×
كتابُ عِلَل ونَقْد حديثي من طراز عال، وكتاب فقه واستنباط وغوص لاستخراج اللآل، يغلب على مباحثه وعلومه هذان الفنّان، مع مباحث في فنون عديدة في الأصول والقواعد واللغة والحديث والتاريخ.

 تهذيب سنن أبي داود وإيضاح علله ومشكلاته

تأليف الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 هـ - 751 هـ) دار عطاءات العلم - دار ابن حزم

(المقدمة/1)


مقدمة التحقيق

الحمد لله ولي النِّعم، وصلى الله على نبيه الأكرم، ورسوله الأعظم، وعلى آله وصحبه وسلّم. أما بعد؛ فهذا كتاب «تهذيب سنن أبي داود» للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيِّم الجوزية، نقدّمه اليوم للقراء ضمن سلسلة مشروع «آثار الإمام ابن القيم»، وقد تغيّينا فيه إخراجَه على الطريقة التي انتهجناها في إخراج كتب الإمام ابن القيم، والعناية بها، بتحرير نص الكتاب كما ينبغي، والتعليق عليه بما يستحق. وهذا الكتاب الجليل لم ينل حقَّه اللائقَ به من الإخراج والعناية، وانعكس ذلك على قلّة الإفادة من مباحثه وعلومه، ولعل السبب يعود إلى طريقة «تجريده» كما سيأتي، وإلى طريقة طبعه وإخراجه كما سنشرحه في المباحث الآتية. ومهما يكن من أمر، فقد اجتهدنا في إخراجه بالطريقة اللائقة به من الناحية العلمية، ومن الناحية الفنية، ومن ناحية التكشيف والفهرسة، حتى يمكن الإفادة منه بأسهل سبيل. وكتابنا هذا كتابُ عِلَل ونَقْد حديثي من طراز عال، وكتاب فقه واستنباط وغوص لاستخراج اللآل، يغلب على مباحثه وعلومه هذان الفنّان، مع مباحث في فنون عديدة في الأصول والقواعد واللغة والحديث والتاريخ، بلغ المؤلف فيها إلى الغاية، فكانت في سماء العلم آية! وغالب تعليقات الإمام في هذا السفر يستفيد منها المتبحّر المنتهي، ولا يبلغ مداها الطالب المبتدي، فربما مرت على الطالب الفائدةُ النادرةُ لا

(المقدمة/5)


يكشف لها سِترًا، في حين يراها اللوذعيُّ ذهبًا خالصًا وتِبْرًا! وننبه في هذا التصدير أن كتاب ابن القيم لم يصلنا كما وضعه مؤلّفُه، وإنما وصل تجريده لمحمد بن أحمد السعودي، وقد جرّده على نهجٍ سديد حافَظَ فيه على فوائد الأصل، وترك ما كان اختصارًا لكلام المنذري، فلم يَفُتْه من كلام ابن القيم ــ في الغالب ــ إلا ما كان تهذيبًا لكلام المنذري، وذلك شيء يسير إن شاء الله. قدّمنا بين يدي الكتاب جملةً من المباحث هي: - اسم الكتاب. - تاريخ تأليفه. - نسبته للمؤلف. - وصف الكتاب. - وصف التجريد. - ترجمة المجرِّد. - أهمية الكتاب وقيمته العلمية. - منهج المؤلف في كتابه. - موارد المؤلف. - أثره في الكتب اللاحقة - طبعات الكتاب. - مخطوطات الكتاب. - منهج التحقيق.

(المقدمة/6)


وقد اقتسمنا تحقيق الكتاب كالآتي: المجلَّد الأول حقَّقه علي العمران، والمجلّدان الثاني والثالث حقّقهما نبيل السِّنْدي، واشتركنا في مباحث المقدّمة. ثم ختمناه بالفهارس التفصيلية الكاشفة عن محتوياته وعلومه، واشترك معنا في صُنع بعض الفهارس منها الأخ الباحث في المشروع: سراج منير، إضافةً إلى ما قام به من مقابلة نسختَي (ش) و (هـ) ومراجعة تجارب الطبع. وقام بصف الكتاب وإخراجه النهائي، وعملِ فهرس الآيات القرآنية وترتيب بقية الفهارس الأخ الفاضل: خالد محمد جاب الله، فجزاه الله خيرًا. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. 21/محرم/1437 هـ

(المقدمة/7)


اسم الكتاب جاء اسم الكتاب في المصادر على عدة أنحاء: 1 - «تهذيب سنن أبي داود وإيضاح علله ومشكلاته» هذا نص المؤلف في تسميته كما في «زاد المعاد»: (1/ 148) فإنه أحال عليه وقال: «وقد أشبعنا الكلام عليه في كتاب «تهذيب سنن أبي داود وإيضاح علله ومشكلاته»، وبذلك سمّاه معاصره الصفديّ (764) في كتابيه «أعيان العصر» و «الوافي بالوفيات» (1). 2 - وجاء نحوه في نسخة خدابخش، وعند تلميذه ابن رجب الحنبلي (795) (2)، وتبعه العُلَيمي (885) (3) بحذف وزيادة، ففيها: «تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته، والكلام على ما فيه من الأحاديث المعلولة». 3 - وورد الاسم عند ابن ناصر الدين الدمشقي (842) (4) كما عند ابن رجب مع تغيير في آخره: «والكلام على أحاديثه المعلّة». 4 - وجاء الاسم مقتصرًا على مصراعه الأول «تهذيب سنن أبي داود» عند المؤلف في «بدائع الفوائد»: (2/ 668)، وفي «مفتاح دار السعادة»: (2/ 1102)، وعند السيوطي (911) في «بغية الوعاة» (5). _________ (1). «أعيان العصر»: (4/ 370)، «الوافي بالوفيات»: (2/ 196). (2). «ذيل طبقات الحنابلة»: (5/ 174 - 175). (3) «المنهج الأحمد»: (5/ 95). (4). «توضيح المشتبه»: (4/ 289)، وتابعه الداوودي في «طبقات المفسرين»: (2/ 95)، وابن العماد في الشذرات: (6/ 168). (5). (1/ 63).

(المقدمة/8)


وأما ما جاء في نسخة الأصل الخطية من قول المجرِّد: «هذا ما منَّ به الرحيم الودود من تمييز زوائد حواشي مختصر سنن أبي داود التي زادها الشيخ الإمام الحافظ الحجة شمس الدين محمد ابن قيم الجوزية» (1). فنقول: هذه التسمية من مُجَرِّد الكتاب محمد بن أحمد السعودي لا من المؤلف، ذلك أنه لم ينسخ أصل الكتاب كما تركه المؤلف بل اختصره وتصرّف فيه ــ كما سيأتي مشروحًا ــ، ثم أطلقَ على تجريده هذا هذه التسمية. وكذلك ما جاء على الورقة الظهرية من نسخة المدرسة العثمانية بالهند من تسميته «شرح سنن أبي داود»، فلا يعدو أن يكون تصرفًا من الناسخ أو من أحد مُلّاك النسخة لا تسميةً للمؤلف. وعليه فيمكننا القول: إن أقرب اسم يصدق على الكتاب هو ما أطلقه المؤلف نفسه على كتابه، وهو الاسم الذي ذكره في «زاد المعاد» وسماه به عصريُّه الصفدي، وهو في الحقيقة لا يختلف كثيرًا عن إطلاق ابن رجب، ولا يختلف أيضًا عن التسمية المختصرة بالمصراع الأول (تهذيب السنن)، أما ما في نسخة الأصل فهو اسم لعمل المجرّد لا للكتاب كما سلف. * * * * _________ (1). ذكر شيخنا العلامة بكر أبو زيد - رحمه الله - في كتابه «ابن القيم: حياته آثاره موارده» (ص 236) ــ تعليقًا على كلام الأستاذ محمود شويل لما ذكَر هذه التسمية ــ أنه لم يحصل الوقوف على سَلفٍ له في هذا. وصدق الشيخ في كونه لا سلف له في هذه التسمية، وأما عن وجودها فهي مكتوبة في صفحة عنوان النسخة الخطية للأصل.

(المقدمة/9)


تاريخ تأليفه وما إليه قد أحسن المجرِّدُ صُنعًا إذ نقل مقدّمة المؤلف وخاتمته دون تصرف، وكان مما في خاتمة المؤلف نصُّه على مكان تأليفه، وسَنَة تأليفه، وكم استغرق فيه. قال المؤلف: «ووقع الفراغ منه في الحِجْر شرّفه الله تعالى، تحت ميزاب الرحمة في بيت الله، آخر شوال سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة، وكان ابتداؤه في رجب من السنة المذكورة» (1). فأفاد هذا النص ما يلي: مكان التأليف: بمكة المكرمة، في بيت الله الحرام، ووقع الفراغ منه في الحجر، تحت ميزاب الرحمة. تاريخه: ابتدأ تأليفه في رجب سنة 732، وانتهى منه في آخر شوال من السنة نفسها. وعمره واحد وأربعون عامًا. مدة التأليف: بناءً على التاريخ المذكور فإن مدة التأليف لا تزيد عن أربعة أشهر. أما هذا التجريد الذي وصلنا للكتاب فتاريخ كتابته في يوم الأربعاء منتصف ربيع الأول سنة 790، كما نصّ عليه المجرّد في آخر النسخة، أي بعد موت المؤلف بتسع وثلاثين سنة، وبعد تأليف الكتاب بثمان وستين سنة. فهو تجريد قديم للكتاب, والظاهر أنه اشتهر أكثر من أصله، فكل النسخ التي وصلتنا منقولة من هذا التجريد. _________ (1). (ق 274 أ- ب).

(المقدمة/10)


أمَّا حجمه، فقد ذكر الصفدي في كتابيه «الوافي» و «الأعيان» أنه في «نحو ثلاثة أسفار»، وأما ابن رجب في «الذيل» ومن تبعه كالعليمي والداوودي وغيرُهم فذكروا أنه في مجلَّد. فهل ما ذكره الصفدي وهم، أو يمكن أن يعود ذلك إلى اختلاف النسخ فبعضها في مجلد وبعضها في ثلاثة؟ وهل من الجائز أن يكون وصف الصفدي للكتاب الأصل قبل تجريده ووصف ابن رجب لـ «التجريد»؟ الاحتمال الأخير بعيد، لأن المجرِّد انتهى من تجريده سنة 790، وتأليف ابن رجب للذيل سابق لهذا التاريخ. فالاحتمال الأقرب أن الاختلاف عائد إلى اختلاف النسخ، والله أعلم. * * * *

(المقدمة/11)


إثبات نسبته للمؤلف الكتاب ثابت النسبة للمؤلف بالقرائن الآتية: 1 - ذكره المؤلف نفسه في عدد من كتبه، وأحال إليه لاستيفاء مباحث ذكرها في كتبه، فقد ذكره في «زاد المعاد»: (1/ 148) فقال: وقد أشبعنا الكلام عليه في كتاب «تهذيب سنن أبي داود. . .» عند رواية أبي إسحاق السَّبِيعي لحديث عائشة «أنه كان ربما نام ولم يمَسَّ ماءً» (التهذيب: 1/ 137 - 140). وذكره في «بدائع الفوائد»: (2/ 668) وأحال إليه عند مسألة دخول الواو في قوله: «إذا سلَّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم» وهل الصواب حذفها؟ (التهذيب 3/ 433 - 436). وذكره في «مفتاح دار السعادة»: (2/ 1102) وأحال إليه عند مسألة المماثلة في القصاص بأن يُفعل بالجاني كما فَعل (التهذيب 3/ 128 وما بعدها). 2 - ذكره له مترجموه من معاصريه وتلاميذه ومَن بعدهم، مثل ابن رجب الحنبلي، والصلاح الصفدي، وابن ناصر الدين الدمشقي والسيوطي والداوودي وغيرهم. 3 - ذِكره لشيخ الإسلام ابن تيمية ونقله عنه في مواضع عديدة، شأنه في باقي كتبه من الإكثار من النقل عنه وتهذيب كلامه، مصرحًا به حينًا، وغير مصرّح أحيانًا أخرى. 4 - طريقته واحدة في بحث المسائل وبسط الكلام عليها في كتابه هذا وفي كتبه الأخرى، لا يستريب فيه من له فضل عناية بكتب الشيخ.

(المقدمة/12)


5 - تطابق عدة مباحث مع ما في كتبه الأخرى، كما في «رفع اليدين في الصلاة» (ص 236 - 252) في نقله لكلام ابن القطان بطوله والرد عليه «التهذيب»: (1/ 187 - 203)، ومسألة الطلاق الثلاث، ومسائل أخرى. 6 - نَقْل العلماء عنه وعزوهم إليه، فقد نقل منه الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»، والسفّاريني في «كشف اللثام»، وغيرهما كما سيأتي عند ذكر أثره في الكتب اللاحقة. وغير ذلك من القرائن التي تفيد ثبوت الكتاب لمؤلفه. * * * *

(المقدمة/13)


وصف الكتاب كتابنا هذا تهذيبٌ لـ «مختصر سنن أبي داود» للمنذري (ت 656). وذلك أن المؤلف إبّان إقامته بمكة المكرمة أتى على «مختصر المنذري» من أوله إلى آخره مهذِّبًا ومختصِرًا، ومضيفًا إليه ومستدركًا عليه. ولم يقتصر التهذيب على مواضع من «مختصر المنذري» بل هذّبه كاملًا، وقد أبان عن ذلك المؤلف نفسه في مقدمة كتابه حيث قال: «هذَّبتُه [أي «مختصر المنذري»] نحو ما هذَّب هو به الأصل، وزدْتُ عليه من الكلام على عللٍ سكت عنها أو لم يكملها، والتعرُّضِ إلى تصحيح أحاديثَ لم يصححها، والكلامِ على متون مشكلة لم يفتَحْ مقفَلَها، وزيادةِ أحاديثَ صالحةٍ في الباب لم يشر إليها، وبَسْطِ الكلام على مواضع جليلة لعل الناظر المجتهد لا يجدها في كتاب سواه». هكذا كان أصل الكتاب، لكن لم يصلنا كما تركه مؤلفه، بل الذي وصلنا منه هو تجريده الذي صنعه محمد بن أحمد السعودي، فإنه جرّد كلام المؤلف الذي زاده على كلام المنذري في «مختصره». وإليكم وصف هذا «التجريد»: * * * *

(المقدمة/14)


وصف التجريد وضَّح المجرِّدُ طريقتَه في الكتاب غاية التوضيح في خاتمة عمله، ونحن ننقل نصه، ونقسّم كلامه إلى فقرات توضّح مقصده وعمله: - طريقته فيه: قال: «هذا آخر ما كتبتُه مما زاده الشيخ الإمام العلامة الحافظ الحجة إمام الدنيا شمس الدين أبو عبد الله محمد، الشهير بابن قيِّم الجوزيَّة، تغمَّده الله تعالى بغفرانه، وأسكنه بُحْبُوحة جِنانِه. ولستُ أدَّعي الإحاطةَ بجميع ما كتبه، بل الغالب والأكثر. وقد سقط منه القليل جدًّا لتعذُّر كتابته، فعساه زاد لفظةً أو لفَظاتٍ في أثناء كلام، فلم يمكنِّي إفرادُها لاتصالها بكلام كثير للمنذري، ولم يمكن كَتب ذلك الكلام الذي للحافظ المنذري كله، فحذفت الزيادة قصدًا لذلك. وكلُّ ما كان عليه علامة «م» فهو من كلام المنذري. ولا أذكر من كلام المنذري إلا ما قوي اتصاله بكلام الحافظ ابن القيم، فلم يمكن فهمه إلا بذكره عُقباه. وكلُّ ما كان عليه «ش» فهو إشارة إلى الشيخ شمس الدين، لأنّ أول لقبه الشين، ولو استقبلتُ من أمري ما استدبرت لأعلمتُ له «ق»، إذ هو مشهور بأبيه، ولم أكتب هذا إلا في الجزء الثاني (1) لمّا طال اسمهما وتكرَّر». _________ (1). في الجزء الأول كانت عبارته: «قال المنذري»، و «قال ابن القيم» أو «قال الشيخ شمس الدين» ونحوها.

(المقدمة/15)


- غرضه من التجريد: قال: «وقد تعبتُ في تجريد هذه الزوائد لكني استفدت بها مقصدَين من أعظم المقاصد، أحدهما: مطالعة الكتاب، والثاني: تسهيل هذه الزيادات على الطلاب. واعْلم أنّ هذا التجريد أفاد أمرًا حسنًا وفضلًا بيِّنًا، وذلك أنّ الناظر في كتاب الحافظ المنذري لا يستغني عمّا زاده عليه الحافظ ابن القيم، والناظر في كلام الحافظ ابن القيم لا يستغني عن كتاب الحافظ المنذري، لأنّ الشيخ ابن القيم لم يكتب في كتابه جميع ما حشّى به الإمام المنذري، بل كثيرًا ما يحذف منه فوائد لا تُعَدّ ولا تُحصَى لكثرتها، فإذا كان عند الإنسان كتاب المنذري وهذا التجريد استغنى به عن طُول النظر في كتاب الحافظ ابن القيم. ثم ولو نظر في كتاب ابن القيم لا يقدر على التمييز بين كلامه وكلام المنذري حتى يقابل البابَين اللذَين ينظر فيهما معًا ــ كما فعل كاتبه ــ فتتبيَّنَ له الزيادة، فيحتاج إلى طول زمان، والعمرُ قصير، والشغل كثير، والأجل في مسير!». ونقل المجرّد مقدمة وخاتمة ابن القيم لتهذيبه فحفظ لنا بذلك غرض ابنِ القيم ومنهجَه وطريقتَه في كتابه. وقد كان يظن كثيرون إلى عهد قريب ــ وأنا منهم ــ أن ابن القيم في «تهذيب السنن» إنما علَّق حواشيَ على طُرَر نسخته من «مختصر المنذري» ضمّنها تعليقات وتعقيبات وشروحًا على أحاديث متفرقة في الكتاب، ولعل الذي رسّخ هذا الظنَّ هو نشرات كتاب «التهذيب» السابقة إذ كانت في هامش «المختصر» أشبه شيء بالتعليق والتنكيت والاستدراك على المنذري.

(المقدمة/16)


فلما وقفنا على نسخة الكتاب الخطية، وقرأنا مقدمةَ المؤلف وخاتمتَه، وكلامَ المجرِّد والعنوانَ الذي وضعه، تبين لنا أننا أمام تجريد لزوائد كلام ابن القيم وليس نَسْخًا لكتابه كاملًا. - مؤاخذات على التجريد: وإن كان المجرّد قد بذل جهدًا كبيرًا لاستخلاص زيادات ابن القيم على كلام المنذري الممزوج به من «تهذيب السنن»، إلا أن عمله اعتراه إعواز في مواضع، من أهم ذلك: 1 - أن المجرِّد أخلَّ بنقل بعض كلام المؤلف مما أحدث خللًا في فهم باقيه، كما في باب في تسوية القبر (2/ 378)، وباب في تمرة العجوة (2/ 633)، وأحيانًا يشير إليه دون أن يسوقه، كما في كتاب المهدي (3/ 90) وإنما تبيّن كل ذلك واستُدرك الخلل من النسخة الهندية (هـ) التي عثرنا عليها بأخرة. 2 - في أبواب كثيرة ذكر المجرِّد ترجمة الباب ثم ذكر كلام ابن القيم، دون أن يعيِّن الحديث الذي وقع التعليق عقبه ولا القدر الذي ساقه من كلام المنذري. 3 - في مواضع نقل لنا بعض الأبواب التي ليس فيها زيادات للمؤلف، بل لا يزيد كلامُه على ما ذكره المنذري في «المختصر». انظر: باب في الكفن (2/ 348)، وباب في الأدوية المكروهة (2/ 631 - 632). 4 - في آخر الكتاب أخذ المجرِّد يسرد تعليقات ابن القيم على بابين مختلفين أو على أحاديث متفرقة في الباب الواحد ويسوقها مساقًا واحدًا

(المقدمة/17)


دون أي فصل بينه أو إشارة. انظر: باب في حسن الخلق (3/ 349)، وباب في تنزيل الناس منازلهم (3/ 356)، وباب فيما جاء في المملوك إذا نصح (3/ 430). * * * *

(المقدمة/18)


ترجمة المجرّد جاء اسم المجرِّد على ورقة العنوان في نسخة الأصل وفي خاتمته: «محمد بن أحمد السعودي»، وفي الخاتمة أنه فرغ من تجريده في شهر ربيعٍ الأول سنة تسعين وسبعمائة. والمسمى بهذا الاسم في ذلك العصر ــ بحسب ما وقفنا عليه ــ اثنان اشتركا في الاسم واسم الأب والجد والشهرة، هما: الأول: محمد بن أحمد بن عمر بن محمد بن عمر الشمس النحريري ثم القاهري الشافعي المؤدب الضرير. يُعرف بـ «السعودي» نسبةً لقريب له كان يخدم الشيخ أبا السعود. قال السخاوي: ورأيت من قال ممن نسخ له شيئًا قديمًا: إنه يُعرَف بابن أخي السعودي، فكأنه ترك تخفيفًا. وُلد سنة 756 بمصر وحفظ القرآن واشتغل في الفقه، وفي القاهرة واشتغل على السِّرَاجَين ابن الملقن (ت 804) والبُلقيني (ت 805)، ولازم الأخير منهما وخدَمَه وصار يجمع له أجرة أملاكه. وسافر إلى القدس مرّتين ودخل الاسكندرية وحجَّ فأخذ عن جماعة هناك، قال ابن حجر: ولم يمعن في ذلك لأنه لم يكن من أهل الفن، ولا صَحِب من يدرِ به (1). ثم استوطن القاهرة وتكسّب بتأديب الأطفال في المسجد فانتفع به من لا يُحصى كثرةً، وذكر السخاوي منهم والدَه وعَمَّه وشيوخه كالجلال بن _________ (1). كذا ولعلها: «من يدريه».

(المقدمة/19)


الملقن (ت 870) والبهاء البالسي (ت 859) في آخرين. قال السخاوي: وقد جوَّدتُ عليه القرآن بتمامه حين انقطاعه بمنزله ودرَّبني في آداب التجويد، وقرأت عليه تصحيحًا في «العمدة» (1) وغيرها. مات في رمضان سنة 849 بعد أن انهشم وتحطم (2). الثاني: محمد بن أحمد بن عمر الشمس أبو عبد الله القاهري السعودي الحنفي. ناب في الحكم وتصدَّى للتدريس. قال السخاوي (3): ورأيت له كراريس من مصنَّف سماه «تهذيب النفوس» شبه الوعظ. وقد رافق برهانَ الدين سبطَ ابن العجمي الحلبي (ت 841) في السماع على الطبردار الحراوي (ت 781) صاحبِ الحافظ شرف الدين الدمياطي (ت 705) في «فضل العلم» و «خماسيات ابن النقور»، فتوهّمه بعض أصحابنا فقيهَنا الشمس السعودي الماضي قريبًا لاشتراكهما في الاسم واسم الأب والجد والشهرة، وهو غلط فذاك شافعي تأخر عن هذا. وذكر السخاوي إجازةً منه لأحد تلاميذه سنة 801 اطَّلع عليها، ووصفه بحسن الخطِّ والعبارة. ومن مؤلفاته: «الدر الرصين المستخرج من بحر الأربعين»، له نسخة _________ (1). الظاهر أنه «العمدة في فروع الشافعية» لأبي بكر الشاشي (ت 507)، وصفه ابن الصلاح في «طبقات الشافعية» (1/ 89 - 90) بـ «المختصر المشهور». (2). انظر: «إنباء الغمر» (9/ 241) و «الضوء اللامع لأهل القرن التاسع» (7/ 30 - 32)، (3). «الضوء اللامع» (7/ 34) بتصرّف يسير لتوضيح أسماء الأعلام ووفياتهم.

(المقدمة/20)


في المكتبة الأزهرية برقم (1600)، وهو شرح مبسوط، ذكر في مقدّمته أنه اعتمد في شرحه على شروح الأربعين لنجم الدين الطوفي، وتاج الدين الفاكهاني، وابن فرح الأندلسي، مضيفًا إليه فوائد من «شرح مسلم» للنووي، و «المفهم» للقرطبي، ومن كتب أخرى كـ «شعب الإيمان» للبيهقي، و «الاستيعاب» لابن عبد البر، و «الشفا» للقاضي عياض. وله أيضًا: تخريج الأربعين النووية، ذكره السخاوي في ترجمته للإمام النووي (ص 49 - مخطوط في مكتبة زهير الشاويش الخاصة) (1). ولم أقف على من صرّح بوفاته غير صاحب «هدية العارفين» فإنه ذكر أنه توفي سنة 803. والذي يمكن أن يقال من خلال ما ذكره السخاوي أنه توفي بعد 801، ولعله لم يلبث بعده كثيرًا، فقد جاء على طرّة النسخة الأزهرية «للدر الرصين» بعد ذكر اسم الكتاب واسم المؤلف: «من علماء أواخر القرن الثامن، نبَّه على ذلك كاتبه: أحمد عمر المحمصاني الأزهري». والذي يظهر أن المجرّد لتهذيب السنن لابن القيم هو هذا الثاني، وذلك لقرائن: 1 - عنايته بالحديث أكثر من الأول. 2 - أنه عُرف بالتأليف، والأول لم يذكروا له أيَّ تأليف. 3 - أنه كان له عناية بمطالعة الشروحات الحديثية والنظر فيها على اختلاف مذاهب مؤلفيها، كما يظهر جليًّا من شرحه على الأربعين. _________ (1). وطبع المخطوط كما هو في دار البشائر الإسلامية بتقديم الشيخ محمد بن ناصر العجمي عام 1437 هـ.

(المقدمة/21)


4 - أن المجرِّد ذكر في الخاتمة أن من فوائد ما قام به من التجريد: «تسهيل هذه الزيادات على الطلاب». وهذا يوحي بأنه تصدَّى للتدريس، وهو ما ورد في ترجمة السعودي الحنفي، بخلاف الأول فإنه كان مؤدِّبًا للأطفال يُقرئهم القرآن ويعلّمهم التجويد. 5 - أن الأول ترجمته مبسوطة عند السخاوي في «الضوء اللامع»، فقد أخذ عنه هو وكثير من مشايخه، وأيضًا ذكره ابن حجر في «الإنباء»، فلو كان التجريد له لما خفي عليهما ذلك ولا فاته ذكرهما. بخلاف السعودي الحنفي، فإن السخاوي لم يُدركه، وترجمته مقتضبة جدًّا عنده، ولم يذكر فيها شرحه على الأربعين، وهذا كلُّه يدل على أنه لم يعرف تفاصيل حياته العلمية، فلا غرابة أن لا يكون وقف على تجريده. * * * *

(المقدمة/22)


أهمية الكتاب وقيمته العلمية يكفي الكتاب أهمية أنه شرح لأحاديث خير البريّة محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن الذي قام بشرحها عالم محقِّق متبحِّر في العلوم والفنون. ولمّا كان «مختصر المنذري» تبعًا لأصل «السنن» مشتملًا على أبواب متفرقة من العلم من فقه وعقيدة وسلوك مع الكلام على الأحاديث الدالة عليها تصحيحًا وتعليلًا، فقد كان كتابنا مشتملًا على ذلك كله وإن برز في جانب الفقه والحديث باعتبار الكتاب أصلًا فيهما. ويمكن إبراز بعض جوانب قيمته العلمية في النقاط التالية: - ما احتواه من ذكر علل الأحاديث والكلام عليها تصحيحًا وتضعيفًا. وفيه مواضع جليلة في الانتصار لطريقة أئمة الحديث في النقد والتعليل والتصحيح مع التنبيه على خطأ طريقة الفقهاء المتأخرين في عدم التفاتهم إلى العلل، كقوله في باب القضاء باليمين مع الشاهد (2/ 568): «والصواب في ذلك طريقة أئمة هذا الشأن العالمين به وبعلله، وهو النظر والتمهُّر في العلل، والنظر في الواقفين والرافعين والمرسلين والواصلين: أيّهم أكثر وأوثق وأخص بالشيخ وأعرف بحديثه، إلى غير ذلك من الأمور التي يجزمون معها بالعلة المؤثرة في موضع، وبانتفائها في موضع». - تحرير المسائل المختلف فيها بين الفقهاء وذكر مآخذهم ومناقشة أدلّتهم، وقد نبه المؤلف نفسه إلى ذلك حيث قال في ختام بعض تلك البحوث (2/ 437): «فهذه نُكَت في هذه المسألة المُعْضِلة، لا تكاد توجد مجموعةً في كتاب».

(المقدمة/23)


- ما فيه من البحوث الفقهية والعقدية والحديثية التي أطال المؤلف فيها النفس فأسهب في المناقشة والتقرير والاستدلال والترجيح والتحرير. وهي بضعة وعشرون موضعًا سيأتي ذكرها في منهج المؤلف. - عناية المؤلف البالغة في مواضع كثيرة بالجمع بين الأحاديث التي ظاهرها قد يوهم التعارض، وذِكر معالم وقواعد في ذلك، كقوله في باب في الرُّقى (2/ 638): «وهذا المسلك في هذه الأحاديث وأمثالها فيما يكون المنهيُّ عنه نوعًا، والمأذون فيه نوعًا آخر، وكلاهما داخل تحت اسم واحد= مَن تفطّن له زال عنه اضطراب كثير. يظنه من لم يُحِط علمًا بحقيقة المنهي عنه من ذلك الجنس والمأذونِ فيه= متعارضًا، ثم يسلك مسلك النسخ، أو تضعيف أحد الأحاديث». - ما حفظ لنا من أسانيد الحديث وروايات الإمام أحمد وأقوال شيخ الإسلام التي لم تصلنا مصادُرها. ولقيمته العلمية أفاد العلماء منه في شروحهم الحديثية، كما سيأتي. * * * *

(المقدمة/24)


منهج المؤلف في كتابه مصطلح «التهذيب» يتضمّن أنواعًا من التأليف: الاختصار والتلخيص، والتعليق والتعقيب، والاستدراك والتذييل. وهذا شأن كتابنا كما صرّح بذلك المؤلف في مقدّمة كتابه التي سبق نقلها عند «وصف الكتاب». ومنهجه في التهذيب أنه غالبًا يبدأ بما ذكره المنذري من تخريج الحديث والكلام على علله باختصار وتصرّف، ثم يضيف إليه ما يقتضيه المقام من الشرح والاستدراك والتذييل. وقد يأخذ بعض ما ذكره المنذري في شرح الحديث فيضمّنه كلامَه مع الزيادة والتحرير. ويسوق ذلك كلَّه مساقًا واحدًا دون تمييزٍ لما زاده عمّا كان في «المختصر»، وإنما أتى التمييز بين كلام الإمامين من صنيع المجرّد. وقد يصرّح المؤلف بنسبة بعض الكلام إلى المنذري إذا لم يرتضه، أو أراد أن يتعقّبه، أو كان من استقراء المنذري لئلا ينسبه إلى نفسه. انظر: باب في الرجل يبيع ما ليس عنده (2/ 513) وباب النهي عن المسكر (2/ 592)، وباب فيمن أعتق عبدًا وله مال (3/ 44). وبما أن عدد الأبواب التي في «التجريد» تمثِّل قرابة خُمس أبواب «المختصر» (1) = عَلِمْنا أن زيادات المؤلف التي يمكن إفرادها ليست في جميع الأبواب، ويكون المؤلف قد اقتصر في أكثر الأبواب على نقل كلام المنذري مختصرًا له مع تصرّف يسير في بعض المواضع، أو زيادات يسيرة _________ (1). فإن عدد الأبواب في «التجريد» بلغ زهاء 380 بابًا من قرابة 1800 بابٍ في «المختصر».

