ كالرقية والعسل، والحبة السوداء، أو الأدوية المباحة؛ مع وجوب تعلق القلب بالله - سبحانه - وعدم الاعتماد عليها.

الثاني: أسباب محرمة، وهي تلك الأسباب التي يتعلق بها بعض الناس؛ كـلبس الحلقة والخيط وغيرهما، وهي تضر ولا تنفع، وحـكمها إن اعتقـد


أنها تنفع بذاتها فهذا شرك أكبر ينافي التوحيد بالكلية، وإن اعتقد أنها سبب من الأسباب فهذا شرك أصغر ينافي كمال التوحيد الواجب.

وفي الحديث عن عمران بن حصين أن رسول الله ﷺ‬ رأي رجلاً في يده حلقة من صُفْر، فقال: «ما هذه؟» قال: من الواهنة، قال: «انزعها؛ فإنها لا تزيدك إلا وهنًا فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدًا» [رواه أحمد].

ونبي هذه الأمة ﷺ‬ لا خير إلا دلها عليه، ولا شر إلا حذرها منه، والحديث يدل على محاربة الشرك والإنكار على فاعله، فقد أبصر النبي ﷺ‬ رجلاً يلبس حلقة من صُفْر لتعصمه من المرض، فأمر ﷺ‬ بالمسارعة إلى طرحها، لأن هذا مُنكر يجب إزالته ويحرم بقاؤه، وأخبره بأنها لا تنفعه بل تضره، وأن هذا المرض الذي لبسها له لا يزول، بل تزيده ضعفًا معاملة له بنقيض قصده؛ لأنه علق قلبه بما لا ينفعه، ولا يدفع عنه الضر، وهي دليل على الخيبة والخسران.

وكذا كل أمر نهى ﷺ‬ عنه فإنه لا ينفع غالبًا، وإن نفع بعض النفع فضرره أكبر من نفعه؛ وابتلاء من الله وامتحان، وهكذا شأن الأمور الشركية، ضررها على أصحابها في الدنيا في الغالب والآخرة، وذلك من أجل التفات قلوبهم إلى غير الله، ومن تعلق شيئًا وُكِّلَ إليه، ومن وُكِّلَ إلى غير الله هلك، وإذا كان هذا في الشرك الأصغر الذي يجامع أصل التوحيد، فكيف بالشرك الأكبر الذي ينافيه بالكلية.

وبعد أن طلب الرسول ﷺ‬ منه أن ينزعها، وأنها لا تزيده إلا وهنًا، قال ﷺ‬: «فإنك لو مِتّ وهي عليك ما أَفلحت أَبدًا».

نفى عنه ﷺ‬ الفلاح لو مات وهي عليه؛ لأنه شرك والحالة هذه، والفلاح من أجمع الكلمات التي نطقت بها العرب، وهو الفوز والظفر والسعادة.


قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: فيه شاهد لكلام الصحابة: أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر، وأنه لم يُعذر بالجهالة؛ والشاهد منه إنكار النبي ﷺ‬ وأنه دليل على المنع من لبس الحلقة والخيط ونحوهما لذلك؛ وفيه إنكار المنكرات الشركية.

عباد الله:

عن عقبة بن عامر مرفوعًا: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له»، التميمة: خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم، يزعمون أنها تقي من العين؛ وتعليق التمائم شرك لما في ذلك من تعلق القلب، واعتماده على غير الله في طلب النفع، أو دفع الضر، فدعا ﷺ‬ على من علق تميمة عليه أو على غيره من طفل أو دابة أو غير ذلك؛ متعلقًا بها قلبه في طلب خير أو دفع شر أن يعامله الله بنقيض قصده، أن لا يتم له مقصوده من تعليقها؛ وهو السلامة من العين؛ بل دعا عليه أن تتسلط عليه العين معاملة له بنقيض قصده؛ ودعاؤه ﷺ‬ على متعلقها يفيد أنه مُحرم، وتحريمه يفيد أنه من المحرمات الشركية، وإنما كان شركًا لما يقوم بقلبه من التعلق على غير الله، في جلب نفع أو دفع ضر، وكمال التوحيد لا يحصل إلا بترك ذلك.

وقوله ﷺ‬: «ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له»، الودعة: شيء أبيض يُجلب من البحر، يعلق في حلوق الصبيان وغيرهم، وقيل يشبه الصدف، يتقون به العين، وكانوا يتلمحون من اسمها الدعة والسكون؛ فدعا ﷺ‬ على من تعلق ودعة أن لا يجعله في دعة وراحة وسكون؛ بل يحرك عليه كل مؤذٍ معاملة له بنقيض قصده.

وفيه وعيد شديد لمن فعل ذلك، يفيد أنه مُحرم وإذا تقرر أنه مُحرم، فالرواية الثانية: «من تعلق تميمة فقد أشرك» بينت أنه من لمحرمات الشركية.


فقد أقبل على رسول الله ﷺ‬ رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله بايعت تسعة وأمسكت عن هذا، فقال: «إن عليه تميمة» فأدخل يده فقطعها فبايعه، وقال: «من تعلق تميمة فقد أشرك» رواه أحمد من حديث عقبة بن عامر، وإنما جعلها ﷺ‬ شركًا، لأنه أراد رفع القدر المكتوب، وطلب دفع الأذى من غير الله - تعالى - الذي هو النافع الضار؛ والتعلق يكون بالفعل كمن يلبس تميمة على صدره أو يده، أو بالقلب كمن يضع التميمة تحت الوسادة أو في مكان آخر مُعلقًا قلبه بها، أو بالفعل والقلب معًا؛ كمن يلبس التميمة معلقًا قلبه بها.

قال شيخ الإسلام - رحمه الله-: من تعلق قلبه بمخلوق بالمخلوق عاجز، وهو من الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة، وذلك أن يرجو العبد قضاء حاجته من غير ربه، وصرف القلب عن التعلق بالمخلوق؛ بمعرفة أن لا خالق إلا الله، فلا يستقل سواه بإحداث أمر من الأمور، بل ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فإذا تحقق العبد ذلك كان سببًا لأن ينال مطلوبه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ ﴾ [الأنعام: 17].


الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﷺ‬، وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله:

لابن أبي حاتم عن حذيفة أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾ [يوسف: 106].

حذيفة - t - الصحابي الجليل رأى رجلاً ربط في يده خيطًا يتقي به مرض الحمى بزعمه، فقطعه منكرًا عليه ذلك؛ لأن التمائم والخيوط التي يعلقها الجهال شرك يجب إنكاره، وإزالتها بالقول والفعل.

وروى وكيع عن حذيفة أنه دخل على مريض يعوده فلمس عضده، فأذا فيه خيط، فقال: ما هذا؟ قال: شيء رُقي لي فيه، فقطعه، وقال: لو مت وهو عليك ما صليت عليك؛ وفيه وجواب إزالة المنكر مع القدرة على ذلك، وإن كان يعتقد أنه سبب، فإنه لا يجوز من الأسباب إلا ما أباحه الله، مع عدم الاعتماد عليه، وأن تعليق الخيوط والحروز والطلاسم والتمائم ونحو ذلك شرك يجب إنكاره؛ وإزالته بالقول والفعل، وإن لم يأذن فيه صاحبه، بل يفيد شرعية المثابرة في قطع المنكرات، والمبادرة إلى إزالتها بلا ممالاة لأحد، لقوله - عليه الصلاة والسلام - كما روى ذلك مسلم: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك اضعف الإيمان» هذا حكم ما يوجد من المنكرات، وأهمها الأمور الشركية.


عباد الله:

المشركون يقرون بتوحيد الربوبية ولكنهم يشركون في الألوهية، فيعبدون مع الله غيره. فإقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، لذا قال الله عنهم: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ﴾ أي: بتوحيد الربوبية ﴿إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾ أي: بتوحيد الألوهية.

وفي إستدلال حذيفة - t - بهذه الآية على أنه شرك دليل على حجة الإستدلال على الشرك الأصغر بما نزل في الأكبر لشمول الآية؛ فعاب حذيفة t على الرجل الذي في يده خيط من الحمى مشابهته المشركين في تعلقه بالخيط لرفع الضر عنه.

فالله وحده كاشف الضر، كما قال - سبحانه-: ﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ﴾ [الأنعام: 17].

هذا، وصلوا على نبيكم محمد بن عبد الله...


الخطبة الأولى([10])

الحمد لله، من تمسك بهديه قربه وأدناه، ومن خالف أمره أبعده وأقصاه، أحمده - سبحانه - لا يذل من والاه، ولا يعز من عاداه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله غيره ولا رب سواه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله اجتباه ربه واصطفاه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه.

أما بعد:

فاتقوا الله أيها المسلمون؛ واحذروا السيئات، واستكثروا من الحسنات.

عباد الله:

أرسل الله - جل وعلا - نبينا محمد ﷺ‬ لتوحيد العبادة وإفرادها لله - عز وجل-، وقطع العلائق عما سواه، فجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، واستنار به طريق المؤمنين.

في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري أنه كان مع رسول الله ﷺ‬ في بعض أسفاره فأرسل رسولاً أن لا يُبقين في رقبة بعير قلادة من وتر، أو قلادة؛ إلا قطعت.

القلادة: هي ما يعلق في رقبة البعير وغيره، من وتر ونحوه، وكان أهل الجاهلية إذا اخلولق الوتر أبدلوه بغيره، وقلدوه الدواب، اعتقادًا منهم أنه يدفع عن الدابة العين، ويدفع عنهم المكاره.

هذا أمر من الرسول ﷺ‬ وهو الحريص على أمته بقطع الأوتار التي كان


أهل الجاهلية يعلقونها على دوابهم اعتقادًا منهم أنها تعصمهم من الآفات لأن هذا شرك يجب إزالته لما فيه من التعلق بغير الله - سبحانه-.

في الحديث دلالة على حرص الرسول ﷺ‬ على محاربة الشرك وأن الأوتار والتمائم في الحكم شيء واحد.

ومن أمثلة التعاليق الشركية: ما يعلق على الإنسان اعتقادًا أنه يدفع العين: كالتعاليق الجلدية الصغيرة التي توضع فيها التميمة، أو خرزات أو عظام بعض الدواب، أو لبس أساور من نحاس، أو خواتم لها فصوص، أو عين زرقاء وهي رسم لعين إنسان باللون الأزرق؛ يزعم أهل الشرك أنها ترد العين.

ومن أمثلة التعاليق الشركية التي انتشرت اليوم: ما يُعلق على الدابة أو السيارة؛ اعتقادًا أنه يدفع البلاء، أو يجلب الرزق، كالقلادة من وتر، أو الخرق السوداء، أو الِقَرب البالية، وما كان على شكل حذاء صغير أو تمثال حيوان يوضع في مقدمة أو مؤخرة السيارة.

ومنها - عباد الله - ما يُعلق على الدار، أو المتجر، أو يوضع فيهما، اعتقادًا أنه يدفع البلاء أو يحل البركة في المكان، كالدراهم الفضية القديمة، أو حذوة فرس، أو رأس ذئب، أو رأس غزال، وقد تكون من أشياء عديدة على حسب ما يعتقده واضعوها، وهذا الفعل من تعلق القلب بغير الله، والله - سبحانه - هو النافع الضار، الرازق المعطي لا إله إلا هو، ولا رب سواه.

أما من علق شيئًا يشبه هذه التعاليق الشركية بقصد الزينة من غير اعتقاد لنفعها فحرام؛ لعلة المشابهة لأهل الشرك.

وفي الحديث عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: إن عبد الله رأى في


عُنقي خيطًا، فقال: ما هذا؟ قلت: خيط رُقي لي فيه، قالت: فأخذه ثم قطعه، ثم قال: أنتم آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله ﷺ‬ يقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك» وفي رواية لابن ماجه قلت: لقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي، فإذا رقى سكنت، فقال عبد الله: وإنما ذلك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقى كف عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله ﷺ‬ يقول: «أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقمًا» [رواه البخاري].

والمراد بالرقى المنهى عنها ما كان من جنس رقى الجاهلية؛ والرقى: هي التي تسمى العزائم، وخص منها الدليل ما خلا من الشرك، رخص فيه ﷺ‬ من العين والحُمة، والرقى تنقسم إلى قسمين:

أولاً: رقية مشروعة: وهي ما توفرت فيها ثلاث شروط وهي:

أن تكون بأدعية مشروعة، والأفضل كونها من الكتاب والسنة، وأن تكون باللغة العربية، أو بلغة مفهومة المعنى، وأن يعتقد أنها سبب، وأن النفع والضر بيد الله، وقد تكون الرقية بالنفث على المريض مباشرة أو تقرأ في ماء ويشربه المريض.

ثانيًا: رُقية ممنوعة: كالتي تشتمل على دعاء غير الله، كدعاء الملائكة، أو الأنبياء، أو الصالحين، أو الشياطين، أو الكواكب، أو غير ذلك. فهذا شرك أكبر، وإن كانت طلاسم أو أسماء لا يعرف معناها فهي ممنوعة أيضًا، لأنها تجر إلى الشرك.


عباد الله:

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله-: والتمائم شيء يعلق على الأولاد من العين ولكن إذا كان المُعلق من القرآن فرّخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه، ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود - t-.

التمائم تنقسم إلى قسمين:

التمائم المشتملة على القرآن والأدعية النبوية: كمن يعلق القرآن كاملاً على عنقه، أو سورًا معينة أو آية الكرسي، وهذا النوع لا يجوز لثلاثة أسباب:

أولاً: عموم النهي في الحديث النبوي: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك».

الثاني: سد الذريعة لئلا يُعلق ما هو شرك.

الثالث: لأنها عرضة للامتهان عند دخول الخلاء، أو النوم عليها، ولو كان تعليق تمائم القرآن جائزًا لأمر به ﷺ‬ فقد كان يُرقى ورقى، وليس في كتاب الله - تعالى - ولا سنة رسول ﷺ‬ ما يدل على إجازة تعليق شيء من القرآن.

القسم الثاني من التمائم: التمائم التي بغير القرآن والأدعية النبوية: وهي ما يكون فيها استعانة بغير الله، كالاستعانة بالملائكة والأنبياء، أو تعليق خرزات أو عظام، أو غير ذلك لجلب النفع أو دفع الضر، وهي شرك لأنه لا كاشف للضر إلا الله وحده، وهي المرادة في قوله ﷺ‬: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك».

والتولة ممنوعة مطلقًا إجماعًا، وهي شيء يصنعونه يزعمون أنه يُحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته، ويسمونه العطف؛ وهو ضرب من


السحر، وإنما كان من الشرك لما يراد به من دفع المضار، وجلب المنافع من غير الله - تعالى-، قال علي - t-: «إن كثيرًا من هذه الرقى والتمائم شرك، فاجتنبوها»، [رواه وكيع].

وعن عبد الله بن حكيم مرفوعًا: «من تعلق شيئًا وكل إليه» [رواه أحمد والترمذي].

والتعلق - عباد الله - يكون بالقلب، ويكون بالفعل، ويكون بهما جميعًا، فمن تعلق شيئًا وكله الله على ذلك الشيء الذي تعلقه، فمن تعلق بالله، وأنزل حوائجه به، والتجأ إليه، وفوض أمره إليه كفاه، ومن تعلق بغيره، أو سكن إلى رأيه وعقله ودوائه وتمائمه ونحو ذلك، وكله الله إلى ذلك وخذله، وهذا أمر معروف بالنصوص والتجارب: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3].

وأقسام التعلق بغير الله تنقسم إلى قسمين:

الأول: ما ينافي التوحيد الواجب من أصله، وهو أن يتعلق بشيء لا يمكن أن يكون له تأثير، ويعتمد عليه اعتمادًا مُعرضّا عن الله، مثل تعلّق عُبَّاد القبور بمن فيها عند حلول المصائب، ولهذا إذا مسَّتهم الضراء الشديدة يقولون: يا فلان! أنقدنا؛ فهذا لا شك أنه شرك أكبر مخرج من الملة.

الثاني: ما ينافي كمال التوحيد الواجب، وهو أن يعتمد على سبب صحيح كاعتماد المريض على الدواء مع الغفلة عن المسبب، وهو الله - عز وجل - وعدم صرف قلبه إليه، فهذا شرك أصغر.

وكذا الموظف الذي يتعلّق قلبه بمُرتبه تعلقًا كاملاً، مع الغفلة عن المسبب وهو الله، قد وقع في شيء من الشرك الأصغر، أما إذا اعتقد أن المراتب سبب، والمسبب هو الله - سبحانه وتعالى-، وجعل الاعتماد على الله، وهو


يشعر أن المرتب سبب؛ فهذا لا ينافي التوكل. وقد كان الرسول ﷺ‬ يأخذ بالأسباب مع اعتماده على المسبب، وهو الله - عز وجل-.

الواجب على المسلم أن يُعلق قلبه بالله ويفوض أمره إليه، ويفعل السبب؛ وهذا هو التوكل بعينه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ ﴾ [الأنعام: 17].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...


الخطبة الثانية

الحمد لله الحليم التواب، غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، أحمده - سبحانه - وأشكره، لم يزل بالمعروف معروفًا، وبالكرم موصوفًا يكشف كربًا، ويغفر ذنبًا، ويغيث ملهوفًا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، بشر وأنذر، وأرشد وحذر، وأوضح المحجة فلا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

عباد الله:

الإيمان بالله وحده لا شريك له رأس الوسائل وجماعها، وكل وسيلة لم يعضدها الإِيمان، ولم يشد أزرها اليقين باطلة ذاهبة ضياعًا، لا يخطى منها صاحبها بطائل، ولا يظفر بنائل، ولا تغني عن المتوسل بها شيئًا.

قل للذين آمنوا: لا يستخفنكم الشيطان، فيضلكم عن حقيقة الإِيمان، فتكونوا من الخاسرين.

لا وسيلة أعظم من الإِيمان، ولا قربة أقرب من الإِسلام، وحسبك قول الله - تعالى-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ﴾ [فصلت: 30 – 32]، وقوله - تعالى-: ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [آل عمران: 53].


وقوله - تعالى-: ﴿رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ﴾ [آل عمران: 193] فهذه الآيات البينات برهان ساطع، وحجة قاطعة، ودليل صادق، على أن الإِيمان وسيلة إلى كل ما فيها من المطالب والرغائب.

جعلنا الله وإياكم ممن سمع المنادي فاستجاب له، وأكرمه ربه بجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([11])

إن الحمد لله، ونحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70 ، 71].

أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، وعظموا أمره، واحذروا سخطه، وتحببوا إليه بالطاعة، وتقربوا بالأعمال الصالحة.

أيها المسلمون:

بعث الله نبينا محمد ﷺ‬ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة غير الله إلى عبادة الله وحده لا شريك له، يعلمهم أمور دينهم وينصح لهم؛ حتى أتاه اليقين؛ فصلوات ربي وسلامه عليه.


ومن تعليمه لأمته أمور دينهم، ما روى الإمام أحمد عن رويفع قال: قال لي رسول الله ﷺ‬: «يا رويفع لعل الحياة ستطول بك، فأخبر الناس أن من عقد لحيته، أو تقلد وترًا، أو استنجى برجيع دابة أو عظم؛ فإنَّ محمدًا بريء منه».

أخبر النبي ﷺ‬ رويفعًا - t - أنه سيطول عمره - وهذا علم من أعلام النبوة - فقد طالت به الحياة، وأمره ﷺ‬ أن يخبر الناس عن هذه المنهيات الثلاث.

الأولى: عقد اللحية؛ وعقد اللحية أحدهما: ما كانوا يفعلونه في الحرب، يعقدون لحاهم، وذلك من زي الأعاجم يفتلونها ويعقدونها تكبرًا وعُجبًا.

والأخرى: معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد تشبهًا بالنساء وهذا أمر مُحرم، ويشبه هذا ما يفعله كثير من أهل الفسق والكبر من فتل أطراف الشوارب وإبقائها مخالفة لما ثبت عنه ﷺ‬ في الصحيحين، وغيرهما، أنه قال: «أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى».

الثانية: جعل الوتر قلادة في عقنه أو عنق دابته، زاعمًا أنه يدفع العين والمكاره، وهذا شرك لما فيه من اعتقاد جلب النفع ودفع الضر من غير الله.

الثالثة: «الاستنجاء برجيع دابة أو عظم» وهذا محرم لأنه طعام الجن.

«فإن محمدًا بريء منه» وعيد شديد، ويدل على أنه من الكبائر، وتبرؤه ﷺ‬ ممن فعل هذه الأمور الثلاث، وإجراء أحاديث الوعيد على ظاهرها أبلغ في الزجر، ولا يجوز صرفها عن ظاهرها بالتأويل.

أيها المسلمون:

الدين الإسلامي مبني على التناصح، والتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ قال ﷺ‬: «الدين النصيحة» [رواه مسلم].


فإذا رأى المسلم أن غيره قد علق تميمة فأزالها تخليصًا له من هذا الشرك كان له من الأجر مثل أجر من أعتق رقبة.

فعن سعيد بن جبير قال: (من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة) [رواه وكيع].

أي: كان له مثل ثواب من أعتق رقبه لأنه إذا قطع تميمة من إنسان فقد أعتقه من الشرك، ففكه من النار، فكان كمن أعتق إنسانًا من الرق.

ففيه فضل قطع التمائم وأنها شرك.

عباد الله:

ولوكيع عن إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون - أي أصحاب عبد الله بن مسعود - التمائم كلها من القرآن وغير القرآن.

حرص السلف على سد أبواب الشرك، فمنعوا تعليق التمائم كلها حتى ولو كانت مكتوبة من القرآن حماية للتوحيد، وسدًا لأبواب الشرك، وحفظًا للقرآن من الامتهان، فإن الله - سبحانه وتعالى - لم ينزل القرآن لتعليقه في البيوت، أو السيارات، أو على الصدور للتبرك به أو للزينة، وإنما أنزله - سبحانه - لتدبره والعمل به؛ قال - تعالى-: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ [ص: 29].

وعلى المسلم أن يُحصِّن نفسه من الشرور والآفات بالأذكار الواردة التي تنفع من يقولها بصدق وإخلاص، وقوة توكل ويقين، ومن ذلك:

قراءة سورة الإِخلاص والمعوذتين ثلاثًا في الصباح والمساء، وكذلك قراءة آية الكرسي في الصباح والمساء، وقراءة خواتيم سورة البقرة في المساء.

ومن الأذكار المشروعة قول: «باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم» ثلاث مرات في الصباح


والمساء، وكذلك قول: «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق» ثلاثًا في الصباح والمساء.

والواجب على المسلم أن يُعلق قلبه بالله وحده، ويجتنب الأسباب الواهية للشفاء، كالخيط، والحلقة، والرقى والتمائم الشركية؛ فإنها لا تنفع بل تضر.

أيها المسلمون:

الإِيمان هو من تحقق بكمال اليقين وصدق الإِخلاص وصحة الطَّويَّة، والمؤمن هو من ابنعثت نفسه بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والأقوال المرضية؛ المؤمن من امتلأ قلبه بمحبة الرسول فقدم قوله على كل أحد، واتبعه واقتدى به، ونصر ما جاء به ونصح لما شرعه فصار بذلك من أنصاره وأحبابه؛ المؤمن من التجأ إلى ربه واعتصم بمولاه، من يفعل الأسباب ويتوكل على ربه حق التوكل، المؤمن يفوض أمره إلى الله ويرضى بحكمه وقضائه وعدله.

المؤمن من أحبَّ للمؤمنين من الخير ما يحبه لنفسه، وكره لهم من الشر ما يكرهه لنفسه؛ المؤمن من تواضع وخفض جناحه للمؤمنين، فجعل كبيرهم بمنزلة أبيه، وصغيرهم بمنـزل بنيه، والنظير بمرتبة أخيه؛ المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأعراضهم، واحتمل ما يلقاه من أذيتهم وجفوتهم وإعراضهم؛ المؤمن الذي يسلم المسلمون من لسانه ويده لصحة إيمانه وأمانته، سلموا من غشه وخديعته وخيانته؛ المؤمن هو التائب من الإِثم والعصيان والفسوق، واجتهد في برِّ القريب والجار والصاحب قائم بالحقوق؛ ليس المؤمن بالطَّعَّان ولا اللَّعَّان، ولا بالفاحش ولا بذيء اللسان، وليس المؤمن من لا يأمن جاره بوائقه، ولا يأمن من غائلته وغشه،


ولا شكر ربه على فضله وكرمه وإحسانه، المؤمن بريء من الكذب وإخلاف الوعد والمخاصمة والفجور، ومعرض عن السباب واللغو وقول الزور؛ فطوبى لعبد صدق إيمانه بالقول والعمل، وويل لمن ادعى الإِيمان فخالف ظاهره باطنه فخاب وانقطع منه الأمل.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: 2].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله حمد الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله رب العالمين، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، أرسله الله بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.

أما بعد:

فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، وعليكم بلزوم التقوى في سركم وعلانيتكم، فعظموا الله واتقوه، فإنه - سبحانه - عليم بأحوالكم، ناظر إليكم، ثم يجازيكم على أعمالكم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.

عباد الله:

لا يتم التوحيد حتى يكمل العبد جميع مراتبه، ثم يسعى في تكميل غيره، وهذا هو طريق جميع الأنبياء، فإنهم أول ما يدعون قومهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وهي طريقة إمامهم ﷺ‬؛ لأنه قام بهذه الدعوة أعظم قيام، ودعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، لم يفتر ولم يضعف حتى أقام الله به الدين وهدى به الخلق العظيم، ووصل دينه ببركة دعوته إلى مشارق الأرض ومغاربها، وكان يدعو بنفسه، ويأمر رسله وأتباعه أن يدعوا إلى الله وإلى توحيده قبل كل شيء؛ لأن جميع الأعمال متوقفة في صحتها وقبولها على التوحيد.


فكما أن على العبد أن يقوم بتوحيد الله، فعليه أن يدعو العباد إلى الله بالتي هي أحسن، وكل من اهتدى على يديه فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء.

وإذا كانت الدعوة إلى الله وإلى شهادة أن لا إله إلا الله فرضًا على كل أحد، كان الواجب على كل أحد بحسب مقدروه.

فعلى العالم من بيان ذلك والدعوة والإِرشاد والهداية أعظم مما على غيره ممن ليس بعالم، وعلى القادر ببدنه ويده أو ماله أو جاهه وقوله أعظم مما على من ليست له تلك القدرة، قال - تعالى-: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، ورحم الله من أعان على الدين ولو بشطر كلمة، وإنما الهلاك في ترك ما يقدر عليه العبد من الدعوة إلى هذا الدين.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([12])

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، وأخلصوا له العبادة تفوزوا بسعادة الدارين.

أيها المسلمون:

بعث الله محمدًا ﷺ‬ يجدد للناس دين أبيهم إبراهيم - u-، ويدلهم على أن العبادة محض حق الله تعالى، لا يجوز صرف شيء منها لغيره - سبحانه وتعالى-.

وقد وبخ - سبحانه وتعالى - المشركين على تعظيمهم لأصنامهم، فقال - عز وجل-: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾ [النجم: 19، 20].

واللات والعزى والمناة؛ من أشهر وأعظم الأصنام في زمن الجاهلية، وقد كانوا يطلبون منها أن تبارك لهم في أنفسهم وأولادهم وأموالهم، فكانوا بهذا مشركين الشرك الأكبر؛ لأنهم عبدوها من دون الله حين طلبوا بركتها، وما هي إلا أوهام تخيلوها لا حقيقة لها، فهي مجرد أشجار وأحجار لا تنفع ولا تضر، قال الله - تعالى-: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ﴾ [النجم: 23].

وما يحصل ممن ينتسب إلى الإِسلام من التبرك بالقبور، والأشجار،


والأحجار هو من جنس تبرك المشركين هذا، فالواجب على المسلم ألا يعلق قلبه إلا بالله وحده، وألا يتعلق بغيره، فمن فعل ذلك فقد شابههم في فعلهم، ومن تشبه بقوم فهو منهم.

عباد الله:

البركة: هي دوام الخير وكثرته، ولا خير أدوم ولا أكثر من خير الله - سبحانه.

وينقسم التبرك إلى قسمين:

الأول:" تبرك مشروع؛ وهو التماس البركة من شيء عُلم بالشرع أنه مبارك، كشرب ماء زمزم طلبًا للشفاء، قال ﷺ‬: «إنها مباركة، إنها طعام طُعم» [رواه مسلم] وفي رواية أخرى: «زمزم طعام طُعم، وشفاء سقم» [رواه البزار].

الثاني من أنواع التبرك؛ تبرك ممنوع: وهو التماس البركة فيما لم يأذن به الشرع؛ كمن اعتقد أن هذا الشيء يمنح البركة بذاته، كمن يتبرك بالأشجار، أو الأحجار، أو قبور الصالحين، لطلب نفع أو دفع ضر؛ فذلك شرك أكبر.

أما من أعتقد أن هذا الشيء سبب لحصول البركة من الله، كمن يتمسح بمقام إبراهيم أو حِجْر إسماعيل أو بالصالحين فذلك شرط أصغر، وإن اعتقد أن هذا العمل مما يُتقرب به على الله فهو محرم ووسيلة إلى الشرك.

وعبادة المشركين لأصنامهم التي ذكر الله - عز وجل - إنما كانت بالتفات القلوب رغبة إليها في حصول ما يرجونه ببركتها، من جلب نفع أو دفع ضر، فصارت أوثانًا تُعبد من دون الله؛ فالتبرك بقبور الصالحين كاللات، وبالأشجار والأحجار كالعزى ومناة، من جنس فعل أولئك المشركين مع تلك الأوثان، فمن فعل مثل ذلك فقد ضاهى عُبَّاد هذه الأوثان فيما كانوا


يفعلونه معها من هذا الشرك، مع أن الواقع من هؤلاء المشركين مع معبوديهم أعظم مما وقع من أولئك؛ قال - تعالى-: ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى﴾ [النجم: 21] أي: كيف تجلعون هذه الإِناث أندادًا لله وتسمونها آلهة، وذلك أنهم اشتقوا اسم اللات من الإِله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا، وقيل: أتجعلون لكم ما تحبون وهم الذكور وتجعلون لله الإِناث؟ وهذا من قولهم: الملائكة بنات الله، فقال: سبحانه وتعالى-: ﴿تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾ أي جور وباطل.

عباد الله:

في الحديث عن أبي واقد الليثي - t - قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ‬ إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله ﷺ‬: «الله أكبر، إنها السُنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ لتركبن سُنَنَ من كان قبلكم» [رواه الترمذي].

حين فتح النبي ﷺ‬ مكة أسلم كثيرمن أهلها، وخرج فئة منهم معه إلى حنين، وفي طريقهم إليها رأوا شجرة سدر للمشركين تُسمى (ذات أنواط) يعلق عليها المشركون أسلحتهم ويعظمونها، ويقيمون عندها، ويتبركون بها.

عندئذ طلب هؤلاء الذين أسلموا حديثًا من الرسول ﷺ‬ أن يجعل لهم شجرة مثلها يتبركون بها ظنًا منهم أنّ هذا أمر محبوب عند الله، ولم يقصدوا مخالفة أمر الرسول ﷺ‬، ولكن لكونهم أسلموا حديثًا خفي عليهم


أن هذا الأمر يُعد شركًا بخلاف غيرهم ممن سبق إسلامه، فإنه لا يجهل ذلك.

وقد أنكر رسول الله ﷺ‬ على هؤلاء الذين طلبوا منه أن يجعل لهم شجرة يتبركون بها كما يفعل المشركون، وكبَّرَ ﷺ‬ حين سمع ما لا يليق بجلال الله وعظمته تنزيهًا لله عن الشرك، وشبه مقالتهم بمقولة بني إسرائيل لموسى - u-: ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف: 138].

والجامع بين مقالتهم ومقالة بني إسرائيل: أنّ كلاً منهما طلب أن يجعل له ما يألهه ويعبده من دون الله، فمن تبرك بالأشجار والأحجار فقد اتخذها آلهة.

ومعنى: «يعكفون» أي: يلبثون ويقيمون عندها ويعظمونها؛ والعكوف هو البقاء واللبث والإِقامة على الشيء في المكان، عبادة وتعظيمًا وتبركًا؛ وإنما عكفوا عندها لما كانوا يأملونه فيها من البركة، كما يعكف عباد القبور اليوم عندها ويجاورون؛ وتدفع الصدقات والنذور لتلك القبور.

فعبادتهم لها بالتعظيم والعكوف والتبرك، وبهذه الثلاثة: العكوف والتعظيم والتبرك عبدت الأوثان من دون الله.

أيها المسلمون:

تغير الاسم لا يغير الحقيقة، فدل على أن التبرك بالأشجار والأحجار شرك أكبر، لتسويته ﷺ‬ بين مقالتهم ومقالة بني إسرائيل، وحلف ﷺ‬ على ذلك وإن لم يُستحلف؛ مزيد تحذير، وكمال شفقة وتأكيدًا لهذا الخبر وتعظيمًا له، فإن التبرك بالأشجار والأحجار يجعلها آلهة وإن لم يسموها آلهة، فما يفعله من يعتقد فيها من التبرك بها، والعكوف عندها، والذبح لها هو الشرك الأكبر؛ وإن سمى عمله ما شاء من الأسماء فأهل هذه


الأزمنة يسمون شركهم توسلاً وتشفعًا، وهو من أعظم الشرك.

وفي الحديث علم من أعلام النبوة، وأن الشرك لا بد أن يقع في هذه الأمة، وفيه الخوف منه، وأن الإِنسان قد يستحسن شيئًا يظنه يُقربه إلى الله وهو أبعد ما يبعده، وفيه النهي عن التشبه بأهل الجاهلية وأهل الكتاب فيما كانوا يفعلونه، إلا ما دل الدليل على أنه من شرعنا، وأن ما ذم الله به اليهود والنصارى، فإنما قاله لنا لنحذره، فلا يجوز التبرك بالصالحين؛ لأن الصحابة لم يكونوا يفعلونه مع غير النبي ﷺ‬، لا أبي بكر - t - ولا غيره، ولا فعله التابعون مع قاداتهم في العلم والدين، وللنبي ﷺ‬ في حال حياته خصائص كثيرة، لا يصلح أن يشاركه فيها غيره، فلا يجوز أن يقاس عليه أحد من الأئمة لعدم المقاربة فضلاً عن المساواة له ﷺ‬ في الفضل والبركة، وعدم تحقق الصلاح فإنه لا يتحقق إلا بصلاح القلب، ولو ظننا صلاح شخص فلا نأمن أن يختم له بخاتمة سوء، ولأنه لا يؤمن أن يفتُن وتعجبه نفسه، ولا تبرك بالكعبة ولا غيرها، سدًا لذريعة الشرك، بل تنازع الفقهاء في وضع اليد على منبره ﷺ‬ لما كان موجودًا، فكرهه مالك وغيره لأنه بدعة، وذُكرِ أنه لما رأى عطاءً فعله لم يأخذ عنه العلم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون: 57 – 61].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أحمده - سبحانه - وأشكره وهو الحليم الشكور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله الشافع والمشفع يوم النشور، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الظلام والنور.

عباد الله:

أخبر الرسول ﷺ‬ عن وقوع الشرك في هذه الأمة مشابهة للأمم السابقة من اليهود والنصارى حيث عبدوا آلهة مع الله حيث قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم»، وهو خبر بمعنى الذم؛ وإنما قاله لنا ﷺ‬ لنخذره، وقد وقع الشرك في هذه الأمة كما أخبرنا ﷺ‬ به، وهذا علم من أعلام النبوة، فعُبَّاد القبور اليوم قد اتخذوها آلهة مع الله يعكفون عندها، ويتلمسون منها البركة، ويدفعون لها الصدقات والنذور، ويسألونها قضاء الحاجات كما يسألون ربهم.

ومن أسباب الوقوع في التبرك الممنوع:

أولاً: الجهل بالتوحيد وبما ينافيه ويضاده، فقَّل أن تجد من يتعلم التوحيد ويعلم أبناءه.

ثانيًا: الغلو في الصالحين والمبالغة في تعظيمهم، والواجب أن تكون محبة الأنبياء والصالحين باتباع ما دعوا إليه من العلم النافع، والعمل الصالح.


ثالثًا: التشبه بالكفار وقد ابتلي به كثير من الناس في الأزمنة المتأخرة لسهولة الإِتصال وضعف الدين.

رابعًا: تعظيم الآثار أو اعتقاد بركتها كبقعة أو زاوية أو قبر أو مشهد أو حجر، أو كغار حراء الذي كان النبي ﷺ‬ يتعبد فيه، وحجرة قبر النبي ﷺ‬، وأما الحجر الأسود فإنه لا يُتبرك به، وإنما يُتعبد لله باستلامه وتقبيله، كما قال عمر - t-: «إني أَعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله يُقبلك ما قبلتك». ولذلك لا يجوز أن يتجاوز في الحد المشروع وهو التقبيل والاستلام خلافًا لبعض الجهلة، يظنون أنه به بركة حسية، ولذلك إذا استلمه بعض هؤلاء أو استلم الركن اليماني مسح على بدنه تبركًا بذلك؛ وهذا جهل، فلا يشرع لمن استلمه أن يمسح على بدنه أو ولده.

فعلى المسلم أن يتفقه في الدين، ويعرف التوحيد من الشرك حتى لا يقع فيما يفسد عقيدته، جعلنا الله وإياكم من عباده المخلصين، ممن يعبده حق عبادته.

هذا وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([13])

الحمد لله، شرح بفضله صدور أهل الإِيمان بالهدى، وأضل من شاء بحكمته وعدله، فلن تجد له وليًا مرشدًا، أحمده - سبحانه - وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهًا واحدًا فردًا صمدًا، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، كرم أصلاً، وطاب محتدًا، خصه ربه بالمقام المحمود وسماه محمدًا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، هم النجوم بهم يهتدى، ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتدى.

أما بعد:

فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله - عز وجل-، اتقوا الله، وأصلحوا قلوبكم وسرائركم تسعدوا.

عباد الله:

الدين الإسلامي دين شامل كامل ارتضاه الله لعباده، ونسبه إلى نفسه: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ﴾ [آل عمران: 19]. فهو دين يشمل أمور الحياة كافة، أولها وأعظمها إفراد العبادة لله وحده لا شريك له في عبادته على هدى من سنة نبيه محمد ﷺ‬.

ومن تلك العبادات والطاعات التي أمر الله - عز وجل - بصرف التعبد بها له وحده، ما ذكره سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي


وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162].

أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين، الذين يعبدون غير الله، ويذبحون لغيره، ﴿إِنَّ صَلاَتِي﴾ أي: ذبحي، ﴿وَنُسُكِي﴾ والناسك: المخلص لله ﴿وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي﴾ أي: ما أحيا عليه وما أموت عليه، من الإيمان والعمل الصالح: ﴿لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ خالصًا لوجهه؛ ﴿لاَ شَرِيكَ لَهُ﴾ في شيء من ذلك، ولا في غيره من أنواع العبادة، فالصلاة أجل العبادات البدنية، والنسك أجل العبادات المالية، فمن صلى لغير الله فقد أشرك، ومن ذبح لغير الله فقد أشرك، والله - جل وعلا - تعبَّد عباده بأن يتقربوا إليه بالنسك، كما تعبدهم أن يتقربوا إليه بالصلاة، وإذا تقربوا إلى غيره بالذبح، فقد جعلوا له شريكًا في عبادته، وهو ظاهر في قوله: ﴿لاَ شَرِيكَ لَهُ﴾ نفي أن يكون لله شريك في هذه العبادات، ودلت هذه الآية على أن أقوال العبد وأفعاله الظاهرة والباطنة لا يجوز صرف شيء منها لغير الله، ومن صرف منها شيئًا لغير الله فقد أشرك، والقرآن كله يدل على ذلك.

والذبح عبادة من أجلَّ العبادات، وقربة من أفضل القربات المالية، فصرفه لغير الله شرك أكبر ناقل عن الملة، كمن يذبح لقبر أو شجرة، أو حجر، أو ملك، أو نبي، أو جني، أو لطلعة سلطان، أو لغير ذلك.

وقوله: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر: 2].

قال شيخ الإسلام: أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين، وهما الصلاة والنسك، الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن، وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إلى الله وإلى ما أعده، عكس حال أهل الكبر والنفرة وأهل الغنى عن الله، الذين لا حاجة لهم إلى ربهم، ولا ينحرون له خوفًا من الفقر، ولهذا جميع بينهما في قوله: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي﴾.


والنسك: الذبيحة لله ابتغاء وجهه ويدخل فيه ما ثبتت مشروعيته، وهي ثلاثة أشياء؛ الأضحية، والهدي، والعقيقة.

فالصلاة أجلَّ ما يتقرب به إلى الله، وما يجتمع للعبد في الصلاة، من الخشوع والذل والإِقبال لا يجتمع له في غيرها، كما يعرفه أهل القلوب الحية، وما يجتمع له عند النحر إذا قارنه الإِيمان والإِخلاص، من قوة اليقين، وحسن الظن أمر عجيب، فإنه إذا سمحت نفسه بالمال لله مع وقعه في النفس، ثم أذاق الحيوان الموت، مع محبته له، صار بذلك أفضل من بذل سائر الأموال، فدل على أنه عباده من أفضل العبادات، وكان ﷺ‬ كثير الصلاة، كثير النحر، وقد تضمنت الصلاة كثيرًا من أنواع العبادة؛ وكذا النسك تضمن أمورًا من العبادة التي لا يجوز صرف شيء منها لغير الله، ومن صرف منها شيئًا لغير الله فقد أشرك.

أيها المسلمون:

في الحديث الذي رواه مسلم عن النبي ﷺ‬ أنه قال: «لعن الله من ذبح لغير الله» واللعن: الطرد والإِبعاد عن رحمة الله.

قال شيخ الإِسلام: إن الله يلعن من استحق اللعنة بالقول، كما يصلي على من استحق الصلاة من عباده.

والذبح لغير الله له أمثلة كثيرة منها: من يذبح لقبر نبي، أو ولي، أو غيرهما، أو من يذبح للشياطين، أو الجن، طلبًا للشفاء كما يحدث عند السحرة، أو من يذبح في طريق السلطان تعظيمًا له، أو من يذبح للزيران والكواكب ونحوهم، أو من يذبح عند حفر بئر أو عتبة المنزل استرضاءً لشياطين الجن، أو لكف شرهم عن أهل المنـزل.

وسواءً أكان المذبـوح من بهيمة الأنعام، أو غير ذلك؛ فكله من الشرك


الأكبر، ويحرم الأكل من تلك الذبيحة أو الشرب من مرقها، أو استخدام جلدها، أو الانتفاع بها على أي وجه كان.

ثم قال ﷺ‬ في تتمة الحديث: «لعن الله من لعن والديه، لعن الله من أوى محدثًا».

ذكر الله - سبحانه وتعالى - حق الوالدين بعد حقه - سبحانه-، فقال في كتابه العزيز: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [النساء: 36] ولم يخص - سبحانه - نوعًا من أنواع الإِحسان إليهما ليعم جميع أنواعه من الاحترام والتقدير، وصلة الأقارب، والدعاء، وغير ذلك.

ولعن الوالدين من كبائر الذنوب، ويكون ذلك إما لعنًا مباشرًا: وهو أن يواجه الوالدين باللعنة.

أو بالتسبب، كأن يلعن الرجل أبا رجل آخر فيلعن أباه، وهذا من كبائر الذنوب، كما جاء في الحديث عن النبي ﷺ‬ أنه قال: «من الكبائر شتم الرجل والديه»، قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: «نعم؛ يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه».

ثم قال ﷺ‬: «لعن الله من أوى مُحِدثًا»، جاء الإِسلام بالعدل بين الناس ونصرة المظلوم وأخذ حقه من الظالم، فمن أوى مجرمًا يستحق العقاب ونصره، أو منع العقاب عنه كالقاتل أو السارق، فهو مُتوعد بلعنة الله؛ لما في ذلك من انتشار الظلم في المجتمع، كما جاء الإِسلام بالأمر باتباع السنة والنهي عن البدعة، فمن رضي بالبدعة، أو أقرَّ فاعلها أو نصره أو نشر كتابه البدعي فهو مُتوعد باللعنة أيضًا.

قال ابن القيم: هذه الكبيرة تختلف مراتبها باختلاف مراتب الحدث في نفسه، فكلما كان الحدث في نفسه أكبر كانت الكبيرة أعظم.


ثم لعن الرسول ﷺ‬ في الحديث: «من غير منار الأرض» وهذا من حرص الإِسلام على إقامة مجتمع متآلف لا نزاع فيه، فمَن غيَّر علامات حدود الأرض التي بينه وبين جاره فقدّم أو أخَّر ليغتصب من أرضه فقد ظلمه، وأوقع الناس في مخاصمات ونزاعات؛ تفت عضد المجتمع وتثير البغضاء والشحناء بين المسلمين، فتوعد الرسول ﷺ‬ من فعل ذلك باللعن، كما قال ﷺ‬ في الحديث المتفق عليه: «من أخذ شبرًا من الأرض فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين».

وكما يحث الإِسلام على التعاون وإرشاد التائه لئلا يضل في الطريق فيهلك، فإن من بدل العلامات التي توضع على الطريق فهو متوعد باللعنة أيضًا.

هذه هي الكبائر الأربع المتوعد صاحبها باللعن، فالذبح لغير الله شرك أكبر، ولعن الوالدين، وإيواء المحدث، وتغيير منار الأرض، من المعاصي المنقصة للتوحيد، فعلى المسلم أن يكون مجانبًا لها ولغيرها مما يوجب غضب الله ولعنته.

ويحرم - عباد الله - لعن أصحاب المعاصي إلا على وجه العموم فلا يقال للسارق: لعنك الله، بل يقال كما ورد في الحديث المتفق عليه: «لعن الله السارق» على وجه العموم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162 – 163].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.


الخطبة الثانية

الحمد لله الذي خلقنا لعبادته وتوحيده، ومنَّ علينا وتفضل بتسبيحه وتحميده، أحمده - سبحانه - وأشكره، وعد الشاكرين بمزيده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، أفضل رسله وأكرم عبيده، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله الذي خلقكم، واستعينوا على طاعته بما رزقكم، فربكم جّلت حكمته لم يخلقكم هملاً، ولم يترك أمركم في هذه الحياة مهملاً، بل خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً.

عباد الله:

إن نصوص الكتاب والسنة صريحة في الأمر بالذبح لله، وإخلاص ذلك لوجهه، كما هي صريحة بذلك في الصلاة، فقد قرن الله الذبح بالصلاة في عدة مواضع من كتابه.

وإذا ثبت أن الذبح لله من أجلِّ العبادات وأكبر الطاعات، فالذبح لغير الله كالذبح للجن والأضرحة والملائكة شرك أكبر مخرج عن دائرة الإِسلام، فإن حد الشرك الأكبر وتفسيره الذي يجمع أنواعه وأفراده: أن يصرف العبد نوعًا أو فردًا من أفراد العبادة لغير الله.


فكل اعتقاد أو قول أو عمل ثبت أنه مأمور به من الشارع: فصرفه لله وحده توحيد وإيمان وإخلاص، وصرفه لغيره شرك وكفر.

فعليك بهذا الضابط للشرك الأكبر، الذي لا يشذ عنه شيء.

كما أن حد الشرك الأصغر هو: كل وسيلة وذريعة يُتطرَّق منها إلى الشرك الأكبر من الإِرادات والأقوال والأفعال التي لم تبلغ رتبة العبادة.

فعليك بهذين الضابطين للشرك الأكبر والأصغر.

والذبح عبادة لا تكون إلا لله - عز وجل - ولا يذكر إلا اسمه عليه؛ فاحذروا أن تزل بكم القدم، فإن زللها خطير.

كما قال ﷺ‬: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك» [رواه البخاري].

هذا، وصلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين...


الخطبة الأولى([14])

الحمد لله القاهر بقدرته، الظاهر بعزته، والغالب بقوته، خلق الخلق على غير مثال، هو الأول ليس قبله شيء، وهو الآخر ليس بعده شيء، وهو الظاهر ليس فوقه شيء، وهو الباطن ليس دونه شيء، والمنشئ لما شاء بمشيئته، ولما سبق عنده في علمه، إذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن فيكون - سبحانه - جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه على ما يستحق ذلك من خلقه، وكما هو أهل لذلك في كبريائه، وعظمته، وجلاله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله للعالمين هدى ورحمة، وجعل رزقه تحت ظل رمحه، والعزة والنصر لمن أطاعه واتبعه، والذلة والصغار لمن خالف أمره، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله - عز وجل - فاتقوه - رحمكم الله - واعتصموا بحبله حق الاعتصام، واستمسكوا بالعروة الوثقى التي ليس لها انفصام، حبل الله الإِقرار بتوحيده، وأداء فرائضه، وإقامة حدوده، والتصديق بوعده ووعيده: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر: 7].

عباد الله:

أول ما يُقـرب العـبد إلى الله - تـعالى - ويجعله مهبطًا لرحمته؛ وأهلاً


لمغفرته، ومستحقًا لرضوانه، أن يؤمن بالخالق إيمانًا صادقًا لا يسمو إليه الشك، ولا تطير بجنباته الريب، وأن يوقن بأنه واحد لا شريك له، وأن يسلم وجهه إليه، ويدعوه تضرعًا وخفية لاجئًا ومعتصمًا به؛ مخلصًا له الدين حنيفًا؛ معتقدًا أنه وحده وليه ونصيره، وأن غيره لا يملك له ضرًا ولا نفعًا، وأن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوه لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، موقنًا أنه وحده الخالق الرازق الذي يدبر الأمر من المساء إلى الأرض، وأنه العليم الخبير الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه العزيز الحكيم، الذي لا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب، وأنه الذي يقسم الأرزاق بين عباده على مقتضى حكمته، وأن الفضل بيده يؤتيه من يشاء، لا معقب لحكمه، إليه يرجع الأمر كله، وإليه المصير.

فإذا آمن العبد بهذا كله؛ واستيقنته نفسه كان إيمانه ويقينه خير ما يقربه إليه، ويزلفه عنده، وكيف لا يقبل الله على من أقبل عليه؟ وكيف لا يرضى عمن رضي بقضائه وقدره؟ وكيف لا يعين من استعانه؟ وكيف لا يغيث من استغاثه؟ وكيف لا يجير من استجاره؟ وكيف لا يرحم من استرحمه؟ ولا يغفر لمن استغفره؟ ولا يرزق من استرزقه؟ وهو يقول وقوله الحق: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة: 186].

ويقول: ﴿وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ﴾ [النساء: 32] ويقول: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56]، ويقول: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: 152]. ويقول: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ﴾. ويقول: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2].


ويقول في الحديث القدسي الذي يرويه النبي ﷺ‬ عن ربه كما جاء في صحيح البخاري: «إذا تقرب إليَّ العبد شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإذا تقرب إليَّ ذراعًا تقربت إليه باعًا».

ويقول - جل وعلا - في الحديث القدسي أيضًا: «من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ ومن يستغفرني فأغفر له» [رواه مسلم].

عباد الله:

الإيمان بالله وحده أول القُرب الذي يزدلف بها العبد إلى ربه، وعليه تقوم صحة سائر العبادات، وبدونه لا تصح عبادة، ولا تقبل قربة.

قال - تعالى - في شأن الكافرين: ﴿ وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [الفرقان: 37].

وفي الحديث: عن طارق بن شهاب؛ أن رسول الله ﷺ‬ قال: «دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب».

أي: بسبب ذباب ومن أجله، ولعل هذين الرجلين من بني إسرائيل، فإن رسول الله ﷺ‬ كثيرًا ما يُحدِّث عنهم.

«قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟» كأنهم تقالوا هذا العمل، واستغربوه وتعجبوا منه، كيف بلغ الذباب إلى هذه الغاية التي بسببه دخل رجل الجنة ورجل دخل النار، أو احتقروه كيف كان تقريب الذباب سببًا لدخول الجنة أو النار، فاستفهموه ليبين لهم ما استغربوه، فبين لهم النبي ﷺ‬ ما صيَّر هذا الأمر الحقير عندهم عظيمًا، يستحق هذا عليه الجنة، ويستوجب الآخر عليه النار.

قال ﷺ‬: «مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجاوزه أحد حتى يقرب له شيئًا»، وإن قلّ، تعظيمًا لصنمهم، والصنم كما كان منحوتًا على صورة،


وعُبِّد من دون الله، ويطلق عليه الوثن، وكل ما عُبِّد من دون الله يقال له صنم، بل كل ما يشغل عن الله يسمى صنمًا، «ولا يجاوزه» أي: لا يمر به ولا يتعداه حتى يقرب له شيئًا.

«قالوا لأحدهما: قرِّب، قال: ليس عندي شيء أقرب، [يعني للصنم] قالوا: قرِّب ولو ذبابًا، فقرب ذبابًا فخلوا سبيله فدخل النار؛ وقالوا للآخر: قرّب، قال: ما كنت لأقرب لأحد شيئًا دون الله - عز وجل ـ».

هذا محل اختبار ومحك اعتبار: الأول: احتج بالعدم «ليس عندي شيء أُقرب» يدل كلامه على أن عنده استعداد نفسي وهو وإن كان مسلمًا فإنه ليس ذو إيمان راسخ، فلما عرفوا موافقته بالذبح لغير الله واعتذر، طمعوا فيه بأيسر شيء «قالوا: قرب ولو ذبابًا» لأن قصدهم موافقتهم على ما هم عليه من الشرك «فقرب ذبابًا فخلوا سبيله، فدخل النار» بسبب قربانه الذباب للصنم، لأنه قصد غير الله بقلبه، وانقاد بعمله فوجبت له النار، ففيه بيان خطورة الشرك ولو في شيء قليل؛ وأنه يوجب النار لقوله: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ﴾ [المائدة: 72] فإذا كان هذا فيمن قرب ذبابًا، فكيف لمن يستسمن الإِبل والغنم وغيرهما، ليتقرب بنحرها لمن كان يعبده من دون الله، وأن الإنسان قد يقع فيه وهو لا يدري، والحذر من الذنوب وإن كانت صغيرة في الحسبان، كما قال أنس - t-: إنكم تعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله ﷺ‬ من الموبقات، وفيه أنه دخل النار بسبب لم يقصده ابتداءً، وإنما فعله تخلصًا من شر أهل الصنم، وفيه أنه كان مُسلمًا ولكنه ليس ذو إيمان راسخ، وإلا لم يقل دخل النار في ذباب، وفيه أن عمل القلب هو المقصود الأعظم، حتى عند عبدة الأوثان.


أما الآخر: أبى عليهم، وبادأهم بالإِنكار، وَعَظُم عليه أن يقرب لصنمهم شيئًا، ونفر من الشرك، وصرح بإِخلاص العبادة لله - عز وجل-.

«فضربوا عنقه فدخل الجنة» [رواه أحمد].

ضربوا عنقه لامتناعه عن التقريب لغير الله، إيمانًا واحتسابًا وإجلالاً وتعظيمًا لله، ففيه بيان فضيلة التوحيد والإِخلاص، وتفاوت الناس في الإِيمان.

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله-: وفيه معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين، كيف صبر على القتل، ولم يوافقهم على طلبهم، مع كونهم لم يطلبوا منه إلا العمل الظاهر، ودل الحديث على أن الذبح عبادة، وأن صرفه لغير الله شرك، وأن الذابح لغير الله يكون من أهل النار.

عباد الله:

إن الشرك خطير شأنه، عظيم قبحه ولو كان في شيء حقير، وأنه يوجب دخول النار، قال - تعالى-: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا للظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ [المائدة: 72]. والمسلم يجود بنفسه دون الوقوع فيه.

ففي الحديث امتنع الرجل الآخر من التقرب لغير الله بالذبح إيمانًا واحتسابًا، وتعظيمًا لله، فصبر على القتل فدخل الجنة، فهذا دليل على أن التوحيد يوجب الجنة، وأن الشرك يوجب النار، كما فيه دلالة على قرب الجنة والنار، قال ﷺ‬: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك» [رواه البخاري].

وفي ذلك ترغيب وترهيب، ترغيب في السعي إلى الجنة، وكل ما قرب إليها، وترهيب وتحذير من النار، وكل ما قرب إليها، ومنه بيان فضيلة التوحيد والصبر عليه - نسأل الله الجنة، ونعوذ به من النار-.


فالتقرب إلى غير الله شرك أكبر مهما كان الشيء المُتقرب به، فإن الرجل الأول المذكور في الحديث قد قرب شيئًا حقيرًا لا يؤكل لكنه كان تعظيمًا للصنم الذي مر عليه، فخلى القوم المشركون سبيله، فدخل النار، فإذا كان هذا فيمن قرب ذبابًا فكيف بمن يقدم الإِبل والغنم وغيرهما ليقترب بذبحها إلى غير الله من قبر نبي، أو ولي، أو غير ذلك؟! وربما اكتفى بعضهم بذلك عن الأضحية لشدة تعظيمه لمن يعبده من دون الله.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ [الكوثر: 1-3].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله، ملأ بنور الإِيمان قلوب أهل السعادة، فأقبلت على طاعة ربها منقادة، فحققوا حسن المعتقد، وحسن العمل، وحسن الرضا، وحسن العبادة، أحمده - سبحانه - وأشكره، وقد أذن لمن شكره بالزيادة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تبلغ صاحبها الحسنى وزيادة، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، المخصوص بعموم الرسالة وكمال السيادة.

صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها الناس؛ أوصيكم ونفسي بتقوى الله - عز وجل - فتقواه خير زاد، وهي نعم العدَّة ليوم المعاد.

عباد الله:

لا يُغني الإِنسان أن يؤمن بوجود الله - سبحانه وتعالى - حتى يعتقد اعتقادًا يهيمن على وجوده أنه لا إله غيره.

فالكفار والمشركون كانوا يقرون بوجود الله، ويعتقدون أنه: الخالق، الرازق، مدبر الأمر، ومنـزل القطر، وكفى بالقرآن على ذلك شهيدًا.

قال - تعالى - في سورة يونس: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ [سبأ: 24].

وقال - تعالى - في سورة العنكبوت: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [العنكبوت: 61].

وقال تعالى في سورة العنكبوت أيضًا: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء


مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [العنكبوت: 63].

فهؤلاء الكفار والمشركون كانوا يقرون بوجود الله - تعالى-، ويعزون إلى قدرته هذه الأعمال الباهرة، والتي يعترفون صاغرين بأن آلهتهم لا تقوى على شيء منها.

فما نشأ كفرهم من إنكار وجود الله، ولكن من أنهم كانوا يدعون غيره، ويشركون به مع اعترافهم بوجوده، وإقرارهم بعظيم قدرته.

جاء الإِسلام ليصرف الناس عن كل معبود باطل، وتجمع قلوبهم على إله واحد لا شريك له: يُجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويدبر الأمر، ويعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور.

فمن أعظم الوسائل وأجداها نفعًا أن يدعو المسلم ربه تضرعًا وخفية، وأن يفزع إليه في حاجته، وأن يرغب إليه في كشف الملمات عنه، وألا يرى في الوجود قوة تملك له منه نفعًا ولا ضرًا إلا هو - سبحانه-.

فأقبل على ربك، بحواسك كلها، ومشاعرك كلها، وضميرك كله، وقلبك كله، ووجدانك كله، يُحببك، ويرض عنك، ويستجب لك.

واحذر أن يخدعك الجاهلون بوسائلهم الباطلة، وتصرف أنواعًا من العبادة لهم كالذبح أو غيره، فإنها لن تُغني عنك من الله شيئًا، بل تبعدك عن ربك.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([15])

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70 – 71].

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله - حق التقوى، واستمسكوا من الإِسلام بالعروة الوثقى، واحذروا غضب الجبار، فإن أجسامكم على النار لا تقوى، وعليكم بجماعة المسلمين فكونوا يدًا واحدة مع الخير وأهله.

عباد الله:

بُنيت الشريعة على جلب المصالح ودرء المفاسد، وسدت كل الوسائل والطرق والأبواب التي قد تُفضي إلى المنكرات والمحرمات. فمنعت مشابهة المشركين في الظاهر؛ لأنها تورث المحبة في الباطـن، وفي هـذا الـزمن ظهر


هذا الأمر وانتشر، واستشرى واستفحل، مع تحذير النبي ﷺ‬ من هذا الأمر الخطير.

ومن ذلك تحريم الذبح لله بمكان يُذبح فيه لغير الله؛ لأن ذلك فيه مشابهة ومضارعة للمشركين ظاهرة في المكان، وهو منهي عنه، كما في الحديث: «من تشبه بقوم فهو منهم» [رواه أحمد] ولو قصد الذابح وجه الله، لأنه إحياء للمحل الشركي، وتعظيم له، فيكون وسيلة إلى وجود الشرك ورجوعه، وسد الذرائع من أهم ما جاءت به الشريعة، بل لا يجوز بعدًا عن الشرك ومواضع الغضب.

قال شيخ الإسلام - رحمه الله-: إن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبًا وتشاكلاً بين المتشابهين، يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس، فإن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمام إليهم، واللابس لثياب الجند المقاتلة مثلاً يجد من نفسه نوع تخلق بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضيًا لذلك إلا أن يمنعه مانع...

ثم قال: ومنها أن مشاركتهم في الهدي الظاهر توجب الاختلاط الظاهر، حتى يرتفع ظاهرًا بين المهديين المرضيين وبين المغضوب عليهم والضالين، إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية، هذا إذا لم يكن ذلك الهدي الظاهر إلا مباحًا محضًا لو تجرد عن شابهتهم، فأما إن كان من موجبات كفرهم كان شعبة من شعب الكفر، فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع معاصيهم، فهذا أصل ينبغي أن يُتفطن له.

عباد الله:

قال - سبحانه وتعالى-: ﴿لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة: 108].


هذه الآية خطاب للنبي ﷺ‬ ألا يُصلي في مسد الضرار، وكان بناه جماعة من المنافقين مضارة لمسجد قباء وكفرًا بالله ورسوله، ﴿وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ﴾ [التوبة: 107]، وهو أبو عمرو الفاسق، وكان بناؤه قبل خروج النبي ﷺ‬ إلى تبوك، فسألوه أن يُصلي فيه رجاء بركة صلاته، وذكروا أنهم بنوه للضعفاء وأهل العلة في الليلة الشاتية، فقال ﷺ‬: «إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله» فلما قفل ولم يبق بينه وبين المدينة إلا يوم أو بعضه، نزل الوحي بخبر المسجد، فبعث إليه ﷺ‬، وهدمه وحرقه قبل قدومه، وهذا المسجد - عباد الله - لما أُسس على معصية الله والكفر به، صار محل غضب، فنهى الله - سبحانه - نبيه ﷺ‬ أن يقوم فيه، لوجود العلة المانعة، وهو ﷺ‬ لا يُصلي إلا لله، فكذلك المواضع المعدة للذبح لغير الله يجب اجتناب الذبح فيها لله فالمعصية قد تؤثر في الأرض، وكذا الطاعة تؤثر في الأرض، فالصلاة في المسجد القديم أفضل من الجديد.

وفي قوله - عز وجل-: ﴿لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ﴾، حث على الصلاة في مسجد قباء الذي أسس من أول يوم بُني على التقوى، وهي طاعة الله ورسوله، وجمعًا لكلمة المسلمين، ومعقلاً للإِسلام وأهله، وكان ﷺ‬ يزوره، وفي الصحيح أنه ﷺ‬ قال: «صلاة في مسجد قباء كعمرة».

وقوله - تعالى-: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ﴾ لما أتاهم النبي ﷺ‬ فيه فقال: «ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به؟» قالوا: ما نعلم إلا أنه كان لنا جيران من اليهود، فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا؛ فقال: «هو ذاك فعليكموه» ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ الذين ينتزهون من القذارات والنجاسات، بعدما يتطهرون من أوضار الشرك وأقذاره.


أيها المسلمون:

قال الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله-: أنَّه لما كان مسجد الضرار مما اتخذ للمعاصي ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين؛ نهى الله رسوله أن يقوم فيه، مع أن صلاته فيه لله؛ فدل على أنَّ كلَّ مكان يُعصى الله فيه أنَّه لا يقام فيه، فهذا المسجد متَّخذ للصلاة، لكنَّه محل معصية؛ فلا تُقام فيه الصلاة. وكذا لو أراد إنسان أن يذبح في مكان يُذبح فيه لغير الله كان حرامًا؛ لأنه يشبه الصلاة في مسجد الضرار، وقريب من ذلك النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ لأنَّهما وقتان يسجد فيهما الكفار للشمس؛ فهذا باعتبار الزمن والوقت، والحديث باعتبار المكان.

وفي الحديث عن ثابت بن الضحاك قال: نذر الرجل أَن ينحر إبلاً ببوانة، فقال النبي ﷺ‬: «هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يُعبد؟» قالوا: لا.

ثم سأله النبي ﷺ‬: «فهل كان فيها من أعيادهم؟» قالوا: لا، فقال رسول الله ﷺ‬: «أوف بنذرك».

يذكر راوي الحديث أن رجلاً نذر لله ن ينحر إبلاً في مكان يُسمى (بُوانة)، فسأل رسول الله ﷺ‬ عن نذره هذا؛ فاستفصل الرسول ﷺ‬ عن ذلك المكان: هل سبق أن وجد فيه شيء من معبودات المشركين وأوثانهم؟ أو سبق أن المشركين أقاموا فيه عيدًا من أعيادهم؟ فلما علم النبي ﷺ‬ بخلو هذا المكان من تلك المحاذير أمره بالوفاء بنذره، وفي هذا دلالة على أن الذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله من وسائل الشرك، وعلى المسلم البعد عن ذلك سدًا لباب الشرك؛ فمشابهة المشركين في الظاهر تورث المحبة في الباطن.


والحكمة من تحريم الذبح لله بمكان يُذبح فيه لغير الله: مشابهة المشركين؛ قال ﷺ‬: «من تشبه بقوم فهو منهم» [رواه أحمد].

وكذلك حتى لا يُعظم هذا المكان ويحيا ما اندرس فيه من الشرك.

وكذلك تقوية المشركين على فعلهم إذا رأوا من يفعل مثلهم.

إن الواجب على المسلم ألا يذبح لله بمكان يُذبح فيه لغير الله إتباعًا لما أمر به ﷺ‬ من وجوب البعد عن مشابهة المشركين في أفعالهم سدًا لباب الشرك، وحماية التوحيد.

ثم قال ﷺ‬: «فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم».

عباد الله:

لا يجوز الوفاء بنذر المعصية، كما لو نذر أن يذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله، أو أن لا يكلم أخاه، ولا يزوره؛ ويلزم صاحبه كفارة يمين.

وكذا لا وفاء لنذر في شيء لا يملكه ابن آدم، كأن يقول: لله على نذر إن شفى الله مريضي أن أتصدق بمال فلان.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162، 163].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله الملك الحق المبين، أحمده - سبحانه - وأشكره، تفرد بالربوبية والألوهية على خلقه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الله لا إله إلا هو، فادعوه مخلصين له الدين، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، المبعوث بالحنيفية ملة إبراهيم، فصدع بها وأوضحها، وقوَّض خيام الملاحدة والمشركين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن مما يؤسف له أن هناك من ينتسب إلى الإِسلام اندثرت عنده معالم الحنيفية، وسرت فيه شوائب لوثت عقيدة التوحيد، وكدرت صفاءها، وزعزعت خلوصها ونقاءها، فصرف أنواعًا من العبادة لغير الله، قصد أضرحة الموتى في مناسبة أو غير مناسبة، يعكفون عندها، يتعبدون وينذرون ويلهجون بالأدعية باكين مستصرخين، يرجون عندها كشف الضرِّ، وجلبي النفع، وشفاء المرضى، وردَّ الغوائب، وإن مدخل الشيطان في هذا لعريض، وإن مسالكه فيه ملتوية.

يوضح ذلك ابن القيم - رحمه الله - حيث يقول: ما زال الشيطان يوحي إلى بعض الناس ويلقي إليهم: أنَّ البناء والعكوف على القبور من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من مرتبة الدعاء عندها إلى مرتبة الدعاء بها، ثم لا يزال بهم حتى ينقلـهم إلى مرتبة دعائهم من دون الله، وسؤالهم الشفاعة من دون الله، واتخاذ


قبورهم أوثانًا تعلق عليها القناديل والستور، ويطاف بها، ويقبل ويتمسح ويذبح عندها، ثم يتطور الأمر إلى أن يدعو الناس إلى عبادتها واتخاذها عيدًا ومنسكًا.

اللهم إنا نسألك الإِخلاص في عبادتك، وفق شرع محمد ﷺ‬.

هذا، وصلوا...


الخطبة الأولى([16])

الحمد لله، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين، أحمده - سبحانه - وأشكره، وأتوب إليه واستغفره، رب السموات ورب الأرض رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، حَمى حِمى التوحيد، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك، وبلغ البلاغ المبين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه الغر الميامين، آمنوا بربهم وأخلصوا له واستقاموا على أمره فأنجز لهم ما وعدهم عزًا في الدنيا وحسن ثواب في الآخرة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فأوصيكم ونفسي، بتقوى الله - عز وجل-، فتقوى الله أكرم ما أسررتم وأجمل ما أظهرتم، وأفضل ما ادخرتم، نسأل الله الإِعانة على لزومها والثبات عليها.

عباد الله:

لم يخلق الله الخلق ليتقوى بهم من ضعف، ولا ليتعزز بهم من ذلة، ولا ليستكثر بهم من قلة، فهو المُنعم المتفضل، وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير، خلقهم لعبادته وطاعته، ليعبدوه ولا يشركوا به شيئًا.

ومن أنواع العبادة النذر؛ وهو أن يوجب المُكلف على نفسه شيئًا لم يكن واجبًا عليه بأصل الشرع.


وقد مدح الله الذين يتعبدون له بما أوجبوه على أنفسهم من الطاعات، وهو - سبحانه - لا يمدح إلا على فعل واجب أو مستحب، أو ترك محرم، وذلك هو العبادة، قال الله - تعالى-: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ [الإنسان: 7].

مدح الله - سبحانه المؤمنين الموفين بنذرهم؛ خلاف من ينذر ثم يتقاعس ويخلف، فدل ذلك على أنه عبادة.

وقال - تعالى-: ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ﴾ [البقرة: 270].

من سعة علم الله - جل وعلا - واطلاعه على جميع الأعمال يخبر - تعالى - أن ما أنفقناه من نفقة أو نذرناه من نذر، متقربين به إليه، أنه يعلمه، ويجازينا عليه؛ فدل ذلك على أنه عبادة.

وفي قوله - تعالى-: ﴿فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ﴾ إثبات صفة العلم لله - تعالى - على ما يليق بجلاله وعظمته.

وينقسم النذر إلى قسمين: الأول: نذر طاعة؛ وهو إلزام العبد نفسه بنذر فيه طاعة وقربة لله - تعالى-، والواجب على المسلم الوفاء به للحديث الذي روته أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله ﷺ‬ قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» [رواه مسلم].

وينقسم النذر إلى نذر مطلق ونذر مقيد، فالنذر المطلق: مطلقًا ليس له سبب: كأن يقول: «لله على أن أصوم ثلاثة أيام».

ونذر مقيد له سبب: كأن يقول: «لله علي إن شَفَى مريضي أن أصوم ثلاثة أيام».

ويكره للمسلم أن ينذر ابتداءً لقوله ﷺ‬: «إن النذر لا يأتي بخير إنما يستخرج به من البخيل» [رواه البخاري ومسلم].

فعلى المسلم إذا أراد أن يفعل خيرًا فليفعله دون أن يلزم نفسه، والإِنسان


الذي لا يفعل الطاعة إلا بنذر فمعنى ذلك أن الطاعة ثقيلة عليه، أما إذا ظن أن الله لا يقضي حاجته إلا بنذر ففي ذلك سوء ظن بالله، إذ هو - سبحانه - المتفضل على عباده آناء الليل وأطراف النهار.

الثاني من أقسام النذر: نذر معصية: وهو إلزام العبد نفسه بنذر فيه معصية لله - سبحانه وتعالى-.

وهذه القسم يحرم الوفاء به، كما قال ﷺ‬: «ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» مثاله: كمن يقول: نذرت ألا أكلم أخي.

والنذر عبادة لله من صرفها لغيره فقد وقع في الشرك الأكبر، مثل أن ينذر شيئًا من ذبح بهيمة، أو تقديم طعام، أو شراب، أو شمع، أو بخور لقبر نبي، أو ولي، أو غير ذلك، فهذا كله من التقرب للأموات، وهو من الشرك الأكبر المخرج من الملة الموجب للخلود في النار، قال - تعالى-: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا للظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ [المائدة: 72].

قال الفقهاء: خمسة لغير الله شرك: الركوع والسجود والنذر والذبح واليمين، والحاصل أن النذر لغير الله فجور. فمن أين تحصل لهم الأجور. قال شيخ الإسلام: وما نذره لغير الله كالأصنام والشمس والقمر ونحو ذلك، بمنزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات، لا وفاء عليه ولا كفارة؛ وكذلك الناذر للمخلوق ليس عليه وفاء، فإن كليهما شرك، والشرك ليس له حرمة، بل عليه أن يستغفر الله، ويقول ما أمر به النبي ﷺ‬: «من حلف وقال في حلفه: واللات والعزى؛ فليقل لا إله إلا الله» [متفق عليه].


عباد الله:

إذا قامت الأقوال والأعمال على ساق التوحيد أثمرت وأينعت وآتت أكلها وعادت بالخير والبركة على صاحبها في الدينا والآخرة، أما إذا خالطت الأقوال والأعمال شائبة من شرك كدَّرت صفوها، وسلبتها خيرها وعادت وبالاً ونكالاً على صاحبها في الدنيا والآخرة، وليس هناك أحسر ولا أخسر على العبد من أن يوافي ربه يوم القيامة بأعمال أمثال الجبال خالطها الشرك فيجعلها الله هباءًا منثورًا.

قال ابن القيم - رحمه الله-: وقد قال - تعالى-: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا﴾ [الفرقان: 23] فهذه هي الأعمال التي كانت في الدنيا على غير سنة رسله وطريقتهم ولغير وجهه، يجعلها الله هباءً منثورًا، لا ينتفع منها صاحبها بشيء أصلاً؛ وهذا من أعظم الحسرات على العبد يوم القيامة: أن يرى سعيه كله ضائعًا لم ينتفع منه بشيء وهو أحوج ما كان العامل إلى عمله، وقد سعد أهل السعي النافع بسعيهم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله المحمود على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل الضلال، أحمده - سبحانه - وأشكره، وأسأله المزيد من فضله وكرمه والتوفيق في الحال والمآل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، كريم المزايا وشريف الخصال، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه خير صحب وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله - حق التقوى، واستمسكوا من الإِسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أقدامكم وأجسامكم على النار لا تقوى، وعليكم بلزوم جماعة المسلمين إمتثالاً لأمر ربكم.

أيها المسلمون:

إن مع الحياة موتًا، وإن مع الدنيا آخرة، وإن لكل شيء حسيبًا وعلى كل شيء رقيبًا، وإن كل حسنة ثوابًا ولكل سيئة عقابًا، وإن لكل أجل كتابًا، ولا بد من قرين يدفن معك وهو حي وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريمًا أكرمك، وإن كان لئيمًا أساء لك، ثم لا يحشر إلا معك، ولا تبعث إلا معه، ولا تسأل إلا عنه، فلا تجعله إلا صالحًا، فإن كان صالحًا لم تستأنس إلا به؛ وإن كان سيئًا لم تستوحش إلا منه؛ وهو عملك، فأكثر من صالح العمل واستقم على دينك وصابر على تقويته، واجتنب نواهيه وأتمر بأوامره، واستمسك بأصل دينك، وقم بلوازمه، وتسلح بالعلم والإيمان والعمل الصالح، واتعظ بقـوارع العبر، وتدبر مواعظ القرآن فإنهن صوادق


الخبر، واذكر الله طوال دهرك، فذكره لا فرغ له وانقضاء، وأكثر من الاستغفار على التقصير، واشكر الله على التوفيق.

ثم صلوا وسلموا علي خير خلق الله محمد بن عبد الله فقد أمركم بالصلاة والسلام على نبيه...


الخطبة الأولى([17])

الحمد لله، نصب للكائنات على ربوبيته براهين وحججًا، فمن شهد له بالوحدانية، وآمن بلقائه، واستعد لمعاده أفلح ونجا، أحمده - سبحانه - وأشكره، وأتوب إليه واسنغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة الحق واليقين والخوف والطمع والمحبة والرجاء، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله أنزل عليه الكتاب، ولم يجعل له عوجا، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، أنوار الهدى ومصابيح الدجى، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله - عز وجل - ﴿وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحشر: 18]، ﴿وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].

أيها المسلمون:

لقد كان الناس أمة واحدة على الحق بما أودع الله فيهم من فطرة الإِسلام وبما عهد إليهم من الهدى والبيان، فلما طال عليهم الأمد اندثرت عندهم معالم الحنيفية، وَسَرَت فيهم شوائب لوثت العقيدة، وكدرت صفاءها ونقاءها، فوقعوا في الشرك وصرفوا أنواعًا من العبادة لغير الله، فتمزقت وحدتهم واختلفت كلمتهم، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وبعث نبينا محـمد ﷺ‬ إلى أمـة كـانت


تعيش في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء؛ الشرك أساس دينها، والأوثان أربابها وساداتها، فدعاهم إلى الدين الحنيف الذي قامت عليه الأدلة وأوضحته الآيات وأثبتته البراهين.

والعقيدة - عباد الله - يخاطب بها المؤمنون ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم، كما قال - تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ﴾ [النساء: 136] وليطمئنوا إلى تحقيق دينهم وليحذروا النقص أو الخلل فيه؛ بل لقد خاطب الله أنبياءه ورسله بنبذ الشرك والبراءة منه ومن أهله - وحاشاهم أن يفعلوا ذلك - فقال - جل وعلا-: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا﴾ [الحج: 26] وقال - عز وجل - لصفوة خلقه محمد ﷺ‬: ﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [القصص: 87] وقال له أيضًا: ﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾ [الشعراء: 213].

