ترجمات المادة
الوصف المفصل
نعمة الدين
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - حق التقوى، وراقِبُوه في السرِّ والنجوى.
أيها المسلمون:
يفتح الله على عباده نعمًا متوالية عليهم بالليل والنهار، ينال - بفضله - بعضُ عباده شيئًا منها، ويُحرَم - بحكمته وعدله - منها آخرون، ونعمةٌ مَنْ نالها فهو السعيد، ومن فَقَدَها توالَت عليه الحسرات، والله يصطفي من يشاء من عباده لها: {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم: 50 ]، ولا يمنحها إلا لمن يحب، لا ينفع في حصولها نسب؛ فمَنَعَ منها أبا لهب القرشي، ووهَبَها لبلال الحبشي، ولا يُجدِي في نوالها مال؛ حُرِم منها قارون ذو الكنوز، ووفّق لها أبا هريرة الذي يسقط في الطرقات من الجوع، ولا يُدني منها نسب؛ فأبعد عنها فرعون، ومَنََّ بها على جاريةٍ صغيرةٍ سألها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أين الله؟». قالت: في السماء.
ولِعظيم قدرها جعلها - سبحانه - بيده وحده: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [القصص: 56 ]، وأنزل الكتب السماوية من أجلها، قال - جل شأنه -: {وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: 3- 4 ].
والرسل دعوا ربَّهم أن يُدِيمَها عليهم فقال يوسف - عليه السلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101 ]، وقال سليمان: {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} [النمل: 19 ]، وأمر الله جميعَ الرسل بها: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51 ]، وسأل الأنبياء ربَّهم أن يمنحها لذرياتهم، فقال إبراهيم - عليه السلام -: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100 ]، وقال زكريا: {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء} [آل عمران: 38 ]، وكل مُصلٍّ يدعو ربه في كل ركعة من صلواته أن يكون من أهلها: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [الفاتحة: 6 ]، والشاب الذي نشأ في طاعة الله يُظلُّه الله تحت ظلِّه، والمرأة تتميَّز على غيرها بالدين «فاظفر بذات الدين تَرِبتْ يداك»؛ متفق عليه.
ولا نجاة من الهلاك إلا بالصلاح والإصلاح، قال - جل شأنه-: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117 ]، ومن حِكم ِالبعث والنشور مُجازاةُ الصالحين على ما قدَّموا، قال - عز وجل -: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} [يونس: 4 ].
وأول كلام أهل الجنة إذا دخلوا الجنة: شكرُ اللهِ - سبحانه - على نعمة الهداية: {وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّه } [الأعراف: 43 ]، والصالحون هم خيرُ الخلق عند الله، قال - جل شأنه -: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 7 ]، أي: خيرُ الخلق، والملائكة تدعو لمن استقام على هذا الدين، قال - سبحانه -: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7 ]، وكل مُصلٍّ يدعو في تشهده لكل صالحٍ بالسلامة من المكاره والآفات والشرور؛ يقول: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين»، قال - عليه الصلاة والسلام -: «فإذا قالها أصابت كلَّ عبدٍ لله صالحٍ في السماء والأرض»؛ متفق عليه.
والله يتولَّى أمره وحفظه، وتكتب له المحبة في الأرض وفي السماء، وحياته في الدنيا طيبةٌ، ورِزقه - بفضل الله – مُيَسَّر، ورحمةُ الله تتنزَّل عليه؛ قال - جل شأنه -: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ} [الجاثية: 30 ]، وصلاحُ العبد يمتد إلى الذرية، كما قال - سبحانه - عن اليتيمَيْن: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82 ]، وصلاحُ الآباء ينالُ الأبناء؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «إذا مات ابنُ آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ...»، وذكر منها: «أو ولدٍ صالحٍ يدعو له»؛ رواه مسلم.
والصالح موعودٌ بالمغفرة والأجر الحسن وبجنات النعيم؛ قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله - عز وجل -: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطَرَ على قلبِ بشر»؛ متفق عليه.