(المقدمة/25)


لا يمكن إفرادها. وهذه الأبواب هي التي لم ينقلها المجرّد، كما أشار إلى ذلك في آخر الكتاب بقوله: «ولستُ أدَّعي الإحاطةَ بجميع ما كتبه، بل الغالب والأكثر. وقد سقط منه القليل جدًّا لتعذُّر كتابته، فعساه زاد لفظةً أو لفَظاتٍ في أثناء كلام، فلم يمكنِّي إفرادُها لاتصالها بكلام كثير للمنذري، ولم يمكن كتْب ذلك الكلام الذي للحافظ المنذري كله، فحذفت الزيادة قصدًا لذلك». أما زيادات المؤلف فهي على أنحاء كما سبق في كلامه الآنف الذكر، فمنها: - أن يكون المنذري نقل طرفًا من كلام الترمذي أو النسائي أو غيرهما من الأئمة في علّة الحديث، فيكمل المؤلف النقل عنهم. - أن يزيد نُقولًا أخرى عن أئمة الحديث. وفي الغالب يعتمد في ذلك على «معرفة السنن والآثار» و «السنن الكبرى» للبيهقي، و «المحلى» لابن حزم، و «الأحكام الوسطى» للإشبيلي، و «بيان الوهم والإيهام» لابن القطّان. ورُبّما أفاض في شرح العلل ومناقشتها. - أن يزيد أحاديث أخرى وردت في الباب لم يذكرها أبو داود. وقد يكون ما ذكره أبو داود فيه ضعف، وفي الباب أصح منه كأحاديث «الصحيحين» فيسوقها المؤلف. انظر على سبيل المثال: باب تخليل اللحية، باب سكنى الشام، باب كراهية اتخاذ القبور مساجد، باب في أكل لحوم الحمر الأهلية، باب ذكر الفتن ودلائلها، باب في قتال الخوارج، باب إخبار الرجل بمحبته. - إذا كان الحديث في «الصحيحين»، ولا سيما في «صحيح مسلم»، يعتني المؤلف بإيراد ألفاظ رواياتهما.

(المقدمة/26)


- قد يتصرّف في بعض تراجم الأبواب وترتيبها، كأن يستبدل بترجمة الباب ما يكون أدلّ على المقصود، كما في باب القصاص من اللطمة (3/ 123)، فإن ترجمته في «السنن»: باب القَوَد من الضربة وقصّ الأمير من نفسه. وقد يقدّم بابًا على باب لأنه ألصق في مضمونه بالباب الذي قبلهما. ومثاله: أنه كان في «السنن» و «المختصر»: باب القُبلة للصائم، ثم: باب الصائم يبتلع الريق، ثم: كراهية ذلك للشَّاب. فقدّم المؤلف الأخير منها على ما قبله فصار هكذا: باب القُبلة للصائم ــ كراهية ذلك للشَّاب ــ باب الصائم يبتلع الريق. انظر: (2/ 67 - 71). وفي موضع ضم حديث الباب الوحيد إلى الباب الذي قبله، ثم أورد تحته أحاديث أخر أشد مطابقةً للترجمة. انظر: باب في ذلك يدًا بيد (2/ 422). في موضع زاد المؤلف بابين لم يذكرهما أبو داود، وذلك في آخر كتاب الديّات (3/ 152 - 155)، وهما: «باب لا يُقتصّ من الجرح قبل الاندمال» و «باب من اطَّلع في بيت قوم بغير إذنهم»، ثم قال: «ولم يذكر أبو داود هذا الباب، ولا الذي قبله، ولا أحاديثَهما، فذكرناهما للحاجة». - قد يذكر المؤلف كلام المنذري على الحديث ثم يتعقّبه، كما في تعليله لروايات سعيد عن عمر بالانقطاع (3/ 384)، ووجه الجمع بين إكرام الشعر والنهي عن ترجّله إلا غبًّا (3/ 70). - اعتنى المؤلف عناية ظاهرة في كثير من الأبواب بالجمع بين الأحاديث التي قد يوهم ظاهرها التعارض.

(المقدمة/27)


- كما أن له عناية فائقة بتحرير مسائل الخلاف وذكر أدلتها والترجيح بينها. وكثيرًا ما يستعمل الحوار في ذلك حيث يعقد مجلس مناظرة بين فريقين كل منهما يستدل لقوله ويناقش أدلة الخصم، كما في مسألة تحديد التنجيس بالقلتين، وكما في باب في بيع الطعام قبل أن يُستوفَى، حيث عقد مناظرة بين «المخصِّصين» الذين قصروا النهي على الطعام وبين «المعمّمين» للنهي. وربّما أطال جدًّا في بعض المباحث، وهي التي وصفها في مقدمة كتابه بأنه: «بسط الكلام على مواضع جليلة لعل الناظر المجتهد لا يجدها في كتاب سواه». وهذه المباحث هي: - عدم اشتراط الطهارة للطواف وسجود الشكر والتلاوة. - الكلام على حديث القلتين. - الكلام على تصحيح حديث أبي حميد الساعدي في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. - فصلٌ في سياق صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبيان اتفاق الأحاديث فيها، وغلط مَن ظنَّ أن التخفيف الوارد فيها هو التخفيف الذي اعتاده سُرَّاق الصلاة والنقَّارون لها. - في معنى التلبية. - الخلاف في وقوع الطلاق في الحيض. - الخلاف في الحجامة هل تفطر؟ - إفراد يوم السبت بصيام. - صيام الست من شوّال. - هل يجب الصوم للاعتكاف؟

(المقدمة/28)


- جواز أكل المار من ثمر البستان. - زيارة النساء للقبور. - جواز المزارعة وتوجيه أحاديث النهي عنها - النهي عن بيع العينة. - جواز الاعتياض عن المسلَم فيه بغيره. - النهي عن بيع السلعة قبل قبضها. - معنى النهي عن «شرطين في بيع». - القضاء باليمين مع الشاهد. - تحريم لحوم الحمر الأهلية. - هل يجزّأ العتق إذا أدى المكاتِب بعض كتابته؟ - ثبوت القصاص من اللطمة. - باب في ردِّ الإرجاء. - باب في القدر، في الكلام على تعدد كتابة التقدير. - باب في ذراري المشركين. - الكلام على مسألة العلو، وفيه الكلام حول توثيق محمد بن إسحاق ودفع الطعن في صدقه وعدالته. - باب في المسألة وعذاب القبر، وفيه الردّ على ابن حبان وابن حزم في طعنهما في حديث البراء بن عازب الطويل. - جمع طرق وشواهد حديث «المرء مع من أحب». * * * *

(المقدمة/29)


موارد المؤلف ذكرنا فيما سبق أن الكتاب مختص غالبًا بفنِّ الحديث وعلله ورجاله، وفنِّ الفقه ودقائقه، فمن البدهي أن تكون غالب موارد الكتاب ضمن هذين الفنين وتوابعهما، وكان للمؤلف في تسمية موارده عدة طرق، فإما أن يسمي الكتاب صراحة أو المؤلف دون تسمية كتابه، وهذا كثير خاصة في الكتب التي أكثر من النقل عنها، وقد لا يسمي الكتاب ولا المؤلف ولكن يعرف بالنظر والمقارنة. وقد ينقل المؤلف بواسطة أحد الكتب ولا يكون نقل من المصدر مباشرة، كما يتضح ذلك بالمقارنة. وقد قسمنا الحديث على الموارد بحسب الفنون: - في العلل والكلام على الحديث: المصادر التي اتكأ عليها المؤلف - رحمه الله - في الكلام على علل الحديث، وكأنها كانت بين يديه أثناء تأليفه للكتاب ــ أو كان يستظهر عللها (خاصة أنه ألف الكتاب حال السفر) ــ هي: «المحلى» لابن حزم الأندلسي، وكتابا البيهقي: «السنن الكبرى» و «معرفة السنن والآثار»، و «الأحكام الوسطى» لعبد الحق الإشبيلي، و «بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام» لابن القطان الفاسي. واعتمد على مصادر أخرى مهمة أيضًا لكن أقل من سابقتها، وهي: «سنن الدارقطني» و «العلل» له، و «علل الترمذي الكبير»، و «السنن الكبرى» للنسائي، و «الكامل» لابن عدي، و «التمييز» لمسلم (في موضع بواسطة)، و «العلل» للإمام أحمد رواية عبد الله، و «العلل» للخلال، «وعلل حديث الزهري» للذهلي (وفي موضع بواسطة ابن القطان)، و «علل ابن أبي حاتم»،

(المقدمة/30)


و «التمهيد» وغيرها. - في الرجال والتاريخ: تنوّعت مصادر المؤلف في الكلام على الرجال، فمن أهمّها: «التاريخ الكبير» للبخاري، و «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم، و «الثقات» لابن حبان، و «المجروحين» له، و «الضعفاء» للعقيلي، و «الكامل» لابن عدي، و «التواريخ» عن ابن معين. - في متون الحديث والروايات: أكثر المؤلف من النقل عن الكتب الستة و «الموطأ» و «مسند أحمد»، و «صحيح ابن حبان» و «صحيح ابن خزيمة» و «مستدرك الحاكم» و «المختارة» و «الأحكام الكبرى» للمحب الطبري، وغيرها من السنن والمسانيد. وجلّ هذه النقول من كتبهم مباشرة، وقد ينقل بعض المتون بواسطة كتب المختارات كـ «الأحكام الوسطى» للإشبيلي، و «الأحكام» للضياء، وغيرهما. وهناك مصادر حديثية نادرة ومفقودة نقل منها في مواضع، كـ «الصلاة» لابن حبان، و «المخلّصيات»، و «الفوائد» لابن مقرئ، وأيضًا لابن صخر، و «مسند الحسن بن سفيان»، ومن أحاديث لعثمان بن سعيد الدارمي ولعلّها من «كتاب الأطعمة» له. - كتب شروح الحديث والفقه ومذاهب العلماء: اعتمد المؤلف على كتب شتى في هذا الباب، أبرزها: «السنن الكبير» و «معرفة السنن والآثار» للبيهقي، و «المغني» لابن قدامة، و «التمهيد» لابن

(المقدمة/31)


عبد البر، وكتب ابن المنذر «الأوسط» و «الإشراف»، و «الأم» للشافعي، و «اختلاف الحديث» له، وكتب أخرى ينقل منها المرّة بعد المرّة. من نافلة القول أن يُذكر اعتماد المؤلف على «معالم السنن» للخطابي، وحواشي المنذري على «مختصره» فهما أصل أصيل في الكلام على فقه الحديث وشرح غريبه. - كتب التوحيد والاعتقاد: أهم موارد المؤلف في نقل الأحاديث والآثار وكلام أئمة السلف في مباحث الاعتقاد ــ لا سيما مبحث العلو ــ هي: كتاب «الشريعة» لأبي بكر الآجُرِّي، و «الأسماء والصفات» للبيهقي، وكتاب «العلو» لابن قدامة. ونقل المؤلفُ أيضًا من كتب المتكلّمين ما وافقوا فيه اعتقاد سلف الأمة، كنقله كلامًا في إثبات العلو من «الإبانة» و «مقالات المصلِّين» لأبي الحسن الأشعري، و «رسالة الحرّة» لأبي بكر الباقلاني، وغيرها. وهناك كتب نقل منها المؤلف وهي في عداد المفقود كـ «الموجز» للأشعري، و «شعار الدين» للخطَّابي، وكتاب «الروح والنفس» لابن منده. - كتب شيخ الإسلام ابن تيمية: اعتمد المؤلف على تحقيقات شيخه وتحريراته في مواضع عديدة، منها ما وجدناه في كتب ابن تيمية كمسألة النهي عن صيام يوم السبت (2/ 113 - 123)، فقد أفاد فيه من «الاقتضاء» (2/ 71 - 81)، وصرّح في آخره (2/ 122) بالنقل عنه. ومنها ما لم نجده بنصه في كتب ابن تيمية المطبوعة، وقد أشرنا لذلك في هوامش الكتاب. (ينظر فهرس الأعلام).

(المقدمة/32)


وفي مواضع ينقل من شيخه مشافهةً، كحكمه بالوضع على حديث ابن عباس أن «السجل» كاتب كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - (2/ 325)، وكجمعه بين النهي عن الذهب إلا مقطَّعًا وحديث الخربصيصة (2/ 87). وهذا الثاني موجود بنحوه في بعض «فتاويه» (21/ 87)، والأول حكم عليه بذلك في «الرد على السبكي»: (1/ 268 - 269). - متفرقات: هناك كتب متفرقة نقل منها المؤلف في الكلام على بعض المسائل، كـ «الاعتبار» للحازمي، وكتاب ابن مفوّز في الرد على ابن حزم، و «الروض الأنف» للسهيلي، و «الفروق» للقرافي، و «الكتاب» لسيبويه، و «الصحاح» للجوهري، و «معرفة علوم الحديث» للحاكم، و «جوابات المسائل» للمحب الطبري، و «تحفة الأشراف» للمزي. * * * *

(المقدمة/33)


أثره في الكتب اللاحقة لما كان كتاب ابن القيم شرحًا مبسوطًا لأحاديث كثيرة من سنن أبي داود مع بيان عللها وتحرير للأحكام الشرعية المستنبطة منها= كان من المتوقَّع أن يكون له أثر فيما أُلِّف بعده من الشروح الحديثية. * فأول من وجدناه نقل منه هو الحافظ ابن حجر (ت 852) في «فتح الباري» في ثلاثة مواضع: (2/ 276)، (10/ 603)، (11/ 51، 54) مصرِّحًا بالنقل منه ويسمّيه: «حاشية السنن» أو «حواشي السنن». وهذه مواضع النصوص في كتابنا: (1/ 226)، (3/ 396 - 398)، (3/ 446، 451) وِلاءً. وفي مواضع أخر: (10/ 306)، (12/ 92)، (12/ 229) نقل قول ابن القيم دون التصريح باسم كتابه. وهي عندنا في الكتاب: (3/ 60)، (3/ 98)، (3/ 129). * ثم القسطلَّاني (ت 923) في «إرشاد الساري» (9/ 127)، وهو صادر فيه عن «فتح الباري» (10/ 603). * ثم السفَّاريني الحنبلي (ت 1188) في موضعين من «كشف اللثام» (2/ 373)، (7/ 110) مصرِّحًا باسمه، وفي موضع (7/ 103) من غير تصريح؛ والظاهر أنه أيضًا صادر عن «الفتح» (2/ 276)، (10/ 603)، (10/ 306). * ثم العظيم آبادي (ت 1329) في «عون المعبود»، وهو أكثر الناس نقلًا منه، لأنه كان يمتلك نسخة خطية من «التجريد»، وقد بدأ بنشره على

(المقدمة/34)


هامش شرحه الكبير «غاية المقصود» كما سيأتي في وصف طبعات الكتاب. فمن المواضع التي نقل فيها في «عون المعبود»: (1/ 205، 298، 324)، (6/ 209)، (7/ 109، 179، 286)، (10/ 131، 168)، (12/ 45، 282، 321)، (13/ 8، 16، 17 - 25) ط. دار الكتب العلمية. * ثم عبد الرحمن المباركفوري (ت 1353) في «تحفة الأحوذي» في مواضع: (1/ 277، 284)، (5/ 277، 472 - 473)، (9/ 166) ط. دار الكتب العلمية. * * * *

(المقدمة/35)


طبعات الكتاب للكتاب أربع طبعات فيما نعلم: 1 - أول من بدأ بطباعة كتابنا هذا العلّامة شمس الحق العظيم آبادي في الهند سنة 1305 هـ، وذلك بهامش شرحه الحافل «غاية المقصود»، ومعه أيضًا مختصر سنن أبي داود، لكنها طبعة غير كاملة إذ لم يطبع من غاية المقصود إلا الجزء الأول من تجزئة الخطيب لسنن أبي داود البالغ اثنين وثلاثين جزءًا، وصل فيه إلى آخر الكلام على باب الوضوء من لحوم الإبل من «تهذيب السنن» (1/ 134 من طبعتنا). وقد اعتمد في إخراجه على نسختين خطيتين: نسخة خدابخش، وهي المرموز لها عندنا بـ (ش)، ونسخة عبد الجبار الغزنوي. 2 - الطبعة الثانية: طبعة السنة المحمدية بعناية الشيخ محمد حامد الفقي والشيخ أحمد محمد شاكر (1) سنة 1357 هـ في ثمانية مجلدات مع «مختصر السنن» للمنذري و «معالم السنن» للخطابي، على نفقة الملك عبد العزيز آل سعود رحمهم الله. وهذه الطبعة ضمَّت ثلاثة كتب: أولها «مختصر المنذري» الذي عمد _________ (1). كانت مشاركة الشيخ أحمد شاكر إلى المجلد الثالث من الكتاب فقط. وكان يختم تعليقاته بذكر اسمه في مواضع يسيرة في المجلدين الأولين، ثم كثر في المجلد الثالث، وآخر تعليق للشيخ أحمد شاكر كان في (3/ 416) وربما وضع الفقي اسمه أيضًا عقب تعليقه. وعليه فإنّ وَضْع اسم الشيخ أحمد شاكر في غلاف المجلدات الثمانية في الطبعات المصورة تصرف غير صحيح.

(المقدمة/36)


المؤلف إلى تهذيبه، والثاني «معالم السنن» للخطابي وهو شرح مختصر لسنن أبي داود، والثالث كتابنا هذا، وجعل الناشر كتاب «المختصر» في أعلى النص، يليه كتاب الخطابي، وفي ذيل الصفحات جاء كتاب ابن القيم بخط صغير جدًّا. وهذه النشرة مع كونها أول إصدار كامل للكتاب، ومع شكرنا لمن قام عليها، غير أنها أسهمت في ضعف الإفادة من الكتاب، لتفرّق التعليقات في هوامش الكتاب، وصغر الخط، وربما لعدم وضوح تعليق المؤلف على كلام المنذري (1)، إضافة إلى ما وقع فيها من أخطاء طباعية وتصرف في كلام المؤلف بالإضافة والحذف والتغيير دون إشارة إلى ذلك ومن غير ضرورة تلجئ إليه في غالب الأحيان، بل حُذِف بعض كلام ابن القيم بحجة الاستغناء عنه بكلام الخطابي أو المنذري (على قلّته). 3 - طبعة بحاشية «عون المعبود»، وهي في اثني عشر مجلدًا، بعناية عبد الرحمن محمد عثمان، نشرة مكتبة السلفية بالمدينة النبوية سنة 1388. وكل ما قيل في الطبعة السابقة يصدُق على هذه الطبعة مع إضافة أخطاء طباعية جديدة. 4 - طبعة بتحقيق د. إسماعيل بن غازي مرحبا عن دار المعارف بالرياض في خمس مجلدات، ط الأولى سنة 1428 هـ. وهي طبعة جيدة صححت كثيرًا مما وقع في ط الفقي من تصرف وأغلاط. واعتمد في _________ (1). وقد أشار الفقي في خاتمة طبعته (8/ 120) إلى ذلك وقال: «ولعلنا في الطبعة الثانية إن شاء الله نوفق لوضع وترتيب أجود من هذا، لأن هذا الوضع هو أول إخراج للكتاب».

(المقدمة/37)


تحقيقه على نسخة واحدة هي نسخة عارف حكمت (الأصل)، وهذه الطبعة على جودتها لم تخلُ من بعض الأخطاء والتحريفات بيّنّاها في هوامش التعليق وضربنا مُثُلًا لها، إضافة إلى كونه لم يورد الحديث الذي علّق عليه المؤلف إلا في الهامش ولا كلام المنذري أيضًا إلا في أحيان قليلة، فيتشتت القارئ بين المتن والهوامش بحثًا عن الحديث وكلام المنذري، كما يؤخذ على هذه النشرة اعتماده على طبعةِ الفقي لـ «مختصر المنذري»، حيث سقطت منها حواشٍ كثيرة للمنذري وهي موجودة في النسخ الخطية الأخرى للمختصر، وبالوقوف عليها ونَقْلها يُفهم كلام المؤلف، ويُعرف على أي شيء علّق، وقد أشرنا لكلام المنذري الساقط في هوامش التحقيق، وأوردنا كلامه عقب الحديث كما أشار المجرّد. وعلى كل حال فهي طبعة جيدة أفدنا منها واستدركنا عليها. 5 - طبعة بتحقيق محمد صبحي حلاق، عن دار المعارف بالرياض في ثلاثة مجلدات، نشرت سنة 1432 هـ، وما زاد فيها على أن أخذ نص الكتاب من طبعة الفقي، فحافظ على أخطائها وزاد من عنده أخطاء جديدة. * * * *

(المقدمة/38)


مخطوطات الكتاب 1 - نسخة الأصل: وهي محفوظة في مكتبة الملك عبد العزيز بالمدينة النبوية ضمن مجموعة عارف حكمت رقم (485)، تقع في 275 ورقة، عدد الأسطر 25 سطرًا، مقاس الصفحة 26.5 × 18.5 سم. وهي نسخة تامة جيدة صحيحة، وقع فيها بعض البياضات قد تبلغ سطرًا أو أكثر في بعض المواضع، ولعلها مما تركه المجرّد أملًا في استكماله لاحقًا فلم يتيسر له. كتبت يوم الأربعاء الخامس عشر من ربيع الأول سنة 790 هـ، أي بعد موت المؤلف بتسع وثلاثين سنة، جرّدها محمد بن أحمد السعودي. كتب على صفحة الغلاف: «هذا ما منّ به الرحيم الودود من تمييز زوائد حواشي «مختصر سنن أبي داود» التي زادها الشيخ الإمام الحافظ الحجة شمس الدين محمد ابن قيم الجوزية تغمده الله تعالى بغفرانه وأسكنه فسيح جناته. جرَّده الفقير إلى الله تعالى محمد بن أحمد السعودي عامله الله تعالى بلطفه آمين». وكُتب تحته تمَلّك نصّه: «دخل في سلك ملك الفقير إلى الغني الصمد علي بن أمر الله (1) بن محمد جمع الله تعالى بينهم في مقعد صدق وحبّذا ذاك المقعد، بالقاهرة سنة 974». _________ (1). هكذا قرأتها. ولعله المترجم له في «الأعلام»: (4/ 264): علي (شلبي) بن أمر الله بن عبد القادر الحميدي الرومي سيف الدين المعروف بقينالي زاده، قاضٍ تركي له اشتغال بالحديث وله تصانيف (ت 979).

(المقدمة/39)


وكتب مقابله تملُّك آخر: «من كتب الفقير أبي الخير أحمد (1) غفر له». وتحتهما ختم كبير لوقفية عارف حكمت ونصها: «مما وقفه العبد الفقير إلى ربه الغني أحمد عارف حكمة الله بن عصمة الله الحسيني في مدينة الرسول الكريم عليه وعلى آله الصلاة والتسليم بشرط ألا يخرج عن خزانته، والمؤمن محمول على أمانته 1266» وتكرر الختم في خاتمة النسخة مرتين. وقد يبدو لأول وهلة أن النسخة بخط مجرّدها محمد بن أحمد السعودي بسبب قوله في صفحة الغلاف بعد العنوان: «جرّده الفقير إلى الله تعالى محمد بن أحمد السعودي»، وهذه العبارة لا يطلقها إلا المؤلف أو الكاتب نفسه، وبسبب قوله في خاتمة النسخة: «بلغ مقابلة على أصله المنقول منه الذي بخط مجرّده فصحّ جهد الطاقة ولله الحمد، وكتب مجرده محمد السعودي». لكن يشكل على ذلك ما في آخر النسخة، فبعد أن تمّ الكتابُ كتب ناسخه ــ الذي هو شخص غير السعودي ــ: «ورأيتُ في النسخة المنقول منها هذه النسخة ما صورته: قال كاتبه محمد بن أحمد السعودي: هذا آخر ما كتبته مما زاده الشيخ. . .». فتحصّل من ذلك أن ناسخ النسخة ينقل من نسخة المجرِّد السعودي صورةً طبق الأصل لما فيها، حتى يبدو للمتوهم أنها هي هي، ولولا هذه الإشارة الأخيرة لما شككنا أنها بخط المجرّد محمد بن أحمد السعودي. _________ (1). هو الشيخ المحدّث أحمد بن عثمان أبو الخير الهندي المكي الحنفي (ت 1328)، ترجمته في «نزهة الخواطر»: (8/ 1175)، و «فهرس الفهارس»: (2/ 690 - 695).

(المقدمة/40)


وعليه فإنّ تاريخ النَّسْخ المدوّن على النسخة (790) هو تاريخ التجريد وليس تاريخًا لنسختنا، فمتى نُسِخت نسختنا؟ هذا ما لم ينصّ عليه الناسخ ولم يسمّ نفسه، لكن نسختنا قديمة أيضًا بدليل قيد المطالعة في آخرها، فقد طالعها إبراهيم بن محمد بن التقي المقدسي سنة 864، فهي منسوخة بين سنتي (790 وسنة 864). وعليه أيضًا فَقَيْد المقابلة في آخرها إنما هو منقول عن النسخة الأم، ولكن نسختنا أيضًا مقابلة، بدليل بلاغات المقابلة في طُرَرها والاستدراكات للسقط على هوامشها. 2. نسخة مكتبة خدا بخش خان بالهند: كانت هذه النسخة في مكتبة العلامة المحدث شمس الحق العظيم آبادي التي آلت إلى مكتبة خدا بخش خان، وهي في 482 صفحة، وفي كل صفحة 25 سطرًا، وفي كل سطر ما بين 12 و 15 كلمة. نسخها محمد علي بن محمد حسن عنبرخاني بالمدينة المنورة العشرين من شهر رمضان المبارك عام 1294. وهي نسخة تامة ومقابلة على الأصل المنسوخ منه، وهي كثيرة السقط والتحريف، وبمقارنتها بما في نسخة المدينة المنورة تبين أنها منسوخة منها، فإنها تشاركها في كثير من السقط والتحريف. وعلى طرتها ختم مالكها (أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي). وعلى صفحة العنوان كُتِب اسم الكتاب والمؤلف كما يلي: «كتاب تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته والكلام على ما فيه من الأحاديث المعلولة، للشيخ الإمام الأوحد البارع، موضح المشكلات وفاتح المقفلات، شيخ الإسلام، شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر

(المقدمة/41)


المعروف بابن قيم الجوزية، قدس الله روحه، آمين». وقد رمزنا لها بـ (ش). 3. نسخة الجامعة العثمانية بالهند: وهي ناقصة الآخر مقابلة على الأصل، وقد سقطت منها أوراق من مواضع كثيرة من أولها ووسطها وآخرها، عدد أوراقها 185 ورقة، وفي كل صفحة 25 سطرًا، وفي كل سطر من 12 إلى 15 كلمة. ويبدو أنها كتبت في أوائل القرن التاسع. وقد كتبت بثلاثة خطوط مختلفة، أحدها بخط شبيه جدًّا بخط ناسخ الأصل إن لم يكن هو، ويبدو أنهم تناوبوا على نسخ الكتاب لا أنها عدة نسخ ثم لُفّقت لتكون نسخة واحدة، فمن بداية النسخة إلى ق 72 (باب اختيار الفطر) بخط واحد، وهو على منوال نسخة الأصل في تجريد كلام المؤلف. ثم من ق 73 من عند (باب المرأة تصوم بغير إذن زوجها) تغير الخط وأسلوب الكتاب إلى نهاية النسخة، إذ يذكر الحديث الذي علّقَ عليه المؤلف، وينقل تعليق المؤلف بتمامه من غير تمييز بين كلامه وبين كلام المنذري، وكذلك تراجم الأبواب هي في مواضع أتم مما في نسخة الأصل. هذه النسخة أخلّت ببعض الأبواب التي في أصل المجرّد، في حين أنها زادت عليه بعض الأبواب، وفي أكثر هذه الأبواب الزائدة لا يعدو الكلام ما ذكره المنذري مع تصرف يسير أو اختصار أو زيادة يسيرة لا يمكن إفرادها. ولعلها الإبرازة الأولى للتجريد، واستقرّت الإبرازة الثانية على ما في نسخة الأصل. ومن ق 108 إلى 115 ومن ق 131 إلى آخر ما وصل إلينا من هذه النسخة بخط شبيه بخط ناسخ الأصل.

(المقدمة/42)


ويتبين من خلال هذه النسخة (من الورقة 73 إلى آخرها) منهج المؤلف في «تهذيب مختصر المنذري لسنن أبي داود»، وكيفية سرد الأحاديث وكلام المنذري عليها وانتقائه، وإيضاحه وتهذيبه والزيادة عليه وتعقيبه والاستدراك عليه. وقد استفدنا من هذه النسخة بيان المواضع التي أخلّ المجرِّد فيها بتعيين الأحاديث التي تكلم عليها المؤلف، وكذلك في إثبات كلام المنذري على الوجه الذي أثبته المؤلف بالاختصار والتصرّف. وقد رمزنا لها بـ (هـ). وقد أتحفنا بصورة منها أخي الشيخ الخبير بالمخطوطات أبو يعقوب عبد العاطي الشرقاوي ــ جزاه الله خيرًا ــ حين زارني في بيتي بمكة المكرمة. وكنا حينها قد شارفنا على الانتهاء من الكتاب، فأعدنا النظر فيها وانتفعنا بها. ومن نسخ الكتاب أيضًا: نسخة كلكتا في الهند، في مجلد واحد، بخط فارسي، وهي كثيرة الخطأ والسقط والتحريف. نسخة الشيخ عبد الجبار الغزنوي، وقد اعتمد عليها الشيخ العظيم آبادي في نشرته لـ «التهذيب» بهامش «غاية المقصود»، ولم نقف عليها. نسخة في مكتبة الرياض السعودية بدار الإفتاء رقم 713، وهي منسوخة من نسخة عارف حكمت. * * * *

(المقدمة/43)


منهج التحقيق لن نعيد ذكر الخطوط العريضة لمنهج التحقيق هنا، فقد ذكرناها مرارًا، وكتبنا فيها رسالة صغيرة مطبوعة، لكننا سنذكر هنا ما اكتنف هذا الكتاب من خصوصية في عملنا عليه: تقدّم أن الكتاب الذي وصل إلينا ليس أصل كتاب ابن القيم بل هو تجريد لكلامه الذي زاده على كلام المنذري في «مختصره»، وتهذيب لحواشيه، وكان المجرّد يسوق عنوان الباب وطرفًا من كلام المنذري مصدِّرًا له غالبًا بـ «قال المنذري»، ثم ينقل زوائد المؤلف مصدِّرًا لها بـ «قال ابن القيم»، أو «قال الشيخ شمس الدين»، أو «قال شمس الدين» أو «قال الشيخ المذيّل». . . إلخ، ثم عدل عنها في نصف الكتاب الأخير إلى (قال م) للمنذري، و (قال ش) لشمس الدين ابن القيم. وقد مشينا نحن في إثباتها على نمط واحد وهو: «قال ابن القيم - رحمه الله -» في جميع الكتاب. فالمجرّدُ لا يسوق الحديثَ الذي علّق عليه ابن القيم ولا كلام المنذري الذي عقّب عليه أو زاد، فعمدنا إلى سياق الحديث أو الأحاديث التي علّق عليها ابن القيم، وذلك من خلال إشارة المجرّد للحديث، فإذا لم يُشر نتبيّنها من خلال تعليق المنذري والمؤلف، أو نجتهد في إيراد الحديث أو الأحاديث المناسبة للتعليق. ثم أوردنا كلامَ المنذري عقب الحديث إلى الموضع الذي أشار إليه المجرّد، أو سقناه كاملًا إن لم يذكر المجرّد ذلك، وربما طال كلام المنذري فاجتهدنا في إيراد القدر الذي يُفهم به تعليق المؤلف، وميَّزنا الأحاديث وكلام المنذري بتسويد الخط وتغيير حجمه.