وخوطب بها أيضًا أهل الضلالة ليسلكوا طريق الهدى، فقال جل شأنه: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64].

ولا غرو في ذلك - أيها المسلمون - فإفراد الله بالعبادة أصل الدين وملاك الأمر، عليه نصبت القبلة وأسست لملة، إنه أول أمر في كتاب الله، والنهي عن الشرك أول نهي في كتابه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 21، 22].


عباد الله:

أمر الله - سبحانه وتعالى - عباده بالاستعاذة به؛ لأنها عبادة من العبادات، قال - تعالى-: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ [الفلق: 1، 2] وقال - تعالى-: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ [الناس: 1].

ومعنى الإِستعاذة: الالتجاء والاعتصام بالله - سبحانه-، وحقيقتها الهرب من شيء تخافه، إلى من يعصمك منه، فالعياذ لدفع الشر، وأما اللياذ فطلب الخير.

وهي تعظيم لله - سبحانه وتعالى - فالمستعيذ يشعر بالخوف فيلجأ إلى المستعاذ به حتى يقيه ويحفظه، وهذا هو التعظيم بعينه، والتعظيم عبادة لله وحده.

أيها المسلمون:

الاستعاذة بغير الله شرك أكبر ينافي التوحيد: فإن من استعاذ بغير الله فقد وقع في الشرك الأكبر؛ كالذي يأتي إلى الأموات من الأنبياء، أو الصالحين، أو غيرهم، ويطلب منهم أن يحموه ويحفظوه من الآفات والشرور، ولو لم ينطق بكلمة (أعوذ).

فالعائذ بالله قد هرب إليه، واعتصم واستجار به، ولجأ إليه، والتزم بجنابه مما يخافه، وهذا تمثيل، وإلا فما يقوم بالقلب من ذلك أمر لا تحيط به العبارة؛ وقد أمر الله عباده بها في مواضع من كتابه، وتواترت بها السنة عن المعصوم ﷺ‬ وهي عبادة من أجلِّ العبادات.

قال - تعالى-: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾ [الجن: 6].

أخبر عمن استعاذ بخلقه، أن استعاذته زادته رهقًا وهو الطغيان، وذلك


أن الرجل من العرب في الجاهلية كان إذا نزل واديًا أو مكانًا موحشًا وخاف على نفسه، قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فلما رأت الجن أن الإِنس يعوذون بهم خوفًا منهم، زادوهم رهقًا، أي خوفًا وإرهابًا وذعرًا، فذمهم الله بهذه الآية وأخبر أنهم يزيدونهم رهقًا نقيض قصدهم.

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله-: فيه أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية من كف شر أو جلب نفع لا يدل على أنه ليس من الشرك.

عباد الله:

قال ﷺ‬: «من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك» [رواه مسلم].

شرع الله سبحانه للمسلمين أن يستعيذوا بأسمائه وصفاته، بدلاً مما يفعله أهل الجاهلية؛ فالإِستعاذة بالله تورث الأمن، فالله هو الحافظ لعباده من كل مكروه وبلاء، وقد علمنا الرسول ﷺ‬ أن من نزل منزلاً في السفر والحضر فقال: «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق» أي: ألتجأ وأعتصم بكلام الله الذي لا يلحقه نقص ولا عيب من شر كل مخلوق قام به الشر من إنس، أو جن، أو دابة.

قال هذا الدعاء بلسانه وقلبه، مع الإيمان بوعد الله والتصديق بهذا الأثر العظيم «لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك» [رواه مسلم].

أي: حفظه الله ووقاه من الشرور حتى يرحل منه.

قال القرطبي - رحمه الله-: هذا خبر صحيح علمنا صدقه دليلاً وتجربة، منذ سمعته عملت به فلم يضرني شيء إلى أن تركته فلدغتني عقرب ليلة فتفكرت فإذا بي قد نسيته.


فحري بنا المحافظة على هذا الدعاء العظيم ذي الأثر الكبير.

وقال الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله-: قوله: «لم يضره شيء»: هذا خبر لا يمكن أن يتخلف مخبره؛ لأنَّه كلام الصادق المصدوق، لكن إن تخلف؛ فهو لوجود مانع لا لقصور السبب وتخلف الخبر.

وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - عن دعاء نزول المنزل: فيه فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره.

ونظير ذلك كل ما أخبر به النبي ﷺ‬ من الأسباب الشرعية إذا فعلت ولم يحصل المسبب؛ فليس ذلك لخلل في السبب، ولكن لوجود مانع مثل: قراءة الفاتحة على المرضى شفاء، ويقرأها بعض الناس ولا يشفى المريض، وليس ذلك قصورًا في السبب، بل لوجود مانع بين السبب وأثره، ومنه: التسمية عند الجماع؛ فإنَّها تمنع ضرر الشيطان للولد، وقد توجد التسمية ويضر الشيطان الولد؛ لوجود مانع يمنع من حصول أثر هذا السبب، فعليك أن تفتش ما هو المانع حتى تزيله فيحصل لك أثر السبب.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله المتعالي في مجده وملكه، أحمده - سبحانه - وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ومن شر الشيطان وشركه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: أيها المسلمون:

أمرنا الله - عز وجل - بالاستعاذة به في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ والفلق: الصبح، والغاسق: فُسر بالليل المظلم، حيث انتشار شياطين الإنس والجن ما لا تنتشر بالنهار، ويجري فيه من أنواع الشر ما لا يجري بالنهار، من أنواع الكفر والفسوق، والعصيان، والسحر، والسرقة، والخيانة، والفواحش؛ وغير ذلك، فذكر - سبحانه - في الآية الاستعاذة به من شر الخلق عمومًا ثم خص الأمر بالاستعاذة من شر الغاسق إذا وقب، ثم خص بالذكر السحر والحسد.

فإن فالق الإصباح بالنور يزيل بما في نوره من الخير ما في الظلمة من الشر، وفالق الحب والنوى بعد انعقادهما يزيل ما في عقد النفاثات.

وأمرنا كذلك في سورة الناس بالاستعاذة به أو الإِلتجأ إليه، فقال تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِـن شَرِّ الْوَسْوَاسِ


الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ﴾.

فالمقصود أن يستعيذ الناس بربهم وملكهم وإلههم من شر ما يوسوس في صدورهم، فإنه هو الذي يُطلب منه الخير الذي ينفعهم، ويُطلب منه دفع الشر الذي يضرهم.

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله-: سورة الفلق استعاذة بالله من الشرور الخارجية لكيد الإِنسان والجن وغيرهما، وسورة الناس استعاذة بالله من الشرور الداخلية كالوساوس والأمراض.

ولما نزلت هاتين السورتين، قال ﷺ‬: «ما تعوذ متعوذ بمثلهما» [رواه أبو داود].

ولهذا شرعت هاتين السورتين، في أذكار الصباح والمساء، فحري بالمسلم المحافظة عليهما مع غيرهما من الأذكار المشروعة.

ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه....


الخطبة الأولى([18])

الحمد لله خلق فسوى، وقدر فهدى، أضحك وأبكى، وأسعد وأشقى، أحمده - سبحانه - وأشكره، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله الأبر الأتقى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه آمنوا بربهم، وصدقوا بالحسنى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله أيها الناس، واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله.

عباد الله:

الإنسان في هذه الدنيا تطرقه النوازل، وتمر عليه المصائب، وهو العبد الضعيف المسكين يحتاج إلى ركن يأوي إليه، وملجأ يفر له، وذلك لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى؛ فهو كاشف الكروب، ومفرج الهموم، وهو الذي يُلجًا إليه، ويُستغاث به؛ فبيده مقاليد الأمور، وعنده خزائن السموات والأرض، ومن الناس من يصرف هذه العبادة العظيمة لغير الله فيقع في الشرك الأكبر.

والاستغاثة - رحمكم الله-: هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، ولا تكون إلا من مكروب، وقد استغاث النبي ﷺ‬ بربه يوم بدر لما نظر إلى كثرة المشركين فأمده الله بالنصر، قال - تعالى-: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ﴾ [الأنفال: 9].


والاستغاثة قسمان: الأول: استغاثة محرمة؛ وهي الاستغاثة بميت، أو غائب، أو حي حاضر فيما لا يقدر عليه؛ وهذا شرك أكبر.

الثاني: استغاثة جائزة؛ وهي الاستغاثة بالحي الحاضر فيما يقدر عليه كما في قوله - تعالى-: ﴿ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ﴾ [القصص: 15].

قال الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله-: وإذا طلبت من أحد الغوث وهو قادر عليه، فإنه يجب عليك تصحيحًا لتوحيدك أن تعتقد أنه مجرد سبب، وأنه لا تأثير له بذاته في إزالة الشدة؛ لأنك ربما تعتمد عليه وتنسى خالق السبب، وهذا قادح في كمال التوحيد.

عباد الله:

نهى الله - سبحانه - نبيه محمدًا ﷺ‬ أن يدعو أحدًا من دونه من سائر المخلوقين العاجزين عن إيصال النفع ودفع الضر، والنهي عام لجميع الأمة،

ولكن خاطب الله - تعالى - به نبيه ﷺ‬ ليتأسى به غيره، لأن ذلك أبلغ في الزجر والتحذير وإلا هو مبرأٌ منه ﷺ‬؛ ودعاء غير الله شرك أكبر ينافي التوحيد.

ثم بين - سبحانه - بنبيه محمد ﷺ‬ أنه لو دعا غيره لكان من جملة المشركين الظالمين، قال - سبحانه وتعالى-: ﴿وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ﴾.

فدعاء الأموات والاستغاثة بهم شرك أكبر ينافي التوحيد، فالميت قد انقطع عمله، فهو بحاجة إلى من يدعو له، فكيف يُتوجه إليه بالدعاء من دون الله، فهو لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا فضلاً أن ينفع غيره.

أيها المسلمون:

إن ما يُصيب العبد من فقر، أو مرض، أو غير ذلك، من أنواع الضر لا يكشفه إلا الله وحده، وإن أصابه خير فلا راد لفضله، روى الترمذي أن


النبي ﷺ‬ قال: «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك».

فالله - سبحانه - هو المتفرد بالملك، والعطاء والمنع، والنفع والضر، فيلزم من ذلك أن يكون هو المدعو وحده لا شريك له، قال - تعالى : ﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [يونس: 107].

والفرق بين الاستغاثة والدعاء؛ أن الدعاء أعم من الاستغاثة لأنه يكون من مكروب وغيره، وينقسم على قسمين:

الأول: دعاء عبادة؛ وهو كل ما يتقرب به إلى الله من الأعمال الصالحة رجاء ثوابه، وخوفًا من عقابه؛ كالصلاة، والصيام، وتلاوة القرآن، والصدقة، والتسبيح، والاستغفار، وغير ذلك؛ فيجب أن يُصرف لله وحده، وصرفه لغير الله شرك أكبر.

الثاني: دعاء مسألة؛ وهو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع، أو دفع ضر، كأن يطلب من ربه صحة في بدنه، أو كشف بلاء حلَّ به، فعلى العبد أن ينزل حوائجه بربه، فهو - سبحانه - الذي يجيب دعوة الداعين ويفرج كرب المكروبين، قال - تعالى-: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60].

وقال - سبحانه-: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [العنكبوت: 17].

وقد نفى الله - سبحانه - في الآية صفة الرزق عن غيره، وأمر عباده بثلاثة أمور هي:

أولاً: طلب الرزق منه وحده كأن يقول: «اللهم ارزقني علمًا نافعًا»، أو


«اللهم ارزقني مالاً حلالاً»، فهو - سبحانه - المتفرد بالرزق، قال - سبحانه-: ﴿فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾.

ثانيًا: عبادته وحده لا شريك له، فلا يدعو غيره، قال - سبحانه-: ﴿وَاعْبُدُوهُ﴾.

ثالثًا: شكر الله على نعمه، قال - سبحانه وتعالى-: ﴿وَاشْكُرُوا لَهُ﴾.

قال الشيخ محمد بن عثيمين عند قوله - تعالى-: ﴿وَاشْكُرُوا لَهُ﴾ قال - رحمه الله-: إذا أضاف الله الشكر له متعديًا باللام؛ فهو إشارة إلى الإِخلاص؛ أي: واشكروا نعمة الله لله؛ فاللام هنا لإِفادة الإِخلاص؛ لأنّ الشاكر قد يشكر الله لبقاء النعمة، وهذا لا بأس به، ولكن كونه يشكر الله وتأتي إرادة بقاء النعمة تبعًا، هذا هو الأكمل والأفضل، والشكر فسَّروه بأنَّه: القيام بطاعة المُنْعم، وقالوا: إنَّه يكون في ثلاثة مواضع:

الأول: في القلب، وهو أن يعترف بقلبه أن هذه النعمة من الله، فيرى لله فضلاً عليه بها، قال - تعالى-: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ﴾ [النحل: 53]، وأعظم نعمة هي نعمة الإِسلام، قال - تعالى-: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ [الحجرات: 17]، وقال - تعالى-: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ [آل عمران: 164].

الثاني: ذكرها باللسان، وهو أن يتحدَّث بها على وجه الثناء على الله والاعتراف وعدم الجحود، لا على سبيل الفخر والخيلاء والترفع على عباد الله؛ فيتحدَّث بالغنى لا ليكسر خاطر الفقير، بل لأجل الثناء على الله، وهذا جائز؛ كما في قصة الأعمى من بني إسرائيل لما ذكره الملَك بنعمة الله، قال: «نعم، كنت أعمى فردَّ الله عليَّ بصري، وكنت فقيرًا فأعطاني الله المال»؛


فهذا من باب التحدُّث بنعمة الله. والنبي ﷺ‬ تحدَّث بنعمة الله عليه بالسِّيادة المطلقة؛ فقال: «أنا سيد الناس يوم القيامة» [رواه البخاري].

الثالث: أن تستعمل الجورح التي أنعم الله عليك بها في طاعة المُنعم، وعلى حسب ما يختص بهذه النعمة.

فشكر الله على نعمة العلم: أن تعمل به، وتعلّمه الناس، وشكر الله على نعمة المال: أن تصرفه بطاعة الله، وتنفع الناس به، وشكر الله على نعمة الطعام: أن تستعمله فيما خُلق له، وهو تغذية البدن.

عباد الله:

إن الله - سبحانه - هو المستحق للعبادة فمن دعا غيره فهو أضل الضالين، قال - تعالى-: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ﴾ [الأحقاف: 5].

وهذا الضلال لأسباب هي:

الأول: أن المدعو لا يستجيب دعاء من دعاه، ولو دعاه إلى يوم القيامة، قال - تعالى-: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ﴾ [الأحقاف: 5] فصارت دعوته له هي غاية الضلال والخسران.

الثاني: أنهم غافلون عن دعائهم: فلا يشعر المدعو بدعاء من دعاه لأنهم: إما أموات، أو جماد، أو ملائكة مشغولون بما خلقوا له، لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، فكيف يملكون ذلك لغيرهم؟! قال - تعالى-: ﴿وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ﴾.

الثالث: أنهم يكونون لهم أعداء، فتلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي، وعداوته له يوم القيامة، قال - تعالى-: ﴿وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء﴾.


الرابع: أنهم يكفرون بعبادتهم، فيتبرأ المعبود من العابد حتى لو رضي بعبادته له في الدنيا، قال - تعالى-: ﴿وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾.

فهذه الأمور الأربعة كل واحد منها كاف في ضلال من يدعو غير الله، فكيف وهي مجتمعة؟!

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ﴾ [الزمر: 11].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله على ما منح من الإِنعام وأسدى، أحمده - سبحانه - وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره من خطايا وذنوب لا تحصى عدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله أعظم به رسولاً وأكرم به عبدًا، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه؛ كانوا أمثل طريقة وأقوم وأهدى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

عباد الله: قال - سبحانه وتعالى-: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ [النمل: 62].

يقيم الله - سبحانه وتعالى - الحجة على المشركين في بطلان اتخاذهم الشفعاء من دونه؛ بما قد علموه وأقروا به من إجابة الدعاء لهم إذا دعوه في حال الشدة، وكذلك كشفه السوء النازل بهم، وكذلك جعلهم خلفاء في الأرض جيلاً بعد جيل! فإذا كانت آلهتهم لا تفعل شيئًا من هذه الأمور فكيف يعبدونها مع الله - جل وعلا - فما أقل تذكر هؤلاء المشركين فيما يرشدهم إلى الحق والطريق المستقيم.

وروى الطبراني بإسناده: أنه كان في زمن النبي ﷺ‬ منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله ﷺ‬ من هذا المنافق، فقال النبي ﷺ‬: «إنه لا يُستغاث بي، وإنما يُستغاث بالله - عز وجل ـ».

كان عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين في عهد رسول الله ﷺ‬


فحصلت منه أذية للمؤمنين، فقال بعضهم: اذهبوا بنا إلى الرسول ﷺ‬ نستغيث به؛ يصدَّ عنا شرَّ هذا المنافق بقتل أو ضرب، أو تهديد؛ والاستغاثة في هذا الحديث جائزة؛ لأنه ﷺ‬ حي قادر؛ يقدر على كشف أذية ذلك المنافق، لكنه ﷺ‬ نهى عن هذه الصيغة، فقال: «إنّه لا يستغاث بي وإنّما يستغاث بالله» حماية للتوحيد، وسدًا لباب الشرك، وأدبًا وتواضعًا لربه، فإذا كان هذا فيما يقدر عليه ﷺ‬ في حياته، فكيف يجوز أن يُستغاث به بعد وفاته؟! فدلَّ ذلك على أن دعاء الأموات والغائبين، أو الأحياء فيما لا يقدرون عليه، أو الاستغاثة بهم؛ شرك أكبر ينافي التوحيد.

قال الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - عن استغاثة أهل هذا الزمان بغير الله: وهذا موجود الآن، فمن الناس من يسجد للأصنام التي صنعوها بأنفسهم تعظيمًا، فإذا وقعوا في الشدة دعوا الله مخلصين له الدين، وكان عليهم أن يلجؤوا للأصنام لو كانت عبادتها حقَّا، إلاّ أن من المشركين اليوم من هو أشد شركًا من المشركين السابقين، فإذا وقعوا في الشدة دعوا أولياءهم؛ كعلي والحسين، وإذا كان الأمر سهلاً دعوا الله، وإذا حلفوا حلفًا هم فيه صادقون حلفوا بعليّ أو غيره من أوليائهم، وإذا حلفوا حلفًا هم فيه كاذبون حلفوا بالله ولم يبالوا.

هذا، وصلوا وسلموا على من بعثه الله هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، ولراية التوحيد مناديًا ودليلاً...


الخطبة الأولى([19])

الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70 ، 71].

أما بعد:

فاتقوا الله - أيها المسلمون - اتقوه في السر والعلن، فإن تقوى الله عز وجل سبب للنجاة والسعادة في الدنيا والآخرة.

عباد الله:

يقول الله - عز وجل - في محكم التنزيل: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ﴾ [الأعراف: 191، 192].

في هذه الآية العظيمة وبَّخ الله - سبحانه - المشركين على جهلهم،


وضلالهم، وبيَّن عجز هذه الأصنام من أنها لا تصلح أن تكون معبودة وذلك بأنها: لا تخلق شيئًا، ومَنْ لا يخلُق لا يستحق العبادة، قال تعالى: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً﴾.

ثانيًا: أنها مخلوقة، قال تعالى: ﴿وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾.

ثالثًا: أنها لا تستطيع نصر من يدعوها، قال - تعالى-: ﴿وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا﴾.

رابعًا: كذلك هي لا تستطيع نصر نفسها، قال - تعالى-: ﴿وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ﴾.

ولا ريب أنَّ هذا من أقوى الأدلة على بطلان الشرك، وعلى أنَّ الذي يستحق العبادة هو الله، الخالق، الراوق، المدبر الذي ينصر عباده الموحدين دون سواه.

قال - سبحانه-: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ﴾ [فاطر: 13، 14].

أخبر الله - سبحانه وتعالى - أنَّ المُلْك له وحده، وجميع الخلق تحت تصرفه وتدبيره، فهو المستحق للعبادة لتفرده بصفات الربوبية كالمُلْك، وسماع الدعاء، والقدرة على الإِجابة، ولقد نفى الله - تعالى - عن تلك المعبودات هذه الصفات:

فنفى الملك، إذ لا تملك أدنى شيء ولو كان حقيرًا، قال - تعالى-: ﴿مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ﴾.

ونفى عدم سماع الدعاء، قال - تعالى-: ﴿إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ﴾.

ونفى كذلك عدم القدرة على الاستجابة، فهي لا تستجيب لمن دعاها،


قال - تعالى-: ﴿وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ﴾.

وأخبر أنّ المعبودات تبرأ من عابديها يوم القيامة، قال - تعالى-: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ﴾.

فهذه دلائل ناصعة في بطلان عبادة غير الله، وإثبات العبادة لله وحده، ولا يخبرنا بعواقب الأمور ومآلها مثل خبير بها، وهو الله - سبحانه وتعالى-: ﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾.

أيها المسلمون:

في الصحيح عن أنس قال: «شُجَّ النبي ﷺ‬ يوم أحد وكسرت رباعيته فقال: «كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟» فنزلت: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾ [آل عمران: 128].

وفيه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه سمع رسول الله ﷺ‬ يقول: إذا رفع رأسه من الركوع، في الركعة الأخيرة من الفجر: «اللهم العن فلانًا وفلانًا» بعدما يقول: «سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد» فأنزل الله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾.

الرسول ﷺ‬ عبد من عباد الله، شرَّفه الله بالرسالة، وتلقي الوحي، وتبليغه للناس، وهذه منزلة عظيمة، ومكانة عالية، ودرجة سامية؛ ومع هذا فهو لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا.

فالرسول ﷺ‬ بشر تعتريه العوارض البشرية من مرض، ومصائب، وجراح، كما حصل له في غزوة أحد من الابتلاء والامتحان على أيدي أعدائه، فقد أصيب ﷺ‬ في موضعين من جسده: شُجَّ رأسه، وكُسرت رباعيته، فقال ﷺ‬: «كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟» استبعد حصول الفوز والسعادة لهم مع فعلهم هذا بنبيهم، ودعا على ثلاثة أشخاص معينين من


الكفار، كانوا من أشد الناس عداوة له ﷺ‬، فعاتبه ربه جل وعلا بقوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾ أي: ليس عليك إلا دعوتهم وجهادهم.

وليس في ذلك تنقص للرسول ﷺ‬، فهو أفضل الخلق وسيد المرسلين، ولكن الآية تبين منزلته ﷺ‬ وأنه عبد الله ورسوله، لا يدفع عن نفسه الضر وليس له من الأمر شيء فلا وأنه يجوز الغلو فيه برفعه فوق مكانته التي جعلها الله له فَيُعْبَد من دون الله، فإذا كان هذا في حق رسول الله ﷺ‬ فغيره من الخلق من باب أولى.

وأفاد الحديث أنَّه يجب الحذر من إطلاق اللسان فيما إذا رأى الإنسان مُبتلى المعاصي؛ فلا نستبعد رحمة الله منه، فإنَّ الله - تعالى - قد يتوب عليه. فهؤلاء الذين سجُّوا نبيهم لما استبعد النبي ﷺ‬ فلاحهم؛ قيل له: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾.

والرجل المطيع الذي يمرُّ بالعاصي من بني إسرائيل ويقول: «والله، لا يغفر الله لفلان، قال الله له: من ذا الذي يتألى عليَّ أن لا أغفر لفلان؟ قد غفرت له وأحبطت عملك»؛ فيجب على الإِنسان أن يحفظ لسانه لأنَّ زلته عظيمة، ثم إننا نشاهد أو نسمع قومًا كانوا من أكفر عباد الله وأشدهم وعداوة انقلبوا أولياء لله، فإذا كان الأمر كذلك؛ فلماذا نستبعد رحمة الله بقوم كانوا عُتاة؟! وما دام الإِنسان لما يمت فكل شيء ممكن، كما أنَّ المسلم - نسأل الله الحماية - قد يزيغ قلبه لما كان فيه من سريرة فاسدة.

فالمهم أنَّ هذا الحديث يجب أن يتخذ عبرة للمعتبر في أن لا نستبعد رحمة الله بأي إنسان كان عاصيًا.

وفي غزوة أحد عبر ودروس كثيرة منها:

أن الرسول ﷺ‬ لا يعلم الغيب، فقد هدى الله - سبحانه - هؤلاء الثلاثة


الذين دعا عليهم ﷺ‬ وحسن إسلامهم.

وثانيها: عدم اليأس من هداية أحد وإن تمادى في الكفر والضلال، فالقلوب بيد الله - سبحانه-.

وثالثها: إثبات وقوع الابتلاء بالأنبياء لينالوا جزيل الثواب، ولتعرف الأمم ما أصابهم، فيتأسوا بهم، قال ﷺ‬: «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل» [رواه الحاكم].

ورابعها: وجوب التحلي بالصبر وتحمل الأذى في سبيل الدعوة إلى الله.

عباد الله:

روى الإمام البخاري عن أبي هريرة - t - أنه قال: قام رسول الله ﷺ‬ حين أنزل عليه ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214] فقال: «يا معشر قريش» أو كلمة نحوها «اشتروا أنفسكم لا أُغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية - عمة رسول الله ﷺ‬ - لا أغنى عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئًا».

كان ﷺ‬ حريصًا على دعوة الناس جميعًا، امتثالاً لقوله - سبحانه وتعالى-: ﴿أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ﴾ [يونس: 2] فقام بواجب الدعوة مبشرًا ونذيرًا، ولما نزل عليه الأمر بإنذار قربته لأنهم أحق الناس ببره وإحسانه الديني والدنيوي، كما قال - تعالى-: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ جمع ﷺ‬ قريشًا قائلاً: «اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئًا» أي: خلصوها من عذاب الله بالتوحيد والعمل الصالح؛ لأنه ثمن النجاة، لا الاعتماد على الأحساب والأنساب، فإنها لا تُغني من الله شيئًا.

ونادى الرسول ﷺ‬ عمه وعمته، وأمرهم أن يُخلِّصوا أنفسهم من عذاب


الله بالتوحيد والعمل الصالح، فمجرد قرابتهم منه لا تنفعهم ولا تنجيهم من عذاب الله، ثم خص بالنذارة من هي بضعة منه (ابنته فاطمة) - رضي الله عنها - وقال لها: «سليني من مالي ما شئت»؛ لأن هذا هو الذي يقدر عليه ﷺ‬، أمَّا الهداية والفوز بالجنة، والنجاة من النار فلا تُطلب إلا من الله، فإذا كان ﷺ‬ لا ينفع عمه ولا عمته، ولا ابنته فغيرهم من باب أولى.

وهذا الحديث حجة على من تعلق بالنبي ﷺ‬، ودعاه من دون الله ليشفع له، أو يدفع عنه الكروب، فإن هذا هو الشرك الأكبر الذي حرمه الله - سبحانه-، وأمر نبيه ﷺ‬ بالتحذير منه، ومن عرف الله، وعرف الخلق نزه الخالق عن الشركاء، وأخلص له وحده.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [المؤمنون: 117].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله يهدي إلى الطيب من القول ويهدي إلى صراط الحميد، أحمده - سبحانه - وأشكره. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أدبه ربه فأحسن تأديبه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد عباد الله:

إن الدخول في دين الله لا يصح إلا بإعلان وحدانية الله، وهو آخر ما يخرج به المسلم من الدنيا، يقول النبي ﷺ‬: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله» [رواه مسلم]، والوقوع في ضده أعظم من قتل الأولاد، يقول ابن مسعود - t-: سألت رسول الله ﷺ‬: أي الذنب عند الله أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك» قلت ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» [رواه البخاري]؛ لذا تأكد النهي عن الشرك في القرآن وتكرر الأمر بالتوحيد، أبدى الله فيه وأعاد، وضرب لذلك الأمثال.

والأمر بعبادة الله أول دعوة الرسل، فقد بدأ الخليل دعوته لأبيه بذلك: ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا﴾ [مريم: 42] ودعا نبينا محمد ﷺ‬ الناس إلى التوحيد عشر سنين قبل فرض الفرائض تعظيمًا لشأنه، وأرشد الدعاة إلى أن يكون الأمر بالتوحيد أول دعوتهم، يقول النبي ﷺ‬ لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: «إنك تأتي قومًا أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله» وإمام الموحدين إبراهيم - u - دعا ربه بقوله: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: 35]. قـال إبراهيم


التيمي: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟!

ولقد وصى الأنبياء بنيهم بالثبات على الدين الصحيح والعقيدة الصافية حتى الممات: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 132] وقد سأل يعقوب - u - وهو على فراش الموت أبنائه: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي﴾ ليطمئن على استمرارهم على التوحيد بعد وفاته: ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 133].

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([20])

الحمد لله جعل جنة الفردوس لعباده المؤمنين نُزلاً، ويسر للمكلفين الأعمال وهداهم النجدين، ليبلوهم أيهم أحسن عملاً.

أحمده - سبحانه - وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأقام الحجة على خلقه، فهو لم يخلقهم عبثًا ولا سدى، ولم يتركهم هملاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله دعا إلى الحق وأوضح المحجة، فلا نبغي عن محجته بدلاً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإِسلام بالعروة الوثقى؛ فإن أجسامكم وأقدامكم على النار لا تقوى، واعلموا أن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل؛ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.

أيها المسلمون:

خلق الله - سبحانه وتعالى - الملائكة من نور، وأعطاهم من القوة والعظمة ما لا يعلمه إلا هو، ليس لهم من صفات الربوبية والألوهية شيء، بل هم عباد منقادون لطاعة الله، كما قال - سبحانه وتعالى-: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ


وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6].

وأفضل الملائكة جبريل - u-، إذ هو موكل بالوحي بين الله ورسله - عليهم السلام-، وقد رآه الرسول ﷺ‬ على صورته الحقيقية وله ستمائة جناح، فإذا كان هذا عظم أحد المخلوقات، فخالقها - سبحانه - أعظم وأجل، فكيف يسوى به غيره في العبادة؟!

وفي الصَّحيح عن أبي هريرة - t - عن النبي ﷺ‬ قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [سبأ: 23] فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض، وصفه سفيان بكفه فحرفها، وبدد بين أصابعه، فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا، وكذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء».

عباد الله:

يُخْبر الرسول ﷺ‬ عن حال الملائكة إذا سمعت الوحي من الله جل جلاله إلى جبريل - u - يأمره بما شاء أنَّها تَفْزَع، ويصيبها الغشي تعظيمًا لله، وهيبة له، وخضعانًا لقوله، فإذا زال الفزع عن قلوبهم يتساءلون بينهم: ﴿مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ﴾ فهو - سبحانه - الحق، وقوله الحق، ودعوته هي الحق: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ له العلو الكامل من جميع الوجوه: علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر: ﴿الْكَبِيرُ﴾ الذي لا أكبر منه ولا أعظم.

وفي قوله تعالى-: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ﴾ دلالة وبرهان واضح على


وجوب إفراد الله بالعبادة؛ وأنه - سبحانه وتعالى - المستحق للعبادة وحده، وعلى بطلان ألوهية الملائكة، إذ أن من يعرض له الخوف والفزع والغشي لا يصلح للإِلهية، فمن عبدهم واستغاث بهم، أو دعاهم من دون الله فقد وقع في الشرك الأكبر.

وقد قال بعض العلماء في هذه الآية: إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب.

وفي الآية صفتان من صفات الله - سبحانه وتعالى - هما:

صفة العلو لله - سبحانه وتعالى - على ما يليق بجلاله وعظمته.

وصفة الكلام لله، فهو - سبحانه - يتكلم بما شاء، إذا شاء، متى شاء.

عباد الله:

يركب الشياطين بعضهم فوق بعضهم حتى يصلوا إلى حيث يسمعون تحدُّث الملائكة بالأمر الذي يقضيه الله في السماء، ثم تلقيه إلى الساحر أو الكاهن فربما أدرك الشهاب الشيطان المسترق لتلك الكلمة التي سمعت من السماء قبل إلقائها فأحرقه، وربما ألقى الكلمة قبل أن يدركه الشهاب لما لله - سبحانه - في ذلك من الحكمة وإلا فلا يفوته شيء - سبحانه-.

ثم يكذب الكاهن أو الساحر مع تلك الكلمة التي ألقاها إليه وليّه من الشياطين مائة كذبة، ويزيد وينقص، أو يكذب الشيطان مع الكلمة التي استرقها مائة كذبة، فيغتر أهل السفه والجهل وضعاف النفوس، فيتعلقون بالكاهن من أجل صدْقه مرة واحدة، وأمَّا مائة كذبة فلا يعتبرون بها، والشيء إذا كان فيه شيء من الحق لا يدل على أنه حق كله، فالسحر والكهانة، باطلة مبنية على الكفر بالله العظيم.

قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله-: والآيات المذكورة في هذا


الباب والأحاديث تقرر التوحيد الذي هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله، فإن الملك العظيم الذي تصعق الأملاك من كلامه خوفًا منه ومهابة، وترجف منه المخلوقات، الكامل في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته وملكه وعزه وغناه عن جميع خلقه، وافتقارهم جميعًا إليه ونفوذ قدره وتصرفه فيهم بعلمه وحكمته، لا يجوز شرعًا ولا عقلاً أن يُجعل له شريك من خلقه في عبادته التي هي حقه عليهم، فكيف يجعل المربوب ربًا والعبد معبودًا؟! أين ذهبت عقول المشركين؟! - سبحان الله عما يشركون-.

وعن النواس بن سمعان - t - قال: قال رسول الله ﷺ‬: «إذا أراد الله أن يوحي بالأمر، تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة» أو قال: «رعدة شديدة، خوفًا من الله - عز وجل - فإذا سمع ذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجدًا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء، سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال الحق وهو العلي الكبير، فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي على حيث أمره الله - عز وجل -».

أيها المسلمون:

تفرد الله - عز وجل - بالعظمة والجلال، وجميع ما في الكون خاضع له، فإذا تكلم بما شاء من وحيه في جميع الأمور التي يقضيها، تصيب السماوات من كلامه رجفة، أو رعدة شديدة خوفًا منه - سبحانه - وهيبة له، وهذا دليل صريح على أن السماوات تسمع كلام الله، وتخاف منه، وقد أخبر - سبحانه - في كتابه أن هذه المخلوقات العظيمة تدرك عظمة ربها وتسبحه وتقدسه، قال - تعالى-: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: 44].


وإذا كانت السماوات العظيمة تدرك عظمة الله وتخافه وهي جمادات فكيف لا يخافه الإِنسان الضعيف المسكين.

إن تعظيم الله وإجلاله والخوف منه يدفع العبد إلى فعل الطاعات وترك المحرمات، وإذا سكن الخوف القلب أحرق الشهوات.

وفي الحديث تُصعق الملائكة عند سماع كلام الله، وتخر بالسجود تعظيمًا وهيبةً له، وخوفًا منه، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل - u - فيوحي الله - سبحانه - إليه بما أراده من أمره ثم يمر جبريل على الملائكة، وكلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال رُبنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال الحق وهو العلي الكبير، فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله - عز وجل - من السماء والأرض.

إن الله - عز وجل - الذي تصعق الملائكة عند سماع كلامه خوفًا ومهابة، والسموات على عظمتها وسعتها ترجف ويُصعق من فيها هيبة له وخوفًا منه هو المستحق للعبادة وحده، فالواجب علينا إفراده بها.

إذ لا يجوز شرعًا ولا عقلاً، أن يُجعل لله شريك من خلقه في عبادته، وجميع الخلق عباد له.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ [مريم: 93 – 95].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله جل جلاله، وعظم ثناؤه، وتقدست أسماؤه، - سبحانه - بحمده، لا تحصى نعماؤه، أحمده - سبحانه - وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، المبعوث بالهدى ودين الحق، ارتفعت به أعلامه، وعلا ضياؤه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، هم بدور الدجى وسناؤه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعملوا صالحًا، واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله.

أيها المسلمون:

ذم الله من لم يقدره حق قدره في ثلاثة مواضع من كتابه، فأخبر أنه لم يقدره حق قدره؛ من أنكر إرساله للرسل، وإنزال كتبه عليهم، ولم يقدره حق قدره من عبد معه إلهًا آخر، ولم يقدره حق قدره من جحد صفات كماله، ونعوت جلاله.

والإيمان به - سبحانه - لا يتم إلا بتعظيمه، ولا يتم تعظيمه إلا بتعظيم أمره ونهيه فعلى قدر تعظيم العبد لله - سبحانه - يكون تعظيمه لأمره ونهيه، وتعظيم الأمر يدل على تعظيم الآمر، وأول مراتب تعظيم الآمر التصديق به، ثم العزم الجازم على امتثاله، ثم المسارعة إليه والمبادرة إليه رغم القواطع والموانع، ثم بذل الجهد والنصح في الإِتيان به على أكمل الوجوه، ثم فعله لكونه مأمورً به سواء ظهرت له حكمته أو لم تظهر فإن ورد الشرع بذكر


حكمة الأمر، أو فقهها العقل كانت زيادة في البصيرة والداعية إلى الامتثال، وإن لم تظهر له حكمته لم يوهن ذلك انقياده ولم يقدح في امتثاله.

فأطيعوا ربكم وعظموا أمره ونهيه، واعرفوا له حقه، فإن أمامكم الجزاء والحساب ثم المنصرف إلى جنة أو نار. جعلنى الله وإياكم من أهل جنته ممن ينادون في ذلك الموقف العظيم: ﴿ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ [الأعراف: 49].

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([21])

الحمد لله أهل التقوى وأهل المغفرة، أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، أحمده - سبحانه - وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره؛ نعمه لا تحصى، وآلاؤه ليس لها منتهى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، أخشى الناس لربه وأتقى، دلَّ على سبيل الهدى وحذر من طريق الردى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، معالم الهدى ومصابيح الدُّجى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى.

أما بعد:

فأوصيكم - ونفسي - بتقوى الله، فتقوى الله جماع الخيرات، وحصون البركات، أكثر خصال المدح ذكرًا في كتاب الله، ما من خير عاجل ولا آجل، ولا ظاهر ولا باطن إلا والتقوى موصلة إليه، ووسيلة له، ودليل عليه، وما من شر عاجل ولا آجل، ولا ظاهر ولا باطن، إلا والتقوى حرز منه حصين ودرع منه مكين.

أيها المسلمون:

الناس في هذه الدنيا يحتاج بعضهم إلى بعض في حياتهم الخاصة والعامة لجلب نفع أو دفع ضر، وقد لا يتوصلون لبعض مصالحهم ومطالبهم إلا بشفاعة بعضهم لبعض عند أصحاب الحاجات.

والشفاعة: هي التوسط للغير لجلب نفع أو دفع ضر؛ ولما كان المشركون


في قديم الدهر، إنما وقعوا في الشرك لتعلقهم بأذيال الشفاعة، كما أخبر الله عنهم، وأن ذلك عين الشرك، فهم يعبدون الأصنام ويقولون: إنَّها شفعاء لهم عند الله، وهم يشركون بالله - سبحانه وتعالى - فيها؛ بالدعاء والاستغاثة وما أشبه ذلك، وهم بذلك يظنون أنهم مُعظمون لله، ولكنهم - في الحقيقة - منتقصون له؛ لأنه عليم بكل شيء، وله الحكم التام المطلق، والقدرة التامة فلا يحتاج إلى شفعاء، والملوك في الدنيا يحتاجون إلى شفعاء، إما لقصور علمهم، أو لنقص قدرتهم، فيساعدهم الشفعاء في ذلك؛ فيتجرأ عليهم الشفعاء فيشفعون بدون استئذان، ولكن الله - عز وجل - كامل العلم والقدرة والسلطان، فلا يحتاج لأحد أن يشفع عنده، ولهذا لا تكون الشفاعة عنده إلا بإذنه لكمال سلطانه وعظمته.

والشفاعة نوعان: شفاعة منفية، وهي التي تطلب من غير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله، وشفاعة مثبتة: وهي التي تُطلب من الله، وتكون يوم القيامة لأهل التوحيد، ومقيدة بأمرين: إذن الله للشافع أن يشفع، ورضاعه عن المشفوع له.

والناس في الشفاعة ثلاث طوائف، طرفان ووسط، فطائفة أنكروها كاليهود والنصارى، والخوارج المكفرين بالذنوب، وطائفة أثبتوها وغلوا في إثباتها، حتى جوزوا طلبها من الأولياء والصالحين، أما أهل السنة والجماعة فقد أثبتوا الشفاعة الشرعية، كما ذكر الله في كتابه، ولا تُطلب إلا من الله، كأن تسأله تعالى أن يشفع فيك نبيك محمدًا ﷺ‬، فإن الشفاعة محض فضل وإحسان.

قال تعالى: ﴿وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 51].


يقول الله - سبحانه وتعالى - لنبيه محمد ﷺ‬ خوِّف بالقرآن الذين يخافون أن يُجمعوا ويبعثوا إلى ربهم يوم القيامة، وهم المؤمنون المخلصون، أصحاب القلوب الحية الواعية الذين لم يتخذوا لهم من دون الله وليًا ولا شفيعًا، بل أخلصوا قصدهم وطلبهم وجميع أعمالهم لله وحده، ولم يلتفتوا إلى أحد سواه فيما يرجون نفعه ويخافون ضره.

قال ابن كثير - رحمه الله-: ليس لهم يومئذ: ﴿مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ فيعملون في هذه الدار عملاً ينجيهم الله به من عذاب يوم القيامة، ويتركون التعلق على الشفعاء وغيرهم، لأنه ينافي الإخلاص الذي لا يقبل الله من أحد عملاً بدونه.

عباد الله:

الشفاعة ملك الله - تعالى - وحده، قال تعالى: ﴿قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾ [الزمر: 44]، لا تُطلب إلا منه لأنها عبادة، وتأله لا يصلح إلا له - سبحانه-، فمن طلبها من غير الله - تعالى - كالملائكة والأنبياء والصالحين فقد أشرك شركًا أكبر.

وقال تعالى في الآية التي قبلها: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ﴾ [الزمر: 43] أخبر - سبحانه - أن وقوع الشفاعة على هذا الوجه منتف عقلاً وشرعًا، فقوله: ﴿لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ تقرير لبطلان اتخاذ الشفعاء من دونه؛ لأنه مالك الملك، فيجب إندراج ملك الشفاعة في ذلك، فإذا كان هو مالكها بطل أن تطلب ممن لا يملكها.

قال ابن جرير: نزلت لما قال الكفار: ما نعبد أوثانًا إلا لتقربنا إلى الله زلفى، قال الله: ﴿لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ فتعلمون أن من طلبها من غير الله أنه خاسر السعي وأنها غير حاصلة له؛ لأنه طلبها من غير مالكها، بل طلبُها من غير الله إفك وافتراء، كما قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ


قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [الأحقاف: 28].

ومن عظمة الله - سبحانه - وجلاله وكمال سلطانه أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده يوم القيامة إلا بإذنه، قال تعالى: ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ وهذا استفهام معناه النفي البليغ يعني: لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه.

وفي هذا رد على المشركين الذين اتخذوا شفعاء من دون الله من الملائكة والأنبياء والصالحين وظنوا أنهم يشفعون عنده بغير إذنه.

وبيَّن عظيم ملكوته وكبريائه، وأن أحدًا لا يتمكن أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له، وأن الشفاعة إنما تقع في الدار الآخرة بإذنه، كقوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾ [طه: 109] فبين -تعالى- أنها لا تقع إلا بشرطين: إذن الرب للشافع أن يشفع، ورضاه عن المأذون فيه، وهو سبحانه لا يرضى من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة إلا ما أريد به وجهه، ولقيه العبد به مُخلصًا غير مشرك.

وبيَّن - سبحانه - أنّ كثيرًا من الملائكة مع عظم مكانتهم عنده لا تنفع شفاعتهم لأحد؛ إلا إذا أذن الله - سبحانه - لهم أن يشفعوا فيمن شاء من عباده، وكان المشفوع فيه ممن رضي قوله وعمله، بأن يكون سالمًا من الشرك قليله وكثيره، وإذا كان هذا في حق الملائكة فغيرهم من باب أولى، قال تعالى: ﴿وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى﴾ [النجم: 26].

عباد الله:

يحرم طلب الشفاعة من الأنبياء والصالحين من أموات المسلمين، كأن يقول: يا نبي الله اشفع لي عند ربك ليغفر لي، أو يا سيدي فلان اشفع لي عند ربك ليفرج كربتي.


فهؤلاء بهذا الاستشفاع المحرم قد جمعوا بين أمرين عظيمين:

الأول: دعاء غير الله، وهو شرك أكبر. والثاني: تشبيه الخالق بالمخلوق حيث طلبوا واسطة كما تُطْلَب للمخلوق من ذوي السلطان، وجهلوا أن المخلوق قد يخفى عليه أمر الإِنسان، فيحتاج إلى من يُعَلِّمُه به، بخلاف الرب - تبارك وتعالى - فإنه عليم بأحوال عباده لا يخفي عليه من أمرهم شيء.

وقال - عز وجل - في سورة سبأ: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ [سبأ: 22].

أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين ﴿ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم﴾ أنهم آلهة من دون الله، ليكشفوا الضر الذي نزل بكم، فقد قطع الله بها جميع الأسباب الواهية التي يتعلق بها المشركون في عبادة غير الله من المُلك والشركة، والمعاونة، والشفاعة، فنفى الله سبب هذه المراتب الأربع من غيره، فنفى أن يكون لغيره ملك بقوله: ﴿لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ من خير وشر، ونفع وضر، ونفى أن يكون له شريك في قوله تعالى: ﴿وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ﴾ لا يملكون شيئًا استقلالاً، ولا على سبيل الشركة، ونفى أن تكون هذه المعبودات عونًا له في قوله تعالى: ﴿وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ﴾، عون يعينه بشيء، ونفى أن يكون لغيره شفاعة عنده تعالى إلا بإذنه، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾، قال تعالى تكذيبًا لهم حيث قالوا: ﴿هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ﴾ [يونس: 18].

قال ابن القيم وغيره في هذه الآية: أنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب لمن عقلها.

وقد أثبت - سبحانه - شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه،


ولم يجعل - سبحانه - الاستغاثة بالميت أو غيره سببًا لإِذنه، وإنما السبب كمال التوحيد، لا ما يمنع الإِذن، فالمشرك قد أتى بأعظم حائل بينه وبين حصول الشفاعة، فهو كمن استعان في حاجة بما يمنع حصولها.

قال شيخ الإِسلام - رحمه الله-: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون فنفى أن يكون لغيره مُلك أو قسط منه، أو يكون عونًا لله؛ ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب.

وهو - سبحانه - لا يأذن إلا لأهل التوحيد، كما قال تعالى: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ [الأنبياء: 28] فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون، وهي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن؛ وأخبر النبي ﷺ‬ أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولاً، ثم يقال له: «ارفع رأسك، وقل تُسمع، وسل تُعط، واشفع تُشفَّع»، وقال له أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: «من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه».

فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله.

ثم قال شيخ الإِسلام: وحقيقته أن الله - سبحانه - هو الذي يتفضل على أهل الإِخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود، فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بين النبي ﷺ‬ أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإِخلاص.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [يونس: 18].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله المحمود على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل الضلال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، جبله ربه على جميل الفعال وكريم الخصال، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه خير صحب وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل. أما بعد:

عباد الله:

تنقسم شفاعة النبي ﷺ‬ إلى قسمين:

القسم الأول: الشفاعة الخاصة بالرسول ﷺ‬ وهي: الشفاعة العظمى التي يتأخر عنها أولو العزم من الرسل، حتى تنتهي إليه ﷺ‬ فيقول: «أنا لها» (وهي المقام المحمود).

وكذلك شفاعته ﷺ‬ لأهل الجنة في دخولها.

وأيضًا: شفاعته ﷺ‬ في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب.

القسم الثاني: الشفاعة العامة لرسول الله ﷺ‬ ولجميع المؤمنين:

وهي الشفاعة لقوم من العصاة من أهل التوحيد أن لا يدخلوا النار.

والشفاعة في إخراج العصاة من أهل التوحيد من النار.

والشفاعة في قوم من أهل الجنة في زيادة ثوابهم ورفع درجاتهم.

وأسعد الناس بشفاعة النبي ﷺ‬ وأحقهم بها هم أهل التوحيد والإِخلاص، فقد قيدها ﷺ‬ بقوله: «من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه» لئلا يتـوهم المشركون أنَّ لهم نصيبًا منها، وهم قد حرموا منها لما طلبوها من غير


الله، وإنَّما ينالها الموحدون حتى الذين استحقوا دخول النار بسبب ذنوبهم؛ فيشفع لهم في الخروج بعد التطهير، كما ورد في الحديث: «أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان» [رواه البخاري].

والشفعاء هم أعلى الخلق مقامًا، وهم: الملائكة والأنبياء والصالحون، وأعلاهم نبينا محمد ﷺ‬، وفي إذن الله للشافع أن يشفع؛ إكرام له، وإظهار لشرفه وجاهه عند الله، ورحمة للمشفوع فيه.

وبهذا يتبين لنا: أن الشفاعة لا تكون لمن التجأ إلى الملائكة والأنبياء والصالحين بالعبادة بدعوى طلب الوسيلة والقربة، وأنّ المستحق للشفاعة هم أهل التوحيد، جعلنا الله وإياكم منهم.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([22])

الحمد لله، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين، أحمده - سبحانه - وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، رب السموات ورب الأرض رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، حمى حمى التوحيد، وسدَّ كل طريق يوصل إلى الشرك، وبلغ البلاغ المبين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه الغرِّ الميامين، آمنوا بربهم وأخلصوا له واستقاموا على أمره، فأنجز لهم ما وعدهم عزًا في الدنيا وحسن ثواب في الآخرة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فأوصيكم - ونفسي - بتقوى الله عز وجل؛ ولتنظر نفسٌ ما قدمت لغد، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون.

أيها المسلمون:

لم يخلق الله الخلق ليتقوى بهم من ضعف، ولا ليتعزز بهم من ذلة، ولا ليستكثر بهم من قلة، فهو المنُعم المتفضل، وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير، خلقهم لعبادته وطاعته، ليعبدوه ولا يشركوا به شيئًا.

قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات: 56 – 58].

وقام نبينا محمد ﷺ‬ بأداء الأمانة، وإبلاغ الرسالة، دعوة وجهادًا، وتعليمًا


ونصحًا؛ حتى تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.

ثم قام بهذه الدعوة الصحابة الأبرار ومن تبعهم من الأخيار إلى يوم الدين.

قال ابن القيم: فالدعوة إلى الله - تعالى - هي وظيفة المرسلين وأتباعهم.

وقال رحمه الله: إن أفضل منازل الخلق عند الله منزلة الرسالة والنبوة، فالله يصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس.

والداعي إلى الله ليس عليه إلا البلاغ وهداية الطريق؛ أما هداية التوفيق فهي بيد الله - عز وجل-.

قال -تعالى- في محكم التنزيل: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: 56].

الخطاب في هذه الآية للنبي ﷺ‬، والمنفي هنا؛ هداية التوفيق والإِلهام وهو خلق الهدى في القلب وإيثاره، وذلك لله وحده، وهو القادر عليه، كقوله: ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء﴾ [البقرة: 272]، وقوله تعالى: ﴿وَاللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء﴾ [البقرة: 142].

وأما هداية البيان والإرشاد: وهي دلالة العباد إلى دين الله وشرعه، فهي للرسول ﷺ‬ وللدعاة من بعده قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: 52] فهو المبين عن الله، والدال على دينه وشرعه، وفي هذا رد على عُبَّاد القبور، الذين يعتقدون في الأنبياء والصالحين النفع والضر، فيسألونهم من أنواع المطالب الدنيوية والأخروية.

قال تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء﴾ وسبب نزول هذه الآية موت أبي طالب، وإذا كان ﷺ‬ قد حرص على هدايته عند موته، فلم يتيسر له ذلك، ودعا له بعد موته، ونُهي عن ذلك، وذكر الله أنه لا يقدر على هداية من أحب هدايته لقرابته ونصرته، تَبَيَّنَ أعظم بيان، ووضح أوضح برهان؛ أنه ﷺ‬ لا يملك ضرًا ولا نفعًا، ولا عطاء ولا منعًا، وأنه ﷺ‬


لا يقدر إلا على ما أقدره الله عليه، وأن الأمر كله بيد الله، فبطلت عبادته من دون الله، وإذا بطلت عبادته وهو أشرف الخلق فعبادة غيره أولى بالبطلان.

وفي الصحيح عن ابن المسيب، عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله ﷺ‬ وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل، فقال له: «يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله» فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي ﷺ‬ فأعادا، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال النبي ﷺ‬: «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» فأنزل الله: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [التوبة: 113].

فقد كان ﷺ‬ حريصًا على هداية عمه، وذلك لقرابته ولأنه كان يحوطه ويحميه من أذى قومه، ويصبر على ما يلاقي في سبيل ذلك، واعترف في كثير من أشعاره بصدق رسالة محمد ﷺ‬ ومن ذلك قوله:

ولقد علمت بأنَّ دين محمد

من خير أديان البرية دينًا

إلا أنَّه لم يتبع الرسول ﷺ‬ وبقى على دينه خشية الملامة والمسبة من قومه، فمن حرصه ﷺ‬ على هدايته: عيادته له وهو في سياق الموت، وعرض الإِسلام عليه ليكون خاتمة حياته فيحصل له بذلك الفوز والسعادة، وفي هذا جواز عيادة المريض المشرك إذا رُجي إسلامه.

عباد الله:

في هذه الواقعة عظة وعبرة في متابعة رفقاء السوء، وأنه يجب الحذر منهم، فقد كان عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل سببًا لصد أبي طالب عـن الحق، وعن هذا الدين العظيم الذي فيه السعادة الأبدية، وفي هذا ضرر


أصحاب السوء على الإِنسان صغيرًا كان أم كبيرًا، فينبغي الحذر من قربهم والإِستماع إليهم.

ومضرة أصحاب السوء ليست خاصة بالشرك؛ بل في جميع سلوك الإِنسان؛ وذلك لما للصاحب من أثر كبير على صاحبه في سلوك طريق الخير أو الشر، قال ﷺ‬: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» [رواه أبو داود].

أيها المسلمون:

لمَّا عرض النبي ﷺ‬ على عمّه أبي طالب كلمة التوحيد لا إله إلا الله؛ أي لا معبود بحق إلا الله، علم أبو جهل ومن معه أنَّ مراده ﷺ‬ من هذه الكلمة نفي الشرك وإخلاص العبادة لله وحده، فلو قالها أبو طالب لبرئ من ملة عبد المطلب - وهي الشرك - فلذلك منعوه من قولها، بخلاف من يدَّعون العلم ويجهلون معناها، فيحكمون على كل من تلفظ بها بأنَّه مسلم، ولو كان يعبد الأنبياء والصالحين، ويتقرب إليهم بالدعاء والذبح والطواف حول قبورهم، فعجبًا لمنْ أبو جهل أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله؟!

وهذا الحديث يقطع وسائل الشرك بالرسول وغيره، فالذين يلجؤون إليه ﷺ‬ ويستنجدون به مشركون، فلا ينفعهم ذلك، لأنه لم يؤذن له أن يستغفر لعمه مع أنه قام معه قيامًا عظيمًا، ناصره وآزره في دعوته، فكيف بغيره ممن يشركون بالله؟!

وتأملوا - عباد الله - مضرة تقليد الآباء والكبراء على ضلالتهم؛ فحينما عرض ﷺ‬ على عمه كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) ليشهد له بها عند الله عرض المشركون عليه أن يبقى على دين آبائه الذي هو الشرك، وأعاد ﷺ‬ طلب التلفظ بالشهادة من عمه، وأعاد المشركون المعارضة: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلقنوه الحجة التي يحتج بها المشركون على الرسل، وهي تقليد


الآباء والأجداد: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾ [الزخرف: 23] وكان آخر ما قاله أبو طالب: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: (لا إله إلا الله) فمات على الشرك ومتابعة الآباء لما لله في ذلك من الحكمة، وليُعلم أن هذا الدين لا ينال بالنسب والقرابة وإنَّما يحصل بالتقوى، وأفادت القصة أنَّ الأعمال بالخواتيم.

ولما مات أبو طالب على الشرك حلف النبي ﷺ‬ ليطلبن له من الله المغفرة ما لم يُمنع من ذلك، فأنزل الله: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى﴾ وإذا حرم الاستغفار لهم فمحبتهم أولى بالتحريم.

أيها المسلمون:

رسول الله ﷺ‬ هو أفضل الخلق وأعظمهم عند الله جاهًا، وأقربهم إليه وسيلة؛ لكنه مع هذه المنزلة الرفيعة والمكانة العالية لا يدفع المضار ولا يجلب المنافع، ولا يملك هداية أحد من الناس، ولو كان يملكها لكان أحق الناس بذلك عمّه أبا طالب الذي كان يحوطه ويحميه، ولكنه مات على الشرك ففي قصته عبرة لمن اعتبر، ودرس لمن تأمل.

فالله - سبحانه - هو الذي تُطلب منه الحاجات ويتوجه إليه في كشف الكربات، وقد تفرد بهداية القلوب، كما تفرد بخلق المخلوقات؛ ومن طلب ذلك من غيره - سبحانه - وقع في الشرك الأكبر.

فالواجب على العبد أن يهرع إلى ربه ويسأله الهداية، ويسعى إليها بفعل الواجبات وترك المحرمات وتدبر كتاب الله ومجالسة الصالحين، ومن كان كذلك أعانه الله ويسر له أسباب الهداية، كما قال - تعالى-: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69].

بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم...


الخطبة الثانية

الحمد لله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، أحمده - سبحانه - وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، حَمَى حِمَى التوحيد وسدَّ كل طريق يوصل إلى الشرك، فأظهر الله به دينه على الدين كله ولو كره المشركون، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

أيها المسلمون:

يحتاج الإِنسان في هذه الدنيا إلى رفيق يؤانسه، وصاحب يعينه، وصديق يُسِّر إليه؛ وعلى المسلم أن يختار من الإِخوان أتقاهم، ومن الأصحاب والقرناء أحسنهم وأعلاهم، فقد قال ﷺ‬: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» [رواه أبو داود] وقال ﷺ‬ في الحديث الآخر: «إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير: فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه رائحة طيبة؛ ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحًا منتنة» [متفق عليه].

ألا وإن أفضل المكاسب وأجل الفوائد اكتساب القرناء الأخيار، وإن من أعظم المصائب وأرذل المعائب مصاحبة الأراذل والأشرار.

ألا وإن المرء يعتبر ويقاس بجليسه، ويكون صلاحه وفساده وكماله ونقصه بحسب قرينه وأنيسه؛ فاغتنموا - رحمكم الله - صحبة أهل الدين


والرأي والمروءات، الذين ينزهزن نفوسهم عن النقائص والدنيات؛ فإن الأخلاق تتربى بأقوالهم وأفعالهم، وإن الكمال ينمو بالإِقتداء بهم في محاسن أعمالهم؛ فإن لم تجدوا من استوعب صفات الكمال، فعليكم بالأمثل فالأمثل من الرجال؛ فإن القرين الصالح يعلمك إذا جهلت، ويذكرك مصالحك إذا نسيت، ويسليك إذا أصابتك المصائب، ويقويك ويثبتك عند المخاوف والنوائب، ويحضك على الخير بحسب قدرته واستطاعته، ويأمرك بامتثال أمر الله وطاعته، ويحثك على برِّ الوالدين وصلة الأرحام، وعلى الإِحسان إلى جارك والشفقة على الفقراء والمساكين والأيتام، ويبدي لك النصح في جميع الأمور ويهديك الرشاد، ويدلك بأقواله وأفعاله وأخلاقه على طرق الصلاح ويذودك عن الفساد، ويحفظك في حضرتكم ومغيبك، ويدعو لك في حياتك وبعد دفنك وتغييبك، ففي مقارنة هؤلاء فليتنافس المتنافسون، ولفوائد صحبتهم وثمرات أخلاقهم فليجتن العاملون.

ألا وإن القرين السوء فساد للدين والأخلاق والآداب، وفي صحبته الخسار والنقص والتباب، يزهد قريه في كل خلق جميل، ويدعوه إلى كل خلق ذليل، إن رآك مريدًا للخير ثبطك ونهاك، وإن عرض لك سوء ساعده عليك وأرداك، وإن نهضت إلى خير ومكرمة أقعدك، وإن بعدت عن شر حولك إليه وقربك، فأنت منه في كل وقت في انحطاط وهوان، وآمالك إلى الضر والشر والخسران.

هذا وصلوا على من أمركم بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل عليمًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].


الخطبة الأولى([23])

الحمد لله المتوحد بالعظمة والجلال، المتعالي عن الأشباه والأمثال، أحمده - سبحانه - وأشكره منَّ علينا بواسع الفضل وجزيل النوال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله ومصطفاه من خلقه، كتب الفلاح لمن اتبعه وسار على شرعه، ففاز في الحال والمآل، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه خير صحب وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله أيها المؤمنون: فبتقوى الله تَزْكُو الأعمال، وتنال الدرجات، وارغبوا فيما عنده، فبيده الخير وهو على كل شيء قدير، اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم، ولا تتبعوا من جون أولياء.

أيها المسلمون:

أوجب الله علينا عبادته وحده لا شريك له، وحذرنا من مزالق الشيطان وخطواته، ومن ذلك الغلو في الصالحين؛ فسبب كفر بني آدم، أو سبب أول كفر بني آدم وتركهم دينهم الذي خلقوا له، ولا صلاح ولا فلاح لهم إلا به، هو الغلو في الصالحين من الأنبياء والأولياء وغيرهم، بالقول والاعتقاد فيهم، وضابط الغلو: تعدي ما أمر الله به، وهو الطغيان الذي نهى الله عنه، ومن تأمل بعض ما يفعله عباد القبور مع الأموات من الشرك، علم علمًا يقينًا أن سبب ذلك الغلو فيهم؛ فعلى المسلم الحذر من الغلو


مطلقًا، لا سيما في الصالحين، فإنه أصل الشرك قديمًا وحديثًا، لقرب الشرك بالصالحين من النفوس، فإن الشيطان يظهره في قالب المحبة والتعظيم.

وينقسم الناس - قديمًا وحديثًا - تجاه الصالحين إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: الغلاة: وهم الذين يرفعون الصالحين فوق منزلتهم التي أنزلهم الله إياها، فيعظمون قبورهم بدعائها، والذبح لها، والطواف حولها، بل وصل الأمر إلى اعتقدا بعضهم أن هؤلاء الصالحين يُجيبون الداعي، وينجون الغريق، ويطفئون الحريق، ويتصرفون في الكون؛ وهذا هو الشرك الأكبر.

القسم الثاني: الجفاة: وهم الذين يتنقصون الصالحين ويجحدون فضلهم ولا يقومون بحقهم من الحب والموالاة.

وكلتا الطائفتين قد ضلت عن سواء السبيل.

والقسم الثالث: الوسط: وهم الذين يقتدون بالصالحين في أقوالهم وأعمالهم الصالحة، ويحبونهم ويحترمونهم ويدافعون عنهم، ولا يرفعونهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله إياها؛ وهذا هو الواجب تجاه الصالحين فلا إفراط ولا تفريط.

أيها المسلمون:

نهى الله - سبحانه - اليهود والنصارى عن مجاوزة الحد مع الصالحين، وعن رفع المخلوق فوق منزلته التي أنزلها الله إياها، والغلو كثير في النصارى، فإنَّهم غلوا في عيسيى - u - فرفعوه من مرتبة النبوَّة إلى أن اتخذوه إلهًا من دون الله، واليهود انتقصوا منه، فالنصارى أفرطوا واليهود فرَّطوا.

قال تعالى في محكم التنزيل: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ﴾ والخطاب


وإن كان لأهل الكتاب، فهو تحذير لهذه الأمة منْ أن يفعلوا مع نبيهم محمد ﷺ‬ كما فعلت النصارى مع المسيح - u-، واليهود مع عزيز، ومن تشبَّه بهم من هذه الأمة وغلا في الدين بإفراط أو تفريط فهو منهم.

وفي الصحيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما في قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ﴾ [نوح: 23] قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسموها بأسمائهم ففعلوا ولم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم عُبدت.

وقد كان الناس على التوحيد عشرة قرون منذ أن أهبط الله - سبحانه - آدم - u - إلى الأرض حتى حدث الشرك بسبب الغلو في الصالحين؛ وذلك أن ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرا كانوا أهل دين وفضل وخير، وماتوا في زمن متقارب، فأسفوا عليهم، وصاروا يترددون على قبورهم، فأتاهم الشيطان وسول لهم أن يصوروا صورهم، ليكون أسهل عليهم من المجيء إلى قبورهم، ولم يكونوا قصدوا عبادتهم، وإنما قصدوا التذكر بهم، ليكون أدعى لهم على فعل الخير والتأسي بهم.

وقد أخرج الشيطان لهم هذه الحيلة في قالب المحبة؛ لعدم قدرته عليهم إلا بهذه الدرجة، ومقصوده من بعدهم الذين لم يعرفوا ما نصبت له، ليوسوس لهم أنهم كانوا معبودين في أولاكم.

حتى إذا هلك الذين صوروا الأصنام، ونُسي العلم الذي فيه بيان الشرك والتوحيد عُبدت تلك الصور؛ فأرسل الله - سبحانه وتعالى - نوحًا - u - يدعوهم إلى عبادة الله وحده: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 59] وأفادت الآية مضرة فقد العلم، وأن بفقد العلم وموت العلماء


يحل الجهل الناس فيظهر الشرك وتنتشر البدع.

قال ابن القيم - رحمه الله-: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.

وما زال الشيطان يوحي إلى عُبَّاد القبور، إلى أن دعوا الناس إلى عبادتها، واتخاذها أعيادًا ومناسك، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم، ثم نقلهم إلى أن عادوا من نهى عن ذلك، فقد تنقص أهل الرتب العالية، وعادوا أهل التوحيد، ووالوا أهل الشرك والتنديد، وزعموا أنهم أولياء الله: ﴿وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 34].

عباد الله:

من تأمل هذا تبين له غربة الإِسلام وأن أهل التوحيد قليل، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب، مع كثرة النصوص من الكتاب والسنة المحذرة من الشرك والداعية إلى التوحيد، ومن ذلك قوله - سبحانه وتعالى-: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء: 36] أي: أفردوه بالعبادة من صلاة ودعاء وذبح ونذر، ونرى اليوم من ينتسب إلى الإِسلام يدعو ويستغيث بالبرعي أو الجيلاني أو غيرهما عند الشدائد، والله - تعالى - يقول: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 18] ومنهم من يذبح لغير الله؛ لأصحاب القبور أو الجن، والله - تعالى - يقول: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر: 2] ومنهم من يطوف حول قبور الصالحين، والله - سبحانه - يقول: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 29] ومنهم من يحلف بالنبي أو الولي، والنبي ﷺ‬ يقول: «من حلف بغير الله فقد أشرك أو كفر».

وقد وصلوا إلى هذه الحالة بسبب الغلو في الصالحين وتقليد الآباء والأجداد.


عباد الله:

عن عمر - t - أن رسول الله ﷺ‬ قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا: عبد الله ورسوله» [رواه البخاري ومسلم].

نهى الرسول ﷺ‬ عن مجاوزة الحد في مدحه كما تجاوزت النصارى الحد في مدح عيسى - u - فقالت طائفة: هو الله، وقالت أخرى: هو ابن الله؛ وهذا شرك عظيم كفّرهم الله به، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ [المائدة: 72].

ولا شك أن أشرف مقامات الرسول ﷺ‬ العبودية والرسالة، وقد أشرد ﷺ‬ أمته إلى أن يصفوه بما وصفه به ربه: عبد الله ورسوله؛ وهذه أشرف مقاماته ﷺ‬؛ فالعبد لا يستحق أن يُعبد، والرسول يجب أن يصدَّق ويطاع.

وذهب أقوام ممن ينتسب إلى الإِسلام إلى الغلو في الرسول ﷺ‬ فدعوه واستغاثوا به، وطلبوا الشفاعة منه، وحلفوا باسمه، ونذروا له، فوقعوا في الشرك الأكبر المنافي للتوحيد.

وذهب أقوام آخرون إلى ترك طاعته والإِعراض عن هديه، على المسلم الحذر من ذلك كله.

والواجب طاعته كما أمر، من غير غلو ولا جفاء.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [هود: 112].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله، أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، أحمده - سبحانه - وأشكره على نعمه الجمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، بعثه للعالمين رحمة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه خيار الأمة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان.

أما بعد:

حذر ﷺ‬ أمته فقال: «إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو».

نهى ﷺ‬ عن التعمق والتكلف في الدين ومجاوزة الحد في الأقوال والأفعال، سواء في مدح الشيء أو ذمه على ما يستحق، فهو الداء العضال الذي هلكت به الأمم الماضية؛ فالتعمق والتكلف في محبة الصالحين هلاك؛ لأن ذلك يؤدي إلى عبادتهم وكذا التعمق في الكلام وإظهار الباطل في صورة الحق هلاك، كمن يدعو إلى الاحتفال بالمولد النبوي بدعوى محبة النبي ﷺ‬؛ متجاهلاً أن محبته ﷺ‬ باتباعه وطاعته، ولم يؤثر عنه ﷺ‬ أو عن أصحابه الاحتفال بذلك، بل هذا من صنيع أهل البدع.

إن خطر الغلو عظيم ونتائجه وخيمة، فالواجب تنزيل الصالحين منازلهم، وترك الغلو فيهم، وكذا الحذر من التنطع في جميع أمور الدين.

قال شيخ الإسلام: هذا الحديث عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأفعال والأقوال.

ومن الغلو في الاعتقاد: تعظيم الصالحين مما يكون سببًا في عبادتهم.

ومن الغلو في الأفعال: الرمي بجمرات كبيرة في الحج.


ومن الغلو في الأقوال: الإتيان بأذكار زائدة عن المشروع.

ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ‬ قال: «هلك المتنطعون» قالها ثلاثًا.

أي المتكلفون المتعمقون المتأنقون، الغالون في الكلام، المتكلمون أو الغالون في عبادتهم، بحيث تخرج عن حدود الشريعة، أو الذي يدخل الباطل في قالب الحق، لقوة فصاحته، وأما الفصاحة التي توضح الحق وترد الباطل، وتظهر عظمة العلم والدليل فممدوحة.

قال ﷺ‬: «هلك المتنطعون» ثلاثًا، مبالغة في الإِبلاغ والتعليم، وقد بلغ ﷺ‬ البلاغ المبين.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([24])

الحمد لله سلك بأهل الإِستقامة سبيل السلامة، أحمده - سبحانه - وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.؟

أما بعد:

فأوصيكم أيها الناس - ونفسي - بتقوى الله عز وجل؛ فاتقوا الله رحمكم الله.

أيها المسلمون:

خلقنا الله - عز وجل - لعبادته وطاعته، وحذرنا من مخالفة أمره ومعصيته، وقد وردت النصوص بالتغليظ والتهديد، والوعيد الشديد على من يعبد الله عند قبر رجل صالح، مع أنه لا يقصد إلا الله، ومع كونه معصية فهو وسيلة إلى الشرك، وقد أبدى ﷺ‬ وأعاد، وكرر وغلظ في ذلك، فكيف إذا عُبد الرجل الصالح؟! فإنه أحق وأولى بما هو أعظم من هذا التغليظ، والمقصود أنه إذا كانت عبادة الله عند القبور منهيًا عنها، ومغلظًا فيها، فكيف بعبادة صاحب القبر؟! فإن ذلك شرك أكبر، وعبادة الله عنده وسيلة إلى عبادته، وما أدى إلى محرم فهو محرم، فإن الوسائل لها حكم الغايات، فوسائل الشرك محرمة لأنها تؤدي إليه.

في الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - أن أم سلمة ذكرت لرسول الله


ﷺ‬ كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور؛ فقال ﷺ‬: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح، أو العبد الصالح، بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله».

ذكرت أم سلمة - رضي الله عنها - للرسول ﷺ‬ في مرض موته كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من تَّصَاوير على وجه الذم، فأخبرها ﷺ‬ أن اليهود والنصارى إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا وصُوَره ليقتدوا به في أفعاله الصالحة وعبدوا الله عند هذا القبر، ثم بين ﷺ‬ أن هؤلاء أشر الخلق عند الله لضلالهم، وسنِّهم لمن بعدهم الغلو في قبور صالحيهم؛ حتى أفضى بهم ذلك الغلو إلى عبادتهم من دون الله.

وقد ذكر ﷺ‬ وصفهم هذا تحذيرًا لنا من أن نفعل مثل فعلهم، فنقع فيما وقعوا فيه من عبادة الصالحين، فأفاد الحديث أن من عبد الله عند قبر رجل صالح فهو من شرار الخلق عند الله، فما الظن بمن عبده؟!

والذين بنوا هذه الكنيسة جمعوا بين فتنتين ضل بهما كثير من الخلق:

الفتنة الأولى: فتنة القبور؛ بالبناء عليها، والعكوف عندها، وإسراجها والكتابة عليها.

الفتنة الثانية: فتنة التماثيل؛ أي الصور المجسمة.

وقد نهى ﷺ‬ أمته عن البناء على القبور وتصوير ذوات الأرواح، فإن الجهال الذين افتتنوا بتعظيم قبور الصالحين؛ فبنوا عليها المساجد وصوروا فيها صور صالحيهم، آل بهم الأمر إلى عبادتهم.

والفتنة بالقبور كالفتنة بالأصنام بل هي أشد، فإن الشرك بقبر رجل صالح يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر، ولهذا تجد أهل الشرك يتضرعون ويخشعون عند قبور الصالحين خشوعًا لا يكون منهم


في بيوت الله، ويحلفون بأسمائهم ويدعونهم عند الشدائد، ويذبحون وينذرون لهم، وينفقون الأموال الطائلة على ذلك، ولأجل هذه المفسدة نهى الرسول ﷺ‬ حتى عن الصلاة عند القبور.

قال شيخ الإِسلام: وإذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركًا بها، فهذا عين المحادة، فإن المسلمين قد أجمعوا على ما قد علموه بالاضطرار من دين الرسول ﷺ‬ أن الصلاة عند القبور منهي عنها، وأنه لعن من اتخذه مساجد فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذ مساجد عليها، فقد تواترت النصوص عن النبي ﷺ‬ بالنهي عن ذلك، والتغليظ فيه، وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها، متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة، وصرحوا بتحريم ذلك، ومن أطلق الكراهة منهم فينبغي أن تحمل كراهته على التحريم، إحسانًا للظن بالعلماء، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله ﷺ‬ النهي عنه، ولعن فاعله.

أيها المسلمون:

حرص الرسول ﷺ‬ على حماية التوحيد، واشتدت شفقه على أمته وحرصه على هدايتها حتى في الأوقات العصبية؛ إذ أنه لما نزل ملك الموت u لقبض روحه الشريفة لاقى من شدة سكرات الموت وهولها، ومع ذلك حرص على حماية التوحيد، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لما نزل برسول الله ﷺ‬ طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» [رواه البخاري ومسلم].

خشي ﷺ‬ على أمته أن يضلُّوا بعده فيعظـموا قـبره كما فعـل اليهود


والنصارى بقبور أنبيائهم يتعبدون فيها لله، حتى آل بهم الأمر إلى عبادة أنبيائهم، ولم يكن هذا اللعن في سياق الموت لهاتين الطائفتين الضالتين إلا على سبيل التحذير الشديد؛ لئلا تقع أمته ﷺ‬ في شيء من فعلهم عند قبره، والعن ليس مختصًا باليهود والنصارى بل يعم كل من فعل فعلهم.

قال القرطبي: وكُلُ ذلك لقطع الذريعة المؤدية إلى عبادة من فيها، كما كان السبب في عبادة الأصنام.

وقال شيخ الإسلام: ثم إنه لعن وهو في السياق من فعله، والصلاة عندها من ذلك وإن لم يُبن مسجد.

أما لعن من فعله كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - فذلك لأن التردد على القبور يوجب التأله لأربابها، ويورث عبادتهم.

والصلاة عندها من اتخاذها مساجد، فمن صلى عند القبور فقد اتخذها مساجد، فهو داخل في لعن الرسول ﷺ‬، ومرتكب نهيه شاء أم أبى، وفائدة التنصيص على زمن النهي، يقضي بأنه من الأمر المحكم الذي لم ينسخ، لكونه صدر في آخر حياته ﷺ‬.

ثم قال - رحمه الله-: وإن لم يُبن مسجد: أي إن الصلاة عند القبور وإليها من اتخاذها مساجد، الملعون من فعله، ولو بدون بناء مساجد.

عباد الله:

لما مات ﷺ‬ عمل الصحابة بوصيته ﷺ‬؛ فالصحابة - y - أشد الأمة اعتناء بمقام التوحيد، وأعلم هذه الأمة بالشرك وما يؤدي إليه، وقد علموا وامتثلوا ما حذر منه ﷺ‬ أمته من اتخاذ القبور مساجد، فلما توفي ﷺ‬ لم يبرزوا قبره، فلم يدفن خارج بيته ولا مع قبور أصحابه في البقيع، بل دفنوه في بيته لأمرين:


الأول: سنة الله في أنبيائه أنَّهم يدفنون حيث يموتون.

الثاني: خشي الصحابة - y - أن يُتَّخذ قبره ﷺ‬ مسجدًا فيؤدي ذلك إلى عبادته.

وقد حمى الله - سبحانه - قبر نبيه ﷺ‬ فلم يُتخذ مسجدًا، وأجاب - سبحانه - دعوته في قوله ﷺ‬: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد».