وبعد، أيها المسلمون:
فالتمسكُ بالدين وصيةُ الله لرسوله: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الزخرف: 43 ]، وفي زمن الفتن وكثرة الشبهات والشهوات يظهر أثرُ الصلاح في السلامة منها، ومَنْ منَّ الله عليه بصلاح نفسه فعليه أن يدعو غيره إلى هذا الخير العظيم، وأعظمُ ما يُدْعَى إليه توحيدُ الله - سبحانه -؛ إذ لا صلاحَ لعبدٍ إلا به سُئِل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الأعمال أحبُّ إلى الله؟ قال: «إيمانٌ بالله»؛ متفق عليه.
وعمارةُ المساجد بالصلاة، وتلاوة القرآن، وكثرة الذكر، ولُزُوم حِلَق العلم فيها من أسباب الإعانة على الهداية، قال - جل شأنه -: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18 ]، ودعاءُ الله - سبحانه - وطلبُ الهداية منه من أقوى الأسباب في حصولها، والصحبةُ الصالحة خيرُ معينٍ على الطاعات، وتدبُّر سِيرِ الأنبياء يحدو بالقلب إلى الآخرة، ومن تمسَّك بدينه زاده الله من الهدى والتقى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد: 18 ].
وشرطُ قبول العمل الصالح: الإخلاصُ فيه لله، وأن يكون موافقًا لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى هذا النهج القويم سار الصحابة والتابعون مُتمسِّكين بقوله - عليه الصلاة والسلام -: «مَنْ عَمِل عملًا ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ»؛ رواه مسلم.
ومن لم يكن عمله خالصًا صوابًا فإن عمله يَضْمحِلُّ، والمسلم يحب ربَّه فيُفرِد عباداته كلها لله، ويحب نبيه - عليه الصلاة والسلام- فيُطيع أمره، ولا يزيد على شرعه شيئًا مُوقِنًا بأن محبة الله ومحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم - هي في طاعته، كما قال - سبحانه -: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31 ].
وصلاح المجتمع باستقامة الرجال والنساء فيه على دين الله، ومن صلاح المرأة سترها، وعفافها، وقنوتها لربها، ولُزُوم حجابها، فهو عبادةٌ من أجلِّ العبادات لها، والله - سبحانه - تولَّى شأن المرأة لتبقى مصونةً محفوظة، فقال عن حديثها: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} [الأحزاب: 32 ]، وقال في إرشادها في مِشْيتها: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} [النور: 31 ]، وأمرها بعدم إبداء زينتها كما أمرها بستر وجهها فقال: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31 ]، ونهى الرجال عن النظر إليها، فقال: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30 ]، فالتمسُّك بالدين طريق الجنة والحياة الطيبة، والأخذ بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - والعَضُّ عليها سبيل الفائزين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30 ].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونَفَعَني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا مزيدًا.
أما بعد، أيها المسلمون:
يصلح العمل ويرفع إلى الله بالإخلاص والمتابعة، وإذا استقامت النفس على دين الله؛ فثناءُ المرء على نفسه بالصلاح مذموم، قال - سبحانه -: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32 ].
والمؤمن لا يرى عمله الصالح كثيرًا؛ بل يستقِلّه؛ لأن نعم الله عليه أجلُّ وأعظم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم الليل حتى تتفطَّرَ قدماه، ويقول: «أفلا أكون عبدًا شكورًا؟»؛ متفق عليه.
فاجتهدوا في امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه والبعد عن الشبهات.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56 ].
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمدٍ، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنَّا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعلِ اللهم هذا البلد آمنًا مطمئنًا، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم اجعلنا هداةً مهتدين يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا نسألك التوفيق والسعادة في الدنيا والآخرة، اللهم ألهمنا الصواب ووفقنا للحق، وجنِّبنا الفتنَ يا ذا الجلال والإكرام.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201 ].
اللهم وفِّق إمامنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، ووفِّق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك يا رب العالمين.
عباد الله:
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90 ].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذْكرْكم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدْكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.