(المقدمة/44)


وكنا لا نجد كثيرًا من كلام المنذري الذي يُشير إليه المجرّد في مطبوعة الفقي للمختصر، فاستعنّا بمجموعة من النسخ الخطية للمختصر منها نسختان في المكتبة المحمودية، ونسخة من دار الكتب المصرية، ونسخة من مكتبة المتحف البريطاني، فوجدنا كلام المنذري فيها، وتبين بذلك أن طبعة الفقي للمختصر ناقصة نقصًا كبيرًا، وأن الكتاب بحاجة إلى إعادة إخراج على النسخ المتقنة الكاملة. ثم حصلنا على نسخة الجامعة العثمانية بالهند (هـ) لتهذيب السنن، فوجدنا فيها بعض الأبواب منقولةً بتمامها كما كتبها المؤلف دون تمييز ولا تجريد لكلامه عن كلام المنذري، فتبيّن منها أن المؤلف كان يتصرّف في القَدْر الذي ينقله من كلام المنذري، فأثبتنا كلام المنذري في تلك الأبواب كما كتبه المؤلف مع الإشارة في الهامش إلى ما فيه من تصرّف المؤلف اختصارًا أو زيادة. ثم أوردنا كلام المؤلف مصدِّرين له بعبارة: (قال ابن القيم - رحمه الله -:) على هذه الصورة في جميع مواضع الكتاب، وإن اختلفت طريقة إيراد المجرِّد لها كما سبق. ثم علقنا على النص بما يقتضيه من الخدمة. أوردنا نص الحديث من «مختصر المنذري» بالاعتماد على عدة مخطوطات للكتاب أشرنا إليها قبل قليل مع مطبوعة الفقي، وأما تراجم الأبواب فجعلنا ما في نسخة الأصل هو الثابت مع الإشارة إلى الاختلافات المهمة بينها وبين المختصر والسنن إن وجد. ووقع في كتابنا اختلاف يسير في ترتيب بعض الأبواب، فأبقيناه كما هو

(المقدمة/45)


مع التنبيه على ما وقع من خلاف، ينظر مثلًا (1/ 518، 525) إلا في موضع واحد أصلحنا الترتيب كما في المختصر والسنن لضرورة ذلك، وهو (باب إتيان الحائض) (1/ 150 - 157). أما نص كلام المؤلف فكان من نسخة الأصل، وقابلناه بالنسخة (ش) (خدا بخش خان) وهي كثيرة الخطأ والتصحيف، فأهملنا الإشارة إلى أخطائها واستفدنا منها نزرًا يسيرًا من الكلمات، ثم لمّا حصّلنا نسخة (هـ) قابلنا النص عليها فكان فيها فوائد عديدة وزيادات واستدراك بعض سقط عند المجرّد، وهي وإن كانت أقل خطأً من (ش) وأصح نصًّا إلا أن النقص في بعض الأبواب، والسقط في بعضها، والطمس في الأخرى، والاختلاف في الخطوط= جعلنا لا نستفيد منها تمام الفائدة، ولم نُشر إلى أخطائها وتحريفاتها إلا نادرًا، وقد تحدثنا عن هذه النسخة بالتفصيل عند ذكر نسخ الكتاب. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

(المقدمة/46)


نماذج من النسخ الخطية

(المقدمة/47)


صفحة الغلاف من نسخة عارف حكمت (الأصل)

(المقدمة/49)


الصفحة الأولى من نسخة عارف حكمت (الأصل)

(المقدمة/50)


الصفحة الأخيرة من نسخة عارف حكمت (الأصل)

(المقدمة/51)


صفحة الغلاف من نسخة الجامعة العثمانية (هـ)

(المقدمة/52)


الصفحة الأولى من نسخة الجامعة العثمانية (هـ)

(المقدمة/53)


الصفحة الأخيرة من نسخة الجامعة العثمانية (هـ)

(المقدمة/54)


صفحة الغلاف من نسخة خدا بخش (ش)

(المقدمة/55)


الصفحة الأولى من نسخة خدا بخش (ش)

(المقدمة/56)


الصفحة الأخيرة من نسخة خدا بخش (ش)

(المقدمة/57)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} قال الشيخ الإمام العلامة شمس الدين محمد ابن قيِّم الجوزية الحنبلي غفر الله له: الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ربّ العالمين وإله المرسلين. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، المبعوثُ رحمةً للعالمين، ومحجَّةً للسالكين، وحُجةً على جميع المكلّفين. فرَّق الله برسالته بين الهدى والضلال، والغي والرشاد، والشك واليقين، فهو الميزان الراجح الذي على أقواله وأعماله وأخلاقه تُوزن الأقوال والأخلاق والأعمال، وبمتابعته والاقتداء به يتميّز أهلُ الهدى من أهل الضلال. أرسله على حين فترةٍ من الرسل، فهدى به إلى أقْوَم الطرُق وأوضح السُّبُل، وافترض على العباد طاعتَه ومحبَّتَه وتعزيرَه وتوقيرَه والقيامَ بحقوقه، وأغلق دون جنته الأبوابَ، وسدَّ إليها الطرقَ فلم يفتح لأحدٍ (1) إلا من طريقه، فيشرح (2) له صدرَه، ورفعَ له ذكرَه، ووضع عنه وزرَه، وجعل الذلَّةَ والصَّغَار على من خالف أمرَه. _________ (1) "لأحدٍ" سقطت من ط. الفقي. (2) كذا في الأصل و (ش، هـ)، والأنسب للسياق "فشرح".

(1/3)


هدى به من الضلالة، وعلَّم به من الجهالة، وأرشد به من الغيّ. وفتحَ به أعْينًا عُميًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلفًا؛ فبلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصَحَ الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد. لا يردُّه عنه رادّ ولا يصدُّه عنه صادّ، حتى سارت دعوتُه مسيرَ الشمس في الأقطار، وبلغ دينُه القيِّم ما بلغ الليلُ والنهار. فصلى الله عليه وعلى آله الطيبين صلاةً دائمةً على تعاقب الأوقات والسنين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد، فإن أولى ما صُرِفت إليه العناية، وجرى المتسابقون في ميدانه إلى أفضل غاية، وتنافس فيه المتنافسون، وشمَّر إليه العاملون: العلمُ الموروث عن خاتم المرسلين ورسولِ رب العالمين، الذي لا نجاة لأحدٍ إلا به، ولا فلاح له في دارَيه إلا بالتعلّق بسببه، الذي من ظفِر به فقد فاز وغَنِم، ومن صُرِف عنه فقد خَسِر وحُرِم؛ لأنه قُطبُ السعادة الذي مدارها عليه، وآخيةُ الإيمانِ الذي مرجعه إليه، فالوصول إلى الله وإلى رضوانه بدونه مُحال، وطلب الهدى من غيره هو عين [ق 2] الضلال. وكيف يوصَل إلى الله من غير الطريق التي جعلها هو سبحانه موصلةً إليه، ودالَّةً لمن سلك فيها عليه، وبعث رسولَه بها مناديًا، وأقامَه على أعلامها داعيًا، وإليها هاديًا؟! فالباب عن السالك في غيرها مسدود، وهو عن طريق هداه وسعادته مصدود، بل كلما ازداد كدحًا واجتهادًا، ازداد من الله طردًا وبِعادًا (1)؛ ذلك بأنه صدَفَ عن الصراط المستقيم، وأعرض عن المنهج القويم، ووقف مع آراء الرجال، ورضي لنفسه بكثرة القيل والقال، _________ (1) كذا في الأصل و (هـ)، وهو مصدر بمعنى المباعدة، ويأتي بمعنى اللعن. وجاء في ش والمطبوعات: "وإبعادًا".

(1/4)


وأخلد إلى أرض التقليد، وقنع أن يكون عيالًا على أمثاله من العبيد؛ لم يسلك من سبل العلم مناهجَها، ولم يرتَقِ في درجاته معارجَها، ولا تألَّقت في خَلَده أنوارُ بوارقه، ولا بات قلبُه يتقلّب بين رياضه وحدائقه، لكنه ارتضع من ثدي من لم يَطْهُر بالعصمة لَبانُه، وورد مشربًا آجنًا طالما كدّره قلبُ الوارد ولسانُه، تضجّ منه الفروج والدماء والأموال إلى من حلَّل الحلالَ وحرّم الحرام، وتعجّ منه الحقوق إلى مُنزِل الشرائع والأحكام. فحقٌّ على من كان في سعادة نفسه ساعيًا، وكان قلبه حيًّا واعيًا، أن يَرغب بنفسه عن أن يجعل كدَّه وسَعْيه في نُصرة من لا يملك له ضرًّا ولا نفعًا، وأن لا ينزلها في منازل الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا. فإنَّ لله (1) يومًا يخسر فيه المبطلون، ويربح فيه المُحِقُّون، {يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان: 27]، {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [الإسراء: 71]. فما ظنُّ مَن اتخذ غيرَ الرسول إمامَه، ونبذَ سنَّتَه وراء ظهره وجعل خواطرَ الرجال وآراءَها بين عينيه وأمامَه، فسيعلم يومَ العرضِ أيَّ بضاعةٍ أضاع، وعند الوزن ماذا أحضرَ مِن الجواهر أو خُرْثيّ المتاع (2)! _________ (1) تحرفت في ط المعارف إلى: "بعد"! (2) خُرْثيّ المتاع: سَقَط المتاع.

(1/5)


فصل ولما كان كتاب "السنن" لأبي داود سليمان بن الأشعث السِّجِستاني - رحمه الله - من الإسلام بالموضع الذي خصَّه الله به، بحيث صار حَكَمًا بين أهل الإسلام، وفصلًا في موارد النزاع والخصام، فإليه يتحاكم المنصفون، وبحكمه يرضى المحقّون (1)؛ فإنه جَمَع شمل أحاديث الأحكام، ورتَّبها أحسن ترتيب، ونَظَمها أحسن نظام، مع انتقائها أحسن انتقاء، واطّراحه منها أحاديثَ المجروحين والضعفاء. وكان الإمام العلامة الحافظ: زكيُّ الدين أبو محمد عبد العظيم المُنذريّ رحمه الله تعالى قد أحسن في اختصاره وتهذيبه، وعزو أحاديثه، وإيضاح علله وتقريبه، فأحسن حتى لم يكد يدع للإحسان موضعًا، وسَبَق حتى جاء مَن خَلْفه له تبعًا= جعلتُ (2) كتابَه من أفضل الزاد، واتخذته ذخيرة ليوم المعاد. فهذَّبتُه نحو ما هذَّب هو به الأصل، وزدْتُ عليه من الكلام على عللٍ سكت عنها أو لم يكملها (3)، والتعرُّضِ إلى تصحيح أحاديثَ لم يصححها، والكلامِ على متون مشكلة لم يفتَحْ مقفَلَها، وزيادةِ أحاديثَ صالحةٍ في الباب لم يشر إليها، وبَسْطِ الكلام على مواضع جليلة لعل الناظر المجتهد لا يجدها في كتاب سواه، فهي جديرة بأن تُثْنى عليها الخناصر، ويُعَضّ عليها بالنواجذ. _________ (1) كذا في الأصل و (هـ)، وفي ط. الفقي: "المحققون". (2) كتب في الأصل تحت هذه الكلمة بخط أصغر "جواب لما". يعني التي في أول الفصل. (3) قرأها في ش: "يحملها" ولم يصب.

(1/6)


وإلى الله الرغبةُ أن يجعله خالصًا لوجهه، موجِبًا لمغفرته، وأن ينفع به مَن كَتَبه أو قرأه أو نظر فيه أو استفاد منه. فأنا أبرأ إلى الله من التعصُّب والحميّة، وجَعْلِ سنةِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - رافعةً لآراء الرجال، منزَّلة عليها، مَسُوقةً إليها. كما (1) أبرأ إليه من الخطأ والزور والسهو. والله سبحانه عند لسان كلِّ قائل وقلبه، وما توفيقي إلا بالله، وعليه توكَّلت وإليه أُنيب. * * * _________ (1) كذا في (هـ)، وهي غير محرّرة في الأصل وساقطة من (ش).

(1/7)


 كتاب الطهارة

  1 - بابُ الرُّخصة (1)

1/ 12 - وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: نهى نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبلَ القبلةَ ببولٍ، فرأيته قبل أن يُقبضَ بعام يستقبلها. وأخرجه الترمذي وابن ماجه (2). وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ غريب (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال الترمذيّ: سألتُ محمدًا عن هذا الحديث, فقال: حديث صحيح (4). _________ (1) قبله في "مختصر السنن": (1/ 16): باب كراهة استقبال القبلة عند الحاجة. (2) أخرجه أبو داود (13)، والترمذي (9)، وابن ماجه (325). (3) تنبيه: جرى المجرّد للكتاب على ذكر طرفٍ من كلام المنذري، ثم يتبعه بكلام ابن القيم على الحديث مصدّرًا له بقوله: "قال الشيخ شمس الدين ابن القيم - رحمه الله - ... " أو "قال الشيخ شمس الدين" أو "قال المذيّل" ونحوها، فرأينا أن نسوق الأحاديث وكلام المنذري في الباب بخط مميّز حتى يُعرف سياق الكلام وما هي الأحاديث التي علق عليها المؤلف، ويعرف كلام المنذري الذي أيّده أو تعقبه، واكتفينا بعبارة "قال ابن القيم - رحمه الله - " عند بداية كلامه. وقد ذكرنا هذا في المقدمة وأسبابه تفصيلًا، وهذه إشارة لابدّ منها في هذا الموضع تغني عن الإشارة إلى ذلك في كل موضع. (4) نقل المصنف هذا القول عن الترمذي في "زاد المعاد": (2/ 385) من "العلل"، وليس في المطبوع من "العلل": (1/ 87) قوله: "حديث صحيح". وقد نقله كما نقله المؤلف البيهقيُّ في "الخلافيات": (2/ 68)، وعبدُ الحق في "الأحكام الكبرى": (1/ 365)، والزيلعي في "نصب الراية": (2/ 105)، وابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق": (1/ 151). فالظاهر أنه سقط من نسخة العلل شيء، وهذا ما استظهره مغلْطاي في "شرح ابن ماجه": (1/ 120) إذ وقع في نسخته من العلل كما وقع في نسختنا. والله أعلم.

(1/8)


وقد أعلّ ابنُ حزم حديثَ جابر بأنه عن أبان بن صالح, وهو مجهول, ولا يحتج برواية مجهول (1). قال ابن مُفَوّز (2): أبان بن صالح مشهور ثقة صاحب حديث، وهو أبان بن صالح بن عُمَير, أبو محمد القرشي, مولى [ق 3] لهم, المكي، روى عنه ابن جُريج, وابن عجلان, وابن إسحاق, وعبيد الله بن أبي جعفر. استشهد بروايته البخاري في "صحيحه" (3) عن مجاهد والحسن بن مسلم وعطاء. وثَّقه يحيى بن معين، وأبو حاتم وأبو زُرعة الرَّازيان، والنسائي (4). وهو والدُ محمد بن أبان بن صالح بن عُمير الكوفي, الذي روى عنه أبو الوليد، وأبو داود الطيالسي، وحسين الجُعْفي وغيرهم. وجدُّ أبي عبد الرحمن مُشْكُدانة, شيخ مسلم, وكان حافظًا. _________ (1) في "المحلى": (1/ 198) لما ذكر هذا الحديث قال: أبان بن صالح ليس بالمشهور. وقال الحافظ ابن حجر بعد نقل تضعيف ابن عبد البر لأبان بن صالح، وكلام ابن حزم فيه: "وهذه غفلة منهما وخطأ تواردا عليه، فلم يضعّف أبان هذا أحدٌ قبلهما ... " اهـ. من "تهذيب التهذيب": (1/ 82). وانظر"التلخيص الحبير": (1/ 114). (2) هو: أبو بكر محمد بن حيدرة المعافري الشاطبي، من حفّاظ الحديث (ت 505). له ردّ على المحلى لابن حزم، نقل منه ابن الملقن في "البدر المنير": (1/ 291، 684، 2/ 623)، ولعلّ هذا النقل منه. ترجمته في "الصلة": (2/ 537)، و"السير": (19/ 421). (3) وهي بالأرقام: (898، 1349، 4259) تباعًا. (4) ترجمته في "تهذيب الكمال": (1/ 93)، و"تهذيب التهذيب": (1/ 82).

(1/9)


وأما الحديث؛ فإنه انفرد به محمد بن إسحاق, وليس هو ممن يحتجّ به في الأحكام (1)، فكيف أن يُعارَض بحديثه الأحاديث الصحاح أو يُنسَخ به السنن الثابتة؟ مع أن التأويل في حديثه ممكن, والمخرج منه مُعرَض. تم كلامه (2). وهو ــ لو صح ــ حِكايةُ فِعْلٍ لا عمومَ لها, ولا يُعلَم هل كان في فضاء أو بنيان؟ وهل كان لعذر من ضيق مكان ونحوه, أو اختيارًا؟ فكيف يقدّم على النصوص الصحيحة الصريحة بالمنع؟ فإن قيل: فهب أن هذا الحديث معلول, فما يقولون في حديث عِراك عن عائشة: ذُكِر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ناسًا يكرهون أن يستقبلوا بفروجهم القبلةَ, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَ قَدْ فعلوها؟! استقْبِلوا بمَقْعَدتي القبلة" (3). فالجواب: أن هذا حديثٌ لا يصح, وإنما هو موقوف على عائشة. حكاه الترمذي في كتاب "العلل" (4) عن البخاري. وقال بعض الحفاظ: هذا حديث لا يصح, وله علَّة لا يدركها إلا المعتنون بالصناعة, المعانون عليها، _________ (1) أسند ابنُ أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (7/ 193) عن الإمام أحمد أنه ذكر ابن إسحاق فقال: أما في المغازي وأشباهه فيُكتَب، وأما في الحلال والحرام فيحتاج إلى مثل هذا ــ ومدّ يدَه وضمّ أصابعه. (2) أي كلام ابن مُفَوّز. ومُعْرَض أي: ممكن. (3) أخرجه أحمد (25063)، وابن ماجه (324)، والدارقطني: (163، 168) وغيرهم، من طريق خالد بن أبي الصلت، عن عراك به. وهو حديث ضعيف كما سيأتي من كلام المؤلف. (4) (1/ 88 - 92) ووصفه أيضًا بالاضطراب.

(1/10)


وذلك أن خالد بن أبي الصلت لم يحفظ متنَه, ولا أقامَ إسنادَه، خالفه فيه الثقةُ الثبتُ صاحبُ عراك بن مالك المختصُّ به, الضابطُ لحديثه: جعفرُ بن ربيعة الفقيه, فرواه عن عراك عن عروة عن عائشة: أنها كانت تنكر ذلك (1). فبيّن أن الحديث لعراك عن عروة, ولم يرفعه, ولا يجاوز به عائشةَ. وجعفر بن ربيعة هو الحجة في عراك بن مالك, مع صحة الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وشهرتها بخلاف ذلك. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب "المراسيل" (2) عن الأثرم قال: سمعت أبا عبد الله ــ وذكر حديث خالد بن أبي الصلت، عن عِراك بن مالك، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، (هذا الحديث) (3) ــ فقال: مرسل. فقلت له: عراك بن مالك قال: سمعتُ عائشةَ؟ فأنكره وقال: عراك بن مالك من أين سمع عائشة؟! ما له ولعائشة؟! إنما يرويه (4) عن عروة, هذا خطأ. قال لي: مَن روى هذا؟ قلت: حماد بن سلمة عن خالد الحذَّاء. قال: رواه غير واحد عن خالد الحذّاء, وليس فيه "سمعتُ". وقال غير واحد أيضًا: عن حماد بن سلمة, ليس فيه "سمعت". _________ (1) أخرج هذه الرواية الموقوفة من طريق جعفر البخاريُّ في "التاريخ الكبير" (3/ 156) وأبو حاتم في "العلل" لابنه (50)، ورجّحاها على رواية خالد بن أبي الصلت المرفوعة. (2) (ص 162). (3) في "المراسيل" ذكر نصّ الحديث مكان قوله: "هذا الحديث". (4) في "المراسيل": "يروي".

(1/11)


فإن قيل: قد روى مسلم في "صحيحه" (1) حديثًا عن عراك عن عائشة. قيل: الجواب أن أحمد وغيره خالفه في ذلك, وبينوا أنه لم يسمع منها (2).

  2 - باب كيف التكشُّف عند الحاجة

2/ 13 - عن الأعمش عن رجل عن ابن عمر: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أرادَ حاجةً لا يرفع ثوبه حتى يدنوَ من الأرض. قال أبو داود: عبد السلام بن حرب رواه عن الأعمش، عن أنس بن مالك، وهو ضعيف. وأخرج الترمذيُّ حديثَ الأعمش عن أنس، وأشار إلى حديث الأعمش عن ابن عمر، وقال: كلا الحديثين مرسل. ويقال: لم يسمع الأعمش من أنس بن مالك ولا من أحدٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد نظر إلى أنس بن مالك، قال: رأيته يصلي، فذكر عنه حكايةً في الصلاة. وذكر أبو نعيم الأصبهاني: أن الأعمش رأى أنسَ بن مالك، وابنَ أبي أوفى، وسمع منهما. والذي قاله الترمذي هو المشهور. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال حنبل: ذكرت لأبي عبد الله ــ يعني أحمد ــ حديثَ الأعمش عن أنس, فقال: لم يسمع الأعمش من أنس, ولكن رآه, زعموا أنَّ غياثًا حدّث الأعمش بهذا عن أنس, ذكره الخلال في "العلل" (3). _________ (1) رقم (2630). وانظر: "علل الأحاديث في صحيح مسلم" لابن عمار الشهيد (30). (2) وانظر للتحقيق في سماع عراك من عائشة "التابعون الثقات المتكلم في سماعهم من الصحابة" (ص 756 - 765) للهاجري. (3) كتاب "العلل" للخلال لم يُعثر عليه، وقد انتخب منه الموفّق بن قدامة، وقد وُجد بعض المنتخب وطبع في مجلد، وليس هذا النقل فيه.

(1/12)


وقال الخلال أيضًا: حدّثنا مهنّا قال: سألت أحمد: لِمَ كرهتَ مراسيل الأعمش؟ قال: كان لا يبالي عمن حدَّث. قلت: كان له رجل ضعيف سوى يزيد الرّقاشي وإسماعيل بن مسلم؟ قال: نعم, كان يحدِّث عن غِياث بن إبراهيم عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان إذا أرادَ الحاجةَ أبْعَد" (1). سألته عن غِياث بن إبراهيم؟ فقال: كان كذوبًا (2). 3 - باب الخاتم يكون فيه ذِكْر الله يدخل به الخلاء 3/ 18 - عن أنس قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء وضع خاتمه". وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (3). قال أبو داود: هذا حديث منكر، وإنما يُعرف عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن أنس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتماً من وَرِق ثم ألقاه". والوهم فيه من همام، ولم يروه إلا همام. وقال النسائي: وهذا الحديث غير محفوظ. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب (4). هذا آخر كلامه. وهمّام هذا هو أبو عبد الله همام بن يحيى بن دينار الأزدي العوذي مولاهم _________ (1) كذا في الأصل، وقوله: "أبعد" وهم أو سبق قلم، والصواب: "لم يرفع ثوبه ... " إلخ كما في حديث الباب. وهكذا نقله مغلْطاي في "إكمال تهذيب الكمال": (6/ 93) من رواية مهنّا عن أحمد. (2) ونقله ابن عِرَاق في "تنزيه الشريعة": (1/ 95). وفي "الجرح والتعديل": (7/ 57) عن أحمد: "غياث بن إبراهيم متروك الحديث، ترك الناسُ حديثَه". (3) أخرجه أبو داود (19)، والترمذي (1746)، والنسائي (5213)، وابن ماجه (303). (4) كذا في "الجامع" (1746)، ومخطوطات "المختصر". وفي مطبوعة "المختصر": (1/ 26): "حسن غريب"، وانظر ما سيأتي (ص 18).

(1/13)


البصري، وإن كان قد تكلم فيه بعضهم، فقد اتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج بحديثه، وقال يزيد بن هارون: همام قويّ في الحديث: وقال يحيى بن معين: ثقة صالح، وقال أحمد بن حنبل: همام ثَبْت في كل المشايخ. وقال ابن عدي الجرجاني: وهمام أشهر وأصدق من أن يُذكر له حديث منكر، أو له حديث منكر، وأحاديثه مستقيمة عن قتادة، وهو مقدَّم أيضًا في يحيى بن أبي كثير، وعامة ما يرويه مستقيم. هذا آخر كلامه. وإذا كان حال همام كذلك فيترجَّح ما قاله الترمذي، وتفرّده به لا يوهن الحديث، وإنما يكون غريبًا، كما قال الترمذي. والله عز وجل أعلم. قال ابن القيم - رحمه الله -: قلت هذا الحديث رواه همّام ــ وهو ثقة ــ عن ابن جُرَيج، عن الزهري، عن أنس. قال الدارقطني في كتاب "العلل" (1): رواه سعيد بن عامر، وهُدْبة بن خالد، عن همّام، عن ابن جُريج، عن الزهري، عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2). وخالفهم عَمرو بن عاصم، فرواه عن همّام، عن ابن جُريج، عن الزهري، عن أنس: "أنه كان إذا دخل الخلاء" موقوفًا, ولم يُتابَع عليه. ورواه يحيى بن المتوكِّل، ويحيى بن الضُّرَيس، عن ابن جُريج، عن الزّهري، عن أنس، نحو قول سعيد بن عامر ومَن تابعه عن همام. ورواه عبد الله بن الحارث المخزومي، وأبو عاصم (3)، وهشام بن سليمان، وموسى بن طارق، عن ابن جُريج، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أنس: "أنه رأى في يد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خاتمًا من ذهب, فاضطربَ الناس _________ (1) رقم (2586). (2) في "العلل" زيادة: "كان إذا دخل الخلاء". (3) في مطبوعة "العلل": "وحجاج وأبو عاصم".

(1/14)


الخواتيم, فرمى به النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: "لا ألبسه أبدًا"، وهذا هو المحفوظ والصحيح عن ابن جُريج. انتهى كلام الدارقطني. [ق 4] وحديث يحيى بن المتوكّل الذي أشار إليه، رواه البيهقي (1) من حديث يحيى بن المتوكّل، عن ابن جُريج به. ثم قال: هذا شاهد ضعيف. وإنما ضعَّفه لأن يحيى هذا قال فيه الإمام أحمد: واهي الحديث (2) , وقال ابن معين: ليس بشيء (3) , وضعَّفَه الجماعةُ كلّهم. وأما حديث يحيى بن الضُّرَيس, فيحيى هذا ثقة, فينظر الإسناد إليه (4). وهمام وإن كان ثقةً صدوقًا احتجّ به الشيخان في "الصحيح"، فإنّ يحيى بن سعيد كان لا يحدِّث عنه ولا يرضى حفظه. قال أحمد: ما رأيت يحيى أسوأ رأيًا منه في حجاج ــ يعني ابن أرطاة ــ، وابن إسحاق، وهمام, لا يستطيع أحد أن يراجعه فيهم (5). وقال يزيد بن زُرَيع ــ وسئل عن همام ــ: كتابه صالح, وحفظه لا يسوى شيئًا. _________ (1) في "السنن الكبرى": (1/ 95). وأخرجه الحاكم: (1/ 187) وصححه على شرط الشيخين. (2) انظر "الكامل": (7/ 206) لابن عدي. (3) رواية الدوري: (2/ 653). وتعقب ابنُ الملقن من ضعّفه بأن يحيى بن المتوكل هذا ليس أبا عقيل الضعيف، بل آخر، وفرَّق بينهما المزي والذهبي. ينظر "البدر المنير": (2/ 340). (4) أشار إلى روايته ابن الملقن في "البدر": (2/ 339)، والحافظ وقال: أخرجه الحاكم والدارقطني. "التلخيص الحبير": (1/ 118). ولم أجده فيهما. (5) انظر "العلل": (3/ 216) لأحمد بن حنبل. وذكر معهم "ليث".

(1/15)


وقال عفان: كان همّام لا يكاد يرجع إلى كتابه ولا ينظر فيه, وكان يُخالَف فلا يرجع إلى كتابه, وكان يكره ذلك. قال: ثم رجع بعدُ فنظر في كتبه, فقال: يا عفان كنا نخطئ كثيرًا، فنستغفر الله عز وجل (1). ولا ريب أنه ثقة صدوق, ولكنه قد خولف في هذا الحديث, فلعلَّه مما حدَّث به من حفظه فغلط فيه, كما قال أبو داود والنسائي والدارقطني (2). وكذلك ذكر البيهقي (3) أن المشهور عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أنس: "أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتمًا من وَرِق, ثم ألقاه". وعلى هذا فالحديث شاذّ أو منكر، كما قال أبو داود, وغريب كما قال الترمذي. فإن قيل: فغاية ما ذُكِر في تعليله تفرّد همّام به. وجواب هذا من وجهين: أحدهما: أن همامًا لم ينفرد به، كما تقدم. الثاني: أن همّامًا ثقة, وتفرُّد الثقة لا يوجب نكارة الحديث، فقد تفرَّد عبد الله بن دينار بحديث النهي عن بيع الوَلاء وهِبَتهِ (4). وتفرّد مالك بحديث دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة وعلى رأسه المِغْفر (5). فهذا غايته أن يكون غريبًا كما قال الترمذي, وأما أن يكون منكرًا أو شاذًّا فلا. _________ (1) انظر قول يزيد وعفان في "الضعفاء": (4/ 367 - 368) للعقيلي. (2) انظر "سنن أبي داود" (19)، و"السنن الكبرى" (9470) للنسائي، و"العلل": (2586) للدارقطني. (3) "الكبرى": (1/ 95). (4) أخرجه البخاري (2535)، ومسلم (1506). (5) أخرجه البخاري (1846)، ومسلم (1357).