قال القرطبي: ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبره ﷺ‬ فأعلوا حيطان تربته، وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره، خافوا أن يُتخذ موضع قبره قبِلة، إذا كان مستقبلاً المصلي، فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة، من ناحية الشمال، حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره.

ولمسلم عن جندب بن عبد الله - t - قال سمعت النبي ﷺ‬ قبل أن يموت بخمس، وهو يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذًا من أمتى خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد».

يخبر الرسول ﷺ‬ قبل وفاته بخمس ليال عن تبرئه من أن يتخذ أحدًا من أمته خليلاً؛ لأن قلبه قد امتلأ من محبة الله وتعظيمه ومعرفته، فلا يسع لمخالة غيره - سبحانه-، فقد نال ﷺ‬ الخُلَّة كما نالها أبوه إبراهيم - u-.

فالخلّة خاصة لهذين النبيين الكريمين، ولا ينافي ذلك عبوديتهما لله؛ أمَّ المحبة عامة لجميع المرسلين وسائر المؤمنين فإن الله يحبهم ويحبونه.

وبيّن الرسول ﷺ‬ أنَّه على سبيل الفرض والتقدير لو كان له خليلٌ من


الخلق لكان أبا بكر، وفي هذا التصريح بأنَّ أبا بكر - t - أفضل هذه الأمة بعد نبيها محمد ﷺ‬، وفيه إشارة إلى خلافته؛ لأن من كانت محبته لشخص أشد كان أولى بالنيابة عنه من غيره.

وفي الحديث عنه ﷺ‬ أنه قال: «ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك، فقد نهى عنه في آخر حياته.

ويحذر ﷺ‬ الأمة أن تتخذ القبور مساجد كالذين من قبلهم، وأكد النهي فقال: «فإني أنهاكم عن ذلك» أي: عن اتخاذها مساجد، سدًا لذريعة الشرك، ففيه النهي عن اتخاذ القبور مساجد، من ثلاثة أوجه:

الأول: ذم من كان قبلهم على ذلك.

والثاني: تحذيرهم أن لا يتخذوها.

الثالث: قوله: «فإني أنهاكم عن ذلك» فبالغ في النهي، نصيحة لأمته عن أعظم ما يحل بهم.

ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود - t - مرفوعًا: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد».

يخبر الرسول ﷺ‬ أنه في آخر الزمان يضمحل الخير وأهله فلا يبقى إلا شرار الناس الذين تدركهم الساعة: أي تظهر عليهم مقدمات الساعة كخروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها - وهم كفار، ومن شرار الناس أيضًا الذين يتخذون القبور مساجد.

ومن صور اتخاذ القبور مساجد: أن تُنبى على القبور مساجد.

وأن تتخذ القبور مكانًا لعبادة الله عندها بالصلاة والذكر والدعاء؛ زعمًا أن ذلك أحرى لإِجابة الدعاء، أو طلبًا للفضيلة أو رجاء للبركة، وإن لم يُبْنَ عليها مسجد.


ويدخل في ذلك زخرفة القبور وإسراجها وتجصيصها، والكتابة عليها، وبناء القباب، ووضع الستور وتعليق الصور عليها والقيام على خدمة زائريها وإعطاء النقود لسدنتها، وكل ذلك وسيلة إلى الشرك وعبادة أصحابها، ومن غربة الإِسلام أن هذه الأمور المحرمة قد فعلها الكثير من متأخري هذا الأمة واعتقدوها قربة من القربات؛ وهو من أعظم السيئات.

وقد نهى ﷺ‬ عن بناء المساجد على القبور كما في الأحاديث السابقة صيانة لحمى التوحيد، وأبدى وأعاد وحذر من ذلك حتى عند حضور أجله سدًا لباب الشرك، فالواجب الحذر من ذلك والإِنكار على من يفعله.

وقد وقع بسبب البناء على القبور من المفاسد التي لا يحيط بها على التفصيل إلا الله، ما يغضب لله - من أجله - من في قلبه رائحة إيمان، ولقد أبدى ﷺ‬ وأعاد، وحذر من ذلك حتى في النزع سدًا لذريعة الشرك قبل وقوعه، وتحذيرًا للناس منه، وقد وقع كثير ممن ينتسب إلى الإٍسلام فيما حذر منه ﷺ‬، فإنا لله وإنا إليه راجعون؛ ومع وجود الشرك والدعاة إليه، فإن التوحيد - ولله الحمد - منتشر ومنتصر: «ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله -تبارك وتعالى-» جعلنا الله وإياكم منهم بمنه وجوده وكرمه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾ [يوسف: 106].

بارك الله لي ولكم....


الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

عباد الله:

يتساءل كثير من الناس عن حال قبر النبي ﷺ‬، وأنه في وسط المسجد النبوي، والجواب على ذلك من وجوه كما ذكر ذلك الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله-:

الوجه الأول: أنَّ المسجد لم يُبن على القبر، بل بُني المسجد في حياة النبي ﷺ‬.

الوجه الثاني: أنَّ النبي ﷺ‬ لم يُدفن في المسجد حتى يُقال: إنَّ هذا من دفن الصالحين في المسجد، بل دفن في بيته.

الوجه الثالث: أنَّ إدخال بيوت الرسول ﷺ‬، ومنها بيت عائشة - رضي الله عنها - مع المسجد ليس باتفاق من الصحابة، بل بعد أن انقرض أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل، وذلك عام 94هـ تقريبًا؛ فليس ممَّا أجازه الصحابة أو أجمعوا عليه، مع أن بعضهم خالف في ذلك، وممن خالف أيضًا سعيد بن المسيب من التابعين؛ فلم يرض بهذا العمل.

الوجه الرابع: أنَّ القبر ليس في المسجد، حتى بعد إدخاله، لأنه في حجرة مستقلة عن المسجد؛ فليس المسجد مبنيًا عليه، ولهذا جعل هذا


المكان محفوظًا ومحوطًا بثلاثة جدران، وجعل الجدار في زاوية منحرفة عن القبلة، أي مُثلث، والركن في الزاوية الشمالية، بحيث لا يستقبله الإِنسان إذا صلى لأنه مُنحرف.

فبهذا كله يزول الإِشكال الذي يحتج به أهل القبور، ويقولون هذا منذ عهد التابعين إلى اليوم، والمسلمون قد أقروه ولم ينكروه؛ فنقول: إنَّ الإِنكار قد وجد حتى في زمن التابعين، وليس محل إجماع، وعلى فرض أنه إجماع؛ فقد تبين الفرق من الوجوه الأربعة التي ذكرناها.

هذا، وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير...


الخطبة الأولى([25])

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70 – 71].

أما بعد:

فاتقوا الله - أيها المسلمون - اتقوه في السر والعلن، فإن تقوى الله - عز وجل - سبب الأمن في الدنيا والهداية في الآخرة: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82].

عباد الله:

إنَّ النفوس مولعة بحب الصالحين، وما أدخل إبليس الشرك على بني آدم إلا بالغلو في محبة الصـالحين وتعظيم قبورهم، والتوحيد والشرك ضدان لا


يجتمعان، كالليل والنهار، فمتى وجد الشرك انتفى الإِسلام، ولذا خاف ﷺ‬ أن يقع في أمته على قبره ما وقع من اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم من الغلو فيها حتى صارت أوثانًا تُعبد من دون الله، ولذا اشتد غضب الله عليهم، فدعا ﷺ‬ ربه أن لا يجعل قبره وثنًا يعبد، فقال ﷺ‬ في الحديث الذي رواه مالك: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد».

وقد استجاب الله - سبحانه - دعاء نبيه ﷺ‬ وحمى قبره بثلاثة جدران فلا أحد يصل إليه يجعله وثنًا يُعبد، إذ ليس فيه شيء من صور الوثنية، فلا يُطاف حول قبره، ولا يذبح له، بل حفظه الله على مر التاريخ إلى يومنا هذا.

ومنع الشرع من تتبع آثار الصالحين كقبورهم ومجالسهم ومواضع صلاتهم؛ إذ أن ذلك قد يؤول على عبادتهم، وقد خاف الصحابة - y - من غلو الجهال بالصالحين وآثارهم، فسدوا باب الشرك والفتنة.

عباد الله:

لما فتح المسلمون بلاد فارس وجدوا في بيت مال الهرمزان - أي: الكبير من ملوك العجم - سريرًا عليه رجل ميت يُقال له (دانيال) كانت الفرس تغلو فيه، فأمر عمر - t - أن يُحفر ثلاثة عشر قبرًا نهارًا ثم يدفن في أحدها ليلاً، ثم تسوى القبور حتى يخفى أمره على الناس فلا يُفتتن به، ولم يبرز قبره لئلا يعبده الجهال من دون الله.

وأمر عمر - t - بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي ﷺ‬ بيعة الرضوان؛ لأن الناس كانوا يذهبون فيُصلون عندها فخاف عليهم الفتنة.

ثم قال ﷺ‬ في تتمه الحديث: «اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» قال مجاهد: أتى ﷺ‬ بهذه الجملة بعد دعائه ربه أن لا يجعل قبره وثنًا يعبد، تنبيهًا على سبب لحوق شدة الغضب عليه، ولعـنهم، وهـو


توصُّلهم بذلك إلى أن تصير أوثانًا تُعبد، وفيه تحريم البناء على القبور، والصلاة عندها، وأنه من الكبائر، وكره مالك أن يقول: زرت قبر النبي ﷺ‬ وعلل الكراهة بقوله: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله-: وفيه أنه لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه.

وصفة الغضب لله - جل وعلا - ثابتة في الكتاب والسنة، فالله -سبحانه- يغضب إذا انتهكت محارمه، وغضب الله يتفاوت؛ في حديث الشفاعة: «إن الله غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله» وغضبه على الكافرين ليس كغضبه على عصاة المؤمنين.

أيها المسلمون:

قال - تعالى - في محكم التنزيل: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى﴾ [النجم: 19].

كان في الجاهلية رجل صالح يخلط الدقيق بالسمن وغيره، ليطعم به الحاج فسُمي باسم عمله، فلما مات غلا فيه الجهال وعظموه؛ لأجل عمله الصالح الذي كان يعمله، فعكفوا على قبره حتى عبدوه وصار قبره وثنًا من أكبر أوثان الجاهلية.

فالغلو في قبره كان سببًا في عبادته، وهذا هو السبب أيضًا في عبادة الصالحين من الأموات وغيرهم، فإنَّهم غلوا في تعظيم قبورهم ببناء المساجد عليها، وتشييد القباب ووضع الستور، وإضاءة السرج وبسط الفرش الفاخرة، وإلقاء الورود والزهور عندها، ووضع الطيب والكتابة عليها، وذكر المنامات الكاذبة، ورواية القصص المختلفة مثل ادعائهم: أنّ هـذا الميت أنزل بفلان النفع، وبفلان الضر، إلى أن آل الأمر إلى عبادتهم،


بالذبح، والنذر والدعاء، والاستغاثة، والطواف حولها إلى غير ذلك من العبادات التي لا تصلح إلا لله وحده.

فالشرع الحكيم لم يميز بين قبور الصالحين وغير الصالحين، بل جميع القبور صفتها في الظاهر واحدة، ومن خالف في ذلك فقد فتح باب الشرك وعبادة القبور.

وفي الحديث عن ابن عباس - t - قال: «لعن رسول الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» [رواه أهل السنن].

لعن الرسول ﷺ‬ زائرات القبور؛ لأن زيارة المرأة للقبور يترتب عليها مفاسد عظيمة، من النياحة والجزع وافتتان الرجال بها، فاللعن يفيد تحريم زيارة النساء للمقابر وأن ذلك من الكبائر، وكذا لعن ﷺ‬ الذين يتخذون المقابر مواطن عبادة أو يضيؤونها بالسرج والأنوار؛ لأن هذا غلو ومدعاة للشرك بأصحابها.

والمرأة - عباد الله - ضعيفة لا تصبر، ولو كانت تزور لا يأمن منها العويل والصراخ، وعلى فرض أن بعضهن عندها جلد ولكن الشأن في جنس النساء، وقد ذكر ابن تيمية: أنه لا يعرف أحدًا من أهل العلم من قال باستحباب زيارة المرأة للقبور، والخلاف بين التحريم والجواز، والتحقيق هو تحريم زيارة المرأة للقبور.

أيها المسلمون:

زيارة الرجال للقبور لها ثلاثة أحوال:

الحالة الأولى: أن يزورها المسلم متبعًا لسنة، فيدعو لأهلها عمومًا ومعارفه خصوصًا، فيكون مُحسنًا إليهم بالدعاء لهم وطلب العفو والمغفرة والرحمة لهم، ومُحسنًا إلى نفسه بإتباع السنة وتذكر الآخـرة وتذكـر المآل


والمصير بعد الرحيل من هذه الدنيا الفانية، والاعتبار والاتعاظ، فهذه زيارة شرعية.

الحالة الثانية: أن يزورها لعبادة الله عندها، فيصلي، أو يدعو، أو يذبح لله عندها، أو يتمسح بها ويتوسل إلى الله بأهلها، كإسراجها والبناء عليها، والغلو فيها وفي أهلها إذا لم يبلغ رتبة العبادة فهذه زيارة بدعية ومن وسائل الشرك.

الحالة الثالثة: أن يزورها ليذبح للميت ويتقرب إليه بذلك، أو يزورها لطلب الغوث والنصر منه، أو يزورها لطلب الولد مثلاً، فهذا شرك أكبر.

وقوله ﷺ‬: «والمتخذين عليها المساجد والسرج».

أي: ولعن رسول الله ﷺ‬ المتخذين على القبور المساجد المبنية، والموقدين عليها السرج، وكذا الصلاة عندها، والدعاء ونحو ذلك، وهذا حرام بإتفاق العلماء، وفي صحيح مسلم أن النبي ﷺ‬ قال: «لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها» وإذا كانت المساجد بنيت لذكر الله، وقراءة القرآن والصلاة، كانت القبور بذلك مساجد.

قال ابن القيم: اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها من الكبائر.

والواجب على من صلي في مسجد به قبر أن يعيد صلاته، قال الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله-: لا تصح الصلاة في المساجد التي فيها القبور، والواجب إعادة ما صلى المسلم فيها.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162، 163].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله المُبدئ المُعيد، الفعال لما يريد، أحاط بكل شيء علمًا، وهو على كل شيء شهيد، علا بذاته، وقهر بقدرته، وهو أقرب إلى عبده من حبل الوريد، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أدخرها ليوم يشيب لهوله الوليد، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، بشر وأنذر، وحذر يوم الوعيد، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله-، واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، يوم ينفخ في الصور، ويبعث من في القبور، ويظهر المستور، يوم تبلى السرائر، وتكشف الضمائر، ويتميز البر من الفاجر.

عباد الله:

لقد جعل الله في التوبة ملاذًا مكينًا وملجأ حصينًا، يلجُه المذنب معترفًا بذنبه، مؤملاً في ربه، نادمًا على فعله، غير مصر على خطيئته، يحتمي بحمى الاستغفار، يتبع السيئة الحسنة؛ فيكفر الله عنه سيئاته، ويرفع من درجاته.

ومن وقع في شيء من هذه البلايا والرزايا فعليه بالتوبة فإن التوبة الصادقة تمحو الخطيئات مهما عظمت حتى المكفر والشرك: ﴿قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: 38] وقتلة الأنبياء ممن قالوا إن الله ثالث ثلاثة وقالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم -تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا- لقد


ناداهم المولى بقوله: ﴿أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [المائدة: 74].

فتح ربكم أبوابه للتائبين، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، يقول - جل جلاله، في الحديث القدسي: «يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم» وقال - عز وجل-: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]، وقال سبحانه: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [النساء: 110] ومن ظن أن ذنبًا لا يتسع لعفو الله فقد ظن بربه ظن السوء، كم من عبدٍ كان من إخوان الشياطين فمنَّ الله عليه بتوبة محت عنه ما سلف؛ فصار صوامًا قوامًا، قانتًا لله ساجدًا وقائمًا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه.

فمن تدنس بشيء من قذر الشرك والمعاصى؛ فليبادر بغسله بماء التوبة والاستغفار؛ فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.

جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة - t - عن النبي ﷺ‬ قال: «إذا أذنب عبد فقال: رب إني عملت ذنبًا فاغفر لي، فقال الله: علم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب قد غفرت لعبدي، ثم أذنب ذنبًا آخر فذكر مثل الأول مرتين أُخريين، حتى قال في الرابعة: فليعمل ما شاء»، يعني ما دام على هذه الحال كلما أذنب استغفر منه غير مُصِّر.

جعلنا الله من التوابين الأوابين، وغفر لنا وعفا عنا، تجاوز عن زللنا وتقصيرنا بمنه وكرمه.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([26])

الحمد لله أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، وجعلنا أهل الإِسلام في الناس خير أمة، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وكان بُشرى للمؤمنين ونذرًا للمخالفين ولجميع العالمين رحمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، كمل به بناء النبوة وختم به ديوان الرسالة، ونمت بعثته مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، فالفلاح لمن تبعه والخزي والخسارة لمن عصاه وخالف أمره، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، كانوا على الحق أعلامًا وللهدى أئمة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها الناس: اتقوا الله حق تقاته، اتقوا الله ما استطعتم، واحذروا غضبه ومقته، فكم أغدق خيرًا، وكشف ضرَا، وستر عيبًا: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران: 30].

أيها الإخوة المسلمون:

لا حياة لأمة الإِسلام إلا بالإِسلام، بقاؤها مرهون بالمحافظة عليه، وفناؤها راجع إلى التفريط فيه، تبقى ببقائه في قلوبها وتضمحل باضمحلاله من نفوسها وديارها، إنه دستورها ونظامها؛ بل هو عزها وحياتها.


دين كامل في مبناه، واف في معناه، سام في مغزاه، لا ترى فيه عوجًا ولا أمتًا؛ دين نسبه الله على نفسه: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ﴾ [آل عمران: 19].

أيها المسلمون:

امتنَّ الله - سبحانه وتعالى - على عباده إذ بعث فيهم رسوله محمدًا ﷺ‬، قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: 128].

أخبر - عز وجل - أنَّه ﷺ‬ من جنسهم، يعرفون نسبه، ولغته، وصدقه، أمانته؛ وذلك أقرب وأسرع إلى فهم الحجة، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ [التوبة: 128].

وأخبر أنَّه شفيق على أمته يشق عليه ما يشق عليها؛ وكم ترك من أعمال وأمور خشية المشقة على أمته، قال تعالى: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾.

ثم ذكر - عز وجل - أنه ﷺ‬ شديد الحرص على هداية أمته، وحصول النفع الدنيوي والأخروي لها، كما قال تعالى: ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُم﴾.

وختم سبحانه الآية بأنه ﷺ‬ رحيم بالمؤمنين، قال تعالى: ﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾.

ومن رحمته بأمته وشفقته عليهم اجتهد في سد كل طريق يوصل إلى الشرك، وحذر وأنذر، وأبدى وأعاد، وخص وعم، وقطع الذرائع والوسائل المفضية إليه، فصلى الله عليه وسلم، كما بلغ البلاغ المبين.

ومن حمايته لجناب التوحيد أنه ﷺ‬ نهى عن تعطيل البيوت من صلاة النوافل، والدعاء، وقراءة القرآن، فتكون بمنزلة القبور، قال ﷺ‬: «لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قَبَورًا، فإنَّ الشيطان يَنْفرُ من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة» [رواه مسلم].


وأمر ﷺ‬ بتحري العبادة في البيوت، فقال: «أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة» [رواه البخاري] ونهى عن فعلها عند القبور عكس ما يفعله المشركون من اليهود والنصارى ومن تشبه بهم من هذه الأمة.

فمنع الرسول ﷺ‬ الصلاة والدعاء وغير ذلك من العبادات في المقبرة، وإن كان المُصلي لا يُصلي إلا لله، فعبادة الله عند قبور الصالحين تؤدي إلى الشرك وعبادة أصحابها من دون الله؛ وذلك من البدع القادحة في الدين.

وبهذا يتبين لنا كمال حماية الرسول ﷺ‬ لجناب التوحيد وسده كل طريق للشرك.

ونهى ﷺ‬ عن اتخاذ قبره عيدًا، فقال ﷺ‬: «ولا تجعلوا قبري عيدًا» فتكرار زيارته والاجتماع عنده على وجه معتاد لأجل عبادة الله وسيلة إلى الشرك به، فالنهي عام لجميع القبور؛ لأن قبره ﷺ‬ أفضل قبر على وجه الأرض، ومع ذلك قد ورد المنع من اتخاذه عيدًا، فقبر غيره أولى بالمنع كائنًا من كان.

أيها المسلمون:

لا يجوز شد الرحال والسفر لأجل زيارة قبر النبي ﷺ‬؛ لما ثبت عنه ﷺ‬ في الصحيح: «لا تشدوا الرحال إلا لثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى»، فإن نوى بشد الرحال زيارة القبر فقط فيحرم ذلك، وإن نوى الصلاة في المسجد والزيارة جاز ذلك قال ﷺ‬: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا عليَّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم»، وقال ﷺ‬: «من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرًا» [رواه مسلم]، ومن أفضل صيغ الصلاة عليه ﷺ‬: «اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل


إبراهيم، إنك حميد مجيد».

والصلاة من الله على العبد: الثناء عليه في الملأ الأعلى. ولا تعرض عليه ﷺ‬ من أعمال أمته إلا الصلاة والسلام عليه فقط، لا كما يظنه أهل البدع أن كل أعمال أمته تعرض عليه.

وقد أمر الله عباده المؤمنين بالصلاة والسلام على نبيه في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56] كما أمر ﷺ‬ بكثرة الصلاة عليه في أي مكان من الأرض، وبين أنَّ ذلك يبلغه من القريب والبعيد على حد سواء، وأجرهما واحد فلا حاجة إلى المجيء إلى قبره، قال الحسن بن علي - رضي الله عنهما-: «ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء»، وهذا من كمال نعمة الله وتيسيره على المسلمين.

فإن سلَّم المُسلم عليه عند القبر، أو سلّم عليه من بعيد، عُرض على الرسول ﷺ‬ سلامه وبلغه، كما قال ﷺ‬: «إنِّ لله ملائكة في الأرض سيَّاحين يُبَلِّغُوني منْ أمتي السَّلام» [رواه أحمد] وهذا ما خصَّ به ﷺ‬.

وقد حرص الصحابة - رضوان الله عليهم - على قطع الطرق المؤدية إلى الشرك.

عن علي بن الحسين - رحمه الله - أنه رأي رجلاً يجيءُ إلى فرجة [وهي الكوة في الجدار والخوخة ونحوهما] كانت عند قبر النبي ﷺ‬، فيدخل فيها فيدعو، فنهاه وقال: ألا أحدثكم حديثًا سمعته من أبي عن جدي، عن رسول الله ﷺ‬ قال: «لا تتخذوا قبري عيدًا».

أنكر علي بن الحسين - رحمه الله - على رجل مجيئه إلى فرجة عند قبر النبي ﷺ‬ ودخوله فيها يدعو الله - سبحانه - لأن ذلك من اتخاذ قبر الرسول ﷺ‬ عيدًا، وفي هذا الفعل مشروعية إنكار المنكر وتعليم الجاهل.


كما أن قصد الرجل قبر الرسول ﷺ‬ لأجل السلام إذا لم يكن يريد المسجد من اتخاذ قبر الرسول ﷺ‬ عيدًا وهو المنهي عنه.

قال شيخ الإسلام: ما علمت أحدًا رخص فيه؛ لأن ذلك نوع من إتخاذه عيدًا.

ويدل أيضًا على أن قصد القبر للسلام إذا دخل المسجد ليُصلي منهي عنه؛ لأن ذلك من اتخاذه عيدًا وأنه لم يشرع، وكره الإمام مالك - رحمه الله - لأهل المدينة كلما دخل الإنسان المسجد أن يأتي قبر النبي ﷺ‬؛ لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك، وإنما كانوا يأتون إلى مسجده فيصلون، فإذا قضوا الصلاة قعدوا أو خرجوا، ولم يكونوا يأتون القبر لسلام، لعلمهم أن الصلاة والسلام عليه ﷺ‬ في الصلاة أفضل وأكمل، وكانت الحجرة في زمانهم يؤتى إليها من الباب، ومع التمكن لا يدخلون عليه، لا للسلام ولا للصلاة، ولا للدعاء لأنفسهم ولا لغيرهم، فلم يكونوا يعتادون الصلاة والسلام عليه عند قبره، لنهيهم بقوله: «لا تتخذوا قبري عيدًا» وغير ذلك، وإنما كان يأتي أحدهم من الخارج، إذا قدم من سفر، كما كان ابن عمر يفعله، فيقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، والسلام عليك يا ابتاه، ثم ينصرف ولا يقف للدعاء.

قال شيخ الإسلام: لأنه لم ينقل عن أحد من الصحابة، فصار بدعة. واتفق الأئمة على أنه إذا دعا لا يستقبل القبر، وفي هذا الحديث أيضًا دليل على منع شد الرحل إلى قبره ﷺ‬، أو غيره من القبور والمشاهد، لأن ذلك من اتخاذها أعيادًا، ومن أعظم أسباب الإِشراك بها، كما هو الواقع، واتفق الأئمة على المنع من ذلك؛ لما في الصحيحين: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجـد الأقصـى» فدخل في


النهي شدها لزيارة القبور والمشاهد، بل هي أولى بالنهي.

وبهذا يتبين لنا - عباد الله - أن الرسول ﷺ‬ نهى عن اتخاذ القبور عيدًا؛ حماية لجناب التوحيد وسدًا لكل طريق يوصل إلى الشرك، وهذا من كمال شفقته ﷺ‬ ورحمته بأمته وحرصه على هدايتهم، فعلينا اتباع أمره واجتناب نهيه، ففي ذلك الفوز والفلاح العظيم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [الفتح: 28].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله المتوحد بالعظمة والجلال، المتفرد بالبقاء والكمال، أحمده - سبحانه-، وأشكره على جزيل الإِنعام والإِفضال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله إلا هو الكبير المتعال، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، المنقذ بإذن ربه من الضلال، والداعي إلى كريم السجايا وشريف الخصال، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، خير صحب وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله-، فبتقوى الله تنال الدرجات، وتزكو الأعمال، واكثروا من ذكره وشكره، فبذكره تطمئن القلوب، وبشكره تحفظ النعم، وتزودوا من الصالحات فخير الزاد التقوى.

عباد الله:

معنى شهادة أن محمدًا رسول الله: هو الاعتراف باطنًا وظاهرًا أنه عبد الله ورسوله إلى الناس كافة، والعمل بمقتضى ذلك من طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألاَّ يعبد الله إلا بما شرع.

ولشهادة أن محمدًا رسول الله ركنان: هما قولنا: عبده ورسوله، وهما ينفيان الإِفراط والتفريط في حقه ﷺ‬، فهو عبده ورسوله، وهو أكمل الخلق في هاتين الصفتين الشريفتين، ومعنى العبد هنا: المملوك العابد؛ أي: أنه بشٌّر مخلوق مما خُلق منه البشر، يجري عليه ما يجري عليهم، كما قال


تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ [الكهف: 110]، وقد وفى ﷺ‬ العبودية حقها، ومدحه الله بذلك، قال تعالى: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ [الزمر: 36].

ومعنى الرسول: المبعوث على الناس كافة بالدعوة إلى الله بشيرًا ونذيرًا.

وفي الشهادة بهاتين الصفتين: نفي للإِفراط والتفريط في حقه ﷺ‬، فإن كثيرًا ممن يدعي أنه من أمته أفرط في حقه، وغلا فيه؛ حتى رفعه فوق مرتبة العبودية إلى مرتبة العبادة من دون الله، فاستغاث به من دون الله، وطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله؛ من قضاء الحاجات وتفريج الكربات. والبعض الآخر جحد رسالته أو فرط في متابعته واعتمد على الآراء والأقوال المخالفة لما جاء به؛ وتعسف في تأويل أخباره وأحكامه.

جعلنا الله وإياكم ممن حقق التوحيد قولاً وعملاً واعتقادًا، واتبع سنة نبينا محمد ﷺ‬ ظاهرًا وباطنًا.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([27])

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله-، وراقبوه في السر والعلن.

أيها المسلمون:

إن التوحيد هو أوجب الواجبات، والشرك أعظم المحرمات، فالواجب الحذر منه واجتنابه، كيف لا؟! وقد ورد في بعض الآيات والأحاديث أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان.

فمن دعا غير الله أو عبده فقد اتخذه وثنًا وخرج بذلك من الدين، ولم ينفعه انتسابه إلى الإِسلام؛ فكم انتسب إلى الإِسلام من مُشرك وملحد وكافر ومنافق، والعبرة بروح الدين وحقيقته، لا بمجرد الأسامي والألفاظ التي لا حقيقة لها.

تأموا - رحمكم الله - قول الله - عز وجل - في كتابه الكريم: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ [النساء: 51].

نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرف وحيي بن الأخطب - وهما من علماء اليهود - لما قدما إلى أهل مكة، فسألوهم: أنتم أهل الكتاب وأهـل


العلم فأخبرونا عنا وعن محمد؟ فقالا لهم: أنتم خير وأهدى سبيلاً، قالا ذلك بغيًا وحسدًا، وإلا فهما يعلمان أن محمدًا ﷺ‬ على الحق، فأنزل الله - سبحانه-: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ﴾.

ويخبر الله - سبحانه - نبيه محمد ﷺ‬ عن اليهود الذين أعطوا علمًا من كتاب الله وهما التوراة والإِنجيل، وما فيهما من استحقاق الله وحده للعبادة ومع ذلك يصدقون بالباطل من عبادة الأصنام، والكهانة، والسحر، يطيعون الشيطان في ذلك، ويفضلون أهل الباطل على أهل الحق حسدًا وبغيًا وفي هذا ذمٌ لهم وتحذير لنا أن نصنع كما صنعوا.

وقال - سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ﴾ [المائدة: 60].

أضاع اليهود دينهم، وطعنوا في دين الإِسلام الذي هو توحيد الله وإفراده بالعبادة.

فقال الله - سبحانه - لنبينا محمد ﷺ‬: قل لهؤلاء العائبين لدينكم: هل أخبركم بمن ينال شر الجزاء عند الله يوم القيامة؟ هم اليهود الذين لعنهم الله وغضب عليهم غضبًا لا يرضى بعده أبدًا، وقد عوقب أصحاب السبت منهم بالمسخ إلى قردة وخنازير، وجعل منهم من يعبد الطاغوت من دون الله بالنذر والذبح، والدعاء والاستغاثة، وغير ذلك من أنواع العبادة، فإذا كان في اليهود من عبد الطاغوت؛ فكذلك يكون في هذه الأمة من يعبد الطاغوت من دون الله.


عباد الله:

لما ذكر الله - عز وجل - قصة أصحاب الكهف؛ ذكر قول أصحاب النفوذ والغلبة فيهم؛ قال سبحانه: ﴿قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا﴾ [الكهف: 21].

قصة أصحاب الكهف - رحمكم الله - قصة عظيمة جديرة بالتأمل والتفكر، فأصحاب الكهف فتية صالحون فروا بدينهم من قومهم المشركين لئلا يفتنوهم عنه، فهربوا منهم ولجؤوا إلى الكهف، ناموا فيه تسع سنين وثلاثمائة سنة، وهذه من آيات الله العجيبة، فهم نائمون لا يحتاجون على أكل وشرب، ومن حكمة الله أنه يقلبهم ذات اليمين وذات الشمال. ثم بعثهم الله - سبحانه - من نومتهم الطويلة فاطلع الناس على أمرهم وبقوا على قيد الحياة زمنًا، ثم توفاهم الله بعد ذلك، فاختلف الناس في أمرهم، فقال أصحاب الكلمة والنفوذ: لنتخذن عليهم مسجدًا؛ ليُعْرَفوا فيقصدهم الناس ويتبركون بهم، وفي هذه القصة بيان لغلو النصارى في تعظيم الصالحين ببناء المساجد على قبورهم ليتذكروهم ويتأسوا لهم، إلى أن أدى بهم هذا الغلو إلى عبادتهم من دون الله.

ذمهم الله بذلك تحذيرًا لهذه الأمة أن تسلك طريقة النصارى، وقد وقع في هذه الأمة تعظيم قبور الصالحين ببناء المساجد عليها إلى أن آل الأمر إلى عبادتهم وقد شابهوا بذلك النصارى.

وقد حذر ﷺ‬ أمته أن تتبع طريق من كان قبلها؛ فعن أبي سعيد - t - أن رسول الله ﷺ‬ قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة؛ حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» [رواه البخاري ومسلم].

دل الحديث -عباد الله- على أن ما من شيء يفعله أهل الكتاب مما ذمهم الله


به؛ إلا ويفعله جُهال هذه الأمة، وهو خبر معناه النهي عن متابعتهم، وقد وقع ما أخبر به النبي ﷺ‬، وهذه من علامات نبوة الرسول ﷺ‬ ومعجزاته.

في الحديث الآخر حذر ﷺ‬ من التشبه بالمشركين، فقال: «من تشبه بقوم فهو منهم» لأن التشبه بهم في عباداتهم وعاداتهم يؤدي إلى فساد دين المسلمين ومحبة أعداء الدين وتعظيمهم والإعجاب بما هم عليه.

عباد الله:

من المؤسف اتّباع جُهَّال هذه الأمة طريق اليهود والنصارى كعبادة الطاغوت، وتفضيل أهل الباطل على أهل الحق، وتعظيم قبور الصالحين وبناء المساجد عليها، والإِعراض عن كتاب الله وسنة رسوله ﷺ‬ والإِقبال على كتب البدع والضلال وأكل الربا وأكل السحت، والاحتفال بأعيادهم الباطلة كعيد رأس السنة الميلادية وعيد الحب وعيد الأم وغيرها، واستعمال التاريخ الميلادي بدلاً من التاريخ الهجري، والتشبه بهم في اللباس وقصات الشعر، والحديث بلغتهم لغير حاجة، وغير ذلك؛ حذو القُذة بالقُذة.

فالواجب - عباد الله - الحذر من التشبه باليهود والنصارى، ولوزم الطريق المستقيم مع دعاء الله - سبحانه - بالثبات على هذا الدين إلى يوم أن نلقاه.

ولمسلم عن ثوبان - t - أن رسول الله ﷺ‬ قال: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يُهلكها بسنة بعامة، وأن لا يُسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال: يا محمد إذا قضيت قضاءً فإنه لا يُرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكها بسنة بعامة، وأن لا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها؛ حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم


بعضًا» [رواه مسلم].

وزاد البرقاني في صحيحه: «وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يُرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وأنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة؛ لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى».

أيها المسلمون:

اشتمل هذان الحديثان على أمور وأخبار صادقة ودلائل على نبوته ﷺ‬:

الأول منها: أن الله زوى الأرض لرسولنا ﷺ‬ حتى أبصر ما تملكه أمته من أقصى المشارق والمغارب، كما ينظر الإنسان الشيء في المرآة، وقد وقع مصداق ما أخبر به ﷺ‬ وذلك أن مُلك أمته اتسع حتى بلغ من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، وأخبر أنه أُعطي الكنزين فوقع كما أخبر؛ فقد حازت أمته مُلكي كسرى وقيصر؛ بما فيهما من الذهب والفضة والجواهر في خلافة عمر - t - الذي أنفق كنوزهما في سبيل الله.

الثاني: دعاء الرسول ﷺ‬ لأمته، وهذا من كمال شفقة الرسول ﷺ‬ بأمته أن دعا الله - سبحانه - بدعوتين خيرتين:

الأولى: دعاؤه ﷺ‬ لربه - جل وعلا - أن لا يُهلك أمته جميعًا بجدب عام، وقد أجاب الله - سبحانه - دعوته، فقد كان في الأمم السابقة كقوم عاد وثمود عذاب الاستئصال بخلاف هذه الأمة، فإنَّ الله قد دفع عنها ذلك ببركة دعاء نبيها ﷺ‬.

الثانية: دعاؤه ﷺ‬ لربه - جل وعلا-؛ ألا يسلط عليها عدوًا من الكفار،


يستولي على بلادهم، ويستأصل جماعتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطار الأرض، وقد أجاب الله دعوته ما دامت الأمة مجتنبة الاختلاف والتفرق والتناحر فيما بينها، فإذا وجد ذلك سلط عليهم عدوهم من الكفار، وقد وقع كما أخبر ﷺ‬ حينما تفرقت الأمة.

الثالث: خوفه ﷺ‬ على أمته من الأئمة المضلين: فالأمراء والعلماء والُّعباد هم قادة الناس، وبسببهم يهتدي المهتدون: فالأمراء لأجل رئاستهم، والعلماء لأجل علمهم، والعباد لأجل عبادتهم.

وقد حصر ﷺ‬ خوفه على أمته من هؤلاء الأئمة إذا ضلوا عن طريق الحق، وقد حكى الله سبحانه - ندامة أهل النار على اتباعهم الأئمة المضلين بقولهم: ﴿رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾ [الأحزاب: 67].

الرابع مما أخبر به النبي ﷺ‬: وقوع فتنة القتال في هذه الأمة؛ إذ أخبر ﷺ‬ أنه إذا وقعت الفتنة والقتال في الأمة فإن ذلك يستمر فيها إلى يوم القيامة، وقد وقع كما أخبر، فمنذ حدثت الفتنة بمقتل عثمان - t-، وهي مستمرة إلى اليوم.

الخامس مما أخبر به النبي ﷺ‬: ظهور الشرك وعبادة الأوثان في هذه الأمة: فقد أخبر ﷺ‬ أنه لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من هذه الأمة بالمشركين، فيرتدون عن الإِسلام برغبتهم، ويشاركون أهل الشرك في السكنى والإِقامة معهم، ولا تقوم الساعة أيضًا حتى يعبد خلق كثير من أمته الأوثان من دون الله، وقد وقع ما أخبر به ﷺ‬، فعبد جهال هذه الأمة قبور الصالحين وغيرهم بأنواع من العبادة؛ كالذبح والنذر والدعاء والإِستغاثة والطواف وغير ذلك، وسموا ذلك توسلاً وتقربًا إلى الصالحين وهذا باطل، فمن عبد غير الله فقد إتخذه وثنًا، ووقع في الشرك الأكبر، ولا ينفعه انتسابه


للإسلام وقول (لا إله إلا الله).

السادس مما أخبر به النبي ﷺ‬: ظهور مدعي النبوة؛ فقد أخبر ﷺ‬ عن ظهور مدعي النبوة وعددهم ثلاثون كذابًا، والمراد ممن تقوم لهم قوة وشوكة وإلا فهم أكثر من ذلك، وقد ظهر مصداق ذلك في زمن الرسول ﷺ‬ وما بعده، فقد ادعى أناس النبوة كمسيلمة الكذاب، ومرزا غلام القادياني، وغيرهما ممن فضح الله كذبهم وافتراءهم؛ فمحمد ﷺ‬ هو خاتم النبين لا نبي بعده.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ [الأحزاب: 40].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله، من اعتصم بحبله وفقه وهداه، ومن اعتمد عليه حفظه ووقاه، أحمده - سبحانه - وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله ومصطفاه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن سار على نهجه وهداه.

أما بعد:

يقول - عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام-: «ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة؛ لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله - تبارك وتعالى ـ».

بشر ﷺ‬ هذه الأمة أنه لا تزال فيها طائفة منصورة، حافظة لهذه الشريعة، قائمة بالعلم والجهاد والذب عن الدين، لا يضرهم من خذلهم وترك نصرتهم، ولا يضر ذلك الثابتين على الحق، فإن الله - سبحانه - ناصرهم، كما قال تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47].

وهذه الطائفة الثابتة على الحق باقية إلى قيام الساعة، والمقصود إلى قرب قيامها؛ لما صح عن النبي ﷺ‬ من قبض ما بقى من المؤمنين بالريح الطيبة ووقوع الآيات العظام، ثم لا يبقى إلا شرار الخلق الذين عليهم تقوم الساعة، نسأل الله أن يجعلنا من الطائفة المنصورة التي تقوم بأمر الدين وتتمسك به ظاهرًا وباطنًا.


ويتبين لنا بعد هذه الآيات والأحاديث السابقة؛ أن في هذه الأمة من يقع في الشرك بالله وعبادة الأوثان والطواغيت، فالواجب علينا عبادة الله وحده لا شريك له، واجتناب عبادة الأوثان، وصرف العبادة له وحده دون ما سواه.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([28])

الحمد لله الذي رفع راية التوحيد، ونصر عباده الموحدين، أشهد أن لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين، وأشهد أنَّ نبينا محمد ﷺ‬ أرسله الله كافة إلى الناس أجمعين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا - عباد الله-: اتقوا ربكم، فإن تقواه خير عاصم من القواسم، وخير مانع من المصارع والقوامع: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

أيها المسلمون:

خلق الله العباد على الحنيفية السمحة، وجبلهم على الفطرة النقية والشيطان عدو الإِنسان يقعد لهم الصراط المستقيم، ويأتيهم من كل جهة وسبيل، حتى اجتال من شاء الله منهم، فكبت عقولهم وأصابتها لوثات وعلل؛ آمن بعضهم بالخرافة، ورضي آخرون بالكهانة، فباتوا سادرين على باطلهم، لاهين بالسجع والتخمين، يقذفون بالغيب في كل حين، أخبارهم أساطير وأوهام، وخليط كلام، والإسلام دين يزيل الخرافة من الفكر، والرذيلة من القلب، وقد ضل بعض الناس فلم يقفوا عند حدود ما أخبرتهم به الرسل من غيوب ماضية وحوادث قادمة.

ولما هُجر التوحيد - من البعض - علمًا وتعلمًا وإرشادًا وتذكيرًا، ضعف


الإيمان وكثرت الشركيات، ومع التوسع في أمور الحياة إعلامًا وسفرًا واستقدامًا، غشي كثير من الناس جوانب مخلة بالتوحيد، استشرت وانتشرت حتى عمَّت وطمَّت، ومن أبرزها وأوضحها إتيان السحرة والكهان، وزيارة المشعوذين والدجالين.

وقد ابتُلي بعض الناس بكثير من الأخطاء الفادحة، ومن ذلك ضعف التوكل على الله - عز وجل - حين نزول البلاء والغفلة عن الدعاء، وترك الحبل على الغارب لمراجعة الأطباء الشعبيين، وأكثرهم من أهل الدجل والشعوذة.

أيها المسلمون:

إن السحر والكهانة من كبائر الذنوب المحرمات، ومن الآثام الموبقات، وإن الساحر والكاهن يفتن قلوب البسطاء، ويخدع السذج والرعاع، عمله شر وبلاء، يتجافى عنه أولو الألباب، وينأى عنه أصحاب الفطر السليمة، والقلوب المستنيرة، يقول عز وجل: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ [الذاريات: 52] فجميع الأمم واجهت رسلها بهذه المقالة الظالمة.

والسحر: عزائم ورقى وكلام يُتكلم به وأدوية وتدخينات وغير ذلك؛ وهو شرك أكبر مناف للتوحيد مُحرم في جميع الأديان، لا يُتوصل إليه إلا بعبادة الشياطين والتقرب إليها، وشره عظيم على المجتمع، فكم قتل السحر من أناس، وأمرض آخرين وذهب بعقولهم، وفرق بين زوج وزوجته، وسبب العداوة والبغضاء بين أفراد الأسرة الواحدة، وهذا كله فساد وظلم وعدوان، قال تعالى: ﴿وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾ [طه: 69].

وصدق الله، فأحوال السحرة دنيئة، وأفعالهم رديئة، والساحر لو كان له


من الأمر شيء لنفع نفسه، ورفع ما ينزل به من بلاء أو أمراض، ولستكثر من الخيرات، ونال رفيع الدرجات، ولكن كل ذلك بتقدير العزيز العليم.

ومن الأدلة على تحريم السحر:

قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ﴾ أي: قد علم اليهود أن من رضي بالسحر عوضًا عن شرع الله ما له في الآخرة من حظ ولا نصيب؛ لأنه باع دينه بدنياه، وهذا من أبلغ الوعيد، إذ الآية الكريمة دالة على تحريمه.

وفي قوله تعالى: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ قال عمر - t-: الجبت: السحر؛ والطاغوت: الشيطان، وقد ذم الله - سبحانه - في الآية اليهود الذين يصدِّقون بالجبت الذي منه السحر.

وقال جابر - t-: الطواغيت: كُهان كان ينزل عليهم الشيطان في كل حي واحد.

فبين - t-: أن الكهان تتنزل عليهم الشياطين ويخبرونهم بما يسترقون السمع من السماء، فَيَصْدقُون مرة ويكْذبُون مائة كذبة ويزيدون وينقصون، وقد كان لكل قبيلة من قبائل العرب كاهن يتحاكمون إليه قبل بعثة الرسول ﷺ‬، فأبطل الله ذلك بالإِسلام وحُرست السماء بكثرة الشهب.

وفي الحديث عن أبي هريرة t أن رسول الله ﷺ‬ قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» قالوا: وما هن يا سول الله؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» [رواه البخاري ومسلم].

هذه -يا عباد الله-: سبع مهلكات موبقات لفاعلها، يترتب عليها عقوبات


في الدنيا وعذاب في الآخرة؛ ولهذا حذر النبي ﷺ‬ من الوقوع فيها وأمر بالابتعاد عنها:

الأولى: الشرك بالله؛ بدأ ﷺ‬ بالشرك؛ لأنه أعظم ذنب عُصي الله به، وهو: تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله، كمن يستغيث بأصحاب القبور ويذبح لها وينذر لها، وفاعله مُخلد في النار إن مات ولم يتب، كما قال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا للظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ [المائدة: 72]. وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13].

ولما سُئل - عليه الصلاة والسلام-: أي الذنب عند الله أكبر؟ قال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك» [متفق عليه].

الثانية: السحر؛ وقد ذكره ﷺ‬ بعد الشرك؛ لكونه يُكَفِّرُ متعاطيه، فلا يتوصل إليه إلا بعبادة الشياطين والتقرب إليها بالذبح والدعاء والاستغاثة، والسحر يجمع الموبقات الخمس التي بعده، والموبقات التي بعد السحر في كل نوع منها نوع من الاعتداء، إما على النفس، أو المال، أو العرض، أما السحر فإن فيه اعتداء على كل هذه الأشياء فضلاً عن اعتدائه على حق الله بإشراك غيره معه.

الثالثة: من الموبقات؛ قتل النفس المسلمة المعصومة التي حرم الله قتلها إلا أن تفعل ما يوجب قتلها، ويدخل في ذلك تحريم قتل الكافر المعاهد لحديث ﷺ‬: «من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة» [رواه البخاري].

الرابعة: أكل الربا؛ أي: تناوله بأي وجه كان، وقد لعن ﷺ‬ آكل الربا، وموكله وشاهده وكاتبه، قال ابن دقيق العيد: وهو مجرب لسوء الخاتمة نعوذ بالله من ذلك.


الخامسة: أكل مال اليتيم؛ والتعدي فيه، وعُبر بالأكل، لأنه أعم وجوه الإِنتفاع، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء: 10].

السادسة: التولي يوم الزحف؛ وهو الفرار والإِدبار من وجوه الكفار يوم الزحف والقتال، وإنما يكون كبيرة إذا فر إلى غير فئة المسلمين، أو غير متحرف لقتال، كما قال تعالى: ﴿وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ﴾ [الأنفال: 16].

السابعة: قذف المحصنات الغافلات، أي: رمي المؤمنات الحرائر والعفيفات البريئات بفاحشة الزنا ولا تختص بالمتزوجات، بل حكم البكر كذلك، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: 23].

هذه - عباد الله - الموبقات السبع التي يجب الحذر من فعلها؛ لأنها من كبائر الذنوب، وتوجب غضب الرب - جل وعلا-، ومن وقع في شيء منها فالبدار البدار للتوبة قبل خروج الروح إلى بارئها.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 102].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله دل على الحق ورفعه، ونهى عن الباطل ووضعه، أحمده - سبحانه - وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، لا مانع لما أعطاه ولا معطي لما منعه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، حاز من الفضل والشرف أكمله وأجمعه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره واتبعه أما بعد:

عباد الله:

إن خطر السحر عظيم؛ لذا كان حد الساحر القتل، لعظم كبيرة السحر وشرها على المجتمع.

عن جندب مرفوعًا إلى النبي ﷺ‬: «حد الساحر ضربه بالسيف» [رواه الترمذي].

وفي صحيح البخاري، عن بجالة بن عبدة، قال: كتب عمر بن الخطاب - t - أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر.

وصح عن حفصة - رضي الله عنها - أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقُتلت.

وأنفع علاجات السحر، الأدوية الإِلهية، فهي أدويته النافعة، والسحر من تأثيرات الأرواح الخبيثة السفلية، ودفع تأثيرها يكون بما يعارضها ويقاومها من الأذكار والآيات والدعوات، التي تبطل فعلها وتأثيرها، والقلب إذا كان ممتلئًا من الله مغمورًا بذكره، وله من الدعوات والأذكار والتعوذات ورد لا يخل به، يطابق فيه قلبه لسانه، كان سالمًا بإذن الله من إصابته بالسحر والعين والمس والأمراض والبلايا، والمسلم إذا استعاذ بالله يستعيذ بمن هو المولى ونعم النصير.


وقد علمنا نبينا محمد ﷺ‬ التحصُّن بالأوراد الشرعية والأدعية النبوية، ومنها:

قراءة المعوذات ثلاث مرات في الصباح والمساء وعند النوم وكذلك قراءة آية الكرسي في الصباح والمساء، وقراءة الآيتين من آخر سورة البقرة لقوله ﷺ‬: «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» [أي: كفتاه من كل شر] [رواه البخاري].

وقول: «باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم» ثلاث مرات في الصباح والمساء [رواه أبو داود].

وقول: «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق» ثلاث مرات في الصباح والمساء [رواه أبو داود].

الثاني من سبل الوقاية من السحر: أكل سبع تمرات من تمر العجوة على الريق صباحًا، لقوله ﷺ‬: «من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر» [رواه البخاري ومسلم].

قال الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - تعليقًا على هذا الحديث: وفي رواية: «مما بين لابتيها» يعني من جميع تمر المدينة، العجوة وغير العجوة كما رواه مسلم في الصحيح، ويرجى أن ينفع الله بذلك التمر كله، لكن نص على المدينة لفضل ثمرها والخصوصية فيه، ويرجى أن الله ينفع ببقية التمر إذا تصبح بسبع تمرات.

أسأل الله - عز وجل - لي ولكم العافية والسلامة في الدنيا والآخرة.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([29])

الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشكره على نعمه وآلائه وأسأله المزيد من فضله وكرمه وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يعلم ما ظهر وما استتر، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله سيد البشر، الشافع المشفع في المحشر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه السادة الغرر، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإِسلام بالعروة الوثقى، واحذروا سخط الجبار، فإنَّ أجسادكم على النار لا تقوى.

عباد الله:

هناك أنواع من السحر يكثر وقوعها وتخفى على بعض الناس أنها منه؛ حتى اعتقد البعض أن من صدر عنه عمل خارق فهو ولي الله، وحتى آل الأمر إلى أن عُبد أربابها، وهذا العمل بعينه من الناس أحوال شيطانية، واستدراج من الشيطان لبني آدم إلى الشرك، ولا بد للمسلم أن يفرق بين ولي الله، وبين عدو الله من ساحر وكاهن ونحوهم ممن قد يجري على يديه شيء من الخوارق، كأن يجر الأثقال بشعره، أو تمشي السيارة على جسده فلا تضره، أو يُدخل السيف في صدره ويخرجه من ظهره؛ فهذا كله مما يساعد فيه الشياطين.


وأولياء الله هم أحبابه المتقربون إليه بالطاعات وترك المحرمات، وإن لم تجر على أيديهم خوارق، وإن جرت فكرامة من الله، وليست وحدها دليلاً على الولاية.

وكرامات الأولياء تقوى بذكر الله وتوحيده وقراءة القرآن؛ أما خوارق السحرة والمشعوذين فإنها تضعف وتبطل عند ذكر الله وقراءة القرآن.

في الحديث عن النبي ﷺ‬ قال: «إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت» [رواه أحمد] قال عوف: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يُخط بالأرض، والجبت قال الحسن: رنة الشيطان.

بين ﷺ‬ في الحديث ثلاثة أمور، كلها داخلة في مُسمى السحر:

وأولها: العيافة؛ وهي زجر الطير أي تهييجه، والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها، وقد كانت العرب تفعل ذلك من باب التشاؤم والتفاؤل، إذا أرادوا فعل أمر كسفر أو تجارة أتوا إلى الغربان أو الحمام أو غيرهما فينفرونهما أو يزوجرونهما، فإذا طارت باتجاه اليمين تفاءلوا وأقدموا على هذا الأمر، وإذا اتجهت نحو الشمال تشاءموا وأحجموا عن هذا الأمر.

وقد أبطل ﷺ‬ هذه العادة الجاهلية، وعلَّمنا صلاة الاستخارة وتفويض الأمور لله - سبحانه وتعالى-.

وثانيها: الطَّرق؛ وهو ما يخطه الرمالون الكذابون ويدعون به علم الغيب، ويدخل في ذلك قراءة الكف والفنجان، وتحديد المستقبل من الأبراج ونحوها وإن كان ذلك من باب التسلية، وعلى المسلم ألا يصدق هؤلاء الكذابين، فعلم الغيب مما اختص الله - سبحانه - بعلمه، قال تعالى: ﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [النمل: 65].

وثالثها: - عباد الله-: الطيرة؛ وهي التشاؤم بالطيور وغيرها، كاعتقاد أنَّ


البومة إذا مرت على دار ونعقت فسيموت أحد من أهل هذه الدار، وكذلك التشاؤم ببعض أيام الشهر أو بعض شهور السنة، وقد حذر ﷺ‬ منها فقال: «الطيرة شرك» [رواه الترمذي]؛ لما فيها من تعلق القلب بغير الله.

وبهذا يظهر لنا - عباد الله - أنَّ العيافة والطرق والطيرة من السحر، وذلك أن السحر اسم لما خفى ولطف سببه؛ والاعتماد في هذه الأمور الثلاثة على أمر خفي.

وقول الحسن: الجبت: رَّنة الشيطان؛ تفسير للجبت ببعض أفراده، ورَّنة الشيطان: أي صوته، وفُسر صوت الشيطان بكل صوت يدعو للباطل، وكل صوت مُحرم؛ فصوت النائحات منه، وصوت المعازف والملاهي منه، قال تعالى: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ﴾ [الإسراء: 64].

وفي الحديث عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله ﷺ‬: «من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد» [رواه أبو داود بإسناد صحيح].

يخبر ﷺ‬ خبرًا معناه النهي والتحذير؛ بأنَّ من تعلم شيئًا من علم التنجيم فقد تعلم شيئًا من السحر المحرم؛ وذلك لما فيه من الاستدلال بالأمور الخفية التي لا حقيقة لها، ولما فيها من ادعاء علم الغيب الذي اختص الله بعلمه، فالمنجمون يستدلون بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، فيزعمون أنَّ من وُلد في نجم كذا فسيكون سعيدًا، ومن ولد في النجم الآخر سيكون تعيسًا، وفي الحقيقة أنه ليس للنجوم أي علاقة بحوادث الأرض وأحوال الناس، كل هذا من ادعاء الغيب الذي استأثر الله به، فالله - سبحانه - هو المتصرف في الكون وبيده مقاليد الأمور.


عباد الله:

بين ﷺ‬ أنه كلما ازداد المنُجم توغلاً في التنجيم ازداد توغلاً في السحر والإِثم العظيم، وزيادة البعد عن الله؛ فإن ما يعتقدونه في النجوم من معرفة الحوادث التي لم تقع، وربما تقع في مستقبل الزمان، مثل إخبارهم بوقت هبوب الرياح، ومحيء المطر، ووقوع الثلج، وظهور الحر والبرد، وتغير الأسعار، وموت فلان ونحوها، ويزعمون أنهم يدركون معرفتها بسير الكواكب، واجتماعها وافتراقها، وهذا باطل؛ كما أن تأثير السحر باطل، بل هو مما استأثر الله به؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ [لقمان: 34].

وقال - عليه الصلاة والسلام-: «ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله» وغير ذلك مما استأثر الله بعلمه؛ وأما ما يدرك بطريق المشاهدة من علم النجوم الذي يُعرف به الزوال وجهة القبلة ونحو ذلك، فغير داخل فيما نهى عنه، قال تعالى: ﴿وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [النحل: 16].

أيها المسلمون:

للنسائي من حديث أبي هريرة - t-: «من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئًا وكلِّ إليه».

حذر ﷺ‬ أمته مما يسمى بسحر العقد في الخيوط ونحوها، ومن تعاطى ذلك فهو مشرك؛ لأنه لا يتوصل لسحره إلا بعبادة الشياطين والتقرب إليها، وقد أمرنا الله - سبحانه - بالاستعاذة من شر هؤلاء في قوله تعالى: ﴿وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾ [الفلق: 4]، يعني السواحر اللاتي يفعلن ذلك.

وفي قوله ﷺ‬: «ومن سحر فقد أشرك»، نص في أن الساحر مشرك، وقد


حكى الحافظ عن بعضهم أنه لا يتأتى إلا مع الشرك.

ثم قال ﷺ‬: «ومن تعلق شيئًا وكل إليه»، أي: ومن تعلق قلبه شيئًا بحيث يعتمد عليه ويرجوه، وكله الله على ذلك الشيء وخذله، وخلى بينه وبينه؛ فإن تعلق قلبه بربه كفاه وتولاه، كما قال تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر: 36] ومن تعلق على السحرة والشياطين وغيرهم من المخلوقين وكله الله إلى من تعلق به، ومن وكُلِّ إلى غير الله هلك وخسر خسرانًا مبينًا، وضل ضلالاً بعيدًا، بل من تعلق قلبه بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر فقد أشرك.

وسعادة المرء وعظم صلاح قلبه في تعلقه بالله - سبحانه وتعالى - ولجوئه إليه وانطراحه بين يديه.

وفي الحديث الآخر الذي رواه الإِمام مسلم، عن ابن مسعود - t - أن رسول الله ﷺ‬ قال: «ألا هل أنبئكم ما العَضْةُ؟ هي النميمة؛ القالة بين الناس».

أراد النبي ﷺ‬ أن يحذر أمته من النميمة، وهي السعي بين الناس بنقل قول بعضهم في بعض على وجه الإِفساد، وحقيقتها إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه، فافتتح ﷺ‬ حديثه بصيغة الاستفهام؛ ليكون أوقع في النفوس وأدعى للانتباه، فسألهم: ما العَضْة؟ ثم بيَّن ﷺ‬ بأنه نقل الحديث بين الناس على وجه الإِفساد وإيقاع الخصومة بينهم.

فالحذر الحذر - عباد الله - من هذه الخصلة الذميمة التي هي من أسباب عذاب القبر، كما قال ﷺ‬ عندما مر على قبرين: «أما أنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير؛ أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» [رواه البخاري].


كما يجب على كل من حُملَت إليه النميمة أن ينهى صاحبها ولا يظن بأخيه السوء.

عباد الله:

النميمة نوع من أنواع السحر، قال يحيى بن أبي كثير: يُفسد النمام والكذاب في ساعة، ما لا يُفسد الساحر في سنة، وقال أبو الخطاب: ومن السحر السعي بالنميمة والإِفساد بين الناس.

ووجهه أنه يقصد الأذى بكلامه وعمله على وجه المكر والحيلة أشبه السحر، وهذا يُعرف بالعرف والعادة أنه يؤثر وينتج ما يعمله الساحر أو أكثر.

ووجه الشبه بين السحر والنميمة: أن كليهما يعملان على التفريق بين القلوب والإِفساد بين الناس.

وافترقا في أنَّ السحر يكفر صاحبه؛ لأن فيه عبادة للشياطين وعقوبته القتل.

والنميمة من كبائر الذنوب لا يكفر صاحبها ولا يقتل؛ إلا إذا استحل ذلك؛ لأن من أحل حرامًا أو حرم حلالاً فقد كفر.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله شرح بفضله صدور أهل الإِيمان بالهدى، وأضل من شاء بحكمته وعدله، فلن تجد له وليًا مرشدًا، أحمده - سبحانه - وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهًا واحدًا فردًا صمدًا، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله كرم أصلاً وطاب محتدًا، خصه ربه بالمقام المحمود وسماه محمدًا، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه هم النجوم بهم يهتدى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتدى.

عباد الله:

وللبخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ‬ قال: «إن من البيان لسحرًا».

وسبب قول النبي ﷺ‬ ذلك، أنه قدم رجلان من المشرق فخطبا الناس، فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول الله ﷺ‬: «إن من البيان لسحرًا» أو «إن بعض البيان لسحر» والبيان: البلاغة والفصاحة؛ يعني إن بعض البيان يعمل عمل السحر، وإنما شبهه بالسحر لحِدة عمله في سامعه، وسرعة قبول القلب؛ وهذا من التشبيه البليغ، لكون ذلك يعمل عمل السحر، فيجعل الحق في قالب الباطل، والباطل في قالب الحق، فيستميل به قلوب الجهال، حتى يقبلوا الباطل وينكروا الحق وهذا مذموم؛ قال صعصعة بن صوجان: صدق نبي الله ﷺ‬ إن الرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه، فيذهب بالحق؛ والمراد البيان الـذي فيه تمويه على


السامع وتلبيس، شبهه بالسحر لفساده؛ وأخرج أحمد وأبو داود عن ابن عمر مرفوعًا: «إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي تخلل بلسانه كما تخلل البقرة بلسانها» وأما البيان الذي يوضح الحق ويقرره، ويبطل الباطل ويبينه فهذا ممدوح، حال الرسل وأتباعهم.

وسأل رجل عمر بن عبد العزيز عن حاجة فأحسن المسألة، فقال: هذا والله السحر الحلال.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([30])

الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعملنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله - حق التقوى، واستمسكوا من الإِسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أقدامكم وأجسامكم على النار لا تقوى.

أيها المسلمون:

لقد أقام الشيطان لواء السحرة والكهان بعمله وكفره، يتلبس بهم الشيطان، وينطق على لسانهم، ولذا ترى الشياطين تألف هذه النفوس الخبيثة التي تدنست بالشر ورضيت بـه، قـال تـعالى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ


إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ﴾ [الأنعام: 121] وقد يرتكبون في سبيل إرضاء أنفسهم الخبيثة وأهوائهم الدنسة؛ الحماقات والشركيات، فيباشرون النجاسات ويأوون إلى الأماكن المستقذرة، يكرهون سماع القرآن وينفرون عنه، يذبحون الحيوانات ذاكرين عليها غير اسم الله، لا يتطهرون ولا يتوضؤون، صفاته الجهل والضلال والكذب والبهتان، لا يرتقي في سحره ما لم يُعبِّد نفسه للشيطان.

تتدنس نفسه بالخبث والفساد، وتتلذذ بالشر والبلاء وتتعاظم عنده الرغبة في الإِيذاء، والقليل منهم ينال بعض غرضه الذي لا يزيده من الله إلا بعدًا، سماعون لكذب أكالون للسحت عليهم ذلة من الله وخزي وصغار.

عباد الله:

ورد في أحكام الكهان التغليظ الأكيد، والوعيد الشديد، ومن كان في حكمهم؛ كالعرافين والمنجمين، والذين يدعون علم الغيب.

فالكهان: هم الذين يخبرون عن المغيبات في المستقبل ويأخذون عن مسترق السمع.

والكاهن: لفظ يطلق على العراف والذي يضرب بالحصى والمنجم.

قال الخطابي: الكهان - فيما عُلِم بشهادة الامتحان - قوم لهم أذهان حادة، ونفوس شريرة، وطبائع نارية، فهم يفزعون إلى الجن ويستفتونهم في الحوادث، فيلقون إليهم الكلمات.

وكانوا قبل بعثة النبي ﷺ‬ كثيرين كشق وسطيح، فمنهم من يزعم أن له تابعًا من الجن يلقي إليه الأخبار، منهم من يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات وأسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله، وهذا يخصونه باسم العراف، كالذي يدعي معرفة المسروق ومكان الضـالة ونحو


ذلك، وبعد البعثة قلَّ مسترقو السمع؛ لأن الله حرس السماء بالشهب، وأكثر ما يقع ما يخبر به الجن أولياءهم من الإِنس مما يسمونه كشفًا وكرامة وولاية، وقد اغتر بهم كثير من الناس يظنون أنهم أولياء لله وهم من أولياء الشيطان، كما قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ﴾ [الأنعام: 128].

وفي الحديث عن النبي ﷺ‬ أنه قال: «من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يومًا» [رواه مسلم].

بين ﷺ‬ الوعيد الشديد المترتب على إتيان الكهان لسؤالهم عن المغيبات التي لا يعلمها إلا الله - عز وجل-، وأن جزاءه: «لم تقبل له صلاة أربعين يومًا» أي: لا ثواب له فيها، لاقترانها بالمعصية، وإن كانت مجزئة بسقوط الفرض عنه في الدنيا لوجود شروطها وأركانها فإنها لا تلزمه الإِعادة إجماعًا، وفيه النهي عن إتيان الكاهن ونحوه، وإذا كانت هذه حال السائل فحال المسؤول أسوأ وأشر وأعظم.

وعن أبي هريرة - t - أن النبي ﷺ‬ قال: «من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ‬» [رواه أبو داود].

في هذا الحديث بين ﷺ‬ الوعيد الشديد المترتب على إتيان الكهان لسؤالهم عن المغيبات ثم تصديقهم؛ وأن ذلك كفر بالوحي الذي أنول على محمد ﷺ‬ (الكتاب والسنة) اللذين بينا أن علم الغيب قد استأثر الله به.

وللأربعة والحاكم وقال صحيح على شرطهما عن أبي هريرة: «من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ‬» ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفًا.

ويجب على من قدر على ذلك إنكاره من محتسب وغيره، أن ينكر عليهم


أشد النكير، وعلى من يجيء إليهم، أن يُحذر منهم ويرفع أمرهم إلى الجهات المسؤولة.

وعن عمران بن حصين مرفوعًا: «ليس منا من تطير أو تُطير له، أو تكهن أو تُكهن له، أو سحر أو سُحر له ومن أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ‬» [رواه البزار بإسناد جيد].

أيها المسلمون:

بين ﷺ‬ في هذا الحديث: الوعيد الشديد لمن انحرف عن شرع الله ولجأ إلى غير الله، ومن ذلك: من فعل الطَيرَة أو قَبلَ قول المتطير له وتابعه.

من فَعَلَ الكهانة أو أتى الكاهن وصدَّقه وتابعه، ومن فعل السحر أو عمل الساحر له السحر.

والواجب على العبد الحذر من هذه الأمور السابقة لأنها: إما شرك أصغر كالطيرة، أو كفر كالكهانة والسحر، كما يجب الحذر من إتيان الكهان؛ لأن من أتى كاهنًا فسأله عن المغيبات ومن ثم صدقه فقد كفر بالوحي المنزل على محمد ﷺ‬.

والعراف شامل لكل من ادعى علم الغيب؛ من الكاهن والمنجم والرّمال ونحوهم، ممن يقرأ في الكف والفنجان وغير ذلك ممن يتكلم في معرفة الأمور الغيبية بطرق شيطانية، فإن هؤلاء يعبدون الشياطين ويتقربون إليهم ليحققوا مقصدهم، فهم في الحقيقة خُدام للجن وأولياء لهم، أو هم دجالون كذابون كافرون بادعائهم علم الغيب.

وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوم يكتبون (أباجاد) وينظرون في النجوم: «ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق» [رواه عبد الرزاق في المصنف].


إن تعلم حروف (أبا جاد) وكتابتها تنقسم في حكمها إلى نوعين:

الأول: مباح، وذلك إذا كانت كتابتها وتعلمها للتهجي وحساب الجُمَل كمن يدون تواريخ المواليد والوفيات وذلك باستعمال حروف (أبجد هوز...) التي وضعت في مقابل الأرقام الحسابية..

الثاني: مُحرم، وذلك إذا كانت كتابتها وتعلمها على وجه ادعاء علم الغيب، والنظر في النجوم لمعرفة الحوادث الأرضية من فقر ومرض وغلاء أسعار، وغير ذلك.

وهذا النوع هو الذي قال فيه ابن عباس - رضي الله عنهما-؛ أن من فعله ليس له نصيب عند الله؛ لأن ذلك داخل في حكم العرافين مدَّعي علم الغيب.

أيها المسلمون:

يرى أرباب السحر أن سحرهم يتم تأثيره في القلوب الضعيفة والنفوس الشهوانية التي هي معلقة بالسفليات؛ ولهذا غالب تأثيره يكون على من ضعف حظه من الدين والتوكل على الله، وعلى من لا نصيب له من الأوراد الإِلهية والدعوات والتعوذات النبوية، واعلموا أن لا تأثير للسحر إلا بإذنه تعالى، كما قال سبحانه: ﴿وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ﴾ [البقرة: 102].

إنهم يتكئون على معبود هزيل، لا يستطيع أن يفتح بابًا مغلقًا، ولا أن يكشف آنية خمرت، ولا أن يحل قربة أوكيت، يتكئون على من يهرب من الآذان، ويخنس من الذكر.


عباد الله:

لقد دان الساحر للشيطان، فخبثت نفسه وأظلم قلبه وتدنست أخلاقه، يغرس الشر حيثما حل، والفرقة أينما نزل، وإنه مع ما يبذله من جهد ومشقة وما يقدمه من تضحيات في سبيل الشيطان ورضاه بالذل والخنوع وارتكابه المخازي وبيع روحه وكل ما يملك لإبليس، فإن جزاءه من عدو الله الحسرة والندامة والتخلي عنه عند المصائب والنوائب.

لقد نفى الله الفلاح عنهم بقوله: ﴿وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾ [طه: 69] أي لا يفوز ولا ينجو حيث أتى من الأرض، وإن لقدرات السحرة حدودًا لا يمكن تجاوزها، فلا يستطيع الساحر أن يوقف الشمس، ولا أن يسقط النجوم.

نسأل الله السلامة والعافية من الموبقات والمنكرات.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [الأنعام: 59].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد عباد الله:

اتقوا الله حق التقوى، وتقربوا إلى ربكم بأعمال البر والتقوى.

أيها المسلمون:

قووا إيمانكم ويقينكم بالله في مواجهة الشكوك والشبهات والأساطير والخرافات، لتبدد سحب الأوهام، وتزيح ركام الخرافات والأباطيل، وإياكم وولوج سرادب الكهنة والسير مع الوهم والخرافة، ولا يخدعنكم الشيطان فيوهمكم بأن كل لمة أو علة أو مرض هي سحر، فالمرء في هذه الحياة يعرض له المرض والهم، وقد يكون وقوع ذلك بسبب الذنوب والمعاصي كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30] فالواجب المسارعة إلى التوبة والإِنابة والعمل الصالح؛ واتخذوا رب المشرق والمغرب وكيلاً تلجؤون إليه آناء الليل وأطراف النهار، واقتدوا بنبيكم ﷺ‬ وبصحابته الكرام والصالحين من العباد، في التوكل على الله وحده والالتجاء إليه سبحانه، وطلب الشفاء منه، والاقتصار على ما أباحه من الأسباب، فذلك سبيل النجاة في الآخرة والأولى.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([31])

الحمد لله شرح صدور المؤمنين فانقادوا لطاعته، وحبب إليهم الإِيمان وزينه في قلوبهم ووفقهم لحسن عبادته، أحمده - سبحانه - وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، أقام الدين، ورفع أعلام شريعته، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فأوصيكم - عباد الله ونفسي - بتقوى الله في السر والعلن، وانتهوا عن المعاصي والانقياد للأماني، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني.

عباد الله:

تحقيق التوحيد يحتاج إلى يقظة قلبية دائمة، تنفي عن النفس كل خاطرة تقدح في عبودية العبد لربه، وتدفع كل خالجة شيطانية في كل حركة أو تصرف؛ ليكون ذلك كله خالصًا لله وحده دون من سواه.

ومع شديد الأسف فإن قوادح التوحيد ومنقصاته صارت عند كثير من الناس من أخفى المعاصي معنى، وإن كانت من أجلاها حكما فلظهور حكمها ترى المسلمين عامتهم يبرؤون منها، ويغضبون كل الغضب إذا نسبوا إليها، وهم في هذا الغضب محقون، ولكن لخفاء معناها وقع فيها من وقع وهم لا يشعرون.


والحنيفية ملة إبراهيم، أن تعبد الله مخلصًا له الدين، وبذلك أمر الله جميع الناس، وخلقهم لها، كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56] فإذا عرفت: أن الله خلقك لعبادته، فاعلم: أن العبادة لا تسمى عبادة، إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة، إلا مع الطهارة، فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت، كالحدث إذا دخل في الطهارة كما قال تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ [التوبة: 17] فإذا عرفت: أن الشرك إذا خالط العبادة أفسدها، وأحبط العمل، وصار صاحبه من الخالدين في النار؛ عرفت: أن أهم ما عليك معرفة ذلك، لعل الله أن يخلصك من هذه الشبكة، وهي الشرك بالله.

عباد الله:

وأهل الإسلام والإِيمان يؤمنون بقضاء الله وقدره، ويعلمون أنما يصيبهم من بلايا ومحن امتحان واختبار.

فإذا أصاب المسلم مرض أو أصابه ألم؛ فإنه يلجأ إلى ربه القادر على رفع ما نزل به، فإنه الشافي الكافي.

ولقد انتشر في زماننا كثرة السحر والسحرة، وتأذى أناس من ذلك أكبر الأذى وأشده، فمنهم من أصابه مرض أو عاهة، وآخر حُرم من زوجته وأولاده، وثالث، ورابع - والعياذ بالله - نالهم من الظلم أشده وأقساه، كيف لا! وهي من أعمال الشياطين وأعوانهم.

وحيث إن شر السحر والسحرة مستطير وفعلهم خطير، نُهي عن علاج السحر بأمور محرمة ومنها النشرة؛ وهي ضرب من العلاج والرقية، يعالج به من يُظن أن به سحرًا أو مسًا من الجن، سُميت بذلك لأنه ينشر بها عـنه ما


خامره من الداء، أي يحل ويكشف ويزال عنه.

في الحديث عن جابر أن رسول الله ﷺ‬ سُئل عن النشرة، فقال: «هي من عمل الشيطان» [رواه أحمد بسند جيد].

والنشرة نوعان: نشرة مُحرمة وهي حل السحر بسحر مثله، فيتقرب الساحر والمسحور إلى الشياطين بالذبح والاستغاثة وغيرهما، وهذا شرك أكبر، وهو من عمل الشياطين ويجب الحذر من ذلك والإِبتعاد عنه.

ونشرة جائزة: وهي حل السحر بالرقية الشرعية والأدوية المباحة.

عباد الله:

على المسلم ألا يطرق باب السحرة إخوان الشياطين طلبًا لإِزالة السحر، فإنَّ الشر لا يُزال بالشر، وظُلمة الكفر تزاح بنور الإِيمان والقرآن، قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإِسراء: 82].

وبالإِيمان والصدق مع الله من القارئ والمريض يزول الداء بإذن الله.

ومن علاج السحر: الرقية الشرعية؛ فإن لها تأثيرًا عظيمًا في إزالة السحر، وهو أن ينفث القارئ على المسحور مباشرة أو في ماء يشربه: آية الكرسي وآيات السحر التي في سور (الأعراف ويونس وطه)، وسورة الكافرون والمعوذات ويدعو له بالشفاء.

ومن علاج السحر أيضًا: أن يؤخذ سبع ورقات من السدر الأخضر وتُدق ويصب عليها ماءً ويقرأ فيه ما سبق من الآيات، ثم يشرب منه المسحور ثلاث حسوات، ويغتسل بالباقي، ويكثر من الدعاء، وطلب الشفاء من الله وحده.

عباد الله:

للسحرة علامات يعرفون بها؛ منها أن الساحر يسأل عن اسم المريض واسم أمه، وكذلك قد يطلب أثرًا من آثار المريض كثوبه أو منديله.


وقد يطلب من المريض أن يذبح حيوانًا تقربًا للشياطين، وهذا من عظائم الأمور، إذ الذبح لغير الله شرك أكبر مخرج عن ملة الإِسلام.

وقد يُعطي المريض حجابًا أو ما يسمى بالحرز أو التميمة يحتوي على مربع كبير بداخله مربعات صغيرة، تحوي حروفًا وأرقامًا، وأسماء ملائكة أو أنبياء، أو كواكب أو شياطين، وربما تضمنت آيات من القرآن لتلبيس على الجهلة، أو قد يأمر المريض أن لا يمس الماء أربعين يومًا، أو أن يعتزل الناس في غرفة مظلمة لمدة أربعين يومًا؛ وكأن الساحر بذلك يأمر المريض أن لا يتوضأ للصلاة، ولا يُصلي جمعة ولا جماعة ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فالواجب على المسلم التوكل على الله وحده، وإنزال حوائجه به، والحذر من إتيان السحرة والكهنة وطلب الشفاء منهم، سلامة لدينه وحماية لتوحيده.

فمن لجأ إليهم رجع بالحسرة والخيبة، وحسبه أنه ترك الملاذ الحق الذي يجب اللجوء إليه وهو رب العباد، القائل في كتابه الكريم: ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ﴾ [الأنعام: 17].

وهو القائل - سبحانه وتعالى-: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ [النمل: 62 – 65].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله نصب الكائنات على ربوبيته ووحدانيته براهين وحججًا، فمن شهد له بالواحدنية وآمن بلقائه واستعد لمعاده أفلح ونجا، أحمده - سبحانه - وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة الحق واليقين والخوف والطمع والمحبة والرجاء، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله أنزل عليه الكتاب ولم يجعل له عوجًا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، أنوار الهدى ومصابيح الدجى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما نهار تجلى وما ليل سجى.

أما بعد:

فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ ولتنظر نفس ما قدمت لغد، واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون.