(1/16)


قيل: التفرد نوعان: تفرّدٌ لم يخالَف فيه مَن تفرد به, كتفرُّد مالك وعبد الله بن دينار بهذين الحديثين, وأشباه ذلك. وتفرّدٌ خولف فيه المتفرّد, كتفرّد همام بهذا المتن على هذا الإسناد, فإن الناس خالفوه فيه, وقالوا: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتمًا من وَرِق ... " الحديث. فهذا هو المعروف عن ابن جُرَيج، عن الزهري. فلو لم يُروَ هذا عن ابن جريج وتفرّدَ همامٌ بحديثه, لكان نظير حديث عبد الله بن دينار ونحوه. فينبغي مراعاة هذا الفرق وعدم إهماله. وأما متابعة يحيى بن المتوكِّل فضعيفة, وحديث ابن الضُّرَيس يُنظر في حاله ومن أخرجه (1). فإن قيل: هذا الحديث كان عند الزهري على وجوه كثيرة, كلها قد رُويت عنه في قصة الخاتم, فروى شعيب بن أبي حمزة، وعبد الرحمن بن خالد (2) بن مسافر، عن الزّهري، كرواية زياد بن سعد هذه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتمًا من وَرِق" (3). ورواه يونس بن يزيد، عن الزهري، عن أنس: "كان خاتم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من وَرِق فَصُّه حبشيّ" (4). _________ (1) انظر ما سبق. (2) رسمه في الأصل: "خلاد" سبق قلم، وتصويبه من "التهذيبين" وغيرهما من كتب التراجم. (3) أخرجهما تعليقًا البخاري في كتاب اللباس، باب 46 عقب حديث (5868)، ووصلهما الإسماعيلي كما في "تغليق التعليق": (5/ 69 - 70). (4) أخرجه مسلم (2094).

(1/17)


ورواه سليمان بن بلال، وطلحة بن يحيى، ويحيى بن نصر بن حاجب، عن يونس، عن الزهري, وقالوا: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبس خاتمًا من فضّة في يمينه, فيه فَصٌّ حبشيّ جعله في باطن كَفّه" (1). ورواه إبراهيم بن سعد عن الزهري بلفظ آخر قريب من هذا (2). ورواه همام، عن ابن جريج، عن الزّهري، كما ذكره الترمذي وصححه (3). وإذا كانت هذه الروايات كلها عند الزهري، فالظاهر أنه حدَّث بها في أوقات، فما المُوجِب لتغليط همّامٍ وحدَه؟ قيل: هذه الروايات كلّها تدلّ على غلط همام, فإنها مُجْمعة على أن الحديث إنما هو في اتخاذ الخاتم ولُبسه, وليس في شيء منها نزعه إذا دخل الخلاء. فهذا هو الذي حَكَم لأجله هؤلاء الحفَّاظ بنكارة الحديث وشذوذه. والمصحح له لمَّا لم يُمكنْه دفعُ هذه العلة حَكَم بغرابته لأجلها, فلو لم يكن مخالفًا لرواية من ذُكِر فما وجه غرابته؟ ولعلّ الترمذي موافق للجماعة, فإنه صحَّحه من جهة السند لثقة الرُّواة, واستغربه لهذه العلّة، وهي التي منعت أبا داود من تصحيح متنه, فلا يكون بينهما اختلاف, بل هو صحيح السند لكنه _________ (1) رواية سليمان وطلحة أخرجهما مسلم (2094/ 62). ورواية يحيى بن نصر بن حاجب أخرجها أبو عوانة في "مسنده": (5/ 257 - 258). (2) أخرجها البخاري تعليقًا في كتاب اللباس، بعد حديث (5868)، ووصلها مسلم رقم (2093)، وانظر "تعليق التعليق": (5/ 68). (3) "الجامع" (1746) وقال: "حديث حسن صحيح غريب" كما في نسخة الكروخي (ق 122 ب)، و"تحفة الأشراف": (1/ 385). ووقع في مطبوعة "المختصر": "حسن غريب". وانظر ما سبق ص 13.

(1/18)


معلول. والله أعلم.

  4 - باب فَرْض الوضوء

4/ 56 - وعن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم (1) ". وأخرجه الترمذي وابن ماجه (2). وقال الترمذي: هذا الحديث أصح شيء في الباب وأحسن. قال ابن القيم - رحمه الله -: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مفتاح الصلاة الطهور, وتحريمها التكبير, وتحليلها التسليم". اشتمل هذا الحديث على ثلاثة أحكام: الحكم الأول: أن مفتاح الصلاة الطهور، والمفتاح: ما يُفتح به الشيء المغلق, فيكون فاتحًا له, ومنه: "مفتاح الجنة لا إله إلا الله" (3). وقوله: "مفتاح الصلاة الطهور" يفيد الحصرَ, وأنه لا مفتاح له (4) سواه من طريقين: _________ (1) في نسخةٍ من "المختصر": "السلام". وقد راجعت عدة نسخ خطية لأبي داود، وفيها كلها "التسليم". (2) أخرجه أبو داود (61)، والترمذي (3)، وابن ماجه (275). (3) أخرجه أحمد (22102)، والبزار (2660) من طريق شهر بن حوشب عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -. قال البزار: وشهر بن حوشب لم يسمع من معاذ. قلت: وهو أيضًا ضعيف من جهة حفظه. ولفظ أحمد "مفاتيح الجنة .. ". ورواه البخاري معلقًا عن وهب بن منبّه، كتاب الجنائز، باب (1). ووصله الحافظ في "تغليق التعليق": (2/ 453). وذكر هناك بعض شواهده. (4) كذا، والوجه: "لها".

(1/19)


أحدهما: حصر المبتدأ في الخبر إذا كانا مَعْرفتين، فإن الخبر لا بدّ وأن يكون مساويًا [ق 5] للمبتدأ أو أعمَّ منه, ولا يجوز أن يكون أخصّ منه. فإذا كان المبتدأ معرّفًا بما يقتضي عمومه كـ"اللام" و"كل" ونحوهما، ثم أخبر عنه بخبر, اقتضى صحَّةُ الإخبار أن يكون إخبارًا عن جميع أفراد المبتدأ، فإنه لا فرد من أفراده إلا والخبرُ حاصلٌ له. وإذا عُرِف هذا لزم الحَصْر, وأنه لا فرد من أفراد ما يُفْتَتح به الصلاة إلا وهو الطهور. فهذا أحد الطريقين. والثاني: أن المبتدأ مضاف إلى الصلاة, والإضافة تعُمّ. فكأنه قيل: جميع مفتاح الصلاة هو الطهور. وإذا كان الطهور هو جميع ما يُفْتَتح به، لم يكن لها مفتاح غيره. ولهذا فهم جمهور الصحابة والأمة أن قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] أنه على الحصر, أي: مجموعُ أجلهنّ الذي لا أجل لهنّ سواه: وَضْعُ الحمل. وجاءت السنةُ مفسرةً لهذا الفَهْم مُقرِّرةً له, بخلاف قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] فإنه فِعْل لا عموم له, بل هو مطلق. وإذا عُرِف هذا ثبت أن الصلاة لا يمكن الدخول فيها إلا بالطهور. وهذا أدّل على الاشتراط من قوله: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحْدَثَ حتى يتوضأ" (1) من وجهين: أحدهما: أن نفي القبول قد يكون لفوات الشرط وعدمه. وقد يكون لمقارنة محرَّمٍ يمنعُ من القبول, كالإباق، وتصديق العرَّاف، وشرب الخمر، _________ (1) أخرجه البخاري (135)، ومسلم (225) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

(1/20)


وتطيّب المرأة إذا خرجت للصلاة, ونحوه. الثاني: أن عدم الافتتاح بالمفتاح يقتضي أنه لم يحصل له الدخول فيها, وأنه مصدود عنها, كالبيت المقفل على من أراد دخوله بغير مفتاح. وأما عدم القبول فمعناه: عدم الاعتداد بها, وأنه لم يُرَتَّب عليها أثرها المطلوب منها, بل هي مردودة عليه. وهذا قد يحصل لعدم ثوابه عليها، ورضا الربّ عنه بها, وإن كان لا يعاقبه عليها عقوبة تاركها جُمْلةً, بل عقوبته ترك ثوابه، وفوات الرضا لها بعد دخوله فيها، بخلاف من لم يَفْتتحها أصلًا بمفتاحها, فإن عقوبته عليها عقوبة تاركها. وهذا واضح. فإن قيل: فهل في الحديث حجة لمن قال: إن عادم الطهورَين لا يصلي حتى يقدر على أحدهما؛ لأن صلاته غير مفتتحةٍ بمفتاحها, فلا تُقبل منه؟ قيل: قد استدلَّ به من يرى ذلك, ولا حجة فيه. ولا بدَّ من تمهيد قاعدةٍ يتبين بها مقصود الحديث, وهي: أنّ ما أوجبه الله ورسوله, أو جعله شرطًا للعبادة, أو ركنًا فيها, أو وقَفَ صحّتَها عليه= هو مُقيَّد بحال القدرة؛ لأنها الحال التي يؤمر فيها به. وأما في حال العجز فغير مقدور ولا مأمور, فلا تتوقف صحة العبادة عليه. وهذا كوجوب القيام والقراءة والركوع والسجود عند القدرة, وسقوط ذلك بالعجز. وكاشتراط سَتْر العورة واستقبال القبلة عند القدرة, ويسقط بالعجز. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبلُ الله صلاةَ حائضٍ إلا بخمار" (1). ولو تعذَّر عليها _________ (1) أخرجه أبو داود (641)، والترمذي (377)، وابن ماجه (655)، وأحمد (25167)، وابن خزيمة (775)، وابن حبان (1711) وغيرهم من حديث عائشة - رضي الله عنها -. قال الترمذي: "حديث حسن". وصححه الحاكم في "المستدرك": (1/ 251) على شرط مسلم، وصححه ابن حبان وابن خزيمة وابن الملقن في "البدر المنير": (4/ 155). وأعله الدارقطني بالوقف، انظر "التلخيص الحبير": (1/ 298)، و"نصب الراية": (1/ 296).

(1/21)


الخمار صلَّتْ بدونه, وصحَّت صلاتُها. وكذلك قوله: "لا يقبلُ الله صلاةَ أحدِكُم إذا أحْدَث حتى يتوضّأ" (1) فإنه لو تعذَّر عليه الوضوء صلى بدونه, وكانت صلاته مقبولة. وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُجزِئ صلاةٌ لا يقيمُ الرجلُ فيها صُلْبَه في الرّكوع والسجود" (2) فإنه لو كُسِر صُلبه وتعذَّر عليه إقامته أجزأته صلاته. ونظائره كثيرة. فكون (3) الطهور مفتاحًا للصلاة هو من هذا. لكن هنا نظرٌ آخر, وهو أنه إذا لم يمكن اعتبار الطهور عند تعذُّره، فإنه يسقط وجوبه, فمن أين لكم أن الصلاة تُشرع بدونه في هذه الحال؟ وهذا حَرْف المسألة, وهلَّا قلتم: إن الصلاة بدونه كالصلاة مع الحيض غير مشروعة, لمَّا كان الطهور غير مقدور للمرأة, فلمَّا صار مقدورًا لها شُرعت لها الصلاة وترتَّبت في ذمتها، فما الفرق بين العاجز عن الطهور شرعًا والعاجز عنه حسًّا؟ فإنّ كلًّا منهما غير متمكِّن من الطهور؟ _________ (1) تقدم تخريجه. (2) أخرجه أبو داود (855)، والترمذي (265)، والنسائي (1027)، وابن ماجه (870)، وأحمد (17073)، وابن خزيمة (666)، وابن حبان (1892)، وغيرهم من حديث أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه -. قال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني في "السنن" (1315). (3) رسمها في الأصل: "فيكون" والظاهر ما أثبتناه.

(1/22)


قيل: هذا سؤال يحتاج إلى جواب، وجوابه أن يقال: زمن الحيض جعله الشارع منافيًا لشرعيّة العبادات, من الصلاة والصوم والاعتكاف. فليس وقتًا لعبادة الحائض, فلا يُرتَّب (1) عليها فيه شيء. وأما العاجز فالوقت في حقّه قابل لترتُّب العبادة المقدورة في ذمّته, فالوقت في حقِّه غير منافٍ لشرعية العبادة بحسب قدرته, بخلاف الحائض, فالعاجز ملحَقٌ بالمريض المعذور الذي يُؤمر بما يقدر عليه, ويسقط عنه ما يعجز عنه, والحائض ملحقة بمن هو من غير أهل التكليف, فافترقا. ونُكْتة الفرق: أنَّ زمن الحيض ليس بزمنِ تكليفٍ بالنسبة إلى الصلاة, بخلاف العاجز, فإنه مكلَّف بحسب الاستطاعة, وقد ثبت في "صحيح مسلم" (2): أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعث أُناسًا لطلب قلادةٍ أضلّتها عائشة، فحضرت الصلاةُ, فصلَّوا بغير وضوء, فأتوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكروا ذلك له, فنزلت آية التيمم. فلم يُنكر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عليهم, ولم يأمرهم بالإعادة. وحالةُ [ق 6] عدم التراب كحالة عدم مشروعيته ولا فرق, فإنهم صلَّوا بغير تيمُّم لعدم مشروعية التيمم حينئذٍ. فهكذا من صلى بغير تيمّم لعدم ما يتيمم به, فأي فرقٍ بين عدمه في نفسه وعدم مشروعيته؟ فمقتضى القياس والسنة أن العادم يصلي على حسب حاله, فإنّ الله لا يكلِّف نفسًا إلا وسعها، ولا يعيد, لأنه فَعَل ما أُمِر به, فلم تجب عليه الإعادة, كمن ترك القيام والاستقبال والسترة والقراءة لعجزه عن ذلك, فهذا موجَب النص والقياس. _________ (1) في الطبعتين: "يترتب" وما أثبته أقرب إلى رسم الأصل و (ش). (2) رقم (367)، وهو في "صحيح البخاري" (336) أيضًا.

(1/23)


فإن قيل: القيام له بدَلٌ, وهو القعود, فقام بدله مقامه, كالتراب عند عدم الماء, والعادمُ هنا صلَّى بغير أصلٍ ولا بدَلٍ. قيل: هذا هو مأخذ المانعين من الصلاة والموجبين للإعادة, ولكنه منتقضٌ بالعاجز عن السُّترة، فإنه يصلي من غير اعتبار بَدَل, وكذلك العاجز عن الاستقبال, وكذلك العاجز عن القراءة والذِّكر. وأيضًا فالعجز عن البَدَل في الشرع كالعجز عن المبْدَل (1) سواء. هذه قاعدة الشريعة. وإذا كان عجزه عن المبْدَل لا يمنعه من الصلاة, فكذلك عجزه عن البدل. وستأتي المسألة مستوفاة في باب التيمم إن شاء الله (2). وفي الحديث دليل على اعتبار النية في الطهارة بوجهٍ بديع. وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - جعل الطهور مفتاح الصلاة, التي لا تُفْتَتح ويُدْخَل فيها إلا به, وما كان مفتاحًا للشيء كان قد وُضع لأجله وأُعدّ له. فدلَّ على أن كونه مفتاحًا للصلاة هو جهة كونه طهورًا, فإنه إنما شُرع للصَّلاة وجُعِل مفتاحًا لها. ومن المعلوم أن ما شُرِع للشيء ووُضِع لأجله لا بدّ أن يكون الآتي به قاصدًا ما جُعِل مفتاحًا له ومدخلًا إليه. هذا هو المعروف حسًّا كما هو ثابت شرعًا. ومن المعلوم أن من سقط في ماء وهو لا يريد التطهُّر، لم يأتِ بما هو مفتاح الصلاة, فلا تُفْتَح له الصلاة. وصار هذا كمن حكى عن غيره أنه قال: "لا إله إلا الله" وهو غير قاصد لقولها, فإنها لا تكون مفتاحًا للجنة منه؛ لأنه لم _________ (1) زاد في ط. الفقي بعده "منه" وليس لها داعٍ. (2) لعلها فيما لخَّصه المؤلف من كلام المنذري فلم يذكره المجرِّد هنا.

(1/24)


يقصدها. وهكذا هذا, لمَّا لم يقصد الطهور لم يحصل له مفتاح الصلاة. ونظيرُ ذلك الإحرام, هو مفتاح عبادة الحج, ولا يحصل له إلا بالنية، فلو اتفق تجرّده لحَرٍّ أو غيره, ولم يخطر بباله الإحرامُ, لم يكن محرمًا بالاتفاق. فهكذا هذا يجب أن لا يكون متطهِّرًا. وهذا بحمد الله بَيِّن. فصل الحكم الثاني: قوله: "وتحريمها التكبير". وفي هذا مِن حصر التحريم في التكبير نظير ما تقدَّم في حصر مفتاح الصلاة في التطهُّر (1) من الوجهين, وهو دليل بَيِّن أنه لا تحريمَ لها إلا التكبير. وهذا قول الجمهور وعامّة أهل العلم قديمًا وحديثًا. وقال أبوحنيفة: ينعقد بكلّ لفظٍ يدلّ على التعظيم. فاحتجَّ الجمهورُ عليه بهذا الحديث. ثم اختلفوا, فقال أحمد ومالك وأكثر السلف: تتعيّن لفظة "الله أكبر" وَحْدها. وقال الشافعي: يتعيّن أحد اللفظين: "الله أكبر" أو"الله الأكبر". وقال أبو يوسف: يتعيَّن التكبير وما تصرَّف منه, نحو "الله الكبير" ونحوه. وحجَّته: أنه يسمّى تكبيرًا حقيقةً, فيدخل في قوله: "تحريمها التكبير" (2). وحجة الشافعي: أن المُعرَّف في معنى المُنَكَّر, فاللام لم يخرجه عن موضوعه, بل هي زيادة في اللفظ غير مُخلّة بالمعنى, بخلاف "الله الكبير" _________ (1) غير محررة في الأصل، ورسمها يحتمل: "الطهر" كما في نسخة (ش). (2) انظر مذاهب العلماء في المسألة في: "الهداية": (1/ 116 - 117)، و"الذخيرة": (2/ 167)، و"تهذيب المدونة": (1/ 231)، و"الأم": (2/ 227)، "المجموع": (3/ 292 - 293)، و"المغني": (2/ 126 - 128).

(1/25)


"وكبَّرت الله" ونحوه, فإنه ليس فيه من التعظيم والتفضيل والاختصاص ما في لفظة "الله أكبر". والصحيح قول الأكثرين, وأنه يتعيَّن "الله أكبر" لخمس حجج: أحدها (1): قوله: "تحريمها التكبير", واللام هنا للعهد, فهي كاللام في قوله: "مفتاح الصلاة الطهور" وليس المراد به كلّ طهور، بل الطهور الذي واظب عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشرعَه لأمَّته, وكان فِعلُه له تعليمًا وبيانًا لمراد الله من كلامه. وهكذا التكبير هنا: هو التكبير المعهود الذي نقلَتْه الأمةُ نقلًا ضروريًّا، خلَفًا عن سَلَف عن نبيها - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقوله في كل صلاة, لا يقول غيرَه ولا مرَّة واحدة. فهذا هو المراد بلا شك في قوله: "تحريمها التكبير"، وهذا حجّة على من جَوَّز "الله الأكبر" و"الله الكبير" فإنه وإن سُمّي تكبيرًا, لكنه ليس التكبيرَ المعهودَ المراد بالحديث. الحجة الثانية: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال للمسيء في صلاته: "إذا قمت إلى الصلاة فكَبِّر" (2)، ولا يكون ممتثلًا للأمر إلا بالتكبير. وهذا أمر مطلق يتقيّد بفعله الذي لم يخلّ به هو ولا أحدٌ من خلفائه ولا أصحابه. الحجة الثالثة: ما روى أبو داود من حديث رفاعة أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يقبل الله صلاةَ امرئ حتى [ق 7] يضعَ الطهورَ مواضِعَه, ثم يستقبل القبلةَ _________ (1) كذا، والوجه "إحداها". (2) أخرجه البخاري (757)، ومسلم (397) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

(1/26)


ويقول: الله أكبر" (1). الحجة الرابعة: أنه لو كانت تنعقد الصلاةُ بغير هذا اللفظ لترَكَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ولو في عمره مرةً واحدة لبيان الجواز، فحيث لم ينقل أحدٌ عنه قطُّ أنه عَدَل عنه حتى فارق الدنيا, دلَّ على أن الصلاة لا تنعقد بغيره. الحجة الخامسة: أنه لو قام غيره مَقامه لجاز أن يقوم غير كلمات الأذان مَقامها, وأن يقول المؤذن: "كبّرت الله", أو "الله الكبير", أو "الله أعظم" ونحوه. بل تتعيّن لفظة "الله أكبر" في الصلاة أعظمَ من تعيّنها في الأذان؛ لأن كلّ مسلم لا بدّ له منها, وأما الأذان فقد يكون في المِصْر مؤذّن واحد أو اثنان, والأمر بالتكبير في الصلاة آكد من الأمر بالتكبير في الأذان. وأما حجَّة أصحاب الشافعي على ترادُف: "الله أكبر", و"الله الأكبر", فجوابها: أنهما ليسا بمترادفين, فإن الألف واللام اشتملت على زيادة في اللفظ ونقص في المعنى. _________ (1) عزاه بهذا اللفظ لأبي داود في "المغني": (2/ 127)، وفي "الشرح الكبير": (3/ 408)، وابنُ مفلح في "المبدع": (1/ 375). وأشار ابن عبد الهادي إلى وهم هذا العزو في "تنقيح التحقيق": (2/ 125). وذكر ابن الجوزي في "التحقيق": (1/ 329) هذا اللفظ وعزاه إلى بعض الفقهاء من الحنابلة. أقول: وقد ذكره عدد من الفقهاء في كتبهم من الشافعية والحنفية أيضًا. قال ابن الملقن في "البدر المنير": (3/ 456 - 459): هذا الحديث لا نعرفه كذلك في كتاب حديث! ثم ذكر عزو ابن الجوزي السالف وقال: والحديث من هذا الوجه في "سنن أبي داود" (857)، والنسائي (1052) لكن بلفظ "كبر" بدل "الله أكبر". ثم ذكر عددًا من روايات الحديث ليس فيها هذا اللفظ "الله أكبر" بل ألفاظ "كبّر" "فكبّر" "يكبّر". وانظر "التلخيص الحبير": (1/ 231).

(1/27)


وبيانه: أن "أَفْعَل" التفضيل إذا نُكِّر وأُطْلِق تضمَّن من عموم المفضّل عليه وإطلاقه (1) ما لم يتضمنه المعرَّف. فإذا قيل: "الله أكبر" كان معناه: من كلّ شيء. وأما إذا قيل: "الله الأكبر" فإنه يتقيَّد معناه ويتخصَّص, ولا يُستعمل هذا إلا في مُفضّل معيّن على مفضّل (2) عليه معيّن, كما إذا قيل: من أفضل, أزيد أم عمرو؟ فيقول: زيد الأفضل. هذا هو المعروف في اللغة والاستعمال. فإن أداة "مِن" (3) لا يمكن أن يؤتى بها مع "اللام" (4). وأما بدون "اللام" فيؤتى بالأداة, فإذا حذف المفضّل عليه مع الأداة أفاد التعميم, وهذا لا يتأتى مع اللام. وهذا المعنى مطلوب من القائل: "الله أكبر" بدليل ما روى الترمذيُّ من حديث عَديّ بن حاتم الطويل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "ما يُفِرُّك؟ أيُفِرُّك (5) أن يقال: الله أكبر, فهل تعلم شيئًا أكبر من الله؟ " (6). وهذا مطابقٌ لقوله تعالى: _________ (1) في ط. المعارف: "عموم الفضل وإطلاقه عليه" خلاف الأصل. (2) "معين على مفضل" سقط من ط. الفقي. (3) في ط. الفقي: "التعريف". (4) في ط. الفقي: "من" بدل "اللام" في كلا الموضعين. (5) ط. الفقي: "يضرك .. " في الموضعين، ورسمها في الأصل محتمل، وهو خطأ، والمثبت هو الذي في كتب المؤلف "زاد المعاد": (3/ 450، 581)، و"هداية الحيارى" (ص 67) وفي مصادر الحديث. ومعنى "يفرّك" أي: يحملك على الفرار. (6) أخرجه الترمذي (2953)، وأحمد (19381)، وابن حبان (7206). قال الترمذي: "حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث سماك بن حرب". وفي سنده عبّاد بن حُبَيش، قال الذهبي: لا يُعرف، وذكره ابن حبان في "الثقات": (5/ 142). وسماك في حفظه مقال، ولبعض ألفاظ الحديث شواهد.

(1/28)


{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} [الأنعام: 19]، وهذا يقتضي جوابًا: لا شيء أكبر شهادةً من الله, فالله أكبر شهادةً مِن كلّ شيء. كما أن قوله لعَديّ: "هل تعلم شيئًا أكبر من الله؟ " يقتضي جوابَ (1): لا شيء أكبر من الله, فالله أكبر من كلِّ شيء. وفي افتتاح الصلاة بهذا اللفظ ــ المقصود منه: استحضار هذا المعنى, وتصورّه ــ سرٌّ عظيم يعرفه أهل الحضور, المصلّون بقلوبهم وأبدانهم. فإن العبد إذا وقف بين يدي الله عز وجل، وقد علم أنه لا شيءَ أكبر منه, وتحقَّق قلبُه ذلك, وأُشْرِبه سرّه= استحيى من الله, ومنعه وقاره وكبرياؤه أن يَشغَل قلبه بغيره. وما لم يستحضر هذا المعنى، فهو واقف بين يديه بجسمه, وقلبُه يهيم في أودية الوساوس والخَطَرات, وبالله المستعان (2). فلو كان الله أكبر من كل شيء في قلبِ هذا لما اشتغل عنه وصَرَف كُلّيةَ قلبِه إلى غيره, كما أن الواقف بين يدي المَلِك المخلوق لمَّا لم يكن في قلبه أعظم منه لم يَشغَل قلبَه بغيره ولم يصرفه عنه (3). فصل الحكم الثالث: قوله "وتحليلها التسليم". والكلام في إفادته الحصر كالكلام في الجملتين قبله. والكلام (4) [في هذا اللفظ ودلالته] على شيئين: أحدهما: أنه لا ينصرف _________ (1) كذا في الأصل، وهو مضاف والجملة بعده مضاف إليه، وفي المطبوع: "جوابًا". (2) ينظر في الكلام على الخشوع "كتاب الصلاة" (ص 339)، و"مسألة السماع" (ص 86)، و"شفاء العليل": (3/ 1155) جميعها للمؤلف. (3) ط. الفقي زيادة "صارف" والمعنى ظاهر بدونها. (4) بعده بياض بمقدار أربع كلمات وقدرناها بما بين المعكوفين، وقوله: "شيئين" مهمل فيحتمل "سببين". وأثبتها في ط. الفقي: "والكلام في التسليم على قسمين".

(1/29)


من الصلاة إلا بالتسليم. وهذا قول جمهور العلماء. وقال أبو حنيفة: لا يتعيَّن التسليم, بل يخرج منها بالمنافي لها مِن حَدَثٍ أو عملٍ مُبطل ونحوه. (1) رواه أحمد وأبو داود (2). وبأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُعَلِّمه المسيء في صلاته, ولو كان فرضًا لعلّمه إياه, وبأنه ليس من الصلاة, فإنه ينافيها ويُخرَج به منها, ولهذا لو أتى به في أثنائها أبطلها. وإذا لم يكن منها, عُلِم أنه شُرِع منافيًا لها, والمنافي لا يتعين ... (3). هذا غاية ما يُحتجّ له به. والجمهور أجابوا عن هذه الحجج: أما حديث ابن مسعود، فقال الدارقطني والخطيب والبيهقي (4) وأكثر الحفاظ: الصحيح أن قوله: "إذا قلتَ هذا فقد قضيتَ صلاتَك" من كلام ابن مسعود, فَصَلَه شَبَابةُ عن زهير, وجعله من كلام ابن مسعود، وقوله أشبه _________ (1) ترك المجرِّد بياضًا بمقدار سطرين، فأكمل مكانها من وقف على النسخة بخط مغاير: "واستدل له بما". وأثبتها في ط. الفقي: "واستدل له بحديث ابن مسعود الذي ... ". ويمكن تقدير هذا البياض بقولنا: "واحتجوا على ذلك بحجج، منها حديث ابن مسعود لما علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - التشهد ثم قال له: فإذا فعلت هذا فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد". (2) أخرجه أحمد (4006)، وأبو داود (970). وأخرجه أيضًا ابن حبان (1961)، والدارقطني: (1334)، والبيهقي: (2/ 174). وسيأتي كلام المؤلف عليه. (3) بعده في الأصل بياض بمقدار أربع كلمات. (4) كلام الدارقطني والبيهقي في سننهما، والخطيب في "الفصل للوصل المدرج في النقل": (1/ 105 - 109). وانظر "العلل" (766) للدارقطني، و"معرفة علوم الحديث" (ص 199) للحاكم.

(1/30)


بالصواب ممن أدرجه, وقد اتفق مَن روى تشهّد ابنِ مسعود على حذفه (1). وأما كون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلِّمه المسيءَ في صلاته, فما أكثرَ ما يُحتجّ بهذه الحجة على عدم واجبات في الصلاة, ولا تدل، لأن المسيء لم يسئ في كلِّ جزء من الصلاة, فلعله لم يسئ في السلام, بل هذا هو الظاهر, فإنهم لم يكونوا يعرفون الخروج منها إلا بالسلام. وأيضًا فلو قُدِّر أنه أساء فيه لكان غاية ما يدلّ عليه تركُه التعليمَ = استصحابَ براءةِ الذّمة من الوجوب, فكيف يقدَّم على الأدلة الناقلة لحكم [ق 8] الاستصحاب؟ وأيضًا فأنتم لم توجبوا في الصلاة كلَّ ما أَمَر به المسيءَ, فكيف تحتجّون بترك أَمْره على عدم الوجوب؟ ودلالة الأمر على الوجوب أقوى من دلالة تركه على نفي الوجوب, فإنه قال: "إذا قمتَ إلى الصلاة فكبِّر" ولم توجبوا التكبيرَ, وقال: "ثم اركع حتى تطمئنَّ راكعًا"، وقلتم: لو ترك الطمأنينة لم تبطل صلاته وإن كان مسيئًا. وأما قولكم: إنه ليس من الصلاة, فإنه ينافيها ويخرج منها به. فجوابه: أن السلام مِن تمامها، وهو نهايتها, ونهاية الشيء منه ليس خارجًا عن حقيقته, ولهذا أضيف إليها إضافة الجزء, بخلاف مفتاحها, فإن إضافته إضافة مُغاير, بخلاف تحليلها فإنه يقتضي أنه لا يتحلَّل منها إلا به. وأما بطلان الصلاة إذا فعله في أثنائها؛ فلأنه قَطْع لها قبل إتمامها, وإتيانُ نهايتِها قبل فراغها, فلذلك أبطلها, فالتسليم آخرها وخاتمها, كما في _________ (1) تشهّد ابن مسعود أخرجه البخاري (6265)، ومسلم (402).