عباد الله:

لقد كرم الله - عز وجل - الإِنسان وحماه وحفظه، وجعل له من العدة ما يحميه من عدوه، فالإِيمان بالله جُنَّة، والذكر عدة، والاستعاذة به سلاح، فإذا أغفل الإِنسان جُنته وعدته وسلاحه فهو الملوم وحده، إن الشيطان وحزبه لا يتسلطون إلا على الغافلين، أما الذاكرون لله فهم ناجون من الشر ودواعيه الخفية والظاهرة، ناجون من الوسواس الخناس الذي يضعف عن المواجهة، ويخنس عند اللقاء، وينهزم أمام الذاكرين لله.

إن الالتجاء إلى الله وحده والاستعاذة واللياذة به، يفعم القلب بالقوة والثقة ويحميه من الهزيمة.


أيها المسلمون:

السحر منكر وكفر، ومن نواقض الإِسلام، قال تعالى: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ [البقرة: 102].

وهذه الدنيا - عباد الله - دار ابتلاء وامتحان، الإِنسان فيها مُعرض للمصائب والفتن، وللفقر والمرض، والمكلف مأمور بتعاطي الأسباب الشرعية والمباحة، ممنوع من تعاطي الأسباب المحرمة، والأمور كلها بيد الله فهو الذي يشفي ويعافي من يشاء، ويُقدر الموت والمرض على من يشاء، فعلى المسلم الصبر والاحتساب، والتقيد بما أباح الله له من الأسباب، والحذر مما حرم الله عليه، مع الإِيمان بأن قدر الله نافذ، وأمره - سبحانه - لا راد له، والموت على التوحيد خير من الحياة على الشرك والكفر، وما عند الله خير وأبقى.

هذا، وصلوا...


الخطبة الأولى([32])

الحمد لله العظيم في شأنه، والدائم في سلطانه، أحمده - سبحانه - على جزيل برِّه وإحسانه، وأشكره على سوابغ كرمه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تبلغ إلى رضوانه، وأشهد أنَّ نبينا محمد عبده ورسوله، أشاد منار الإِسلام وأحكمه في بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأعوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله-، وأخلصوا له العمل، وتقربوا إليه بالدعاء وحسن التوكل.

أيها المسلمون:

الدين الإِسلامي دين تفاؤل وبشر وسعادة وحبور، وانقياد لله واستسلام، عليه يتوكل المتوكلون، وإليه يسعى المتقون.

كان الناس قبل مبعث النبي ﷺ‬، يعيشون في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، يردهم كل ناعق، ويصدهم صوت طائر؛ خيالات وخرافات، وأوهام ومنكرات، وقد كان من عادات الجاهلية التي أبطلها الإِسلام وحذر منها: التشاؤم. والتشاؤم - عباد الله - والشؤم ضد اليُمن الذي هو البركة، ويقال رجل مشئوم على قومه؛ أي جر الشؤم عليهم، ورجل ميمون، أي جر الخير والبركة واليُمن على قومه.

والتشاؤم سوء ظن بالله - تعالى - بغير سبب محقق، والتفاؤل حُسن ظن


به، والمؤمن يُحسن الظن بالله - تعالى - على كل حال.

وقد ورد النهي والوعيد في التطير، وهو التشاؤم بالشيء بما يقع من المرئيات أو المسموعات في قلوب أهل الشرك والعقائد الضعيفة، الذين لا يجعلون توكلهم على الله، وأصله التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء والعطاس والنجوم وغير ذلك، فكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، فنفاه الشرع وأبطله، وأخبر أنه لا تأثير له في جلب نفع أو دفع ضر، وإنما هو خواطر وحدوس وتخمينات لا أصل لها.

قال تعالى: ﴿أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 131].

بين الله - سبحانه - في هذه الآية الكريمة أنَّ التَّطير من أعمال المشركين، وأنه مذموم شرعًا، فقد كان قوم فرعون إذا أصابهم غلاء وقحط، زعموا أن ما أصابهم من البلاء بشؤم موسى وقومه كما ذكر الله عنهم ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ﴾ فرد الله عليهم: ﴿أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي: أن ما أصابهم من بلاء إنَّما هو بقضاء الله وقدره بسبب كفرهم وذنوبهم وتكذيبهم لموسى - u-، ثم وصف أكثرهم بالجهالة؛ لأن موسى - u - رسول رب العالمين، ما جاء إلا بالخير والبركة والفلاح لمن آمن به واتبعه.

وقال تعالى: ﴿قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ﴾ [يس: 19] بين - سبحانه - حال المشركين لما كذبوا الرسل وأصيبوا بالبلاء فتشاءموا، وزعموا أن سببه ما جاء من قِبَل الرسل كما ذكر الله قولهم: ﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ﴾ [يس: 18] فرد الله عليهم: ﴿قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ﴾، فما أصاب هؤلاء المشركين من البلاء إنما هو بقضاء الله وقدره بسبب ذنوبهم؛ فإن الرسل ما جاءت إلا بالخير والبركة لمن ابتعهم.


أيها المسلمون:

في الحديث المتفق عليه من أبي هريرة - t - أن رسول الله ﷺ‬ قال: «لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة ولا صفر»، وزاد مسلم: «ولا نوء ولا غول».

كانت حياة الجاهلية مليئة بتلك الخرافات والأوهام، وقد نفى ﷺ‬ ما كان يعتقده أهل الجاهلية مثل: اعتقاد أن الأمراض تُعدي بنفسها: فنفى ﷺ‬ ذلك بقوله: «لا عدوى» فالأمراض لا تُعدي بنفسها وإنما بتقدير الله - عز وجل-.

ولا تعارض بين حديث أبي هريرة - t - السابق في نفي العدوى، وبين الأحاديث الأخرى، كقوله ﷺ‬: «فرَّ من المجذوم كما تفر من الأسد» [رواه البخاري] إذ أن على المرء أن يتوكل على الله مع اجتناب الأسباب التي تكون سببًا للبلاء؛ لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195].

وكان من خرافاتهم في الجاهلية أيضًا: التشاؤم بمرئي أو مسموع من الأماكن أو الطيور، منه إن صاح طير البوم بالليل عند وقوعه على الدار، تشاءم أهلها وتوقعوا موت أحد منهم، وقد نفى ﷺ‬ ذلك بقوله: «لا طيرة ولا هامة» فالطيور من مخلوقات الله لا أثر لها في حُكم الله وقضائه.

مر طائر يصيح فقال رجل: خير خير، فقال ابن عباس: «لا خير ولا شر» أنكر عليه لئلا يعتقد تأثيره، ومن ألفاظ الجاهلية التي يكون عند البعض ويجب تركها قول: خير يا طير.

ومن التشاؤم كذلك؛ التشاؤم بالأرقام كرقم ثلاثة عشر؛ الذي يتشاءم منه النصارى ظنًا أن له صلة بحادثة الصلب المزعومة التي نفاها الله - سبحانه-


بقوله: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ﴾ [النساء: 157]، ومن التشاؤم كذلك التشاؤم بالأيام، وكذا بتشبيك الأصابع، أو كسر العود أو ربط القماش عند عقد الزواج؛ فيتشاءم البعض بالفرقة بين الزوجين؛ ومن التشاؤم أيضًا بالأشخاص، كقول: فلان وجهه نحس، أو التشاؤم بالألوان كاللوم الأسود وأنه علامة الحزن، أو ما يقوم به البعض عند فتح المصحف طلبًا للتفاؤل عند سفر أو تجارة أو نحوها؛ فإذا وقع نظره على آية فيها ذكر الجنة تقاءل وأقدم على عمله، وإن وقع نظره على آية فيها ذكر النار تشاءم أو أحجم عن السفر؛ وهذا يشبه عمل أهل الجاهلية الذين كانوا يستقسمون بالازلام.

ومن خرافات الجاهلية: التشاؤم بشهر صفر، فقد كان أهل الجاهلية لا يتزوجون فيه، فنفى ﷺ‬ هذا الاعتقاد بقوله: «ولا صفر» فشهر صفر كبقية الشهور لا أثر له في حكم الله وقضائه.

ومن خرافات الجاهلية: الاعتقاد الباطل في النجوم وبعض الشياطين؛ فقد كان أهل الجاهلية يعتقدون أنَّ النجوم لها أثر في إنزال المطر، وأنَّ الغول تضلهم عن الطريق وتهلكهم، فنفى ﷺ‬ ذلك بقوله: «ولا نوء ولا غول» فالنجوم ليس لها أثر في إنزال المطر، والغول لا تستطيع أن تضل أحدًا أو تهلكه، ويُشرع للمسلم الاستعاذة بالله من شرها.

فالواجب على المسلم أن يكون حذرًا من هذه الاعتقادات الباطلة، فإن المتطير قطع توكله على الله واعتمد على غير الله، والمسلم يتوكل على ربه الذي بيده مقاليد الأمور، ولا ترده هذه الأوهام والخرافات عن حاجته.

وفي الحديث عن أنس - t - قال: قال رسول الله ﷺ‬: «لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل» [متفق عليه].


في هذا الحديث العظيم بيان أنه ﷺ‬ كان يعجبه الفأل؛ لما فيه من إدخال السرور على النفس من غير اعتماد عليه؛ والفرق بين الطيرة والفأل: أن الطيرة: لا تكون إلا فيما يسوء. مثل أن يعزم المرء على سفر أو زواج، فيرى أو يسمع ما يكره، فيترك ما عزم عليه.

وحكمها: شرك أصغر، وفيها سوء ظن بالله من غير سبب محقق، وإنَّما أوهام وخيالات، واعتماد القلب على غير الله.

أما الفأل: فإنه لا يكون إلا فيما يَسُرُّ، وفسَّره ﷺ‬ بالكلمة الطيبة يسمعها الإِنسان فيسرُّ ويقوى رجاؤه وثقته بالله. مثل أن يكون الإِنسان مريضًا فيسمع من يقول: يا سالم، فيقع في ظنه أنَّه يشفى من مرضه.

وقد كان ﷺ‬ يعجبه الفأل؛ لما فيه من إدخال السرور على النفس من غير اعتماد عليه.

وهو مُستحب؛ لما فيه من حسن الظن بالله - عز وجل-.

عباد الله:

عن ابن مسعود - t - مرفوعًا: «الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا ولكن الله يُذهبه بالتوكل» [رواه أبو داود].

الطيرة شرك أصغر لما يقوم بقلب صاحبها من الالتفات إلى غير الله في حصول خير أو شر، وقد بين ابن مسعود - t - أن من وقع في قلبه شيء من الطيرة ولم ترده طيرته عن حاجته فإن ذلك لا يضره، بل يُذْهبهُ الله بالتوكل.

ولأحمد من حديث ابن عمر: «من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك» قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: «أن تقول اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك».


وله من حديث الفضل بن عباس - t-: «إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك» [رواه أحمد].

أخبر ﷺ‬ عن حد الطيرة المنهي عنها والتي هي شرك بقاعدة كلية، وهي: ما حمل الإِنسان على المضي فيما أراده، أو رده عن المضي فيه اعتمادًا عليها.

مثل أن يريد الرجل سفرًا فيسمع: يا راشد، أو يا غانم، أو يا سالم؛ فيمضي في سفره اعتمادًا على ما سمع، أو يريد سفرًا فيسمع صياح الغراب، فيرجع عن سفره تشاؤمًا منه، كل ذلك شرك؛ لكونه لم يُخْلص توكله على الله.

فأحسنوا الظن بربكم، وتوكلوا عليه تفلحوا وتسعدوا.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود: 88].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا كما يجب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله ﷺ‬، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

شفى النبي ﷺ‬ أمته في أمر الطيرة، حيث سُئل عنها فقال: «ذاك شيء يجده أحدكم فلا يصدنه» وفي أثر آخر: «إذا تطيرت فلا ترجع» أي: امض لما قصدت له ولا يصدنك عنه الطيرة.

والتطير - عباد الله - إنما يضر من أشفق منه وخاف، وأما من لم يبال به ولم يعبأ به شيئًا لم يضره ألبتة، ولا سيما إن قال عند رؤية ما يتطير به أو سماعه ما علمنا إياه النبي ﷺ‬ بقوله: «اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك، اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يذهب بالسيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك».

فالطيرة باب من الشرك، وإلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته يكبر ويعظم شأنها على من اتبعها نفسه، واشتغل بها، وأكثر العناية بها، وتذهب وتضحمل عمن لم يلتفت إليها، ولا ألقى إليها باله، ولا شغل بها نفسه وفكره.

فأوضح ﷺ‬ لأمته الأمر، وبين لهم فساد الطيرة؛ ليعلموا أن الله - سبحانه - لم يجعل لهم عليها علامة ولا فيها دلالة، ولا نصبها سببًا لما يخافونه ويحذرونه، لتطمئن قلوبهم ولتسكن نفوسهم إلى وحدانيته تـعالى التي


أرسل بها رسله، وأنزل بها كتبه، وخلق لأجلها السموات والأرض، وعمر الدارين الجنة والنار، فبسبب التوحيد ومن أجله جعل الجنة دار التوحيد وموجباته وحقوقه، والنار دار الشرك ولوازمه وموجباته، فقطع ﷺ‬ علق الشرك من قلوبهم، لئلاً يبقى فيها علقة منها ولا يتلبسوا بعمل من أعمال أهله ألبتة.

أيها المسلمون:

المسلم مطمئن القلب، ساكن البال، معتمدُّ على ربه، متوكلُّ عليه، فإذا هَمَّ بأمر دنيوي؛ كسفر، أو نكاح، أو وظيفة، أو تجارة، فليصل صلاة الاستخارة، عن جابر - t - قال: كان رسول الله ﷺ‬ يُعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: «إذا هَّم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر - ويسمي حاجته - خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال عاجل أمري وآجله - فاقدره لي ويسره لي؛ ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال عاجله وآجله - فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به» [رواه البخاري].

ويجتهد في إحضار قلبه والخشوع لله والصدق في الدعاء، ويُشرع أن يستشير من يثق به من أهل الدين والنصح والخبرة، ومتى انشرح صدره لأحد الأمرين فذلك علامة على أن الله اختار له ذلك الشيء.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([33])

الحمد لله لا تحصى نعمه ولا تعد، أحمده - سبحانه - وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا رسول الله، اللهم صل وسلم وبارك على محمد، وعلى آل محمد، وعلى أصحاب محمد، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله - أيها الناس-، فتقوى الله خير زاد ﴿وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].

أيها المسلمون:

من تأمل وفكر في عظم مخلوقات الله، ولطائف صنعه، وتعددها، وتنوعها واختلافها، في الآفاق والأنفس والمخلوقات؛ يجد في قلبه استحضار عظمة الجبار، ومن تفكر في صنعه - سبحانه - في ملكوت السموات، وعلوها، وسعتها، واستدارتها، وعظم خلقها، وحسن بنائها ولونها، وعجائب شمسها وقمرها وكواكبها، ومقاديرها وأشكالها، وتفاوت مشارقها ومغاربها، يجد هيبة وعظمة لخالقها جل وعلا فلقد أحكمها الحكيم خلقًا وصنعًا، قال تعالى: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا﴾ [النازعات: 27 – 29].

ومن تفكر وتدبر هذا الصنع العجيب، والخَـلقْ الدقيق، توقـن نفسه أن


الله خالق كل شيء، بيده مقاليد الأمور، لا معبود سواه، ولا رب إلا هو - سبحانه-.

ومن مخلوقاته العظيمة النجوم التي في السماء، فقد خلق - سبحانه وتعالى-، هذه الأجرام العظيمة، والأعداد الهائلة، والكواكب المنتثرة في جوف السماء.

قال البخاري في صحيحه: قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يهتدي بها، ومن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به.

ذكر قتادة أن الله - عز وجل - خلق النجوم لثلاثة أمور: الأول منها: أنها زينة للسماء الدنيا، كأنها قناديل تضيء كبد السماء، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ [الملك: 5].

الثاني: أنها رجوم للشياطين، الذين يسترقون السمع؛ فمنعوا من ذلك، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ﴾ [الملك: 5].

الثالث من فوائد النجوم: أنها علامات يهتدي بها الناس في ظلمات ومتاهات البر والبحر، قال تعالى: ﴿وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [النحل: 16].

ومن زعم في النجوم غير ما ذكر الله في كتابه من هذه الأمور الثلاثة فادعى بها علم الغيب كما يفعل المنجمون الكذابون، الذين يزعمون أنَّها تدل على موت، وحياة، وسعادة، وشقاوة وغلاء أسعار، وغير ذلك، فقد أخطأ طريق الحق، وأضاع نصيبه من الدين ومن كل خير، وأشغل نفسه بما يضره ولا ينفعه.


أيها المسلمون:

لقد جهل بعض الناس الحكمة التي من أجلها خلقوا، فتقاذفتهم الأهواء واستولت عليهم الفتن والأدواء، فافتتن بعضهم بالسحرة والمشعوذين والأفاكين، بدعوى مكاشفة الغيب والتطلع إلى المستقبل، ولم يجنوا من وراء ذلك إلا التضليل، وبعثرة الأموال في الباطل، وقد أبان الله الحق في ذلك بقوله: ﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [النمل: 65] ويقول النبي ﷺ‬: «من أتى عرافًا أو كاهنًا فسأله عن شيء فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد» [رواه مسلم].

وافتتن بعض الناس بما يسمونه الطالع والأبراج، والحظ وتحضير الأرواح وقراءة الكف، فأصيبوا بسيل الأوهام وعدم الرضا بالقدر، قال عز وجل: ﴿أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾ [الطور: 41].

ومن هذا الباب: ما يعرف في بعض المجلات بما يسمى الأبراج أو حظك هذا الأسبوع، يزعم فيه المنجمون أن من وُلد في برج كذا فإنه هذا الأسبوع سوف يخسر، أو من ولد في برج كذا فسوف يربح، إلى غير ذلك من الافتراءات، كل ذلك من الشرك الأكبر؛ لما فيه من ادعاء علم الغيب، وهو نوع من أنواع السحر والكهانة.

فالواجب على المسلم ألا يقرأها ولو من باب التسلية، وأن يقاطع هذه المجلات الهدامة للعقيدة، وأن يناصح القائمين على هذه المجلات؛ إنكارًا للشرك ونصرة للتوحيد.

عباد الله:

ينقسم علم التنجيم على قسمين:

الأول: علم التأثير: وهو الاستدلال بالأحوال الفلـكية عـلى الحوادث


الأرضية، كالتنبؤ بأنَّ من ولد في نجم كذا فسيكون سعيدًا في حياته، ومن ولد في نجم كذا فسيكون تعيسًا.

وحكمه: شرك أكبر ينافي التوحيد؛ لما فيه من ادعاء علم الغيب، وتعلق القلب بالنجوم، واعتقاد أن لها تصرفًا في الكون.

وبعض الناس يُصدِّق بعلم التنجيم؛ مع التفاوت الظاهر، والدجل الواضح؛ والعجب أن تجد رجلاً غنيًا ولد في نفس يوم مولد رجل آخر فقير الحال، لا يجد قوت يومه، فللَّه الأمر من قبل ومن بعد.

الثاني من أقسام علم التنجيم: الاستدلال بالشمس والقمر والكواكب على القبلة، والأوقات، والجهات والفصول الزراعية.

وحكمه: الجواز لما فيه من مصلحة للناس.

وعن أبي موسى - t - قال: قال رسول الله ﷺ‬: «ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر» [رواه أحمد وابن حبان في صحيحه].

هذا الحديث العظيم من أحاديث الوعيد نقرها ونمرها كما جاءت، ولا نتأولها تأويلات تخرجها عن مقصود رسول الله ﷺ‬، وتغيرها عن معانيها التي دلت عليه، لأن ذلك أبلغ في الزجر، وأردع عن الجرائم، وأحسن ما يقال أن كل عمل دون الشرك والكفر المخرج عن الملة فهو راجع إلى مشيئة الله، فإن عذبه به فقد استوجب العذاب، وإن غفر له فبفضله ورحمته.

ويخبر الرسول ﷺ‬ على وجه التحذير عن ثلاثة لا يدخلون الجنة:

مدمن الخمر؛ المداوم على شرب الخمر، أو أي مسكر كان حتى مات ولم يتب.

ومصدق بالسحر، أي المصدق بجـميع أنواع السحر، ومنه التنجيم، كما


قال ﷺ‬: «من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر» [رواه أبو داود].

فمن صدَّق المُنَجِّم في ادعائه للغيب بأنَّه سيحدث كذا وكذا، أو يقع كذا وكذا؛ فهو داخل في الوعيد الشديد المذكور في الحديث.

قال الذهبي وشيخ الإسلام وغيرهما: ويدخل فيه تعلم السيميا وعملها، وهي محض السحر، ويدخل فيه عقد المرء عن زوجته، ومحبة الزوج لامرأته وبغضها وبغضه، وأشباه ذلك، بكلمات مجهولة.

أما الثالث؛ الذي ذكره النبي ﷺ‬ في الحديث فهو: قاطع الرحم، الذي لا يقوم بواجب القرابة التي أمر الله بصلتها، قال تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ [محمد: 22].

وقال ﷺ‬: «الرحم مُعلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله» [رواه أبو داود].

وأنواع صلة الرحم كثيرة منها: السلام عليهم، وزيارتهم، وعيادة مريضهم، والنفقة على محتاجهم، وكف الأذى عنهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وتعليمهم أمور دينهم، فإنها من أعظم الإِحسان إليهم.

فالواجب على المسلم البعد عما يغضب الله - سبحانه وتعالى - رغبة في ثوابه وخوفًا من عقابه، حتى يفوز برحمته ورضوانه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [الأنعام: 59].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وقهر كل مخلوق عزة وحكمًا، أحمده - سبحانه - وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله؛ بشر وأنذر، وبلغ البلاغ المبين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

عباد الله:

أمركم الله - عز وجل - بالتفكر في مخلوقاته العظيمة ولطائف صنعه العجيبة، فإن ذلك يقود المرء إلى الإِيمان التام بوحدانية الرب عز وجل وأن لا معبود بحق إلا هو سبحانه وتعالى.

قال - جل وعلا-: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 164] فبدأ بذكر خلق السموات؛ ولهذا قل أن تجيء سورة في القرآن إلا وفيها ذكرها: إما إخبارًا عن عظمتها وسعتها، وإما إقسامًا بها، وإما دعاءً إلى النظر فيها، وإنما إرشادًا للعباد أن يستدلوا بها على عظمة بانيها ورافعها، وإما استدلالاً منه سبحانه بخلقها على ما أخبر به من المعاد والقيامة، وإما استدلالاً منه بربوبيته لها على وحدانيته وأنـه الله الذي لا إله إلا هو، وإما استدلالاً منه على حسنها واستوائها والتئام


أجزائها، وعدم الفطور والشقوق فيها على تمام حكمته وقدرته، وكذلك ما فيها من الشمس والقمر والكواكب والعجائب التي تتقاصر عقول البشر عن قليلها، ثم هي مع ذلك مقر ملائكة الرب، ومحل دار جزائه؛ ومهبط ملائكته ووحيه، وإليها تصعد الأرواح وأعمالها وكلماتها الطيبة.

فاعرفوا حق ربكم ونزهوه عن الشريك والنظير والشبيه، وأخلصوا له العبادة تفلحوا، فإن في ذلك سعادة الدارين.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([34])

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70 ، 71].

أما بعد:

فاتقوا الله وراقبوه، وتجنبوا معصيته وعقابه.

عباد الله:

خلق الله الخلق لعبادته وقسم أرزاقهم وأقواتهم، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، وأنزل إليهم القطر من السماء فأنبت لهم الزرع، وأدر الضرع.

ومع هذه النعم العظيمة والخيرات الكثيرة هناك من يجحد نعمة الله - عز وجل - وينسبها إلى غيره - جل وعلا-.

وقد ورد النهي والوعيد الشديد، والتغليظ الأكـيد، عـلى من يستسقي


بالأنواء وبيان أنه كفر، والاستسقاء: طلب السقيا، والمراد به هنا، نسبة السقيا ومجيء المطر إلى الأنواء، وهي منازل القمر وهي ثمانية وعشرون نجمًا، معروفة المطلع في أزمنة السنة كلها، مشهورة بمنازل القمر، ينزل كل ليلة منزلة منها في كل شهر، قال تعالى: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ﴾ [يس: 39] تسقط كل ثلاث عشرة ليلة منزلة مع طلوع الفجر، وتطلع أخرى مقابلها ذلك الوقت من المشرق، وتنقضي جميعها من انقضاء السنة، وكانت العرب تزعم أن بسقوط المنزلة وطلوع رقيبها يكون المطر، وينسبونه إلى النجم الساقط، ويقولون: مطرنا بنوء كذا!!

عباد الله:

لما كان من التوحيد الاعتراف لله بتفرده بالنعم ودفع النقم، وإضافتها إليه قولاً واعترافًا واستعانة بها على طاعته؛ كان قول القائل: مطرنا بنوء كذا وكذا، يُنافي هذا المقصود أشد المنافاة، لإِضافة المطر إلى النوء.

والواجب إضافة المطر وغيره من النعم إلى الله، فإنه الذي تفضل بها على عباده، ثم إن الأنواء ليست من الأسباب لنزول المطر بوجه من الوجوه، وإنما السبب عناية المولى ورحمته وحاجة العباد وسؤالهم بلسان الحال ولسان المقال، فينزِّل عليهم الغيث بحكمته ورحمته بالوقت المناسب لحاجتهم وضرورتهم.

فلا يتم توحيد العبد حتى يعترف بنعم الله الظاهرة والباطنة عليه وعلى جميع الخلق، ويضيفها إليه، ويستعين بها على عبادته وذكره وشكره.

وهذا الموضع من محققات التوحيد، وبه يُعرف كامل الإِيمان وناقصه.

وقد عاب الله على المشركين كفرهم بنعمه، فإذا أصابهم المطر والبركة والخير نسبوها إلى غير الله؛ من النجوم والمخلوقات التي لا قدرة لها على شيء، فيقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا. قال تعالى: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة: 82].

فالله - سبحانه - هو المتفرد بالعطاء المتفضل على عباده بالنعم الكثيرة، قال تعالى: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ﴾ [النحل: 53] ومن نعمه العظيمة إنزال المطر الذي يسقيهم به ماء مباركًا، فيحي به الأرض بعد موتها.

وفي الحديث عن أبي موسى الأشعري - t - أن رسول الله ﷺ‬ قال: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن؛ الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة».

ذم الرسول ﷺ‬ أربعًا من خصال الجاهلية ستفعلها هذه الأمة إمَّا مع العلم بتحريمها أو مع الجهل بذلك، ولكنها تقِّل تارة، وتكثر أخرى على حسب ضعف الإِيمان وقوته، وهي:

الأول؛ الفخر بالأحساب: وهو التعاظم على الناس بالآباء ومآثرهم وذلك جهل عظيم، إذ لا شرف إلا بالتقوى، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13].

وقال تعالى: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى﴾ [سبأ: 37] ولأبي داود: «إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء، وإنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي، الناس بنو آدم وآدم من تراب».

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله-: فخر الإِنسان بعمله منهي عنه، فكيف افتخاره بعمل غيره؟!

الثاني مما حذر منه ﷺ‬: الطعن في الأنساب: وهو الوقوع بالذم والتنقص، كأن يقول: آل فلان ليس نسبهم جيدًا ذمًا وقدحًا لهم، ولما عيَّر أبو ذر - t - رجلاً بأمه قال - عليه الصلاة والسلام-: «إنـك امرؤ


فيك جاهلية» [متفق عليه].

قال شيخ الإِسلام: فدل على أن الطعن في الأنساب من عمل الجاهلية المذموم، وأن المسلم قد يكون فيه شيء من هذه الخصال المسماة بجاهلية ويهودية ونصرانية، ولا يوجب كفره.

وقال - رحمه الله-: وليس في كتاب الله آية واحدة يُمدح فيها أحدًا بنسبه، ولا يُذم أحدًا بنسبه؛ وإنما يُمدح بالإِيمان والتقوى، ويذم بالكفر والفسوق والعصيان.

الثالث من الخصال المذمومة: الاستسقاء بالنجوم: وذلك بنسبة السقيا ونزول المطر إلى النجوم والأنواء، بأن يقول: مُطرنا بنوء كذا وكذا.

وتفصيل ذلك:

أن من يعتقد أن النجم هو الموجد والمُنزِّل للمطر، فذلك شرك أكبر.

وإن اعتقد أنّ النجم سبب في نزول المطر، مع اعتقاد أن الله هو الفاعل؛ فذلك شرك أصغر.

أما من قال: مطرنا في نوء كذا، فكما لو قال: مطرنا في شهر كذا فلا بأس بذلك.

الرابع من الخصال المذمومة التي حذر منها النبي ﷺ‬ في الحديث؛ النياحة وهي رفع الصوت بالبكاء على الميت، وشق الجيوب، ولطم الخدود، وكذا تكسير الأواني، وتخريب الطعام، وتعداد محاسن الميت على سبيل الجزع والتسخط، وذلك ينافي الصبر الواجب.

وإذا ماتت النائحة من غير توبة فإنها تُبعث من قبرها وتوقف يوم الحساب والجزاء وعليها قميص من نحاس مذاب ولباس من جَرب، وهذا اللباس عقوبة لها تلبسه عمَّا مزقت في الدنيا من ثيابها نياحة وجزعًا، لكن مـن فضل


الله أن التوبة تُكفر الذنوب وإن عظمت، ومنها النياحة.

فالواجب على المسلم عند وقوع المصائب التحلى بالصبر؛ والرغبة فيما عند الله، والبعد عن التسخط والجزع، وقول: ﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾ [البقرة: 156] حتى ينال رضا الله - عز وجل - وهدايته: ﴿أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾.

وللبخاري ومسلم عن زيد بن خالد الجهني قال: صلى بنا رسول الله ﷺ‬ صلاة بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب».

عباد الله:

صلى رسول الله ﷺ‬ بأصحابه صلاة الفجر في الحديبية عقب مطر كان في تلك الليلة، فالتفت على أصحابه بوجهه الشريف، وألقى عليهم سؤالاً بصيغة الاستفهام؛ ليكون أوقع في النفس وأبلغ في الفهم: «أتدرون ماذا قال ربكم؟» فقال أصحابه: الله ورسوله أعلم، فقال ﷺ‬: «قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر».

بين ﷺ‬ انقسام الناس إلى مؤمن وكافر:

فمن نسب المطر إلى الله - سبحانه - وأضافه إليه، من غير استحقاق من العبد على ربه وشكر الله على هذه النعمة، وأثنى به عليه فقال: مُطرنا بفضل الله ورحمته، فهذا مؤمن بالله، كافر بالكواكب.

ومن نسب المطر إلى النوء، وأضافه إليه، قال: مطرنـا بنوء كذا وكذا،


فهذا كافر بالله مؤمن بالكواكب.

فالأول: موحد مخلص، والثاني: كافر كفرًا أصغر إذا اعتقد أن النجم سبب في نزول المطر، وكافر كفرًا أكبر إذا اعتقد أن النجم هو المنزل للمطر.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ [النحل: 65].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله حمد الشاكرين، أشهد أن لا إله إلا الله رب العرش العظيم، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

عباد الله:

نزول المطر من أعظم نعم الله وإحسانه على عباده، لما اشتمل عليه من المنافع العظيمة، فالواجب نسبة هذه النعمة إلى الله؛ فهو المتفضل على عباده آناء الليل وأطراف النهار، ويحرم نسبتها إلى الأنواء.

كقول: مطرنا بنوء كذا وكذا، أو صدق نوء كذا وكذا؛ لأن الله لم يجعل الأنواء سببًا لنزول المطر، فلا تضاف أفعال الله إلى غيره، ويجب نسبة النعم إلى الله وحده.

وقد شُرع للمسلم إذا نزل المطر، قول الدعاء الوارد عن النبي ﷺ‬: «اللهم صيبًا نافعًا» [رواه البخاري] وهو سؤال العبد ربه أن ينفع بهذا المطر البلاد والعباد.

كما يُشرع للمسلم أيضًا إذا نزل المطر أن يشكر الله على هذه النعمة بقوله:

«مُطرنا بفضل الله ورحمته».

فالأول دعاء، والثاني شكر.

ويستحب للمسلم عند نزول المطر أن يدعو الله لنفسه ولغيره بخيري الدنيا والآخرة؛ لأن وقت نزول المطر من أوقات إجابة الدعاء، كمـا في الحديث


عن النبي ﷺ‬ أنه قال: «دعوتان لا تُرَد: عْندَ التحام الجيش، وعنْدَ نزول المطر» [رواه الطبراني وحسنه الألباني].

اللهم أغث بلادنا بالأمطار وقلوبنا بالإِيمان يا أرحم الراحمين.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([35])

الحمد لله الذي جعل المحبة إلى الظفر سبيلاً، وصرَّف عليها القلوب كما يشاء، وصرفها أنواعًا وأقسامًا بين بريته، وفصلها تفصيلاً، وفضل أهل محبته ومحبة كتابه على سائر المحبين تفضيلاً، وهو الحكيم صاحب الفضل على من شاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يخلق ما يشاء ويختار، واشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أرسله للإِيمان مناديًا، وإلى الجنة داعيًا، وبكل معروف آمرًا، وعن كل منكر ناهيًا، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وكل من تبعه داعيًا، وفي مرضاة ربه ومحابه ساعيًا.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله-، وأخلصوا له العبادة، تفلحوا وتسعدوا.

أيها المسلمون:

خلقنا الله - سبحانه - وأوجدنا من العدم، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، هو أهلٌ أن يُحبّ ويُعظّم، ويُجلّ ويُطاع، وليس للقلوب سرور ولا لذة إلا في محبته سبحانه، والتقرب إليه بما يُحبه، والشوق إلى لقائه، إذ هي أصل كل خير في الدنيا والآخرة، وقد ادَّعى أقوام أنَّهم يحبون الله، فأنزل سبحانه هذه الآية محنة لهم: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾ [آل عمران: 31] وقد سمى بعض العلماء هذه الآية: آية الاختبار.

فكل مَنْ ادَّعى محبة الله ولم يتبع الرسول ﷺ‬ فهو كاذب في دعواه.


مَنْ زعم أنَّه مُحب لله وهو واقع في الشرك فهو كاذب في دعواه.

ومن زعم أنَّه مُحب لله وهو متهاون في الصلاة فهو كاذب في دعواه.

محبة الله المطلوبة ليست محبة عاطفة قلبية فقط، ولا كلمات تردد وأشعار تُقال، ولكنَّها عمل واتباع.

وتنقسم المحبة إلى نوعين: محبة خاصة لا تصلح إلا لله: وهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع، وكمال الطاعة وإيثاره على غيره.

ومحبة عامة: وهي محبة جائزة؛ كمحبة الوالد لولده، والجائع للطعام ونحوها، وهذه ليست من العبودية في شيء؛ إلا إذا اقترن بها ما يقتضي التعبد صارت عبادة، فالإِنسان يحب والديه محبة إجلال وتعظيم، وإذا اقترن بها أن يتعبد لله بهذا الحب من أجل أن يقوم ببر والديه صارت عبادة، وهكذا إذا قصد بالأكل والشرب الإِستعانة والتقوي بها على العبادات.

عباد الله:

قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ﴾.

محبة الله - سبحانه - عبادة قلبية من أجل العبادات التي يجب إخلاصها لله، وقد أخبر الله عن المشركين - ذمًا لهم وتحذيرًا من فعلهم - أنهم يحبون الله ولم يدخلهم ذلك في الإِسلام؛ لأنهم أشركوا معه في المحبة غيره، وهذا هو الذي اعترف به المشركون وهم بين أطباق الجحيم؛ بأنهم صاروا في الجحيم بسببه، حيث قالوا: ﴿تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: 97 – 98] ومن المعلوم أنَّهم لم يساووا آلهتهم بالله في الخلق والرزق والتدبير، وإنَّما ساووهم بالله في هذه المحبة الخاصة.

فكل من اتخذ ندًا لله، يحبه كحبه لله؛ فقد وقع في الشرك الأكبر.


وقال - سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 24].

في الآية وعيد شديد لمن أحب الأصناف الثمانية؛ فآثرها أو بعضها على حب الله ورسوله، والقيام بما أوجب الله عليه من الأعمال كالهجرة والجهاد ونحو ذلك فلينتظر العقوبة.

وهذه الآية دليل على وجوب محبة الله ورسوله ﷺ‬ وعلى تقديمها على محبة كل شيء.

وقد نزلت الآية في المسلمين الذين بمكة، لما أُمروا بالهجرة قالوا: إن نحن هاجرنا ضاعت أموالنا، وذهبت تجارتنا، وخربت ديارنا وقطعنا أرحامنا، وكان منهم من يتعلق به أهله وولده، ويقولون: ننشدك بالله ألا تضيعنا؛ فيرق لهم ويدع الهجرة، فبدأ الله بالآباء والأبناء والإِخوان، وكذا الأصدقاء ونحوهم، وزهدهم فيه، ثم قطع علائقهم عن زخارف الدنيا.

فذكر - سبحانه - الأموال والتجارة والمساكن إن كان كل ذلك أحب إليكم: ﴿مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ أي: انتظروا ماذا يحل بكم من عقابه؟!

والمحبة - عباد الله - تنشأ من الإِحسان ومطلعة الآلاء والنعم؛ فإن القلوب جُبلت على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها، ولا أحد أعظم إحسانًا من الله - سبحانه-، فإن إحسانه على عبده في كل نفس ولحظة، وهو يتقلب في إحسانه في جميع أحواله، ولا سبيل له إلى ضبط أجناس هذا الإِحسان، فضلاً عن أنواعه أو أفراده، ويكفي أن من بعض أنواعه نعمة النفس التي لا تكاد تخطر ببال العبد، له عليه في كل ويوم وليـلة أربعة


وعشرون ألف نعمة، فإنه يتنفس في اليوم والليلة أربعة وعشرون ألف نفس، فما الظن بما فوق ذلك وأعظم منه: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم: 34].

هذا غير ما يصرف عنه من المضرات وأنواع الأذى التي تقصده، وعلها توازن النعم في الكثرة، والعبد لا شعور له بأكثرها: ﴿قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: 42].

عباد الله:

في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم؛ عن أنس أن رسول الله ﷺ‬ قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين».

بيَّن ﷺ‬ أن العبد لا يؤمن الإِيمان الواجب، والمراد كماله، حتى يكون الرسول ﷺ‬ أحب إليه: «من ولده ووالده والناس أجمعين» لأن بسببه ﷺ‬ الحياة الأبدية، والإِنقاذ من الضلال إلى الهدى، بل ولا يحصل هذا الكمال إلا بأن يكون الرسول ﷺ‬ أحب إليه من نفسه، كما في قصة عمر - t - لما قال له: لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال: «والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك» قال له عمر: فإنك الآن أحب إلي من نفسي، فقال: «الآن يا عمر» [رواه البخاري]، ومحبته ﷺ‬ تقتضي طاعته واتباع ما أمر به، وتقديم قوله دون من سواه.

والرسول - عباد الله - هو المُبلِّغ عن الله - سبحانه - شرعه، دل الناس على طريق السعادة في الدنيا والآخرة، وحذرهم من طريق الضلالة والغواية، وتحمل في ذلك المشاق العظيمة، فهو أهلٌّ أن يُحب - صلوات الله وسلامه عليه-، ومحبته تقتضي اتباع أوامره واجتناب نواهيه، وتعظيم سنته والدفاع عنها، وتقديم قوله ﷺ‬ على قول كل أحد.


وللبخاري ومسلم، عن أنس - t - قال: قال رسول الله ﷺ‬: «ثلاث من كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يُحب المرء لا يُحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار».

وحلاوة الإِيمان حلاوة محسوسة، يجدها أهل الإِيمان في قلوبهم، فيستلذ الطاعات، ويتحمل المشقات في رضي الله، ويحبه بفعل طاعته وترك مخالفته، من وجدن فيه تامة ذاق حلاوة الإِيمان، فوجد في نفسه وقلبه الطمأنينة والراحة والنعيم والسرور.

وفي هذا الحديث يخبر النبي ﷺ‬ عن ثلاث خصال جالبة لحلاوة الإِيمان: وأول هذه الخصال: محبة الله ورسوله ﷺ‬ محبة تقتضي تقديمها على محبة ما سواهما من أهل ومال، ومحبة العبد لربه تستلزم محبة طاعته وذلك بالقيام بالأعمال الصالحة والأقوال الطيبة وبغض ما يبغضه الله - سبحانه وتعالى - من الشرك والمعاصي وغير ذلك.

ثاني الخصال الجالبة لحلاوة الإِيمان: المحبة في الله، وهي محبة عباد الصالحين من أجل صلاحهم وتقواهم، لا لغرض دنيوي: كمعروف، أو قرابة.

وكان الصحابة يؤثر بعضهم بعضًا على نفسه؛ محبة في الله ولله وتقربًا إليه، قال سبحانه عنهم: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9] ومن لازم محبة الله محبة أهل طاعته، كمحبة أنبيائه ورسله والصالحين من عباده، ومحبة الله ومحبة من يُحبه الله من كمال الإِيمان؛ وحقيقة الحب في الله ألا ينقص بالجفاء ولا يزيد بالبر.

والخصلة الثالثة: كراهة العودة إلى الكفر كراهة متناهية بحـيث يستوي


عنده الرجوع إليه وقذفه في النار.

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «من أحب في الله، وأبغض في الله، والي في الله، وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإِيمان - وإن كثرت صلاته وصومه - حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يُجدي على أهله شيئًا» [رواه ابن جرير].

بين ابن عباس - رضي الله عنهما - أعمال القلوب التي يظهر فيها الولاء والبراء واضحًا جليًا وهي:

أولاً: من أحب في الله؛ أي أحب المؤمنين من أجل صلاحهم وتقواهم، لا لِعَرض الدنيا.

ثانيًا: وأبغض في الله: أي: أبغض الكفار لكفرهم والعصاة؛ لمخالفتهم ربهم، فالمسلم العاصي؛ يُحبُّ ويوالى لما فيه من الإِيمان، ويُبغْضُ ويُعَادَى لما فيه من المعصية.

ثالثًا: وعادى في الله: أي: أظهر العداوة للكفار بالفعل، بجهادهم والبراءة منهم.

وكلما قويت محبة العبد لله، قويت هذه الأعمال المترتبة عليها، وبكمالها يكمل توحيد العبد، وبضعفها يضعف.

وثمرة تحقيق أعمال القلوب الأربعة السابقة: أنَّ الله يتولى عبده بالمحبة والنصرة، ولن يتذوق حلاوة الإِيمان ويتلذذ بطعمه من لا يتصف بذلك وإن كثرت عبادته.


أيها المسلمون:

ورد ذم الحب والبغض من أجل الدنيا وسوء عاقبته، فإذا ضعف الإيمان في قلب العبد، أحب الدنيا وأحب لها وآخى لأجلها، وهذا هو الغالب على كثير من الناس، وقد رآه ابن عباس - رضي الله عنهما - في أهل زمانه، فكيف بزماننا هذا؟! فتجد الشخص قد يُعادي أهل الخير والصلاح، ويوالي الفسقة من أهل الربا والطرب والغناء، بل وصل الحال عند بعضهم إلى موالاة أهل الكفر والطغيان، وكل ذلك لا ينفع يوم القيامة حينما تزول الدنيا وما فيها، ولا يبقى إلا ما قدم المرء من العمل الصالح، في ذلك اليوم تنقلب المحبة الدنيوية إلى عداوة، بخلاف المحبة والتآخي في طاعة الله، قال تعالى: ﴿الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 67].

فالواجب على كل مسلم أن يكون قلبه مملوءًا بمحبة الله ومحبة أوليائه؛ ليفوز بالبشارة العظيمة الواردة في الحديث القدسي: «المُتَحابُّونَ في جلالي لَهُمْ مَنَابُر منْ نُور يَغْبطُهُمْ النَّبيُّون والشهداء» [رواه الترمذي].

كما يجب عليه أن يكون مبغضًا لأعداء الله الكافرين، إذ لا يجتمع حب الله مع حب أعداء الله.

والمحبة لأجل الدنيا لا تنفعهم بل تضرهم، كما قال - تعالى-؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿الإَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ﴾.

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

قال ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ﴾ [البقرة: 166] قال المودة.

أي: الوصلة التي كانت بينهم في الدنيا، يتواصلون بها ويتحابون بها، تقطعت بهم، خانتهم أحوج ما كانوا إليها، وصارت عداوة يوم القيامة، وتبرأ بعضهم من بعض، ولعن بعضهم بعضًا، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ﴾ [العنكبوت: 25] وأول الآية: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ﴾ [البقرة: 166].

ومن الأسباب التي ينال بها العبد محبة خالقه ومولاه:

قراءة القرآن بالتدبر، والعمل بما فيه، والإِكثار من ذكره - سبحانه-، والتقرب إليه - جل وعلا - بالنوافل بعد الفرائض، وانكسار القلب بكليته بين يدي الله - تعالى-، والخلوة به وقت النزول الإِلهي لمناجاته وتلاوة كلامه، وتجنب ما يصرف القلب عن الله من المحرمات المسموعة والمرئية وغيرها، وكذلك مجالسة أهل الخير والصلاح.

وقد ذكر ابن تيمية - رحمه الله - أن الذي يحرك القلوب إلى المحبة أمران:

الأول: كثرة ذكر الله -عز وجل-، لأن كثرة الذكر تُعلق القلوب بالله: ﴿يَا


أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ [الأحزاب: 42].

الثاني: مطالعة آلائه ونعمائه، قال تعالى: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ [لقمان: 20].

ثم قال - رحمه الله-: والذنوب تُنقص من محبة الله بقدر ذلك ولكن لا تُزيل المحبة لله ورسوله إذا كانت ثابتة في القلب ولم تكن الذنوب عن نفاق.

وقال بعض السلف: إذا رأيت من يعصي الله فذلك دليل على نقصان محبة الله في قلبه؛ فإن من علامة محبة الله أن تتلذذ بالطاعة وأن تثقل عليك المعصية.

قال شيخ الإِسلام: من كان مؤمنًا تقيًا كان لله وليًا. والولاية من الله لعبده المؤمن هي النصرة والتأييد والإِعانة.

جعلني الله وإياكم من المؤمنين المتقين.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([36])

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70 ، 71].

أما بعد:

فاتقوا الله - تعالى - حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى.

عباد الله:

لما كان الخوف من الله أجلَّ مقامات الدين وأشرفها وأفضلها، وأجمع أنواع العبادة التي يجب إخلاصها لله - تعالى-، ذكره الله - عز وجل - في غير موضع من كتابه العزيز، قال تعالى: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ﴾ [النحل: 50]،


وقال - جل وعلا-: ﴿وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ [لأنبياء: 28] وقال - سبحانه-: ﴿وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [الأحزاب: 39] وغير ذلك من الآيات.

وأعد الله - عز وجل - لمن حقق مقام الخوف الجزاء العظيم، فقال تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: 46].

قال القرطبي: المعنى خاف مقامه بين يدي ربه للحساب، فترك المعصية.

وقال ابن كثير - رحمه الله-: أي خاف القيام بين يدي الله - عز وجل-، وخاف حُكم الله فيه، ونهى النفس عن هواها، وردها إلى طاعة مولاها: ﴿فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات: 41] أي مُنقلبه ومصيره ومرجعه إلى الجنة الفيحاء.

عباد الله:

الخوف عبارة عن تألم القلب واحتراقه، بسبب توقع مكروه في المستقبل، ومن توقع مكروهًا في المستقبل سعى إلى الاستعداد له، والمثابرة على اجتيازه، والخوف الصادق من الله - عز وجل - هو ما يدفع المسلم إلى البعد عن المنكرات، والمسارعة إلى الخيرات.

وقد حذر الله - عز وجل من تخويفات الشيطان ووساوسه، فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾.

الخوف من الله: هو هيبة في القلب لله - سبحانه - مع تعظيم وتعبد وخضوع وتذلل.

وقد ذكر الله - عز وجل - في هذه الآية أن الشيطان يخوفكم بأوليائه ويوهمكم أنهم ذو بأس شديد ويعظمهم في صدوركم فلا تجاهدونهم، ولا تأمرونهم بالمعروف، ولا تنهونهم عن المنكر، وهـذا من أعظم كيده بأهل


الإِيمان، ثم حذر وبيَّن لعباده الطريق الصحيح، وهو عدم الخوف منهم: ﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ جعل الخوف منه - سبحانه - شرطًا في الإِيمان، لأن الإِيمان يقتضي أن تؤثروا خوف الله على خوف الناس، ولأن من عرف أن الخوف عبادة وصرفه لغير الله شرك لم يصرفه لغيره، وكلما قوي إيمان العبد زال خوف أولياء الشيطان من قلبه، وكلما ضعف إيمانه قوي خوفه منهم.

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله-: وفيه أن إخلاص الخوف من الفرائض.

والخوف على ثلاثة أقسام:

أحدها: خوف السر وهو أن يخاف من غير الله من وثن أو طاغوت أو صاحب القبر أو غير ذلك أن يصيبه بما يكره، أو يغضب عليه فيسلبه نعمة أو نحو ذلك، كما قال تعالى: ﴿وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ﴾ [الزمر: 36] وهو الواقع من عُباد القبور ونحوها، يخافونها ويُخوفون بها أهل التوحيد وهذا شرك أكبر.

الثاني: أن يترك ما يجب عليه من جهاد، وأمر بمعروف ونهي عن منكر؛ لغير عذر خوفًا من بعض الناس، فهذا مُحرم، وهذا هو سبب نزول الآية، كقوله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ [آل عمران: 173]. وفي الحديث: «إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ما منعك إذ رأيت المنكر أن لا تغيره؟ فيقول: رب خشية الناس، فيقول: إياي كنت أحق أن تخشى» [رواه أحمد وغيره].

الثالث: الخوف الطبيعي، وهو الخوف من عدو أو سبع أو غير ذلك، فهذا لا يُذم، كقوله - سبحانه - عن موسى u: ﴿ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ﴾.


وإن ان الخوف وهميًا؛ كالخوف الذي ليس له سبب أصلاًن أو له سبب ضعيف، فهو مذموم يدخل صاحبه في وصف الجبناء، وقد تعوذ ﷺ‬ من الجبن فقال ﷺ‬: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، ومن العجز والكسل، ومن الجبن والبخل، ومن ضلع الدين وغلبة الرجال» [رواه الترمذي].

أيها المسلمون:

أثنى الله - سبحانه - على عمار المساجد الذين اتصفوا بصفات عدة:

فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ [التوبة: 18].

فذكر أنهم: آمنوا بقلوبهم، وعملوا بجوارحهم، قال تعالى: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللّهِ﴾.

وذكر أنهم: أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، قال تعالى: ﴿وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾.

وذكر أيضًا أنهم: أخلصوا لله الخشية والخوف اللذين هما أساس العبادة، ولا تصلحان إلا لله وحده، قال تعالى: ﴿وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ﴾.

فعمارة المساجد ليست ببنائها وترميمها وتنظيفها فقط، بل لا تكون عامرة إلا بالإِيمان والعمل الصالح الخالص من شوائب الشرك والبدع، وإدامة العبادة والذكر، وأصحابها هم المهتدون.

عباد الله:

قال - تعالى - في سورة العنكبوت: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ [العنكبوت: 10].

أي: ومن بعض الناس من يدعي الإِيمان بلسانه، ولم يثبت في قـلبه ﴿فَإِذَا


أُوذِيَ فِي اللَّهِ﴾، أي: لأجل الله - جل وعلا-، فأصابته محنة اعتقد أنها من نقمة الله فارتد عن الإسلام.

قال ابن عباس : يعني فتنه أن يرتد عن دينه، إذا أوذي في الله.

وقال ابن القيم: أخبر عن حال الداخل في الإِيمان بلا بصيرة، أنه إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له - وهي أذاهم ونيلهم له بالمكروه، وهو الألم الذي لا بد أن ينال الرسل وأتباعهم ممن خالفهم - جعل ذلك في فراره منه، وتركه السبب الذي يناله به، ﴿كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ الذي فر منه المؤمنون بالإِيمان، فالمؤمنون لكمال بصيرتهم، فروا من ألم عذاب الله إلى الإِيمان، وتحملوا ما فيه من ألم الزائل المفارق عن قريب، وهذا لضعف بصيرته فر من ألم أعداء الرسل إلى موافقتهم، ففر من ألم عذابهم إلى عذاب الله، فجعل ألم فتنة الناس بمنزلة ألم عذاب الله، وغبن كل الغبن إذا استجار من الرمضاء بالنار، وفر من ألم ساعة إلى ألم الأبد، وإذا نصر الله جنده وأولياءه قال: إني كنت معكم، والله عليم بما انطوى عليه صدره من النفاق.

فلا ينبغي للعبد أن يخاف غير الله، ولا يصدق عليه الإِيمان الشرعي إلا باعتقاد القلب وعمله، وقول اللسان وعمل الجوارح، وفيه الخوف من مداهنة الخلق، والمعصوم من عصمه الله، وأن الخوف من الناس أن ينالوه بما يكره بسبب، الإِيمان بالله من جملة الخوف من غير الله.

جعلني الله وإياكم من أهل الله وخاصته ومن المتحابين فيه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: 46].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا كما يحب ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد عباد الله:

إن الخوف من الله: حصن من المهلك وحماية دون المنزلقات، والقدر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم، فإن زاد على ذلك بحيث صار باعثًا للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات، والتبسط في فضول المباحات، كان ذلك فضلاً محمودًا، فإن تزايد على ذلك؛ بأن أورث مرضًا أو موتًا أو همًا لازمًا، بحيث يقطع عن السعي في اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة لله - عز وجل - لم يكن محمودًا.

قال الحسن: الرجاء والخوف مطيتا المؤمن.

فإذن لا بد من الجمع بين هذه الأمور، وغلبة الخوف هو الأصلح، ولكن قبل الإِشراف على الموت، أما عند الموت فالأصلح غلبة الرجاء وحسن الظن.

قال ابن القيم: القلب في سيره إلى الله - عز وجل - بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان، فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضه لكل صائد وكاسر.


وقد أثنى الله - عز وجل - على من قرن الخوف بالرجاء في مواضع كثيرة من كتابه العزيز، فقال - تعالى - في حق الأنبياء عليهم السلام: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾ [الأنبياء: 90].

قال شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه الله-: الخشية أبدًا متضمنة للرجاء ولولا ذلك لكانت قنوطًا، كما أن الرجاء يستلزم الخوف ولولا ذلك لكان أمنًا، فأهل الخوف لله والرجاء له، هم أهل العلم الذين مدحهم الله.

جعلني الله وإياكم ممن يستعد ليوم الحساب والمعاد.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([37])

الحمد لله أهل التقوى والمغفرة، أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، أحمده - سبحانه - وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، أحشى الناس لربه وأتقى، دل على سبيل الهدى وحذر من طريق الردى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه معالم الهدى، ومصابيح الدجى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله - وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، واستمسكوا من الإِسلام بالعروة الوثقى، فإن أجسامكم وأقدامكم على النار لا تقوى.

أيها المسلمون:

تفرد الله - سبحانه - بالرزق والعطاء والمنع، وكل ما يجري في هذا الكون بقضائه وقدره، فإذا قَدَّر لعبد رزقًا فسيصله، لا يدفعه كراهية كاره ولا حرص حريص، فكم من إنسان حسده الناس، وحاولوا منع رزق الله عنه فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً، قال ﷺ‬: «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك» [رواه الترمذي].


فمن تحقق ذلك لم يحمد الناس على رزق الله، ولم يذم الخلق على ما لم يؤته الله، بل يفوض أمره إلى الله، ويعتمد عليه في أمر دينه ودنياه.

فكل شيء بقضاء الله وقدره - سبحانه - وبحمده، قال تعالى: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [فاطر: 2] من علم أن المتفرد بالعطاء والمنع هو الله وحده، وأنه هو الذي يرزق بسبب وبلا سبب ومن حيث لا يحتسب، لم يمدح مخلوقًا على رزق، ولم يذمه على منع، ويفوض أمره إلى الله ويعتمد عليه في أمر دينه ودنياه، ويسلم قلبه له، وقد بايع جماعة رسول الله ﷺ‬ ألا يسألوا الناس شيئًا، ولم يبح إلا لضرورة؛ محافظة على كمال الحب لله، وإخلاص التوكل عليه.

وفي الحديث عن أبي سعيد - t - مرفوعًا: «إنَّ من ضعف اليقين أنْ تُرضي الناس بسخط الله، وأنْ تحمدهم على رزق الله، وأنْ تذمهم على ما لم يؤتك الله، إنَّ رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره».

لضعف الإيمان علامات منها: أن تُرضي الناس بسخط الله: فتؤثر رضا الناس من أب أو أم؛ أو نحوهما بما يُسخط الله، فتوافقهم على فعل المعاصي خوفًا منهم أو رجاء لما عندهم؛ وذلك لأنه لم يقم بالقلب تعظيم الله وإجلاله، فآثر رضا المخلوق على رضا الخالق.

ومن علامات ضعف الإيمان أن تحمدهم على رزق الله: فتشكر الناس إذا أعطوك شيئًا وتنسى الله - عز وجل-، فالله - سبحانه - هو المعطي والمتفضل في الحقيقة، فالواجب أن يكون القلب مُعلقًا بالله، حامدًا له، فالناس سبب والمسبب هو الله المتفرد بالرزق، ولا يُنافي ذلك شكر الناس بالدعاء، أو المال؛ لكون الله ساق رزقك على أيديهم فصاروا سببًا في إيصال المعروف كما قال ﷺ‬: «من صنع إليكم معروفًا فكافئوه...» [رواه أبو داود].


والثالث من علامات ضعف الإِيمان: أن تذمهم على ما لم يؤتك الله: فتذم الناس لأنهم منعوك شيئًا لم يقدِّره الله لك على أيديهم، ولو قدَّره الله لك لساقه إليك ولكن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

عباد الله:

في الحديث عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله ﷺ‬ قال: «من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس» [رواه ابن حبان في صحيحه].

إذا طلب العبد رضا ربه بنية صادقة؛ فسعى إلى فعل الطاعات؛ واجتناب المحرمات، وإن غضب عليه الناس؛ فإن الثمرة والنتيجة لتقديم رضا الله على رضا الناس عظيمة؛ فإن الله يرضى عنه، فهو - سبحانه - أكرم الأكرمين، وهذه نعمة جليلة.

ثم إن الله يُرضي عنه الناس، وذلك بما يُلقي في قلوبهم من الرضا عنه ومحبته، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ [مريم: 96].

أما من طلب رضا الناس بسخط الله فوافقهم على ترك الطاعات، وفعل المحرمات، فإنَّ الله يعاقبه بأمرين:

الأول: أنَّ الله - سبحانه - يسخط عليه في الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.

والثاني: أنَّ الله - سبحانه - يُسخط عليه الناس، وذلك بذمهم وأذيتهم له.

فيجب على المسلم أن يعلم أن العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة لمن طلب رضا الخالق وحده وإن أسخط المخلوقين، والعاقبة السيئة في الدنيا والآخرة


لمن طلب رضا المخلوقين بسخط الخالق - سبحانه-؛ فعلى المسلم السعي فيما يرضي الله جل وعلا؛ سواء سخط المخلوق أم رضي.

فاحرصوا - رحمكم الله - على ما يُحيي قلوبكم ويشرح صدوركم، وأعظم أسباب شرح الصدر: التوحيد، وعلى حسب كماله وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه، قال الله تعالى: ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ﴾ [الزمر: 22]، وقال تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء﴾ [الأنعام: 125].

فالهدى والتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر، والشرك والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر وانحراجه.

أيها المسلمون:

من أسباب حصول الخوف والخشية من الله أمور منها:

تذكر عظمة الله وجلاله، وأنه شديد العقاب، عزيز ذو انتقام لمن عصاه وخالف أمره.

وكذلك تذكر الأهوال التي أمام العبد من الموت وسكراته، والقبر وظلمته، والقيامة وأهوالها، وكذلك الدعاء والالتجاء إلى الله - عز وجل - وقد كان من دعاء النبي ﷺ‬: «اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحلو به بيننا وبين معاصيك» [رواه الترمذي].

فإن القلب إذا امتلأ بالخوف والمهابة والإِجلال لله - عز وجل - أحجمت الأعضاء عن ارتكاب المعاصي.

ومما يعين على حصول الخوف معرفة آثار الذنوب الوخيمة في الدنيا والآخرة: الخـوف من الجزاء وتذكر أنها سـبب في نزع الـبركات وحلول


العقوبات.

وفي قراءة كتاب الله - عز وجل - وتدبر آياته عظة وعبرة مع التزود - رحمكم الله - بالعلم الشرعي، وقد وصف الله العلماء بقوله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾ [فاطر: 28].

جعلنا الله وإياكم ممن حقق التوحيد من أهل اليقين؛ من التمس رضى الله - عز وجل - وسار على نهجه وأطاع أمره.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [يونس: 107].


الخطبة الثانية

الحمد لله يرزق من يشاء بغير حساب، بيده مقاليد الأمور، وإليه يرجع الأمر كله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

قال ابن القيم - رحمه الله-: قد جعل الله الحياة الطيبة لأهل معرفته ومحبته وعبادته، فقال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97] وقد فُسِّرت الحياة الطيبة بالقناعة والرضا والرزق الحسن وغير ذلك.

والصواب: أنها حياة القلب ونعيمه وبهجته وسروره بالإِيمان ومعرفة الله ومحبته والإِنابة إليه، والتوكل عليه، فإنَّه لا حياة أطيب من حياة صاحبها، ولا نعيم فوق نعيمه إلا نعيم الجنة، كما كان بعض العارفين يقول: إنه لتمر بي أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيش طيب.

وإذا كانت حياة القلب حياة طيبة تبعته حياة الجوارح، فإنه ملكها، ولهذا جعل الله المعيشة الضنك لمن أعرض عن ذكره، وهي عكس الحياة الطيبة، وهذه الحياة الطيبة تكون في الدور الثلاث: فالأبرار في النعيم هنا وهناك، والفجار في الجحيم هنا وهناك، قال الله تعالى: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ﴾ [النحل: 30] وقال تعالى: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ


يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾ [هود: 3] فذكر الله - سبحانه وتعالى - محبته وطاعته والإِقبال عليه ضامن لطيب الحياة في الدنيا والآخرة، والإِعراض عنه والغفلة ومعصيته كفيل بالحياة المنغصة والمعيشة الضنك في الدنيا والآخرة.

أسأل الله - عز وجل - أن يحيينا حياة طيبة، وأن يجعلنا من أهل كرامته وطاعته.

هذا، وصلوا...


الخطبة الأولى([38])

الحمد لله الذي كان بعباده خبيرًا بصيرًا، وتبارك الذي جعل في السماء بروجًا، وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر، أو أراد شكورًا، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.

أما بعد:

فاتقوا الله - عز وجل - فإن من اتقاه كفاه ووقاه، وقربه إليه وأدناه.

أيها المسلمون:

أوجب الله - سبحانه - على جميع العباد الدخول في الإِسلام والتمسك به والحذر مما يخالفه، وبعث نبيه محمدًا ﷺ‬ للدعوة إلى ذلك، وأخبر - عز وجل - أن من اتبعه فقد اهتدى، ومن أعرض عنه فقد ضل وغوى.

واعلموا أن كل من سار في هذه الدنيا ووطأت قدمه الثرى ضعيف يحتاج إلى من يعينه وينصره، ويحتاج إلى من يتوكل عليه وينصرف بقلبه إليه.

ولهذا كان التوكل على الله، والاعتماد عليه في جلب المنافع ودفع المضار، وحصول الأرزاق والنصر على الأعداء، وشفاء المرضى وغير ذلك، من أهم المهمات وأوجب الواجبات، وهو من صفات المؤمنين، ومن شروط الإِيمان، ومن أسباب قوة القلب ونشاطه وطمأنينة النفس وسكينتها وراحتها.


والآيات في الأمر بوجوب التوكل على الله، والحث عليه في كتاب الله - عز وجل - كثيرة منها قوله تعالى: ﴿وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 23]، وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ﴾ [آل عمران: 159].

وفي الحديث عن النبي ﷺ‬ أنه قال: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا» [رواه الترمذي].

أيها المسلمون: التوكل: هو التفويض والاعتماد على الله - عز وجل - مع فعل الأسباب المشروعة أو المباحة وهو من عمل القلب، والتوكل فريضة، يجب إخلاصه لله، قال تعالى: ﴿وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ﴾ لا على غيره، فهو أجمع أنواع العبادة، وأعلى مقامات التوحيد، وأعظمها وأجلها؛ لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة، فإنه إذا اعتمد على الله في جميع أموره الدينية والدنيوية دون كل من سواه صح إخلاصه ومعاملته مع الله، ولذلك أمر الله به في غير آية من كتابه بأن جعله شرطًا والإسلام كما أمر به في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ﴾ [يونس: 84] فدل على انتفاء الإِيمان والإِسلام بانتفائه.

قال ابن رجب عن المتوكل: هو صدق اعتماد القلب على الله - عز وجل - في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة، وكلة الأمور كلها إليه، وتحقيق الإِيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه.

إنّ أحداث التوكل في القلب يرجع إلى التأمل في آثار الربوبية. فكلما كان العبد أكثر تأملاً في ملكوت السموات والأرض كان علمه بأن الله هو ذو الملكوت وأنه هو المتصرف؛ وأن نصره لعبده شيء يسير بالـنسبة إلى ما


يجريه الله في ملكوته؛ فيُعظم المؤمن التوكل على الله وأن الله لا يعجزه شيء في السموات والأرض؛ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

وينقسم التوكل إلى قسمين:

القسم الأول: التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، كمن يتوكل على الأموات، أو الغائبين في جلب المنافع ودفع المضار، كشفاء المريض وطلب النصر، فهذا شرك أكبر.

القسم الثاني: التوكل على المخلوق فيما أقدره الله عليه من رزق، أو دفع أذى ونحو ذلك من الاعتماد على الأسباب، فهذا شرك أصغر.

ومن أمثلة هذا النوع: الاعتماد على الطبيب الماهر في حصول الشفاء، والاعتماد على كثرة الجيش وقوته لحصول النصر، واعتماد الطالب على المذاكرة في النجاح، وغير ذلك من الأمثلة التي يكون فيها تعلق القلب على الأسباب تعلقًا تامًا؛ مع الغفلة عن المسُبب وهو الله - سبحانه وتعالى-.

عباد الله:

إنَّ الأخذ بالأسباب مع اعتقاد أنَّ المسبِّب هو الله - تعالى - لا يُنافي التوكل، فإمام المتوكلين محمد ؛ كان يأخذ بالأسباب مع الاعتماد على الله - سبحانه-، فكان يأخذ الزاد في السفر، وفي غزوة أحد لبس درعين اثنين، ولما خرج مهاجرًا أخذ من يدُله الطريق ولم ينقص ذلك من توكله.

ويجوز أن يوكِّل شخص غيره بالنيابة عنه في التصرف في أمور دنياه من بيع أو شراء، لكن لا يقول: توكَّلت عليك، بل وكلتك؛ فإنه ولو وكلَّه في البيع والشراء؛ فلا بد أن يتوكلَّ في ذلك على الله وحده.

ويحرم قوله: توكلت على الله ثم عليك. لأن المخلوق ليس له نصيب من


التوكل؛ فإن التوكل تفويض الأمر والالتجاء بالقلب؛ والمخلوق لا يستحق شيئًا من ذلك.

قال ابن رجب: واعلم أن تحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله - سبحانه - المقدورات بها، وجرت سنته في خلقه بذلك، فإن الله - تعالى - أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل - فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلب إيمان به، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ﴾ [النساء: 71]، وقال تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾ [الأنفال: 60]، وقال تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: 10].

والتوكل من أجمع أنواع العبادة، لذا أمر الله - سبحانه - عباده بالتوكل عليه وحده، وجعله شرطًا في صحة الإيمان، فقال: ﴿وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾.

والتوكل على الله - أيها المسلمون - أعم من أن يكون في تحصيل المال، ومصالح الدنيا، بل هناك ما هو أعظم من ذلك وأنفع للعبد.

قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: إن التوكل أعم من التوكل في مصالح الدنيا، فإن المتوكل يتوكل على الله في صلاح قلبه ودينه، وحفظ لسانه وإرادته، وهذا أهم الأمور إليه، ولهذا يُناجي ربه في كل صلاة بقوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾.

أيها المسلمون:

وصف الله المؤمنين حقًا في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: 2] وصفهم بثلاث صفات تقتضي كمال الإيمان:

الأول: الخوف من الله عند ذكره؛ لما في القلوب من تعظيم الله وإجلاله، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾.

الثاني: زيادة إيمانهم عند سماع كلام الله، قال تعالى: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾، وهذا دليل على أنَّ الإِيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.

الثالث: التوكل على الله وحده، وتفويض الأمور إليه مع فعل الأسباب، قال تعالى: ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾.

وقد جعل الله - سبحانه - لكل عمل جزاء، وجعل جزاء عبده المتوكل عليه أن يكفيه أمر دينه ودنياه؛ فلا مطمع فيه لعدو، قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾.

وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 64] يخبر - سبحانه وتعالى - نبيه محمدًا ﷺ‬ أنه كافيه، وكافٍ اتباعه من المؤمنين إلى يوم القيامة فليكن توكلهم ورغبتهم عليه وحده.

قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3].

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما، قال: «حسبنا الله ونعم الوكيل» قالها إبراهيم - u - حين القي في النار، وقالها محمد ﷺ‬ حين قال له: ﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [رواه البخاري والنسائي].

كلمة: ﴿حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾: هل كلمة التفويض والاعتماد على الله، وهي الكلمة التي تُقال عند الكروب والشدائد، وتدل على التوكل على الله في دفع الأعداء.

ومعنى ﴿حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ أي: كافينا ويتولى أمورنا، فلا نتوكل


إلا عليه؛ وهو - سبحانه - نعم الوكيل، فعلى المسلم إذا وقع في كربة وشدة اللجوء إليه والتوكل عليه، وشرع له أن يقول هذه الكلمة العظيمة، والله - سبحانه - قدير، ومجيب، كافٍ من تَوُكل عليه.

هذه الكلمة العظيمة قالها الخليلان إبراهيم ومحمد - عليهما الصلاة والسلام-.

فإبراهيم - u - لما دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له فأبوا، كسر أصنامهم، فجمعوا له حطبًا وأضرموا له نارًا عظيمة، والقوه فيها، فقال: ﴿حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران: 173]، فأنجاه الله - سبحانه - لما توكل عليه، وجعل النار بردًا وسلامًا عليه، قال تعالى: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: 69].

قال بعض السلف: لو لم يقل (وسلامًا) لآذاه بردها.

وقالها نبينا محمد ﷺ‬ لما أخذ أبو سفيان يتوعد بالقضاء عليه وعلى أصحابه، فقال ﷺ‬ وأصحابه: «حسبنا الله ونعم الوكيل»، فردَّ الله كيد أبي سفيان وألقى الرعب في قلبه، ورجع إلى مكة، وصرف الله - سبحانه - عن المؤمنين كيد عدوهم لما توكلوا عليه وحده.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ [آل عمران: 173 ، 174].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...


الخطبة الثانية

الحمد لله توكل عليه المتوكلون، وأناب إليه المنيبون، أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله هو رب العرش الكريم، وأُصلي وأُسلم على المبعوث رحمة للعالمين.

عباد الله:

جاء إبراهيم - u - بزوجته هاجر وابنها إسماعيل وهو رضيع ووضعهما في مكة، وليس فيها أحد ولا ماء فيها؛ ثم قفى منطلقًا إلى فلسطين فتبعته أم إسماعيل فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يُضيعنا، ثم رجعت فلم يضيعهما الله - تعالى-؛ فأجرى الله ماء زمزم يشرب منه الناس إلى يومنا هذا، ورزقها من الثمرات وأصبحت مكة عامرة بالناس، وبنى إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - الكعبة فتأملوا - رحمكم الله - إلى ثمرة توكل أم إسماعيل على ربها، وتفتح الخيرات عليها وعلى من بعدها.

قال ابن القيم - رحمه الله-: التوكل نصف الدين، والنصف الثاني الإِنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة؛ والإِنابة هي العبادة، ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها، ولا تزال معمورة بالنازلين لسعة متعلق التوكل، وكثرة حوائج العالمين وعموم التوكل، ووقوعه من المؤمنين والكفار، والأبرار، والفجار، والطير، والوحش، والبهائم.

وللتوكل على الله - عز وجل - ثمرات جليلة، ومنافع عظيمة منها:

نيل محبة الله ورضاه فإن الله - عز وجل - يُحب المتوكلين.


وكذلك نيل معونة الله ونصره وتأييده كما جرى لإِبراهيم u حينما ألقي في النار.

ومن ثمرات التوكل على الله؛ النجاة من الشدائد والكروب، قال تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر: 36].

ومنها؛ راحة القلب، وانشراح الصدر، فإن من وكل أمره إلى الله - عز وجل - ارتاح قلبه واطمأنت نفسه وتيسرت أموره.

فاحرصوا على طاعة ربكم، وفوضوا إليه الأمر، وأحسنوا عليه التوكل؛ ثم صلوا...


الخطبة الأولى([39])

الحمد لله أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإِسلام دينًا، أحمده وأشكره، أنزل الكتاب نورًا مبينًا، يهدي به الله من أتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إليه صراطًا مستقيمًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، بعثه بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجعلنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ارتفعت بهم رايات السنة، وانقمعت بهم البدعة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، واهتدى بهديهم، واستن بسنتهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله - أيها المؤمنون-، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، والزموا سنة نبيكم محمد ﷺ‬ وتمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، ضلالة.

عباد الله:

العبد وهو في هذه الدنيا يجب عليه أن يكون خائفًا من ربه، مجانبًا للذنوب والمعاصي فالله - سبحانه - شديد العقاب لمن عصاه عزيز ذو انتقام، ومن وسَّع الله عليه بالنعم والخيرات وهو مقيم على المعاصي، آمنٌ من عقاب


الله وغضبه فذلك استدراج له، فلا يأمن أن يأخذه الله أخذ عزيز مقتدر، قال تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [القلم: 44 ، 45].

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله-: مكر الله هو أنه إذا عصاه وأغضبه، أنعم عليه بأشياء يظن أنها من رضاه عليه.

فالأمن من مكر الله من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد؛ لأنه يؤدي إلى التساهل في المحرمات، ولذا وصف الله أهله بأنهم أهل الخسارة والهلاك، فقال سبحانه: ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف: 99].

ويجب على العبد إذا وقع في ذنب وتاب منه ألا يقنط من رحمة الله، فهو - سبحانه - تواب رحيم، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر: 53].

وإذا وقع في كربة فلا يستبعد الفرج، فهو - سبحانه - قدير، مجيب الدعوات، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 106]، فالقنوط من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد؛ لأنه سوء ظن برب العالمين، وجهل برحمة الله وجوده ومغفرته ولذا وصف الله أهله بأنَّهم أهل الضلال الذين أخطئوا طريق الصواب فقال: ﴿قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ﴾ [الحجر: 56].

والمؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء، فلا يُغلب جانب الخوف فيقع في كبيرة القنوط من رحمة الله، ولا يغُلِّب جانب الرجاء فيقع في كبيرة الأمن من مكر الله، بل يكون بينهما كالجناحين للطائر، فهو خائفٌ من ربه راجٍ ثوابه، إن وقع في ذنب خاف من عقاب الله، وإن فعل طاعة رجا ثواب


الله، قال تعالى: ﴿وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ [الإسراء: 57].

فينبغي له عند استكمال العافية والنعم أن يرجح جانب الخوف، فإنه إذ غلب الرجاء الخوف فسد القلب، وعند المصائب والموت يغلِّب جانب الرجاء، ويحسن الظن بالله - عز وجل-.

وخوف العبد ينشأ من أمور: معرفته بالجناية وقبحها، وتصديق الوعيد، وأن الله رتب على المعصية عقوبتها، وكونه لا يعلم لعله يُمنع من التوبة ويُحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب، وبهذه الثلاثة يتم له الخوف، وقوته بحسب قوتها وضعفها وذلك قبل الذنب، فإذا عمله كان خوفه أشد.

هذا هو الواجب على المؤمن، وبه تحصل السعادة له في الدنيا والآخرة.

أيها المسلمون:

قال ابن القيم: وأما خوف أوليائه من مكره فحق، فإنهم يخافون أن يخذلهم بذنوبهم وخطاياهم، فيصيرون إلى الشقاء؛ فخوفهم من ذنوبهم ورجاؤهم لرحمته، وقوله تعالى: ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ﴾ [الأعراف: 99] إنما هو في حق الفجار والكفار، ومعنى الآية: فلا يعصي ويأمن من مقابلة الله له على مكر السيئات بمكره به إلا القوم الخاسرون، والذي يخافه العارفون بالله من مكره أن يؤخر عنهم عذاب الأفعال، فيحصل منهم نوع اغترار، فيأنسوا بالذنوب، فيجيئهم بالعذاب على غرة وفترة، وأمر آخر: وهو أن يغفلوا عنه وينسوا ذكره فيتخلى عنهم إذا تخلوا عن ذكره وطاعته، فيسرع إليه البلاء والفتنة، فيكون مكره بهم تخليه عنهم، وأمر آخر: وهو أن يعلم من ذنوبهم وعيوبهم ما لا يعلمون من نفوسهم، فيأتيهم المكر من حيث لا يشعرون، وأمر آخر: أن يمتحنهم ويبتليهم بما لا صبر عليه فيفتنون به، وذلك مكر.


عباد الله:

في الحديث عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله ﷺ‬ سُئل عن الكبائر فقال: «الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله» [رواه البزار].

وعن ابن مسعود قال: «أكبر الكبائر؛ الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله» [رواه عبد الرواق].

الكبائر: جمع كبيرة، وهي: كل ذنب عُصي الله به، وترتب عليه حد في الدنيا كالسرقة والزنا، أو وعيد في الآخرة، أو تُوعد عليه بلعنة كالرشوة وأكل الربا، أو غضب، أو نار، أو نفي إيمان، وألحق به من قال فيه ﷺ‬: «أنا بريء ممن فعل كذا وكذا».

ومن الكبائر: ما ذُكر في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - وأثر ابن مسعود - t وهي:

الأول: الشرك بالله: وهو مناف للتوحيد، وأكبر الكبائر، وأعظم ذنب عُصي الله به؛ كمن يدعو أو يذبح أو ينذر لغير الله - جل وعلا-.

الثاني: اليأس والقنوط من رحمة لله، والأمن من مكر الله: وهما من المحرمات المنقصة للتوحيد.

فعلى العبد أن يكون مجتنبًا للكبائر جميعًا؛ ليكون ممن وعده الله تعالى بقوله: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا﴾ [النساء: 31].

وإذا تاب العبد من زلته وعاد إلى ربه تائبًا منيبًا، فعليه بعدم القنوط من رحمة ربه التي وسعت كل شيء، قال تعالى: ﴿قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ﴾ [الحجر: 56].


وفي الترمذي وغيره مرفوعًا: «العاجز الراجي لرحمة الله أقرب منها من العابد القنط» وقال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ﴾ [الزمر: 53].

قال شيخ الإِسلام: القنوط بأن يعتقد بأن الله لا يغفر له، إما بكونه إذا تاب لا يقبل توبته، وإما أن يقول: نفسه لا تطاوعه على التوبة بل هو مغلوب معها فهو ييأس من توبة نفسه.

أيها المسلمون:

لا يُظن أن الكبائر محصورة في هذين الحديثين فقط، وقد وردت أحاديث أخر؛ منها قول النبي ﷺ‬: «اجتنوا السبع الموبقات» وقول ابن عباس هن إلى السبعين أقرب منهن إلى السبع، وفي رواية إلى السبعمائة، وقد عرفوه بما فيه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، أو نفي إيمان، أو لعن أو غضب أو عذاب، ومن برئ منه الرسول ﷺ‬، أو قال: «ليس منا» وما سوى ذلك صغائر، وليس المراد ليتهاون بها، بل كل المعاصي يجب اجتنابها، فكم من صغيرة عادت كبيرة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الشورى: 25].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا يليق بجلاله وعظيم سلطانه، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى أصحابه وأتباعه.

أما بعد:

فإن السائر إلى الله يعترض به شيئان يُعوّقانه عن ربه، وهما: الأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، فإذا أصيب بالضراء أو فات عليه ما يحب؛ تجده إن لم يتداركه ربه يستولي عليه القنوط، ويستبعد الفرج، ولا يسعى لأسبابه، وأما الأمن من مكر الله؛ فتجد الإِنسان مقيمًا على المعاصي مع توافر النعم عليه من مال ومسكن ومشرب وصحة وعافية ورغد عيش، ويرى أنه على حق فيستمر في باطله؛ فلا شك أن هذا استدراج.

أخي المسلم: جد في التوبة وسارع إليها فليس للعبد مستراح إلا تحت شجرة طوبى، ولا للمحب قرار إلا يوم المزيد، فسارع إلى التوبة، وهُبّ من الغفلة، واعلم أن خير أيامك يوم العودة على الله - عز وجل-، فاصدق في ذلك السير، وليهنك حديث الرسول ﷺ‬: «لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح» [رواه مسلم].

قال شيخ الإِسلام: الذي يضر صاحبه هو ما لم يحصل منه توبة، فأما ما


حصل منه توبة فقد يكون صاحبه بعد التوبة أفضل منه قبل الخطيئة.

جعلني الله وإياكم من الأوابين التوابين.

هذا، وصلوا...


الخطبة الأولى([40])

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم وسار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله - حق التقوىـ، فمن اتقى ربه نجا، ومن صدقه لم ينله أذى ومن رجاه كان حيث رجا.

أيها المسلمون:

الدنيا دار امتحان وابتلاء، دار مصائب وأكدار، يبتلي الله - سبحانه - عباده فيها، وكلَّما كانت المصيبة على العبد أعظم كمية أو كيفية وصبر واحتسب، كان الجزاء عليها أعظم، فمن فقد ابنًا له ليس كمن فقد جميع أهله، ومن فقد بعض ماله ليس كمن فقد جميع ماله، وهذا من كمال عدل الله - سبحانه-.

والبلاء الذي يصيب العبد لا يخرج عن أربعة أقسام: إما أن يكون في نفسه، أو في ماله، أو في عرضه، أو في أهله ومن يُحب؛ والناس مشتركون في حصولها، فغير المؤمن التقي يلقى منها أعظم مما يلقى المؤمن، كما هو مشاهد.


ومن علامة محبة الله للعبد أن يبتليه، فقد ابتُلي الأنبياء والصالحون فصبروا، قال ﷺ‬: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله - تعالى - إذا أحب قومًا إبتلاهم»، وقال ﷺ‬: «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل».

ولا بد أن يعلم المصاب: أن الذي ابتلاه بمصيبته أحكم الحاكمين ,ارحم الراحمين، وأنه - سبحانه - لم يُرسل البلاء ليُهلكه به، ولا ليعذبه، ولا ليجتاحه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه، وليسمع تضرعه وابتهاله، وليراه طريحًا على بابه، لائذًا بجنابه، مكسور القلب بين يديه، رافعًا قصص الشكوى إليه.

فأبشروا يا من صبرتم واحتسبتم بالأجور العظيمة، قال ﷺ‬: «ما يصيب المؤمن من هم، ولا غم، ولا شيء؛ إلا كفر له بها، حتى الشوكة يشاكها» [رواه البخاري].

عباد الله:

منزلة الصبر من أعظم المنازل التي حض عليها الإسلام، وقد ذكرها الله في كتابه في أكثر من تسعين موضعًا وجعل - سبحانه - جزاءه من أعظم الجزاء، كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10].

قال بعض السلف: لا تكال الأجور للصابرين ولا توزن، وإنَّما تُغرف لهم غرفًا.

والصبر في اللغة الحبس والكف، ومنه: قُتل فلان صبرًا، إذا أُمسك وحبس، ومنه ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم﴾ [الكهف: 28] أي: احبس نفسك معهم.

والصبر في الشرع: هو حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي والتسخط، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوهما.


وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ‬ قال: «والصبر ضياء» وعند البخاري ومسلم عن النبي ﷺ‬ أنه قال: «ما أعطي أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر»، وقال علي - t-: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ثم رفع صوته وقال: أما إنه لا إيمان لمن لا صبر له.

وينقسم الصبر إلى ثلاثة أقسام:

الأول: الصبر على ما أمر الله به من الطاعات: وهو أفضلها، كالصبر على إقامة الصلاة في أوقاتها بأركانها وواجباتها، وكالصبر على بر الوالدين وعلى الحجاب للمرأة وغير ذلك.

الثاني: الصبر عما نهى الله من المعاصي: كالصبر عن سماع المعازف، ورؤية المنكرات وغير ذلك.

الثالث من أقسم الصبر:

الصبر على أقدار الله، كالصبر على المصائب؛ في النفس، أو الأهل، أو المال.

عباد الله:

من أصيب بمصيبة في نفسه، أو ماله، أو ولده؛ فعلم أنها من قدر الله فصبر واحتسب، واسترجع واستسلم لقضاء الله، عوَّضه الله عمَّا فاته في الدنيا؛ هدى في قلبه، ونورًا وراحة، وطمأنينة ويقينًا صادقًا، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه، أو خيرًا منه، قال تعالى: ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن: 11].

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - t أن رسول الله ﷺ‬ قال: «اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت».

يخبر الرسول ﷺ‬ في الحديث أنه سيبقي في الناس خـصلتان من خصال


الجاهلية، وهما من أنواع الكفر الأصغر الذي لا يُخرج عن ملة الإِسلام، ولا يسلم منها إلا من سَلَّمه الله، وهما:

الأول: الطعن في النسب: وذلك بعيب الأنساب وتنقصها، كقوله: آل فلان ليس نسبهم جيدًا، ذمًا وقدحًا لهم.

الثانية: النياحة على الميت: وذلك برفع الصوت بالبكاء والصراخ عند المصيبة، أو تعداد فضائل الميت على سبيل الجزع والتسخط عليه، كقول أولاد المتوفى عن والدهم: من الذي ينفق علينا بعدك، جزعًا عليه، وما علموا أنَّ الله هو الرازق الذي تكفل برزق عباده، قال تعالى: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا﴾ [هود: 6].

أمَّا دمع العين والحزن فلا يُلام عليه العبد، ففي الحديث لما توفي إبراهيم ابن رسول الله ﷺ‬، قال: «إنَّ العين لتدمع، وإنَّ القلب ليحزن، وإنَّا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون» [رواه البخاري].

وللبخاري ومسلم، عن ابن مسعود مرفوعًا: «ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية».

بين ﷺ‬ في الحديث الوعيد الشديد لمن وقع في الأمور التالية المنافية للصبر على أقدار الله، وهي:

أولاً: لطم الخدود: يعني عند المصيبة؛ جزعًا على الميت وتسخطًا.

ثانيًا: شق الجيوب: جرت عادة الجاهلية أنهم يشقون جيوبهم؛ جزعًا على الميت.

وخص لطم الخد وشق الجيب لأنه الغالب فعله عند الجاهلية، ولو فعل بباقي الجسد أو الثياب لدخل في النهي.

الثالث: الـدعاء بـدعوى الجاهلية: يعني ندب الميت والـدعاء بالويل


والثبور، كقول: واويلاه، وانقطاع ظهراه.

وخص الرسول ﷺ‬ هذه الأمور بالذكر؛ لأنها غالبًا ما تكون عند المصائب، وإلا فمثله كسر الأواني وتخريب الطعام، وهذه الأمور من الكبائر؛ لأنها مشتملة على التسخط على الرب، وعدم الصبر الواجب، والإِضرار بالنفس من لطم الوجه، وإتلاف المال بشق الثياب وتمزيقها، والدعاء بالويل والثبور، والتظلم من الله.

وفي الحديث عن النبي ﷺ‬ أنه قال: «إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يُوافى به يوم القيامة» [رواه الترمذي].

أيها المسلمون:

إذا أراد الله - سبحانه - بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، كمرض أو موت ولد وغير ذلك؛ لأن العقوبات تُكَفِّر السيئات، فإذا تعجلت العقوبة وكفر الله بها عن العبد فإنَّه يُلاقي الله - سبحانه - وليس عليه ذنب، قد طهرته المصائب والبلايا حتى إنَّه ليُشدد على العبد عند موته؛ ليخرج من الدنيا نقيًا من الذنوب وهذه نعمة؛ لأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة.

وفي الصحيح: «ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة» فالمصائب نعمة؛ لأنها تكفر الذنوب، وتدعو إلى الصبر، فيثاب عليها، وتقتضي الإِنابة إلى الله والذل له، والإِعراض عن الخلق، إلى غير ذلك من المصالح، إلا أن يدخل صاحبها بسببها في معاص أعظم مما كان قبل ذلك، فتكون شرًا عليه، من جهة ما أصابه في دينه، فهذه العافية خير له من جهة ما أورثته المصيبة، لا من جهة نفس المصيبة.

وإذا أراد الله - سبحانه - بعبده الشر ترك عقوبته في الدنيا؛ حتى يلاقي ربه


يوم القيامة وهو مغمور بسيئاته، فيجازيه بما يستحقه من العذاب.

وتتنوع أحوال الناس عند المصيبة؛ فمنهم الراضي المحتسب، والساخط المتجزع، كما قال ﷺ‬: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله - تعالى - إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط» [رواه الترمذي].

فمن رضي بما قدر الله عليه وقضاه من المصائب والبلايا رضي الله عنه جزاءً وفاقًا، وإذا رضي الله عن عبده حصل له كل خير، وسلم من كل شر.

ومن سخط بما قدر الله عليه وقضاه من المصائب والبلايا: سخط الله عليه، وكفى بذلك عقوبة.

وفي الحديث إثبات صفتي الرضا والسخط لله - سبحانه - على ما يليق بجلاله وعظمته.

قال شيخ الإسلام: العوارض والمحن كالحر والبرد، فإذا علم العبد أنه لا بد منهما لم يغضب لورودهما، ولم يغتم لذلك، ولم يحزن.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 155 – 157].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

الواجب على المسلم عند المصائب أن يصبر ويحتسب، ويُحسن الظن بربه، ويرغب في ثوابه، ولا يتسخط ولا يجزع، بل يعلم أنَّ ما قدره الله عليه من المصائب كمرض، أو موت أحبة، أو تلف مال، أو استطالة الناس في عرضه، أو انقطاع شسع نعله؛ بل حتى الشوكة تؤذيه وتألمه، فلله في ذلك حكم عظيمة هي: تكفير السيئات، ورفعة الدرجات، وزيادة الحسنات، وأنَّه سبب في دخول الجنة، كما قال تعالى: ﴿إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [المؤمنون: 111].

ولا يظن أحد أنه يسلم من البلاء والمصائب، فالأنبياء - عليهم السلام - نزل بهم من البلاء أشده وأعظمه، فعن أبي سعيد الخدري - t - قال: قلت يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: «الأنبياء» قلت: ثم من؟ قال: «الصالحون، إن كان أحدهم ليُبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحتويها، وإن أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء» [رواه ابن ماجه].

وقال - عليه الصلاة والسلام-: «من يرد الله به خيرًا يُصب منه» [رواه البخاري].


وأبشر - أخي المسلم - ببشارة عظيمة، تؤنس وحشتك، وتخفف مصيبتك، وتهون ما نزل بك، فقد قال المصطفى - عليه الصلاة والسلام-: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر؛ فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له» [رواه مسلم].

والخير الحاصل للشاكرين هو الزيادة: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: 7] والخير الحاصل للصابرين؛ هو الأجر والثواب والمغفرة والرحمة.

قال الفضيل: إن الله - عز وجل - ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء، كما يتعاهد الرجل أهله بالخير.

وقال - رحمه الله-: لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يعدَّ البلاء نعمة، والرخاء مصيبة، وحتى لا يحب أن يُحمد على عبادة الله.

والناس في هذه الدنيا بين حالين: إما مُبتلى بعافية لينظر كيف شُكره؟! أو مُبتلى ببلية لينظر كيف صبره؟!

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أما نعمة الضراء فاحتياجها إلى الصبر ظاهر، وأما نعمة السراء فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها، فإن فتنة السراء أعظم من فتنة الضراء، والفقر يصلح عليه خلق كثير، والغنى لا يصلح عليه إلا أقل منهم، ولهذا كان أكثر من يدخل الجنة المساكين؛ لأن فتنة الفقر أهون، وكلاهما يحتاج إلى الصبر والشكر، لكن لما كان في السراء اللذة، وفي الضراء الألم، اشتهر ذكر الشكر في السراء والصبر في الضراء.

وقد علمنا رسول الله ﷺ‬ ما نقوله حين المصيبة، فقال: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنى في مصيبتي


وأخلف لي خيرًا منها، إلا أخلف الله له خيرًا منها» [رواه مسلم].

وقد جعل الله كلمات الاسترجاع وهي قول المصاب: «إنا لله وإنا إليه راجعون» ملاذًا وملجأ لذوي المصائب.

عباد الله:

المصائب تتفاوت، ولكن أعظمها المصيبة في الدين فهي أعظم مصائب الدنيا والآخرة، وهي نهاية الخسران الذي لا ربح فيه، والحرمان الذي لا طمع معه.

جعلنا الله وإياكم من الصابرين المحتسبين؛ ممن يوفون أجورهم بغير حساب.

اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا يا جواد يا كريم.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([41])

الحمد لله، المتعزز بعظمة الربوبية، المتفرد بوحدانية الألوهية، القائم على النفوس بآجالها، العالم بتقلبها وأحوالها، أحمده - سبحانه - وأشكره، وهو المتفضل بجزيل آلائه، المنان بسوابغ نعمائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، بعثه على حين فترة من الرسل، ودروس من السبل، فارتفعت به راية الإِيمان، وانقمع به أهل الأوثان، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ما دار في السماء فلك، وما سبح في الملكوت ملك، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله فاتقوه، والزموا مراقبته واعلموا أنكم ملاقوه، واستيقظوا من الغفلة، فلا زلتم في دار المهلة، فاليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل، وإنكم قادمون على ما قدمتم، ومجزيون على ما أسلفتم، فرحم الله امرءًا تأهب للقدوم على مولاه، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاه.

عباد الله:

المسلم في هذه الدنيا يطلب مرضاة ربه ويسعى إلى جناته بالعمل الصالح الخالص لوجهه، وإن لم يكن العمل على هذه الصفة فهو الرياء، الذي حذر الله - عز وجل - ونهى عـنه، وهو من الشرك الأصغر، لكن يخشى إذا


تمادى معه الإِنسان أن ينتقل به إلى الشرك الأكبر، ولما كان خلوص العمل من الشرك والرياء شرطًا في قبوله، لا بد أن يحرص المسلم على معرفته ليحذر منه ويبتعد عنه.

والرياء هو أن يُظهر العبد عبادته أو يحسِّنها ليراه الناس فيمدحونه عليها.

قال الحافظ: الرياء إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدونه عليها.

والفرق بين الرياء والسُمعة: أن الرياء لما يُرى من العمل، كالصلاة والصدقة، والسمعة لما يُسمع كالقراءة والوعظ والذكر، ويدخل في ذلك التحدث به، والشرك في النية، وهو بحر لا ساحل له، فمن أراد بعمله غير وجه الله، أو نوى شيئًا غير التقرب إلى الله وطلب الجزاء منه فقد أشرك في نيته وإرادته، والإِخلاص: أن يخلص لله في أقواله وأفعاله وإراداته ونياته.

قال تعالى في محكم التنزيل: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [الكهف: 110].

يأمر الله - جل وعلا - نبيه محمدًا ﷺ‬ أن يقول للناس: إنما أنا بشر مثلكم، وهو قَصْر النبي ﷺ‬ على البشرية، فليس لي من الربوبية ولا من الإِلهية شيء، بل ذلك لله وحده لا شريك له، أوحى إليَّ أن توحدوه ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ﴾ يخاف المصير إليه، ويأمل لقاء الله ورؤيته.

﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾ وهو ما كان موافقًا لشرع الله، مقصودًا به وجهه، ﴿وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ أي: لا يرائي بعمله، بل لا بد أن يريد به وجه الله وحده لا شريك له، وهذان ركنا العمل المتُقبل: أن يكون خالصًا لله، وأن يكون صوابًا على شريعة رسوله ﷺ‬.

قال ابن القيم: أي؛ كما أنه إله واحد لا إله إلا هو، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده لا شريك له، فكما تفرد بالإِلهية، يجب أن يتفرد


بالعبودية، فالعمل الصالح هو الخالص من الرياء، المقيد بالسنة، والآية دليل على أن أصل الدين الذي بعث به رسوله ﷺ‬ هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وتضمنت النهي عن الشرك كله، قليله وكثيره، صغيره وكبيره.

وعن أبي هريرة مرفوعًا: «قال الله - تعالى - أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه» [رواه مسلم].

أي: أنا أغنى الشركاء عن المشاركة، وذلك أنه لم كان المرائي قاصدًا بعمله الله وغيره، كان قد جعل لله شريكًا، فإذا كان كذلك فالله هو الغني على الإِطلاق، وجميع الخلق فقراء إليه بكل اعتبار، فلا يليق بكرمه وغناه التام أن يقبل العمل الذي جُعِل له فيه شريك، فإن كماله وكرمه وغناه يوجب أن لا يقبل ذلك.

وأخرج أحمد وغيره من حديث شداد بن أوس: «من صلى يرائي فقد أشرك ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك، وإن الله يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي، فمن أشرك بي شيئًا فإن جدة عمله وقليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، أنا عنه غني».

أي: من قصد بعمله غيري من المخلوقين تركته وشركه، وفي بعض الأصول وشريكه، وبعضها وشركه، ولابن ماجه: «فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك» أي: فمن عمل شيئًا لي ولغيري لم أقبله، بل أتركه لذلك الغير، فعمل المرائي باطل لا ثواب له، ويأثم به.

قال ابن القيم: وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء، والتصنع للخلق، والحلف بغير الله، وقول الرجل ما شاء وشئت، وهذا من الله ومنك، وما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولـولا الله وأنت لم يكـن كذا


وكذا، وقد يكون هذا أكبر بحسب حال قائله ومقصده، ولا خلاف أن الإِخلاص شرط لصحة العمل وقبوله، وكذا المتابعة، كما قال الفضيل في قوله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [الملك: 2] قال: أخلصه وأصوبه، فإن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة.

عباد الله:

عن أبي سعيد مرفوعًا: «ألا أُخبركم بما هو أَخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟» قالوا: بلى يا رسول اله؛ قال: «الشرك الخفي يقوم الرجل فيُصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل» [رواه أحمد].

حذر الرسول ﷺ‬ أمته من فتنة المسيح الدجال وبين أنه رجل كذاب كافر، يخرج في آخر الزمان، ويدعي الربوبية ويحصل على يديه خوارق كثيرة، فيغتر به كثير من الناس ويتبعونه، ويطوف جميع البلاد عدا مكة والمدينة، ثم يقتله عيسى - u - وقد كان ﷺ‬ يستعيذ بالله منه في صلاته فيقول: «وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال» [رواه البخاري].

وأمر بالاستعاذة منه في آخر كل صلاة، قال ﷺ‬: «إذا تشهد أحدكم فليتعوذ بالله من أربع يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال» [رواه مسلم].

وفي هذه دلالة على شفقة الرسول ﷺ‬ على أمته، وأنه يخافه عليهم خوفًا عظيمًا.

وكان ﷺ‬ يخاف على أصحابه وأمته من الدجال، فأنذرهم وحذرهم منه، إلا أنَّه بين في هذا الحديث ما هو أخوف عليهم من المسيح الدجـال،


وهو الشرك الخفي: لأنَّه في القلوب لا يطلع عليه الناس، وهو من الشرك الأصغر.

وقد فسره ﷺ‬ بأنه: أن يقوم الرجل فيُصلي، فيُحسن صلاته بطول القيام والطمأنينة ونحو ذلك، يقصد بذلك ثناء الناس ومدحهم، وأفاد الحديث: قبح الرياء، وأنه شرك، وقد خافه ﷺ‬ على أصحابه مع قوة إيمانهم وعلمهم، فكيف لا يخافه من هو دونهم بمراتب لا تحصى؟!

والعمل إذا خالطه الرياء لا يخلو من إحدى حالتين:

الحالة الأولى: أن يكون الباعث للعمل هو الرياء والسمعة، فهذا باطل من أصله.

والحالة الثانية: أن يكون العمل لله ثم يطرأ عليه الرياء.

فإن جاهد نفسه ودافعه، فهذا لا يضره ولا يكون مرائيًا؛ وإن لم يجاهد نفسه واسترسل فيه، فهذا يُحبط ما قارنه من العمل.

وليس من الرياء أن يعمل المسلم عملاً خالصًا لوجه الله - تعالى-، ثم يُلقي الله له في قلوب المؤمنين محبته والثناء عليه، فيفرح بفضل الله ورحمته ويستبشر بذلك، فقد سُئل ﷺ‬: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ وفي رواية: ويحبه الناس عليه؟ فقال: «تلك عاجل بشرى المؤمن» [رواه مسلم].

قال النووي - رحمه الله-: قال العلماء: معناه هذه البشرى المعجلة له بالخير هي دليل رضا الله عنه ومحبته له، فيحببه إلى الخلق، وهذا كله إذا حمده الناس من غير تعرض لحمدهم وإلا فالتعرض مذموم.

وقال الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله-: وليس من الرياء أن يفرح الإِنسان بعلم الناس بعبادته؛ لأن هذا إنما طرأ بعد الفراغ من العبادة.


أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162 – 163].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فالرياء آفة عظيمة، ويحتاج إلى علاج شديد وتمرين النفس على الإِخلاص، ومجاهدتها على ذلك؛ ومن طرق علاجه للتخلص منه:

مجاهدة النفس في الخلاص من الرياء، ولا يضر صاحبه ما دام كارهًا له.

وكذلك تذكر عظمة الله وجلاله واستحقاقه العبادة له وحده، ومعرفة خطورة الرياء؛ إذ أنه يُحبط العمل الذي قارنه ويأثم صاحبه.

ومما يُعين على التخلص منه تذكر الموت وسكراته، والقبر وظلمته، واليوم الآخر وأهواله.

والملجأ والمهرب إلى الله - عز وجل - بالدعاء والالتجاء إليه، فقد ورد في الحديث الصحيح عنه ﷺ‬: «اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئًا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه» [رواه أحمد].


إن من أعظم الحسرات على العبد يوم القيامة أن يرى سعيه ضائعًا بسبب فقد الإِخلاص، وقد سعُدَ أهل الإِخلاص بأعمالهم فالواجب على المسلم إخلاص العبادة لله وحده، فالله غني كريم لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا وابتغُي به وجهه.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([42])

الحمد لله عالم السر والنجوى، أحمد ربي وأشكره، له الحمد في الآخرة والأولى، سبحانك ربنا وبحمدك جل شأنك وعز سلطانك، سبحانك لا يُخلف وعدك ولا يُهزم جندك، وأنت العلي الأعلى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى وقدر فهدى، له الأسماء الحسنى والصفات العُلى، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، الحبيب المصطفى والرسول المجتبى والنبي المرتضي، صلى الله عليه وعلى آله الشرفاء، وصحبه الأوفياء والتابعين، ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى، ما صبح بدا وليل سجى، وسلم تسليم كثيرًا وكفى.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله-؛ ﴿وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].

أيها الناس:

الإِسلام عقيدة وشريعة، إيمان بالله وتوحيد له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته؛ إيمان بالله وملائكته، وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، عبودية تامة، وخضوع مطلق، رضا بدين الله، وتصديق برسول الله ﷺ‬ من غير شك ولا ريب ولا حرج.

التزامُه في المنهج والعمل، في التعامل والقضاء، في الحكم والإِدارة، في الأفراد والجماعات.


إن الإسلام حياة تعبدية، تجعل المسلم موصول القلب بربه، يبتغي رضوانه في شئونه كلها.

عباد الله:

الإِخلاص لله أساس الدين وروح التوحيد والعبادة، وهو أن يقصد العبد بعمله كله وجه الله وثوابه وفضله، فيقوم بأصول الإِيمان الستة وشرائع الإسلام الخمس، وحقائق الإيمان التي هي الإحسان، وبحقوق الله وحقوق عباده، مكملاً لها، قاصدًا بها وجه الله والدار الآخرة، لا يريد بذلك رياء ولا سمعة ولا رياسة ولا دنيا، وبذلك يتم إيمانه وتوحيده.

ومن أعظم ما ينافي هذا أن يعمل العمل الصالح لأجل مدح الناس وتعظيمهم، أو العمل لأجل الدنيا فهذا يقدح في الإِخلاص والتوحيد. قال - سبحانه وتعالى - في محكم كتابه في سورة هود: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ﴾ [هود: 15].

بين - سبحانه - أن من عمل عملاً صالحًا لأجل الدنيا؛ فإن ذلك شرك أصغر ينافي كمال التوحيد الواجب، ويحبط الأعمال، وهو أعظم من الرياء؛ لأن مريد الدنيا قد تغلب إرادته تلك على كثير من عمله، وأما الرياء فقد يعرض له في عمل دون عمل، ولا يسترسل معه.

وهناك فرق بين الرياء وإرادة الإنسان بعمله الدنيا:

فيجتمع المرائي ومن أراد بعمله الدنيا في أن كلاً منهما لم يقصد بعمله وجه الله والدار الآخرة، وكلاهما وقع في الشرك الأصغر المنافي لكمال التوحيد الواجب.

ويفترقان في: أن المرائي يريد بعمله الصالح مدح الناس وثناءهم، وقد يعرض له في عمل دون عمل.


والذي يعمل لأجل الدنيا يريد بعمله الصالح نفعًا في الدنيا كالمال والجاه، وقد تغلب إرادته على كثير من عمله.

قال الضحاك: من عمل صالحًا من أهل الإِيمان من غير تقوى؛ عجل له ثواب عمله في الدنيا.

وقال قتادة: يقول - تعالى - من كانت الدنيا همه وطلبه ونيته، جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة.

وثبت من حديث أبي هريرة: «إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل جمع القرآن، ورجل قُتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيم علمت؟ قال كنت أقوم آناء الليل، وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة له: كذبت، ويقول الله له: بل أرادت أن يقال فلان قاريء فقد قيل ذلك، وذكر صاحب المال وأن الله يقول له: بل أردت أن يقال فلان جواد» وذكر المجاهد وأن الله يقول له: «بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك، ثم قال يا أبا هريرة: أولئك أول من تسعر بهم النار يوم القيامة وهؤلاء لهم أعمال , لكن لم يريدوا بها وجه الله , ولما سُئل عنه كاد يغشى عليه خوفا؛ وكذا معاوية لما سمعه، وقال صدق الله ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾» الآية.

وسُئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - عن هذه الآية فقال: ذكر عن السلف فيها أنواع مما يفعله الناس اليوم، ولا يعرفون معناه، فمن ذلك العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله، من صلاة وصدقة وصلة وإحسان وترك ظلم ونحو ذلك، مما يفعله الإِنسان أو يتركه خالصًا لله، لكن لا يريد به ثواب الآخرة، إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ مـاله وتـنميته


أو حفظ أهله وعياله، أو إدامة النعمة عليهم، ولا همَّ له في طلب الجنة والهرب من النار، فهذا قد يُعطى ثواب عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة من نصيب، وهذا النوع ذكره ابن عباس.

النوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو الذي ذكر مجاهد في الآية أنها نزلت فيه، وهو أن يعمل أعمالاً صالحة ونيته رئاء الناس، لا طلب ثواب الآخرة.

النوع الثالث: أن يعمل أعمالاً صالحة يقصد بها مالاً، مثل أن يحج لمال يأخذه، أو يهاجر لدنيا يصيبها، أو يجاهد لأجل المغنم، فقد ذُكر أيضًا هذا النوع في تفسير هذه الآية، وكما يتعلم الرجل لأجل مدارسة أهله أو رياستهم، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد كما هو واقع كثيرًا.

النوع الرابع: أن يعمل بطاعة الله مخلصًا في ذلك، لكنه على عمل يكفره كفرًا يخرجه عن الإسلام، مثل اليهود والنصارى وكثير من هذه الأمة، إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله، لكنهم على أعمال تخرجهم من الإِسلام، وتمنع قبول أعمالهم، فهذا النوع أيضًا قد ذكر في هذه الآية عن أنس وغيره، وكان السلف يخافون منها، قال بعضهم: لو أعلم أن الله يقبل مني سجدة لتمنيت الموت؛ لأن الله يقول: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 27].

أيها المسلمون:

في الصحيح عن أبي هريرة - t - قال: قال رسول الله ﷺ‬: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة إن أُعطي رضي وإن لم يُعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش».

دعا ﷺ‬ على عابد الدنيا بالهلاك والشقاء، فقال: «تعس عبد الدينار،


تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة؛ تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش»، ثم لمزيد التحذير دعا عليه مرة ثانية يتعسر عليه كل أمر يقصده، ولا يستطيع الخلاص من أدنى أذية وهي الشوكة، فقال: «تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش».

وسُمِّي عبدًا للدينار وغيره: لشدة حرصه على جمع المال ولكونه يعمل العمل الصالح لأجل الدينار والدرهم، لا يرضى ولا يسخط إلا لأجلهما فصار رضاه وسخطه لغير الله، ومن كان هذه حاله فقد وقع في الشرك الأصغر المنافي لكمال التوحيد الواجب.

وهكذا حال من كان متعلقًا من الدنيا برياسة أو بصورة، ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له، إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده فهو عبده، وهكذا حال من طلب المال، فإن ذلك يستعبده ويسترقه، وهذه الأمور نوعان: ما يحتاج إليه العبد كطعامه وشرابه ومنكحه ومسكنه ونحو ذلك، فهذا يطلب من الله ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده، يستعمله في حاجته، بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه، من غير أن يستعبده، فيكون هلوعًا. وما لا يحتاج إليه العبد، فينبغي ألا يعلق قلبه به، فإذا تعلق قلبه به صار مستعبدًا ومعتمدًا على غير الله، فلا يبقي معه حقيقة العبودية، ولا حقيقة التوكل على الله بل فيه شعبة من العبادة لغير الله، وشعبة من التوكل على غير الله.

عباد الله:

في الحديث عن النبي ﷺ‬ أنه قال: «طويى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله؛ أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان


في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يُشَّفع».

بين ﷺ‬ أن الجنة أو شجرة فيها جزاءً لمن أراد بعمله الصالح وجه الله، وسعى في مرضاته، وهو في أشد الأحوال، وقد أثنى على المجاهد المخلص بخمس صفات:

أنه آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ملازم فرسه في جهاد الكفار والمشركين.

وأنه أشعث رأسه ثائر الشعر، قد أشغله الجهاد في سبيل الله عن التنعم وتسريح الشعر.

وذكر ﷺ‬ من صفاته: أنه مغبرة قدماه من شدة السعي في الجهاد.

ومن صفاته: إن كان في الحراسة؛ كان في الحراسة، وإن كان في الساقة، كان في الساقة؛ أي: إن كان في حماية الجيش أو آخره فهو قائم بعمله، متقن له، يقلب نفسه في مصالح الجهاد، رغبة في ثواب الله - سبحانه ـ؟

قال ابن الجوزي: المعنى أنه خامل الذكر، لا يقصد السمو، فأين اتفق له السير سار، وإنما ذكر الحراسة والساقة، لأنهما أشد مشقة.

ثم ذكر الصفة الخامسة لهذا المجاهد: إنه إذا استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لا يُشفَّع؛ إن استأذن على السلطان لم يؤذن له، وإن شفع في أمر يحبه الله لم تقبل شفاعته: لأنه لا جاه له، ولا منزلة، ولأنه ليس من طلابها، وإنما يطلب ما عند الله، لا يقصد بعمله سواه.

وهذه الأمور لا تكون لهوان المؤمن على الله، بل لكرامته؛ إذ أن دنو مرتبة الإِنسان عند الناس؛ لا يستلزم منه دنو مرتبته عند الله - عزَّ وجلَّ-، وقد أفاد الحديث أن المخلص الذي يريد بعمله وجه الله، لا يهمه أي موقع عمل لله فيه، فإذا جُعل مسئولاً أو قائدًا فإنه يقوم بالمهمة خير قيام، وإن كـان في


عمل دون ذلك قبل راضيًا، باذلاً جهده متقنًا عمله، فهو المخلص يقدم الخير لأمته في أي موقع كان؛ فعلى العبد أن يبتغي بأعماله الصالحة الثواب والجزاء من الله رب العالمين، وأن يحذر من إرادة الدنيا وزينتها بعمله الصالح؛ لئلا يكون ممن قال الله فيهم: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا﴾ [الفرقان: 22].

فأعمال الكفار من يهود ونصارى وغيرهم لا تُقبل إذا عملوا أعمالاً خيرية كمساعدة الفقراء وعلاج المرضى؛ لكفرهم بالله العظيم؛ ولكن من تمام عدل الله - سبحانه - ما ورد في صحيح مسلم عنه ﷺ‬ أنه قال: «إن الكافر إذا عمل حسنة أُطعم بها طعمة في الدنيا».

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ﴾ [هود: 15].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله، معز الحق وناصره، ومذل الباطل وقاصره، حمدًا يستنزل الرحمة ويستكشف الغمة، ويلين صعاب الخطوب إذا جنحت ويدفع النكبات إذا طرقت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أقرب مسئول وأعظم مأمول، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أتم البرية خيرًا وفضلاً وأطيبهم فرعًا وأصلاً، وأعلاهم منزلة وذكرى، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته الذين أعلى الله بهم كلمته، وعلى من أقام على سنتهم وسار على سبيلهم، وسلم تسليمًا كثيرًا.

عباد الله:

إن العبد إذا أراد بعمله الصالح الدنيا فقط؛ فعمله باطل، وإن كانت إرادة العبد الدنيا والآخرة؛ فعمله ناقص لفقده كمال الإِخلاص، والمؤمن يريد بعمله الصالح وجه الله والدار الآخرة؛ فإن طلب العلم، فلرفع الجهل عن نفسه وعن الآخرين، وإن حج بيت الله الحرام نيابة عن ميت أو كبير عاجز فلنفع أخيه المسلم وزيارة المشاعر والوقوف مع الحجيج؛ وإن تصدق بماله على الفقراء فلمواساتهم وتفريج كروبهم، وإن جاهد ففي سبيل رفع راية الإِسلام، والله - سبحانه - كريم يجازي المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يحفظه في نفسه وأهله وماله ويحييه حياة طيبة هنيئة، وفي الآخرة يجازيه الجزاء الحسن.

ويجوز للمسلم أن يأخذ الأجرة التي تدفعها الدولة إذا عمل عملاً صالحًا مبتغيًا بذلك وجه الله كمن يتولى القضاء، أو إمامة المسلمين في الصلاة، أو


تعليم القرآن؛ فهذا لا يضر أخذه في إيمانه وتوحيده إن قصد أن يكون ما حصل له معينًا على قيام الدنيا، وأتته الدنيا تبعًا له، قال ﷺ‬: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله» [رواه البخاري].

وهذا، وصلوا وسلموا....


الخطبة الأولى([43])

الحمد لله الذي تعاظم ملكوته فاقتدر، وتعالى جبروته فقهر، أعز من شاء ونصر، ورفع أقوامًا بحكمته وخفض أقوامًا أُخر، أحمده على نعمٍ تربو على ذرات الرمل وقطرات المطر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، على رغم أنف من جحد بها وكفر، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله سيد البشر، المؤيد بمعجزات الآيات والسور، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه القادات الخير، والسادات الغرر، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله في الورود والصدر، وراقبوه فيما بطن من الأمور وظهر، واعبدوه حق عبادته في الآصال والبكر، واشكروا نعمه فقد تكفل بالمزيد لمن شكر، وخافوا مقامه، واحذروا بطشه كل الحذر: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

اتقوا الله وتمسكوا بما شرع لكم من الدين القويم، واشكروه على ما مَّن به عليكم من ملة أبيكم إبراهيم حين ضل عن الحق من الأمة سواد عظيم، وتمسكوا بطاعة الله على منهاج رسوله ﷺ‬؛ فإن في ذلك السلامة والنجاة والعز والرفعة والجاه، وإياكم ومعاصيه؛ فإنها توجب أليم العقاب، ووبيل العذاب.

فاتقوا الله: ﴿وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].


عباد الله:

من مقتضى الإِيمان بالله - تعالى - وعبادته: الخضوع لحكمه والرضا بشرعه، والرجوع إلى كتابه وسنة رسوله عند الاختلاف في العقائد وفي الخصومات، وفي الدماء والأموال، وسائر الحقوق، فإنَّ الله هو الحَكَم وإليه الحُكم، فيجب على الحكام أن يحكموا بما أنزل الله، ويجب على الرعية أن يتحاكموا إلى ما أنزل الله في كتابه، وسنة رسوله ﷺ‬، قال تعالى في حق الولاة: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾ [النساء: 58].

وقال في حق الرعية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء: 59].

ثم بين أنه لا يجتمع الإِيمان مع التحاكم إلى غير ما أنزل الله، فقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا﴾ [النساء: 60] إلى قوله تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65].

فنفى سبحانه - نفيًا مؤكدًا بالقسم - نفى الإِيمان عمن لم يتحاكم إلى الرسول ﷺ‬ ويرضى بحكمه ويُسلم له، كما أنه حكم بكفر الولاة الذين لا يحكمون بما أنزل الله، وبظلمهم وفسقهم، قال تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة: 45]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [المائدة: 47].


ولا بد من الحكم بما أنزل الله، والتحاكم إليه في جميع موارد النزاع في الأقوال الاجتهادية بين العلماء، فلا يقبل منها إلا ما دل عليه الكتاب والسنة؛ من غير تعصب لمذهب، ولا تحيز لإِمام، في المرافعات والخصومات وفي سائر الحقوق؛ لا في الأحوال الشخصية فقط، كما في بعض الدول التي تنتسب إلى الإِسلام؛ فإن الإِسلام كل لا يتجزأ، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً﴾ [البقرة: 208] وقال تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: 85].

الله - سبحانه حكيم عليم، وضع لعبادة شريعة تصلح لكلِّ زمان ومكان: أحل لهم ما ينفعهم، وحرم عليهم ما يضرهم، فعلى العبد إفراد الله بالطاعة في تحريم ما حرَّم، وتحليل ما أحل - سبحانه وتعالى - لينالوا السعادة في الدنيا والآخرة.

عباد الله:

عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله ﷺ‬ وتقولون: قال أبو بكر وعمر».

هذا القول من ابن عباس جواب لمن قال له: إن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - لا يريان التمتع بالعمرة إلى الحج، ويريان إفراد الحج أفضل؛ حتى لا يبقى البيت مُعطلاً أثناء العام اجتهادًا منهما؛ وكان ابن عباس يرى أن التمتع بالعمرة إلى الحج واجب كما ورد في ذلك عدد من الأحاديث.

خشى ابن عباس - رضي الله عنهما - من نزول حجارة من السماء على من يُقدم قول أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - على قول الرسول ﷺ‬، فالإِيمان بالرسول ﷺ‬ يقتضي متابعته وتقديم قوله على قول كل أحد كائنًا من كان، ولو كان القائل أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- فكيف بمن ترك قول الرسول


ﷺ‬ لقول من هو دونهما؟!

قال الشافعي - رحمه الله-: أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله ﷺ‬ لم يكن ليدعها لقول أحد.

وفي الأثر دلالة على أن من ترك قول رسول الله ﷺ‬ على قول الرجال فقد دخل تحت طاعة العلماء والأحبار، ومن أطاعهم فقد اتخذهم أربابًا من دون الله.

وقال الإمام: أحمد: عجبتُ لقوم عرفوا الإِسناد وصحته؛ ويذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63]. أتدري ما الفتنة؟ الشرك؛ لعله، إذا ردَّ بعض قوله ﷺ‬ أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.

ينكر الإمام أحمد - رحمه الله - على من يعرف الحديث الصحيح عن رسول الله ﷺ‬ ثم يتركه ويأخذ قول إمام من الأئمة كسفيان الثوري - وكان إمامًا في العلم والورع - الذي قد يخفاه الدليل من السنة، وهو رحمه الله كغيره من الأئمة لا يرضى أن يُقدَّم قوله على قول الرسول ﷺ‬، فإن من رد بعض كلام الرسول ﷺ‬ يُخشى عليه من إحدى العقوبات الوارد ذكرها في الآية: أن تصيبهم فتنة في قلوبهم من الشرك، أو أن يصيبهم عذاب أليم في الدنيا بقتل أو حد أو حبس، أو أن يصيبهم عذاب أليم في الآخرة.

أيها المسلمون:

سمع عدي - t - تلاوة الرسول ﷺ‬ لهذه الآية: ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 31] التي فيها الإخبار عن اليهود والنصارى بأنهم جعلوا علماءهم وعبادهم آلهة لهم يحرمون ما أحل الله،


ويحلون ما حرم الله فيطيعونهم في ذلك.

وقد ظن عدي - t - أن العبادة المراد بها التقرب إليهم بأنواع العبادة كالسجود، والذبح، وغيرهما، فقال: إنا لسنا نعبدهم، فبين ﷺ‬ له أن طاعتهم في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله عبادة لهم من دون الله، وذلك شرك أكبر ينافي التوحيد، وهو ما يسمى شرك الطاعة، قال تعالى: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 121].

وينقسم الناس في اتباع العلماء والأمراء في التحريم والتحليل إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أن يتابعهم في ذلك؛ تعظيمًا لهم، مع علمه بأنهم بدلوا دين الرسول ﷺ‬، فهذا كافر.

القسم الثاني: أن يتابعهم في ذلك؛ لهوى في نفسه بالتقرب إليهم طلبًا لجاه أو مال أو مودة، مع علمه بأن حكم الله أفضل للبلاد والعباد، فهذا فاسق.

القسم الثالث: أن يتابعهم جاهلاً، فيظن أن ذلك حكم الله، ولهذا حالتان:

ألا يمكنه البحث واستفتاء أهل العلم؛ لأجل جهله، فهذا معذور.

أما من يتمكن من البحث واستفتاء أهل العلم، ولكنه يفرط، فهذا آثم لأن الله أمر بسؤال أهل العلم، قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43].

وقد أمر الله - سبحانه وتعالى - بطاعة ولاة الأمر من العلماء والأمراء إذا أمروا بطاعة الله، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [النساء: 59] أو أمروا بما تتطلبه المصلحة كالتقيد بأنظمة


المرور؛ حفاظًا على الأرواح.

أما إذا أمروا بمعصية فلا تجوز طاعتهم، لقوله ﷺ‬: «لا طاعة لمخلوق في معصية الله» [رواه أحمد].

فعلى العبد أن يعلم أن شرع الله يجب أن يُحمى ويُصان، ولا يُطاع أحد في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله.

والله - سبحانه - سائل عبيده يوم القيامة، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: 65].

نسأل الله - عز وجل - أن نكون ممن تمسك بسنة نبينا محمد ﷺ‬، وسار على الطريق المستقيم إلى أن نلقاه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله شرع لنا الشرائع، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له ولا رب لنا سواه، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة؛ فجزاه الله عن أمته خير الجزاء.

أما بعد:

فاحمدوا الله - عز وجل - على نعمة هذا الدين العظيم، وتمسكوا به، وعضوا عليه بالنواجذ.

عباد الله:

شريعة الله هي المنهج الحق الذي يصون الإنسانية من الزيغ، ويجنبها مزالق الشر، ونوازع الهوى، فهي شفاء الصدور، وحياة النفوس، ومعين العقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 57 ، 58].

منبع الشريعة ومصدرها كتاب الله - تبارك وتعالى - وسنة نبيه محمد ﷺ‬.

كتاب الله أساس الدين ومصدر التشريع، رحمة الله للعالمين، حوى أصول الشريعة، وقواعده في عقائدها، وأخلاقها، وحلالها، وحرامها، يضيء للأئمة مسالك الاستنباط في معرفة أحكام الحوادث المستجدات في كل زمان ومكان.

فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة؛ إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها، كما قال الإمام الشافعي - رحمه الله-.


ويقول الشاطبي: الكتاب كل الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور البصائر والأبصار، لا طريق إلى الله سواه ولا نجاة إلا لمن استضاء بهداه على نور من الله، ابتغاء مرضاة الله، والسنة مفسرة وموضحة لكتاب الله - عز وجل-، فهي من وحي الله - عز وجل-، قال تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 4].

ومن هنا - عباد الله - فإن هذا الدين بأصوله ومبادئه وافٍ يفي بحاجات البشرية في كل عصر ومصر، انتشر في أنحاء الدنيا، ودخل تحت سلطانه أجناس البشر، فوسع بمبادئه وقواعده كل ما امتد إليه نفوذه من أصقاع المعمورة، عالج كافة المشكلات على اختلاف البيئات، وما عجز في يوم من الأيام عن أن يقدم لكل سؤال جوابًا، ولكل واقعة فتوى، ولكل قضية حكمًا، ومدونات الفقه والفتاوى برهان للمتشككين.

وكيف لا يكون ذلك والشريعة - كما قال الحافظ ابن القيم - رحمه الله-: مبناها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، عدل كلها، رحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، لقد كانت هذه الشريعة أساس الحكم والقضاء والفتيا في العالم الإِسلامي كله أكثر من ثلاثة عشر قرنًا، انضوى تحت لوائها أعراق شتى، وامتزجت بها بيئات متعددة، فما ضاقت ذرعًا بجديد، ولا قعدت عن الوفاء بمطلوب.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([44])

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ومن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70 ، 71].

أما بعد:

فاتقوا الله - تعالى - حق التقوى، فمن اتقى ربه وقاه، ومن اتبع هواه أراده.

عباد الله:

الله - سبحانه - خالق العباد، عليم بمصالحهم، له كمال العلم والعدل والحكمة، وهو الحَكَم وإليه الحُكم في الدنيا والآخرة، فعلى العباد أن يتحاكموا إلى شرعه في جميع شئون حياتهم.


قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا﴾ [النساء: 60].

أنكر الله - سبحانه - على من يدَّعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء من قبله، وهو مع ذلك لا يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى الكتاب والسنة، بل يريد أن يتحاكم إلى الطاغوت الذي أمر الله عباده المؤمنين أن يكفروا به، وهذا من كيد الشيطان وصده للإِنسان عن طريق الحق.

وفي الآية: دلالة على وجوب الرد عند التنازع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ‬، وأن ذلك من واجبات الإيمان بالرسول ﷺ‬، ومن أبى التحاكم إلى الكتاب والسنة فقد كفر.

ورد أن سبب نزول هذه الآية: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا﴾ [النساء: 60].

كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة، فطمع اليهودي في العدل والحصول على حقه، فطلب الترافع إلى النبي ﷺ‬ لعلمه بتمام عدله في الحكم، ونزاهته عن الرشوة ودناءتها، وإن كان هذا اليهودي كغيره من اليهود الذين هم أشد الناس عداوة للنبي محمد ﷺ‬ ولأتباعه من المسلمين.

أما المنافق فرغب أن يترافع إلى اليهود: لما وُجد عنده من الميل إلى دفع الرشوة لهم، لعلمه أنَّهم قوم جور يقبلون الرشوة، والمنافق يظهر أنه من جملة المسلمين، ومع ذلك أبى الترافع إلى النبي ﷺ‬ مع زعمه الإِيمان به.

وفي هذا ما يدل على أن من أبى التحاكم إلى الكتاب والسنة فهو من


جملة المنافقين، وقد حذَّر الله منهم وفضحهم في كثير من آيات القرآن، وأمر بجهادهم؛ لعظم شرهم على المجتمع المسلم.

اتفق اليهودي والمنافق أن يتحاكما إلى كاهن جهينة، وهو طاغوت يتحاكمون إليه كما في سائر أحياء العرب في الجاهلية فنزلت الآية: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ...﴾ فكل من زعم الإِيمان وتحاكم إلى غير الله فهو كاذب.

والقول الآخر في نزول الآية: إن رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي ﷺ‬، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف، ثم ترافعا إلى عمر - t - فاستثبتهما، ثم قتل الذي لم يرض بحكم رسول الله ﷺ‬، وفي هذا دليل على كفر من احتكم إلى غير شرع الله واستحقاقه للقتل؛ لأنه مرتد عن الإسلام.

وقال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ [البقرة: 11].

يذكر الله - سبحانه - حال المنافقين: أنهم إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض بالمعاصي - ومن أشد المعاصي التحاكم إلى غير شرع الله - أجابوا بأن شأننا الإصلاح، وهذا يزعمه كل منافق.

ونهى - سبحانه - عباده عن الإفساد في الأرض بالمعاصي بعد إصلاح الله لها بالشرع المنزل على الأنبياء، قال تعالى: ﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾ [الأعراف: 56]، فالعمل بالشرع هو صلاحها، وتركه هو فسادها، ومن تدبر أحوال العالم؛ وجد كل صلاح في الأرض وخير وبركة؛ سببه طاعة الله - تعالى - ورسوله ﷺ‬، وكل شر في العالم، وفتنة، وبلاء، وقحط، وتسليك عدو، وغـير ذلك، فسببه الإِفساد في الأرض بمخالفة أمر


الله - تعالى - ورسوله ﷺ‬.

عباد الله:

يزعم المنافقون في كل مكان وزمان إصلاح المجتمع، فيزخرفون ويزينون أقوالهم وآراءهم الباطلة ويخدعون بها الجهال، ويترتب على قبولها مفاسد كثيرة، وفتن عظيمة في المجتمع المسلم، ومن ذلك الدعوة إلى التحاكم إلى غير شرع الله، الدعوة إلى الاختلاط وإلى تبرج المرأة المسلمة، فالواجب عدم الاقتداء بأقوالهم، والحذر من طاعاتهم والاستماع إليهم لعظم شرهم وضررهم، لأنهم يندسون بين المسلمين، ويحاربون الإِسلام باسم الإِصلاح.

والتشريع محض حق الله - عز وجل-، فعلى العباد القبول والانقياد لأوامره لأنه يدل على الإِيمان والتصديق والرضا والتسليم، وقد أنكر الله - سبحانه وتعالى - على من ترك حكمه المشتمل على كل خير وعدل، وأخذ بالقوانين الوضعية القائمة على الجهل والجور، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلال والجهالات فقال سبحانه: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50].

ففي الآية دلالة على وجوب تحكيم شرع الله، وأن ما خالفه من الأحكام فهو من حكم الجاهلية.

وأضيف للجاهلية: للتنفير منه وبيان قبحه، وأنه مبني على الجهل والضلال.

إن الواجب على كل مسلم ألا يتخذ غير الله حكمًا، وأن يرد ما تنازع فيه الناس إلى الله - تعالى - ورسوله امتثالاً لقوله تعالى: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء: 59].


أيها المسلمون:

وفي الحديث عن النبي ﷺ‬ أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به» قال النووي: حديث صحيح.

بين ﷺ‬ أن الإنسان لا يكون مؤمنًا الإِيمان الكامل الواجب، حتى تكون محبته وعمله وتحاكمه موافقًا لما جاء به الرسول من الأوامر والنواهي وغيرها، فيحب ما أمر به ﷺ‬، ويكره ما نهى عنه.

وإذا كان الهوى تبعًا لما جاء به النبي ﷺ‬ كان محمودًا، وهو من كمال الإِيمان. وإذا كان الهوى مخالفًا لما جاء به النبي ﷺ‬؛ فإنه يكون هوى مذمومًا ويُسمَّى هذا الهوى أيضًا (إلهًا) قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الجاثية: 23]. أي: لا يهوى شيئًا إلا ركبه، لا يحجبه عن ذلك دين ولا ورع.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء: 59].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، - سبحانه - له الحمد في الآخرة والأولى.

من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عالم السر والنجوى، ,أشهد أن نبينا محمدًا عبده المصطفى ورسوله المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله الشرفاء وصحبه النجباء، والتابعين أولي النهى، ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

إن الحكم بما أنزل الله - تعالى - وحده؛ هو إفراد لله - تعالى - بالطاعة، والطاعة نوع من أنواع العبادة، فلا تصرف إلا لله وحده لا شريك له، قال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ [يوسف: 40].

فعبادة الله - تعالى - تقتضي إفراده - عز وجل - بالتحليل والتحريم، وتحقيق هذه الطاعة، وإفراد الله - تعالى - بالحكم والانقياد لشرعه هو حقيقة الإِسلام.

وكما قال ابن تيمية - رحمه الله-: فالإِسلام يتضمن الاستسلام له وحده، فمن استسلم له ولغيره كان مشركًا، ومن لم يستسلم له كان مستكبرًا عن عبادته، والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده، وطاعته وحده.


وقال ابن كثير - رحمه الله - عند قول الله - عز وجل-: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65].

يقسم - تعالى - بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يُحكم الرسول ﷺ‬ في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له ظاهرًا وباطنًا.

وقال ابن القيم - رحمه الله-: أقسم - سبحانه - بنفسه المقدسة قسمًا مؤكدًا بالنفي قبله على عدم إيمان الخلق حتى يُحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع، وأحكام الشرع وأحكام المعاد، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج؛ وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح، وتقبله كل القبول؛ ولم يثبت لهم الإِيمان بذلك أيضًا حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم، وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة واعتراض.

جعلني الله وإياكم ممن يحكم قول الله - تعالى - وقول الرسول ﷺ‬ في جميع أموره ويُسلم ويرضى وينشرح صدره به.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([45])

الحمد لله الذي جلت آلاؤه عن أن تحاك بعد، وتعالى كبرياؤه عن أن تشتمل بحد، له الحمد في السموات حمدًا يليق بجلاله وعظمته، وجبروته وسلطانه، وله الحمد في الأرض حمدًا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، وله الحمد ملء السموات والأرض وما بينهما وما شاء من شيء بعد، نحمدك اللهم حمدًا كثيرًا مباركًا فيه، وأنت أهل الحمد، لا إله إلا أنت، نحمدك حمد الشاكرين، ونستغفرك استغفار المسرفين، ونلجأ إليك لجوء المضطرين، مددنا أيدينا برحمتك إلى رحمتك، وبفضلك تطلعت القلوب إلى فضلك وسعت رحمتك كل شيء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خيار هذه الأمة.

أما بعد:

فاتقوا الله وراقبوه، وتقربوا إليه ولا تعصوه.

أيها المسلمون:

أصل الإيمان وقاعدته التي ينبني عليها هو الإيمان بالله، وبأسمائه وصفاته، وكلما قوي علم العبد بذلك وإيمانه به، وتعبد لله بذلك، قوي توحيده، فإذا علم أن الله متوحد بصفات الكمال، منفرد بالعظمة والجلال والجمال، ليس له في كماله مثيل، أوجب له ذلك أن يعرف ويتحقق أنه هو


الإله الحق، وأن إلهية ما سواه باطلة، فمن جحد شيئًا من أسماء الله وصفاته فقد أتى بما يناقض التوحيد وينافيه، وذلك من شُعب الكفر.

الله - عز وجل - له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وهو متَّصفٌ بجميع صفات الكمال، ومنزه عن جميع صفات النقص، متفرد بذلك عن جميع الكائنات.

وأهل السنة والجماعة يعرفون ربهم بأسمائه وصفاته الواردة في القرآن الكريم والسنة المطهرة، ويصفون ربهم بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله ﷺ‬.

قال تعالى: ﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 180]، وقال تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى﴾ [طه: 8] في هذه الآية أثبت الله - عز وجل - لنفسه الأسماء، وأخبر أنها حُسنى، وأمر بدعائه، بأن يقال: يا الله، يا رحمن، يا حي يا قيوم، وغيرها.

والرحمن اسم من أسماء الله الحسنى، دال على اتصافه بالرحمة، وقد أنكرت قريش أن يكون الرحمن اسمًا لله - مع إيمانهم بربوبيته - سبحانه - فأمر الله - سبحانه - نبيه محمدًا ﷺ‬ أن يرد عليهم: بأن الرحمن هو ربه المستحق للعبادة وحده، فقال تعالى: ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ﴾ [الرعد: 30] وأن يَتَوكّل عليه ويتوب إليه وحده من جميع الذنوب ﴿قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ﴾.

وقد دلت الآية الكريمة على أن من جحد شيئًا من أسماء الله وصفاته فقد كفر.

ومذهب أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته، الإيمان بأسماء الله وصفاته كما جاءت في الكتاب والسنة على ما يليق بجلال الله وعـظمته من


غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.

فالتحريف: تغيير معنى الصفة إلى معنى آخر لم يرده الله - تعالى ورسوله.

والتعطيل: نفي الصفات كلها أو بعضها عن الله - عز وجل-.

والتكييف؛ الإخبار عن حال الشيء وكيفيه، وصفات الله لا يعلم كيفيتها إلا هو - سبحانه-.

والتميل: إثبات مثل للشيء، كأن يقول: إن صفات الله مثل صفات المخلوقين.

والعبد إذا آمن بأسماء الله وصفاته وفهم معانيها، وتعبَّد لله بها؛ قوي توحيده، وازداد خشية وتعظيمًا وإجلالاً لربه، فمن كانت بالله أعرف كان له أخشى وأتقى.

عباد الله:

في صحيح البخاري، قال علي - t-: «حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يُكذب الله ورسوله».

يرشد علي بن أبي طالب - t - الوعاظ أن يُحدثوا عامة الناس بما يحتاجون إليه في أصل دينهم وأحكامه من بيان الحرام والحلال، ويتركوا ما لا يحتاج الناس إليه ولا تحتمله عقولهم مما قد يؤدي إلى تكذيب الله ورسوله.

وروى عبد الرزاق عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس؛ أنه رأي رجلاً انتفض لما سمع حديثًا عن النبي ﷺ‬ في الصفات استنكارًا لذلك، فقال: «ما فَرَقُ هؤلاء؛ يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه».


أيها المسلمون:

رأى ابن عباس - رضي الله عنهما - رجلاً ارتعد لما سمع حديثًا عن النبي ﷺ‬ في صفات الله؛ استنكارًا لهذه الصفة - لا تعظيمًا لها - فقال لأصحابه مستفهمًا: ما الذي يُخوف هؤلاء من إثبات الصفات لله - سبحانه-.

يجدون في قلوبهم لينًا ورقة عند النصوص التي يعرفون معانيها، ويعتريهم الشك والهلكة عند النصوص التي يشتبه عليهم فهمها أو معرفتها.

الواجب على المسلم ألا يكون عنده استنكار أو تردد في أسماء الله وصفاته، وعليه الإِيمان والتسليم بكل ما جاء عن الله - سبحانه وتعالى - ورسوله ﷺ‬ وإن لم يُحط بها علمًا، قال الشافعي - رحمه الله-: آمنت بالله وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله ﷺ‬.

عباد الله:

إن الإيمان بأسماء الله وصفاته له دور عظيم في تحقيق العبودية لله، فبمعرفة أسمائه وصفاته على الحقيقة، وحين تتمكن تلك المعرفة في أعماق القلب؛ ينال العبد بها حظه من العبودية له سبحانه، لأن لها آثارها الخاصة في عبودية العبد لربه.

فإذا علم أن ربه شديد العقاب، وأنه يغضب، وأنه القوي القادر الفعال لما يريد، وأنه يسمع ويرى ويعلم كل شيء، ولا يخفى عليه شيء، فإن ذلك يحمله على مراقبه الله، والخوف منه والابتعاد عن معاصيه.

وإذا علم أن الله غفور رحيم كريم، يفرح بتوبة عبده ويغفر الذنوب ويتوب على من تاب، فإن ذلك يحمله على التوبة والاستغفار، ويحمله على


حسن الظن بربه، وعلى عدم القنوط من ربه.

وإذا علم أن الله هو المُنعم المتفضل بجميع النعم وأنه بيده الخير وهو على كل شيء قدير، وأنه يعطي ويرزق ويجازي بالإِحسان، ويكرم عباده المؤمنين، فإن ذلك يحمله على محبة الله - تعالى - والتقرب إليه والرغبة فيما عنده والإِحسان إلى إخوانه.

وإذا علم أن الله هو الحكم العدل، وأنه لا يحب الظلم والبغي والعدوان، وأنه ينتقم من الظلمة والطغاة والمفسدين؛ فإنه يكف عن الظلم والعدوان والبغي والفساد والغش والخيانة للخلق، وينصف من نفسه ويحسن المعاملة مع إخوانه إلى غير ذلك من الآثار الحميدة التي تترتب على معرفة أسماء الله والإيمان بها، فقد تعرف الله بها إلى عباده ليعرفوه بها وبمقتضاها.

قال ابن القيم: فالإِيمان بالصفات ومعرفتها وإثبات حقائقها وتعلق القلب بها وشهوده لها: هو مبدأ الطريق ووسطه وغايته، وهو روح السالكين وحاديهم إلى الوصول، ومحرك عزماتهم إذا فتروا، ومثير هممهم إذا قصروا، فإن سيرهم إنما هو على الشواهد، فمن كان لا شاهد له فلا سير له، ولا طلب ولا سلوك له، وأعظم الشواهد: صفات محبوبهم ونهاية مطلوبهم، وذلك هو العَلَم الذي رُفع لهم في السير فشمروا إليه، كما قالت عائشة - رضي الله عنها-: من رأى رسول الله ﷺ‬ فقد رآه غاديًا رائحًا، لم يضع لبنة على لبنة، ولكن رفع له علم فشمر إليه.

جعلنا الله وإياكم من يعبد الله حق عبادته.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى﴾ [طه: 8].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله الواحد القهار العزيز الغفار، أحمده - تعالى - حمدًا يتجدد بالعشى والإِبكار، واشكره سبحانه على نعمة الغزار، وأسأل المزيد من فضله المدرار.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عالم الغيب والشهادة وكل شيء عنده بمقدار، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأئمة الأبرار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، صلاة تترى آناء الليل وأطراف النهار، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله-، فإن تقواه - سبحانه - جُنَّة من النار، وسبب لدخول الجنة دار القرار، فاسلكوا - رحمكم الله - مسالك المتقين الأبرار، واحذروا مسالك الأشرار وطرائق الفجار.

عباد الله:

إن معرفة أسماء الله وصفاته على الوجه الذي أخبر به - عز وجل - ورسوله ﷺ‬ توجب على العبد القيام بعبوديته - سبحانه - على الوجه الأكمل؛ فكلما كان الإِيمان بها أكمل، كان الحب والإِخلاص والتعبد أقوى، وأكملهم عبودية المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر، فالإِيمان بما تقتضيه الأسماء والصفات يوجد الاستقامة كاملة في العبد.

فالعلم بأسماء الله يهز النفوس، ويحرك القلوب، ويزيل الأدران والأرجاس التي تحبس الإنسان عن الخير، كمـا أن العلم بصفاته هو العاصم


من الزلل، والمقيل من العثرة، والفاتح لباب الأمل، والمعين، على الصبر، والواقي من الخمول والكسل.

وإن النفوس قد تهفوا إلى مقارفة الفواحش والذنوب، فتذكر أن الله يراها ويبصرها، وتذكر وقوفها بين يدي الله - عز وجل - فترعوي وتجانب المعصية، وقد يقع الإنسان في الذنب والمعصية، ثم يذكر سعة رحمة الله، فلا يتمادى في الخطية، ولا يوغل في طريق الهاوية، بل يعود إلى التواب الرحيم، قارعًا بابه، فيجده توابًا رحيمًا ودودًا.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([46])

الحمد لله حمدًا كثيرًا كما يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في إلوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، أرسله ربه بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله - حق التقوى، واشكروا ربكم على نعمه يزدكم، واعرفوا له قدره وحقه، واستعينوا بنعمه على طاعته، «لئن شكرتم لأزيدنكم».

عباد الله:

تفرد الله - سبحانه - بالعطاء والملك والتدبير، وتفضل على عباده بالنعم آناء الليل وأطراف النهار، وكمال التوحيد لا يكون إلا بإضافة النعم إلى المُنعم وهو الله، كما قال تعالى: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ﴾، وأما العباد فهم أسباب يُجري الله النعم على أيديهم.

فإضافة النعم إلى غير الله: من كفر النعمة، وهو من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد.

وقد ذكر الله -سبحانه- في سورة النحل المسماة بـ (سورة النعم) عددًا من


النعم التي أنعم الله بها على عباده، وهي المساكن والأنعام وما يرزقون منها، والسرابيل من الحديد والثياب.

ثم قال - سبحانه وتعالى - بعد ذلك: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا﴾ ذامًا كفار قريش الذين يعرفون أن هذه النعم العظيمة المذكورة في السورة وغيرها من الله، ثم ينكرونها بإضافتها إلى غيره، من آلهتهم وآبائهم، فهم متناقضون في ذلك، وكفر النعم من أنواع الكفر الأصغر، لما فيه من جحد إضافة النعمة إلى الله تعالى، وشرك أصغر لما فيه من جعل شريك للمُنعم.

ومن أمثلة كفر النعمة التي ذكرها السلف أخذًا من معنى الآية:

قول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي.

فإن كان القائل يريد الإخبار فهذا جائز.

أما إذا كان القائل يضيف تملكه للمال إلى السبب الذي هو الإِرث، متناسيً المُسبب - وهو الله - فذلك من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد.

وذلك لأن المال نعمة أنعم الله بها على آبائه، ثم أنعم الله بها على هذا الرجل عن طريق قسمة الميراث، وهذا كله من فضل الله ورحمته.

والمثال الآخر - عباد الله - قول: لولا فلان لم يكن كذا.

وكذلك قول: لولا الطيار لهلكنا، لولا قائد السيارة لأصابنا مكروه، وغير ذلك من الألفاظ التي فيها تعليق حصول النعم بمثل هذه الأمور، والأمر إنما حصل بفضل الله ورحمته وقضائه وقدره، فهو - سبحانه - المنُعم وحده على الحقيقة.

ومن الأمثلة أيضًا: قول: هذا بشفاعة آلهتنا.

حيث إن الكفار إذا أنعم الله عليهم بنعمة من النعم: كهطول أمطار، أو حـصول تجـارة رابحة أو غير ذلك، يقرون بأن الله هو الذي رزقهم تلك


النعم، ثم ينكرونها بقولهم: رزقنا ذلك بشفاعة آلهتنا، فهم في هذا قد أشركوا بالله، وأضافوا النعم إلى غيره - سبحانه-.

ومن الأمثلة أيضًا: قول: كانت الريح طيبة والملاح حاذقًا؛ أي: أن الله - سبحانه - إذا أجرى السفينة وسلَّمها نسبوا ذلك إلى الريح والملاح، ونسوا أن الله - عز وجل - الذي أجرى الفلك في البحر رحمة بهم، وإن كان المتكلم بذلك لم يقصد أن الريح والملاح هما الفاعل لذلك من دون الله - سبحانه-، وإنما أراد أنهما سبب لذلك؛ إلا أنه ينبغي ألا يستند إلى السبب، وينسى المُسبب - جل وعلا-.

وقد بين أبو العباس ابن تيمية ذمَّ الله - سبحانه - ورسوله ﷺ‬ لكل من يضيف نعم الله إلى غيره، ويستند إلى الأسباب، كقوله تعالى: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا﴾، وفي السنة كحديث زيد بن خالد - t - الذي فيه: «إن الله - تعالى - قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر».

عباد الله:

هذه بعض أنواع كفر النعم التي ذكرها السلف، وهي من المحرمات المنقصة للتوحيد؛ وذلك ما فيها من الاستناد إلى الأسباب ونسيان المُسبب - جل وعلا - الذي لو شاء لما ساق للعبد الأرزاق، ولما يسر له الأسباب.

فمن كمال التوحيد أن يشكر المؤمن ربه على توفيقه بحصول النعم، وأن ينسبها إليه، فهو المتفضل بها على الحقيقة لا إله غيره ولا رب سواه، ولا يعني ذلك أن يتنكر لمعروف الناس ويكون جافيًا معهم، فإنَّ السنة أن يشكرهم ويدعو لهم؛ لكون الرزق ساقه الله على أيديهم. كما قال ﷺ‬: «من صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه؛ فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافئتموه».


عباد الله:

قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [لقمان: 20، 21].

قال ابن كثير - رحمه الله-: يقول - تعالى - منبهًا خلقه على نعمه عليهم في الدنيا والآخرة؛ بأنه سخر لهم ما في السموات من نجوم يستضيئون بها في ليلهم ونهارهم، وما يخلق فيها من سحاب وأمطار وثلج وبرد، وجعله إياها لهم سقفًا محفوظًا، وما خلق لهم في الأرض من قرار وأنهار وأشجار وزروع وثمار، وأسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة، من إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وأزاحه الشبه والعلل، ثم مع هذا كله ما آمن الناس كلهم، بل منهم من يجادل في الله، أي: في توحيده وإرساله الرسل ومجادلته في ذلك بغير علم، ولا مستند من حجة صحيحة، ولا كتاب مأثور صحيح.

أيها المسلمون:

قال ابن القيم: في القلب شعث لا يلُمه إلا الإِقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار إليه، وفيه ثلاث حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره وصدق الإِخلاص، ولو أُعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبدًا.

وقال - رحمه الله-: وقد ضمن الله سبحانه لكل من عمل صالحًا أن يحيه حياة طيبة، فهو صادق الوعد الذي لا يخلف وعده، وأي حياة أطيب من


حياة من اجتمعت همومه كلها وصارت واحدة في مرضاة الله، ولم يتشعب قلبه، بل أقبل على الله، واجتمعت إرادته وأفكاره التي كانت منقسمة بكل واد منها شعبة على الله، فصار ذكره محبوبه الأعلى وحبه والشوق إلى لقائه والأنس بقربه هو المستولي عليه، وعليه تدور همومه وإرادته وتصوره، بل وخطرات قلبه، إن سكت سكت لله، وإن نطق نطق لله، وإن سمع فبه يسمع، وإن أبصر فبه يبصر، وبه يبطش، وبه يمشي، وبه يتحرك، وبه يسكن، وبه يحيا وبه يموت، وبه يبعث.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾ [النحل: 53، 54].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، لا رب لنا سواه ولا معبود لنا غيره، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ,اشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه.

أما بعد:

فيا أيها الناس أوصيكم - ونفسي - بتقوى الله عز وجل، فتقوى الله بإذن الله كفاية كل هم وزوال كل غم، ومن اتقى الناس من دون الله فلن يغنوا عنه من الله شيئًا، الزموا طاعة الله واجتنبوا معصيته، فبالطاعة حياة القلوب كما بالطعام حياة الأجساد.

عباد الله:

ما من نعمة في الوجود إلا وربنا مُسديها، وما من إحسان في الدنيا والآخرة إلا ومولانا قد أولاه، وهو الذي يرفع الباساء ويكشف الضراء: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ [النحل: 53] هو أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، يعطي قبل أن يُسأل، ويعطي فوق المؤمل، يشكر القليل من العمل، وينميه، ويغفر الكثير من الزلل ويمحوه، يحب الملحين إليه، ومن لم يسأله يغضب عليه، يستر على عبده، والعبد لا يستر نفسه، ورحمه حيث لا يرحم العبد نفسه، أرسل لهدايته الرسل، وأنزل من أجله الكتب، بل ينزل - سبحانه - كل ليلـة وينـادي: «هـل من سائل


فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من داع فاستجيب له» وذلك كل ليلة.

من أحق بالعبادة من هذا البر الرحيم، ومن أحق بالحمد، ومن أحق بالذكر والشكر، أجود من سُئل وأوسع من أعطى.

فاعرفوا لربكم حقه، وعظّموا أمره واشكروه على نعمه.

هذا، وصلوا...


الخطبة الأولى([47])

الحمد لله الواحد، الفرد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، أحمده - سبحانه - على هدايته وتوفيقه، وعلى نعمه والآئه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا ند له ولا مثيل ولا شريك، وأشهد أنَّ نبينا محمد اختاره واصطفاه لتبليغ رسالته إلى الناس كافة؛ صلى الله عليه وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله - وأخلصوا له في عبادته تسعدوا في الدارين، واستعدوا لما أماكم من الجزاء والحساب، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل: ﴿وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].

عباد الله:

الله - سبحانه - هو المتفرد بالخلق والرزق والتدبير، لا شريك له ولا مثيل، فالواجب علينا أن نعبده وحده، وأن لا نشرك به أحدًا في الأقوال، أو الأفعال، أو الاعتقادات.

وقد نهى الله - سبحانه - عباده عن أن يجعلوا له أمثالاً وشركاء يصرفون لهم شيئًا من العبادة، وهم يعلمون أن الله وحده هو الذي يرزقهم وأن هذه الأنداد لا تملك لهم ضرًا ولا نفعًا.


فاتخاذ الند مع الله شرك أكبر ينافي التوحيد، ومن مات عليه فهو خالد في النار.

قال تعالى: ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 22].

قال ابن عباس في الآية: الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل.

وقد فسر ابن عباس - رضي الله عنهما - هذه الآية: ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ التي نزلت في الشرك الأكبر لأنواع من الشرك الأصغر؛ لأن لفظ الآية يشمل الشرك بنوعيه، وهذه الأنواع تدور على ألسنة كثير من الناس ويقعون فيها لخفائها، ومن ذلك.

أولاً: قول: (والله وحياتك يا فلان)؛ وقول (حياتي): فهذا شرك أصغر؛ لأنه حلف بحياة مخلوق.

ثانيًا: قول: (لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص)، (ولولا البطُّ في الدار لأتى اللصوص): فهذا شرك أصغر؛ لما فيه من الاِستناد إلى الأسباب ونسيان المُسبب وهو الله - تعالى - فلو شاء - سبحانه - لأخرس الكُليبة واسكت البط، فالواجب نسبة ذلك إلى الله؛ فهو الذي يحفظ عباده بالليل والنهار.

ثالثًا: قول الرجل لصاحبه: (ما شاء الله وشئت)، (لولا الله وفلان): شرك أصغر؛ لما فيه من المساواة بين الخالق والمخلوق.

هذه بعض الأمثلة من اتخاذ الأنداد من دون الله، والواجب على المسلم التأدب مع الله في الألفاظ فهو - سبحانه - لا مثيل له ولا نظير.

أيها المسلمون:

قال - عز وجل - في سورة البقرة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 21 - 22].

ابتدأ الله - عز وجل - هذه الآية الكريمة، بأعلى المقامات، التي أجلها عبادة الله وحده، وامتن على عباده بإيجادهم، وما أوجده لأجلهم، فلا يجعلوا له أندادًا، أي شركاء ونظراء، يصرفون لهم شيئًا مما يستحقه - سبحانه وتعالى-، فيقعوا في الشرك الأصغر أو الأكبر؛ فإن من تحقيق التوحيد الاحتراز من الشرك بالله في الألفاظ، وإن لم يقصد المتكلم بها معنى لا يجوز، بل تجري على لسانه من غير قصد.

وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ﴾ [البقرة: 21 - 22] أي: ومن كان هذا وصفه فهو المستحق أن يُعبد وحده، ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً﴾ أشباهًا ونظراء، تصرفون أنواع العبادة أو شيئًا منها لهم، كحال عبدة الأوثان، الذين كانوا يعبدونها من دون الله، ﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنه ربكم، لا يرزقكم غيره.

أيها المسلمون:

روى الترمذي عن عمر بن الخطاب - t - أن رسول الله ﷺ‬ قال: «من حلف بغير الله فقد كفر أو اشرك».