(1/31)


حديث أبي حُميد "ويختمُ صلاتَه بالتسليم" (1) فنِسْبةُ التسليم إلى آخرها كنِسْبة تكبيرة الإحرام إلى أولها. فقول: "الله أكبر" أول أجزائها, وقول: "السلام عليكم" آخر أجزائها. ثم لو سُلِّم أنه ليس جزءًا منها، فإنه تحليلٌ لها لا يخرَج منها إلا به, وذلك لا ينفي وجوبه, كتحلّلات الحجّ, فكونه تحليلًا لا يمنع الإيجاب. فإن قيل: ولا يقتضيه (2). قيل: إذا ثبت انحصار التحليل في التسليم (3) تعيّن الإتيانُ به. وقد تقدَّم بيانُ الحصر من وجهين. فصل وقد دلَّ هذا الحديث على أن كلّ ما تحريمه التكبير وتحليله التسليم فمفتاحه الطهور, فيدخل في هذا الوتر بركعة, خلافًا لبعضهم (4). واحتجَّ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاةُ الليل والنهار مَثْنى مَثْنى" (5). _________ (1) سيأتي تخريجه. (2) أي كما أن كونه تحليلًا لا يمنع الإيجاب، فإنه لا يقتضي الإيجاب أيضًا. (3) في المطبوعتين: "السلام" خلاف الأصل. (4) في هامش الأصل تعليق: أن المقصود هو ابن حزم. وانظر كلامه في "المحلى": (1/ 80)، (5/ 111). (5) أخرجه أحمد (4791)، وأبو داود (1295)، والترمذي (597)، والنسائي (1666)، وابن ماجه (1322). وغيرهم من حديث ابن عمر. قال النسائي: هذا الحديث عندي خطأ. وقال الترمذي: "اختلف أصحاب شعبة في حديث ابن عمر، فرفعه بعضهم وأوقفه بعضهم، وروي عن عبد الله العمري، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا، والصحيح ما روي عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة الليل مثنى مثنى". وروى الثقات عن عبد الله بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكروا فيه صلاة النهار" اهـ.

(1/32)


وجوابه: أن كثيرًا من الحفَّاظ طعن في هذه الزيادة, ورأوها غير محفوظة. وأيضًا فإن الوتر تحريمه التكبير وتحليله التسليم, فيجب أن يكون مفتاحه الطهور. وأيضًا فالمغرب وتر, لا مثنى, والطهارة شرط فيها. وأيضًا فالنبي - صلى الله عليه وسلم - سمَّى الوترَ صلاة بقوله: "فإذا خِفْتَ الصبحَ فصلّ ركعةً تُوتر لك ما قد صلَّيتَ" (1). وأيضًا فإجماع الأمة مِن الصحابة ومَن بعدهم على إطلاق اسم الصلاة على الوتر. فهذا القول في غاية الفساد. ويدخل في الحديث أيضًا صلاة الجنازة؛ لأن تحريمها التكبير وتحليلها التسليم. وهذا قول أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يُعرف عنهم فيه خلاف، وقولُ الأئمة الأربعة وجمهور الأمة, خلافًا لبعض التابعين (2). وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تسميتها صلاةً, وكذلك الصحابة. وحَمَلَة الشرع كلّهم يسمّونها صلاة. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مفتاح الصلاة الطهور, وتحريمها التكبير, وتحليلها التسليم" هو فَصْل الخطاب في هذه المسائل وغيرها, طردًا وعكسًا, فكلُّ ما كان تحريمه التكبير، وتحليله التسليم فلا بدَّ من افتتاحه بالطهارة. فإن قيل: فما تقولون في الطواف بالبيت, فإنه يُفْتَتح بالطهارة, ولا _________ (1) أخرجه البخاري (472، 473)، ومسلم (749، 751) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. (2) جاء ذلك عن الشعبي بإسناد صحيح أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (11598، 11599).

(1/33)


تحريم فيه ولا تحليل؟ قيل: شرط النقض أن يكون ثابتًا بنصٍّ أو إجماع. وقد اختلف السلف والخلف في اشتراط الطهارة للطواف على قولين: أحدهما: أنها شرط, كقول الشافعي ومالك وإحدى الروايتين عن أحمد (1). والثاني: ليست بشرط, نصَّ عليه في رواية ابنه عبد الله وغيره, بل نصُّه في رواية عبد الله تدلّ على أنها ليست بواجبة, فإنه قال: أَحبّ إليَّ أن يتوضأ (2). وهذا مذهب أبي حنيفة (3). قال شيخ الإسلام (4): وهذا قول أكثر السلف, قال: وهو الصحيح, فإنه لم يَنقل أحدٌ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر المسلمين بالطهارة, لا في عُمَرِه ولا في حجته, مع كثرة مَن حجّ معه واعتمر, ويمتنع أن يكون ذلك واجبًا ولا يُبينه للأمة, وتأخير البيان عن وقته ممتنع. فإن قيل: فقد طاف النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - متوضّئًا, وقال: "خذوا عَنِّي مناسككم" (5)؟ _________ (1) انظر لمذاهبهم "الوسيط": (2/ 642) للغزالي، و"روضة الطالبين": (3/ 79). و"تهذيب المدونة": (1/ 525 - 527)، و"الذخيرة": (3/ 238). و"المغني": (5/ 223). (2) "مسائل عبد الله": (2/ 721). (3) انظر: "الهداية": (1/ 409 - 410). (4) هو ابن تيمية، انظر "مجموع الفتاوى": (26/ 216)، و (26/ 123، 199). (5) أخرجه مسلم في حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (1297).

(1/34)


قيل: الفعل لا يدلّ على الوجوب. والأخذ عنه هو أن يفعل كما فعل على الوجه الذي فعل, فإذا كان قد فعل فعلًا على وجه الاستحباب فأوجبناه, لم نكن قد أخذنا عنه وتأسّينا به, مع أنه - صلى الله عليه وسلم - فعَلَ في حَجَّته أشياءَ كثيرة جدًّا لم يوجبها أحدٌ من الفقهاء. فإن قيل: فما تقولون في حديث ابن عباس: "الطوافُ بالبيتِ صلاةٌ" (1)؟ قيل: هذا قد اختلف في رفعه ووقفه, فقال النسائي والدارقطني وغيرهما: الصواب أنه موقوف. وعلى تقدير رفعه, فالمراد تشبيهه بالصلاة, كما يُشبَّه انتظارُ الصلاة بالصلاة, وكما قال أبو الدرداء: "ما دمتَ تذكر الله فأنتَ في صلاة, وإن كنتَ في السوق" (2). ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ أحدَكم في _________ (1) أخرجه الترمذي (960)، والدارمي (1889)، وابن خزيمة (2739) وغيرهم مرفوعًا. والنسائي في "الكبرى" (3931) موقوفًا. قال الترمذي: "وقد روي هذا الحديث عن ابن طاووس وغيره، عن طاووس، عن ابن عباس، موقوفًا، ولا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث عطاء بن السائب" وقد أعلّه أكثر النقّاد بالوقف كالنسائيِّ والبيهقي وابن الصلاح والمنذري والنووي وشيخ الإسلام ابن تيمية. وانظر "البدر المنير": (2/ 487 - 498)، و"نصب الراية": (3/ 57)، و"التلخيص الحبير": (1/ 138 - 139). (2) لم أجده عن أبي الدرداء، ونسَبَه شيخُ الإسلام إليه في "الفتاوى": (32/ 232)، ونسبه في موضع آخر منها (14/ 215)، وفي "شرح العمدة": (2/ 6) و"جامع المسائل ــ السادسة": (6/ 315) إلى ابن مسعود. وأخرجه عن ابن مسعود أبو نعيم في "الحلية": (4/ 204) بلفظ: "ما دام قلب الرجل يذكر الله فهو في صلاة وإن كان في السوق، فإن يحرك به شفتيه فهو أعظم". ورُوي عن غيره.

(1/35)


صلاة ما دام يَعْمِدُ إلى الصلاة" (1). فالطواف وإن سُمِّي صلاةً، فهو صلاةٌ بالاسم العام, ليس بصلاة [ق 9] خاصّةٍ, والوضوء إنما يشترط للصلاة الخاصّة ذاتِ التحريم والتحليل. فإن قيل: فما تقولون في سجود التلاوة والشكر؟ قيل: فيه قولان مشهوران: أحدهما: يُشترط له الطهارة. وهذا هو المشهور عند الفقهاء, ولا يَعرف كثيرٌ منهم فيه خلافًا, وربما ظنَّه بعضُهم إجماعًا (2). والثاني: لا يشترط له الطهارة, وهذا قول كثير من السلف, حكاه عنهم ابن بطَّال في "شرح البخاري" (3). وهو قول عبد الله بن عمر, ذكره البخاري عنه في "صحيحه" (4) فقال: "وكان ابن عمر يسجد للتلاوة على غير وضوء". وترجمة البخاري واستدلاله يدل على اختياره إياه, فإنه قال: "باب _________ (1) قطعة من حديث أخرجه مسلم (602/ 152) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) حكى الإجماع أو الاتفاق غير واحد، قال الحافظ ابن عبد البر في "الاستذكار": (2/ 509): "وأما قوله (يعني مالك): لا يسجد الرجل والمرأة إلا وهما طاهران، فإجماع من الفقهاء أنه لا يسجد أحد سجدة تلاوة إلا على طهارة" اهـ. وذكر ابن قدامة في "المغني": (2/ 358) أنه لا يعلم خلافًا فيه. (3) (3/ 56 - 57). وقد حكاه ابن بطال عن ابن عمر والشعبي والبخاري. ثم قال: وذهب فقهاء الأمصار إلى أنه لا يجوز سجود التلاوة إلا على وضوء. وينظر "مصنف بن أبي شيبة" (4354 - 4358)، و"الأوسط": (5/ 284). (4) قبل حديث رقم (1071).

(1/36)


من قال: يسجد على غير وضوء" هذا لفظه (1). واحتجَّ الموجبون للوضوء له بأنه صلاة, قالوا: فإنه له تحريم وتحليل, كما قاله بعض أصحاب أحمد والشافعي (2). وفيه وجه أنه يتشهَّد له (3) , وهذا حقيقة الصلاة. والمشهور من مذهب أحمد عند المتأخرين أنه يسلّم له (4). وقال عطاء وابن سيرين: إذا رفع رأسه يسلم (5). وبه قال إسحاق بن راهويه (6)، واحْتَجّ (7) لهم بقوله: "تحريمها التكبير, وتحليلها التسليم". قالوا: ولأنه يُفعل تبعًا (8) للإمام, ويعتبر أن يكون القارئ يصلح إمامًا _________ (1) كذا قال المصنف، والذي في "الصحيح" في كتاب سجود القرآن: "باب سجود المسلمين مع المشركين. والمشرك نَجَسٌ ليس له وضوء. وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يسجد على غير وضوء". (2) انظر "المجموع": (4/ 63 - 64)، و"المغني": (2/ 358). (3) ينظر "الإنصاف": (2/ 198). (4) انظر "المغني": (2/ 362 - 363)، و"الإنصاف": (2/ 198). (5) حكاه عنهما ابن المنذر في "الأوسط": (5/ 279)، والخطابي في "المعالم": (2/ 120 - بهامش مختصر المنذري)، والبغوي في "شرح السنة": (3/ 315). وأخرجه ابن أبي شيبة (4201)، وعبد الرزاق: (3/ 349) عن ابن سيرين وأبي قلابة. لكن روى ابن أبي شيبة (4205) عن عطاء أنه لم يكن يسلم فيها. (6) كما في "مسائل الكوسج لأحمد وإسحاق": (2/ 750 - 751). (7) ينظر الحاشية (5) في الصفحة الآتية. (8) الأصل: "تبع".

(1/37)


للمستمع, وهذا حقيقة الصلاة. قال الآخرون: ليس معكم باشتراط الطهارة له كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح. وأما استدلالكم بقوله: "تحريمها التكبير, وتحليلها التسليم"، فهو من أقوى ما يحتجُّ به عليكم. فإنَّ أئمة الحديث والفقه ليس فيهم أحدٌ قطّ نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحدٍ من أصحابه أنه سلَّم منه, وقد أنكر أحمدُ السلامَ منه, قال الخطَّابي: وكان أحمد لا يعرف التسليم في هذا (1). وقال الحسن البصري: [ليس في السجود تسليم] (2). ويُذكر نحوه عن إبراهيم النخعي (3) , وكذلك المنصوص عن الشافعي أنه لا يسلِّم فيه (4). والذي يدلُّ على ذلك: أن الذين قالوا: يسلَّم منه, إنّما احتجّوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وتحليلها التسليم"، وبذلك احتجَّ لهم إسحاق (5) , وهذا _________ (1) في "معالم السنن": (2/ 120 - بهامش المختصر). وذكره قبله الكوسج في "مسائله" (2/ 751) قال: "أما التسليم لا أدري ما هو"، وابن المنذر في "الأوسط": (5/ 279). (2) ما بين المعكوفين بياض بالأصل، والمثبت من "مصنف عبد الرزاق": (3/ 350)، وأخرجه ابن أبي شيبة (4206) بنحوه. (3) رواه عبد الرزاق: (3/ 350)، وابن أبي شيبة (4204). (4) نص عليه الشافعي في "البويطي" (ص 298 - 299)، وذكره الماوردي في "الحاوي": (2/ 204) وغيره. (5) في "مسائل الكوسج" (2/ 751) لم يذكر احتجاجَ إسحاق بالحديث. فلعل المؤلف فهم ذلك من سياق كلام الخطابي في "المعالم": (2/ 120) حيث قال: "وبه قال إسحاق بن راهويه. واحتجّ لهم بقوله: تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم" على أن الضمير في قوله: "واحتج" عائد إلى إسحاق، ولكن لو جعلنا "احْتُجّ" مبنيًّا للمجهول لكان كلامًا مستأنفًا. وهو الظاهر والله أعلم.

(1/38)


استدلال ضعيف, فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فعلوها, ولم يُنْقل عنهم سلامٌ منها, ولهذا أنكره أحمد وغيره. وتجويز كونه سلَّم منه ولم يُنقل، كتجويز كونه سلَّم من الطواف. قالوا: والسجود هو من جنس ذِكْر الله وقراءة القرآن والدعاء, ولهذا يُشرع في الصلاة وخارجها, فكما لا يُشترط الوضوء لهذه الأمور وإن كانت من أجزاء الصلاة، فكذلك لا يشترط للسجود. وكونه جزءًا من أجزائها لا يوجب أن لا يُفْعَل إلا بوضوء. واحتجَّ البخاريُّ بحديث ابن عباس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد بالنجم, وسجد معه المسلمون والمشركون والجنُّ والإنسُ" (1). ومعلوم أن الكافر لا وضوء له. قالوا: وأيضًا فالمسلمون الذين سجدوا معه - صلى الله عليه وسلم - لم يُنقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالطهارة, ولا سألهم هل كنتم متطهِّرين أم لا؟ ولو كانت الطهارة شرطًا فيه للزم أحد الأمرين: إما أن يتقدم أمرُه لهم بالطهارة, وإما أن يسألهم بعد السُّجود ليبين لهم الاشتراط, ولم يَنْقل مسلمٌ واحدًا منهما. فإن قيل: فلعلَّ الوضوءَ تأخرت مشروعيته عن ذلك, وهذا جواب بعض الموجِبين. قيل: الطهارة شُرِعت للصلاة من حين المَبْعَث, ولم يصلِّ قطّ إلا _________ (1) أخرجه البخاري (1071).

(1/39)


بطهارة, أتاه جبريل فعلَّمه الطهارةَ والصلاةَ (1). وفي حديث إسلام عمر أنه لم يُمكَّن من مسِّ القرآن إلا بعد تطهُّره (2) , فكيف نظنّ أنهم كانوا يصلّون بلا وضوء؟ قالوا: وأيضًا فيبعد جدًّا أن يكون المسلمون كلهم إذ ذاك على وضوء. قالوا: وأيضًا ففي "الصحيحين" (3) عن عبد الله بن عمر قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ القرآن, فيقرأ السورةَ فيها السجدة، فيسجد ونسجد معه, حتى ما يجدُ بعضُنا موضعًا لمكان جبهته". قالوا: وقد كان يقرأ القرآن عليهم في المجامع كلّها, ومن البعيد جدًّا أن يكون كلّهم إذ ذاك على وضوء, وكانوا يسجدون حتى لا يجد بعضُهم مكانًا لجبهته, ومعلوم أن مجامع الناس تجمع المتوضّئ وغيرَه. قالوا: وأيضًا فقد أخبر الله تعالى في غير موضع من القرآن أن السَّحَرَة سجدوا لله سجدة فقبلها الله منهم ومدحهم عليها, ولم يكونوا متطهِّرين _________ (1) أحاديث تعليم جبريل مواقيت الصلاة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليس فيها ذكر للطهارة. انظر البخاري (521)، ومسلم (610)، و"سنن أبي داود" (393، 394، 395)، والترمذي (149، 150)، والنسائي (294، 502، 513)، وأحمد (11249، 17089)، وغيرها. (2) أخرجه الدارقطني: (1/ 123)، والحاكم: (4/ 59 - 60)، والبيهقي: (1/ 88) وغيرهم من حديث أنس بن مالك. وسنده منقطع. قاله الذهبي في "تلخيصه". وله طرق أخرى لكنها ضعيفة أيضًا. انظر "دراسة نقدية في المرويات الواردة في شخصية عمر بن الخطاب": (1/ 133 - 138). (3) البخاري (1075)، ومسلم (575).

(1/40)


قطعًا. ومنازعونا يقولون: مثل هذا السجود حرام, فكيف يمدحهم ويُثني عليهم بما لا يجوز؟! فإن قيل: شرعُ مَن قبلنا ليس بشرع لنا. قيل: قد احتجَّ الأئمةُ الأربعةُ بشرع مَن قبلنا, وذلك منصوص عنهم أنفُسِهم في غير موضع. قالوا: سلمنا, لكن ما لم يَرِد شرعُنا بخلافه. قال المُجوِّزون: فأين ورد في شرعنا خلافُه؟ قالوا: وأيضًا فأفضل أجزاء الصلاة وأقوالها هو القراءة, وتُفْعَل بلا وضوء, [ق 10] فالسجود أولى. قالوا: وأيضًا فالله سبحانه وتعالى أثنى على كُلِّ مَن سَجَد عند التلاوة, فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء: 107]، وهذا يدلّ على أنهم سجدوا عَقِب تلاوته بلا فصل, وسواءٌ كانوا بوضوء أو بغيره؛ لأنه أثنى عليهم بمجرَّد السجود عقب التلاوة, ولم يشترط وضوءًا. وكذلك قوله تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]. قالوا: وكذلك سجود الشكر مستحبٌّ عند تجدّد النّعَم المُنتظرة. وقد تظاهرت السنةُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله في مواضع متعدّدة (1) , وكذلك _________ (1) منها حديث البراء - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرّ ساجدًا حين جاءه كتاب علي - رضي الله عنه - من اليمن بإسلام هَمْدان. رواه البيهقي في "السنن": (2/ 369) وقال: "هذا إسناد صحيح، قد أخرج البخاري صدره فلم يسقه بتمامه، وسجود الشكر في تمام الحديث صحيح على شرطه".

(1/41)


أصحابه (1) , مع ورود الخبرِ السارِّ عليهم بغتةً, وكانوا يسجدون عَقِبه, ولم يُؤمروا بوضوء, ولم يُخبِروا أنه لا يُفْعَل إلا بوضوء. ومعلوم أنَّ هذه الأمور تَدْهَم العبد وهو على غير طهارة، فلو تركها لفاتت مصلحتها. قالوا: ومن الممتنع أن يكون الله تعالى قد أذن في هذا السجود وأثنى على فاعله وأطلق ذلك, وتكون الطهارةُ شرطًا فيه, ولا سَنَّها ولا يأمر بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه, ولا رُويَ عنه في ذلك حرفٌ واحد. وقياسه على الصلاة ممتنع لوجهين: أحدهما: أن الفارق بينه وبين الصلاة أظهر وأكثر من الجامع, إذ لا قراءة فيه ولا ركوع, ولا فرضًا (2)، ولا سنة ثابتة بالتسليم، ويجوز أن يكون القارئ خلف الإمام فيه, ولا مصافّة فيه. وليس إلحاق محلّ النزاع بصور الاتفاق أولى من إلحاقه بصور الافتراق. الثاني: أن هذا القياس إنما ينفع (3) ــ لو كان صحيحًا ــ إذا لم يكن الشيء المقيس قد فُعِل على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم تقع الحادثة, فيحتاج المجتهد أن يُلْحقها بما وقع على عهده - صلى الله عليه وسلم - من الحوادث أو شَمِلها نصُّه, _________ (1) كما في قصة كعب بن مالك - رضي الله عنه - في حديث توبته، أنه لما بلغته البشارة خرَّ ساجدًا. أخرجه البخاري (4418)، ومسلم (769). (2) كذا في الأصل، وفوق الكلمة إشارة من الناسخ استشكالًا لها، ولعلها: "ولا رفعًا". (3) ط. الفقي: "يمتنع"، وهي غير محررة في الأصل، وهي أقرب إلى ما أثبتنا رسمًا ومعنى.

(1/42)


وأما مع سجوده وسجود أصحابه وإطلاق الإذن في ذلك من غير تقييد بوضوء, فيمتنع التقييدُ به. فإن قيل: فقد روى البيهقي من حديث الليث، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: "لا يسجدُ الرَّجل إلا وهو طاهر" (1). وهذا يخالف ما رويتموه عن ابن عمر, مع أن في بعض الروايات: "وكان ابن عمر يسجد على وضوء"، وهذا هو اللائق به لأجل رواية الليث. قيل: أما أثر الليث ... (2). وأما رواية من روى: "يسجد (3) على وضوء" فغلط؛ لأن تبويب البخاري واستدلاله وقوله: "والمشرك ليس له وضوء" يدلّ على أن الرواية بلفظ "غير" وعليها أكثر الرواة (4). ولعل الناسخ استشكل ذلك, فظن أن _________ (1) أخرجه البيهقي: (1/ 90، 2/ 325) وصحح إسناده الحافظ في "الفتح": (2/ 554). وأخرجه مالك في "الموطأ ــ رواية محمد بن الحسن" (297). وقد جمع الحافظ بينهما بقوله: "فيجمع بينهما بأنه أراد بقوله (طاهر) الطهارة الكبرى، أو الثاني على حالة الاختيار والأول على الضرورة". وزاد في "مرعاة المفاتيح": (3/ 430): "أو الثاني على الأولوية والأول على الجواز والإباحة". (2) بعده في الأصل بياض بمقدار سطر وزيادة، وعلق في الهامش: "بياض في الأصل". وأثبت مكانه في ط. الفقي: "فضعيف" بدون إشارة إلى الإضافة. ولا شك أن المؤلف ضعَّف أثر الليث كما سيأتي، لكن هل تكلم عن موجب التضعيف؟ (3) في ط. الفقي: "كان يسجد" ولا موجب للتصرف! (4) قال الحافظ في "الفتح": (2/ 553) تعليقًا على قوله: "على غير وضوء": "كذا للأكثر وفي رواية الأصيلي بحذف "غير" والأول أولى، فقد روى ابن أبي شيبة (4354) من طريق عبيد بن الحسن عن رجل زعم أنه كنفسه عن سعيد بن جبير قال: كان ابن عمر ينزل عن راحلته فيهريق الماء، ثم يركب فيقرأ السجدة، فيسجد وما يتوضأ". ورجحه ابن بطال: (3/ 56)، والعيني: (7/ 99).

(1/43)


لفظة "غير" غلط فأسقطها, ولاسيما إن كان اغترَّ (1) بالأثر الضعيف المروي عن الليث, وهذا هو الظاهر, فإن إسقاط الكلمة للاستشكال كثير جدًّا. وأما زيادة "غير" في مثل هذا الموضع فلا يُظنّ زيادتها غلطًا, ثم تتفق عليها النسخُ المختلفة أو أكثرها (2).

  5 - باب ما يُنَجّس الماءَ

5/ 58 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الماء، وما ينوبه من الدوابّ والسباع؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان الماءُ قُلّتين لم يحمل الخَبَثَ". 6/ 59 - وفي رواية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن الماء يكون في الفلاة؟ فذكر معناه. 7/ 60 - وفي رواية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان الماء قُلَّتين فإنه لا يَنْجُس". وأخرجه الترمذي والنسائيّ وابن ماجه (3). وسئل يحيى بن معين عن حديث حماد بن سلمة، حديث عاصم بن المنذر؟ فقال: هذا جيد الإسناد. فقيل له: فإن ابن عُليّة لم يرفعه. قال يحيى: وإن _________ (1) زاد في ط. الفقي: "قد اغتر". (2) بعده في الأصل بياض بمقدار سطر وزيادة مع أن سياق الكلام تام. (3) أخرجه أبو داود (63 - 65)، والترمذي (67)، والنسائي (52)، وابن ماجه (517).

(1/44)


لم يحفظه ابن عُلية فالحديث حديث جيّد الإسناد (1). وقال أبو بكر البيهقي: وهذا إسناد صحيح موصول. قال ابن القيم - رحمه الله -: ورواه الحاكم في "المستدرك" (2) وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم. وصحَّحه الطحاوي (3). رواه الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه. هكذا رواه إسحاق بن راهويه وجماعة، عن أبي أسامة، عن الوليد (4). _________ (1) كذا ساقه المنذري، ومصدره "معرفة السنن والآثار": (1/ 329 - 330) للبيهقي. فقد ساقه بسنده إلى عباس الدوري بنحوه. أقول: وهو في "تاريخه": (4/ 240) ولفظه ــ وهو أتم وأوضح ــ: "سمعت يحيى يقول ــ وسئل عن حماد بن سلمة ــ: حديث عاصم بن المنذر بن الزبير، عن أبي بكر عبيد الله بن عبد الله بن عمر هذا خير الإسناد، أو قال يحيى: هذا جيّد الإسناد. قيل له: فإن ابن علية لم يرفعه، قال يحيى: وإن لم يحفظه ابن علية فالحديث جيِّد الإسناد، وهو أحسن من حديث الوليد بن كثير. يعني يحيى في قصة: الماء لا ينجِّسه شيء". (2) (1/ 132). (3) يفهم تصحيحه من سياقه في "شرح المشكل": (7/ 64 - 67)، وفي "شرح المعاني": (1/ 15 - 16). ونقل تصحيحَ الطحاوي ابنُ الملقن في "البدر المنير": (1/ 413). وكذلك صححه الخطابي، وعبد الحق، وابن الملقن، وحسَّنه النووي. انظر "البدر المنير": (1/ 407 - 409). (4) أخرج هذه الطريق أبو داود (63)، والدارقطني: (1/ 13 - 15)، والحاكم: (1/ 132)، والبيهقي: (1/ 260).

(1/45)


ورواه الحُميدي عن أبي أسامة، نا الوليد، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن عبد الله بن عبد الله، عن أبيه (1). فهذان وجهان. قال الدارقطني في هاتين الروايتين (2): فلما اخْتُلِف على أبي أسامة اخترنا (3) أن نعلم مَن أتى بالصواب، فنظرنا في ذلك, فإذا شعيب بن أيوب قد رواه (4) عن أبي أسامة, [عن الوليد بن كثير، على الوجهين جميعًا: عن محمد بن جعفر بن الزّبير، ثم أتْبَعَه عن محمد بن عبّاد بن جعفر. فصحَّ القولان جميعًا عن أبي أسامة] (5)، وصحَّ أن الوليد بن كثير رواه عنهما جميعًا, وكان أبو أسامة مرَّةً يحدِّث به عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير, ومرَّة يحدِّث به عن الوليد، عن محمد بن عَبّاد بن جعفر (6). ورواه محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه. رواه جماعةٌ عن ابن إسحاق (7). _________ (1) أخرج هذه الطريق أبو داود: (1/ 51 - 52) ورجَّحها، والدارقطني: (1/ 15 - 17)، والحاكم: (1/ 133)، والبيهقي: (1/ 260). (2) في "السنن": (1/ 17 - 18)، ونقله البيهقي: (1/ 260) والمؤلف صادر عنه. وانظر نحوه في "العلل" (2872) للدارقطني. (3) عند الدارقطني والمصادر الناقلة عنه: "أحببنا". (4) الأصل: "روى"، والمثبت من "السنن". (5) ما بين المعكوفين سقط من الأصل، وهو انتقال نظر، والإكمال من "سنن الدارقطني" والبيهقي. (6) هنا انتهى كلام الدارقطني في "السنن". (7) أخرجه أبو داود (64)، وابن ماجه (517)، والدارقطني: (16 - 20)، والبيهقي: (1/ 261).

(1/46)


وكذلك رواه حماد بن سلمة، عن عاصم بن المنذر، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبيه (1). وفيه تقوية (2) لحديث ابن إسحاق. فهذه أربعة أوجه. ووجه خامس: محمد بن كثير المِصّيصي، عن زائدة، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (3). ووجه سادس: معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر. قولَه (4). قال البيهقي (5): وهو الصواب, يعني حديث مجاهد. ووجه سابع: بالشكّ في قُلّتين أو ثلاث, ذكرها يزيد بن هارون، وكامل بن طلحة، وإبراهيم بن الحجاج، وهُدْبة بن خالد, عن حماد بن سلمة، عن عاصم بن المنذر بن الزبير, قال: دخلتُ مع عبيد الله بن عبد الله بن [ق 11] عمر بستانًا فيه مَقْراةُ ماءٍ، فيه جلد بعير ميّت، فتوضأ منه, فقلت: أتتوضأ منه وفيه جلد بعيرٍ ميّت؟ فحدَّثني عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: _________ (1) أخرجه أبو داود (65)، وابن ماجه (518)، والدارقطني: (21)، والبيهقي: (1/ 262). (2) رسمها في الأصل: "يفوته"! والصواب ما أثبت، وانظر "سنن الدارقطني": (1/ 21). (3) أخرجه الدارقطني: (29)، ومن طريقه البيهقي: (1/ 262). (4) أخرجه الدارقطني: (30)، ومن طريقه البيهقي: (1/ 262). (5) في "السنن": (1/ 262). والكلام في أصله للدارقطني نقله عنه البيهقي. قال الدارقطني: "ورواه معاوية بن عمرو، عن زائدة موقوفًا، وهو الصواب".

(1/47)


"إذا بلغ الماء قَدْر قُلّتين أو ثلاث لم ينجّسه شيء" (1). ورواه أبو بكر النيسابوري: حدثني أبو حميد المِصّيصي، ثنا حجاج, قال ابن جريج: أخبرني لوط، عن أبي (2) إسحاق، عن مجاهد: أن ابن عباس قال: "إذا كان الماء قُلّتين فصاعدًا لم ينجّسه شيء" (3). ورواه أبو بكر بن عيّاش، عن أَبَان، عن أبي يحيى، عن ابن عباس, كذلك موقوفًا (4). وروى أبو أحمد بن عدي (5) من حديث القاسم العُمَري، عن محمد بن المُنكَدِر، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بلغ الماءُ أربعين قُلّة لا يحمل الخبث". تفرّد به القاسم العمري هكذا, وهو ضعيف, وقد نُسِبَ إلى الغلط فيه. وقد ضعّف القاسمَ أحمدُ والبخاريُّ ويحيى بن معين وغيرُهم. قال البيهقي (6): أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: سمعت أبا علي _________ (1) أخرجه من طريقهم الدارقطني: (22 - 23)، وانظر "سنن البيهقي": (1/ 262) وقال: "ورواية الجماعة الذين لم يشكّوا أولى". والمَقْراة: الحوض يجتمع فيه الماء. "النهاية": (4/ 82). (2) ط. الفقي: "ابن" خطأ. (3) أخرجه الدارقطني: (32)، والبيهقي: (1/ 262). (4) ذكره البيهقي: (1/ 262). (5) في "الكامل": (6/ 34). وقال عَقِبه: "وهذا بهذا الإسناد بهذا المتن لا أعلم يرويه غير القاسم عن ابن المنكدر، وله عن ابن المنكدر غير هذا من المناكير". (6) في "السنن": (1/ 262). وتتمة كلامه: "وبمعناه قاله لي أبو بكر بن الحارث الفقيه عن أبي الحسن الدارقطني الحافظ "السنن 1: 26" قال: ووهم فيه القاسم، وكان ضعيفًا كثير الخطأ".

(1/48)


الحافظ يقول: حديث محمد بن المنكدر، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بلغ الماء أربعين قُلّة" خطأ, والصحيح عن محمد بن المنكدر، عن عبد الله بن عَمرو (1) قولَه. قلت: كذلك رواه عبد الرزاق، أنا الثوري ومعمر، عن محمد بن المنكدر، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قولَه (2). وروى ابنُ لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سليمان، عن عبد الرحمن بن أبي هريرة، عن أبيه قال: "إذا كان الماء فيه (3) أربعين قُلّة لم يحمل خبثًا" (4). وخالفه غيرُ واحدٍ, فرووه عن أبي هريرة, فقالوا: "أربعين غَرْبًا". ومنهم من قال: "دلوًا"، قاله الدارقطني (5). والاحتجاجُ بحديث القُلّتين مبنيّ على ثبوت عدّة مقامات: الأول: صحة سنده. الثاني: ثبوت وصله, وأن إرساله غير قادح فيه. _________ (1) في الأصل: "بن عمر" خطأ، وسيأتي على الصواب قريبًا. (2) أخرجه من طريق عبد الرزاق: الدارقطني (41 - 42)، والبيهقي: (1/ 262). (3) كذا في الأصل، والذي في مصادر الحديث "قدر". وأُسقطت في ط. الفقي. (4) أخرجه الدارقطني (44)، وذكره البيهقي: (1/ 262 - 263) من طريق الدارقطني. (5) في "السنن" عقب حديث رقم (44).

(1/49)


الثالث: ثبوت رفعه, وأن وَقْف مَن وقَفَه ليس بعلَّة. الرابع: أن الاضطراب الذي وقع في سنده لا يُوهِنه. الخامس: أن القُلَّتين مقدَّرتان بقلال هَجَر. السادس: أن قلال هَجَر متساوية المقدار ليس فيها كبار وصغار. السابع: أن القلة مقدّرة بقربتين حجازيَّتين, وأن قِرَب الحجاز لا تتفاوت. الثامن: أن المفهومَ حجَّة. التاسع: أنه مُقَدَّم على العموم. العاشر: أنه مقدَّم على القياس الجليّ. الحادي عشر: أن المفهوم عامّ في سائر صور المسكوت. الثاني عشر: أن ذِكر العدد خرج مَخْرج التحديد والتقييد. الثالث عشر: الجواب عن المعارض. ومَن جعلهما خمسمائة رطل احتاج إلى: مقام رابع عشر: وهو أنه يُجعل الشيء نصفًا احتياطًا. ومقام خامس عشر: أن ما وجب به الاحتياط صار فرضًا. قال المحدّدون: الجواب عما ذكرتم: * أما صِحّة سنده فقد وُجِدت؛ لأن رواته ثقات, ليس فيهم مجروح ولا متَّهم، وقد سمع بعضهم من بعض؛ ولهذا صححه ابنُ خزيمة والحاكم

(1/50)


والطحاوي وغيرهم (1). * وأما وَصْله, فالذين وصلوه ثقات, وهم أكثر من الذين أرسلوه, فهي زيادة من ثقة, ومعها الترجيح. * وأما رفعه، فكذلك. وإنما وقَفَه مجاهدٌ على ابن عمر, فإذا كان مجاهد قد سمعه منه موقوفًا لم يمنع ذلك سماعَ عُبيد الله وعبد الله له من ابن عمر مرفوعًا. فإن قلنا: الرفع زيادة, وقد أتى بها ثقةٌ, فلا كلام. وإن قلنا: هي اختلاف وتعارض, فعبيد الله أولى في أبيه من مجاهد, لملازمته له وعلمه بحديثه, ومتابعة عبد الله (2) له. * وأما قولكم: إنه مضطرب, فمثل هذا الاضطراب لا يقدح فيه؛ إذ لا مانع من سماع الوليد بن كثير له عن (3) محمد بن عَبّاد ومحمد بن جعفر, كما قال الدارقطني: قد صحّ أن الوليد بن كثير رواه عنهما جميعًا, فحدَّث به أبو أسامة عن الوليد على الوجهين. وكذلك لا مانع من رواية عبيد الله وعبد الله له جميعًا عن أبيهما, فرواه المحمَّدان عن هذا تارةً وعن هذا تارة. * وأما تقدير القلّتين بقلال هَجَر, فقد قال الشافعي: نا مسلم بن خالد، عن ابن جريج بإسناد لا يحضرني ذكره: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كانَ _________ (1) انظر ما سبق (ص 44). (2) ط. الفقي: "أخيه عبد الله" وليست في الأصل. (3) ط. الفقي: "من".

(1/51)


الماءُ قُلّتين لم يحمل خَبَثًا". وقال في الحديث: "بقلال هَجَر" (1). وقال ابن جريج: أخبرني محمد، عن (2) يحيى بن عقيل أخبره، أن يحيى بن يَعْمَر أخبره: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان الماءُ قُلّتين لم يحمل نَجَسًا ولا بأسًا". قال: فقلت ليحيى بن عقيل: قِلال هَجَر؟ قال: قِلال هَجَر, قال: فأظنّ أن كلّ قُلّةٍ تأخذ قِرْبتين (3). قال ابنُ عديّ (4): محمد هذا هو محمد بن يحيى, يحدِّث عن يحيى بن أبي كثير ويحيى بن عقيل (5). قالوا: وأنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرها لهم في حديث المعراج, وقال في سِدْرة المنتهى: "فإذا نَبِقها مثل قِلال هَجَر" (6). _________ (1) أخرجه الشافعي في "الأم": (2/ 10 - 11)، وهو في "مسنده" (37). (2) كذا في الأصل، وفي مصادر الحديث: "أن". (3) هذا هو الإسناد الذي لم يحضر الشافعيَّ ذكرُه. أخرجه الدارقطني: (32)، ومن طريقه البيهقي: (1/ 263). وعند الدارقطني وإحدى روايات البيهقي: "فرقين"، وفي رواية للبيهقي: "قربتين" ثم قال: "كذا في كتاب شيخي: قربتين". (4) كذا في الأصل، وهو وهم. فإن المصنف لما رأى البيهقي: (1/ 264) نقل هذا القول عن "أبي أحمد الحافظ" ظنه أبا أحمد بن عدي الجرجاني الحافظ صاحب "الكامل". وليس كذلك، فالمقصود هنا هو الحافظ أبو أحمد الحاكم النيسابوري صاحب كتاب "الكنى". وقد صرّح بذلك الحافظ ابن حجر في "التلخيص": (1/ 29). ويدل عليه عادة البيهقي في النقل عن الحافظين. (5) علّق ابنُ حجر في "التلخيص": (1/ 30) فقال: "قلت: وكيفما كان فهو مجهول". (6) أخرجه البخاري (3207) من حديث مالك بن صعصعة - رضي الله عنه -. وهو في مسلم (164) دون هذه اللفظة.

(1/52)


فدلّ على أنها معلومة عندهم. وقد قال يحيى بن آدم ووكيع وابن إسحاق: القُلّة: الجَرَّة. وكذلك قال مجاهد: القُلّتان: الجَرَّتان (1). * وأما كونها متساويةَ المقدار, فقد قال الخطابي في "معالمه" (2): "قلال هجر مشهورة الصَّنْعة معلومة المقدار, لا تختلف كما لا تختلف المكاييل والصيعان". وهو حُجَّة في اللغة. * وأما [ق 12] تقديرها بِقِرَب الحجاز, فقد قال ابن جُريج: رأيت القُلَّة تَسَع قربتين (3). وابنُ جُريج حجازيّ, إنما أخبر عن قرب الحجاز, لا العراق ولا الشام ولا غيرهما. * وأما كونها لا تتفاوت, فقال الخطابي: "القرب المنسوبة إلى البلدان المحذوَّة (4) على مثال واحد", يريد: أن قِرَب كلّ بلد على قَدْرٍ واحد لا تختلف. قال: "والحدّ لا يقع بالمجهول". * وأما كون المفهوم حُجّة, فله طريقان: أحدهما: التخصيص. والثاني: التعليل. أما التخصيص, فهو أن يقال: تخصيصُ الحُكْم بهذا الوصف والعدد _________ (1) ذكر هذه الآثار البيهقي: (1/ 264)، وانظر "الأوسط": (1/ 262) لابن المنذر، و"التلخيص الحبير": (1/ 31). (2) (1/ 57 - بهامش المختصر). (3) ذكره عنه الشافعي في "الأم": (2/ 11). (4) كذا في الأصل، وفي عدة مطبوعات للمعالم: "المحدودة".

(1/53)


لا بدَّ له من فائدة, وهي نفي الحكم عمّا عدا المنطوق. وأما التعليل فيختصّ بمفهوم الصفة, وهو أن تعليق الحكم بهذا الوصف المناسب يدلّ على أنه علّة له, فينتفي الحكم بانتفائها. فإن كان المفهوم مفهوم شرط، فهو قويّ؛ لأن المشروط عدمٌ عند عدم شرطه وإلا لم يكن شرطًا له. * وأما تقديمه على العموم, فلأن دلالته خاصّة, فلو قُدِّم العمومُ عليه بطلَتْ دلالتُه جملةً, وإذا خُصّ به العموم عُمِل بالعموم فيما عدا المفهوم, والعمل بالدليلين أولى من إلغاء أحدهما. كيف وقد تأيَّد المفهومُ بحديث الأمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب وإراقته (1) , وبحديث النهي عن غَمْس اليد في الإناء قبل غسلها عند القيام من نوم الليل (2)؟ * وأما تقديمه على القياس الجليّ فواضح؛ لأن القياس عمومٌ معنويّ, فإذا ثبت تقديمه على العموم اللفظي فتقديمه على المعنويّ بطريق الأَوْلى, ويكون خروج صور المفهوم من مقتضى القياس, كخروجها من مقتضى لفظ _________ (1) الأمر بالغسل متفق عليه، أخرجه البخاري (172)، ومسلم (279) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. والأمر بالإراقة عند مسلم (279/ 89) من طريق علي بن مُسهر، أخبرنا الأعمش، عن أبي رزين وأبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه، ثم ليغسله سبع مرار". قال النسائي في "السنن": (1/ 53): "لا أعلم أحدًا تابع عليَّ بن مسهر على زيادة (فليرقه) ". وقال حمزة الكناني: إنها غير محفوظة. وانظر "فتح الباري": (1/ 330 - 331). (2) أخرجه البخاري (162)، ومسلم (278) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

(1/54)


العموم. * وأما كون المفهوم عامًّا؛ فلأنه إنما دل على نفي الحكم عمّا عدا المنطوق بطريق سكوته عنه, ومعلوم أن نسبة السكوت إلى جميع الصور واحدة, فلا يجوز نفي الحكم عن بعضها دون بعض للتحكّم، ولا إثبات حُكْم المنطوق لها لإبطال فائدة التخصيص, فتعين نَفْيه (1) عن جميعها. * وأما قولكم: إن العدد خرج مخرج التحديد؛ فلأنه عددٌ صدر من الشارع، فكان تحديدًا وتقييدًا, كالخمسة الأوسق, والأربعين من الغَنَم, والخَمْس من الإبل, والثلاثين من البقر, وغير ذلك, إذ لا بدّ للعدد من فائدة, ولا فائدة له إلا التحديد. * وأما الجواب عن المعارض, فليس معكم إلا عموم لفظيّ, أو عموم معنويّ وهو القياس, وقد بينّا (2) تقديم المفهوم عليهما. * وأما جَعْل الشيء نصفًا؛ فلأنه قد شُكّ فيه, فجعلناه نصفًا احتياطًا (3) , والظاهر أنه لا يكون أكثر منه, ويحتمل النصف فما دون, فتقديره بالنصف أولى. * وأما كون ما وجب به الاحتياط يصير فرضًا؛ لأن هذا حقيقة الاحتياط, كإمساكِ جزءٍ من الليل مع النهار, وغَسل جزء من الرأس مع الوجه. _________ (1) غير محررة في الأصل، وفي (ش): "بقيد". والصواب ما أثبتنا. (2) رسمها في الأصل: "تبنا". (3) في المطبوعتين: "احتياطيًّا" خلافًا للأصل.

(1/55)


فهذا تمام تقرير هذا الحديث سندًا ومتنًا, ووجه الاحتجاج به. * قال المانعون من التحديد بالقُلّتين: - أما قولكم: إنه قد صحَّ سندُه, فلا يفيد الحكم بصحته؛ لأنَّ صحّةَ السندِ شرطٌ أو جُزءُ سببٍ للعلم بالصحة لا موجِبٌ تامّ, فلا يلزم من مجرّد صحة السند صحةُ الحديث ما لم ينتفِ عنه الشذوذُ والعلة, ولم ينتفيا عن هذا الحديث. - أما الشذوذ، فإنّ هذا حديث فاصل بين الحلال والحرام, والطاهر والنجس, وهو في المياه كالأوسُق في الزكاة, والنُّصُب في الزكاة, فكيف لا يكون مشهورًا شائعًا بين الصحابة ينقله خلفٌ عن سلف, لشدة حاجة الأمة إليه أعظمَ من حاجتهم إلى نُصُب الزكاة؟ فإنَّ أكثر الناس لا تجب عليهم زكاة, والوضوء بالماء الطاهر فرض على كلِّ مسلم, فيكون الواجب نقل هذا الحديث، كنقل نجاسة البول ووجوب غسله, ونقل عدد الركعات, ونظائر ذلك. ومن المعلوم أنّ هذا لم يروه غير ابن عمر, ولا عن ابن عمر غير عبيد الله وعبد الله, فأين نافع, وسالم, وأيوب (1) , وسعيد بن جُبير؟ وأين أهل المدينة وعلماؤهم عن هذه السُّنة التي مَخْرجها من عندهم, وهم إليها أحْوَج الخلق, لعزَّة الماء عندهم؟ _________ (1) كذا في الأصل، و"أيوب" إذا أُطلق في طبقة التابعين فهو ابن أبي تميمة السَّخْتياني (ت 131) من صغار التابعين، لم يُدرك ابن عمر ولا أرسل عنه. فلعله ذكره ــ إن لم يكن وهمًا ــ لأنه كان أطلبَ الناس لحديث نافع، ومِن أوثق مَن روى عنه.

(1/56)


ومن البعيد جدًّا أن تكون هذه السُّنّة عند ابن عمر وتَخْفى على علماء أصحابه وأهل بلدته, ولا يذهب إليها أحدٌ منهم, ولا يروونها ويديرونها بينهم. ومَنْ أنصفَ لم يخفَ عليه امتناع هذا, فلو كانت هذه السنة العظيمة المقدار عند ابن عمر لكان أصحابه وأهل المدينة أقْوَل الناس بها وأرواهم لها. فأيُّ شذوذٍ أبلغ من هذا؟ وحيث لم يقل بهذا التحديد أحدٌ من أصحاب ابن عمر عُلِم أنه لم يكن فيه عنده سُنّة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا وجه شذوذه. - وأما عِلَّته فمن ثلاثة أوجه: أحدها: وَقْف مجاهد له على ابن عمر, واختُلِف فيه عليه, واختُلِف فيه على عبيد الله أيضًا رفعًا ووقفًا. ورجَّح شيخا الإسلام أبو الحجَّاج المِزِّي, وأبو العباس ابن تيمية وَقْفه (1) , ورجح البيهقي في "سننه" (2) وَقْفه من طريق مجاهد, وجعله هو الصواب. قال شيخنا أبو العباس: وهذا كلّه يدلُّ على أن ابن عمر لم يكن يحدِّث به عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن سُئل عن ذلك فأجاب بحضرة ابنه, فنقل ابنُه ذلك عنه. قلت: [ق 13] ويدلّ على وقفه أيضًا: أن مجاهدًا ــ وهو العَلَم المشهور _________ (1) انظر "مجموع الفتاوى": (21/ 35). لكنه سئل في موضع آخر (21/ 41) عنه فقال: "وأما حديث القلتين فأكثر أهل العلم بالحديث على أنه حديث حسن يحتج به، وقد أجابوا عن كلام من طعن فيه، وصنف أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي جزءًا رد فيه ما ذكره ابن عبد البر وغيره". (2) (1/ 262).

(1/57)


الثَّبْت ــ إنما رواه عنه موقوفًا. واخْتُلف فيه على عبيد الله وقفًا ورفعًا. العلة الثانية: اضطرابُ سنده, كما تقدم. العلة الثالثة: اضطراب متنه, فإنه في بعض ألفاظه: "إذا كان الماء قلتين". وفي بعضها: "إذا بلغ الماء قَدْر قلّتين أو ثلاث". والذين زادوا هذه اللفظة ليسوا بدون من سكت عنها كما تقدّم. قالوا: وأما تصحيح من صَحَّحه من الحُفّاظ, فمُعارَض بتضعيف من ضعَّفه, وممن ضَعّفه حافظُ المغرب أبو عمر بن عبد البر (1) وغيره؛ ولهذا أعرض عنه أصحابُ "الصحيح" جملةً. قالوا: وأما تقدير القُلّتين بقلال هَجَر, فلم يصحّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه شيء أصلًا. وأما ما ذكره الشافعيّ فمنقطع. وليس قوله: "بقلال هجر" فيه من كلام النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ولا أضافه الراوي إليه, وقد صرَّح في الحديث أن التفسير بها من كلام يحيى بن عقيل. فكيف يكون بيان هذا الحكم العظيم, والحدّ الفاصل بين الحلال والحرام, الذي تحتاج إليه جميع الأمة= لا يوجد إلا _________ (1) في "التمهيد": (1/ 329) وأعله بالاضطراب. وضعَّفه تقي الدين ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" قال: "هذا الحديث قد صحح بعضُهم إسنادَ بعضِ طرقه، وهو أيضًا صحيح على طريقة الفقهاء؛ لأنه وإن كان حديثًا مضطرب الإسناد، مختلفًا فيه في بعض ألفاظه ــ وهي علة عند المحدثين، إلا أن يجاب عنها بجواب صحيح ــ فإنه يمكن أن يجمع بين الروايات، ويجاب عن بعضها بطريق أصولي، وينسب إلى التصحيح، ولكن تركته ــ (يعني) في "الإلمام" ــ لأنه لم يثبت عندنا الآن بطريق استقلال ــ يجب الرجوع إليه شرعًا ــ تعيينٌ لمقدار القلتين". نقله ابن الملقن في "البدر المنير": (1/ 413).

(1/58)


بلفظ شاذٍّ بإسناد منقطع؟ وذلك اللفظ ليس من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! قالوا: وأما ذِكْرها في حديث المعراج, فمن العجب أن يُحال هذا الحدّ الفاصل على تمثيل النبي - صلى الله عليه وسلم - نَبْق السِّدْرة بها! وما الرابط بين الحُكْمين؟ وأي ملازمة بينهما؟ فلكونها (1) معلومةً عندهم معروفةً لهم مَثَّل لهم بها. وهذا من عجيب حَمْل المطلق على المقيد. والتقييد بها في حديث المعراج لبيان الواقع, فكيف يُحْمَل إطلاق حديث القلتين عليه؟ وكونها معلومةً لهم لا يوجب أن ينصرف الإطلاق إليها حيث أُطلِقَت القُلّة (2) , فإنهم كانوا يعرفونها ويعرفون غيرها. والظاهر أن الإطلاق في حديث القلتين إنما ينصرف إلى قلال البلد التي هي أعرف عندهم, وهم لها أعظم ملابسةً من غيرها, فالإطلاق إنما ينصرف إليها, كما ينصرف إطلاق النقد إلى نقد البلد دون غيره, هذا هو الظاهر, وإنما مَثَّل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بقلال هجر؛ لأنه هو الواقع في نفس الأمر, كما مَثَّل بعض أشجار الجنة بشجرة بالشام تدعى الجوزة (3) , دون النخل وغيره من _________ (1) ط. الفقي: "ألكونها"، وفي سياق العبارة شيءٌ، ولعل ما أثبته أقرب إلى صحة السياق. (2) الأصل والمطبوعات: "العلة" تصحيف، والصواب ما أثبت. (3) أخرجه أحمد (17642)، والطبراني في "الكبير": (17/ 126 - 127)، وابن حبان (6450) وغيرهم من حديث عتبة السلمي في حديث طويل في وصف الجنة. قال الهيثمي في "المجمع": (10/ 417): "رواه الطبراني في الأوسط والكبير وأحمد باختصار عنهما، وفيه عامر بن زيد البكالي، وقد ذكره ابن أبي حاتم ولم يجرحه ولم يوثقه، وبقية رجاله ثقات". وعامر ذكره ابن حبان في "الثقات": (5/ 191) وخرج له في صحيحه.

(1/59)


أشجارهم؛ لأنه هو الواقع, لا لكون الجوز أعرف الأشجار عندهم. وهكذا التمثيل بقلال هجر؛ لأنه هو الواقع, لا لكونها أعرف القلال عندهم. هذا بحمد الله واضح (1). وأما قولكم: إنها متساوية المقدار. فهذا إنما قاله الخطابي, بناءً على أنّ ذِكْرَهما تحديد, والتحديد إنما يقع بالمقادير المتساوية. وهذا دَورٌ باطل, وهو لم ينقله عن أهل اللغة ــ وهو الثقة في نقله ــ ولا أخبر به عن عِيان (2). ثم إن الواقع بخلافه, فإن القِلال فيها الكبار والصِّغار في العُرْف العام أو الغالب, ولا تُعمل بقالَبٍ واحد. ولهذا قال أكثر السلف: القُلّة: الجَرّة. وقال عاصم بن المنذر ــ أحد رواة الحديث ــ: القلالُ: الخوابي العظام (3). _________ (1) قال الحافظ في "التلخيص الحبير": (1/ 30): "فإن قيل: أي ملازمة بين هذا التشبيه وبين ذكر القلة في حد الماء؟ فالجواب: أن التقييد بها في حديث المعراج دال على أنها كانت معلومة عندهم بحيث يضرب بها المثل في الكِبَر، كما أن التقييد إذا أطلق إنما ينصرف إلى التقييد المعهود. وقال الأزهري: القلال مختلفة في قرى العرب وقلال هجر أكبرها. وقال الخطابي: قلال هجر مشهورة الصنعة معلومة المقدار .. والقلة لفظ مشترك، وبعد صَرْفها إلى أحد معلوماتها وهي الأواني تبقى مترددة بين الكبار والصغار، والدليل على أنها من الكبار: جعل الشارع الحد مقدّرًا بعدد، فدلّ على أنه أشار إلى أكبرها؛ لأنه لا فائدة في تقديره بقلتين صغيرتين مع القدرة على تقديره بواحدة كبيرة. والله أعلم" اهـ. (2) "عن" سقطت من ط. الفقي، وفي الأصل: "عنان". (3) أخرجه الدارقطني: (31)، والبيهقي: (1/ 264).

(1/60)


وأما تقديرها بِقِرَب الحجاز، فلا ننازعكم فيه, ولكن الواقع أنه قَدّر قُلَّةً من القلال بقِرْبتين من القِرَب فرآها تَسَعُهما, فهل يلزم من هذا أنَّ كلَّ قُلَّة من قلال هَجَر تأخذ كلّ (1) قِربتين من قرب الحجاز؟ وأن قِرَب الحجاز كلّها على قَدْر واحد, ليس فيها صغار وكبار؟ ومَن جعلها متساويةً فإنما مستنده أن قال: التحديد لا يقع بالمجهول, فيا سبحان الله! هذا إنما يتمّ أن لو كان التحديدُ مستندًا إلى صاحب الشرع, فأمّا والتقدير بقلال هَجَر وقِرَب الحجاز تحديدُ يحيى بن عقيل وابن جُريج, فكان ماذا؟! وأما تقرير كون المفهوم حجَّة, فلا تنفعكم مساعدتنا عليه, إذ المساعدة على مقدّمة من مقدمات الدليل لا تستلزم المساعدة على الدليل. وأما تقديمكم له على العموم فممنوع, وهي مسألة نزاع بين الأصوليين والفقهاء, وفيها قولان معروفان (2). ومنشأ النزاع: تعارض خصوص المفهوم وعموم النّطق (3) , فالخصوص يقتضي التقديم, والنّطق يقتضي الترجيح. فإن رجّحتم المفهومَ بخصوصه, رجّح منازعوكم العموم بمنطوقه. ثم الترجيح معهم هاهنا للعموم من وجوه: أحدها: أن حديثه أصح. الثاني: أنه موافق للقياس الصحيح. _________ (1) سقطت من ط. الفقي. (2) انظر "المسودة" (ص 142 - 144) و"إرشاد الفحول": (2/ 694 - 696). (3) ط. الفقي: "المنطوق" في الموضعين، خلافًا للأصل.

(1/61)


الثالث: أنه موافقٌ لعمل أهل المدينة قديمًا وحديثًا, فإنه لا يُعرف عن أحدٍ منهم أنه حدّ (1) الماء بقُلَّتين. وعملهم بترك التحديد في المياه عمل نقليّ (2) خلفًا عن سلف, فجرى مجرى نقلهم الصاعَ والمُدَّ والأحباس (3) وتركَ أخذِ الزكاة من الخضروات. وهذا هو الصحيح المحتجّ به من إجماعهم, دون ما طريقُه الاجتهاد والاستدلال، فإنّهم وغيرهم فيه سواء, وربما تَرَجّح غيرُهم عليهم, وتَرجَّحوا هم على غيرهم. فتأمل هذا الموضع. فإن قيل: ما ذكرتم من الترجيح فمَعَنا من الترجيح ما يقابله, وهو أن المفهوم هنا قد تأيَّد بحديث النهي عن البول في الماء الرَّاكد (4) , والأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلبُ, والأمرُ بغسل اليد من نوم الليل (5). فإنّ هذه الأحاديث تدلّ على أن الماء يتأثر بهذه الأشياء وإن لم يتغيَّر, ولا سبيل إلى تأثر كلِّ ماءٍ بها, بل لا بدّ من تقديره, فتقديره بالقُلّتين أولى من تقديره بغيرهما؛ لأنّ التقديرَ [ق 14] بالحركة والأذرع المعينة وما يمكن نَزْحُه وما لا يمكن= تحكّمات (6) باطلة لا أصل لها, وهي غير منضبطة في نفسها, فرُبَّ حركةٍ تُحرِّك غديرًا عظيمًا من الماء, وأخرى تحرِّك مقدارًا يسيرًا منه, _________ (1) ط. الفقي: "حدد" خلافًا للأصل. (2) في الأصل والمطبوعات: "عملًا نقليًّا" والوجه ما أثبت. (3) ط. الفقي: "والأجناس" خطأ. والأحباس هي الأوقاف. ينظر: "مجموع الفتاوى": (20/ 306). (4) أخرجه البخاري (239)، ومسلم (282) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (5) تقدم تخريجهما (ص 53 - 54). (6) ط. الفقي: "تقديرات" خلافًا للأصل.

(1/62)


بحَسَب المحرِّك والمتحرِّك. وكذا (1) التقدير بالأذرع تحَكُّمٌ محضٌ لا سنّةٌ ولا قياس, وكذا التقدير بالنّزْح الممكن مع عدم انضباطه, فإن عشرة آلاف مثلًا يمكنهم نَزْح ما لا ينزحه عشرة (2) , فلا ضابط له. وإذا بطلت هذه التقديرات ــ ولا بدّ من تقدير ــ، فالتقدير بالقلَّتين أولى لثبوته, إما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإما عن الصحابة (3). قيل: هذا السؤال مبنيّ على مقامات: أحدها: أنَّ النهي في هذه الأحاديث مستلزم لنجاسة الماء بالمنهي عنه. والثاني: أنّ هذا التنجيس لا يعمّ كلّ ماء, بل يختص ببعض المقادير (4) دون بعض. والثالث: أنه إذا تعيّن التقدير, كان تقديره بالقُلَّتين هو المتعيّن. فأما المقام الأول فنقول: ليس في شيء من هذه الأحاديث أن الماء ينجُس بمجرَّد ملاقاة البول، والولوغ، وغَمْس اليد فيه. أما النهي عن البول فيه، فليس فيه دلالة على أن الماء كلَّه ينجس بمجرَّد ملاقاة البول لبعضه, بل قد يكون ذلك لأن البول سببٌ لتنجيسه, فإنّ الأبوال متى كثرت في المياه الدائمة أفسدَتْها, ولو كانت قلالًا عظيمة. فلا يجوز أن يُخصّ نهيه بما دون _________ (1) ط. الفقي: "وهذا" خلافًا للأصل. (2) رسمه في الأصل هنا والموضع السابق يشبه: "غيره"، فأثبته في ط. الفقي هنا: "غيرهم". (3) في المطبوعتين زيادة: "رضي الله تعالى عنهم" ولا وجود لها في الأصل. (4) ط. الفقي: "المياه" تصحيف.

(1/63)


القلَّتين, فيجوز للناس أن يبولوا في القلَّتين فصاعدًا, وحاشى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يكون نهيه خرج على ما دون القلتين, ويكون قد جَوَّز للناس البولَ في كلّ ما (1) بلغ القلتين أو زاد عليهما, وهل هذا إلا إلغاز في الخطاب أن يقول: "لا يبولنَّ أحدُكم في الماء الدائم الذي لا يجري"، ومراده من هذا اللفظ العام: أربعمائة رطل بالعراقيِّ أو خمسمائة, مع ما يتضمَّنه التجويز من الفساد العام وإفساد موارد الناس ومياههم عليهم؟ وكذلك حَمْله على ما لا يمكن نزحُه, أو ما لا يتحرَّك أحدُ طرفيه بحركةِ طرفه الآخر. وكلّ هذا خلاف مدلول الحديث, وخلاف ما عليه الناس وأهل العلم قاطبة، فإنهم ينهون عن البول في هذه المياه وإن كان مجرَّد البول لا ينجّسها, سدًّا للذريعة. فإنه إذا مُكِّن الناسُ من الأبوال في هذه المياه وإن كانت كبيرة عظيمة لم تلبث أن تتغيّر وتفسد على الناس, كما رأينا من تغيّر الأنهار الجارية بكثرة الأبوال. وهذا كما نهى عن إفساد ظِلالهم عليهم بالتخلِّي فيها, وإفساد طرقاتهم بذلك (2). فالتعليل بهذا أقرب إلى ظاهر لفظه ومقصوده, وحِكْمته بنهيه, ومراعاته مصالحَ العباد, وحمايتهم مما يفسد عليهم ما يحتاجون إليه من مواردهم وطرقاتهم وظِلالهم, كما نهى عن إفساد ما يحتاج إليه الجنّ من طعامهم وعَلَف دوابّهم (3). فهذه علّة معقولة تشهد لها العقول والفِطَر, ويدلّ عليها تصرّف الشرع _________ (1) ط. الفقي: "ماء". وهو محتمل. (2) أخرجه مسلم (269) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (3) أخرجه مسلم (450) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -.