لله - سبحانه - التعظيم المطلق، فمن تعظيمه ألا يُحلف إلا بأسمائه وصفاته، ومن حلف بغير الله، كالنبي، أو الولي، أو الكعبة، أو النعمة، أو الشرف؛ فقد وقع في الشرك الأصغر، أملا إذا أقام بقلبه تعظيم هذا المحلوف به مثل تعظيم الله، فهو شرك أكبر.


وفي قول ابن مسعود - t-: لأن أحلف بالله كاذبًا أحبُّ إليَّ من أحلف بغيره صادقًا، بيان أن ابن مسعود - t - لا يحب كلا الأمرين، ولكن الحلف بالله كاذبًا أهون عليه من الحلف بغيره صادقًا لأن:

الحلف بالله في هذه الحالة؛ فيه حسنة وهي: التوحيد، وفيه سيئة وهي: الكذب.

أما إذا قرن هذا الكذب باليمين، واليمين تعظيم لله - عز وجل-، فإذا كان على كذب صار فيه شيء من تنقص الله - عز وجل - حيث جعل اسمه مؤكدًا لأمر كذب، ولذلك كان الحلف بالله كاذبًا عند بعض أهل العلم من اليمين الغموس؛ التي تغمس صاحبها في الإِثم؛ ثم في النار.

والحلف بغير الله في هذا الحالة فيه حسنة وهي الصدق، وفيه سيئة وهي الشرك.

وحسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، مع شدة قبح سيئة الكذب ِإلا أنها أهون من سيئة الشرك.

عباد الله:

منع الرسول ﷺ‬ جميع العبارات الشركية، ومنها ما جاء في الحديث، وذكر البديل الصحيح عنها: «لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، لكن قولوا ما شاء الله ثم ما شاء فلان» [رواه أبو داود]، وتفصيل ذلك على النحو التالي:

فقول: (ما شاء فلان)، و (أعوذ بالله وبك)، (ولولا الله وفلان) شرك أصغر؛ لأن (الواو) تفيد المساواة بين الخالق والمخلوق، والله - سبحانه - لا ند له ولا مثيل.

والجائز أن يقال: (ما شاء الله ثم ما شاء فلان)؛ لأن (ثم) تفيد الترتيب والتراخي، فللعبد مشيئة بعد مشيئة الله: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ﴾


[الإنسان: 30].

ويقال: (أعوذ بالله ثم بك) يا فلان من شر هذا الظالم أن ينالني بظلمه؛ لأن (ثم) تفيد الترتيب والتراخي - والاستعاذة هنا - تختص بالحي الحاضر فيما أقدره الله عليه، أما الاستعاذة بالميْت العاجز الذي لا يملك نفعًا ولا ضرًا فشرك أكبر.

وأن يقال: (ولولا الله ثم فلان)؛ لأنّ (ثم) تفيد الترتيب والتراخي، فالأمر إنما يحصل بقضاء الله وقدره وبفضله ونعمته، فهو - سبحانه - المُسدي للنعم.

والأولى في كمال التوحيد أن يقال: (ما شاء الله وحده)، (ولولا الله وحده)، و (أعوذ بالله).

إن الواجب على العبد الاحتراز من الشرك بالله في الألفاظ وإن جرت على لسانه بغير قصد، تعظيمًا وإجلالاً لله رب العالمين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: 255].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإنَّ نعمة التوحيد يخرج بها قلب العبد من ظلمات الشرك وجهالاته إلى نور الإِيمان بالله وتوحيده، يخرج من النية والحيرة والضلال والشرود، إلى المعرفة واليقين والطمأنينة والرضا والهداية، يخرج من الدينونة المذلة لأرباب متفرقين، إلى الدينونة الموحدة لرب الأرباب: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: 88].

عباد الله:

محبة الله - عز وجل - هي أعظم أنواع العبادة، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ﴾ [البقرة: 165] لأن الرب - سبحانه وتعالى - هو المتفضل على عباده بجميع النعم ظاهرها وباطنها، وهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له؛ فاحذروا من صرف شيء من هذه المحبة لغير الله، فهي محبة واجبة ومقدمة على كل شيء.

ويجب الحذر من الوقوع في الشرك، لأنه أعظم الذنوب، فكل ما عدا الشرك داخل تحت المشيئة، أما الشرك فهو أقبح الذنوب وأظلم الظلم، لذا ينبغي على المسلم أن يخافه ويحذره ويتقيه ويدرؤه عن نفسه بكل وسيلة؛ مخافة أن يقع فيه وهو لا يعلم، فلابد من معرفة أسبابه وأنواعه وخطورته، فرضي الله عن حذيفة بن اليمان حين قال: كان الناس يسألون رسول الله ﷺ‬


عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني [أخرجه البخاري].

ورضي الله عن الفاروق حين قال: إنما تنقض عرى الإِسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإِسلام من لم يعرف الجاهلية.

نسألك اللهم حياة على التوحيد، وموتًا على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.

هذا، وصلوا...


الخطبة الأولى([48])

الحمد لله، قاصم الجبابرة قهرًا، وكاسر الأكاسرة كسرًا، وواعد من نصره من لدنه نصرًا، خلق من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصهرًا، شهدت جميع الكائنات بربوبيته، وهي على وحدانيته آية كبرى، فسبحانه من إله بذاته فوق مخلوقاته مع علوه قدرًا وقهرًا، وتقدس من متفضل بسط إنعامه برًا وبحرًا، أحمده سبحانه على نعم لم تزل تترى، وأشكره على مننه الكبرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تكون لنا يوم القيامة ذخرًا، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، أعز الله به بعد الذلة وأغنى به بعد العلة، وجمع به بعد الفرقة، وكثَّر به بعد القلة، إحسانًا منه سبحانه وبرًا، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه الذين رفع الله لهم ذكرًا، وأعلى لهم قدرًا.

أما بعد:

فاتقوا الله، وطهروا قلوبكم، وألسنتكم، وجوارحكم تفلحوا، واستعدوا لما أمامكم من المنازل تنجوا.

عباد الله:

من تأمل نصوص الكتاب والسنة؛ رأى نصوصًا كثيرة تحث على القيام بكل ما يُقوي التوحيد؛ وينميه ويغذيه من الحث على الإِنابة إلى الله وانحصاره في تعلق القلب بالله رغبة ورهبة وقوة الطمع في فضله وإحسانه، والسعي لتحصيل ذلك وإلى التـحرر من رق المخـلوقين، وعدم


التعلق بهم بوجه من الوجوه، أو الغلو في أحد منهم، والقيام التام بالأعمال الظاهرة والباطنة، وتكميلها، وخصوصًا حث النصوص على روح العبودية وهو الإِخلاص التام لله وحده.

ثم في مقابلة ذلك نهى عن أقوال وأفعال فيها الغلو بالمخلوقين، ونهى عن التشبه بالمشركين؛ لأنه يدعو إلى الميل إليهم، ونهى عن أقوال وأفعال يُخشى أن يتوصل بها إلى الشرك، كل ذلك حماية للتوحيد، ونهى عن كل سبب يوصل إلى الشرك، وذلك رحمة بالمؤمنين، ليتحققوا بالقيام بما خلقوا له من عبودية الله الظاهرة والباطنة وتكميلها، لتكمل لهم السعادة والفلاح.

وشواهد هذه الأمور كثيرة ومعروفة.

عباد الله:

يغشى الناس في مجامعهم ومجالسهم وخصوماتهم كثرة الحديث والكلام، وربما احتاج بعضهم إلى تأكيد حديثه وكلامه، وأنه فيما قال مُصيب وصادق، فيلجأ إلى تأكيد كلامه بالحلف؛ طلبًا منهم أو رغبة منه في تأكيد ما قال، ليكون ذلك أدعى للقبول وعدم الرد.

واليمين في الإسلام أمرها عظيم، إذ تعتمد بعض الأحكام الشرعية عليها، وقد يحتاجها المسلم في وقت من الأوقات أو حالة من الحالات، فإن احتاج إلى ذلك فعليه بالحلف بالله - عز وجل - إذ هو ربه وإلهه، فلا يحلف إلا به، أو بأسمائه أو صفاته ولا يجوز الحلف بغيرها، وعليه تحري الدقة والحق في ذلك حتى يكون صادقًا فيما يقول.

عن ابن عمر - t - أن رسول الله ﷺ‬ قال: «لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله» [رواه ابن ماجه بإسناد حسن]. والحلف هو اليمين.


وقد نهى ﷺ‬ عن الحلف بالآباء، فقال: «لا تحلفوا بآبائكم»؛ لأن الحلف تعظيم للمحلوف به، والتعظيم حق الله - سبحانه - فمن حلف بغير الله فقد وقع في الشرك الأصغر وخص الآباء - هنا - بالذكر؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يحلفون بآبائهم؛ وإلا كلُّ من حلف بغير الله فقد وقع في الشرك، قال ﷺ‬: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» [رواه أحمد].

وخرج أبو داود من حديث بريدة بن الخصيب - t - أن النبي ﷺ‬ قال: «من حلف بالأمانة فليس منا».

أجمع العلماء على أن اليمين لا تكون إلا بالله، أو بأسمائه وصفاته وأجمعوا على المنع من الحلف بغيره، وعليه فلا يجوز الحلف بشيء من المخلوقات لا بالنبي ﷺ‬، ولا بالكعبة، ولا بالأمانة.

يأمر ﷺ‬ من حلف بالله أن يكون صادقًا فيما يحلف عليه، فقال: «من حلف بالله فليصدق» لأن الصدق مما أوجبه الله على عباده، وحضهم عليه في كتابه، فالصدق في الأقوال واجب ولو لم يحلف العبد، فإذا حلف بالله كان أقوى وأوكد.

ومنزلة الصدق - رحمكم الله - منزلة عظيمة، فبه تميَّز أهل النفاق من أهل الإِيمان، وهو أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين.

وقد أمر الله - سبحانه - أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119] وخص المُنعم عليهم بالنبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، قال تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: 69].


عباد الله:

أوضح النبي ﷺ‬ الطريق لمن حلف بغير الله، وكفارة ذلك؛ فقد خرج النسائي بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص - t - أنه حلف باللات والعزى، فسأل النبي ﷺ‬ عن ذلك؛ فقال: «قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وانفث عن يسارك ثلاثًا، وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولا تعد».

ومن حلف بالله ليفعلن كذا، ولم يفعله، فعليه كفارة يمين لقوله تعالى: ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 89].

ويجب على من حُلف له بالله أن يرضى ويقنع؛ إعظامًا وإجلالاً لله، لقوله ﷺ‬: «ومن حلف بالله فليرض»، وهي على التفصيل التالي:

إذا حُلف له بالله في خصومة عند القاضي.

إذا حَلف أخوه المسلم له بالله معتذرًا، فعليه أن يقبل منه وأن يُحسن الظن به إذا لم يتبين كذبه، كما قال عمر بن الخطاب - t-: ولا تظن بكلمة خرجت من أخيك شرًا، وأنت تجد لها في الخير محملاً، وهو من محاسن الأخلاق ومكارمها، وكمال العقل، وقوة الدين.

وقد بين ﷺ‬ الوعيد الشديد لمن حُلف له بالله فلم يرض بقوله: «ومن لم يرض بالله فليس من الله»، أي: فقد برئ الله منه، وفي هذا دلالة على أن عدم الرضا باليمين من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد.

إن القلب الممتلئ بمعرفة الله وعظمته وجلاله إذا حُلف له بالله يرضى؛ إجلالاً وإعظامًا له - سبحانه-، أما من لم يرض فذلك دليل على قلة تعظيمه


لربه - تبارك وتعالى-.

فاحرصوا - عباد الله - على حفظ ألسنتكم وأسماعكم وأبصاركم، فإنها نعم من نعم الله عز وجل التي وهبها إياكم فلا تصرفوها فيما يغضبه - سبحانه-.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ﴾ [القلم: 10].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله الذي عمت رحمته كل شيء ووسعت، وتمت نعمته على العباد وعظمت، نحمده على نعم توالت علينا واتسعت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنجي قائلها يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، جاهد في الله حق جهاده حتى علت كلمة التوحيد وارتفعت، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه.

أما بعد:

القلب الممتليء بمحبة الله يُسارع إلى تعظيمه وإجلاله، كيف وهو يقول في كل ركوع (سبحان ربي العظيم) العظيم الذي لا أعظم منه ولا أكبر؛ العظيم في قلوب أولياءه، الذي يعظمه أهل السموات والأرض: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: 44].

ومن تعظيمه - سبحانه وتعالى - أن يُجلَّ فلا يُعصى، تُعظم أوامره ونواهيه، ويسارع المسلم إلى ذلك في حركاته وسكناته، وكلما زاد القلب إيمانًا بعظمة خالقه وبارئه كان أقرب إليه - سبحانه وتعالى-.

جعلني الله وإياكم ممن نال هذا الشرف الرفيع وانتظم في سلك المقربين فضلاً منه وجودًا وكرمًا.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([49])

الحمد لله ملأ بنور الإِيمان قلوب أهل السعادة، فأقبلت على طاعة ربها منقادة، فحققوا حسن المعتقد وحسن العمل وحسن الرضا وحسن العبادة، أحمده - سبحانه - وأشكره وقد أذن لمن شكره بالزيادة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تبلغ صاحبها الحسنى وزيادة، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله المخصوص بعموم الرسالة وكمال السيادة، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها الناس أوصيكم - ونفسي - بتقوى الله - عز وجل - فتقواه خير زاد، وهي نعم العدة ليوم المعاد.

عباد الله:

الهداية أجل المطالب، ونيلها أشرف المواهب، وطاعة الله وعبادته الملاذ الآمن عند الشدائد: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82] والالتجاء إلى الله وحده هو السبيل عند طوفان الفتن والمحن والكروب، قال الله - عز وجل-: ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: 87 – 88].

إن نقاء العقيدة يصحح النية، ويُلجم الهوى ويبارك في العمل ويخلد الذكر؛ فأين سيرة أبي جهل من أبي بكر، وأين بلال في النسب من أبي


لهب، خسارة الدين لا تقبل فيها الفدية ولو من ذهب: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ [آل عمران: 90 – 91].

أيها المسلمون:

روى النسائي عن قُتيلة أن يهوديًا أتى النبي ﷺ‬ فقال: إنكم تشركون تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة؛ فأمرهم النبي ﷺ‬ «إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت».

أتى يهودي للرسول ﷺ‬ منكرًا على أهل الإِسلام وقوعهم في ألفاظ هي من الشرك الأصغر، فقال: إنكم تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، وهي نقص في المسلمين إذ ذاك قبل أن يتبين لهم تحريمها.

وقد قال اليهودي مقالته هذه؛ لأجل عداوته لأهل الإسلام، وطلب تنقيصهم والطعن فيهم، وإلا فقد وقع هو وقومه فيما هو أعظم من ذلك وهو: الشرك الأكبر.

وقد أمر الرسول ﷺ‬ أصحابه باجتناب الألفاظ الشركية.

ولم ينكر الرسول ﷺ‬ مقالة اليهودي هذه، بل قَبِل الحق، فأمر أصحابه في الحديث بما يلي:

أن يجتنبوا قول: (ما شاء الله وشئت)؛ لأن الواو تفيد التسوية بين الخالق والمخلوق، وذلك شرك أصغر، وأرشدهم إلى قول: (ما شاء الله ثم شئت)؛ لأنّ (ثم) تفيد الترتيب والتراخي، فللعبد مشيئة، ولكنها تابعة لمشيئة الله، قال سبحانه: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ﴾ [التكوير: 29].

وكذلك أمرهم أن يجتنبوا قول: (والكعبة)؛ لأنه حلف بغير الله، وذلك شرك أصغر.


وأمرهم إذا أرادوا أن يحلفوا، أن يقولوا: (ورب الكعبة) فالكعبة معلوم شرفها وفضلها، فقد جعلها الله قبلة المسلمين وشرع - سبحانه - الطواف بها، ومع ذلك لا يُحلف بها، ولا يُتمسح بها، ولا تُدعى من دون الله، فالعبادة حقٌّ خالص لله رب العالمين.

وعند النسائي، أن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رجلاً قال للنبي ﷺ‬: ما شاء الله وشئت، قال: «أجعلتني لله ندًا؟ بل ما شاء الله وحده».

أنكر الرسول على من عطف مشيئته على مشيئة الله، بقوله: «اجعلتني لله ندًا» أي: ليس لي أن تسويني بالله، ثم بين كمال التوحيد، وذلك بإثبات المشيئة لله وحده (ما شاء الله وحده).

إن الواجب على العبد المسلم الحذر من الألفاظ الشركية التي تفيد التسوية بين الله وخلقه، كقول: (ما شاء الله وشئت) و (هذا من الله ومنك) و (أرجو الله وفلانًا)، (وكقول الله لي في السماء وأنت لي في الأرض)، (والله حسبي في السماء وأنت حسبي في الأرض)، وغير ذلك من ألفاظ المحذورة.

عباد الله:

إن تعظيم النبي ﷺ‬ بلفظ يقتضي مساواته للخالق شرك، فإن كان يعتقد المساواة؛ فهو شرك أكبر، وإن كان يعتقد أنه دون ذلك؛ فهو أصغر، وإذا كان هذا شركًا؛ فكيف بمن يجعل حق الخالق للرسول ﷺ‬؟!

هذا أعظم؛ لأنه ﷺ‬ ليس له شيء من خصائص الربوبية، بل يلبس الدرع، ويحمل السلاح، ويجوع ويتألم، ويمرض، ويعطش كبقية الناس، ولكن الله فضَّله على البشر بما أوحي إليه من هذا الشرع العظيم، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ [الكهف: 110]؛ فهو بشر، وأكد هذه البشرية


بقوله: ﴿مِّثْلُكُمْ﴾، ثم جاء التمييز بينه وبين بقية البشر بقوله تعالى: ﴿يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ ولا شك أن الله أعطاه من ألأخلاق الفاضلة التي بها الكمالات من كل وجه: أعطاه من الصبر العظيم، وأعطاه من الكرم ومن الجود، لكنها كلها في حدود البشرية، أما أن تصل إلى خصائص الربوبية؛ فهذا أمر لا يُمكن، ومن إدعى ذلك؛ فقد كفر بمحمد ﷺ‬، وكفر بمن أرسله.

فلا نغلو في الرسول - عليه الصلاة والسلام - فننزله في منزلة هو يُنكرها، ولا نهضمه حقه الذي يجب علينا، فنعطيه ما يجب له، ونسأل الله أن يعيننا على القيام بحقه، ولكننا لا ننزله منزلة الرب - عز وجل-.

عباد الله:

لابن ماجه عن الطفيل أخي عائشة لأمها؛ قال: رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود فقلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون عزير ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، ثم مررت بنفر من النصارى، فقلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي ﷺ‬ فأخبرته، فقال: «هل أخبرت بها أحدًا؟» قلت: نعم، قال: فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: «أما بعد فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده».

رأى الطفيل - t - في منامه أنّه مَرّ على جماعة من اليهود وجماعة من النصارى، وأنه امتدح كلا الفريقين غير أنه عاب عليهم أنهم


يشركون مع الله فينتسبون إليه الولد، فاليهود يقولون: عزير ابن الله، والنصارى يقولون: المسيح ابن الله - تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا-.

ثم بين - t - أنهم مدحوا أهل الإِسلام إلا أنهم عابوا عليهم أنهم يعطفون مشيئة الرسول ﷺ‬ على مشيئة الله بالواو، كقولهم: ما شاء الله وشاء محمد، وذلك شرك أصغر.

وفي الحديث دلالة على أن اليهود والنصارى يعرفون الشرك الأصغر، ومع ذلك يشركون بالله الشرك الأكبر، ولم يريدوا بمقالتهم المناصحة؛ وإنما أرادوا بها تنقص أهل الإِسلام والقدح فيهم، وإظهار مساوئهم والطعن فيهم.

ولما أصبح الطفيل - t - قصَّ هذه الرؤيا على بعض أصحابه، ثم أخبر بها النبي ﷺ‬ فحمد الله - سبحانه - وأثنى عليه، وقال: «إنكم قلتم كلمة كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها» [رواه أحمد].

فقد كان ﷺ‬ يكرهها لكنه يستحي أن ينكرها لأنه لم يؤمر، وبعد هذه الرؤيا الصالحة نهاهم عنها بقوله: لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد لما فيها من التسوية بين الخالق والمخلوق، وأرشدهم إلى قول: «ما شاء الله وحده» لأن ذلك أكمل في التوحيد.

ويستفاد من هذه القصة: أن أحكام الشرع جاءت بالتدريج، فكل شيء يؤمر به أو ينهى عنه في الوقت المناسب له.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [غافر: 65].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله الرحيم الرحمن، علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان، له مقاليد السموات والأرض، - سبحانه - كل يوم هو في شأن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ,اشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، سيد ولد آدم أجمع، وخير من صلى وركع، وأبلغ من دعا إلى الله فأسمع، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه الأتقياء البررة، ورضى عنهم وعن عباده التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

عباد الله:

الرؤيا الصالحة قد تكون سببًا لتشريع الأحكام في عهد الرسول ﷺ‬ كما في حديث الطفيل، أما بعد موته ﷺ‬ فلا يجوز العمل بالرؤيا في تحريم الحلال أو تحليل الحرام، والرؤيا ثلاثة أقسام:

الأول: الرؤيا من الله وهي الرؤيا الحق، وقد تكون بشارة، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾ [يونس: 63 – 64] فسرت البشرى في الحياة الدنيا بالرؤيا الصالحة، يراها الرجل أو تُرى له، وفسرت بمحبة الناس له، والثناء عليه، وقد تكون الرؤيا نذارة أو تحذير له من أمر أو شخص.

الثاني: ما يكون من الشيطان من الأحلام المزعجة، وقد تكون بسبب أن النائم لم يذكر الأوراد الشرعية عند النوم.

فإذا رأى النائم شيئًا من ذلك فليتحول عن جنبه الذي كان عليه إلى الجنب الآخر وينفث عن يساره ثلاث مرات، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.


الثالث: أضغاث أحلام وهي أفكار كان يفكر بها في اليقظة فتتوارد في نومه.

وعلى المسلم أن يحرص عند نومه على أذكار النوم، كقراءة آية الكرسي، وأن يجمع كفيه ثم ينفث فيهما، فيقرأ فيهما المعوذات ثلاثًا ثم يمسح بهما مما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده ثلاث مرات ثم يقرأ (قل يا أيها الكافرون ثم ينام على خاتمتها فإنها براءة من الشرك) كما ورد في الصحيح عنه ﷺ‬.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([50])

الحمد لله مقدر المقدور، ومصرف الأيام والشهور، ومجري الأعوام والدهور، أحمده - تعالى - وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، إليه تصير الأمور، وهو العفو الغفور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنفع صاحبها يوم يُبعثر ما في القبور، ويُحصَّل ما في الصدور، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، النبي المجتبى والحبيب المصطفى، والعبد الشكور، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما امتدت البحور، وتعاقب العشي والبكور، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم النشور، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فأوصيكم - عباد الله - ونفسي بتقوى الله، فهي أربح المكاسب، وأجزل المواهب وأسمى المناقب، وبها تنال أعلى المراتب، وتتحقق أعظم المطالب.

عباد الله:

ذكر الله - عز وجل - في آيات كثيرة أنه يُصرف الأمور كيف يشاء، ويقدر الأقدار وفق حكمته، ويقضي القضاء بعدله، يقلب الله الليل والنهار، فهذا زمن رخاء وأمطار، وتكل أيام وسنوات عجاف، له الحكمة البالغة والإِرادة النافذة، لا مُعقب لحكمه وهو على كل شيء قدير.

أيها المسلمون:

ذم الله - سبحانه وتعالى - مشركي العرب ومن وافقهم في إنكارهم


للبعث، وزعمهم أنّه ليس هناك حياة إلا الحياة الدنيا، يموت قوم ويحيا آخرون، وأن الذي يُفنيهم مرور الليالي والأيام، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ [الجاثية: 24].

ولا ريب أن هذا اعتقاد باطل، ومن أنكر البعث كفر، فالله - سبحانه - هو الذي يحي ويميت ويبعث الناس ليوم لا ريب فيه، يجازي فيه المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته، فحكمته - تعالى - وعدلة تأبى أن يجعل المسلمين كالمجرمين.

قال بعض السلف: كانت العرب في جاهليتها من شأنها ذم الدهر، وسبَّه عند النوازل، فكانوا إذا أصابهم شدة أو بلاء أو ملامة قالوا: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، وقالوا: يا خيبة الدهر، فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر، ويسبونه، وإنما فاعل ذلك هو الله، فإذا أضافوا ما نالهم من الشدائد إلى الدهر فإنما سبوا الله - عز وجل-، لأن الله هو الفاعل لذلك حقيقة، فنهى الله عن سب الدهر بهذا الاعتبار.

وفي الصحيح عن أبي هريرة - t - قال: قال رسول الله ﷺ‬: «قال الله - تعالى-: يؤذيني ابن آدم، يسُب الدهر وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار» وفي رواية: «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر».

يروي الرسول ﷺ‬ عن ربه - سبحانه - أن الذي يسب الزمن عند نزول المصائب والمكاره إنما يسب الله ويؤذيه؛ لأن الله - سبحانه - هو الذي يُجري هذه الأفعال لوحده، فهذه الأزمنة خَلْقٌ مسخّر، ليس لها من الأمر شيء، فمسبتها مسبةٌ لمن تصرَّف فيها وهو الله.

وهذا واقع كثيرًا في الجاهلية، وتبعهم على هذا كثير من الفساق والحمقى، إذا جرت تصاريف الدهر على خلاف مرادهم جعلوا يسبون


الدهر والوقت، وربما لعنوه، وهذا ناشئ من ضعف الدين ونقص العقل، ومن الحمق والجهل العظيم، فإن الدهر ليس له من الأمر شيء فإنه مُدبَّر مُصرَّف، والتصاريف الواقعة فيه تدبير العزيز الحكيم، ففي الحقيقة أن العيب والسب على مُدبِّره.

وكما أنه نقص في الدين، فهو نقص في العقل، فيه تزداد المصائب، ويعظم وقعها، ويغلق باب الصبر الواجب، أما المؤمن فإنه يعلم أن التصاريف واقعة بقضاء الله وقدره وحكمته، فلا يتعرض لعيب ما لم يعبه الله ولا رسوله، بل يرضى بتدبير الله، ويسلم لأمره، وبذلك يتم توحيده وطمأنينته.

ومن الأمثلة على ذلك قول بعض الجهال:

(لا بارك الله في ذلك اليوم الذي وقع فيه الحادث)، أو (قاتل الله الساعة التي رأيتك فيها).

أو (لعن الله العام الذي مات فيه فلان)، أو (الزمن غدار)، أو (هذه سنة خبيثة).

فهذه الأزمنة خلق مسخّر، فالسابُ لها سابٌ لمن تصرف فيها وهو الله - جل شأنه-.

وساب الدهر لا يخلو من أحد أمرين:

الأول: أن يسب الدهر على أنه فاعل الحوادث، فهذا شرك أكبر.

الثاني: أن يسب الدهر؛ لأنه وقعت فيه أمور مكروهة مع اعتقاد أن الله هو الفاعل، فهذا من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد.

عباد الله:

وصف الدهر جائز لأن المتكلم بقصد الخبر دون اللوم والسب، كقول:


عام الحزن.

وقد ورد في كتاب الله وصف الدهر، كقوله تعالى: ﴿فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ﴾ [فصلت: 16] وقوله تعالى: ﴿فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ﴾ [القمر: 19]، وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ﴾ [يوسف: 48].

أن الواجب على العبد الحذر من سب الدهر: لأنه خلق من خلق الله، متصرف فيه، ليس له من تدبير الأمور شيء وإنما ذلك إلى الله - سبحانه - الذي بيده ملكوت كل شيء.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ﴾ [النور: 44].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله العلي الأعلى، له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى، أحمد ربي وأشكره على ما أعطى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله المصطفى، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه البررة الأتقياء.

أما بعد:

فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله ﷺ‬، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجمعة، فإن يد الله مع الجماعة، وعليكم بلزوم التقوى في سركم وعلانيتكم، فعظموا الله واتقوه، وراقبوه واحذروه، فإنه عليم بأحولكم، ناظر إليكم، مطلع على سرائركم، ثم يجازيكم على أعمالكم، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًا فشرًا.

فاستعدوا لما أماكم، فإن النقلة قريبة، والمستقر دار عدن تجري من تحتها الأنهار، أو نار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى.

عباد الله:

والمؤمن يعلم ويوقن أن ما يجري في الليل والنهار من خير أو شر إنما هو بقضاء الله وقدره، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فيحمد الله في السراء والضراء.


ويعلم أن ما أصابه من شدة وبلاء؛ كموت الأحبة أو مرض أو طلاق أو فقر أو غير ذلك، وصبر عليها؛ فإنما هي تكفير للذنوب وزيادة في الحسنات ورفعة في الدرجات، بل إنه قد يُشدد عليه عند موته لبقاء سيئة أو سيئتين لأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة.

قال سبحانه: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10].

عباد الله:

إن الله - جل وعلا - أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته، وثلث بكم أيها المسلمون من جنه وإنسه؛ ليدلكم على أمر عظم شأنه، فقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([51])

الحمد لله، ذي الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، الرب الذي ربى جميع خلقه بأصناف النعم والتدبير والتقدير، وربى أولياءه بتيسيرهم لليسرى وإصلاح أحوالهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور؛ الأول الذي ليس قبله شيء؛ الأخِرُ الذي ليس بعده شيء؛ الباطن الذي ليس دونه شيء؛ الظاهر الذي ليس فوقه شيء؛ وهو اللطيف الخبير، لَطُفَ عليمًا خبيرًا فأخرج الخبايا والخفايا، وما أضمرته السرائر وأَكَنَّتْهُ الصدور؛ ولطف بأصفيائه، فأوصلهم إلى المنازل العالية والكرامات الغالية، بأسباب وطرق وهم لا يشعرون، ولطف لهم فقدر أمورًا خارجة عن قدرهم وإرادتهم فيها رفعتهم وهم لا يعلمون؛ الكبير العظيم، الذي له الكبرياء والعظمة والجلال والمجد، فتعالى عن الند والنظير، وسبحان الله عما يقول الظالمون مما ينافي عظمته وكبريائه علوًا كبيرًا: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾ [الإسراء: 111] القدوس السلام؛ السالم من كل عيب ونقص، الذي ملأت مهابته وعظمته قلوب العارفين به، المذعنين لكبريائه، الخاضعين لجلاله، الملك المالك للعالم العلوي والسفلي؛ فهو المدبر لهم بأحكامه القديرة والشرعية والجزائية بعدله وفضله وحكمته، وإتقان نظامه، الرحمن الرحيم الرءوف الكريم، الذي وسعت رحمته كل شيء، وغمر جميع المخلوقات بآلائه وفضله وإنعامه، وخص المؤمنين برحمته، فهداهم إلى الصراط المستقيم، وأوصلهم بذلك


إلى السعادة الأبدية والفلاح السرمدي في دار النعيم، الحميد الذي له المحامد كلها والمدائح لما له من صفات الكمال، ولما أوصله إلى خلقه من العدل والأفضال، والعطاء المتنوع وأصناف النوال؛ الواحد الأحد المتفرد بالوحدانية، وهو الكمال المطلق من جميع الوجوه والاعتبارات؛ فليس له فيها مثيل ولا شريك من جميع الموجودات، الصمد الذي قصدته المخلوقات في حاجتها، وفزعت إليه في مهماتها وملماتها؛ لعظمته وسؤدده وسعة أوصافه التي انتهت إليها الغايات والنهايات؛ الغني بذاته عن جميع مخلوقاته، فكل الخلق فقيرون إليه في جميع حالاتهم؛ وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الغفور الشكور؛ العفو عن السيئات الصَّبُور، مولي النعم على الطائع وعلى العاصي الكفور؛ وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أعرف الخلق بالله وأتقاهم ,أكرمهم وأفضلهم في كل وصف حميد، وكل عمل مبرور وسعي مشكور.

اللهم صل على محمد، وعلى آله وأصحابه، أولي الجد في طاعة مولاهم والأخذ بعزائم الأمور.

أما بعد:

فاتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإِسلام بالعروة الوثقى، فإن أقدامكم وأجسامكم على النار لا تقوى.

أيها المسلمون:

الله - سبحانه - له التعظيم والكمال المطلق لا يشاركه فيه غيره، وكل لفظ يقتضي التعظيم والكمال لا يكون إلا لله وحده، فالتسمِّي بقاضي القضاة، أو ملك الأملاك، أو حاكم الحكام، ونحو ذلك من الصيغ التي تقتضي الكمال في الوصف؛ من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد، لأن الكمال لله


- تعالى-، والتسمي بهذه الأسماء سوء أدب مع الله وجرأة عليه.

في الصحيح عن أبي هريرة - t - عن النبي ﷺ‬ قال: «إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله» قال سفيان: مثل شاهان شاه.

أوضع الناس وأحطهم عند الله - عزَّ وجل - من تسمى باسم يحمل معنى العظمة والكبرياء الذي لا يليق إلا بالله كملك الملوك، وكحاكم الحكام، وسلطان السلاطين، وسيد السادات.

وقد ورد النهي عن ذلك قياسًا على الحديث، لكونه شبهه في المعنى، وهذا كله صيانة وحماية لجناب التوحيد، والتسمي بهذه الأسماء يشمل ما إذا سمى نفسه، أو سماهُ به غيره فرضي بذلك.

ولا يخفى ما في إطلاقه على غير الله من الجرأة على الله، وسوء الأدب معه، فإن كل لفظ يقتضي التعظيم والكمال، لا يكون إلا الله وحده.

فالله - سبحانه - هو الذي يستحق هذا الاسم، فهو ملك الأملاك، ملكه دائم لا يزول، لا مالك أعظم ولا أكبر منه، قال تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء﴾ [آل عمران: 26].

قال شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه الله-: التكبر شرٌ من الشرك، فإن المتكبر يتكبر عن عبادة الله تعالى، والمشرك يعبد الله وغيره.

وفي الحديث دلالة على أن الله يبغض الأسماء التي فيها تعظيم وجبروت لا يليق إلا به، ويحب الأسماء التي فيها تذلل وخضوع، ولهذا جاء في الحديث عنه ﷺ‬: «إن أحب أسمائكم إلى الله؛ عبد الله وعبد الرحمن» [رواه مسلم].


عباد الله:

إن الواجب على العبد أن لا يتسمَّى بأسماء فيها مشاركة للرب في عظمته وكماله؛ تأدبًا مع الله، وإعظامًا وإجلالاً له، وحماية لجناب التوحيد.

وفي رواية: «أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه».

أغيظ: من الغيظ، وأخبث: من الخبث، والغيظ مثل الغضب والبغض، فيكون بغيضًا على الله، خبيثًا عنده، مغضوبًا عليه، فاجتمعت في حقه هذه الأمور لتعاظمه في نفسه، وتعظيم الناس له بهذه الكلمة التي هي من أعظم التعظيم، فتعظمه في نفسه وتعظيم الناس له بما ليس له بأهل وضعه عند الله يوم القيامة، فصار أبغض الخلق إلى الله، وأخبثهم عنده، وأحقرهم لأن الخبيث البغيض عند الله يكون يوم القيامة أحقر الخلق وأخبثهم، لتعاظمه في نفسه على خلق الله، بنعم الله؛ عليه، عكس من تواضع لله، فإن الله يرفعه، وهذه من الصفات التي نؤمن بها ونثبتها على ما يليق بجلال الله وعظمته.

إن المتسمِّى بالأسماء التي لا تُطلق إلا على الله يَقْصد بها التعاظم في نفسه وتعظيم الناس له بما ليس له بأهل، يُعامل بنقيض قصده يوم القيامة، فيكون أبغض الخلق إلى الله وأخبثهم عنده وأحقرهم، بخلاف من تواضع لله فإن الله يرفعه، فالجزاء من جنس العمل.

قال شيخ الإسلام: والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقارًا إليه وخضوعًا له؛ كان أقرب له وأعز له وأعظم لقدره، فأسعد الخلق أعظم عبودية لله.

ومن اتقى الله - تعالى - تواضع له، ومن تكبر كان فاقدًا لتقواه ركيكًا في دينه، مشتغلاً بدنياه، فالمتكبر وضيع وإن رأى نفسه مرتفعًا على الخلق، والمتواضع وإن رُئي وضيعًا فهو رفيع القدر، ومن استشعر التواضع وعاشه،


كره الكبر وبواعثه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: 26].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله الذي أيد رسله بالمعجزات، وأرسى قواعد الملة بالبراهين والبينات، وحفظ الدين من البدع والضلالات، أمر بالخيرات ونهى عن المحرمات، أحمد ربي وأشكره على نعمه الظاهرة والباطنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسموات، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، الهادي إلى رضوان الله وجنته، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحابته.

أما بعد:

فإن من صفات المؤمنين الإِنابة والإِخبات والتواضع وعدم الكبر؛ قال تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا﴾ [الفرقان: 63] أي: بسكينة ووقار، متواضعين، غير أشرين، ولا مرحين، ولا متكبرين.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله-: ذكر أن صفاتهم أكمل الصفات ونعوتهم أفضل النعوت، فوصفهم بأنهم يمشون على الأرض هونًا، أي: ساكنين متواضعين لله وللخلق، فهذا وصف لهم بالوقار والسكينة، والتواضع لله ولعباده.

والتواضع علامة حُبِّ الله للعبد، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة: 54].


قال ابن كثير - رحمه الله-: هذه صفات المؤمنين الكُمَّل، أن يكون أحدهم متواضعًا لأخيه ووليِّه، متعزِّزًا على خصمه وعدوه.

وقال الله تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص: 83].

قال عكرمة: العلو: التجبر، وقال سعيد بن جبير: بغير حق، وقال ابن جريج: ﴿لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ﴾ تعظمًا وتجبرًا.

وعن علي - t - قال: إن الرجل ليُعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.

وقال - عز وجل - حاثًا على مكارم الأخلاق، ومحذرًا من الكبر والعجب: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 215].

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: بلين جانبك، ولطف خطابك، وتوددك إليهم، وحسن خلقك والإِحسان التام بهم.

وقال - تعالى - حكاية عن لقمان - u - وهو يعظ ابنه: ﴿وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [لقمان: 18].

قال ابن عباس: لا تتكبر، فتحقر عباد الله، وتعرض عنهم إذا كلَّموك.

وفي القرآن الكريم آيات تمدح المتواضعين، وتتوعد المتكبرين، وتبين أن لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13] فالعبرة بالتقوى وليست بالعلم أو المال أو الحسب أو السلطان، فإن اقترن واحد من هذه بالتقوى كان خيرًا عظيمًا وإن عري عنها كان سببًا لاستحقاق العذاب الأليم، فكم من مال أودى بصاحبه في المهالك، وكم من سلطان يكون في النار مع فرعون وهامان، وكم من عالم


تُسعر به النار قبل غيره، فالتقوى هي قطب الرحى في جميع الأمور، وليس لأي من تلك الأمور السالفة فضيلة إلا باقترانها بالتقوى.

ومن منازل: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ منزلة «التواضع».

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([52])

الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70 ، 71].

أما بعد:

فاتقوا الله - أيها المسلمون - اتقوه في السر والعلن، فإن تقوى الله - عز وجل - سبب الأمن في الدنيا، والهداية في الآخرة: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82].

عباد الله:

أسماء الله - عز وجل - هي: التي سمى بها نفسه، أو سماه بها رسوله ﷺ‬، وأسماء الله - سبحانه - دالة على الكمال المطلـق، فالـواجب احترامـها


وتعظيمها.

وتنقسم من حيث حكم التسمي بها إلى قسمين:

الأول: التسمي بأسماء الله المختصة به، مثل: (الله، الخالق) فهذه من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد.

الثاني: التسمي بأسماء الله غير المختصة به التي سمي بها الخالق ويسمى بها المخلوق، فهذا لا بأس به.

مثال ذلك: العزيز، الكريم، الحليم، فهذه أسماء مشتركة يجوز أن يُسمى بها المخلوق، ولكن يُعلم أنَّها ليست كأسماء الله - سبحانه وتعالى-، قال عز وجل: ﴿قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ﴾ [يوسف: 51].

عن أبي شريح، أنه كان يُكنى أبا الحكم، فقال النبي ﷺ‬: «إن الله هو الحكم، وإليه الحُكم» فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي كل الفريقين، فقال: «ما أحسن هذا فما لك من الولد؟» قلت: شريح ومسلم وعبد الله؛ قال: «فمن أكبرهم؟» قلت: شريح، قال: «فأنت أبو شريح» [رواه أبو داود وغيره].

استنكر النبي ﷺ‬ على أبي شريح - t - تكنيه بأبي الحكم؛ لأن (الحَكَمْ) من أسماء الله - تعالى - الذي إذا حكم لا يُرد حكمه، وهذه الصفة لا تليق إلا بالله؛ فهو - سبحانه - يحكم بين خلقه في الدنيا بشرعه الذي أنزله على رسله كما قال تعالى: ﴿وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾ [الرعد: 41].

ويحكم بين عباده في الآخرة، فيجازي كل نفس بما كسبت: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 10]، فبين أبو شريح للرسول ﷺ‬ سبب هذه التكنية وهي أنه كان يحكم بين قومه ويحل مشاكلهم، لأن مدار صلحه على الرضا، لا على الإِلزام، ولا على أحكام الكهان وأهل الكتاب، ولا


إلى أوضاع الجاهلية، فيرضى كلا الفريقين بحكمه، فاستحسن الرسول ﷺ‬ عمله ذلك إلا أنه غير الكنية احترامًا لأسماء الله - تعالى-.

ويستفاد من هذه التسمية: أن من السُنة أن يكنى الرجل بأكبر أبنائه، وذلك من التكريم والاحترام للكبير.

فالواجب على العبد التأدب مع أسماء الله ، سبحانه-، فلا يُسمى أحد بها، ومن سمى أو تكنى بها فعليه تغيير الاسم أو الكنية، احترامًا وإجلالاً لأسماء الله - سبحانه-، وهذا من كمال التوحيد.

ولنستمع يا عباد الله إلى ذكر بعض محاسن ربنا - جل وعلا - المتمثلة في صفاته العليا وأسمائه الحسنى فمنها أنه: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: 255] الذي لكمال حياته وقيوميته لا تأخذه سنة ولا نوم، «مالك السموات والأرض» الذي لكمال ملكه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه. «العالم بكل شيء» الذي لكمال علمه يعلم ما بين أيدي الخلائق وما خلقهم، فلا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا تتحرك ذرة إلا بإذنه، يعلم دبيب الخواطر في القلوب حيث لا يطلع عليها الملك، ويعلم ما سيكون منها حيث لا يطلع عليه القلب. «البصير» الذي لكمال بصره يرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة وأعضاءها ولحمها ودمها ومخها وعروقها، ويرى دبيبها على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، ويرى ما تحت الأرضين السبع كما يرى ما فوق السموات السبع، «السميع» الذي قد استوى في سمعه سر القول وجهره، وسع سمعه الأصوات، فلا تختلف عليه أصوات الخلق، ولا تشتبه عليه، ولا يشغله منها سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يبرمه كثرة السائلين.

قالت عائشة - رضي الله عنها - وعن أبيها: «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله ﷺ‬ وإني ليخفى عـلي


بعض كلامها، فأنزل الله عز وجل: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [المجادلة: 1]».

«القدير» الذي لكمال قدرته يهدي من يشاء ويضل من يضاء، ويجعل المؤمن مؤمنًا، والكافر كافرًا، والبر برًا، والفاجر فاجرًا، وهو الذي جعل إبراهيم وآله أئمة يدعون إليه ويهدون بأمره، وجعل فرعون وقومه أئمة يدعون إلى النار.

ولكمال قدرته لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء - سبحانه - أن يُعلمه إياه، ولكمال قدرته خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسه من لغوب، ولا يعجزه أحد من خلقه ولا يفوته، ولكمال «غناه» استحال إضافة الولد والصاحبة والشريك والشفيع بدون إذنه إليه، ولكمال «عظمته وعلوه» وسع كرسيه السموات والأرض، ولم تسعه أرضه ولا سمواته ولم تحط به مخلوقاته، بل هو العالي على كل شيء وهو بكل شيء محيط، ولا تنفد «كلماته» ولا تبدل، ولو أن البحر يمده سبعة أبحر مدادًا وأشجار الأرض أقلامًا فكتب بذلك المداد وبتلك الأقلام لنفد المداد وفنيت الأقلام ولم تنفد كلماته، إذ هي غير مخلوقة، ويستحيل أن يَفْنَى غير المخلوق بالمخلوق.

وهو - سبحانه - يحب رسله وعباده المؤمنين، ويحبونه، بل لا شيء أحب إليهم منه، ولا أشوق إليهم من لقائه، ولا أقر لأعينهم من رؤيته، ولا أحظى عندهم من قربه. وأنه - سبحانه - له «الحكمة البالغة» في خلقه وأمره، وله «النعمة السابغة» على خلقه، وكل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، وأنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وأنه أفرح بتوبة عبده من واجد راحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة بعد فقدها واليأس


منها، وأنه - سبحانه - لم يكلف عباده إلا وسعهم وما دون طاقتهم، وأنه - سبحانه - لا يعاقب أحدًا بغير ذنب فعله، ولا يعاقبه على فعل غيره، ولا يعاقبه بترك ما لا يقدر على فعله، ولا على ما لا قدرة له على تركه، وأنه حليم، كريم، واجد، محسن، ودود، صبور، شكور، يُطاع فيشكر، ويُعصى فيغفر، لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، ولا أحب إليه المدح منه، ولا أحب إليه العذر منه، ولا أحد أحب إليه الإِحسان منه، فهو مُحسن يحب المحسنين، شكور يحب الشاكرين، جميل يحب الجمال، طيب يحب كل طيب، نظيف يحب النظافة، عليم يحب العلماء من عباده، كريم يحب الكرماء، قوي؛ والمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف، بر يحب الأبرار، عدل يجب أهل العدل، حيي ستير، يحب أهل الحياء والستر، عفو غفور يحب من يعفو عن عباده ويغفر لهم، صادق يحب الصادقين، رفيق يحب الرفق، جواد يحب الجود وأهله، رحيم يحب الرحماء، وترٌ يحب الوتر.

وبالجملة فكل صفة عليا، واسم حسن، وثناء جميل، وكل حمد ومدح وتسبيح وتنزيه وتقديس وإجلال وإكرام؛ فهو الله - عز وجل - على أكمل الوجوه وأتمها وأدومها.

وجميع ما يوصف به ويذكر به ويخبر عنه به فهو محامد له وثناء عليه وتسبيح وتقديس، فسبحانه وبحمده لا يُحصي أحد من خلقه ثناء عليه لكثرة صفاته وكمالها، بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يُثني به عليه خلقه، فله الحمد أولاً وآخرًا، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله ورفيع مجده، فاقدروا لربكم قدره، واعرفوا لمولاكم حقه.


أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 180].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله عالم السر والنجوى، أحمد ربي وأشكره، له الحمد في الآخرة والأولى، سبحانك ربناك وبحمدك جل شأنك وعز سلطانك، سبحانك لا يُخلف وعدك ولا يُهزم جندك، وأنت العلي الأعلى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى وقدر فهدى، له الأسماء الحسنى والصفات العلا، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، الحبيب المصطفى والرسول المجتبى والنبي المرتضى، صلى الله عليه وعلى آله الشرفاء، وصحبه الأوفياء والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى، ما صبحٌ بدا وليلٌ سجى، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد عباد الله:

فإنه يجب تغيير الأسماء والكنى المحرمة إلى أسماء مباحة وأسماء نتعبد الله عز وجل بها، ونستدل في ذلك بما فعله النبي ﷺ‬ مع أبي الحكم حيث غير كنية هذا الصحابي من أبي الحكم، فكناه بأكبر أبنائه فقال له: «أنت أبو شريح».

واحرصوا - عباد الله - على تسمية أبنائكم بأسماء مُعبدة لله - عز وجل - كعبد الله، وعبد الرحمن وعبد الكريم، وعبد العزيز، وكذلك أسماء الأنبياء فهم أفضل الخلق؛ وأعلاهم وأشرفهم محمدًا ﷺ‬، وسموا بأسماء الصحابة - رضوان الله عنهم-، كعمر وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، ومن النساء: أمهات المؤمنين، كعائشة، وخديجة وكبنات النبي ﷺ‬، رقية، وفاطمة، وأم كلثوم.


وإياكم والتعبد لغير الله؛ كعبد الرسول أو عبد النبي أو عبد الولي فلان، كل ذلك شرك لا يجوز.

وابتعدوا عن أسماء الكفار والفسقة، والممثلين والممثلات، فإنهم ليسوا لكم بقدوة.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([53])

الحمد لله القائم على كل نفس بما كسبت، المطلع على مكنونات القلوب وما أضمرت، الرقيب على كل جارحة بما اجترحت، أحمده سبحانه وأشكره على نعم له لا تحصى عمت وغمرت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنفع قائلها في يوم تعلم فيه كل نفس ما قدمت وأخرت، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، بدعوته إلى الله وجهاده في سبيل الله علت راية التوحيد وانتشرت، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه مصابيح الهدى ونجوم الدجى، على هديه تربت وفيه مدرسته تعلمت، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما أشرقت شمس وغربت.

أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، فإن من اتقاه كفاه ووقاه، وقربه وأدناه.

عباد الله:

قلب المؤمن الموحد ممتلئ بتعظيم الله - سبحانه - وكتابه ورسوله ﷺ‬، فتوحيده وإيمانه الراسخ، يمنعه من أن يصدر منه قول أو فعل فيه استهزاء بشيء فيه ذكر الله - تعالى-، أو القرآن، أو الرسول ﷺ‬.

فأصل التوحيد لا يجتمع مع الاستهزاء؛ وذلك أن التوحيد استسلام وانقياد وقبول وتعظيم، والاستهزاء بالله أو شرعه ينافي التعظيم.

ولهذا فإن من استهزأ بشيء فيه ذكر الله، أو القرآن، أو الرسول ﷺ‬، أو استهزأ بأصل التشريع، كمن يستهزئ بحجاب المرأة المسلمة، أو إعفاء


الرجل لحيته أو تقصير ثوبه، أو غير ذلك من أحكام الشرع، فقد وقع في الكفر الأكبر المخرج من الملة، سواء كان المستهزئ جادًا أو مازحًا لمجرد إضحاك الناس وتسليتهم.

قال ﷺ‬: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يُلقي لها بالاً تهوي به في جهنم» [رواه البخاري].

ومن جلس في مجالس الكفر والنفاق ولم ينكر عليهم، أو يغادر مجلسهم؛ فقد شاركهم في الكفر، لقوله تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ﴾ [النساء: 140].

عباد الله:

وقعت في غزوة تبوك قصة عظيمة، وحادثة شنيعة، ذكرها الله - عز وجل - بقوله: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ﴾ [التوبة: 65].

عن ابن عمر، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة؛ دخل حديث بعضهم في بعض أنه قال رجل في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونًا. ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله ﷺ‬ وأصحابه القراء.

فقال لهم عوف بن مالك: كذبت، ولكنك منافق؛ لأخبرن رسول الله ﷺ‬ فذهب عوف إلى رسول الله ﷺ‬ ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله ﷺ‬ وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ونتحدث حديث الركب نقطع به عناء الطريق، قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقًا بنسعة ناقة رسول الله ﷺ‬، وإن الحجارة


لتنكب رجليه هو يقول: ﴿إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾ [التوبة: 65].

عباد الله:

الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - أحسن الناس اقتصادًا في الأكل وغيره، والمنافقون أكثر الناس أكلاً، كما قال ﷺ‬: «المؤمن يأكل في معيٍّ واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء» [متفق عليه].

والمنافقون أكذب خلق الله؛ كما وصفهم الله تعالى: ﴿أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [المجادلة: 18] والصحابة - y - عدول بالإجماع، واختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه وحفظه، وهم من الصدق بالمنزلة العالية، والغاية التي ليس فوقها غاية - y وأرضاهم-.

والمنافقون هم الجبناء ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ [المنافقون: 4] وشجاعة الصحابة - y - مشهورة معلومة، وما ظهر لهم من الشجاعة والبطولة لا يُعرف لها نظير، وقد أبلوا بلاء حسنًا في سبيل الله، وصبروا على ما لاقوه.

وفي رواية ابن إسحاق يشيرون إلى رسول الله ﷺ‬، وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضًا، والله لكأنا بكم مقرنين في الحبال، إرجافًا وترهيبًا للمؤمنين.

فلما سمع عوف بن مالك - t - هذه المقولة الخبيثة قال لهذا القائل: كذبت فيما نسبت إليهم، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله ﷺ‬، وهذه من النصيحة لله ولرسوله وليس من النميمة في شيء، فذكر أفعال الفساق لولاة الأمور ليردعوهم من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا من باب الغيبة والنميمة.


ولما ذهب عوف بن مالك ليخبر النبي ﷺ‬ وجد القرآن قد سبقه، فأتى المستهزئون يعتذرون أنهم لم يقصدوا حقيقة الإِستهزاء، وإنما قصدوا الخوض واللعب، والمراد الهزل لا الجد، والتحدث كما يتحدث الركبان إذا ركبوا رواحلهم، وقصدوا ترويح أنفسهم، وتوسيع صدورهم ليسهل عليهم السفر، وقطع الطريق، فتلا عليهم رسول الله ﷺ‬: ﴿ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [التوبة: 65 ، 66] ما يلتفت ﷺ‬ إلى هذا المنافق من غضبه عليه، ولم يقبل عذره الباطل، إذ أن هذه الأمور لا يدخلها الخوض واللعب، وإنما تحترم وتعظم إيمانًا بالله ورسوله، وتعظيمًا لآياته، وتصديقًا وتوقيرًا، والخائض واللاعب منقص لها، وعلى المؤمن أن يخاف على نفسه من النفاق، فقد كان أصحاب تلك المقالة السيئة مؤمنين قبل مقالتهم تلك، ثم وقعوا في الكفر بسببها: ﴿قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ فقد كان إيمانهم ضعيفًا، ولهذا لم يمنعهم من الاستهزاء بالله - تعالى - ورسوله ﷺ‬.

ومن هذا الباب الاستهزاء بالعلماء وعدم احترامهم، أو الوقيعة فيهم لأجله، وفيه أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها، أو عمل يعمله.

قال الشيخ محمد عبد الوهاب - رحمه الله-: القول الصريح في الاستهزاء هذا وما شابهه، وأما الفعل الصريح فمثل مد الشفة، وإخراج اللسان ورمز العين، وما يفعله كثير من الناس عند الأمر بالصلاة والزكاة فكيف بالتوحيد؟! وقال: فيه - وهي العظيمة - أن من هزل بهذا أنه كافر، والفرق بين النميمة وبين النصيحة لله ولرسوله، وبين العفو الذي يحبه الله والغلظة على أعداء الله، وأن من الاعتذار ما لا ينبغي أن يُقبل.


عباد الله:

قال الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله-: والكفر كفران: كفر إعراض وكفر معارضة، والمستهزئ كافر كفر معارضة؛ فهو أعظم ممن يسجد لصنم فقط، وهذه المسألة خطيرة جدًا، وربَّ كلمة أوقعت بصاحبها البلاء والهلاك وهو لا يشعر؛ فقد يتكلم الإِنسان بالكلمة من سخط الله - عز وجل - لا يُلقي لها بالاً يهوي بها في النار، فمن استهزأ بالصلاة - ولو نافلة-، أو بالزكاة، أو الصوم، أو الحج؛ فهو كافر بإجماع المسلمين، كذلك من استهزأ بالآيات الكونية بأن قال مثلاً: إن وجود الحر في أيام الشتاء سفه، أو قال: إن وجود البرد في أيام الصيف سفه؛ فهذا كفر مخرج عن الملة؛ لأن الرب عز وجل كل أفعاله مبنية على الحكمة وقد لا نستطيع بلوغها بل لا نستطيع بلوغها.

إن من إجلال الله - سبحانه - احترام وتقدير ومحبة ونصرة العلماء، والدعاة، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وأهل الخير والصلاح، ومن استهزأ بهم؛ لأجل تمسكهم بالدين فقط كفر.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِر ِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ [النساء: 160].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله معز من أطاعه ومذل من عصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فالاستهزاء بأصل التشريع كفر؛ والاستهزاء بتطبيق المسلم للشرع كبيرة من الكبائر.

قال الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله-: من الناس ديدنه تتبع أهل العلم لقيهم أم لم يلقهم - مثل قوله: المطاوعة كذا وكذا - فهذا يُخشى أن يكون مرتدًا، ولا ينقم عليهم إلا أنهم أهل طاعة، أما إذا كان مع شخص أو أشخاص فهذا لا ينبغي لكنه أهون من ذلك.

ويقول الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله-: هؤلاء الذين يسخرون من الملتزمين بدين الله فيهم نوع نفاق، لأن الله قال على المنافقين: الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين.

وقال الشيخ صالح البليهي - رحمه الله - في الحرم المكي وقد رفع سواكه: هذا المسواك لو علم شخص أنه من السنة ثم سخر به؛ فإن هذا قد ارتكب أمرًا كفريًا، لأنه إذا سخر بالسنة، يسخر بصاحبها، وإذا سخر بالرسول فإنه قد سخر بالله لأنه أرسل النبي وشرع هذا.

وفي جواب للجنة الدائمة للإفتاء على من قال لآخر: (يالحية) أن الاستهزاء باللحية منكر عظيم؛ فإن قصد القائل (يالحية) السخرية فذلك


كفر، وإن قصد التعريف فليس بكفر ولا ينبغي أن يدعوه بذلك.

وفي جواب للشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله-: على من زعم أن بعض الأحكام الشرعية تحتاج إلى إعادة نظر، وأنها بحاجة إلى تعديل لكونها لا تناسب تطورات العصر مثال ذلك: في الميراث؛ أن للذكر مثل حظ الأنثيين.

يقول - رحمه الله-: الأحكام التي شرعها الله لعباده على لسان نبيه ﷺ‬ كأحكام المواريث والصلوات الخمس والزكاة والصيام ونحو ذلك، مما أوضحه الله لبعاده وأجمعت عليه الأمة؛ ليس لأحد الاعتراض عليه ولا تغييره، لأنه تشريع مُحكم للأمة في زمن النبي ﷺ‬ وبعده إلى قيام الساعة.

فالواجب عمل ذلك عن اعتقاد وإيمان، ومن زعم أن الأصلح خلافه فهو كافر، وهكذا من أجاز مخالفته يعتبر كافرًا لأنه مُعترض على الله وعلى رسوله ﷺ‬ وعلى إجماع الأمة، وعلى ولي الأمر أن يستتيبه إن كان مسلمًا، فإن تاب وإلا وجب قتله كافرًا مرتدًا عن الإِسلام.

وفي جواب للشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - على من يقول: حلق اللحية وتقصير الثوب قشور.

قال: هذا الكلام خطير ومنكر عظيم وليس في الدين قشور، بل كله لُبٌّ وإصلاح، وينقسم إلى أصول وفروع، ومسألة اللحية وتقصير الثوب من الفروع لا من الأصول؛ لكن لا يجوز أن يُسمي شيء من أمور الدين قشورًا، ويُخشى على من قال هذا الكلام منتقصًا ومستهزئًا أن يرتد بذلك عن دينه، لقوله تعالى: ﴿قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [التوبة: 65 ، 66].


والرسول ﷺ‬ هو الذي أمر بإعفاء اللحية وإرخاؤها، وتوفيرها وقص الشوارب وإحفاؤها؛ فالواجب طاعته وتعظيم أمره ونهيه في جميع الأمور.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([54])

الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، تفرد بالخلق والتدبير، وتعالى عن الشبيه والنظير، فاستحق وحده أن يُعبد، أحمده - تعالى - وأشكره، خلقنا ورزقنا، وكفانا وآوانا، وهدانا للإِسلام، واختصنا ببعثة سيد الأنام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل الإِسلام طريق الجنة الأوحد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، من أطاعه فقد اهتدى ورشد، ومن عصاه فلن يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئًا.

أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، فإن من اتقاه كفاه ووقاه، وقربه وأدناه.

أيها المسلمون:

تفرد الله وحده بالعطاء والرزق، وتفضل على عباده بالنعم العظيمة. ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ﴾ [النحل: 53] وليس إعطاء الدنيا لأحد تدل على محبة الله له وكرامته عليه، ومنعها يدل على هوانه عند الله، بل إنه - سبحانه - يُعطي الدنيا لمن يُحب ومن لا يُحب، فهو يرزق جميع خلقه مسلمهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم، بل يرزق الدواب والحيوانات والطيور.

فمن أنعم الله عليه بالنعم وفتح عليه باب الرزق والخيرات، فذلك لامتحانه


أيشكر أم يكفر؟ أيطيع أم يعصي؟ قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: 35].

فالواجب على العباد أن يشكروا الله على نعمه، وأن ينسبوها إلى المُسبب وهو الله - سبحانه-.

فإضافة النعم إلى الأسباب من كفر النعم، الذي هو من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد.

قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي﴾ [فصلت: 50].

يخبر - سبحانه - في هذه الأية الكريمة عن شأن الإِنسان وحاله - إلا من أنار الله قلبه بنور الإِيمان - أنه إذا أتاه - سبحانه - عافية وغنى من بعد مرض أو فقر أصابه جحد نعمة ربه عليه، ونسي المُنعم المسبب المتفضل - سبحانه - واستند إلى الأسباب، فتارة يزعم أنما حصلت له هذه النعمة بكده وكسبه وحوله وقوته، وأخرى يزعم أنه مستحق لها.

وتفاسير السلف للآيتين الكريمتين: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا﴾ [فصلت: 50]، وقوله: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾ [القصص: 78].

ترجع إلى نسيان المُسبب والاستناد إلى الأسباب، وذلك من كفر النعم.

قال قتادة: على علم منِّي بوجوه المكاسب، فيكون العلم عائدًا على الإنسان؛ أي أنني عالم بوجوه المكاسب، ولا فضل لأحد عليَّ فيما أوتيته، وإنما الفضل لي، وعليه يكون هذا كفرًا بنعمة الله وإعجابًا بالنفس.

ومن الأمثلة على كفر النعم: قول الطالب إذا نجح في الامتحان: (نجحت بجدي واجتهادي)، أو كقول بعض التجار: (جمعت ثروة مالي بسبب معرفتي بوجوه البيع والشراء)، أو قول بعض الموظفين: (نلت الترقية بجدي


وتعبي)، أو قول بعض المزارعين إذا طاب ثمره ودنا حصاده: (إن ذلك بكدي وعملي).

والواجب أن يضيف النعم إلى الله، فيقول: (هذا من الله ثم كذا وكذا)، فهو سبحانه الذي تفضل على عباده بتيسير الأسباب لهم، ولو شاء - سبحانه - لمنع السبب الذي فعله العبد من التأثير فلم يصر شيئًا، فهو المُنعم أولاً وآخرًا.

فهو - سبحانه - الذي أنعم على الطالب بالجد والاجتهاد، وهو - سبحانه - الذي أنعم على التاجر بمعرفة وجوه البيع والشراء، وهو - سبحانه - الذي أسبغ على الموظف إتقان عمله والنجاح فيه، وهو - جل وعلا - الذي أنبت الزرع وأقامه، وهدى الإنسان إلى معرفة طرق الزراعة؛ وأفضلها، وأوقاتها وأنواعها.

ومن الناس أيضًا من يقول إذا حصلت له نعمة: (أنا مستحق لها).

والواجب: أن يعلم العبد أنه فقير غير مستحق لشيء على الله، وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء،ـ وربه - تبارك وتعالى - هو المستحق أن يُشكر وأن تنسب النعم إليه.

وكذلك قول بعض الناس إذا حصلت له نعمة: (ربي يُحبني).

والواجب: أن يعلم العبد أن النعمة قد تكون ابتلاء: وهذا القول أيضًا تزكية للنفس؛ وتَقَوُل على الله بغير علم، وقد يكون القائل فاسقًا أو منافقًا؛ وقد ذكر الله ميزان المحبة في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾ [آل عمران: 31].

ومع هذه النعم والخيرات التي يسرها الله - عز وجل - وأعطانا إياها، يجب على العبد تجاه النعم أن يشكر ربه المنُعم على نعمه العظيمة، وآلائه


الجسيمة، وخيراته العميمة، وذلك بثلاثة أمور:

أولاً: بالقلب؛ وشكر القلب الإِقرار بأن جميع النعم من الله؛ يُعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، لا راد لقضائه ولا مانع لفضله، ويكون هذا الإِقرار مستقرًا في قلبه موقنًا به.

الثاني من شكر النعم: ذكرها باللسان وذلك بالثناء على الله بها حمدًا، وشكرًا، وذكرًا.

وثالث أنواع الشكر: الشكر بالجوارح؛ وذلك بالاستعانة بها على طاعة الله - سبحانه - وعدم استغلالها في المعاصي، فنعمة المال من نعم الله التي يجب صرفها في الحلال، نفقة وأخذًا وعطاءً، وبيعًا وشراءً. ومن صرف مال الله الذي أعطاه في الحرام، فقد كفر النعمة وعصى المُعطي، وكذلك نعمة الصحة في الأبدان بالاستعانة بها على طاعة الله ومرضاته والتقرب إليه وكذلك سائر النعم تُستعمل فيما يُرضي الله - عز وجل-.

وفي الحديث عن أبي هريرة - t - أنه سمع رسول الله ﷺ‬ يقول: «إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى، فأراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكًا، فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به، قال: فمسحه فذهب عنه قذره، فأُعطي لونًا حسنًا، وجلدًا حسنًا؛ قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإِبل، - أو البقر شك إسحاق - فأعطي ناقة عشراء، فقال: بارك الله لك فيها؛ قال فأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به، فمسحه فذهب عنه وأعطي شعرًا حسنًا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر أو الإبل، فأعطي بقرة حاملاً، وقال: بارك الله لك فيها، قال: فأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال:


أن يرد الله إلى بصري، فأبصر به الناس، فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: أي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاة والدًا فأنتج هذا وولد هذا، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا واد من الغنم، قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين وابن سبيل؛ قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال، بعيرًا أتبلغ به في سفري، فقال: الحقوق كثيرة، فقال: كأني أعرفك، ألم تكن أبرصًا يقذرك الناس، فقيرًا فأعطاك الله - عز وجل - المال، فقال: إنما ورثت هذا المال كابرًا عن كابر، فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت، قال: ثم إنه أتى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت، قال: ثم إنه أتى الأعمى في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين، وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك وأعطاك المال؛ شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد الله إليَّ بصري، فخذ ما شئت، ودع ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله - عز وجل - قال: أمسك عليك مالك، فإنما ابتُليتم؛ فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك» [رواه البخاري ومسلم].

عباد الله:

القصص الواردة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة ليس المقصود منها مجرد الخبر، بل يقصد منها العبرة والعظة، مع ما تكسب النفس من الراحة والسرور، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ [يوسف: 111]، ومن هذه القصص ما ورد في هذا الحديث. عن ثلاثة فقراء من بني إسرائيل: أبرص، وأقرع، وأعمى، أراد الله - سبحانه أن يختبرهم إذ أتم عليهم نعمته أيشكرون أم يكفرون؟ وإن كان الله عالمًا بما سيكون


منهم، قال تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [الأحزاب: 40]، فأرسل إليهم ملكًا، فأزال ما بهم من العاهات بإذن الله، وأعطاهم ما يشتهون من النعم، ودعا لهم بالبركة فيها.

فكان للأبرص واد من الإِبل، وللأقرع واد من البقر، وللأعمى وادٍ من الغنم، فتمت النعم على هؤلاء من جهة الصحة ومن جهة الغنى.

ثم أرسل الله - جل وعلا - إلى هؤلاء الثلاثة ملكًا يختبرهم ويمتحنهم، متصورًا بصورهم التي كانوا عليها، فسأل كل واحد منهم على حدة شيئًا من المال، مذكرًا لهم بنعم الله عليهم.

فجحد كل من الأبرص والأقرع نعم الله عليهما بنسبتها إلى غيره، ولم يؤديا حق الله فيهما؛ من زكاة، وإطعام جائع، وما شابه ذلك؛ فاستحقا السخط من الله - سبحانه وتعالى-.

واعتراف الأعمى بنعمة الله عليه ونسبها إلى الله، وأدى حق الله فيها، فنال الرضا من الله - سبحانه وتعالى-.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ﴾ [الرعد: 26].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...


الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله - واعرفوا لربكم حقه ونعمه، واشكروها على الوجه الذي يرضيه ولا يسخطه.

أيها المسلمون:

إن نعم الله على عباده كثيرة لا تُحصى ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم: 34] فالواجب الاعتراف بأنها منه وحده وشكره عليها؛ فبالشكر تدوم النعم ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: 7] والحذر من كفران النعم بنسبتها إلى غير المُنعم - تبارك وتعالى-، فبالكفران تزول النعم.

فالأعمى اعترف بنعمة الله عليه، ونسبها إلى من أنعم عليه بها، وأدى حق الله فيها، فاستحق الرضا من الله بقيامه بشكر النعمة، لما أتى بأركانها والإِقرار بها، ونسبتها إلى المُنعم، وبذلها فيما يحب، وكفر صاحباه نعمة الله عليهما، فاستحقا السخط بذلك.

قال ابن القيم - رحمه الله-: الشكر هو الاعتراف بإنعام المُنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة، فمن لم يعرف النعمة لم يشكرها، ومن عرفها ولم يعرف المُنعم بها لم يشكر أيضًا، ومن عرف النعمة والمُنعم لكن جحدها فقد كفرها، ومن عرفها وعرف المُنعم بها وأقر بها، ولكن لم يخضع له ولم يحبه ولم يرض به وعنه لم يشكرها أيضًا، ومن عرفها وعرف المُنعم بها،


وأقر بها وخضع للمُنعم بها وأحبه ورضي به وعنه، واستعملها في رضاه وطاعته، فهذا هو الشاكر لها، فلا بد للشكر من علم القلب وعمل يتبع العلم، وهو الميل إلى المُنعم ومحبته والخضوع له.

وفي هذا الحديث بيان حال من كفر النعم ومن شكرها، فاشكروا ربكم على نعمه العظيمة، وأدوا حقها تنالوا خيري الدنيا والآخرة.

نسأل الله العلي العظيم أن نـكون ممن شكر نعمه العظيمة وقام بحق المُنعم حق قيام.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([55])

الحمد لله عليُّ الذات جليل القدر، عظيم الصفات رفيع الذكر، أحمده - سبحانه - وأشكره، وهو كريم العطاء جزيل الأجر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، - تبارك وتعالى - له الخلق والأمر، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، حاز مراتب الشرف ومنازل الفخر، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه السادة الغرر، والأنجم الزهر، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عز وجل - فاتقوا الله رحمكم الله ﴿وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281] واستعدوا لما أمامكم، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل.

ومن أراد الفلاح فليستبضع بضاعة المتقين، ومن أحبَّ أن يكون الله وليه فالله ولي المتقين، وأكرم الناس عند الله أتقاهم، والآخرة عند ربك للمتقين، الساعي لغير باب الله عاثر القدم، والشاكر لغير نعم الله مسلوب النعم، والعمر محسوب، والعمل مكتوب، والوقت يمر مرَّ السحاب، والموعد يوم الحساب، وربك الرزاق، والعاقبة للتقوى.


عباد الله:

خلق الله الخلق لعبادته، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، أنزل لهم من بركات السماء، وآتاهم من خيرات الأرض، وسخر لهم الدواب، وأوجد لهم البحار وأجرى الأنهار ورزقهم من الطيبات: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [غافر: 62].

وجعل لهم المال والبنون زينة الحياة الدنيا، فهو - سبحانه - الواهب المُنعم، المُتفضل المُعطي: ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا﴾ [الشورى: 49 – 50]، وجعل ذلك كله امتحانًا وابتلاءً ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ [التغابن: 15] الخلق كلهم مُلك لله وعبيد له تحت تصرفه وربوبيته، فيلزمهم عبادته وحده لا شريك له، وتعبيد الأسماء لغير الله؛ كعبد النبي، وعبد الحسين؛ يوهم أن لله شريكًا في عبادته، وذلك شرك أصغر.

والواجب على العبد إذا رزقه الله ولدًا معافى سليمًا، أن يشكر الله على هذه النعمة، وألا يُعبد اسمه إلا لله وحده؛ كعبد الله وعبد الرحمن.

وقد أجاز بعض العلماء التسمية بعبد المطلب استدلالاً بقوله ﷺ‬: «أنا النبي ﷺ‬ لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» [رواه البخاري].

والصحيح تحريم التسمية بعبد المطلب، وأن قوله ﷺ‬: «أنا ابن عبد المطلب» و من باب الإِخبار بأن له جدًا اسمه عبد المطلب، ولم يرد أنه ﷺ‬ سمى عبد المطلب أو أمر أحد صحابته بذلك، والمطلب جد النبي ﷺ‬ كان اسمه (شيبة)، وإنما سُمي عبد المطلب لأنه حينما قدم به عمه (المطلب) إلى مكة حسبه الناس عبدًا له فسموه (عبد المطلب) فاشتهر بهذا الاسم.


عباد الله:

الخلق كلهم ملك لله وعبيد له، استعبدهم لعبادته وحده، وتوحيده في ربوبيته وإلهتيه، والعبودية عبوديتان، عبودية عامة كقوله ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم: 93] وعبودية خاصة بأهل الطاعة والإِخلاص، كما قال تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر: 36].

قال تعالى: ﴿فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الأعراف: 189 ، 190].

عن ابن عباس في الآية قال: لما تغشاها آدم حملت فأتاهما إبليس فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة، لتُطيعاني، أو لأجعلن له قرني أيل فيخرج من بطنك فيشقه، ولأفعلنَّ ولأفعلن يخوفهما، سمياه عبد الحارث، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتًا، ثم حملت فآتاهما، فقال مثل قوله؛ فأبيا أن يطيعاه، ثم حملت فأتهما فذكر لهما، فأدركهما حب الولد فسمياه عبد الحارث، فذلك قوله تعالى ﴿جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا﴾ وله بسند صحيح عن قتادة قال: شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته.

وقال أكثر العلماء: إن الذين جعلوا له شركاء هم المشركون من ذرية آدم وحواء، ولهذا قال: ﴿فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ وهذا هو الصحيح؛ لضعف أثر ابن عباس؛ ولتنزيه آدم وزوجه من الشرك أيًا كان، مما يؤيد ذلك ما قاله ابن القيم: في قوله تعالى ﴿جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا﴾ المشركون من أولادهما ولا يُلتفت إلى غير ذلك مما قيل أن آدم وحواء لا يعيش لهما ولد فآتاهما إبليس فقال: إن أحببتما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث، ففعلا، فإن الله اجتباه وهداه فلم يكن ليُشْرك بعد ذلك.


وقد يقع - عباد الله - بعض الناس في أنواع مخلة بالعقيدة بوجوه مختلفة متنوعة ومن ذلك:

الوجه الأول: أن يعتقد أن الذي أتى بهذا الولد هو الولي الفلاني، والصالح الفلاني، ونحو ذلك؛ فهذا شرك أكبر؛ لأنهما أضافا الخلق إلى غير الله.

ومن هذا أيضًا ما يوجد عند بعض من ينتسب إلى الإسلام؛ فتجد المرأة التي لا يأتيها الولد تأتي إلى قبر الولي الفلاني، كما يزعمون أنه ولي الله والله أعلم بولايته، فتقول: يا سيدي فلان ارزقني ولدًا!!

الوجه الثاني: أن يضيف سلامة المولود ووقايته إلى الأطباء وإرشاداتهم وإلى القوابل وما أشبه ذلك، فيقولون مثلاً: سَلِمَ هذا الولد من الطلق؛ لأن القابلة امرأة متقنة جيدة؛ فهنا أضاف النعمة إلى غير الله، لأنه أضاف النعمة إلى السبب ونسي المسبب وهو الله - عز وجل-.

الوجه الثالث: ألا يشرك من ناحية الربوبية، بل يؤمن أن هذا الولد خرج سالمًا بفضل الله ورحمته، ولكن يشرك من ناحية العبودية؛ فيقدم محبته على محبة الله ورسوله ويلهيه عن طاعة الله ورسوله، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [التغابن: 15].

فاتقوا الله - عباد الله - واشكروا له نعمه وفضله.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ [الشورى: 49 ، 50].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله-، واشكروا لربكم نعمه وأفضاله، وخيره وإنعامه، واحرصوا على شكر ربكم كل حين بالقلب واللسان، وبحسن التربية للأبناء فإنهم أمانه عندكم، قال ﷺ‬: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل رعٍ في أهله وهو مسئول عن رعيته» [رواه البخاري ومسلم].

ومن شكر نعمة الولد القيام بأمرهم نفقة وتربية وإحسانًا.

وأعظم أنواع التربية أمرهم عبادة الله وحده لا شريك له وترسيخ ذلك في قلوبهم، ودعوتهم إلى الصلاة والمحافظة عليها مع جماعة المسلمين في المساجد، قال ﷺ‬: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر» [رواه أحمد].

وكذلك تأديبهم الآداب الإِسلامية، وتعليمهم أمور دينهم، وإبعادهم عن مواطن الخنا والفساد، وعدم جلب المنكرات إليهم في البيوت، أو الذهاب بهم إلى أماكن يُعصى الله عز وجل فيها.

وغالب فساد الأبناء يأتي من جهة إهمال التربية، وعدم القيام بما أوجب الله - عز وجل - من ملاحظتهم وتوجيههم وعدم إضاعتهم فقد أمركم الله ـ


عز وجل - بذلك فقال في كتابه العزيز: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم: 6].

يقول ابن القيم - رحمه الله-: فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدى، فقد أساء غاية الإِساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسُننه، فأضاعوهم صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كبارًا.

وأكثروا من الدعاء لهم بالهداية، والصلاح، والنجاح، والفلاح، فقد كان هذا ديدان الأنبياء والصالحين: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان: 74]، ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: 35].

عباد الله: هذه الرعية أمانة عظيمة حذر الله - عز وجل - من إضاعتها، والتفريط في القيام بحقها، قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً﴾ [الأحزاب: 72].

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([56])

الحمد لله كما حمد نفسه، وكما هو أهله ومستحقه، وكما حمده الحامدون من جميع خلقه، وأستعينه استعانة من فوض إليه أمره، وأقر أنه لا منجا ولا ملجأ إلا إليه، وأستغفره استغفار مقر بذنبه، معترف بخطيئته، وأشكره على سابغ نعمته وعظيم منته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقرارًا بربوبيته وإخلاصًا له في وحدانيته، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، خيرته من بريته، ائتمنه على وحيه واصطفاه لرسالته، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى صحابته والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله ﷺ‬ وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، والزموا التقوى في سركم وعلانيتكم، وعظموا ربكم واتقوه، فإنه - سبحانه - عليم بأحوالكم، مطلع على سرائركم ناظر إليكم، ثم يجازيكم على أعمالكم إن خيرًا فخيرًا، وأن شرًا فشرًا.

أيها المسلمون:

لله - سبحانه وتعالى - أسماء قد بلغت الغاية في الحسن؛ فليس في لأسماء أحسن منها ولا أكمل، ولا يقوم غيرها مقامها؛ لأنها متضمنة لصفات كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه.


ومن أسمائه: الرحمن، الرحيم، السميع، البصير، العليم، العزيز، القدير.

«فالرحمن الرحيم»: يدلان على كمال الرحمة، والسميع: يدل على كمال السمع، والبصير: يدل على كمال البصر...

وقد أمر الله - سبحانه - عباده بأن يدعوه فقال: ﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ فهم فقراء محتاجون إليه، وهو غني كريم مجيب قدير، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، خزائنه لا تنفد، ولا تنقص بالعطاء.

فعلينا أن ندعوه - سبحانه - بخيري الدنيا والآخرة، ونتحرى أوقات الإِجابة، ونبتعد عن موانعها من أكل الحرام وغيره.

ويشرع التوسل بأسماء الله وصفاته والعمل الصالح عند الدعاء، بل إن ذلك من أسباب الإِجابة.

ودليل التوسل بالأسماء: ما ورد في الحديث عنه ﷺ‬: «اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن كفوًا أحد» [رواه النسائي].

ودليل التوسل بالصفات أنه ﷺ‬ إذا أصابه هم أو غم قال: «يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث» [رواه الحاكم].

ودليل التوسل بالعمل الصالح قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار، فتوسل كل واحد منهم بصالح عمله ففرج الله عنهم.

وقد بين ﷺ‬: «أن لله تسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة».

ومعنى أحصاها: الإِحاطة بها لفظًا، وفهمها معنى، والتعبد لله بمقتضاها، ولذلك وجهان:


الأول: أن تدعو الله بها لقوله سبحانه: ﴿فَادْعُوهُ بِهَا﴾ وذلك بأن تجعلها وسيلة إلى مطلوبك، فتختار الاسم المناسب لمطلوبك، فعند سؤال المغفرة والرحمة تقول: «يا غفور يا رحيم اغفر لي وارحمني» وكقول: «رب اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» وعند سؤال الشفاء: «يا شافي اشفني» وهكذا.

الثاني: أن تتعرض في عبادتك لما تقتضيه هذه الأسماء، فمثلاً: أسماء الله «السميع والعليم والرقيب» تملأ القلب مراقبة لله في الحركات والسكنات، فلا يقول المرء أو يفعل إلا ما يُرضي الله فإذا كان كذلك كان جديرًا بأن يكون ذلك ثمنًا لدخول الجنة.

عباد الله:

الأسماء الحسنى ليست منحصرة في تسعه وتسعين لحديث: «أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك» والحديث جملة واحدة، وقوله: «من أحصاها دخل الجنة» صفة لا خبر مستقل؛ لئلا يتوهم الحصر بالتسعة والتسعين اسمًا، فلا تدخل تحت حصر ولا تحد بعدد، والمعنى: له - سبحانه - أسماء متعددة من شأنها أن من أحصاها دخل الجنة، وهذا لا ينفي أن يكون له أسماء غيرها، والتسعة والتسعين واردة في الكتاب والسنة.

وقد حذر الله - عز وجل - من الإلحاد في أسمائه، فقال تعالى: ﴿وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 180].

ومعنى الإِلحاد في أسماء الله: هو الميل بها عما يجب فيها، وهو أنواع منها:

أولاً: تسمية الأصنام بأسماء الله كما يفعل المشركون، حيث سموا اللات


من الإِله، والعزى من العزيز.

ثانيًا: تسمية الله - سبحانه وتعالى - بما لا يليق بجلاله، كتسمية النصارى له أبًا - تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.

ثالثًا: وصفه - تعالى - بما يتعالى عنه ويتقدس، من النقائص، كقول اليهود: ﴿إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ﴾ [آل عمران: 181] وقولهم: ﴿يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة: 64].

رابعًا: إنكار شيء من الأسماء، أو مما دلت عليه من الصفات أو الأحكام.

وقد أمر - سبحانه - بالإِعراض عن مجادلة الذين يميلون بهذه الأسماء الجليلة إلى غير الوجهة السليمة، وأخبر أنهم سيلقون جزاءهم الرادع: ﴿سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.

فالواجب على العبد المسلم أن يتعرف على الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، ويدعوه ويتوسل إليه بها، وأن يحذر من سلوك طريق أهل الإِلحاد والضلال في أسماء الله وصفاته.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 180].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

أيها الناس، اتقوا الله حق تقواه، فإن الله خلقكم لمعرفته وعبادته، فطوبى لمن قام بحق مولاه، فحقه عليكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شركًا خفيًا ولا جليًّا، وأن تحققوا المتابعة والإِخلاص، ويكون الله وحده لكم ناصرًا ووليًا؛ تقربوا إليه بالأعمال الصالحة؛ وتحببوا إليه بإجابة أوامره، والابتعاد عن نواهيه، وادعوه وتوسلوا إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، وتداركوا أعماركم بالتوبة النصوح، وإصلاح الأعمال قبل اخترام النفوس وحضور الآجال، قبل أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله؛ وطاعة ذي الجلال، كيف تغترون بالدنيا وقد أمدكم بعمر يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير، وقد علمتم أن الأجل ينطوي، والإنسان في كل لحظة يرحل ويسير، يا عجبًا لنا! نضيع أوقاتنا وهي أنفس ما لدينا باللهو والبطالات، وقد جعلنا الدنيا دار قرار، وإنما هي دار العمل والتزود واغتنام الخيرات، يا عجبًا تستوفي جميع مراداتك من مولاك، ولا تستوفي حقه عليك وأنت متبع لهواك، وتعرض عن مولاك وقت الرخاء والسراء، وتلجأ إليه حين تصيبك الضراء أكرمك وقدمك على سائر المخلوقات، فقدمه في قلبك وقد حقه على كل المرادات، من أقبل على ربه تلقاه، ومن ترك لأجله وخالف هواه عوضه خيرًا مما تركه ورضي عنه مولاه، ومن قدم


رضا المخلوقين على رضاه فقد خسر دينه ودنياه، ومن أعرض عن ذكره فإن له معيشة ضنكًا، وذلك بما قدمت يداه، ومن توكل عليه صادقًا من قلبه يسر له أمره وقواه.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([57])

الحمد لله خلق خلقه أطوارًا، وصرفهم كيف شاء سبحانه عزة واقتدارًا، أنزل عليهم كتبه، وأرسل إليهم رسله إعذارًا وإنذارًا، أحمد ربي وأستغفره إنه كان غفارًا، وأثني عليه بما هو أهله وأشكره، أسبغ علينا نعمه مدرارًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من يرجو لله وقارًا، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، نصب به الدليل وأنار به السبيل؛ فتبدلت الظلمات أنوارًا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ كانوا على الهدى أعلامًا وعلى الحق منارًا، رضي الله عنهم وأرضاهم مهاجرين وأنصارًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما أعقب ليل نهارًا.

أما بعد:

فيا عباد الله: اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أجسامكم وأقدامكم على النار لا تقوى، وعليكم بجماعة المسلمين، الزموهم ولا تفارقوهم، واعلموا أن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.

أيها المسلمون:

السلام سُنة قديمة منذ عهد آدم - u - إلى قيام الساعة، وهي تحية أهل الجنة: ﴿تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ﴾ [إبراهيم: 23] وهي من سنن الأنبياء، وطبع الأتقياء وديدن الأصفياء، وفي هذه الأيام أصبح بين بعض الناس وحشة


ظاهرة وفرقة واضحة! فترى أحدهم يمر بجوار أخيه المسلم ولا يلقي عليه تحية الإِسلام، والبعض يُلقي السلام على من يعرف فقط، وآخرون يتعجبون أن يلقى عليهم السلام من أناس لا يعرفونهم!

وهذا كله من مخالفة أمر الرسول ﷺ‬ حتى تباعدت القلوب، وكبرت الجفوة، وزادت الفرقة، يقول ﷺ‬: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» [رواه مسلم].

وفي الحديث المتفق عليه، أن رجلاً سأل رسول الله ﷺ‬: أي الإِسلام خير؟ قال: «تُطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف».

وفي هذا حث على إشاعة السلام بين المسلمين، وأنه ليس مقتصرًا على معارفك وأصحابك فحسب! بل للمسلمين جميعًا.

وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يغدو إلى السوق ويقول: إنما نغدو من أجل السلام، فنُسلم على من لقيناه.

إن الإِسلام دين الألفة والمحبة والتعاون والتعاضد، فالمسلمون كالجسد الواحد يشد بعضه بعضًا ويتألم بعضه لبعض، فهم أمة مترابطة متكاتفة، وجعل - سبحانه - لهذه الرابطة وسائل وطرق تقويها وتحييها، وتجدد ما تطاولت به الأيام من الفراق والبعد؛ وتبدأ بأول لحظة في اللقاء؛ ألا وهو إشاعة السلام، لينعم المسلم بالأمن والطمأنينة.

فالسلام تحية أهل الإِسلام في الدنيا والآخرة تحية أهل الإِسلام في الدنيا: السلام عليكم، وقد أمروا بإفشائها؛ لأن ذلك من أسباب الألفة والمحبة بينهم، وهي تحية الرب - جل جلاله - لأهل الجنة، قال تعالى: ﴿سَلاَمٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ [يس: 58].


والسلام المُلقى عند التحية معناه: دعاء الله بطلب السلامة من الشرور للمُسلم عليه.

والسلام من أسماء الله الحسنى، قال تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ﴾ [الحشر: 23]، وثبت عنه ﷺ‬ أنَّه كان إذا انصرف من الصلاة المكتوبة استغفر ثلاثًا، وقال: «اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإِكرام» [رواه مسلم].

عباد الله:

في الصحيح عن ابن مسعود - t - أنه قال: كنا إذا كنا مع رسول الله ﷺ‬ في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان. فقال النبي ﷺ‬: «لا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام».

ومعنى هذه الاسم العظيم (السلام) أي: السالم من النقائص والعيوب.

يخبر ابن مسعود - t - أنهم كانوا قبل أن يُفرض عليهم التشهد في الصلاة يقولون: (السلام على الله من عباده، السلام على جبريل وميكائيل)، فنهاهم ﷺ‬ بقول: «لا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام».

إن قول: «السلام على الله» من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد والحكمة في ذلك:

إن الله - سبحانه - سالم في ذاته من كل نقص وعيب، وهذه المقولة (السلام على الله) توهم نقصًا ينزه الله عنه.

إن الله - سبحانه - مسلِّم لغيره، فالعباد فقراء محتاجون إليه يسألون السلامة من الشرور، أما الله - سبحانه - فهو غني لا يحتاج لأحد.


والله هو المطلوب منه، لا المطلوب له، وهو المدعو لا المدعو له، وهو الغني له ما في السموات وما في الأرض، وهو السالم من كل تمثيل ونقص، وكل سلامة ورحمة له ومنه، وهو مالكها ومعطيها، استحال أن يُسلَّم عليه - سبحانه-، بل هو المُسلِّم على عباده، فهو السلام ومنه السلام، لا إله غيره، ولا رب سواه.

فعلى العبد تعظيم ربه وتنزيهه عن كل ما لا يليق به، ومن تعظيمه ألا يقال: (السلام على الله)، فالواجب الحذر من ذلك.

عباد الله:

إن من ثمرات طاعة الله ورسوله أن المطيع المتقي تُصيبه دعوة كل مصلٍ على وجه الأرض؛ والعاصي قد حرم نفسه من هذا الدعاء بسبب ذنوبه، قال ﷺ‬: «إذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل: التحيات لله والصلوات الطيبات؛ السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته؛ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد لله صالح في السماء والأرض» [رواه البخاري].

فاحرصوا - رحمكم الله - على طاعة ربكم، وأشيعوا السلام بينكم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا﴾ [الأحزاب: 44].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله - عز وجل-، له الأمر ومنه الخير، تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تقدست أسماؤه وتباركت آلاؤه، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، أعزَّ نفسه بالخضوع لربه، وأعلى مكانته بالتواضع لجلال خالقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد عباد الله:

السلام يدل على تواضع المسلم ومحبته لغيره، وينبئ عن نزاهة قلبه من الحسد والحقد والبغض والكبر والاحتقار، وهو من حقوق المسلمين بعضهم على بعض، ومن أسباب حصول التعارف والألفة وزيادة المودة والمحبة، وهو من أسباب تحصيل الحسنات ودخول الجنات، وفي إشاعته إحياء لسنة المصطفى ﷺ‬.

قال - عليه الصلاة والسلام-: «خمس تجب للمسلم على أخيه: رد السلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، واتباع الجنائز» [رواه مسلم].

قال أنس - t - لابنه: إذا دخلت بيتك فسلِّم على أهلك؛ تكن بركة عليك وعلى أهل بيتك.

وأفضل صيغ السلام، أن يقول المسلم: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» وأجرها ثلاثون حسنة؛ ويليها قول: «السلام عليكم ورحمة الله»


وأجرها عشرون حسنة؛ ويليها قول: «السلام عليكم» بعشر حسنات؛ كما جاء في الحديث.

وإذا سلَّم عليكم أهل الكتاب، فقولوا: وعليكم.

والواجب على من أُلقي عليه السلام أن يرد امتثالاً لأمر الرسول ﷺ‬، فعن أبي سعيد الخدري - t - أن النبي ﷺ‬ قال: «إذا أبيتم إلا المجلس، فأعطوا الطريق حقه» قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: «غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» [متفق عليه].

قال الإمام النووي - رحمه الله-: واعلم أن ابتداء السلام سنة، ورده واجب، وإن كان المُسلِّم جماعة فهو سنة كفاية في حقهم، وإذا سلَّم بعضهم حصلت سنة السلام في حق جميعهم، فإن كان المسلِّم عليه واحدًا تعين عليه الرد، وإن كانوا جماعة كان الرد فرض كفاية في حقهم، فإن رد واحد منهم سقط الحرج عن الباقين، والأفضل أن يبتدئ الجميع بالسلام وأن يرد الجميع.

فأفشوا السلام بينكم عباد الله، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([58])

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70 ، 71].

أما بعد:

فاتقوا الله - أيها المسلمون - اتقوه في السر والعلن، فإن تقوى الله - عز وجل - سبب الأمن في الدنيا والهداية في الآخرة: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82].

أيها المسلمون:

الدعاء عبادة عظيمة وحبل موصول، وعروة وثقى مع الله - عز وجل-.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله-: فالأمور كلها وإن كانت


بمشيئة الله وإرادته، فالمطالب الدينية: كسؤال الرحمة والمغفرة، والمطالب الدنيوية المعينة على الدين: كسؤال العافية والرزق وتوابع ذلك، قد أُمر العبد أن يسألها من ربه طالبًا ملحًا جازمًا، وهذا الطلب عين العبودية ومخها، ولا يتم ذلك إلا بالطلب الجازم الذي ليس فيه تعلق بالمشيئة، لأنه مأمور به، وهو خير محض لا ضرر فيه، والله - تعالى - لا يتعاظمه شيء.

وبهذا يظهر الفرق بين هذا وبين سؤال بعض المطالب المعينة التي لا يتحقق مصلحتها ومنفعتها، ولا يجزم أن حصولها خير للعبد، فالعبد يسأل ربه، ويعلقه على اختيار ربه له أصلح الأمرين؛ كالدعاء المأثور: «اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرًا لي» وكدعاء الاستخارة، فافهم هذا الفرق اللطيف البديع بين طلب الأمور النافعة المعلوم نفعها وعدما ضررها، وأن الداعي يجزم بطلبها ولا يُعلقها، وبين طلب الأمور التي لا يدري العبد عن عواقبها، ولا رجحان نفعها على ضررها؛ فالداعي يُعلقها على اختيار ربه الذي أحاط بكل شيء علمًا وقدرة ورحمة ولطفًا.

وللدعاء - عباد الله - فضائل ومزايا عديدة، منها:

أولاً: أن الله - عز وجل - أمر بالدعاء: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60] وقال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة: 186].

ثانيًا: الدعاء هو العبادة، كما في قول النبي ﷺ‬: «الدعاء هو العبادة» [رواه أبو دود والنسائي].

ثالثا: الدعاء يرد البلاء ويدفعه، قال ﷺ‬: «إن الدعاء ينفع مما نزل، ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء» [رواه الترمذي].

رابعًا: المعية الخاصة من الله عز وجل لمن دعاه، قال ﷺ‬: «إن الله - تعالى


- يقول: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني» [رواه مسلم].

خامسًا: لا يرد القضاء إلا الدعاء كما قال ﷺ‬.

عباد الله:

في الصحيح عن أبي هريرة - t - أن رسول الله ﷺ‬ قال: «لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة فإن الله لا مُكره له».

ولمسلم: «وليُعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعاطه»، أي: ليسأل ما شاء من قليل وكثير، ولا يقل: هذا كثير، لا أسأل الله إياه، فهو الجواد الكريم، بيده خزائن السموات والأرض.

نهى ﷺ‬ عن تعليق الدعاء بالمشيئة مثل قول: (اللهم اغفر لي إن شئت) لأن ذلك يدل على فتور الرغبة، وقلة الاهتمام بالمطلوب وينبئ عن قلة اكتراثه بذنوبه ورحمة ربه.

وأمر بأن يجزم العبد في طلبه ويوقن الإِجابة، والعلة في تحريم تعليق الطلب من الله على المشيئة:

أن تعليق الدعاء يشعر بأن الله له مكره، وهو - سبحانه - لا مُكره له فعال لما يريد، يحكم ما يشاء لا مُعقب لحكمه.

وكذلك أنه يشعر بأن هذا أمر عظيم على الله وهو - سبحانه - الذي لا يتعاظمه شيء؛ فهو رب الأرض والسموات غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب بيده مقاليد الأمور.

ومن ذلك أيضًا أنه يُشعر باستغناء العبد عن الله، والعبد لا غنى له عن الله أبدًا، وهو - سبحانه - الغني الحميد، والإنسان ينبغي أن يدعو الله - تعالى - وهو يشعر أنه مفتقر إليه غاية الافتقار، وأن الله قادر على أن يُعطيه ما سأل.


ومن الأمثلة من تعليق الدعاء بالمشيئة: ما يدور على ألسنة الناس كقول: (اللهم اهدني إن شئت) أو كقول: (اللهم اجعله في موازين حسناتي إن شئت)... وكل ذلك من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد.

أما قوله ﷺ‬ للمريض: «لا بأس طهور إن شاء الله» [رواه البخاري].

فهذا من باب الخبر لا من باب الدعاء؛ إذ أن الدعاء لا بد من الجزم فيه.

وللدعاء - عباد الله - آداب يجب مراعاتها والأخذ بها ومنها:

أولاً: الجزم فيه واليقين على الله بالإِجابة: لقوله ﷺ‬: «إذا دعا أحدكم فلا يقل: الله اغفر لي إن شئت، ارحمني إن شئت، ارزقني إن شئت، وليعزم مسألته، إنه يفعل ما يشاء لا مكره له» [رواه البخاري ومسلم].

ثانيًا: حضور القلب وعدم الغفلة عند الدعاء، كما قال - عليه الصلاة والسلام-: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه» [رواه الترمذي].

ثالثًا: الدعاء في كل الأحوال، لقوله ﷺ‬: «من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب، فليكثر الدعاء في الرخاء» [رواه الترمذي].

ومن آداب الدعاء أيضًا: أن يخفض صوته بين المخافتة والجهر، وأن يسأل الله - عز وجل - بأسمائه الحسنى، ويثني عليه، ويصلي ويسلم على رسول الله ﷺ‬، وأن يتوخَّى أوقات الإِجابة، ولا يتكلف السجع في الدعاء، وأن يكون مستقبلاً القبلة، رافعًا يديه، متوضئًا قبله، مع إظهار الافتقار والضعف والشكوى إلى الله - عز وجل-.

والله سبحانه - يجيب دعاء من دعاه ولكن قد يؤخر الإِجابة لحكمة بالغة: ليُكثر العبد من دعاء خالقه وخشوعه بين يديه؛ ليحصل له بهذا من خير العظيم وصلاح القلب ما هو أنفع له من حاجته، وقد يؤخرها لوقوع العبد


في المعاصي، كعقوق الوالدين، وأكل الحرام، فعلى العبد أن يبادر إلى التوبة؛ رجاء أن يقبل الله توبته ويجيب دعوته، وقد يؤخرها الله - سبحانه - لحكم أخرى هو أعلم بها، كما في الحديث عنه ﷺ‬: «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها» قالوا: إذًا نُكثر، قال: «الله أكثر» أي: أكثر إحسانًا مما تقولون [رواه أحمد].

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...


الخطبة الثانية

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، - سبحانه - له الحمد في الآخرة والأولى، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عالم السر والنجوى، وأشهد أنَّ محمدًا عبده المصطفى ورسوله المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله الشرفاء وصحبه النجباء، والتابعين أولي النهى، ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد عباد الله:

فمن موانع الإجابة:

الإِستعجال في الدعاء، فإن الرسول ﷺ‬ يقول: «يُستجاب للعبد ما لم يَدْعُ بإثم أو قطعية رحم ما لم يستعجل» قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: «يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك ويَدَعُ الدعاء» [رواه مسلم].

ومن موانع الإِجابة أيضًا: أكل الحرام من ربا ورشوة وسرقة وأكل مال اليتيم، وأكل الحقوق الغير،ـ والتعدي على أموال الناس، وأخذ حقوق الخدم والأجراء، وكذلك خيانة الأمانة، يقول ﷺ‬ في الرجل الذي يمد يديه إلى السماء ويقول: «يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّي بالحرام؛ فأنى يستجاب لذلك» [رواه مسلم].


ومن موانع الإجابة: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لحديث الرسول ﷺ‬: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا من عنده ثم لتدْعُنَّه فلا يستجيب لكم» [رواه أحمد].

سُئل إبراهيم بن أدهم: ما بالنا ندعو فلا يُستجاب لنا؟ فقال: لأنكم عرفتم الله فلم تطيعوه، وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنته، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به، وأكلتم نعم الله فلم تؤدوا شكرها، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها، وعرفتم النار فلم تهربوا منها، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([59])

الحمد لله، ذي البطش الشديد، يبدئ ويعيد، وهو الغفور الودود، ذي العرش المجيد، فعال لما يريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العزيز الحميد، الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى التوحيد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، صلاة وسلامًا لا يزالان على الجديدين في تجديد.

أما بعد:

فيا - أيها المسلمون-، اتقوا الله فإن تقواه خير عاصم من القواصم، وخير مانع من المصارع والقوامع: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

عباد الله:

كرَّم الله - عز وجل - ابن آدم وشرفه، وخلقه في أحسن الهيئات وأكملها؛ قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء: 70]، وقال - سبحانه وتعالى - في الآية الأخرى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: 4].

فهو - سبحانه - رب الخلق أجمعين، المتصرف فيهم المدبر لشئونهم، وهم عبيد له، قال تعالى: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾.

والعبودية لله - عز وجل - على قسمين: الأول منها: عبودية عامة، وهي


لجميع المخلوقات؛ برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم؛ فهم تحت قهر الله - سبحانه - ومشيئته، قال تعالى: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم: 93].

الثاني: من أنواع العبودية: عبودية خاصة؛ وهي لأتباعه، كما قال تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر: 36].

في الصحيح عن أبي هريرة - t - أن رسول الله ﷺ‬ قال: «لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي، وليقل فتاي وفتاتي وغلامي».

نهى ﷺ‬ عن إطلاق ربوبية إنسان لإنسان كقول المملوك لسيده: ربي؛ لأنَّ الله هو الرب المالك المتصرف.

أو إطلاق عبودية إنسان لإنسان كقول: عبدي وأمتي؛ لأن الله هو المعبود وحده لا شريك له.

فالتلفظ بهذه الألفاظ من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد؛ لأنها تُوهم الشرك، وفيها إساءة أدب مع الله - سبحانه-.

وأرشد ﷺ‬ إلى اللفظ السليم الذي لا إيهام فيه، فيعدل المملوك عن قول: ربي إلى قول: سيدي ومولاي، ويعدل السيد عن قول: عبدي وأمتي إلى قول: فتاي وفتاتي وغلامي، وهذا حماية منه ﷺ‬ للتوحيد وحفاظًا على العقيدة.

أنّ الواجب على العبد التأدب مع الله - سبحانه-، وذلك بالبعد عن الألفاظ التي توهم الشرك.

وأما ما لا تعبد عليه من سائر الحيوانات والجماد فلا يمنع منه كقوله: رب الدار، ورب الدابة.


قال ابن القيم - رحمه الله-: وأما الشرك فنوعان: أكبر وأصغر، فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله ندًا يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي يتضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، ولهذا قالوا لآلهتهم في النار: ﴿تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: 97 ، 98] مع إقرارهم بأن الله هو الخالق وحده، خالق كل شيء ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تحيي ولا تميت، وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة، كما هي حال أكثر مشركي العالم، بل كلهم يحبون مبعوديهم ويعظمونها ويوالونها من دون الله، وكثير منهم بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده، ويغضبون إذا انتقص أحد معبودهم وآلهتهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين، وإذا انتقص حرمة من حرمات آلهتهم ومعبوداتهم غضبوا غضب الليث إذا حرب، وإذا انتهكت حرمات الله لم يغضبوا لها، بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئًا رضوا عنه ولم تنكر له قلوبهم، وقد شاهدنا هذا منهم نحن وغيرنا، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله على لسانه: إن قام، وإن قعد، وإن عثر، وإن مرض، فذكر إلهه ومعبوده من دون الله هو الغالب على لسانه، وهو لا ينكر ذلك، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ووسليته إليه، وهكذا كانوا هم وعُباد الأصنام سواء.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 54].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....


الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا يحول سلطانه ولا يزول، مستو على عرشه وباقٍ في ملكه وعروش الملوك دونه تتبدل والمماليك تدول، ثم إليه الخلائق بعد ذلك ترجع وتـئول، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وحده الخالق المسئول، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خير نبي وأكرم رسول، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله-، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.

أيها المسلمون:

تحقيق التوحيد تهذيبه وتصفيته من الشرك الأكبر والأصغر، ومن البدع القولية الاعتقادية، والبدع الفعلية العملية، ومن المعاصي، ويكون بكمال الإِخلاص لله في الأقوال والأفعال والإِرادات، وبالسلامة من الشرك الأكبر المناقض لأصل التوحيد، ومن الشرك الأصغر المنافي لكماله، وبالسلامة من البدع التي تقدح في التوحيد، والمعاصي التي تنقص التوحيد وتمنع كماله، وتعوقه عن حصول آثاره.

فمن حقق توحيده بأن امتلأ قلبه من الإيمان والتوحيد والإِخلاص، وصدقته الأعمال بأن انقادات لأوامر الله طائعة منيبة مخبتة إلى الله، ولم يجرح ذلك بالإِصرار على شيء من المعاصي، فهذا الذي يدخل الجنة بغير حساب، ويكون من السابقين إلى دخولها وإلى تبوُء المنازل منها.


ومن أخص ما يدل على تحقيقه: كمال القنوت لله وقوة التوكل على الله، بحيث لا يلتفت القلب إلى المخلوقين في شأن من شئونه، ولا يستشرف إليهم لقلبه، ولا يسألهم بلسان مقاله أو حاله، بل يكون ظاهره وباطنه، وأقواله وأفعاله وحبه وبغضه، وجميع أحواله كلها مقصودًا بها وجه الله، متبعًا فيها رسول الله.

والناس في هذا المقام العظيم درجات: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ﴾ [الأنعام: 132]، وليس تحقيق التوحيد بالتمني ولا بالدعاوي الخالية من الحقائق، ولا بالحلي العاطلة، وإنما ذلك بما وقّر في القلوب من عقائد الإِيمان وحقائق الإِحسان وصدقته الأخلاق الجميلة والأعمال الصالحة الجليلة.

جعلني الله وإياكم ممن حقق التوحيد وفاز برضا رب العالمين.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([60])

الحمد لله، أرشد وهدى، ووفق من شاء من عباده للهدى، ومن أضل فلن تجد له وليًا مرشدًا، أحمده سبحانه وأشكره، لا تحصى آلاؤه عددًا ولا تنقطع فضائله مددًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا أشرك به أحدًا، وأشهد أن نبينًا محمدًا عبد الله ورسوله كرم رسولاً وشرف محتدًا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله أنوار الدجى وأصحابه مصابيح الهدى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان صلاةً وسلامًا وبركات دائمات أبدًا سرمدًا.

أما بعد:

فاتقوا الله حق التقوى واستمسكوا من الإِسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أقدامكم وأجسامكم على النار لا تقوى، فاستعدوا لما أمامكم، وانتبهوا من غفلتكم.

عباد الله:

نفع الناس والسعي في كشف كروبهم من صفات الأنبياء والرسل، فالكريم يوسف - u - مع ما فعله إخوته من الإِضرار به وإلقائه في البئر، إلا أنه أحسن إليهم وجهزهم بجهازهم، ولم يبخسهم شيئًا منه.

وموسى كليم الله - u - لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون، ووجد من دونهم امرأتين مستضعفتين، أحسن إليهما فرفع الحجر عن البئر وسقى لهما حتى رويت أغنامهما.


وخديجة - رضي الله عنها - تقول في وصف نبينا محمد ﷺ‬: «إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق» [رواه البخاري].

وأشرف الخلق محمد ﷺ‬ إذا سُئل عن حاجة لم يرد السائل عن حاجته، يقول جابر - t-: «ما سُئل رسول الله ﷺ‬ شيئًا قط، فقال: لا» [رواه البخاري في الأدب المفرد».

أما نبلاء الإسلام وأعلام الأمة فشأنهم قضاء الحوائج، يقول ابن القيم عن ابن تيمية - رحمهما الله-: كان شيخ الإِسلام يسعى سعيًا شديدًا لقضاء حوائج الناس.

بهذا جاء الدين: علم وعمل، عبادة ومعاملة.

بل والإِحسان يمتد إلى الحيوان، فقد قال ﷺ‬: «إن امرأة بغيًا، رأت كلبًا في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموقها فغفر لها» [رواه مسلم].

وعلى عكس؛ ذلك ها هي امرأة تعدت وظلمت: عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله ﷺ‬ قال: «عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعًا، فدخلت فيها النار» قال: فقال: - والله أعلم-: «لا أنت أطعمتها ولا سقيتها حين حبستها، ولا أنت أرسلتها فأكلت من خشاش الأرض» [رواه البخاري].

أيها المسلمون:

روى أبو داود والنسائي في الحديث عن النبي ﷺ‬ أنه قال: «من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه».


اشتمل هذا الحديث على وصايا عظيمة فيها تعظيم لحق الله - سبحانه - وتعظيم لحق المسلم، فتعظيم أمر الله - سبحانه - بأمرين:

إعاذة من استعاذ بالله بأن قال: أعوذ بالله من شَرِّكَ، أو شر فلان، فامنعوا الشر منه، وكفوا عنه، تعظيمًا لله - سبحانه-، وذلك من تحقيق التوحيد الواجب، ولما قالت الجونية لرسول الله ﷺ‬: أعوذ بالله منك، قال: «لقد عذت بمعاذ، الحقي بأهلك» [رواه البخاري].

إعطاء من سأل بالله؛ فإن سأل ما هو حق كالزكاة؛ فالواجب إعطاؤه تعظيمًا لله - سبحانه وتعالى - وذلك من تحقيق التوحيد الواجب، أما من سأل بالله ما ليس بحق له؛ كأن يسأل مالاً أو متاعًا وهو ليس محتاجًا ولا مضطرًا فإعطاؤه مسألته من تعظيم الله - سبحانه-؛ وذلك من تحقيق التوحيد المستحب.

والواجب على السائل تعظيم السؤال بالله، فلا يسأل بالله إلا عند الحاجة.

أما سؤال الخلق بوجه عام؛ فيحرم سؤال الناس المال إلا للضرورة، أما سؤال المعونة بالجاه أو البدن فمكروه إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك لما في المسألة من التذلل لغير الله.

إن من تعظيم الله - سبحانه - وإجلاله أن لا يرُد من استعاذ بالله أو سأل بالله؛ لأنَّ من سأل بالله سأل بعظيم، ومن استعاذ بالله فقد استعاذ بعظيم، والقلب المُعظم لله لا يرد هذا ولا هذا؛ تعظيمًا وإجلالاً له، وهذا من تحقيق التوحيد.

أما تعظيم حق المسلم في الحديث فذلك بأمور:

إجابة دعوته لقوله ﷺ‬: «ومن دعاكم فأجيبوه ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه».

أي: من دعاكم إلى طعام فأجيبوه، والحديث أعم من الوليمة وغيرها،


وهو يدل على الوجوب إلى وليمة العرس وغيرها، وإن كانت وليمة العرس أوكد وأوجب، وإن كان يقصد إلزامه بالقسم وجبت إجابته، أو إكرامه فلا تجب عليه، وقال - عليه الصلاة والسلام-: «ولو دعيت إلى كراع لأجبت» ومن حقوق المسلمين بعضهم على بعض إجابة دعوة المسلم، وتلك من أسباب الألفة والمحبة بين المسلمين، وإكرام الداعي ما لم يكن منكرًا أو يجر إلى منكر.

وشروط إجابة الدعوة: أن يكون الداعي ممن لا يجب هجره أو يسن، وألا يكون هناك مُنكر في مكان الدعوة، فإن كان هناك منكر فإن أمكن إزالته وجب عليه الحضور، وأن يكون الداعي مُسلمًا، وألا يكون كسبه حرامًا، وألا يتضمن إجابته إسقاط واجب أو ما هو أوجب منه، وألا تتضمن ضررًا على المجيب.

وتجب إجابة الدعوة لوليمة العرس إذا لم يكن فيها منكر لقوله ﷺ‬: «من لم يُجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله» [رواه مسلم].

والأمر الآخر لتعظيم حق المسلم: مكافأة صانع المعروف؛ والمعروف اسم جامع للخير، أي من أحسن إليكم أي إحسان فكافئوه على إحسانه بمثله أو خير منه؛ لأن المكافأة على المعروف من المروءة التي يحبها الله ورسوله، وفيها السلامة من البخل ومذمته، ولا يهملها إلا اللئام، وبعضهم يكافئ على الإحسان بالإِساءة، بخلاف أهل التقوى والمروءة، فإنهم يدفعون السيئة بالحسنة، طاعة لله ومحبة لما يحبه لهم ويرضاه، والمكافأة تُخلص القلب من رق وإحسان الخلق، ولا شك أنك إذا لم تكافئ من صنع إليك معروفًا بقي في قلبك له نوع تأله، فشرع قطع ذلك بالمكافأة ولو كافرًا، وهو أولى من مكافأة المسلم، إذ منَة المسلم أسلم من منة الكافر، ويدل له


قوله ﷺ‬: «من أحسن إليكم فأحسنوا إليه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له، حتى تروا أنكم قد كافأتموه» [رواه أبو داود والنسائر بسند صحيح].

أي: فإن لم تقدروا على مكافأته فادعوا له، أي: بالغوا في الدعاء له جهدكم حتى تحصل المكافأة، أرشدهم ﷺ‬ إلى أن الدعاء في حق من لم يجد المكافأة يقوم مقام المكافأة للمعروف، فيدعو له على حسب معروفه، ووجه المبالغة أنه رأى في نفسه تقصيرًا في المجازاة لعدم القدرة عليها فأحالها إلى الله، ونعم المجازي - سبحانه وتعالى-.

وروى الترمذي وغيره وصححه النسائي وابن حبان عن أسامة مرفوعًا: «من صُنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيرًا، فقد أبلغ في الثناء».

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد عباد الله:

فالمعروف ذخيرة الأبد، والسعي في شئون الناس زكاة أهل المروءات، ومن المصائب عند ذوي الهمم عدم قصد الناس لهم في حوائجهم، يقول حكيم بن حزام - رضي الله عنه-: ما أصبحت وليس على بابي صاحب حاجة؛ إلا علمت أنها من المصائب.

وأعظم من ذلك أنهم يرون أن صاحب الحاجة مُنعم ومتفضل على صاحب الجاه حينما أنزل حاجته به، يقول ابن عباس - رضي الله عنهما-: «ثلاثة لا أكافئهم: رجل بدأني بالسلام، ورجل وسع لي في المجلس، ورجل اغبرت قدماه في المشي إليَّ إرادة التسليم عليَّ، فأما الرابع فلا يكافئه عني إلا الله، قيل: ومن هو؟ قال: رجل نزل به أمر فبات ليلته يفكر بمن ينزله، ثم رآني أهلاً لحاجته فأنزلها بي» [رواه البيهقي في الشعب].

والإِحسان إلى المخلوقين ومسايرة الضعفاء والمساكين دليل على: طيب المنبت، ونقاء الأصل، وصفاء القلب، وحسن السريرة؛ ومن سعى في نفع إخوانه المسلمين والإِحسان إليهم فليبشر بالأجر العظيم والثواب الجزيل، ومن الأجور العظيمة لقاء القيام بهذه الأعمال:


أولاً: رضا الله - عز وجل-، والتقرب إليه بالأعمال الصالحة التي تنفع العباد.

ثانيًا: محبة الله - عز وجل - للمحسنين وأنه معهم، وكفى بذلك فضلاً وشرفًا، قال تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195].

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله-: وهذا يشمل جميع أنواع الإِحسان بالمال، ويدخل فيه الإٍحسان بالجاه والشفاعات ونحو ذلك، ويدخل في ذلك الإٍحسان: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم العلم النافع، ويدخل في ذلك قضاء حوائج الناس من تفريج كرباتهم، وإزالة شدائدهم، وعيادة مرضاهم، وتشييع جنائزهم، وإرشاد ضالهم، وإعانة من يعمل عملاً، والعمل لمن لا يحسن العمل، ونحو ذلك في الإٍحسان الذي أمر الله به.

ثالثًا: الإِحسان من أسباب دخول الجنة، قال ﷺ‬: «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة» وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى [متفق عليه].

رابعًا: أن الله - عز وجل يتولى قضاء حوائج المحسنين إلى عباده، قال ﷺ‬: «من كان في حاجة أخيه: كان الله في حاجته» [رواه البخاري].

خامسًا: أن الله - عز وجل - يُنفس عن عباده المحسنين كربات يوم القيامة، قال ﷺ‬: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة» [رواه البخاري].

وقال ﷺ‬: «من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة؛ فليُنفس عن معسر أو يضع عنه» [رواه مسلم].

سادسًا: الساعي لقضاء حوائج الناس موعود بالإِعانة، مؤيد بالتوفيق، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، وفي خدمة الناس والقيام


بأمورهم بركة في الوقت والعمل، وتيسير ما تعسر من ألأمور، يقول النبي ﷺ‬: «من يسر على مُعسر: يسر الله عليه في الدنيا والآخرة» وقال ﷺ‬: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» [متفق عليه].

سابعًا: الإحسان إلى الناس سبب لدفع الرزايا والبلايا ودفع الأمراض، والعافية من الأسقام.

ومن فضل الله ومنته أنه جعل الجزاء من جنس العمل، ومن ذلك أنه جعل ثواب الإحسان إحسانًا كما قال عز وجل: ﴿هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ﴾ [الرحمن: 60]، فمن أحسن عملاً أحسن الله جزاءه، بل وتكرم بجوده وكرمه وأنزله أعلى المنازل وأفضلها، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 58]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26] والزيادة فسرها النبي ﷺ‬ بالنظر إلى وجه الله عز وجل في جنات النعيم.

جعلني الله وإياكم من أهل الإِحسان والمعروف.

هذا، وصلوا...


الخطبة الأولى([61])

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70 ، 71].

أما بعد:

فاتقوا الله - أيها المسلمون - اتقوه في السر والعلن، فإن تقوى الله - عز وجل - وقاية من الزلل-.

أيها المسلمون:

الجنة مطلب غال ومهر نفيس، فإنها السكن الدائم والنعيم المقيم، نذكرها فتحن قلوبنا شوقًا إلى ما أعَّد الله - عز وجل - فيها للصالحين وما ادخره للعاملين برحمة منه وفضل، ومنة وعطاء.


وهي الجزاء العظيم، والثواب الجزيل، الذي أعده الله لأوليائه وأهل طاعته، وهي نعيم كامل لا يشوبه نقص ولا يعكر صفوه كدر، قال الله - تعالى - في الحديث القدسي: «أعددت لعبادي الصالحين؛ ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» ثم قال ﷺ‬: «اقرءوا إن شئتم: ﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة: 17]» [رواه البخاري]. وقال ﷺ‬: «موضع سوطٍ في الجنة، خير من الدنيا وما فيها» [رواه البخاري].

عباد الله:

الجنة لا تفنى ولا تبيد، وأهلها فيها خالدون، لا يرحلون عنها ولا يظعنون، ولا يبيدون ولا يملون ولا يموتون، لقوله تعالى: ﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [الدخان: 56] وقوله سبحانه: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً﴾ [الكهف: 108] ويؤتى بالموت بعد أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، على شكل كبش أملح، والسبب في أنه أملح لأنه جمع اللونين الأبيض والأسود لصفة أهل الجنة وأهل النار، البياض والسواد، فيذبحه جبريل - u - ثم يقال لأهل الجنة: حياة بلا موت وكذلك لأهل النار، فعنه ﷺ‬، أنه قال: «يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت» [رواه البخاري].

وقال - عليه الصلاة والسلام-: «من يدخل الجنة ينعم، لا يبأس، ولا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه» [رواه مسلم].

ومن إعظام الله وإجلاله أن لا يُسأل بوجهه العظيم إلا غاية المطالب وهي الجنة، إجلالاً لله وإكرامًا، أو الإِعانة على أعمال الآخرة الموصلة إلى الجنة.

في الحديث عن جابر - t - قال: قال رسول الله ﷺ‬: «لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة» [رواه أبو داود].


والسؤال بوجه الله على حالتين:

الأول: أن يسأل الله بوجهه الكريم الجنة أو ما يقرب إليها، وهذا جائز.

فمن إعظام الله وإجلاله ألا يُسأل بوجهه العظيم إلا غاية المطالب وهي: الجنة كأن يقول: «اللهم إني أسألك بوجهك الكريم الجنة، اللهم إني أسألك بوجهك الكريم أن توفقني لفعل الطاعات وترك المحرمات».

الثاني: أن يسأل الله بوجهه الكريم أمرًا من أمور الدنيا، فهذا من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد؛ لأن وجه الله أعظم من يُسأل به شيء من أمور الدنيا، كأن يقول: «اللهم إني أسألك بوجهك الكريم أن ترزقني منزلاً جميلاً».

والسؤال بوجه الله غير الجنة من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد: لمنافاة تعظيم الله - سبحانه وتعالى-.

ويحرم - عباد الله - سؤال المخلوق بوجه الله؛ إعظامًا وإجلالاً لله - سبحانه - كأن يقول: أسألك بوجه الله أن تأكل طعامًا عندي.

وفي الحديث إثبات صفة الوجه لله - سبحانه وتعالى - على ما يليق بجلاله وعظمته.

وقد ذكر الله - عز وجل - ورسوله ﷺ‬ الجنة ودرجات أهلها وتفاوتهم، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى﴾ [طه: 75] وقال ﷺ‬: «من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقًا على الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها» فقالوا: يا رسول الله، أفلا نُبشر الناس؟ قال: «إن الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، قال: وفوقه عرش


الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة» [رواه البخاري].

وقال تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: 46] وقال: ﴿وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: 62] ووصف الأوليين بقوله: ﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ﴾ [الرحمن: 50] ووصف الأخريين بقوله: ﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ﴾ [الرحمن: 66] أي: فوارتان بالماء لكنهما ليستا كالجاريتين، لأن النضخ دون الجري.

وأعلى منزلة في الجنة الوسيلة ينالها شخص واحد، هو نبينا محمدًا ﷺ‬، وعنه ﷺ‬: «من قال حسن يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته: حلت له الشفاعة يوم القيامة» [رواه البخاري].

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى﴾ [طه: 75].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله، العظيم في قدره، العزيز في قهره، العليم بحال العبد في سره وجهره، يسمع أنين المظلوم عند ضعف صبره، ويجود عليه بإعانته ونصره، أحمده على القدر خيره وشره، وأشكره على القضاء حلوه ومره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الآيات الباهرة ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، جاهد في الله حق جهاده طول عمره، وسائر دهره، صلى الله عليه وعلى سائر آله وأصحابه، ما جاد السحاب بقطره، وطل الربيع بزهره، وسلم تسليمًا كبيرًا.

أما بعد عباد الله:

فقد قال - عز وجل - في سورة المائدة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 35].

والتقوى هنا اجتناب الكفر والفسوق والعصيان، وأما الجهاد في سبيله فهو بذل الجهد في مقاومة أهل الانحراف والإِلحاد والكفران، وأما ابتغاء الوسيلة إليه فهي التقرب إليه بأصول الإِيمان وشرائع الإِسلام وحقائق الإِحسان، من تعبَّد له، أو دعاه بأسمائه وصفاته، فذاك أفضل الوسائل، ومن توسل إليه بإحسانه ونعمه وجوده وكرمه، فقد سلك مسلك الأصفياء الأفاضل، ومن تقرب إليه بترك معاصيه والعمل بما يرضيه، فهو الذي لا شك إلى كل خير واصل، ومن توسل إليه بحاجته وفقره وضرورته فقد توسل إليه بخير الوسائل، ومن توسل إليه بذوات المخلوقين وجاههم فهو


مبتدع ظالم، ومن دعا مخلوقًا، أو استغاث به؛ وزعم أن يتوسل به إلى الله فهو مشرك آثم، فتوسلوا إلى ربكم بكثرة السجود والركوع، وتوسلوا إليه بتلاوة كلامه بتدبر وخشوع، وتوسلوا إليه بالإِحسان إلى الخلق، إن الله يحب المحسنين، وببر الوالدين وصلة الأرحام، فإن الله يصل الواصلين ويقطع القاطعين، توسلوا إليه بخوفه ورجائه والتوكل عليه، فإن الله يحب المتوكلين، وتوسلوا إليه باللهج بذكره واستغفاره، فيا سعادة الذاكرين، توسلوا إليه بمحبة نبيكم، وكثرة الصلاة والسلام عليه، فمن أكثر الصلاة عليه كفاه الله همه وقضى حاجته، ومن صلى عليه صلى الله عليه عشرة أضعافها، ونال حبه وشفاعته، توسلوا إليه بالحنو على اليتامى والضعفاء، وتقربوا إليه برحمة البهائم، فإنما يرحم الله من عباده الرحماء، توسلوا إليه بسلامة الصدور من الفسق والغل والحقد على المسلمين، وبالنصيحة والشفقة على الخلق أجمعين، توسلوا إلى الله بترك ما تدعو له النفس الأمارة بالسوء من الهوى والتبعات، وبغض الأبصار، وصيانة اللسان، والبعد عن جميع المحرمات، توسلوا إلى الله بكمال الإِخلاص للمعبود، والمتابعة للرسول، لتدركوا كل مطلوب ومرغوب ومأمول.

هذا، وصلوا...


الخطبة الأولى([62])

الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، أحمده - سبحانه - وأشكره، من توكل عليه كفاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، اصطفاه واجتباه، وقرَّبه إليه وأدناه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه.

أما بعد:

فأوصيكم - ونفسي - بتقوى الله، فالموصي بها كثير، والعامل بها قليل.

أيها المسلمون:

يسير الناس في هذه الدنيا وتقع لهم عقبات، وتواجههم صعوبات، وتمر بهم أزمات، وبعضهم بضعف علمه وقدرته، ونقص فهمه وإدراكه؛ يظن أنه لو فعل غير ما فعل لكان خيرًا له، ولهذا يندم ويتحسر ويكثر من التأسف والمعارضة لأقدار الله - عز وجل - بكلمة (لو).

وقد ورد الوعيد والنهي عن ذلك والذم لمن عارض به عند الأمور، المكروهة كالمصائب إذا جرى بها القدر؛ لما فيه من الإشعار بعدم الصبر، والأسى على ما فات مما لا يمكن استداركه، فالممنوع في (لو) التلهف على أمور الدنيا طلبًا أو هربًا، لا تمني القربات والأعمل الصالحات.

واستعمال (لو) على نوعين:

الأول: جائز؛ إذا استعملت على أمر مستقبل أو على أمر ماض، وحمل


عليها الرغبة في الخير والإِرشاد والتعليم، مثال ذلك؛ قول أحدهم: لو رزقني الله مالاً لأنفقته في وجوه الخير.

وكقول؛ لو حضرت المحاضرة البارحة لاستفدت.

الثاني: مُحرم؛ إذا استعملت على أمر ماض على وجه التسخط والاعتراض على قضاء الله وقدره، مثال قول القائل: لو أني لم أسافر لما وقع لي حادث.

وهذا النوع من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد.

عباد الله:

ذم الله - سبحانه - ما حصل من المنافقين في معركة أحد من الاعتراض على القدر والتسخط لما وقع لهم من الهزيمة والقتل، فقال تعالى: ﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ فرد الله على المنافقين بأنه سبحانه إذا كتب القتل على أحد لم ينفعه تحصنه في بيته: ﴿قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ فهذا قدر مقدور من الله، وحتم لازم لا محيد عنه.

كما أخبر - سبحانه - أن المنافقين يقولون لمن خرج مع رسول الله في هذه المعركة ﴿الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ أي لو سمعوا مشورتنا عليهم بالقعود، وعدم الخروج، ما قُتلوا مع من قتل، فرد الله على المنافقين: ادفعوا عن أنفسكم الموت إن كان الحذر يُغني من القدر ﴿قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ فدلت الآيتان على أن قول (لو) مفتاح للحزن والتحسر والاعتراض على القدر، وأنه من سمات المنافقين.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله-: إذا أصاب العبد ما يكرهه فلا ينسب ذلك إلى ترك بعض الأسباب التي يظن نفعها لو فعلها؛ بل يسكن إلى قضاء الله وقدره ليزداد إيمانه ويسكن قلبه وتستريح نفسه؛ فإن


(لو) في هذه الحال تفتح عمل الشيطان بنقص إيمانه بالقدر واعتراضه عليه، وفتح باب الهم والحزن المُضعف للقلب.

عباد الله:

في الصحيح عن أبي هريرة - t - أن رسول الله ﷺ‬ قال: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان».

أي: وإن غلبك أمر ولم يحصل المقصود بعد بذل الجد والاستطاعة فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، فإنه لا يجدي عليك شيئًا، ولكن قل: (قدر الله وما شاء فعل)؛ (قدر الله) لأن ما قدره لا بد أن يكون، والواجب التسليم للمقدور، (وما شاء فعل)، لأن أفعاله لا تصدر إلا عن حكمته - سبحانه وتعالى-.

قال ابن القيم - رحمه الله-: والعبد إذا فاته المقدور له حالتان: حالة عجز وهي عمل الشيطان، فيلقيه العجز إلى (لو) ولا فائدة فيها، بل هي مفتاح اللوم والعجز، والسخط والحزن، وهذا من عمل الشيطان، فنهاه عن افتتاح عمله بهذا الافتتاح، وأمره بالحالة الثانية وهي النظر إلى القدر وملاحظته، وأنه لو قُدر لم يفته ولم يغلبه عليه أحد.

ثم أرشد ﷺ‬ إلى ما ينفعه حال حصول مطلوبه وحال فواته، ونهاه عن قول (لو) وأخبره أنها تفتح عمل الشيطان؛ لما فيها من التأسف على ما فات، والتحسر والحزن ولو القدر، فيأثم بذلك، وذلك من عمل الشيطان، وما ذاك لمجرد اللفظ (لو)، بل ما قارنها من الأمور القائمة بقلبه، المنافية لكمال الإِيمان، الفاتحة لعمل الشيطان، وأرشده إلى الإيمان بالقدر،


والتفويض والتسليم للمشيئة، فهذا الحديث مما لا يستغني عنه العبد، وهو يتضمن إثبات القدر، وإثبات الكسب، والقيام بالعبودية.

قال شيخ الإسلام - رحمه الله - في معنى الحديث: لا تعجز عن مأمور، ولا تجزع من مقدور، ومن الناس من يجمع كلا الشرين، فأمر النبي ﷺ‬ بالحرص على النافع، والاستعانة بالله، والأمر يقتضي الوجوب وإلا فالاستحباب، ونهى عن العجز، وقال: «إن الله يلوم على العجز» فعلى العبد أن يستقبل فعله الذي يدفع به أو يخفف، ولا يتمنى ما لا مطمع في وقوعه، فإنه عجز محض، والله يلوم على العجز، ويحب الكيس، ويأمر به، والكيس هو مباشرة الأسباب التي ربط الله بها مسبباتها، النافعة للعبد في معاشه ومعاده، وورد الأمر بالصبر النهي عن العجز في مواضع كثيرة من الكتاب والسنة، وذلك لأن الإِنسان بين أمرين، أمر يفعله فعليه أن يفعله ويحرص عليه ويستعين بالله ولا يعجز، وأمر أصيب به من غير فعله، فعليه أن يصبر عليه ولا يجزع منه، قال: والصبر واجب، والرضا درجة عالية، والإِيمان بالقدر فرض، قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [الحديد: 22 ، 23] وليس العبد مأمورًا أن ينظر إلى القدر عندما يؤمر به من الأفعال، ولكن عندما يجري عليه من المصائب التي لا حيلة له في دفعها، قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن: 11].

قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويُسلِّم.

وأما قول ﷺ‬: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك» ونحو ذلك


فمستقبل، لا اعتراض فيه على قدر ولا كراهة فيه؛ لأنه إنما أخبر عن مراده فيما كان يفعل لولا المانع، وكذلك قوله: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي» ونحوه فهو إخبار لهم عما كان يفعل في المستقبل لو حصل، ولا خلاف في جواز ذلك، وإنما ينهى عما هو في معارضة القدر، أو مع اعتقاد أن ذلك المانع لو ارتفع لوقع خلاف المقدور.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [هود: 112].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، له الحمد وإليه المعاد، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

أيها الناس، اتقوا الله حق تقواه، وتمسكوا بإرشاد نبيه وهديه وهداه، فقد قال ﷺ‬: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله»، فيالهما من كلمتين عظيمتين جمع فيها خيري الدنيا والآخرة لمن فهمهما وعمل بهما من العباد؛ فأما الحرص فهو الجد في تحصيل الأمور النافعة في المعاش والمعاد، وذلك بالاجتهاد في القيام بعبودية الله التي خلق الله المكلفين لأجلها، وبما يعين على ذلك من كسب الحلال المساعد على أمرها، ولا يتم ذلك إلا بسلوك طرقها النافعة وأبوابها، ولا يحصل إلا بقوة الاستعانة بالله والتوكل عليه، لا على الأسباب، بل على مُسببها، فلا يفوت أحدًا الخير إلا بترك واحد من هذه الأمور، إما ألا يحرص بل يستولي عليه الكسل والفتور، أو يكون حريصًا على غير الأمور النافعة، أو لا يستعين بميسر الأمور، وأعظم الأمور النافعة أن تتعلم ما يقيم دينك وعباداتك ومعاملاتك، وأن تؤدي الشرائع الظاهرة والباطنة مجتهدًا في تكميل عباداتك، قائمًا بحقوق الخالق وحقوق الخلق، مستعينًا بربك في طلب الحلال من الرزق، فيا طوبى لن قوي توكله على ربه في تيسير أمر دينه ودنياه، ويا سعادته إذا شاهد النجاح والفلاح


عند تمام مسعاه، وإذا أردت أن تختار عملاً نافعًا تصلح به دنياك فاسلك الطريق الموصل إليه برفق واستعن بمولاك، فإنك إذا حققت التوكل عليه سَّهل لك الأمر ويسره وكفاك، وإن أعجبت بنفسك ورأيك خذلك ووكلك إلى ضعفك فوهنت قوتك وقواك، فلو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خماصًا وتروح بطانًا! ولكن كثيرًا منكم يعجب بنفسه فيرهقه وهنًا وهوانًا وخذلانًا، واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير.

هذا، وصلوا...


الخطبة الأولى([63])

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70 ، 71].

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله-: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133].

أيها المسلمون:

الرياح من أعظم آيات الله الدالة على عظمته وربوبيته وقدرته، وفيها من العبر: هبوبها، وسكونها، ولينها، وشدتها، واختلاف طبائعها، وصفاتها، ومهابها، وتصريفها، وتنوع منافعها، وشدة الحاجة إليها؛ لهذا


أقسم الله - سبحانه - بها في قوله: ﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا﴾ [الذاريات: 1] وهي الرياح تذرو المطر، وتذرو التراب، وتذرو النبات إذا تهشم، ثم أقسم بما فوقها وهو السحاب: ﴿فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا﴾ [الذاريات: 2] أي: ثقلاً من الماء سوقها الله - سبحانه - على متون الرياح، فالقسم بها دليل على أنها من أعظم آياته.

هذا الهواء اللطيف المحبوس بين السماء والأرض، يدرك جسمه بحس اللمس عند هبوبه،ـ ولا يُرى شخصه، يجري بين السماء والأرض، والطير مُحلقة فيه سابحة بأجنحتها في أمواجه كما تسبح حيوانات البحر في الماء وتضطرب جوانبه وأمواجه عند هيجانه كما تضطرب أمواج البحر، فإذا شاء الله - سبحانه - حرَّكه بحركة الرحمة، فجعله رخاء ورحمة وبشرى بين يدي رحمته، ولاقحًا للسحاب، وإن شاء حركه بحركة عذاب فجعله عقيمًا، وأودعه عذابًا أليمًا، وجعله نقمة على من شاء من عباده، فجعله صرصرًا ونحسًا،، وعاتيًا ومفسدًا لما يمر به ومسببًا للفيضان المدمر.

وهي في قوتها أشد من الحديد والنار والماء، ومع ذلك فهي ألطف شيء وأقبل المخلوقات لكل كيفية، سريعة التأثر والتأثير، لطيفة المسار بين السماء والأرض.

تأمل هذا الهواء وما فيه من المصالح؛ فإنه حياة هذه الأبدان، والممسك لها من داخل بما تستنشق منه، ومن خارج بما تباشر به من روحه، فتتغذى به ظاهرًا وباطنًا.

فحياة ما على الأرض من نبات وحيوان بالرياح؛ فإنه لولا تسخير الله لها لعباده لذوى النبات، ومات الحيوان، وفسدت المطاعم، وأنتن العالم وفسد، فسبحان من جعل هبوب الرياح تأتي بروحه ورحمته ولطفه ونعمته، كما قال النبي ﷺ‬: «الرياح من روح الله تأتي بالرحمة».


الرياح تلقح الشجر والنبات، وتسير السفن، ومن منافعها أنها تُبرد الماء، وتضرم النار التي يراد إضرامها، وتجفف الأشياء التي يحتاج إلى جفافها، وهو الحامل لهذه الروائح على اختلافها ينقلها من موضع إلى موضع، فتأتي العبد الرائحة من حيث تهب الريح، وهو أيضًا الحامل للحر والبرد اللذين بهما صلاح الحيوان والنبات.

وتأملوا الحكمة البالغة في كون الريح في البحر تأتي من وجه واحد لا يعارضها شيء؛ فإن السفينة لا تسير إلا بريح واحدة، من وجه واحد لسيرها، فإذا اختلفت عليها الرياح وتصادمت وتقابلت فهو سبب الهلاك، فالمقصود بها في البحر غير المقصود بها في البر؛ في البر جعل لها رحًا أخرى تقابلها وتكسر سورتها وحدتها فيبقى لينها ورحمتها، فرياح الرحمة متعددة، وأما ريح العذاب فإنها ريح واحدة ترسل من وجه واحد لإِهلاك ما ترسل بإهلاكه، فلا تقوم لها ريح أخرى تقابلها وتكسر سورتها وتدفع حدتها.

وجعل - سبحانه - الريح للسفن بقدر لو زاد عليها لأغرقها، ولو نقص عنه أعاقها.

والرياح تحمل الصوت عند اصطكاك الأجرام وتؤديه إلى مسامع الناس، فينتفعون به في حوائجهم ومعاملاتهم بالليل والنهار، كالبريد والرسول الذي من شأنه حمل الأخبار، وتَحْدُثُ الحركات العظيمة من حركاتهم فلو كان اثر هذه الحركات والأصوات يبقى في الهواء كما يبقى الكتاب والقرطاس لامتلأ العالم منه، ولعظم الضرر به واشتدت مؤنته، واحتاج الناس إلى محوه من الهواء، والاستبدال به أعظم من حاجتهم إلى استبدال الكتاب المملوء كتابة، فاقتضت حكمة العزيز الحكيم أن جعل هذا الهواء


قرطاسًا خفيفًا يحمل الكلام بقدر ما يبلغ الحاجة ثم يمحى بإذن ربه، فيعود جديدًا نقيًا لا شيء فيه، فيحمل ما حمل كل وقت.

أيها المسلمون:

خلق الله الكون وصرفه على ما يشاء ويريد، أجرى فيه الرياح وسخر السحاب وأنزل المطر وأنبت الشجر، لا معقب لحكمه، له الأمر والخلق، تبارك الله رب العالمين.

وقد ورد النهي عن سب الريح لكونها تهب عن إيجاد الله لها وأمره إياها، فلا تأثير لها إلا بأمر الله.

في الحديث عن أبيِّ بن كعب - t - أن رسول الله ﷺ‬ قال: «لا تسبوا الريح فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها، وخير ما أمرت به. ونعوذ لك من شر هذه الريح، وشر ما فيها وشر ما أمرت به» [رواه الترمذي].

أي: لا تشتموها ولا تلعنوها للحوق ضرر منها، فإنها خلق من خلق الله مقهور مدبر، وإنما تهب بمشيئة الله وقدرته، فلا يجوز سبها فيرجع السب إلى من خلقها وسخرها.

وروى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن ابي هريرة مرفوعًا: «الريح من روح الله، تأتي بالنعمة والعذاب، فلا تسبوها، ولكن سلوا الله من خيرها، وتعوذوا بالله من شرها» وروى الترمذي عن ابن عباس أن رجلاً لعن الريح عند النبي ﷺ‬، فقال: «لا تلعنوا الريح، فإنها مأمورة، وإنه من لعن شيئًا ليس له بأهل رجعت اللعنة إليه».

فمن خيرها: تلقيح الشجر، وتسيير السفن، وإضرام النار، وإبعاد الأوبئة، وإزالة الحر الشديد، وإزالة الروائح المنتنة وغير ذلك كثير.


ومن شرها ما نراه من قلع الأشجار، وهدم البيوت، وما تحمله من الحر والبرد والحشرات، وقد تؤمر بالعذاب والهلاك كما حصل لقوم عاد الذين أهلكوا بالريح العقيم.

ثم علَِّم النبي ﷺ‬ أمته إذا رأوا المسلم ما يكره من الريح إما شدة حرها أو بردها أو قوتها، أن يرجع على خالقها وآمرها الذي أزمة الأمور كلها بيده، ومصدرها عن قضائه أن يسألوه خيرها وخير ما فيها، والاستعاذة به من شرها وشر ما فيها، فما استجلبت نعمه بمثل طاعته وشكره، ولا استدفعت نقمة بمقل الالتجاء إليه والتعوذ به والاضطرار إليه ودعائه.

في الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - قالت كان النبي ﷺ‬ إذا عصفت الريح قال: «اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به» فشرع الله لعباده أن يسألوه ما ينفعهم، ويستعيذوا به من شر ما يضرهم، ففيه عبودية الله وحده، والطاعة له، والإِيمان به، واستدفاع الشرور به، والتعرض لفضله ونعمته، وهذه حال أهل التوحيد.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [لأعراف: 57].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله حمد الشاكرين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أشهد أن لا إله إلا الله رب العالمين، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين.؟

أما بعد، عباد الله:

المسلم يعرف ربه بآياته ومخلوقاته، التي نصبها دلالة على وحدانيته وتفرده بالربوبية والإِلهية.

فسل الرياح من أنشأها بقدرته، وصرفها بحكمته، وسخرها بمشيئته، وأرسلها بشرى بين يدي رحمته، جعلها سببًا لتمام نعمته، وسلطانًا على من شاء بعقوبته، ومن جعلها رخاء، وذارية، ولاقحة، ومثيرة، ومؤلفة ومغذية لأبدان الحيوان والشجر والنبات، وجعلها قاصفًا، وعاصفًا ومهلكة، وعاتية، إلى غير ذلك من صفاتها، فهل ذلك لها من نفسها وذاتها، أم بتدبير مُدبر شهدت الموجودات بربوبيته، وأقرت المصنوعات بوحدانيته، بيده النفع والضر، وله الخلق والأمر؟! تبارك الله رب العالمين.

والريح - عباد الله - خلق من خلق الله، تهب بمشيئة الله وقدرته، فسابُّها لا يخلو من أحد أمرين:

الأول: إنْ سبها على أنها فاعلة بذاتها، فهذا شرك أكبر.

الثاني: إنْ سبها وهو يعتقد أنها مخلوقة مأمورة، فهذا من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد.

ومن أمثلة سبها قول القائل: ما أقبح هذه الريح آذتنا، ويقاس على هذا:


سب كل مخلوق مدبر مأمور: كالزلازل والفيضانات

ويجوز وصف الريح لأن المتكلم يقصد الخبر دون اللوم، كقول: هذه ريح عاصف كما ورد في كتاب الله عز وجل: ﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ﴾ [الحاقة: 6].

والواجب على العبد الحذر من سب الريح: لأنها مدَّبرة مسخَّرة، فسبُّها جهل في الدين ونقص في العقل.

هذا، وصلوا...


الخطبة الأولى([64])

الحمد لله مصرف الأوقات، وميسر الأقوات، فاطر الأرض والسموات، أحمده - سبحانه - وأشكره، والى علينا نعمه وإحسانه، فهو أهل الفضل والمكرمات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلقنا لعبادته ويسر لنا سبل الطاعات، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، جاء بالحنيفية السمحة، ويسير التشريعات، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد أكرم البريات، وعلى آله السادات، وأصحابه ذوي المقامات، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الناس: أوصيكم - ونفسي - بتقوى الله - عز وجل - فإن تقوى الله خلفٌ من كل شيء، وليس من تقوى الله خلفٌ ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128].

أيها المسلمون:

الصراع في هذه الدنيا سجال بين الحق والباطل، بين أهل الخير وأهل الشر؛ بين أهل الإِسلام وأصحاب الكفر؛ وفي ذلك من الحكم البالغة ما لا يعلمه إلا الله - عز وجل-، ففيها من تمحيص المؤمنين، ورفع الدرجات، وتحصيل الأجور؛ وإقامة الحجة والخزي والعار على الكافرين.

ها هم الكفار والمنافقون يتمنون للمسلمين الهزيمة والهلاك، في كل حين


وزمان؛ وظهر ذلك جليًا في معركة أحد، كما قال الله - تعالى - عنهم: ﴿يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ [آل عمران: 154] فحال المنافقين عند الشدائد يظهرون ما عندهم من النفاق؛ فقد ظنُّو أن الله لا ينصر رسوله وأن أمره سيضمحل، وأن الأمر لو كان إليهم وكان الرسول ﷺ‬ وأصحابه تبعًا لهم يسمعون منهم لما أصابهم القتل، ولكان النصر والظفر لهم؛ فأكذبهم الله في هذا الظن: ﴿قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ ، يعني القدر خيره وشره، فقضاء الله نافذ لا محالة.

وقد توعد الله - سبحانه - المنافقين الذين يتهمون الله في حكمه، ويظنون أن الله لا ينصر رسوله ﷺ‬ وأصحابه وأتباعه على أعدائهم، بأن دائرة العذاب والذل لازمة لا تتخطاهم، وغضب الله عليهم وأبعدهم عن رحمته وأعد لهم نار جهنم ﴿الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا﴾ [الفتح: 6].

عباد الله:

ينقسم سوء الظن بالله إلى قسمين:

الأول: قد يكون سوء الظن بالله كفرًا ينافي التوحيد بالكلية كظن الكفار والمنافقين في الآيتين الكريمتين، فقد زعموا أن الله لا ينصر رسول الله ﷺ‬ وأن أمره سيضمحل، وأن ما أصابهم لم يكن بقدر وحكمة وهذا ظن سوء بالله، مُكذِّب لقوله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾ [غافر: 51]، وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصافات: 173] وقد أظهر الله دين الإِسلام على جميع الأديان، ودخل الناس في دين الله أفواجًا.

وقد يديل الله الباطل أحيانًا على الحقَّ؛ تمحيصًا ورفعة لأهل الحق،


وغرورًا لأهل الباطل، ثم تكون العاقبة للمتقين.

الثاني: قد يكون سوء الظن بالله من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد، كظن بعض عصاة الموحدين: إذا رأى رجلاً صالحًا مريضًا، قال: فلان ما يستاهل.

أو إذا رأى فاسقًا غنيًا، قال: هذا ما يستحق هذه الأموال!

أو إذا أصابه بلاء في نفسه أو ماله ظن أنه غير مُستحق له!

فهذا كله من الاعتراض على الله، إذ هو - سبحانه - أعلم بأحوال عباده، وله الحكمة البالغة فيما يقتضيه ويقدره على عباده من صحة، ومرض، وغنى وفقر، وغير ذلك ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23].

والطريق إلى السلامة من سوء الظن بالله: هو معرفة الله بأسمائه وصفاته ولا سيما أسمائه: العليم، الحكيم، الحميد، القدير، ومعرفة وعده الصادق.

إن الواجب على العبد أن يُحسن الظن بالله في جميع ما يقضيه ويقدره:

كوعده بنصر المؤمنين، وإجابة دعاء الداعين، كما عليه أن يراجع نفسه، فإن كان قد وقع في سوء ظن بربه فعليه المبادرة إلى التوبة، وأن لا يظن بربه إلا الظن الحسن.

قال ابن القيم في قوله تعالى: ﴿يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ فسر هذا الظن بأنه - سبحانه - لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وأن ما أصابهم لم يكن بقدر الله وحكمته، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر وإنكار أن يتم أمر رسوله، وأن يظهر على الدين كله؛ وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح وإنما كان هذا ظن السوء، لأنه ظن غير ما يليق به - سبحانه - وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق.


فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق أدلة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة فذلك ﴿ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ [ص: 27] وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء، فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده.

فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا وليتب إلى الله ويستغفره من ظنه بربه ظن السوء.

ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتًا على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمُستقل ومُتسكثر وفتش نفسك: هل أنت سالم؟

فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة

وإلا فإني لا أخالك ناجيًا

لأن الله وعد ورسوله أن ينصره، ويظهر أمره ودينه على الدين كله، فمن ظن أن دينه سيضمحل ولا يظهر على الدين كله فقد ظن به ظن السوء، ومن قنط من رحمته، وأيس من روحه، أو جوز عليه أن يعذب أولياءه على إحسانهم، ويسوي بينهم وبين أعدائه فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يترك خلقه سدى، أو أنه لا يجمعهم بعد الموت للثواب والعقاب فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح، وأنه يعاقبه بما لا صنع له فيه، وأنه يحسن منه كل شيء، حتى يعذب من أفنى عمره في طاعته فيخلده في الجحيم، وينعم من استنفذ عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه، فيرفعه إلى أعلى عليين فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه أخبر عن


نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه، وترك الحق لم يخبر به، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم في تحريف كلامه عن مواضعه، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم، لا على كتابه وسنة رسوله فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه وسلفه عبروا عن الحق بصريحه، دون الله ورسوله وأن الهدى في كلامهم، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أن يكون في ملكه ما لا يشاء، ولا يقدر على إيجاده وأنه كان معطلاً من الأزل إلى الأبد عن أن يفعل، وأنه لا سمع له ولا بصر ولا علم ولا إرادة ولا كلام يقوم به، ولا يتكلم ولا يُكلم وأنه ليس فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه فيدعونهم ويرجونهم فقد ظن به ظن السوء.

فليعتن اللبيب الناصع لنفسه بهذا، ليتب إلى الله، ويستغفره من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هو مأوى كل سيئ، ومتبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فإنها أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين وأرحم الراحمين، الغني الحميد الذي له الغنى التام والحمد التام، والحكمة التامة المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله؛ فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك، وأسماؤه كلها حسنى، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل.

فلا تظنن بربك ظن سوء

فإن الله أولى بالجميل

ولا تظنن بنفسك قط خيرًا

فكيف بظالم جان جهول

واقتراحًا عليه وأنه يستحق خلاف ما جرى به القدر، بل يبوحون بذلك


ويصرحون به جهارًا في كلامهم وأشعارهم، وهذه حالة كما قال ابن الجوزي وغيره قد شملت خلقًا كثيرًا من العلماء والجهال، أولهم إبليس، وقال: الواحد من العوام إذا رأى مراكب مقلدة بالذهب والفضة، ودارًا مشيدة مملوءة بالخدم والزينة، قال: انظروا ما أعطاهم الله مع سوء أفعالهم، ولا يزال يلعنهم ويذم مُعطيهم، حتى يقول: فلان يُصلي الجماعات والجمع، ولا يؤذي الذر، ويظهر الإِعجاب كأنه ينطق: لو كانت الشرائع حقًا لكان الأمر بخلاف ما ترى، وكان الصالح غنيًا والفاسق فقيرًا، وقال صدقة بن الحسين الحداد - وكان فقيهًا وعليه جرب، فقال: ينبغي أن يكون هذا على جمل لا علي، وكثير من العوام إذا رأى رجلاً صالحًا مؤذى، قالوا: هذا ما يستحق، أو هذا ابن حلال! كأن الله ظلمه أو يذمه كأنه لا يستحق، قدحًا في القدر، وارتفاعًا على الخالق - جل وعلا - في التحكم عليه، حتى كأن المعترض قد ارتفع أن يكون شريكًا لله - تعالى - في ملكه، والله - سبحانه - هو العليم الحكيم، يضع الأشياء مواضعها.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله ما خاب من رجاه ولا أضاع من دعاه، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإِسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أجسادكم وأقدامكم على النار لا تقوى، والزموا جماعة المسلمين، فمن شذ عنهم شذ في النار، واعلموا أنكم محاسبون وعلى أعمالكم مجزيون، فاليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل، فاستعدوا لما أمامكم وحاسبوا أنفسكم فالكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

عباد الله:

إن ظن السوء ينافي الإِيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا؛ لأن الله - تعالى - قال عن أسمائه: ﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف: 180]، فإذا ظن بالله ظن السوء؛ لم تكن الأسماء حسنى، وقال سبحانه وتعالى في صفاته العلا: ﴿وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ﴾ [النحل: 60] وإذا ظن بالله ظن السوء، لم يكن له المثل الأعلى.

فاعرفوا لربكم قدره، وعظموه أمره، واجتنبوا نهيه، تكن لكم الجنة دار مستقر ورحمة، بمنه وجوده ورحمته.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([65])

الحمد لله العلي في قدره، العزيز في قهره، العليم بحال العبد في سره وجهره، يسمع أنين المظلوم عند ضعف صبره، ويجود عليه بإعانته ونصره، وأشكره على القضاء حلوه ومره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الآيات الباهرة: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ﴾ وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، جاهد في الله حق جهاده طول عمره وسائر دهره، صلى الله عليه وعلى سائر آله وأصحابه ما جاد السحاب بقطره وطل الربيع بزهره، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فأوصيكم - ونفسي - بتقوى الله، فتقوى الله أقوم وأقوى، واستمسكوا من دينكم بالعروة الوثقى.

أيها المسلمون:

الإِسلام دين السعادة والسرور، والراحة والطمأنينة، من تمسك به ورضي به زالت عنه الهموم والغموم، ومن اعتصم به نجا وفاز.

والقدر ما يقدره الله من القضاء، يجب الإِيمان به، وأنه أحد أركان الإِيمان الستة، وقد ورد الوعيد الشديد في إنكار القدر، وأن إنكاره كفر مخرج عن الملة.

وقد جاءت أحاديث كثيرة في ذم القدرية، وأنهم مجوس هذه الأمة، فعن ابن عمر مرفوعًا: «القدرية مجوس هذه الأمة، وإن مرضوا فلا تعودوهم


وإن ماتوا فلا تشهدوهم» [رواه ابو داود].

وروي من حديث حذيفة: «لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر»، يعني أن الأمر مستأنف، لم يسبق به قدر ولا علم من الله، وإنما يعلمه بعد وقوعه، ومذهب أهل السنة ما دل عليه الكتاب والسنة وأن الله خالق كل شيء، وربه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، قدر أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ، وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة.