(1/64)


في موارده ومصادره, ويقبلها كلّ عقل سليم, ويشهد لها بالصحَّة. وأما تعليل ذلك بمائة وثمانية أرطال بالدمشقي, أو بما يتحرّك أو لا يتحرّك, أو بعشرين ذراعًا مُكسَّرة (1) , أو بما لا يمكن نزحُه فأقوالٌ كلٌّ منها بكلٍّ مُعَارَضٌ, وكلٌّ بكلٍّ مُناقَض, لا يُشَمّ منها رائحة الحكمة, ولا يُشام منها بوارق المصلحة, ولا يَتَعطَّل بها المفسدة المَخُوفة. فإنّ الرجل إذا علم أن النهي إنما تناول هذا المقدار من الماء، لم يبق عنده وازع ولا زاجر عن البول فيما هو أكثر منه. وهذا يرجع على مقصود صاحب الشرع بالإبطال. وكلّ شرط أو علة أو ضابط رجع (2) على مقصود الشارع بالإبطال كان هو الباطل المحال. ومما يدلّ على هذا: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ذكر في النهي وصفًا يدلّ على أنه هو المعتبر في النهي، وهو كون الماء "دائمًا لا يجري" ولم يقتصر على قوله: "الدائم" حتى نَبّه على العلة بقوله: "لا يجري"، فتقف النجاسة فيه, فلا يذهب بها. ومعلومٌ أنَّ هذه العلة موجودة في القلتين وفيما زاد عليهما. والعجب من مناقضة المحدّدين بالقلتين لهذا المعنى, حيث اعتبروا القلتين حتى في الجاري, وقالوا: إن كانت الجَرْية قُلّتين فصاعدًا لم تتأثر بالنجاسة, وإن كانت دون القُلّتين تأثرت, وأَلْغَوا كون الماء جاريًا أو واقفًا, _________ (1) في الأصل و ط. المعارف: "مكثّرة"، وفي ش: "بكثرة"، وأثبتها الفقي في طبعته بالسين على الصواب. ومعنى "عشرين ذراعًا مكسّرة" أي: عشرين ذراعًا في عشرين ذراعًا. فهي عبارة يستعملها الحُسّاب في ضرب عددٍ في مثله. انظر: "طلبة الطلبة" للنسفي (ص 267). (2) في ط: "يرجع" والرسم في الأصل محتمل، والمثبت موافق لما في (ش).

(1/65)


وهو الوصف الذي اعتبره الشارع. واعتبروا في الجاري والواقف القلتين، والشارع لم يعتبره, بل اعتبر الوقوف والجَرَيان. فإن قيل: فإذا لم تخصصوا الحديثَ ولم تقيِّدوه بماء دون ماء, لزمكم المحال, وهو أن يُنهى عن البول في البحر, لأنه دائم لا يجري. قيل: ذِكره - صلى الله عليه وسلم - الماءَ الدائم الذي لا يجري تنبيهٌ على أن حِكْمة النهي إنما هي ما يُخشَى من إفساد مياه الناس عليهم, وأن النهي إنما تعلَّق بالمياه الدائمة التي من شأنها أن يُفسدها الأبوال. فأما الأنهار العِظام والبحار فلم يدل نهي النبي - صلى الله عليه وسلم -[عليها] (1) بوجه, بل لمَّا دلَّ كلامُه بمفهومه على جواز البول في الأنهار العظام كالنيل والفرات، فجواز البول في البحار أولى وأحرى. [ق 15] ولو قُدِّر أن هذا تخصيص لعموم كلامه, فلا يستريب عاقل أنه أولى من تخصيصه بالقُلّتين، أو ما لا يمكن نزحُه, أو ما لا تبلغ الحركةُ طرفيه؛ لأنّ المفسدة المنهيّ لأجلها لا تزول في هذه المياه, بخلاف ماء البحر فإنه لا مفسدة في البول فيه. وصار هذا بمنزلة نهيه عن التخلِّي في الظل (2)، وبوله - صلى الله عليه وسلم - في ظلِّ الشجرتين (3)، واستتاره بجِذْم الحائط (4) , فإنه _________ (1) زيادة يستقيم بها المعنى. (2) تقدم تخريجه. (3) أخرجه مسلم (3012) ضمن حديث طويل من حديث جابر - رضي الله عنه -. (4) ولفظه: عن أبي موسى قال: إني كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فأراد أن يبول، فأتى دَمِثًا في أصل جدار فبال، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أراد أحدكم أن يبول فلْيَرْتد لبوله موضعًا". أخرجه أبو داود (3)، والحاكم: (3/ 465 - 466)، والبيهقي: (1/ 93) من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -. وصحّحه الحاكم. وقال المنذري في "مختصره": (1/ 15): فيه مجهول. وجِذْم الحائط: أصله وأساسه. "المصباح المنير" (ص 36 - 37).

(1/66)


نهى عن التخلِّي في الظل النافع, وتخلَّى مستترًا (1) بالشجرتين والحائط, حيث لم ينتفع أحدٌ بظلِّهما, فلم يُفسد ذلك الظلَّ على أحد. وبهذا الطريق يُعْلَم أنه إذا كان - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن البول في الماء الدائم, مع أنه قد يحتاج إليه, فَلَأنْ ينهى عن البول في إناء ثم صبّه فيه بطريق الأولى. ولا يستريب في هذا مَن عَلِم حكمةَ الشريعة, وما اشتملت عليه مِن مصالح العباد ونصائحهم. ودع الظاهريةَ البحتةَ, فإنها تقسّي القلوب, وتحجبها عن رُؤية محاسن الشريعة وبهجتها, وما أودعته من الحِكَم والمصالح، والعدل والرحمة. وهذه الطريق التي جاءتك عفوًا تنظر إليها نَظَر مُتّكئ على أريكته قد تَقَطَّعَت في مفاوزها أعناقُ المَطي, لا يسلكها في العالَم إلا الفرد بعد الفرد, ولا يعرف مقدارَها إلَّا (2) من أقْرَحَت قلبَه الأقوالُ المختلفة, والاحتمالات المتعدِّدة, والتقديرات المستبعدة. فإن علت هِمّتُه جعل مذهبَه عُرضةً للأحاديث النبوية, وخِدْمته بها, وجعله أصلًا محكمًا يردّ إليه متشابهها, فما _________ (1) في الأصل: "مشيرًا" خطأ. (2) كذا في الأصل، وأسقطت (إلا) من المطبوعات. ويكون المعنى بإثباتها: أنه لا يعرف مقدار هذه الطرق إلا من تعب في النظر في الأقوال المختلفة، والاحتمالات ... فلما وجد هذه الطريق عرف قيمتها. لكن يشكل عليه بقية الكلام: "فإن علت همته ... "، فإنه لا يستقيم المعنى إلا بحذف "إلا"، أي: أنه لا يعرف مقدار هذه الطريق من فسد قلبه لامتلائه بكثرة الاحتمالات والتأويلات البعيدة .. إلخ.

(1/67)


وافقه منها قَبِلَه, وما خالفه تكلَّفَ له وجوهًا لردّ (1) الجميل, فما أتعبه من شقاء, وما أقلّ فائدته! ومما يُفْسِد قولَ المحدِّدين بقُلّتين: أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن البول في الماء الدائم ثم يغتسل البائل فيه بعد البول. هكذا لفظ "الصحيحين": "لا يبولنَّ أحدُكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه" (2). وأنتم تجوِّزون أن يُغتسل في ماءٍ دائمٍ قدر القُلَّتين بعدما بال فيه. وهذا خلافٌ صريح للحديث. فإن منعتم الغسل فيه، نقضتم أصلكم, وإن جَوَّزتموه خالفتم الحديثَ. فإن جَوَّزتم البولَ والغُسل خالفتم الحديث من الوجهين جميعًا. ولا يقال: فهذا بعينه وارد عليكم، لأنه إذا بال في الماء اليسير ولم يتغيَّر جوَّزتم له الغُسْل فيه؛ لأنا لم نُعلّل النهيَ بالتنجيس, وإنما عللناه بإفضائه إلى التنجيس, كما تقدم, فلا يَرِد علينا هذا. وأما إذا كان الماء كثيرًا، فبال في ناحيةٍ ثم اغتسل في ناحية أخرى لم يَصِل إليها البول, لم (3) يدخل في الحديث؛ لأنه لم يغتسل في الماء الذي بال فيه, وإلا لزم إذا بال في ناحية من البحر أن لا يغتسل فيه أبدًا, وهو فاسد. وأيضًا فالنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الغسل فيه بعد البول, لما يُفْضي إليه من إصابة البول له. ونظير هذا: نهيه أن يبول الرجل في مستحمِّه. وذلك لما يفضي إليه من تطاير رشاش الماء الذي يصيب البول, فيقع في الوسواس, كما في _________ (1) ط. الفقي: "بالرد غير الجميل" خلافًا للأصل. (2) تقدم تخريجه. (3) في المطبوعتين: "فلا" خلاف الأصل.

(1/68)


الحديث: "فإنّ عامّة الوَسْواس منه" (1). حتى (2) لو كان المكان مبلّطًا لا تستقر فيه البولة, بل تذهب مع الماء، لم يكره ذلك عند جمهور الفقهاء. ونظيرُ هذا: منع البائل أن يستجمر أو يستنجي موضع بوله, لما يفضي إليه من التلوث بالبول. ولم يُرِد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بنهيه الإخبارَ عن نجاسة الماء الدائم بالبول, فلا يجوز تعليل كلامه بعلة عامة تتناول ما لم ينه عنه. والذي يدلّ على ذلك: أنه قيل له في بئر بُضاعة: أنتوضأ منها وهي بئر يُلقى فيها الحِيَض ولحوم الكلاب وعَذِر الناس؟ فقال: "الماء طهور لا ينجّسه شيء" (3). فهذا نصّ صحيح صريح على أن الماء لا يَنجُس بملاقاة النجاسة, مع كونه واقفًا, فإن بئر بُضاعة كانت واقفة, ولم يكن على عهده بالمدينة ماء جارٍ أصلًا. فلا يجوز تحريم ما أباحه وفَعَله قياسًا على ما نَهى عنه, ويُعارَضَ أحدهما بالآخر, بل يستعمل هذا وهذا؛ هذا (4) في موضعه, وهذا في موضعه. ولا تُضرب سنةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعضها ببعض. فوضوؤه من بئر بضاعة ــ وحالُها ما ذكروه له ــ دليلٌ على أن الماء لا يتنجَّس بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغيَّر. ونهيُه عن الغسل في الماء الدائم بعد _________ (1) أخرجه أبو داود (27)، والترمذي (21)، والنسائي (36)، وابن ماجه (304)، وأحمد (20569) وغيرهم من حديث عبد الله بن مغفّل. قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الأشعث بن عبد الله، وصححه ابن حبان والحاكم، إلا أن قوله: "فإن عامة الوسواس منه" موقوف لا يصح رفعه. (2) كذا في الأصل، والسياق يقتضي: "لكن". (3) تقدم تخريجه. (4) عليها علامة التصحيح في الأصل، لئلا يُظن أن "هذا" مكررة.

(1/69)


البول فيه, لِمَا ذكرنا من إفضائه إلى تلوثه بالبول, كما ذكرنا عنه التعليلَ بنظيره, فاستعملنا السننَ على وجوهها. وهذا أولى من حَمْل حديث بئر بُضاعة على أنه كان أكثر من قُلّتين؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلل بذلك, ولا أشار إليه, ولا دلّ كلامه عليه بوجه. وإنما علل بطهورية الماء, وهذه عِلّة مُطَّردة في كلّ ماء، قلّ أو كثر. ولا يَرِدُ المتغيِّر؛ لأن ظهور النجاسة فيه يدلّ على تنجّسه بها, فلا يدخل في الحديث, على أنه محل وفاق فلا يُناقض به. وأيضًا: فلو أراد - صلى الله عليه وسلم - النهي عن استعمال الماء الدائم اليسير إذا وقعت فيه أيُّ نجاسةٍ كانت، لأتى بلفظٍ يدلّ عليه. ونهيه عن الغسل فيه بعد البول لا يدلّ على مقدارٍ ولا تنجيس, فلا يُحمَّل ما لا يحتمله. ثم إنّ كل مَن قَدَّر الماءَ المتنجِّس بقَدْرٍ خالف [ق 16] ظاهر الحديث (1)، فأصحاب الحركة خالفوه بأن قدَّروه بما لا يتحرَّك طرفاه, وأصحاب النزح خصّوه بما لا يمكن نزحُه, وأصحاب القلتين خصّوه بمقدار القلتين. وأسعد الناس بالحديث مَن حَمَله على ظاهره ولم يخصّه ولم يقيّده, بل إن كان تواتر الأبوال فيه يفضي إلى إفساده منع من جوازهما, وإلا منع من اغتساله في موضع بوله كالبحر, ولم يمنع من بوله في مكان واغتساله في غيره. وكلّ من استدلّ بظاهر هذا الحديث على نجاسة الماء الدائم لوقوع النجاسة فيه، فقد ترك مِن ظاهر الحديث ما هو أَبْيَن دلالة مما قال به, وقال بشيءٍ لا يدلّ عليه لفظ الحديث؛ لأنه إن عمَّم النهيَ في كلِّ ماءٍ بطل _________ (1) يعني: حديث النهي عن البول في الماء الدائم ثم الاغتسال فيه.

(1/70)


استدلاله بالحديث, وإن خصَّه بقَدْرٍ خالف ظاهره وقال ما لا دليل عليه, ولزمه أن يُجوِّز البولَ فيما عدا ذلك القَدْر، وهذا لا يقوله أحد. فظهر بطلان الاستدلال بهذا الحديث على التنجيس بمجرَّد الملاقاة على كلِّ تقدير. وأما مَن قدّره بالحركة, فيدلّ على بطلان قوله أن الحركة مختلفة اختلافًا لا ينضبط, والبول قد يكون قليلًا وكثيرًا, ووصول النجاسة إلى الماء أمر حِسّي, وليس تقديره بحركة الطهارة الصغرى أو الكبرى أولى من سائر أنواع الحركات. فيا لله للعجب! حركة الطهارة ميزان وعيار على وصول النجاسة وسَرَيانها, مع شدة اختلافها! ونحن نعلم بالضرورة أن حركة المغتسل تصل إلى موضع لا تصل إليه القطرة من البول, ونعلم أن البولة الكبيرة تصل إلى مكان لا تصل إليه الحركة الضعيفة, وما كان هكذا لم يجز أن يُجْعَل حدًّا فاصلًا بين الحلال والحرام. والذين قدَّروه بالنَّزْح أيضًا قولهم باطل, فإن العسكر العظيم يمكنهم نزح ما لا يمكن الجماعة القليلة نزحُه. وأما حديث ولوغ الكلب، فقالوا: لا يمكنكم أن تحتجوا به علينا, فإنه ما منكم إلا من خالفه أو قَيَّده أو خصَّصه فخالف ظاهره. فإن احتجَّ به علينا من لا يوجب التسبيع ولا التراب كان احتجاجه باطلًا، فإن الحديث إن كان حجة له في التنجيس بالملاقاة, فهو حجة عليه في العدد والتراب. فأما أن يكون حجة له فيما وافق مذهبه, ولا يكون حجة عليه فيما خالفه، فكلَّا.

(1/71)


ثم هم يخصّونه بالماء الذي لا تبلغ الحركة طرفيه, وأين في الحديث ما يدل على هذا التخصيص؟! ثم يظهر تناقضهم من وجه آخر، وهو أنه إذا كان الماء رقيقًا جدًّا, وهو منبسط انبساطًا لا تبلغه الحركة: أن يكون طاهرًا ولا يؤثر الولوغ فيه, وإذا كان عميقًا جدًّا وهو متضايق, بحيث تبلغ الحركة طرفيه: أن يكون نجسًا, ولو كان أضعافَ أضعافِ الأول. وهذا تناقض بيِّن لا محيدَ عنه. قالوا: وإن احتجّ به من يقول بالقلتين فإنه يخصِّصه بما دون القلتين, ويحمل الأمر بغسله وإراقته على هذا المقدار, ومعلومٌ أنه ليس في اللفظ ما يُشْعر بهذا بوجه ولا يدل عليه بواحدة من الدلالات الثلاث. وإذا كان لا بدَّ لهم من تقييد الحديث، وتخصيصه، ومخالفة ظاهره = كان أسعدُ الناس به من حَمَله على الولوغ المعتاد في الآنية المعتادة التي يمكن إراقتها, وهو ولوغ متتابع في آنية صغار، يتحلل مِن فم الكلب في كلِّ مرة ريق ولعاب نجس يخالط الماء, ولا يخالف لونُه لونَه فيظهرَ فيه التغير, فتكون أعيان النجاسة قائمةً بالماء وإن لم تُرَ, فأمر بإراقته وغسل الإناء. فهذا المعنى أقرب إلى الحديث وأَلْصَق به, وليس في حَمْله عليه ما يخالف ظاهره، بل الظاهر أنه إنما أراد الآنية المعتادة التي تُتّخذ للاستعمال فيَلَغ فيها الكلاب. فإن كان حمله على هذا موافَقةً للظاهر فهو المقصود. وإن كان مخالفةً للظاهر, فلا ريب أنه أقلّ مخالفة مِن حَمْله على الأقوال المتقدمة. فيكون أولى على التقديرين. قالوا: وأما حديث النهي عن غمس اليد في الإناء عند القيام من النوم, فالاستدلال به أضعف من هذا كلّه, فإنه ليس في الحديث ما يدل على

(1/72)


نجاسة الماء، وجمهور الأمة على طهارته, والقول بنجاسته من أشذّ الشاذّ, وكذا القول بصيرورته مستعملًا ضعيف أيضًا, وإن كان إحدى الروايتين عن أحمد, واختيارَ القاضي وأتباعه, واختيار أبي بكر وأصحاب أحمد، فإنه ليس في الحديث دليل على فساد الماء. وقد بينّا أن النهي عن البول فيه لا يدلّ على فساده بمجرَّد البول, فكيف بغَمْس اليد فيه من (1) النوم؟ وقد اختلف في النهي عنه, فقيل: تعبُّد. ويَردّ هذا القول: أنه معلَّل في الحديث بقوله: "فإنه لا يدري أين باتت يده". وقيل: معلَّل باحتمال النجاسة, كبَثْرة في يديه, أو مباشرة اليد لمحل الاستجمار. وهو ضعيف أيضًا، لأن النهي عام للمستنجي والمستجمرِ, والصحيحِ وصاحبِ البثرات، فيلزمكم أن تخصوا النهي بالمستجمرِ, وصاحبِ البثور! وهذا لم يقله أحد. وقيل ــ وهو الصحيح ــ: إنه مُعلّل بخشية مبيت الشيطان على يده, أو مبيتها عليه. وهذه العلة نظير تعليل صاحب الشرع [ق 17] الاستنشاق بمبيت الشيطان على الخيشوم، فإنه قال: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليستنشق بمِنْخَريه من الماء, فإن الشيطان يبيت على خيشومه" متفق عليه (2). وقال هنا: "فإن أحدَكم لا يدري أين باتت يده"، فعلّل بعدم الدراية بمحلّ المبيت. وهذا السبب ثابت في مبيت الشيطان على الخيشوم، فإنّ اليد إذا باتت _________ (1) غير محررة في الأصل وتحتمل "حين" أو ما أثبتّ، وفي المطبوعتين: "فيه بعد القيام من ... " خلافًا للأصل. (2) أخرجه البخاري (3295) بنحوه وذكره بلفظه معلقًا في أحد تبويباته (3/ 31)، ومسلم (237) بلفظه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

(1/73)


ملابِسةً للشيطان لم يَدْر صاحبها أين باتت. وفي مبيت الشيطان على الخيشوم وملابسته لليد سرٌّ يعرفه من عرف أحكام الأرواح, واقتران الشياطين بالمحالِّ التي تُلابسها, فإنّ الشيطان خبيث يناسبه الخبائث, فإذا نام العبد لم يُرَ في ظاهر جسده أوسخ من خيشومه, فيستوطنه في المبيت. وأما ملابسته ليده، فلأنها أعمّ الجوارح كسبًا وتصرّفًا ومباشرةً لِمَا يأمر به الشيطان من المعصية, فصاحبها كثير التصرّف والعمل بها, ولهذا سميت: جارحة؛ لأنه يجرح بها, أي يكسب. وهذه العلة لا يعرفها أكثر الفقهاء, وهي كما ترى وضوحًا وبيانًا. وحسبك شهادة النصّ لها بالاعتبار. والمقصود أنه لا دليل لكم في الحديث بوجه ما, والله أعلم. وقد تبين بهذا جواب المقام الثاني والثالث. فلنرجع إلى الجواب عن تمام الوجوه الخمسة عشر (1) , فنقول: * وأما تقديمكم للمفهوم من حديث القلتين على القياس الجلي, فمما يخالفكم فيه كثير من الفقهاء والأصوليين, ويقولون: القياس الجلي مقدَّم عليه, وإذا كانوا يقدمون القياس على العموم الذي هو حجة بالاتفاق, فَلَأن يقدّم على المفهوم المختَلَف في الاحتجاج به أولى. ثم لو سلّمنا تقديم المفهوم على القياس في صورةٍ ما, فتقديم القياس هاهنا متعيّن لقُوَّته, ولتأيُّده بالعمومات, ولسلامته من التناقض اللازم لمن قَدَّم المفهوم, كما سنذكره, ولموافقته لأدلة الشرع الدالّة على عدم التحديد بالقُلّتين. فالمصير إليه أولى لو كان وحده, فكيف بما معه من الأدلة؟ _________ (1) انظر هذه المقامات (ص 49 - 50)، والجواب عنها من (ص 50 فما بعدها).

(1/74)


وهل يُعارِض مفهومٌ واحد لهذه الأدلة من الكتاب والسنة والقياس الجلي واستصحاب الحال وعمل أكثر الأمة، مع اضطراب أصل منطوقه وعدم براءته من العلة والشذوذ؟ قالوا: وأما دعواكم أن المفهوم عامّ في جميع الصور المسكوت عنها, فدعوى لا دليل عليها، فإن الاحتجاج بالمفهوم يرجع إلى حرفين: التخصيص, والتعليل, كما تقدم. ومعلوم أنه إذا ظهر للتخصيص فائدة بدون العموم بقيت دعوى العموم باطلة, لأنها دعوى مجرَّدة, ولا لفظ معنا يدلّ عليها. وإذا عُلِم ذلك فلا يلزم من انتفاء حكم المنطوق انتفاؤه عن كُلّ فردٍ فردٍ من أفراد المسكوت, لجواز أن يكون فيه تفصيل، فينتفي عن بعضها ويثبت لبعضها, ويجوز أن يكون ثابتًا لجميعها بشرطٍ ليس في المنطوق, فتكون فائدة التخصيص به الدلالةَ على ثبوت الحكم له مطلقًا, وثبوتِه للمفهوم بشرط، فيكون المنفيّ عنه الثبوتَ المطلق, لا مطلقَ الثبوتِ. فمن أين جاء العموم للمفهوم, وهو من عوارض الألفاظ؟ وعلى هذا عامة المفهومات؛ فقوله تعالى: {لَا (1) تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] لا يدلّ المفهوم على أن بمجرَّد نكاحها الزوج الثاني تحلّ له. وكذا قوله: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33] لا يدل على عدم الكتابة عند عدم هذا الشرط مطلقًا. وكذا قوله: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} [النور: 33]. ونظائره أكثر من أن تُحصى. وكذلك إن سلكت طريقة التعليل، لم يلزم العموم أيضًا, فإنه يلزم من _________ (1) كذا في الأصل، والتّلاوة: "فلا ... ".

(1/75)


انتفاء العلة انتفاء معلولها, ولا يلزم انتفاء الحكم مطلقًا, لجواز ثبوته بوصفٍ آخر. وإذا ثبت هذا، فمنطوق حديث القُلّتين لا ننازعكم (1) فيه, ومفهومه لا عموم له. فبطل الاحتجاج به منطوقًا ومفهومًا. وأما قولكم: إنَّ العدد خرج مخرج التحديد والتقييد ــ كنُصُب الزكوات ــ فهذا باطل من وجوه: أحدُها: أنه لو كان هذا مقدارًا فاصلًا بين الحلال والحرام, والطاهر والنجس, لوجبَ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بيانُه بيانًا عامًّا متتابعًا تعرفه الأمة, كما بيَّن نُصُب الزكوات, وعدد الجَلْد في الحدود, ومقدار ما يستحقّه الوارث, فإن هذا أمر يعمّ الابتلاء به كلَّ الأمة. فكيف لا يبينه حتى يتفق سؤالُ سائلٍ له عن قضية جُزئية فيجيبه بهذا, ويكون ذلك حدًّا عامًّا للأمة كلها لا يسع أحدًا جهله, ولا تتناقله الأمة, ولا يكون شائعًا بينهم, بل يُحالون فيه على مفهوم ضعيف, شأنه ما ذكرناه, قد خالفَتْه العموماتُ والأدلةُ الكثيرة, ولا يعرفه أهل بلدته, ولا أحد منهم يذهب إليه؟ الثاني: أن الله سبحانه وتعالى قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] وقال: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] فلو كان الماء الذي لم يتغيّر بالنجاسة [ق 18] منه ما هو حلال ومنه ما هو حرام, لم يكن في هذا الحديث بيان للأمة ما يتقون, ولا كان قد فَصَّل لهم ما حَرَّم عليهم. فإن المنطوقَ من حديث القُلّتين _________ (1) الأصل: "لا يثار علم" تحريف.

(1/76)


لا دليل فيه, والمسكوتَ عنه كثيرٌ من أهل العلم يقولون: لا يدلّ على شيء, فلم يحصل لهم بيان ولا فَصْلُ الحلال من الحرام. والآخرون يقولون: لا بدّ من مخالفة المسكوت للمنطوق, ومعلومٌ أن مطلق المخالفة لا يستلزم المخالفة المطلقة الثابتة لكلِّ فردٍ فردٍ من المسكوت عنه, فكيف يكون هذا حدًّا فاصلًا؟ فتبيّن أنه ليس في المنطوق ولا في المسكوت فصلٌ ولا حدّ. الثالث: أن القائلين بالمفهوم إنما قالوا به إذا لم يكن هناك سبب اقتضى التخصيصَ بالمنطوق, فلو ظهر سبب يقتضي التخصيص به لم يكن المفهوم معتبرًا, كقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31]، فذكر هذا القيد لحاجةِ المخاطَبين إليه, إذ هو الحامل لهم على قتلهم, لا لاختصاص الحكم به. ونظيره: {لَا (1) تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] ونظائره كثيرة. وعلى هذا فيحتمل أن يكون ذِكْر القلّتين وقع في الجواب لحاجة السائل إلى ذلك, ولا يمكن الجزم بدفع هذا الاحتمال. نعم لو أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال هذا اللفظ ابتداءً من غير سؤال اندفع (2) هذا الاحتمال. الرابع: أن حاجة الأمة ــ حَضَرِها وبَدْوها, على اختلاف أصنافها ــ إلى معرفة الفَرْق بين الطاهر والنجس ضرورية, فكيف يُحالون في ذلك على ما _________ (1) الأصل: "ولا". (2) ط. الفقي: "لاندفع" خلاف الأصل.

(1/77)


لا سبيل لأكثرهم إلى معرفته؟ فإن الناس لا يكيلون (1) الماء, ولا يكادون يعرفون مقدار القلتين ولا طولها, ولا عرضها, ولا عمقها! فإذا وقعت في الماء نجاسة فما يدريه أنه قلتان؟ وهل تكليف ذلك إلا من باب علم الغيب, وتكليف ما لا يُطاق! فإن قيل: يستظهر حتى يغلب على ظنه أنه قُلّتان. قيل: ليس هذا شأن الحدود الشرعية, فإنها مضبوطة لا يُزاد عليها ولا يُنْقَص منها, كعدد الجَلَدات, ونُصُب الزكوات, وعدد الركعات, وسائر الحدود الشرعية. الخامس: أن خواصّ العلماء إلى اليوم لم يستقرّ لهم قَدَم على قولٍ واحد في القُلّتين؛ فمِنْ قائل: ألف رطل بالعراقي, ومِن قائل: ستمائة رطل, ومن قائل: خمسمائة, ومن قائل: أربعمائة. وأعجب مِن هذا جَعْل هذا المقدار تحديدًا! فإذا كان العلماء قد أشكل عليهم قَدْر القُلّتين, واضطربت أقوالُهم في ذلك, فما الظنّ بسائر الأمة؟ ومعلوم أنّ الحدود الشرعية لا يكون هذا شأنها. السادس: أن المُحدّدين يلزمهم لوازم باطلة شنيعة جدًّا: منها: أن يكون ماء واحد إذا ولغ فيه الكلب يَنجُس! وإذا بال فيه لم ينجّسه! ومنها: أن الشَّعْرة من الميتة إذا كانت نجسة فوقعت في قُلّتين إلا رطلًا مثلًا = أن يَنجُس الماء, ولو وقع رطل بول في قلتين لم ينجّسه! ومعلوم أن _________ (1) في الطبعتين: "يكتالون" خلافًا للأصل.

(1/78)


تأثّر الماء بهذه النجاسة أضعافُ تأثره بالشعرة, فمحال أن يجيء شرعٌ بتنجُّس الأول وطهارة الثاني. وكذلك ميتة كاملة تقع في قُلّتين لا تنجّسها, وشعرة منها تقع في قلتين إلا نصف رطل أو رطلًا فتنجِّسها! إلى غير ذلك من اللوازم التي يدلّ بطلانُها على بطلان ملزوماتها. * وأما جعلكم الشيء نصفًا ففي غاية الضعف, فإنه شكٌّ من ابن جُريج. فيا سبحان الله! يكون شكّه حدًّا لازمًا للأمة, فاصلًا بين الحلال والحرام؟ والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد بيَّن لأمته الدِّين, وتركهم على (1) البيضاء ليلها كنهارها، فيمتنع أن يقدِّر لأمته حدًّا لا سبيل لهم إلى معرفته إلا شكٌّ حادثٌ بعد عصر الصحابة يُجعل نصفًا احتياطًا (2)! وهذا بَيِّن لمن أنصف. والشكُّ الجزئي (3) الواقع من الأمة في طهورهم وصلاتهم قد بين لهم حكمه ليندفع عنهم باليقين, فكيف يجعل شكّهم حدًّا فاصلًا فارقًا بين الحلال والحرام؟ ثم جَعْلكم هذا احتياطًا باطل، لأن الاحتياط يكون في الأعمال التي يترك المكلَّف منها عملًا لآخر احتياطًا. وأما (4) الأحكام الشرعية والإخبار _________ (1) ط. الفقي زيادة "المحجّة"! (2) في الطبعتين: "احتياطيًّا" خلافًا للأصل. (3) رسمه في الأصل: "الجرى" وفي الطبعتين: "الجاري"، ولعل الأقرب للرسم والسياق ما أثبت. (4) في الأصل والطبعتين: "وإنما" والظاهر أنه تصحيف، بدليل وجود الفاء في جوابه: "فطريق ... ".