عباد الله:

يجب على العبد الإيمان بمراتب القدر الأربع التالية:

الأول: العلم؛ وذلك بأن يؤمن بأن الله - سبحانه - علم كل شيء جملة وتفصيلاً، فعلم ما كان وما يكون، وعلم أحوال العباد وأرزاقهم وآجالهم وغير ذلك من شئونهم، قال تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [الأنعام: 59].

الثاني: الكتابة؛ كتابته - سبحانه - لكل ما قدره وقضاه في اللوح المحفوظ ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحج: 70]..

الثالث: المشيئة؛ الإِيمان بمشيئته النافذة، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾ [الأنعام: 112] وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82] إلى غير ذلك من الآيات.

الرابع: الخلق؛ خلقه -سبحانه- لجميع الموجودات، لا خالق غيره، ولا رب


سواه، فهو الخالق المدبر، وذو القوة والسلطان ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الزمر: 62].

فالله - تعالى - علم الأشياء كلها قبل وجودها، وكتبها عنده، وشاء ما وجد منها، وخلق ما أراد خلقه.

قال ابن عمر: والذي نفس ابن عمر بيده لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبًا ثم أنفقه في سبيل الله، ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر.

ثم استدل بقول النبي ﷺ‬: «الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» [رواه مسلم].

بين ابن عمر - رضي الله عنهما - أن من أنكر القدر، فإنه لا تُقبل منه أعماله ولو أنفق مثل جبل أحُد ذهبًا في سبيل الله؛ لأن الله - سبحانه - لا يقبل الأعمال إلا من مؤمن.

وعن عبادة بن الصامت - t - أنه قال لابنه: يا بني إنك لن تجد طعم الإِيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله ﷺ‬ يقول: «إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فقال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة» يا بني سمعت رسول الله ﷺ‬ يقول: «من مات على غير هذا فليس مني» وفي رواية لأحمد: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال له اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة».

وورد عن عبادة - t - أنه قال لابنه: إنك لن تجد حلاوة الإِيمان، (وهي: طمأنينة في القلب، وانشراح في الصدر) حتى تؤمن بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، أي: أن ما قدر عليك من الخير والشر فلن يتجاوز إلى غيرك، وما لم يقدر عليك فلن يصيبك.


عباد الله:

إن أول شيء خلق الله - قبل السموات والأرض، فأمره الله - سبحانه - أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، وهذا دليل على شمول علم الله وإحاطته بما كان ويكون في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: 12].

قال أحمد: القدر: قدرة الرحمن، قال شيخ الإِسلام: يشير إلى أن من أنكر القدر فقد أنكر قدرة الله، وأنه يتضمن إثبات قدرة الله على كل شيء.

وفي رواية لابن وهب قال: قال رسول الله ﷺ‬: «فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار».

بين الرسول ﷺ‬ الوعيد الشديد لمن أنكر القدر، واستحقاقه النار والعياذ بالله.

عباد الله:

وفي المسند، والسنن عن ابن الديلمي، قال: أتيت أبيَّ بن كعب فقلت: في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي.

فقال: لو أنفقت مثل أحد ذهبًا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار.

قال: فأتيت عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت؛ فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي ﷺ‬، حديث صحيح رواه الحاكم في صحيحه.

يخبر ابن الديلمي - رحمه الله - أنه حدث في نفسه إشكال في أمر القدر فخشي أن يُفسد عليه دينه، فذهب ليسأل بعض أصحاب رسول الله ﷺ‬


فبينوا له: أنه لو أنفق مثل جبل أحد ذهبًا في سبيل الله؛ ما قبله الله منه حتى يؤمن بأن جميع الأمور كائنة بقضاء الله وقدره، ويعلم أن ما قدر من الخير أو الشر فلن تجاوزه إلى غيره، وما لم يُقَدَّر عليه فلن يصيبه، وأن من مات على غير هذا كان من أهل النار.

وفي هذا الأثر دلالة على أنه ينبغي للمؤمن أن يسأل أهل العلم عما أشكل عليه؛ عملاً بقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43].

عباد الله:

من ثمرات الإِيمان بالقضاء والقدر:

الطمأنينة للقلب لأن المؤمن بالقدر يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

والثاني: منع إعجاب المرء بعمله إذا عمل عملاً يشكل عليه، لأن الله هو الذي منَّ عليه وقدره له وأعانه عليه.

الثالث: ثباته وصبره وعدم تسخطه على ما أصابه من الأقدار المؤلمة لأنه يعلم تدبير العليم الحكيم.

فالواجب على العبد الإِيمان بالقدر خيره وشره؛ لأنه ركن من أركان الإِيمان الستة، ومن أنكرها فقد كفر.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: 34].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله الذي هدانا للإِسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فالإِيمان بالقدر خيره وشره من أركان الإِيمان الستة كما قال ﷺ‬: «الإِيمان: أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» [رواه مسلم].

قال الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله-: الإِيمان بالقدر: هو أن تؤمن بتقدير الله - عز وجل - للأشياء كلها، سواء ما يتعلق بفعله أو ما يتعلق بفعل غيره، وأن الله - عز وجل - قدرها وكتبها عنده قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، ومعلوم أنه لا كتابة إلا بعد علم؛ فالعلم سابق على الكتابة، ثم إنه ليس كل معلوم لله - سبحانه وتعالى - مكتوبًا؛ لأن الذي كُتب إلى يوم القيامة، وهناك أشياء بعد يوم القيامة كثيرة، أكثر مما في الدنيا هي معلومة عند الله عز وجل، ولكنه لم يرد في الكتاب والسنة أنها مكتوبة.

وهذا القدر، قال بعض العلماء: إنه سر من أسرار الله، وهو كذلك لم يُطِلع الله عليه أحدًا؛ لا ملكًا، ولا نبيًا مرسلاً؛ إلا ما أوحاه الله - عز وجل - إلى رسله، أو وقع فعلم به الناس، وإلا فإنه سر مكتوم، قال تعالى: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾ [لقمان: 34] الآية، وإذا قلنا: إنه سر مكتوم؛ فإن


هذا القول يقطع احتجاج العاصي بالقدر على معصيته؛ لأننا نقول لهذا الذي عصى الله - عز وجل - وقال: هذا مقدر علي: ما الذي أعلمك أنه مقدر عليك حتى أقدمت؛ أفلا كان الأجدر بك أن تُقدر أن الله - تعالى - قد كتب لك السعادة وتعمل بعمل أهل السعادة لأنك لا تستطيع أن تعلم أن الله كتب عليك الشقاء إلا بعد وقوعه منك؟

قال تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: 5]؛ فالقول بأن القدر سر من أسرار الله مكتوم لا يطلع عليه إلا بعد وقوع المقدور تطمئن له النفس، وينشرح له الصدر، وتنقطع به حجة البطالين.

وقوله: «خيره وشره» الخير: ما يلائم العبد، والشر: ما لا يلائمه، ومعلوم أن المقدورات خير وشر؛ فالطاعات خير، والمعاصي شر، والغنى خير، والفقر شر، والصحة خير، والمرض شر، وهكذا.

وإذا كان القدر من الله؛ فكيف يقال: الإِيمان بالقدر خيره وشره؛ والشر لا ينسب إلى الله؟

فالجواب: أن الشر لا يُنسب إلى الله، قال النبي ﷺ‬: «والشر ليس إليك» [رواه مسلم]؛ فلا يُنسب إليه الشر لا فعلاً ولا تقديرًا وحكمًا، بل الشر في مفعولات الله لا في فعله، ففعله كله خير وحكمة، فتقدير الله لهذه الشرور له حكمة عظيمة، وتأمل قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41]؛ تجد أن هذا الفساد الذي ظهر في البر والبحر كان لما يوحي به من العاقبة الحميدة، وهي الرجوع إلى الله - عز وجل-.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([66])

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلى على الظالمين، أحمده - سبحانه - وأشكره، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خالق كل شيء بيده مقاليد الأمور، وإليه تصريفها، وإليه المآب، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، هدى به أقوامًا حائزة، وجمع به قلوبًا متنافرة، وديارًا متناثرة، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله النجوم الزاهرة، وأصحابه البدور السافرة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ممن ابتغى الله والدار الآخرة، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله-، واحذروا موجبات سخطه وعقابه و ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الحديد: 21].

عباد الله:

خلق الله - سبحانه - جميع المخلوقات وصورها على أحسن صورة، وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها الحياة فأحسن خلقها، قال تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ [السجدة: 7].

وقد جاء في المصورين من الوعيد الشديد والتهديد الأكيد، للمضاهاة بخلق الله، بل هو منشأ الوثنية، وما دخل على القرون قبلنا إنما هو من هذا الباب، لأن صورة المألوف تعظيم، وإذا ارتسمت في الحافظة وبقي ذكرها


يمر على البصر الناظر إليها من رسمها لا بد أن تستولي على قلبه، وتحل فيه حلول التعبد له.

والمصور إذا صور الصورة على شكل ما خلقه الله من ذوات الرواح فقد وقع في كبيرة من كبائر الذنوب، واستحق بذلك الوعيد الشديد على فعله؛ لما في التصوير من مضاهاة خلق الله، ولأنه وسيلة من وسائل الشرك.

في الصحيحين عن أبي هريرة - t - قال: قال رسول الله ﷺ‬: «قال الله - تعالى-: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة».

أي: لا أظلم منه فإن الله له الخلق والأمر، وهو رب كل شيء ومليكه، وهو خالق كل شيء، وهو الذي صور جميع المخلوقات على غير مثال سبق، وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها الحياة، فالمصور لما صور الصورة على شكل ما خلقه الله - تعالى - من إنسان وبهيمة، صار مضاهيًا لخلق الله، فصار لا أظلم منه، وما صوره يُعذَّب به يوم القيامة.

وفي الحديث بيان أن أظلم الناس الذين يصورون الصور على شكل خلق الله، وقد تحداهم الله أن يخلقوا ذرة فيها روح تتصرف بنفسها كالذرة التي خلقها الله، بل إنهم عاجزون عن خلق ما هو أدنى من ذلك، حبة أو شعيرة فيها طعم تؤكل وتزرع وتنبت: لأن الله - سبحانه - هو المتفرد بالخلق وحده.

وللبخاري ومسلم عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله ﷺ‬ قال: «أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله».

ولهما عن ابن عباس - رضي الله عنهما - سمعت رسول الله ﷺ‬ يقول: «كل مصور في النار؛ يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم».

ولهما عنه مرفوعًا: «من صور صورة في الدنيا كُلف أن ينفخ فيها الروح


وليس بنافخ».

بين ﷺ‬ في الأحاديث الثلاثة عقوبة المصور وهي:

الأولى: أنه أشد الناس عذابًا يوم القيامة.

الثانية: أنه يُعذَّب بما صنعت يده فيجعل له بكل صورة صورها ورحًا يُعذب بها في نار جهنم.

الثالثة: يؤمر أن ينفخ في هذه الصور الروح وليس بنافخ؛ إذ الخلق ونفخ الروح لا يقدر عليهما إلا الله وحده.

قال النووي في قوله ﷺ‬: «أشد الناس عذابًا المصورون» قيل هذا محمول على صانع الصورة لتُعبد وهو صانع الأصنام ونحوها، فهذا كافر وهو أشد الناس عذابًا، وقيل هو فيمن قصد المعنى الذي في الحديث من مضاهاته خلقه واعتقد ذلك فهذا كافر أيضًا، وله من شدة العذاب ما للكافر، ويزيد عذابه بزيادة كفره، فأما من لم يقصد بها العبادة ولا المضاهاة فهو فاسق صاحب ذنب كبير، لا يكفر كصاحب المعاصي، وقال: قال العلماء تصوير صورة لحيوان حرام، شديد التحريم، وهو من الكبائر المتوعد عليها بهذا الوعيد الشديد، وسواء صنعه لما يمتهن أم لغيره فصنعه حرام بكل حال، وسواء كان في ثوب أو بساط، أو درهم أو دينار أو فلس، أو إناء أو حائط أو غيرها، فأما ما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام.

ولمسلم عن أبي الهياج قال: قال لي علي - t-: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ‬ أن لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته».

مشرفًا: أي مرتفعًا، إلا سويته: أي بالأرض، ففيه التصريح ببعثه لتسوية القبور، لما في تعليتها من الفتنة بأربابها، وتعظيمها، وهو أكبر وسائل


الشرك وذرائعه، بل هو الأصل في عبادتها، وصرف الهمم إلى محو هذا وأمثاله من أكبر مصالح الدين ومقاصده وواجباته، ولما وقع التساهل في هذه الأمور وقع المحذور، فكثر التصوير واستعماله، وكثر البناء على القبور وزُخرفت، وجُعلت أوثانًا تُعبد من دون الله، وصُرف لها خالص التضرع والخشوع، والذبح لها والنذور، وغير ذلك من كل شرك محظور، قال ابن القيم: ومن جمع بين سنة رسول الله ﷺ‬ في القبور وما أمر به ونهى عنه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادًا للآخر مناقضًا له، بحيث لا يجتمعان، فنهى عن الصلاة إلى القبور وهؤلاء يصلون عندها وإليها، ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله، ونهى عن إيقاد السرج عليها وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد السرج عليها، ونهى أن تتخذ عيدًا وهؤلاء يتخذونها أعيادًا ومناسك، ويجتمعون لها اجتماعهم للعيد أو أكثر، وأمر بتسويتها وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين، ويرفعونها عن الأرض كالبيوت، ويعقدون عليها القباب، وذكر ما نهى عنه من تجصيصها والزيادة على ترابها، والتصريح بتحريم ذلك، وأنه قد آل الأمر بهؤلاء إلى أن شرعوا للقبور حجًا، ووضعوا لها مناسك، ولا يخفى ما فيه من مشاقة دين الإِسلام، والمفاسد التي عجز عن حصرها، منها اتخاذها أعيادًا، والسفر إليها، ومشابهة عباد الأصنام بما يفعل عندها من العكوف عليها، المجاورة عندها، وتعليق الستور عليها، وسدانتها والنذر لها ولسدنتها، واعتقاد المشركين فيها أن بها يُكشف البلاء، وتُقضى الحوائج وغير ذلك، والشرك الأكبر الذي يفعل عندها، وإيذاء أهلها، وتفضيلها على خير البقاع، والطواف بها، وتقبيلها، واستلامها وتعفير الخدود على تربتها، وعبادة


أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر، والرزق، والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم فالله المستعان!!

عباد الله:

في بيان هديه ﷺ‬ وهدي خلفائه في الصور والقبور كفاية ورشاد، فها هو أمير المؤمنين علي - t - يعرض على أبي الهياج أن يوجهه إلى القيام بالمهمة التي وجهه إليها رسول الله ﷺ‬ وهي:

الأول: إزالة الصور ومحوها؛ لما فيها من مضاهاة خلق الله، ولأنها وسيلة من وسائل الشرك.

فأول شرك وقع في الأرض كان في قوم نوح - u - يسب التصوير والعكوف على القبور وذلك أن (ودًا وسواعًا ويعوق ويغوث ونسرًا) كانوا رجالاً صالحين، فلما ماتوا صور قومهم صورهم في المجالس، لأجل الذكرى والاقتداء بهم في عمل الخير إلى أن آل الأمر بهم إلى عبادتهم.

إن الواجب على المسلم أن يكون مجتنبًا لتصوير ذوات الأرواح؛ لما ورد في ذلك من الوعيد الشديد، وأن يبادر إلى طمسها إن وجد.

الثاني: تسوية القبور العالية حتى تصير مساوية للأرض (فلا ترفع إلا قدر شبر لكي لا تداس)، فرفعها فوق ذلك وسيلة للشرك وعبادة أصحابها.

فلما وقع التساهل في هذه الأمور وقع المحذور وعظمت الفتنة بأصحاب القبور فيصرف لها أنواع من العبادات كالدعاء والذبح وذلك شرك أكبر.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [الزمر: 62].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله غلا الله وحده لا شريك له ولا ند وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

ينقسم التصوير إلى قسمين:

الأول: تصوير ما لا روح فيه كالجبال والأشجار، فهذا جائز.

الثاني: تصوير ذوات الأرواح، من إنسان، أو حيوان، سواء كانت الصورة مُجسمة كالتماثيل التي تنصب في المجالس لبعض الحيوانات ويسمونها تحف، أو ما ينصب من صور مجسمة في الحدائق كميادين، أو رسمًا على ورق أو قماش أو جدران أو التقاط بآلة التصوير (الفوتوغرافية)، فهذا من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد.

أما ما دعت إليه الضرورة: كالتصوير من أجل إثبات الشخصية، وجواز السفر، وتصوير المجرمين لضبطهم، ونحو هذا مما لا بد منه فهو جائز.

ولاقتناء الصور حالات، منها:

أولاً: إذا كانت الصور (فوتوغرافية) ويحتفظ بها للذكرى، أو تعلق على حائط، أو تكون في ثوب، فهذه من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد.

وهذه الصور مانعة لدخول ملائكة الرحمة، لقوله ﷺ‬: «إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة» [رواه النسائي] فالواجب الحذر من ذلك


ثانيًا: إذا كانت الصور مهانة كأن تكون على الفرش والمخدات ونحوها فهذا جائز.

ثالثًا: إذا كان الصور في مجلات أو صحف نافعة، تحوي بحوثًا علمية أو أخبارًا نافعة، واشتريت من أجل ما فيها من خير، ولم تكن الصور مقصودة؛ فهذه يجوز اقتناؤها، وإن أمكن طمسها بلا مشقة فهذا أولى.

هذا وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([67])

الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله ولا رب لنا سواه، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.

صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله - وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا﴾ [فصلت: 46].

أيها المسلمون:

اللسان من نعم الله العظيمة ولطائف صنعه الغريبة، فهو صغير جرمه، عظيم طاعته وجُرمه، إذ لا يتبين الكفر والإِيمان إلا بشهادة اللسان، وهما غاية الطاعة والعصيان.

فبهذا المخلوق الصغير يُعبر بالإِنسان عن بُغيته ويُفصح عن مشاعره، به يطلب حاجته، ويدافع عن نفسه، ويعبر عن مكنون فؤاده.

وينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام؛ إلا كلامًا ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنة الإِمساك عنه؛ لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وذلك كثير في


العادة، والسلامة لا يعدلها شيء.

ومن آفات اللسان - عباد الله - كثرة الحلف والأيمان، وقد ورد النهي عنه والوعيد لفاعله، لما يترتب عليه من منافاة كمال التوحيد الواجب.

فإنَّ من تعظيم الله وإجلاله حفظ اليمين، فلا يُحلف بالله إلا عند الحاجة ويكون صادقًا؛ لأن ذلك من كمال التوحيد المستحب. وقد أمر الله - سبحانه - عباده بحفظ اليمين، قال تعالى: ﴿وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ﴾.

والحفظ يكون بأمور:

عدم الإكثار من الحلف وعدم الحنث فيه: أي التراجع عما حلف عليه، إلا إذا حلف على ترك أمر هو خير، وكذلك عدم ترك الكفارة عند الحنث.

فمن المعلوم أن من يُكثر الحلف يكثر حنثه، ويقل تكفيره ليمينه، وكل ذلك من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد.

عباد الله:

أن يمين اللغو التي تجري على اللسان بلا قصد في عرض الحديث لا كفارة فيها، مثل قول الرجل: (لا والله، بلى والله).

أما اليمين المنعقدة التي تواطأ عليه القلب واللسان فهذه تجب فيها الكفارة عند الحنث.

والكفارة هي: إطعام عشرة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من الأرز ونحوه، أي: ما يعادل كيلو ونصف تقريبًا أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، قال تعالى: ﴿لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ﴾ [المائدة: 89].


وعن أبي هريرة - t - قال سمعت رسول الله ﷺ‬ يقول: «الحلف منفقة للسلعة، وممحقة للكسب» [رواه البخاري ومسلم].

قد يحلف البائع على السلعة بأن اشتراها بكذا وكذا، وأنه أعطى فيها كذا وكذا وهو كاذب حتى يروجها ويؤدي إلى بيعها والربح فيها، ولكنه قد عصى الله - سبحانه - في فعله هذا، فيُعاقب بزوال بركة هذا المال، فلا ينتفع به دينًا ولا دنيا، وربما ذهب رأس المال والربح معًا؛ بحريق، أو نهب، أو غير ذلك.

فالواجب على التاجر المسلم الحذر من الكذب، وتطييب ماله بالربح الحلال الذي لا يأتي إلا عن طريق الصدق، كما أن على المسلم تجنب كثرة الحلف بالله - تعالى - ولو كان صادقًا، حفظًا لليمين التي أمر الله بحفظها، وتعظيمًا له - سبحانه وتعالى-.

والواجب يجب الحذر من اليمين الغموس، وهي التي تغمس صاحبها في الإِثم ثم في النار، وهي التي يحلفها على أمرٍ ماض كاذبًا عالمًا بكذبه، وهي لا تختص بالبيع والشراء وإنما عامة لكل من حلف وهو كاذب.

وفي الحديث عن سلمان - t - أن رسول الله ﷺ‬ قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه» [رواه الطبراني بسند صحيح].

في هذا الحديث بين ﷺ‬ الوعيد الشديد لثلاثة أصناف من العصاة: أن الله لا يكلمهم المراد بنفي الكلام - هنا - كلام الرضا، أما الغضب والتوبيخ فإن هذا الحديث لا يدل على نفيه، ولا يطهرهم من دنس الذنوب، ولهم عذاب أليم وهؤلاء هم:


الأول: من يرتكب فاحشة الزنا مع كبر سنه، والزنا وإن كان قبيحًا من كل أحد فهو من هذا أشد قبحًا؛ لأن داعي المعصية ضعيف في حقه، فدل على أن الحامل له على الزنا محبة المعصية والفجور وعدم الخوف من الله.

الثاني: فقير يتكبر على الناس؛ والكبر وإن كان قبيحًا، فاستكبار الفقير مع عدم الداعي إليه يدل على أن الكبر طبيعة له.

الثالث: من يكثر من استعمال الحلف في البيع والشراء، فيمتهن اسم الله ويجعله وسيلة لاكتساب ماله.

وفي الصحيح عن عمران بن حصين - t - قال: قال رسول الله ﷺ‬: «خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثًا: «ثم إن بعدكم قومًا يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن».

وفيه عن ابن مسعود - t - أن النبي ﷺ‬ قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته».

عباد الله:

الصحابة - y - أفضل الأمة كما شهد بذلك الرسول ﷺ‬ في قوله: «خير أمتي قرني»، بل هم أفضل الخلق بعد الأنبياء ما كان ولن يكون مثلهم فقد شرفهم الله - سبحانه - بصحبة نبيه محمد ﷺ‬، فناصروه، وبلَّغوا عنه العلم وجاهدوا معه بأنفسهم وأمولهم، وتحمَّلوا المشاق من أجل نشر هذا الدين العظيم، - فرضي الله عنهم وأرضاهم-.

وقد بين الرسول ﷺ‬ تفاضل القرون، وأخبر أن خير هذه الأمة القرون الثلاثة الأولى، وهم: الصحابة والتابعون وأتباع التابعين؛ لظهور الإِسلام


فيهم وقربهم من نور النبوة، ثم بعد هذه القرن المفضلة يفشو الشر في الأمة.

وأخبر الرسول ﷺ‬ أن هناك صفات ذميمة ستظهر بعد القرون المفضلة؛ لضعف الإِيمان، وقد ظهر ما أخبر به النبي ﷺ‬ - وهذا علم من أعلام نبوته ﷺ‬ - وهذه الصفات هي:

أولاً: التهاون بالشهادة والتسرع فيها: حيث ذم التسرع في الشهادة إلا أن تطلب منه إلا إذا كان المشهود له لا يدري أن هذا الشخص عنده شهادة وخُشي أن يضيع حقه، فإن الشاهد يتقدم عليه ويقول له عندي لك شهادة وعلي يحمل حديث: «ألا أخبركم بخير الشهداء؟! الذي يأت بشهادته قبل أن يُسألها؟!» [رواه مسلم]).

ثانيًا: الخيانة، وهي الغدر والخداع في موضع الائتمان.

ثالثًا: عدم الوفاء بالنذر الذي ألزمه الإنسان مع نفسه.

رابعًا: التنعم والترفه الذي يلهي عن طاعة الله.

خامسًا: كثرة الحلف والشهادة.

فعلى المسلم أن يحذر من الوقوع في هذه الصفات الذميمة؛ سلامة لدينه، وحفظًا لعقيدته.

قال إبراهيم النخعي: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار.

أخبر إبراهيم النخعي عن التابعين؛ عنايتهم بتربية أبنائهم، وأنّهم يؤدبون أبناءهم على تعظيم النخعي عن التابعين؛ عنايتهم بتربية أبنائهم، وأنّهم يؤدبون أبناءهم على تعظيم الشهادة والحلف بالله؛ لأن من اعتادهما في حال الصغر أدى به ذلك إلى التساهل بهما في حال الكبر.

فما أحوجنا إلى التأسي بالسلف الصالح في تنشئة الصغار على طاعة ربهم وتعظيم أوامره وترك نواهيه.


أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال: 24].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله بيده مقاليد الأمور، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم، أدى الأمانة ونصح الأمة؛ فصلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقد اختار الله - عز وجل - لصحبة نبيه أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم، وقد أثنى الله عليهم هو ورسوله - y - وأعد لهم الحسنى، في آيات كثيرة كقوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ﴾ [التوبة: 100] وقوله تعالى: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: 29].

قال شيخ الإِسلام - رحمه الله-: وأما الخلفاء الراشدون والصحابة فكل خير فيه المسلمون إلى يوم القيامة من الإِيمان والإِسلام والقرآن والعلم والمعارف والعبادات، ودخول الجنة، والنجاة من النار، وانتصارهم على الكفار وعلو كلمة الله، فإنما هو ببركة ما فعله الصحابة الذين بلغوا الدين


وجاهدوا في سبيل الله، وكل مؤمن من آمن بالله، فللصحابة - y - الفضل إلى يوم القيامة.

هذا، وصلوا...


الخطبة الأولى([68])

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70 ، 71].

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله - فقد تخرمت الأعمار، ومضت الأيام، وأمامكم يوم مهول تشيب فيه الولدان، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد.

عباد الله:

الجهاد حصن الإِسلام وسياجه، وقوام الدين وعماده، ومعقل الدولة الأشب، وركن الأمة الركين، فيه حماية الذمار وصيانة الديار، وخضد


شوكة العدو، وفلَّ حدهم، وإرهابهم وإذهاب ريحهم، وكبح جماح مطامعهم.

وفيه قوة الإِسلام وعزته، ورهبة جانبه، وأمنه وطمأنينته، وشجو حساده، وغيظ عدوه، واتساع رقعة بلاده، وبسطة نفوذه، وقوة سلطانه ونفاذ كلمته، ما تركه قوم إلا ذلوا وذهبت ريحهم، وسيموا الخسف، وديثوا بالذلة والصغار وطمع فيهم عدوهم، وأمسوا على جناح خوف، وبمدرجة حتف، وباتوا غرباء في أوطانهم، لقمة كل جائع ونهبة كل طامع، يجوعون ليشبع أعداؤهم، ويعرون ليكتسي غاصبوهم، ويشقون ليسعد الطامعون فيهم.

ولنشر الدِّين ورفع رايته والدعوة إلى الله - عز وجل-، ورد كيد الكفار والمتربصين، قال الله تعالى: ﴿انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 41]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 111].

قال ابن كثير - رحمه الله-: يخبر الله - تعالى - أنه عاوض عباده المؤمنين عن أنفسهم وأمولهم إذا بذلوها في سبيله بالجنة، وهذا من فضله وكرمه وإحسانه، فإنه قبل العوض عما يملكه بما يتفضل به على عباده المطيعين له؛ ولهذا قال الحسن البصري وقتاده: بايعهم والله فأغلى ثمنهم.

وقال محمد بن كعب القرظي وغيره: قال عبد الله بن رواحة - t - لرسول الله ﷺ‬ يعني ليلة العقبة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت! فقال: «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني


مما تمنعون منه أنفسهم وأموالكم» قالوا: فما لنا إذا فعلن ذلك؟ قال: «الجنة» قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم﴾.

وقال تعالى: ﴿يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ أي: سواء قَتَلوا أو قُتِلوا، أو اجتمع لهم هذا وهذا؛ فقد وجبت لهم الجنة، ولهذا جاء في الصحيحين: «وتكفل الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وتصديق برسلي، إن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة».

وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الصف: 10 – 13].

في الحديث الذي رواه الإِمام مسلم أنه ﷺ‬ قال: «إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف».

وقال ﷺ‬: «ما اغبرت قدماء عبد في سبيل الله فتمسه النار» [رواه البخاري].

وقال ﷺ‬: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله» [متفق عليه].

وقال ﷺ‬ حاثًا على الجهاد، وما أعده الله للمجاهدين: «لغدوة في سبيل الله، أو روحة، خير من الدنيا وما فيها» [متفق عليه].

وعن أبي هريرة - t - قال: سُئل رسول الله ﷺ‬: أي الأعمال أفضل؟ قال: «إيمان بالله ورسوله» قيل: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله»


قيل: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور» [متفق عليه].

عباد الله:

جعل الإسلام للجهاد ضوابط وقواعد سواءً في العهود والمواثيق أو غيرها.

قال سبحانه وتعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ [النحل: 91].

أمر الله - سبحانه - عباده بالوفاء بالعهود والمواثيق، ومن ذلك العهود المبرمة بين المسلمين والكفار، فنقضها ترك لتعظيم الله، وتهوين لشأن الدين، وتزهيد للكفار به، وذلك من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد.

وقد وجه ﷺ‬ بتوجيهات عظيمة ووصايا رفيعة لهذه الشعيرة العظيمة؛ منها ما رواه بريدة - t - قال: كان رسول الله ﷺ‬ إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية؛ أوصاه بتقوى الله - تعالى - وبمن معه من المسلمين خيرًا! فقال: «اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر لله، اغزوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خلال أو خصال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك؛ فاقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم المسلمين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا، فاستعن بالله وقاتلهم؛ وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم


ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم، أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا» [رواه مسلم].

أوصى الرسول ﷺ‬ قائد الجيش بوصايا عظيمة:

الأولى: تقوى الله - عز وجل - والإِحسان إلى من معه والرفق بهم.

الثاني: الاستعانة بالله عند بدء القتال.

الثالث: قتال الكفار لتكون كلمة الله هي العليا، لا لطلب المال، أو الجاه.

الرابع: عدم الغلول والغدر والتمثيل وقتل من لا يستحق ذلك: كالصبيان، النساء، والمرضى، وكبار السن، وما لم يحصل منهم قتال، أو تدبير، وهذه الوصية النبوية العظيمة جمعت ما يسمى اليوم (بحقوق الإِنسان) التي يتبجح بها الغرب الكافر ولا يطبقها.

الخامس: أن يدعو الكفار إلى ثلاث خصال:

أن يدعوهم إلى الإِسلام: فإذا قبلوا فلهم الهجرة إلى المدينة، ويكون لهم ما للمهاجرين من الغنيمة والفيء، وعليهم ما على المهاجرين من الجهاد والنصرة، وإن بقوا في بلادهم مع ترك الجهاد فليس لهم من الغنيمة والفيء شيء.

فإن أبوا الإِسلام، دفعوا الجزية.

فإن أبوا الإِسلام والجزية يُقاتلوا؛ ليكون الدين كله لله.

وحذر ﷺ‬ قائد الجيش عندما يحاصر الكفار في حصونهم، فيطلب الكفار منه أن يجعلوا لهم عهد الله وعهد نبيه ﷺ‬ ألا يجعل لهم ذلك؛ خشية نقضه ممن لم يعرف حق الوفاء بالعهد كبعض الأعراب، ولكن يجعـل


لهم عهده، وعهد أصحابه؛ لأن نقض عهد الخلق أهون من نقض عهد الله وعهد نبيه ﷺ‬.

وإذا طلب الكفار من المسلمين النزول على حكم الله فإن على المفاوض المسلم - إذا كانت المسألة اجتهادية - أن ينزلهم على حكمه، فيحكم فيهم بما يرى أنه الأصلح للمسلمين؛ والسبب أنه لا يعلم هل أصاب فيهم حُكم الله أم لا؟!

إن الواجب على أهل الإِسلام الوفاء بالعهود والمواثيق، والحذر من نقضها والتهاون بها؛ لأن ذلك من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 33].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله، فرض لنا الشرائع، وأنزل علينا الكتاب المبين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله - وأعدوا العدة كما أمركم ربكم: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ [الأنفال: 60].

أيها الناس:

قال ابن تيمية - رحمه الله-: والجهاد - باتفاق العلماء - أفضل من الحج والعمرة، ومن صلاة التطوع، وصوم التطوع... ونفع الجهاد لفاعله ولغيره في الدين والدنيا، وهو مشتمل على جميع العبادات الظاهرة والباطنة: محبة الله، والإِخلاص له، والتوكل عليه، وتسليم النفس والمال له، والصبر والزهد، وذكر الله.

وسُئل أيضًا عن رجل قدم يريد الغزو ولم يحج، فنزل على قوم ثبطوه عن الغزو، وقالوا: إنك لم تحج تريد الغزو؟ قال أبو عبد الله - أي الإِمام أحمد: يغزو ولا عليه، فإن أعانه الله حج، ولا نرى بالغزو قبل الحج بأسًا.

قال أبو العباس: هذا مع أن الحج واجب على الفور عنده، لكن تأخيره لمصلحة الجهاد؛ كتأخير الزكاة الواجبة على الفور لانتظار قوم أصلح من غيرهم، أو لضرر أهل الزكاة.


قال ﷺ‬: «من طلب الشهادة صادقًا أعطيها ولو لم تُصبه» [رواه مسلم].

قال الحسن: إن لكل طريق مختصرًا، ومختصر طريق الجنة الجهاد.

وقال شيخ الإسلام: ومن كان كثير الذنوب، فأعظم دوائه الجهاد في سبيل الله.

ولهذا كان السلف يتسابقون إلى ساحات الوغى، ومواطن الجهاد، وأطراف الثغور، رغبة فيما عند الله عز وجل رغم ما يصيبهم.

قال معاوية بن قرة: أدركت ثلاثين رجلاً من أصحاب النبي ﷺ‬، ما منهم إلا من طَعَنَ أو طُعِنَ، أو ضَرَب أو ضُرِبَ مع رسول الله ﷺ‬.

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([69])

الحمد لله الذي نصب طاعته والخضوع له على صدق محبته دليلاً، وفضَّل أهل محبته ومحبة كتابه ورسوله على سائر المحبين تفضيلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مقر بربوبيته، شاهد بوحدانيته، منقاد إليه لمحبته، مذعن له بطاعته معترف بنعمته، فار إليه من ذنبه وخطيئته، لا يبتغي سواه ربًا، ولا يتخذ من دونه وليًا ولا وكيلاً، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، أحبهم إليه، وأكرمهم عليه، فصلى الله وملائكته وأنبياؤه ورسله، وجميع عباده المؤمنين عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله-، فمن اتقى الله وقاه، ومن اعتمد عليه كفاه ﴿وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].

عباد الله:

من حفظ لسانه قل خطؤه، وكان أملك لزمام أمره، وأجدر ألا يقع في محذور، وقد ضمن له النبي ﷺ‬ الجنة، في قوله: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه، أضمن له الجنة» [رواه البخاري].

وما بين اللَّحيين هو اللسان، وما بين الرِّجلين هو الفرج.

قال الإمام النووي - رحمه الله-: اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام، إلا كلامًا ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى


الكلام وتركه في المصلحة؛ فالسنة الإِمساك عنه؛ لأنه قد ينجرُّ الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وذلك كثير في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء.

فمن استقام لسانه استقامت جوارحه، ومن عصى لسانه وخاض في أعراض الناس عصت جوارحه وانتهكت حرمات الله، وقد ثبت عن النبي ﷺ‬ أنه قال: «إذا أصبح ابن آدم، فإن الأعضاء كلها تُكَّفر اللسان، تقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا» [رواه الترمذي].

قال النووي - رحمه الله-: معنى «تكفر اللسان» أي تذل وتخضع.

وقال الألباني: - رحمه الله-: أو هو كناية عن تنزيل الأعضاء اللسان منزلة الكافر بالنعم.

عباد الله:

إن اللسان من نعم الله العظيمة، ولطائف صنعه الغريبة، فإنه صغير جرمه، عظيم طاعته وجُرمه، إذ لا يستبين الكفر والإِيمان إلا بشهادة اللسان، وهما غاية الطاعة والعصيان.

واللسان رحب الميدان ليس له مرد، ولا لمجاله منتهى وحد، له في الخير مجال رحب، وله في الشر ذيل سحب، فمن أطلقه عذبه اللسان أو أهمله مرخي العنان، سلك به الشيطان في كل ميدان، وساقه إلى شفا جرف هار إلى أن يضطره إلى البوار، ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم، لا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع، فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة.

أيها المسلمون:

الله - عز وجل - له كمال التعظيم والجلال، وسعت رحمته كل شيء، لا مُكره له، فينبغي على العبد - وإن كان من أهل الصلاح - أن يتأدب مع الله،


فلا يُقسم بأن الله لا يغفر لفلان، ولو كان باعثه الغيرة وحب الخير، لأن الإقسام على الله على وجه الحجر على فضله - سبحانه - من أعظم المحرمات المنقصة لتوحيد العبد.

والإِقسام على الله ينقسم إلى قسمين:

الأول: أن يكون الباعث على القسم حسن الظن والثقة بالله، فهذا جائز لقوله ﷺ‬: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره» [رواه البخاري].

الثاني: أن يكون الباعث على القسم: الإِعجاب بالنفس وتحجر فضل الله، وفي ذلك إساءة أدب مع الله - عز وجل - كقول: والله لا يغفر الله لفلان، فهذا من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد.

أيها المسلمون:

عن جندب بن عبد الله - t - قال: قال رسول الله ﷺ‬: «قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله - عز وجل-: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؛ إني قد غفرت له؛ وأحبطت عملك» [رواه مسلم].

يخبر النبي ﷺ‬ على وجه التحذير من خطر اللسان: أن رجلاً حلف ألا يغفر الله لرجل مذنب؛ فكأنه حكم على الله وحجر عليه؛ لما اعتقد لنفسه عند الله من الكرامة والمكانة، ولذلك المذنب من الإهانة.

وهذا سوء أدب مع الله، أوجب لذلك الرجل الشقاء والخسران في الدنيا والآخرة، وفي الحديث دلالة على أن الجنة أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، والنار مثل ذلك.

فالواجب على العبد ألا يقسم على الله على وجه الحجر، بل ينبغي أن يتأدب مع ربه، وألا يغتر بكثرة عمله، بل يسأل الله الثبات.

وفي حديث أبي هريرة، أن القائل رجل عابد، قال أبو هريرة: تكلم


بكلمة أوبقت دنياه وآخرته.

يشير إلى ما رواه أبو داود وغيره عن أبي هريرة - t-: «كان رجلان في بني إسرائيل متآخيين، فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة، فكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على الذنب، فيقول: أقصر، فوجده يومًا على ذنب، فقال له أقصر، فقال خلني وربي، أبعثت عليَّ رقيبًا، فقال: والله لا يغفر الله لك، ولا يدخلك الجنة، فقبضت أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالمًا، أو كنت على ما في يدي قادرًا، فقال للمذنب: اذهب فأدخل الجنة، وقال الآخر: اذهبوا به إلى النار».

وفي هذا الحديث بيان خطر اللسان، وذلك يفيد التحرز من الكلام، وفي حديث معاذ الذي رواه الترمذي قلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم».

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه-: من العجب أنَّ الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم، والزنى، والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر المحرم، وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، وكم نرى من رجل متورِّع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي ما يقول.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ [الإسراء: 36].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله دل على الحق ورفعه، ونهى عن الباطل ووضعه، أحمده - سبحانه - وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، حاز من الفضل والشرف أكمله وأجمعه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره واتبعه.

أما بعد:

فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم، وقابلوا بين صالحها وسيئها قبل أن توزنوا، فإن الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني؛ فمن حاسب نفسه واجتهد في إزالة ما فيه من الأخلاق الرذيلة، وجاهدها للتحلي بالأخلاق الجميلة، فقام بحقوق ربه جاهدًا مجتهدًا، وسلك سبيل الهدى وكان في سبيله مقتصدًا، تائبًا من ذنوبه معترفًا بعيوبه، راجيًا من ربه قبول توبته وإدراك مطلوبه، ساعيًا في برِّ والديه وصلة أرحامه والقيام بحق معلميه، قائمًا بحق جيرانه وإخوانه ومعامليه، متحريًا الصدق والبر والإِحسان، لا يزال لسانه رطبًا من ذكر الملك الديان، سليم القلب من الرياء والكبر والحسد والحقد والهوى، حافظًا لسانه من الغيبة، والنميمة، والكذب، والفحش، والزور، والبذاء؛ مخلصًا في أعمله لا يريد بها سوى ثواب ربه ورضاه، محسنًا في اتباع نبيه، مقتديًا بسنته وهداه، فهذا هو الكيس الذي أدرك الفوز واغتنم الفلاح.


والعاجز من أخلد إلى الكسل والبطالة واتباع الشهوات؛ ففاتته المتاجر والأرباح، فهذا أحمق جاهل تمنى على الله الفوز بالجنات، وهو قد أعطى نفسه هوها وترك الأعمال الصالحات: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [الجاثية: 21].

فذاك حياته حياة خير وسرور، وفي قبره قد افترش الديباج، والتحف بالنور، وفي حشره قد سبق وأخذ إلى الرب الغفور، وحين وصوله إلى تلك المساكن الطيبة الأنيقة والديار، تتلقاهم الملائكة من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، والآخرون حياتهم حياة هم وغم وكسلك وشقاء، وموتهم حزن وهلاك وردى، ومقامهم في أضيق مكان وعذاب سرمد؛ فما أبعد الفرق بين الفريقين، وما أشد التباين بين الطريقين: ﴿لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [الحشر: 20].

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([70])

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونُثني عليه الخير كله، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يهدي بفضله إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله؛ جعلنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله - أيها المسلمون - فبتقوى الله تزكو الأعمال وتنال الدرجات ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

أيها المسلمون:

أصحاب رسول الله هم الصفوة المختارة من الأمة؛ خاطبهم النبي ﷺ‬ فقال: «أخوفُ ما أخافُ عليكم الشرك الأصغر» [رواه أحمد].

ويزداد الخوف حين يتأمَّل المتأمل قوله ﷺ‬: «الشركُ في أمتي أخفى من دبيب النمل» [رواه أحمد]، بل لقد أخبر - عليه الصلاة والسلام-: «أن فئامًا من الأمة تعبدُ الأوثان وقبائل تلحق بالمشركين» [رواه أبو داود].

قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في قول الله تعالى: ﴿ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 88]، قال -


رحمه لله-: فيه تشديد لأمر الشرك، وتغليظ لشأنه، وتعظيم لملابسته.

لماذا - يا عباد الله - لا يُخاف الخلل في التوحيد، والنقص في صدق التعبد والتعلق؟ لماذا لا يُحذر من الشرك وأنواعه وأسبابه، والله يقول في محكم تنزيله: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾ [يوسف: 106].

قال بعض أهل العلم: في هذه الآية دلالة على ما يتخلل بعض الأفئدة، وتنغمس فيه بعض النفوس من الشرك الخفي الذي لا يشعر به صاحبه غالبًا؛ فمثل هذا وإن اعتقد وحدانية الله لكنه لا يخلص له في عبوديته، فيتعلق بغير ربه، بل ويعمل لحظ نفسه، أو طلب دنياه، أو ابتغاء رفعة، أو منزلة، أو قصد، أو جاه عند الخلق، فلله من عمله وسعيه نصيب، ولنفسه وهواه نصيب، وللشيطان نصيب، وللخلق نصيب، والله أغنى الشركاء عن الشرك.

عباد الله:

عن جبير بن مطعم - t - قال: جاء أعرابي إلى رسول الله ﷺ‬ فقال: يا رسول الله نهكت الأنفس وجاع العيال، وهلكت الأموال فاستسق لنا ربك؛ فإنا نستشفع بالله عليك، وبك على الله.

فقال النبي ﷺ‬: «سبحان الله، سبحان الله» فما زال يُسبح حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: «ويحك أتدري ما الله؟ إن شأن الله أعظم من ذلك؛ إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه» [رواه أبو داود].

عباد الله:

جاء أعرابي إلى النبي ﷺ‬ يشكو ما أصاب الناس من الحاجة إلى المطر فقد هلكت الأنعام وضعفت الأبدان، وجاع العيال، ويطلب من النبي ﷺ‬ أن يسأل ربه أن ينزل المطر عليهم، فأنكر الرسول ﷺ‬ على الأعرابي حين أساء


الأدب مع ربه في قوله: (فإنا نستشفع بالله عليك)، وهذا يقتضي أنه جعل مرتبة الله أدنى من مرتبة الرسول ﷺ‬ ولهذا سبح الرسول ﷺ‬ مرارًا؛ استنكارًا لهذا القول وتنزيهًا لله عما لا يليق بجلاله وعظمته.

ومعنى الاستشفاع بالله على خلقه: أن يجعل العبد ربه واسطة يشفع له عند أحد من الخلق.

وهو من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد؛ لأن الشافع يشفع عند من هو أعلى منه، والله - سبحانه - هو الكبير المتعال لا أحد أعلى منه.

ويدخل في هذا قول: (ما لي واسطة في الوزارة الفلانية إلا الله)، لأن هذا كلام باطل معناه: أنه يجعل الله واسطة بينه وبين الموظفين في قضاء حاجاته، فيجب الحذر من ذلك.

أيها المسلمون:

إن شأن الله أعظم من أن يستشفع به على خلقه، فهو رب كل شيء ومليكه، فالواجب على العبد التحرز من الألفاظ التي فيها منافاة لعظمة الله وكمال.

لم ينكر الرسول ﷺ‬ قول الأعرابي: (نستشفع بك على الله)؛ لأنها طلب الدعاء من الرسول ﷺ‬ لهم بالسقيا، وفي هذا دلالة على جواز الاستشفاع بالرسول ﷺ‬ في حياته بأن يطلب منه أن يدعو الله له، أما بعد موته ﷺ‬ فذلك شرك أكبر ينافي التوحيد.

قال ابن القيم - رحمه الله - في إغاثة اللهفان: قال تعالى: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ * قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الزمر: 43 ، 44]، فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السموات والأرض، وهو الله وحده، فهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه


ليرحم عبده، فيأذن هو لمن يشاء أن يشفع فيه، فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له، والذي يشفع عنده إنما يشفع بإذنه له وأمره بعد شفاعته - سبحانه - إلى نفسه، وهي إرادته من نفسه أن يرحم عبده، وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون ومن وافقهم، وهي التي أبطلها الله - سبحانه - في كتابه بقوله: ﴿وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ﴾ [البقرة: 123] وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ﴾ [البقرة: 254] وقال تعالى: ﴿وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 51] وقال: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ﴾ [السجدة: 4].

فأخبر - سبحانه - أنه ليس للعباد شفيع من دونه، بل إذا أراد الله - سبحانه - رحمة عبده أذن هو لمن يشفع فيه، كما قال تعالى: ﴿مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ [يونس: 3] وقال: ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: 255] فالشفاعة بإذنه ليست شفاعة من دونه، ولا الشافع من دونه بل شفيع بإذنه.

والفرق بين الشفيعين، كالفرق بين الشريك والعبد المأمور، فالشفاعة التي أبطلها الله شفاعة الشريك، فإنه لا شريك له، والتي أثبتها: شفاعة العبد المأمور الذي لا يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له، ويقول: اشفع في فلان، ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد، الذين جردوا التوحيد وخلصوه من تعلقات الشرك وشوائبه، وهم الذين ارتضى الله - سبحانه-، قال تعالى: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ [الأنبياء: 28] وقال: ﴿يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾ [طه: 109].


فأخبر أنه لا يحصل يومئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضا قول المشفوع له، وإذنه للشافع فيه، فأما المشرك فإنه لا يرتضيه ولا يرضى قوله، فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه، فإنه - سبحانه - علقها بأمرين: رضاه عن المشفوع له وإذنه للشافع، فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [يونس: 18].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد له عَظُمَ شأنه ودام سلطانه، أحمده - سبحانه - وأشكره، عم امتنانه وجَزُلَ إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدً عبده ورسوله، به علا منار الإِسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

التوحيد هو أول الدين وآخره وظاهره وباطنه، وقطب رحاه، وذروة سنامه، قامت عليه الأدلة، ونادت عليه الشواهد، وأوضحته الآيات، وأثبتته البراهين، ونصبت عليه القبلة، وأسست عليه الملة، ووجبت به الذمة، وعصمت به الأنفس، وانفصلت به دار الكفر عن دار الإِسلام، وانقسم به الناس إلى سعيد وشقي ومهتد وغويِّ.

أيها الإخوة: لقد كانت عناية القرآن بتوحيد الله عظيمة فهو القضية الكبرى، ومهمة رسل الله الأولى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36]، ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ [الزخرف: 45]، فالقرآن كله حديث عن التوحيد، وبيان حقيقة والدعوة إليه، وتعليق النجاة والسعادة في الدارين عليه، حديث عن جزاء أهله وكرامتهم على ربهم، كما أنه حديث عن ضده من الشرك بالله وبيان حال أهله وسوء منقلبهم في الدنيا، وعذاب الهون في الأخرى: ﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ [الحج: 31]، ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: 48].


والأوامر والنواهي ولزوم الطاعات وترك المحرمات هي حقوق التوحيد ومكملاته.

القرآن العظيم يخاطب الكفار بالتوحيد ليعرفوه ويؤمنوا به ويعتنقوه: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [الذاريات: 50 ، 51].

بل وكل نبي يقول لقومه: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 59]، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25] ويخاطب به المؤمنون ليزدادوا إيمانًا وليطمئنوا إلى تحقيق توحيدهم، وليحذورا النقص فيه أو الخلل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ﴾ [النساء: 136].

ومن صفات عباد الرحمن: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ [الفرقان: 68] ومن نعوت أهل الإِيمان الموعودين بالتمكين في الأرض: ﴿يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور: 55].

بل لقد خاطب الله أنبياءه ورسله بنبذ الشرك والبراءة من أهله والإِعراض عنه وعنهم؛ فقال عز وتبارك: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا﴾ [الحج: 26] وقال عز وجل: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 132 ، 133]، وقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ﴾ [الزمر: 65 – 66]، ﴿قُلْ إِنَّمَا


أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ﴾ [الرعد: 36]، ﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [القصص: 87].

هذا، وصلوا وسلموا...


الخطبة الأولى([71])

الحمد لله الذي كان بعباده خبيرًا بصيرًا، وتبارك الذي جعل في السماء بروجًا وجعل فيها سراجًا وقمرًا ومنيرًا، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذَّكَّر أو أراد شكورًا، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله-، اتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، ثم تُوفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.

أيها المسلمون:

بعث الله نبينا محمدًا بالمحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فبلغ ﷺ‬ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده؛ ولعظم أمر الشرك وخطورته حَمَى ﷺ‬ حِمَى التوحيد وسد طرق الشرك حتى يُعبد الله وحده دون ما سواه.

وقد كان ﷺ‬ أحرص الناس على أمته، يحب هدايتهم وطاعتهم لربهم ونجاتهم من أسباب الهلاك والردى، ولا أدل على ذلك من تصويره لمثله ومثل أمته، بقوله ﷺ‬: «مثلي كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، قال: فذلكم مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار: هلم عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني تقحمون فيها» [رواه مسلم].


أيها المسلمون:

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36]، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25] وغير ذلك من الآيات الدالة على عظم التوحيد، وكلا الآيتين فيها العموم الواضح: أن أول شيء بدأت به الرسل قومهم هو التوحيد، وأيضًا في إفراد الرسل جاءت الآيات، كما قال عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وغيرهم، أن أول شيء بدءوا به قومهم: ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [المؤمنون: 32]، فهذه دعوة الرسل، وزبدة الرسالة، وبه تعرف عظمة شأن التوحيد، ومعرفتك عظمته بأن تصرف همتك إليه، وإلى معرفته والعمل به غاية جهدك، وإلى معرفة ما يضاده وما سواه من أنواع العلوم الفرعية بعد ذلك، فيهتم الإِنسان غاية الاهتمام بمعرفة أصل الدين إجمالاً قبل الواجب من الفروع، الصلاة والزكاة وغير ذلك فلا تصح الصلاة ولا الزكاة قبل الأصل، فلا بد من معرفة أصل الدين إجمالاً، ثم معرفة فروعه تفصيلاً، وفي حديث معاذ لمَّا بعثه إلى اليمن، قال له: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة لا إله إلا الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة».

وهذا يفيد أنهم إذا لم يعلموا التوحيد ولم يعملوا به، فلا يدعوهم للصلاة إن لم يطيعوه في الدخول في الإِسلام، فإن الصلاة لا تنفع ولا غيرها بدون التوحيد، فإن لا يستقيم بناء على غير أساس، ولا فرع على غير أصل، والأصل والأساس هو التوحيد، والصلاة وإن كانت هي عمود الإِسلام فمـع ذلك لم تفرض إلا بعد أن اسـتقر التوحيد في النـفوس بنحو عشر


سنين، ومما يبين أن التوحيد هو الأصل كونه يوجد من يدخل الجنة، ولو لم يصل ركعة واحدة، وذلك إذا اعتقد التوحيد وعمل به ومات متمسكًا به، كأن يقتل قبل أن يُصلي أو يموت، والصلاة لا تنفع وحدها، ولو صلى وزكى وصام، إذا لم يعتقد التوحيد.

وبذلك يعرف عظم شأن التوحيد، وما هلك من هلك إلا بترك العلم بالتوحيد والعمل به، وما دخل الشيطان على من دخل، ولا مزق عقول من مزق، ولا وقع ما وقع إلا من آفة قولهم: يكفي النطق بالشهادة، ومجرد المعرفة، حتى إن من علمائهم من لا يعرف التوحيد أصلاً، وذلك لكونهم ابتلوا بالشرك، وعبادة الأوثان، وكثرة الشبهات الباطلة، فبذلك خفي التوحيد على كثير ممن يدعي العلم؛ لعدم المعرفة به، وإلا فمعرفة التوحيد والشرك من أهون ما يكون وأسهله إجمالاً، كما في زمن الصحابة، فإنهم كانوا يعرفون التوحيد والشرك، فمن قال: لا إله إلا الله، يترك الشرك، ويعلم أنه باطل مناف لكلمة الإِخلاص؛ ولهذا لما دعاهم النبي إلى التوحيد وقال: «قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا»، قالوا: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص: 5] وأما حين كثرت الشبهات صعب معرفة التوحيد، والتخلص من ضده، وكثر النفاق، وصار الكثير يقولها ويعبد مع الله غيره، فالله المستعان.

عباد الله:

عن عبد الله بن الشخير - t - قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله ﷺ‬، فقلنا: أنت سيدنا، فقال: «السيد الله - تبارك وتعالى ـ» قلنا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً، فقال: «قولوا بقولكم؛ أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان» [رواه أبو داود يسند جيد].


أراد وفد بني عامر إظهار حبهم للرسول ﷺ‬ وبيان مكانته، فقالوا له: أنت سيدنا وابن سيدنا فقال: «السيد الله - تبارك وتعالى ـ» إذ السيادة الكاملة لله - سبحانه-، والخلق كلهم عبيد له، وقد نهاهم عن هذا القول؛ تأدبًا مع الله - سبحانه - وحماية للتوحيد ثم أثنوا عليه بقولهم أفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً فنهى ﷺ‬ عن ذلك؛ «قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان» وكل ذلك مخافة أن يجرَّهم الشيطان إلى الغلو المفضي إلى الشرك، وأمرهم أن يقتصروا على الألفاظ التي لا غلو فيها ولا محذور كأن يدعوه بمحمد رسول الله ﷺ‬ كما سماه ربه - عز وجل-.

وعن أنس - t - أن أناسًا قالوا: يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال: «يا أيها الناس! قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان؛ أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أُحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلتي الله - عز وجل ـ» [رواه النسائي بسند جيد].

أنكر الرسول ﷺ‬ على أناس ثناءهم عليه بقولهم: يا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا؛ لئلا يكون ذلك وسيلة إلى الغلو فيه والإِطراء، وفيه التحذير من كيد الشيطان وأنه قد يأتي من طريق الزيادة على الحد المشروع، وأن الغلو في مدح النبي منهي عنه لأنه من الشيطان كما في بعض قصائد المدائح النبوية من الغلو الذي يوصل إلى درجة الشرك.

وأرشدهم إلى أن يصفوه بصفتين: عبد الله ورسوله، وألا يرفعوه فوق المنزلة التي أنزلها الله إياها، حماية للتوحيد، وسدًا لباب الغلو المفضي إلى الشرك.

وأفاد الحديث تواضع الرسول ﷺ‬؛ وهو أشرف الخلق وأفضلهم على الإِطلاق.


عباد الله:

الأصل أنه لا يجوز أن يقال للمسلم يا سيد لحديث «السيد الله -تبارك وتعالى-»، ولكن إذا كان له مكانه في العلم والفضل فلا مانع، وكذا يباح أن يقول المملوك لمالكه: سيدي.

أما الكافر والمنافق فيحرم على المؤمن إطلاق السيد عليهما لقوله ﷺ‬: «لا تقولوا للمنافق سيدنا، فإنه إن يك سيدكم فقد أسخطتم ربكم -عز وجل » [رواه أحمد].

فالواجب على العبد أن يكون مجتنبًا الأقوال المفضية إلى الغلو في المخلوق؛ سدًا لباب الشرك وحماية للتوحيد.

وقد نهى ﷺ‬ عن المدح وشدد القول فيه، وقال: «ويحك قطعت عنق صاحبك»، وقال: «إذا لقيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب»، فمواجهة الممدوح بمدحه ولو بما فيه من عمل الشيطان، لما قد تفضي محبة المدح إليه من تعاظم الممدوح في نفسه، وذلك ينافي كمال التوحيد، ويوقع في أمر عظيم ينافي العبودية الخاصة، فالنبي ﷺ‬ لما أكمل الله له مقام العبودية، صار يكره أن يُمدح صيانة لهذا المقام، وإرشادًا للأمة إلى ترك ذلك نصحًا لهم، وحماية لمقام التوحيد من أن يدخله ما يفسده، أو يضعفه من الشرك ووسائله.

أيها المسلمون:

الكبر أنواع ثلاثة:

الأول: الكبر على الله تعالى، وهو أفحش أنواع الكبر؛ لأن الإِنسان الضعيف المخلوق من ماء مهين، الذي يصرعه أضعف الحيوانات إذا سلطه الله عليه، لا يليق به ولا يحل له أن يتكبر على من خلقه وأوجده، ومنه


يستمده بقاءه، ويحتاج إليه في كل لحظة، وفي كل حركة وسكون.

ومن جهل قدر ربه فهو من بهيمة الأنعام أو أضل، كما أخبر الله عمن استكبروا عليه وعلى رسله، وكيف يجهل الإِنسان قدر إلهه القادر القاهر، الذي أبدع العالم على أحسن إحكام، وأدق تكوين، وله - سبحانه - في كل جزء من خلقه شاهد واضح الدلالة، وحجة ظاهرة البيان، تدل على أنه هو ذلك الصانع الذي: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].

الثاني: من النوع الكبر: الكبر على الرسول ﷺ‬ بأن يمتنع من الانقياد له، تكبرًا وجهلاً وعنادًا، كما حكى الله عن كفار مكة، حيث قالوا: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: 31] وقال - تعالى - مبينًا حال المستكبرين عن دعوة النبي ﷺ‬: ﴿وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً﴾ [الفرقان: 41].

الثالث: التكبر على العباد؛ بأن يستعظم نفسه، ويحتقر غيره، ويزدريه، فيأبى على الانقياد له أو يترفع عليه، ويأنف من مساواته، وهذا من شر الرذائل وأسوأ الصفات؛ لأن فيه منازعة لله في صفة لا تليق إلا بجلاله، فهو كعبد أخذ تاج ملك وجلس على سريره، فما أعظم استحقاقه للمقت، وأقرب استعجاله الخزي؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ‬ قال: «يقول الله: العظمة إزاري، والكبرياء ردائى، فمن نازعني واحدًا منهما عذبته».

ولعظم عقوبة التكبر والخيلاء حتى في أمر يراه بعض الناس يسيرًا؛ ما ذكره النبي ﷺ‬: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» [رواه البخاري].

وفي الحديث الآخر، قال رسول الله ﷺ‬: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» [رواه مسلم].


قال شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه الله-: التكبر شر من الشرك، فإن المتكبر يتكبر عن عبادة الله - تعالى-، والمشرك يعبد الله وغيره.

فالعظمة والكبرياء من خصائص الربوبية.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: 28].

بارك الله لي ولكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أرجو بها لديه الزلفى، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، النبي المصطفى، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه أهل الصدق والوفاء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى.

أما بعد:

فقد بعث الله - سبحانه وتعالى نبينا محمد ﷺ‬ هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وأكمل لنا به الدين، فقال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ [المائدة: 3].

وأمرنا بطاعته، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ﴾ [النساء:: 59]، وقال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر: 7].

والرسول ﷺ‬ قد بلغ البلاغ المبين، ولم يترك طريقًا يوصل إلى الجنة، ويباعد من النار إلا بينه للأمة حتى تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، - فصلوات ربي وسلامه عليه-.

مقتضى الإِيمان بشهادة أن محمدًا رسول الله: طاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر وتصديقه فيما أخبر، وألا يعبد الله إلا بما شرع، ومنزلته عظيمة فهو رسول رب العالمين؛ لكن ليس له شيء من خصائص الربوبية، فلا يُدعى، ولا يتوسل به بعد موته.

فاحذروا - عباد الله - محدثات الأمور فقد قال ﷺ‬: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» [متفق عليه].

وأوضح ﷺ‬ أن كل ما يحدثه الناس بعده، وينسبونه إلى دين الإسلام من أقوال أو أعمال، فكله بدعة مردودة على من أحدثها، ولو حسن قصده، وقد عرف أصحابها رسول الله ﷺ‬ هذا الأمر ومن تبعهم بإحسان، فانكروا البدع وحذروا منها ومن ذلك بدع الاحتفال بالموالد النبوية، والاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، وليلة النصف من شعبان، وغيرها من البدع.

فاستمسكوا بسنة نبيكم ﷺ‬ وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم والمحدثات في الدين فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

هذا، وصلوا...


الخطبة الأولى([72])

الحمد لله، مُدّبٌر الأحوال ومنشئ السحاب الثقال، أحمده - سبحانه - وأشكره مسبغ النعم والأفضال، له الحمد في الأولى والآخرة وإليه المآل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال المتفرد بالعظمة والجلال، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله ربى الصفوة من الرجال الذين قضوا على معالم الكفر والضلال، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وآل.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله-، اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته، ويجعل لكم نورًا تمشون به ويغفر لكم، اتقوا ربكم، وحاسبوا أنفسكم فإن النقلة إلى دار الآخرة قريب، فاستعدوا لما أمامكم واعلموا صالحًا إنه بما تعملون بصير.

أيها المسلمون:

الله - عز وجل - خالق كل شيء ومليكه، بيده مقاليد الأمور، له العظمة والجلال فهو رب العالمين، وعلى المسلم تعظيم ربه، وإجلاله وتنزيهه عن صفات النقص، فله الكمال في كل شيء - سبحانه-.

قال - تعالى - في كتابه الكريم: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.


يخبر الله - سبحانه - أن المشركين ما عظموا الله حق عظمته، حيث عبدوا معه غيره، ونسبوا له الصاحبة والولد، فمن عظمته أنه يجعل الأرض وكل ما فيها من بحار وأشجار جميعًا في قبضته يوم القيامة، والسموات على عظمتها وسعتها مطويات بيمينه، فتعالى الله وتنزه عن كل ما لا يليق بجلاله.

ومذهب أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته إثبات أسماء الله وصفاته كما وردت في الكتاب والسنة على الوجه الذي يليق بجلاله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل كصفة القبض والبسط واليدين والأصابع.

عباد الله:

عن ابن مسعود - t - قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله ﷺ‬، فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات السبع على أصبع، والشجر على أصبع، والماء على أصبع، والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبي ﷺ‬، حتى بدت نواجذه، تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الزمر: 67] [رواه البخاري ومسلم].

وفي رواية لمسلم: «والجبال والشجر على أصبع، ثم يهزهن، فيقول: أنا الملك أنا الله» وفي رواية للبخاري: «يجعل السموات على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع».

ذكر عالم من علماء اليهود للنبي ﷺ‬ ما يجدونه في التوراة، من بيان عظمة الخالق، وصغر المخلوقات بالنسبة إليه - سبحانه-، وأنه يضعها على أصابعه، فضحك النبي ﷺ‬ تصديقًا وسرورًا لقول الحبر: لأن ما ذكره


موافق لما جاء في القرآن الكريم، وفي الحديث دلالة على أن هذه العلوم باقية عند اليهود الذين في زمنه ﷺ‬ لم ينكروها، ولم يحرفوها.

ولمسلم عن ابن عمر مرفوعًا: «يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع، ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟. أين المتكبرون؟»؟

تفرد الله بالملك وحده: إنه - سبحانه - حين يطوي السموات والأرض بيده يوم القيامة، ينادي: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ فلا يجيبه أحد، فهو - سبحانه - المتفرد بالملك كل ملك لغيره إلى زوال، قال تعالى: ﴿لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر: 16] وخص الجبارين والمتكبرين بالذكر دون غيرهم لأنهم قد نازعوا الله في كبريائه وجبروته.

وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «ما السموات السبع، والأرضون السبع، في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم».

وقال ابن جرير: حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: حدثني أبي قال: قال رسول الله ﷺ‬: «ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة أُلقيت في ترس» قال: وقال أبو ذر: سمعت رسول الله ﷺ‬ يقول: «ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد، أُلقيت بين فلاة من الأرض».

إن عظمة المخلوقات تدل على عظم خالقها، وكمال قدرته وسلطانه:

فالسموات السبع وما فيها، والأرضون السبع وما فيها من: أناس، وأشجار، وأنهار، وجبال، في كف الرحمن - سبحانه-، كحبة صغيرة في يد أحدنا.


والسموات السبع، على سعتها، وكثافتها، وتباعد ما بينهما، بالنسبة لسعة الكرسي؛ كسبعة دراهم وضعت في رقاع واسع.

والكرسي على سعته، وعظمته بالنسبة للعرش، كحلقة من حديد ألقيت في وسط صحراء واسعة من الأرض.

إن التفكر في عجائب الخلق يثمر تعظيم الله ومخافته، كما قال بعض السلف: لو تفكر الناس في عظمة الله لما عصوه.

وعن ابن مسعود - t - قال: «بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم» أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود.

ورواه بنحوه المسعودي، عن عاصم، عن أبي وائل، قال وله طرق، وعن العباس بن عبد المطلب - t - قال: قال رسول الله ﷺ‬: «هل تدرون كم بين السماء والأرض؟» قلنا: الله ورسوله أعلم قال: «بينهما مسيرة خمسمائة سنة، وبين كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وبين المساء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض؛ والله فوق ذلك، لا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم» [رواه أبو داود وغيره].

بين الرسول ﷺ‬ عظمة المخلوقات العلوية وسعتها وتباعد ما بين أجرامها: فالسموات: سبع طباق بعضها فوق بعض، مسافة ارتفاعها عن الأرض مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء والتي تليها مسافة خمسمائة عام، سُمَك كل سماء خمسمائة عام، وفوق السماء السابعة


الكرسي، وفوق الكرسي البحر، وبينهما مسيرة خمسمائة عام.

وعمق البحر مسيرة خمسمائة عام، وفوق البحر العرش، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم.

عباد الله:

إن التفكر في عظمة الخالق وقدرته وعجائب خلقه وخضوع المخلوقات له يدل على استحقاقه - تعالى - للعبادة وحده، ويزيد المسلم إيمانًا ومعرفة بربه، وخوفًا ومحبة وتعظيمًا له، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: 191].

وإن الإيمان بأن الله لا يخفى عليه شيء، في الأرض ولا في السماء، يوجب للعبد تعظيم الله وخشيته ومراقبته فلا يراه الله حيث نهاه، ولا يفتقده حيث أمره، إذا لا يليق بالمخلوق الضعيف أن يعصي خالقه العظيم، وهو يعيش في أرضه، وأكل من رزقه، ويتقلب في نعمه، قال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.

قال شيخ الإسلام: وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وسنة نبيه، وكلام الصحابة والتابعين، وكلام سائر الأمة، مملوء بما هو إما نص أو ظاهر؛ أن الله فوق كل شيء، وأنه فوق العرش، فوق السموات، مستو على عرشه، وقال أبو عمرو الطلمنكي في كتاب الأصول: أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته، وقال فيه أيضًا: أجمع أهل السنة على أن الله استوى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز، ثم قال: أجمع المسلمون أن معنى قوله ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحديد: 4] ونحو ذلك


من القرآن أن ذلك علمه، وأن الله فوق السموات بذاته، مستو على عرشه كيف شاء، وهذا كثير في كلام الصحابة والتابعين والأئمة المهتدين، أثبتوا ما أثبته الله في كتابه، على لسان رسوله ﷺ‬ على ما يليق بجلال الله وعظمته، ونفوا عنه مشابهة المخلوقين، ولم يمثلوا ولم يكيفوا.

فسبحان الإِله الحق من بيده مقاليد الأمور وإليه تصير الأمور، يحكم بين عباده بعدله وحكمته.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى﴾ [طه: 5 - 8].

بارك الله لكم...


الخطبة الثانية

الحمد لله أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، وجعلنا أهل الإِسلام في الناس خير أمة، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وكان بُشرى للمؤمنين، ونذرًا للمخالفين، ولجميع العالمين رحمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، كمل به بناء النبوة، وختم به ديوان الرسالة، ونمت ببعثته مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، كالفلاح لمن تبعه والخزي والخسار لمن عصاه وخالف أمره، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، كانوا على الحق أعلامًا وللهدى أئمة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون، الذي جعل لكم الأرض فراشًا والسماء بناء، وأنزل من السماء ماء، فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم؛ فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون، من الذي أوجدكم من العدم، وغمركم بسوابغ النعم؟ من الذي صرف عنكم المكاره والمضار والنقم؟ من الذي أعطاكم العقول والأسماع والأبصار؟ من الذي سخر لكم الليل والنهار؟ من الذي فلق الحب عن الزروع وعن الأشجار والنوى؟ من الذي أحيا الأرض بعد موتها بما أنزل عليها من غيث السماء؟.

من الذي يصوركم في الأرحام كما يشاء؟ من الذي أمسك السموات والأرض عن الزوال؟ من الذي أحكم خلقها وأحسن نظامها فلا يرى فـيها خلل ولا إخلال؟ من الذي فجر الأرض بالأنهار والعيون، وأخرج الثمار


اللذيذة والفواكه الشهية من يابس الغصون؟ أما ذلك إبداعُ من يقول للشيء: كن فيكون؟ من الذي خلق المخلوقات فعدلها وأحسنها وسوى؟ وقدر أقدارًا وإليها وجه أهلها وهدى؟ من الذي خلق السماء وبناها؟ ورفع سمكها فسواها؟ وأغطش ليلها وأخرج ضحاها؟ والأرض بعد ذلك دحاها؟ أخرج منها ماءها ومرعاها؟ والجبال أرساها متاعًا لكم ولأنعامكم؟ فجل ملكًا عظيمًا، وربًا وإلهًا، إله قامت البراهين القاطعة على وحدانيته، وشهدت الموجودات ببديع حكمته وسعة علمه ورحمته! وخلق المكلفين لعبادته ومعرفته، فقوموا - رحمكم الله - بما خلقتم له، فإنكم عن ذلك مسئولون، واستعدوا للقاء ربكم فإنكم إليه راجعون، وخذوا ما استطعتم من الباقيات الصالحات، وتوبوا إلى الله توبة نصوحًا عسى ربكم أن يكفر عنكم السيئات، ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار فيها المساكن الطيبات، أما ترون الله يتابع عليكم نعمه لتشكروه؟ ويذكركم بآلائه لتعرفوه وتذكروه؟ ألا بذكر الله تطمئن القلوب، وبذكره تغفر الخطايا ويحصل كل مطلوب، ومن أقبل على ربه وتقرب إليه تلقاه، ومن استعان به وتوكل عليه كفاه، ومن رجع إليه في الرخاء عرفه في الشدة، ومن قام بتقواه جعل له فرجًا ومخرجًا من كل مشقة فسبحان من فتح لعباده من رحمته كل باب ويسر لهم الوسائل إلى الخيرات والأسباب.

هذا، وصلوا وسلموا...



([1]) خطبة رقم (1) كتاب التوحيد.

([2]) خطبة رقم (2): باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب.

([3]) خطبة رقم (3): باب فضل التوحد وما يكفر من الذنوب.

([4]) خطبة رقم (4): باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب.

([5]) خطبة رقم (5): باب الخوف من الشرك.

([6]) خطبة رقم (6): باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله.

([7]) خطبة رقم (7): باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.

([8]) خطبة رقم (8): باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.

([9]) خطبة رقم (9): باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه.

([10]) خطبة رقم (10): باب ما جاء في الرقى والتمائم.

([11]) خطبة رقم (11): باب ما جاء في الرقي والتمائم.

([12]) خطبة رقم (12): باب من تبرك بشجرة أو حجر، ونحوهما.

([13]) خطبة رقم (13): باب ما جاء في الذبح لغير الله.

([14]) خطبة رقم (14): باب ما جاء في الذبح لغير الله.

([15]) خطبة رقم (15): باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله.

([16]) خطبة رقم (16): باب من الشرك النذر لغير الله.

([17]) خطبة رقم (17): باب من الشرك الاستعاذة بغير الله.

([18]) خطبة رقم (18): باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره.

([19]) خطبة رقم (19): باب قول الله تعالى: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا﴾.

([20]) خطبة رقم (20): باب قول الله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾.

([21]) خطبة رقم (21): باب الشفاعة.

([22]) خطبة رقم (22): باب قول الله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾.

([23]) خطبة رقم (23): باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين.

([24]) خطبة رقم (24): باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح؛ فكيف إذا عبده؟!

([25]) خطبة رقم (11): باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانًا تعبد من دون الله.

([26]) خطبة رقم (26): باب ما جاء في حماية المصطفى ﷺ‬ جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك.

([27]) خطبة رقم (27): باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان.

([28]) خطبة رقم (28): باب ما جاء في السحر.

([29]) خطبة رقم (29): باب بيان شيء من أنواع السحر.

([30]) خطبة رقم (30): باب ما جاء في الكهان ونحوهم.

([31]) خطبة رقم (31): باب ما جاء في النشرة.

([32]) خطبة رقم (32): باب ما جاء في التطير.

([33]) خطبة رقم (33): باب ما جاء في التنجيم.

([34]) خطبة رقم (34): باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء.

([35]) خطبة رقم (35): باب قول الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ﴾ [البقرة: 165].

([36]) خطبة رقم (36): باب قوله الله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175].

([37]) خطبة رقم (37): باب قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175].

([38]) خطبة رقم (38): باب قول الله تعالى: ﴿ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 23].

([39]) خطبة رقم (39): باب قول الله تعالى: ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف: 99].

([40]) خطبة رقم (40): باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله.

([41]) خطبة رقم (41): باب ما جاء في الرياء.

([42]) خطبة رقم (42): باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا.

([43]) خطبة رقم (43): باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه فقد اتخذهم أربابًا من دون الله.

([44]) خطبة رقم (44): باب قول الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا﴾ [النساء: 60].

([45]) خطبة رقم (45): باب من جحد شيئًا من الأسماء والصفات.

([46]) خطبة رقم (46): باب قول الله تعالى: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا﴾ [النحل: 83].

([47]) خطبة رقم (47): باب قول الله تعالى: ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 22].

([48]) خطبة رقم (48): باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله.

([49]) خطبة رقم (49): باب قول: ما شاء الله وشئت.

([50]) خطبة رقم (50): باب من سب الدهر فقد آذى الله.

([51]) خطبة رقم (51): باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه.

([52]) خطبة رقم (52): باب احترام أسماء الله - تعالى - وتغيير الاسم لأجل ذلك.

([53]) خطبة رقم (53): باب من هزل بشيء فيه ذكر الله والقرآن والرسول.

([54]) خطبة رقم (54): باب ما جاء في قول الله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي﴾ [فصلت: 50].

([55]) خطبة رقم (55): باب قول الله تعالى: ﴿فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الأعراف: 190].

([56]) خطبة رقم (56): ﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ﴾ [الأعراف: 180].

([57]) خطبة رقم (57): باب لا يقال السلام على الله.

([58]) خطبة رقم (58): باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت.

([59]) خطبة رقم (59): باب لا يقول عبدي وأمتي.

([60]) خطبة رقم (60): باب لا يرد منه سأل بالله.

([61]) خطبة رقم (61): باب لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة.

([62]) خطبة رقم (62): باب ما جاء في (اللو).

([63]) خطبة رقم (63): باب النهي عن سب الريح.

([64]) خطبة رقم (64): باب قول الله تعالى: ﴿يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ [آل عمران: 154].

([65]) خطبة رقم (65): باب ما جاء في منكري القدر.

([66]) خطبة رقم (66): باب ما جاء في المصورين.

([67]) خطبة رقم (67): باب ما جاء في كثرة الحلف.

([68]) خطبة رقم (68): باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه.

([69]) خطبة رقم (69): باب ما جاء في الإقسام على الله.

([70]) خطبة رقم (70): باب لا يستشفع بالله على خلقه.

([71]) خطبة رقم (71): باب ما جاء في حماية المصطفى ﷺ‬ حمى التوحيد وسده طرق الشرك.

([72]) خطبة رقم (72): باب: قول الله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر: 67].