(1/79)


عن الله ورسوله، فطريق الاحتياط فيها أن لا يُخْبَر عنه إلا بما أخبر به, ولا يثبت إلا ما أثبته. ثمّ إن الاحتياط في ترك هذا الاحتياط, فإن الرجل تحضره الصلاة وعنده قُلّة قد وقعت فيها شعرةُ مَيْتةٍ, فتَرْكُه الوضوءَ منه منافٍ للاحتياط (1). فهلّا أخذتم بهذا الأصل هنا, وقلتم: ما ثبت تنجيسُه بالدليل الشرعي نجّسناه, وما شكَكْنا فيه ردَدْناه إلى أصل الطهارة. لأن هذا لمّا كان طاهرًا قطعًا وقد شككنا هل حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتنجيسه أم لا، والأصل الطهارة. وأيضًا: فأنتم لا تبيحون لمن شكّ في نجاسة الماء أن يعدل إلى التيمم, بل توجبون عليه الوضوء، فكيف تحرّمون عليه الوضوء هنا بالشك؟ وأيضًا: فإنكم إذا نجّستموه بالشكّ نجّستم ما يصيبه من الثياب والأبدان والآنية, وحرَّمتم شربَه والطبخَ به, وأَرَقْتم [ق 19] الأطعمةَ المتَّخَذةَ منه. وفي هذا تحريم لأنواع عظيمة من الحلال بمجرّد الشكّ, وهذا مناف لأصول الشريعة. والله أعلم.

  6 - باب النهي عن ذلك (2)

8/ 74 - عن حُميد الحميري قال: لقيتُ رجلًا صَحِب النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أربعَ سنين، كما صحبه أبو هريرة، قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل المرأةُ بفضل الرجل، أو يغتسل الرجلُ بفضل المرأة. ــ زاد مُسدّد ــ: وليغترفا جميعًا". وأخرجه النسائي (3). _________ (1) بعده في الأصل بياض قدر سطر. (2) قبله في "المختصر" (1/ 79): باب الوضوء بفضل المرأة. (3) أخرجه أبو داود (81)، والنسائي (238).

(1/80)


9/ 80 - وعن أبي حاجب، عن الحَكَم بن عَمرو ــ وهو الأقرع ــ: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتوضأ الرجلُ بفضل طهور المرأة". وأخرجه الترمذي وابن ماجه (1). وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال البخاريّ: سَوادة بن عاصم ــ أبو حاجب العنزي ــ يُعدّ في البصريين، كَنّاه أحمد وغيره، يقال: الغفاريّ، ولا أراه يصح عن الحكم بن عمرو. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال الترمذي في كتاب "العلل" (2): "سألتُ أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث ــ يعني حديث أبي حاجب، عن الحكم بن عَمرو؟ فقال: ليس بصحيح, قال: وحديث عبد الله بن سَرْجِس في هذا الباب, الصحيح هو موقوف, ومَن رَفَعه فهو خطأ". تم كلامُه. وقال أبو عبيد (3): نا عليّ بن معبد، عن عبيد الله بن عَمرو، عن مَعْمر، عن عاصم بن سليمان، عن عبد الله بن سَرْجِس أنه قال: أترون هذا الشيخ ــ يعني نفسَه ــ فإنه قد رأى نبيَّكم - صلى الله عليه وسلم - وأكل معه, قال عاصم: فسمعته يقول: "لا بأس بأن يغتسل الرجلُ والمرأةُ من الجنابة من الإناء الواحد، فإن خَلَت به فلا تقرَبْه". فهذا هو الذي رجَّحه البخاريُّ, ولعل بعضَ الرواة ظنَّ أن قوله: _________ (1) أخرجه أبو داود (82)، والترمذي (64)، وابن ماجه (373). (2) (1/ 134). (3) في كتاب "الطهور" (194). وفي ط. الفقي زيادة: "في كتاب الطهور". وليست في الأصل ولا (ش).

(1/81)


"فسمعته يقول" من كلام عبد الله بن سرجس, فوهم فيه, وإنما هو مِن قول عاصم بن سليمان يحكيه عن عبد الله. وقد اختلفَ الصحابةُ في ذلك؛ فقال أبو عبيد (1): ثنا حَجَّاج، عن المسعودي، عن مهاجر أبي الحسن، قال: حدثني كُلثوم بن عامر بن الحارث (2) قال: "توضأَتْ جُويريةُ بنت الحارث ــ وهي عمَّته ــ قال: فأردتُ أن أتوضأ بفضل وضوئها, فجذَبَت الإناءَ ونَهَتْني وأمرتني أن أُهريقه, قال: فأهرقته". وقال: ثنا الهيثم بن جميل، عن شَريك، عن مهاجر الصائغ، عن ابنٍ لعبد الرحمن بن عوف: "أنه دخل على أمِّ سلمة, ففعلت به مثل ذلك". فهؤلاء ثلاثة: عبد الله بن سرجس, وجويرية, وأم سلمة. وخالفهم في ذلك ابن عباس, وابن عمر. قال أبو عبيد (3): ثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن أبي يزيد المديني، عن ابن عباس: أنه سئل عن سُؤْر المرأة فقال: "هي ألطف بنانًا, وأطيب ريحًا". حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان لا يرى بأسًا بسؤر المرأة, إلا أن تكون حائضًا أو جُنُبًا". _________ (1) في كتاب "الطهور" (191، 192). (2) الأصل: "الحرب". ولعلها كانت "الحرث" بدون ألف كما في الرسم القديم فتصحفت، والتصويب من كتاب "الطهور" ومصادر ترجمته. ينظر "التاريخ الكبير": (7/ 226)، و"الثقات": (5/ 336) لابن حبان. (3) في "الطهور" (196، 197).

(1/82)


واختلف الفقهاء أيضًا في ذلك على قولين: أحدهما: المنع من الوضوء بالماء الذي تخلو به. قال أحمد: وقد كرهه غير واحد من الصحابة. وهذا هو المشهور من الروايتين عن أحمد (1) , وهو قول الحسن. والقول الثاني: يجوز الوضوء به. وهو قول أكثر أهل العلم (2). واحتجُّوا بما رواه مسلم في "صحيحه" (3) عن ابن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل بفضل ميمونة". وفي "السنن الأربعة" (4) , عن ابن عباس أيضًا: أن امرأة من نساء النبيّ - صلى الله عليه وسلم - استحمَّت من جنابة, فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ مِن فَضْلها. فقالت: إني اغتسلتُ منه. فقال: "إن الماء لا ينجّسه شيء"، وفي رواية: "لا يَجْنُب".

  7 - باب الإسراف في الماء

10/ 88 - عن أبي نَعَامة ــ واسمه قيس بن عَبايَة ــ أن عبد الله بن مُغفّل سمع _________ (1) ينظر "المستوعب": (1/ 48)، و"الإنصاف": (1/ 85 - 86). (2) ينظر "المغني": (1/ 282 - 283)، و"المجموع": (2/ 190 - 191). (3) (323). (4) كذا في الأصل: "الأربعة"، وله وجه. والحديث أخرجه أبو داود (68)، والترمذي (65)، والنسائي (325)، وابن ماجه (370 - 372)، وأحمد (2102)، وابن خزيمة (91، 109)، وابن حبان (1241)، والحاكم (1/ 159). من طرقٍ عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس به. قال أحمد: أتّقيه لحال سماك، ليس أحدٌ يرويه غيره. وقال: هذا فيه اختلاف شديد، بعضهم يرفعه وبعضهم لا يرفعه. نقله ابن عبد الهادي في "التنقيح": (1/ 46). وقال علي ابن المديني وغيره: رواية سماك عن عكرمة مضطربة.

(1/83)


ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصْرَ الأبيضَ عن يمينِ الجنة إذا دخلتُها. فقال: أيْ بُنيّ، سَلِ الله الجنة، وتعوَّذ به من النار. فإني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنه سيكون في هذه الأمة قومٌ يعتدون في الطهور والدعاء". وأخرجه ابن ماجه (1) مقتصرًا منه على الدعاء. قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي الباب حديث أُبيّ بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنّ للوضوء شيطانًا يقال له: الوَلْهان, فاتقوا وسواس الماء" رواه الترمذي (2) وقال: "غريب, ليس إسناده بالقويّ عند أهل الحديث, لا نعلم أحدًا أسنده غير خارجة ــ يعني ابن مصعب ــ قال: وقد رُوِي هذا الحديث من غير وجه عن الحسن قولَه، ولا يصح في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء, وخارجةُ ضعيف (3) , ليس بالقوي عند أصحابنا, وضَعَّفه ابنُ المبارك. قال: وفي الباب عن عبد الله بن عَمْرو, وعبد الله بن مُغفَّل". آخر كلامه. والذي صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تسميته: شيطان الصلاة الذي يوسوس للمصلي فيها "خَنْزَب"، رواه مسلم في "صحيحه" (4) من حديث عثمان (5) بن أبي العاص الثقفي. _________ (1) أخرجه أبو داود (96)، وابن ماجه (3864)، وأحمد (16801)، وابن حبان (6764). وقد حسَّنه ابن كثير وابن حجر. ينظر حاشية "المسند". (2) (57). وأخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات "المسند" (21238)، وابن خزيمة (122)، والحاكم (1/ 162) وهو حديث ضعيف. (3) قوله: "ضعيف" ليس في المطبوع من كتاب الترمذي. (4) (2203). (5) في الأصل: "عمارة" تصحيف، والمثبت من "صحيح مسلم".

(1/84)


 8 - باب صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم –

11/ 101 - وعن زِرّ بن حُبَيش: أنه سمع عليًّا ــ وسُئل عن وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ــ فذكر الحديث، وقال: "مسح رأسه حتى لمَّا يَقْطُر، وغسل رجليه ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: هكذا كان وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". قال ابن القيم - رحمه الله -: حديث زِرٍّ، عن عليّ هذا فيه المنهال بن عَمرو, كان ابن حزم يقول: "لا يُقبل في باقة بَقْل" (1)، ومِن روايته ردَّ (2) حديثَ البراء الطويل في عذاب القبر. والمنهال قد وثقه يحيى بن معين وغيره (3). والذي غَرَّ ابنَ حزم شيئان: أحدهما: قول عبد الله بن أحمد، عن أبيه: تركه شعبة على عمد (4). والثاني: أنه سمع من داره صوت طنبور. وقد صرَّح شعبةُ بهذه العلة, فقال العقيلي (5): عن وُهيب قال: سمعت شعبة يقول: أتيتُ المنهالَ بن عَمرو, فسمعت عنده صوتَ طنبور, فرجعتُ ولم أسأله. قيل: فهلَّا سألتَه فعسى كان لا يعلم به؟ _________ (1) نقل العبارة عن ابن حزم ابنُ القطان في "بيان الوهم" (3/ 362)، فلعل المؤلف صادر عنه. وقد تكلم عنه ابنُ حزم في عدد من كتبه، بقوله: "متكلم فيه" "ليس بالقوي" "ضعيف". ينظر "الجرح والتعديل عند ابن حزم" (1063). (2) أي ابنُ حزم في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنِحل": (4/ 57). وسيأتي جواب المؤلف عنه. (3) ترجمته في "تهذيب التهذيب": (10/ 319 - 320). (4) "العلل" (942). (5) في "الضعفاء": (4/ 237).

(1/85)


وليس في شيء مِن هذا ما يقدح فيه. وقال ابن القطان (1): ولا أعلم لهذا الحديث علة. 12/ 104 - وعن ابن عباس قال: "دخل [علَيَّ] عليُّ بن أبي طالب ــ وقد أهْراقَ الماء ــ فدعا بوَضوء، فأتيناه بتَوْر فيه ماء، حتى وضعناه بين يديه، فقال: يا ابن عباس، ألا أريك كيف كان يتوضأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قلت: بلى، قال: فأصغَى الإناء على يده فغسلها، ثم أدخل يده اليمنى فأفرغ بها على الأخرى، ثم غسل كفيه، ثم تمضمض واستنثر، ثم أدخل يديه في الإناء جميعًا، فأخذ بهما حَفْنَة من ماء، فضرب بها على وجهه، ثم ألقَمَ إبهاميه ما أقبل من أذنيه، ثم الثانية، ثم الثالثة مثل ذلك، ثم أخذ بكفه اليمنى قبضة من ماء فصبها على ناصيته، فتركها تَسْتَنُّ على وجهه، ثم غسل ذارعيه إلى المرفقين ثلاثًا ثلاثًا، ثم مسح رأسه وظهورَ أذنيه، ثم أدخل يديه جميعًا، فأخذ حَفنة من ماء فضرب بها على رجله وفيها النعل، ففَتَلها بها، ثم الأخرى مثل ذلك، قال: قلت: وفي النعلين؟ قال: وفي النعلين، قال: قلت: وفي النعلين؟ قال: وفي النعلين، قال: قلت: وفي النعلين؟ قال: وفي النعلين". في هذا الحديث مقال (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: هذا من الأحاديث المشكلة جدًّا, وقد اختلف مسالكُ الناس في دفع إشكاله: فطائفة ضعَّفَتْه, منهم البخاري والشافعي, قال (3): والذي خالفه أكثر _________ (1) في "بيان الوهم والإيهام": (3/ 363). (2) أخرجه أبو داود (117). (3) في "اختلاف الحديث": (10/ 162 - مع الأم).

(1/86)


وأثبت منه، وأما الحديث الآخر ــ يعني هذا ــ فليس مما يُثْبِتُ أهلُ العلم بالحديث لو انفرد. وفي هذا المسلك نظر؛ فإن البخاريّ روى في "صحيحه" (1) حديثَ ابن عباس كما سيأتي, وقال في آخره: "ثم أخذ غَرْفةً من ماء فرشَّ بها على رجله اليمنى حتى غسلها, ثم أخذ غَرْفة أخرى, فغسل بها ــ يعني رجله اليسرى ــ ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ". المسلك الثاني: أنَّ هذا كان في أوّل الإسلام, ثم نُسِخ بأحاديث الغسل. وكان ابن عباس أوّلًا يذهب إليه, بدليل ما روى الدارقطني (2): ثنا إبراهيم بن حمّاد، ثنا العباس بن يزيد، نا سفيان بن عيينة، ثنا عبد الله بن محمد بن عقيل: أن عليّ بن الحسين أرسله إلى الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ يسألها عن وضوء النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فذكر الحديث وقالت: "ثم غسل رجليه"، قالت: وقد أتاني ابن عمٍّ لك ــ تعني ابنَ عباس ــ فأخبرتُه، فقال: "ما أجد في الكتاب إلا غَسْلتين ومَسْحتَين (3) ". ثم رجع ابن عباس عن هذا لمَّا بلغه غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - رجليه, وأوجبَ الغُسلَ. فلعلّ حديث عليّ وحديث ابن عباس كان في أول الأمر ثم نُسِخ. والذي يدلّ عليه أن فيه: "أنه مسح عليهما بدون حائل"، كما روى هشام بن _________ (1) (140). (2) في "السنن" (320)، وأخرجه من طريقه البيهقي: (1/ 72)، ورواه أبو عبيد في "الطهور" (389) قال: وبلغني عن سفيان بن عيينة، وساقه بإسناده. (3) في الأصل والمطبوعات: "غسلين ومسحين" والتصحيح من "سنن الدارقطني" ومصادر التخريج.

(1/87)


سعد، نا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار قال: قال لنا ابن عباس: "أتحبّون أن أحدّثكم كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ " فذكر الحديث, قال: "ثم اغترف غَرفة أخرى فرشَّ على رجله وفيها النعل, واليسرى مثل ذلك, ومسح بأسفل الكعبين" (1). وقال عبد العزيز الدراوردي، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس: "توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" فذكره، قال: "ثم أخذ حفنة من ماء فرشَّ على قدميه وهو منتعل" (2). المسلك الثالث: أن الرواية عن علي وابن عباس مختلفة, فرُوِيَ عنهما هذا, ورُوي عنهما الغسل, كما رواه البخاري في "الصحيح" (3) عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس. فذكر الحديث وقال في آخره: "أخذ غَرفةً من ماء, فرشَّ بها على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غرفة أخرى فغسل بها رجله، يعني اليسرى" فهذا صريح في الغسل. وقال أبو بكر بن أبي شيبة (4): ثنا عبد الله بن إدريس، عن محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء، عن ابن عباس به, وقال: "ثم غرف غرفة, ثم غسل (5) رجله اليمنى, ثم غرف غرفة فغسل رجله اليسرى". وقال ورقاء، عن زيد، عن عطاء عنه: "ألا أريكم وضوءَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ " _________ (1) أخرجه أبو داود (137)، والحاكم: (1/ 147)، والبيهقي: (1/ 72). (2) أخرجه أبو عبيد في "الطهور" (105)، ومن طريقه البيهقي: (1/ 72). (3) (140). (4) (64). (5) في "المصنف": "فغسل".

(1/88)


فذكره, وقال فيه: "وغسل رجليه مرةً مرةً" (1). وقال محمد بن جعفر، عن زيد: "وأخذ حفنةً فغسل بها رجله اليمنى, وأخذ حفنة فغسل رجله اليسرى" (2). قالوا: والذي روى أنه رشَّ عليهما في النعل هو: هشام بن سعد, وليس بالحافظ (3) , فرواية الجماعة أولى من روايته. على أنَّ سفيان الثوري وهشامًا أيضًا رويا ما يوافق الجماعة, فرويا عن زيد، عن عطاء بن يسار قال: "قال لي ابن عباس: ألا أريكَ وضوءَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فتوضأ مرةً مرةً, ثم غسل رجليه, وعليه نعله" (4). وأما حديث علي، فقال البيهقي (5): رُوِّينا من أوجه كثيرة عن عليّ: "أنه غسل رجليه في الوضوء". ثم ساق منها حديثَ عبد خيرٍ عنه: "أنه دعا بوضوء" فذكر الحديث، وفيه: "ثم صبّ بيده اليمنى ثلاث مرَّات على قدمه اليمنى, ثم غسلها بيده اليسرى, ثم قال: هذا طُهُور نبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم -" (6). ومنها: حديث زِرٍّ عنه: أنه سُئل عن وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فذكر _________ (1) أخرجه البزار (5283)، والطبراني في "الكبير": (11/ 170)، والبيهقي: (1/ 67) وقال: "هذا إسناد صحيح". (2) أخرجه البيهقي: (1/ 73). (3) ترجمته في "تهذيب التهذيب": (11/ 39 - 41)، و"الميزان": (4/ 298). (4) أخرجه البيهقي: (1/ 73). وقال عقِبه: "فهذا يدل على أنه غسل رجليه في النعلين". (5) (1/ 74). (6) أخرجه البيهقي: (1/ 74).

(1/89)


الحديث, وفيه: "وغسل رجليه ثلاثًا ثلاثًا" (1). ومنها: حديث أبي حَيّة عنه: "رأيت عليًّا توضأ ... " الحديث, وفيه: "وغسل قدميه إلى الكعبين", ثم قال: "أحببتُ أن أريكم كيف كان طُهُور رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (2). قالوا: وإذا اختلفت الروايات عن عليّ وابن عباس, وكان مع أحدها (3) رواية الجماعة, فهي أولى. المسلك الرابع: أن أحاديث الرشِّ والمسح إنما هي وضوءُ تجديدٍ للطاهر, لا طهارة رَفْع حدثٍ, بدليل ما رواه شعبة، نا عبد الملك بن مَيْسرة قال: سمعت النزَّال بن سَبْرة يُحَدِّث عن عليّ: "أنه صلى الظهر, ثم قَعَد في حوائج الناس في رَحْبَة الكوفة, حتى حضرت صلاة العصر, ثم أُتي بكوزٍ من ماء, فأخذ منه حفنةً (4) واحدة, فمسح بها وجهَه ويديه ورأسَه ورجليه, ثم قام فشرب فَضْلَه وهو قائم, ثم قال: وإنَّ أُناسًا يكرهون الشُّرْب قائمًا, وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع كما صنعت. وقال: هذا وضوء من لم يُحْدِث". رواه البخاري (5) بمعناه. _________ (1) المصدر السابق: (1/ 74). (2) المصدر السابق: (1/ 74). (3) كذا في الأصل، وفي المطبوعتين: "أحدهما". (4) في الأصل: "بحفنة" والتصويب من مصدر التخريج. (5) (5616)، وهو بلفظه عند البيهقي: (1/ 75)، وأخرجه أحمد (583)، وابن حبان (1057) وغيرهم.

(1/90)


قال البيهقي (1): في [ق 21] هذا الحديث الثابت دلالةٌ على أنَّ الحديث الذي رُوِي عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في المسح على الرِّجلين ــ إن صحَّ ــ فإنما عَنَى به: وهو طاهرٌ غيرُ مُحْدِث، إلا أن بعض الرواة كأنه اختصر الحديث, فلم ينقل قولَه: "هذا وضوء مَن لم يُحْدِث". وقال أحمد (2): حدثنا ابن الأشجعي، عن أبيه، عن سفيان، عن السُّدِّي، عن عبدِ خَيْر، عن عليّ: "أنه دعا بكُوزٍ من ماء, ثم قال (3): ثمّ توضأ وضوءًا خفيفًا ومسح على نعليه، ثم قال: هكذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يُحْدِث". وفي رواية (4): "للطاهر ما لم يُحْدِث". قال (5): وفي هذا دلالة على أن ما رُوي عن عليّ في المسح على النعلين إنما هو في وضوءٍ مُتَطوَّع به, لا في وضوء واجبٍ عليه من حَدَثٍ يوجب الوضوء, أو أراد غَسْل الرجلين في النعلين, أو أراد المسح (6) على _________ (1) "السنن الكبرى": (1/ 75). (2) في "المسند" (970)، ومن طريقه البيهقي في "السنن": (1/ 75) وعنه ينقل المؤلف، وأخرجه ابن خزيمة (200). (3) كذا في الأصل! في "المسند" والبيهقي: "ثم قال: أين هؤلاء الذين يزعمون أنهم يكرهون الشرب قائمًا؟ قال: فأخذه فشرب وهو قائم، ثم توضأ ... " وقد اختصر المؤلف الحديث لكنه أبقى ــ هو أو المجرِّد ــ على قوله: "ثم قال" ولو أنها حُذِفت لما أشكل الاختصار. (4) عند ابن خزيمة (200)، ومن طريقه البيهقي: (1/ 75). (5) يعني البيهقي. (6) في الأصل: "مسح" دون التعريف ودون ألف النصب في آخره. والتصويب من "السنن الكبرى".

(1/91)


جورَبَيه ونعْلَيه, كما رواه عنه بعض الرُّواة مقيّدًا بالجورَبَين, وأراد به جوربين مُنَعَّلين. قلت: هذا هو المسلك الخامس: أنَّ مَسْحَه رجليه ورَشّه عليهما لأنهما كانا مستورَين بالجوربين في النعلين. والدليل عليه ما رواه سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرّة مرّة, ومسح على نعليه" (1). لكن تفرَّد به رَوَّاد بن الجرَّاح عن الثوري, والثقات رووه عن الثوري بدون هذه الزيادة (2). وقد رواه الطبراني (3) من حديث زيد بن الحُباب، عن سفيان، فذكره بإسناده ومتنه، وأنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مسح على النعلين. وروى أبو داود (4) من حديث هُشيم، عن يعلى بن عطاء، عن أبيه: أخبرني أوس بن أبي أوس (5) الثقفي قال: "رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على نعليه وقدميه". _________ (1) أخرجه ابن عدي في "الكامل": (3/ 177)، والبيهقي: (1/ 286). (2) ذكر هذه الرواية ابن عدي في "الكامل": (3/ 177) ضمن الأحاديث التي أنكرت على روّاد في روايته عن الثوري، وانظر "ذخيرة الحفاظ": (2/ 713). (3) لم أجده في معاجم الطبراني المطبوعة، وأخرجه من طريقه البيهقي: (1/ 286) وقال: ليس بمحفوظ. ثم قال عقبه: والصحيح رواية الجماعة. (4) (160). (5) تصحفت في الأصل إلى "أويس بن ابي أويس" بالتصغير. وانظر ترجمة أوس في "التهذيب": (1/ 382).

(1/92)


فقوله: "مسح على نعليه" كقوله: "مسح على خُفّيه". والنعلُ لا تكون ساترة لمحلّ المسح إلا إذا كان عليها جَورب, فلعلَّه مسَحَ على نعل الجورب فقال: "مسح على نعليه". المسلك السادس: أن الرِّجْل لها ثلاثة أحوال: حالٌ تكون في الخفِّ، فيجزي مسح ساترها. وحالٌ تكون حافية, فيجب غَسلها. فهاتان مرتبتان, وهما: كشفها وسترها. ففي حال كشفها لها أعلى مراتب الطهارة, وهي الغَسل التامّ, وفي حال استتارها لها أدناها, وهي المسح على الحائل. ولها حالة ثالثة, وهي حالما تكون في النَّعْل, وهي حالة متوسِّطة بين كشفها وبين استتارها بالخفّ، فأُعْطيت حالة متوسّطة من الطهارة, وهي الرشّ, فإنه بين الغسل والمسح. وحيث أطلق لفظ "المسح" عليها في هذه الحال فالمراد به الرَّش؛ لأنه جاء مفسّرًا في الرواية الأخرى. وهذا مذهب ــ كما ترى (1) ــ لو كان يُعلَم به قائل معيَّن، ولكن يُحْكَى عن طائفة لا أعلم منهم مُعيَّنًا. وبالجملة فهو خير مِن مسلك الشيعة في هذا الحديث، وهو: المسلك السابع: أنه دليل على أن فَرْض الرجلين المسح, وحُكِي عن داود الجواربي (2) وابن عباس. وحُكِي عن ابن جرير أنه مخيَّر بين الأمرين, _________ (1) يعني: كما ترى قوَّةً ووجاهة لو كان يُعلم من قال به على وجه التعيين. (2) رسمه في الأصل: "الحواري" مهملًا، وفي الطبعتين: "الجواري"، والصواب ما أثبت. قال الذهبي: رأس في الرفض والتجسيم. ترجمته في "الميزان": (2/ 23)، و"لسان الميزان": (3/ 414).

(1/93)


فأمَّا حكايته عن ابن عباس فقد تقدمت, وأما حكايته عن ابن جرير فغلطٌ بَيِّن, وهذه كتبه وتفسيره كلّه يكذِّب هذا النقل عليه, وإنما دخلت الشبهةُ لأن ابنَ جرير القائل بهذه المقالة رجل آخر من الشِّيعَة, يوافقه في اسمه واسم أبيه (1) , وقد رأيتُ له مؤلفات في أصول مذهب الشيعة وفروعهم. فهذه سبعة مسالكَ للناس في هذا الحديث. وبالجملة فالذين رووا وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، مثل عثمان بن عفان, وأبي هريرة, وعبد الله بن زيد بن عاصم, وجابر بن عبد الله, والمغيرة بن شعبة, والرُبَيِّع بنت مُعَوِّذ, والمقدام بن معديكَرِب, ومعاوية بن أبي سفيان, وجدّ طلحة بن مصرِّف, وأنس بن مالك, وأبي أمامة الباهلي, وغيرهم لم يذكر أحدٌ منهم ما ذُكِرَ في حديث عليّ وابن عباس, مع الاختلاف المذكور عليهما. والله أعلم. 13/ 119 - وعن طلحة بن مُصَرّف، عن أبيه، عن جده ــ وجده هو كعب بن عمرو، ويقال: عمرو بن كعب الهَمْداني اليَاميُّ، له صحبة، ومنهم من ينكرها ــ قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح رأسه مرة واحدة، حتى بلغ القَذَال، وهو أول القفا". وقال مسدَّد: "مسح رأسه مِن مُقَدَّمه إلى مُؤَخَّره، حتى أخرج يديه من تحت أذنيه". قال مسدد: فحدَّثتُ به يحيى، فأنكره. قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: ابن عيينة ــ زعموا ــ كان ينكره، ويقول: أيشٍ هذا: طلحة، عن أبيه، عن جده؟ _________ (1) هو محمد بن جرير بن رستم الطبري. ترجمته في "الميزان": (3/ 499)، و"لسان الميزان": (7/ 29).

(1/94)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال عثمان بن سعيد الدارمي: سمعت عليّ ابن المديني يقول: قلت لسفيان: إن ليثًا روى عن طلحة بن مصرِّف، عن أبيه، عن جدّه: "أنه رأى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - توضأ"؟ فأنكر سفيانُ ذلك وعَجِب أن يكون جدُّ طلحةَ لقي النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. قال عليٌّ: سألت عبد الرحمن بن مهدي عن نسب جَدِّ طلحة؟ فقال: عَمرو بن كعب, أو كعب بن عَمرو, وكانت له صحبة (1). وقال عباس الدوري (2): قلت ليحيى بن معين: طلحة بن مصرِّف، عن أبيه، عن جدّه, رأى جدُّه النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال يحيى: المحدِّثون يقولون: قد رآه. وأهلُ بيت طلحة يقولون: ليست له صحبة.

  9 - باب تخليل اللحية

14/ 132 - عن أنس بن مالك: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضأ أخذ كفًّا من ماء فأدخله تحت حَنَكه، فخلَّل به لحيتَه، وقال: هكذا أمرني ربي". قال ابن القيم - رحمه الله -: قال أبو محمد بن حزم (3): لا يصح حديث أنس هذا، لأنه من طريق الوليد بن زوران (4) , وهو مجهول, وكذلك أعلَّه ابنُ القطان (5) بأنّ الوليد هذا مجهول الحال. وفي هذا التعليل نظر, فإن الوليد _________ (1) ذكره ابن عبد الهادي في "تعليقه على العلل" (ص 150). (2) "تاريخ الدوري" (129). (3) في "المحلى": (2/ 35). (4) في الأصل: "روقان"، والتصويب من "المحلى"، و"التهذيب": (11/ 133) وقيل: زروان. (5) في "بيان الوهم والإيهام": (5/ 17).

(1/95)


هذا روى عنه جعفرُ بن بَرْقان، وحجَّاجُ بن منهال، وأبو المليح الحسن بن عمر الرّقِّي وغيرهم, [ق 22] ولم يُعْلم فيه جرح (1). وقد روى هذا الحديث محمدُ بن يحيى الذُّهلي في كتاب "علل حديث الزهري" (2) , فقال: حدثنا محمد بن عبد الله بن خالد الصفَّار من أصله ــ وكان صدوقًا ــ ثنا محمد بن حرب، نا الزُّبيدي، عن الزهري، عن أنس بن مالك: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ فأدخل أصابعه تحت لحيته فخلَّلها بأصابعه, ثم قال: "هكذا أمرني ربي عز وجل". وهذا إسناد صحيح. وفي الباب حديث عثمان: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخلِّل لحيته". رواه الترمذي وابن ماجه (3) , وقال الترمذي: حسن صحيح, وصححه ابن خزيمة, وأبو عبد الله الحاكم, وقال أحمد: هو أحسن شيء في الباب. وقال (4): قال محمد بن إسماعيل: "أصحُّ شيء في هذا الباب: حديث عامر بن شقيق، عن أبي وائل، عن عثمان". يريد هذا الحديث. وقد أعلَّه ابن حزم (5) , فقال: هو من طريق إسرائيل وليس بالقويّ, عن _________ (1) وذكره ابن حبان في "الثقات": (7/ 550). (2) نقله عنه ابن القطان في "بيان الوهم": (5/ 220) وصحح إسناده، كما سينقله المؤلف. (3) أخرجه الترمذي (31)، وابن ماجه (430). قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وذكر في "العلل الكبير" (19) كلام البخاري الذي أورده المؤلف، وزاد: "قلتُ: إنهم يتكلمون في هذا الحديث، فقال: هو حسن". وصححه ابنُ حبان (1081). (4) أي الترمذي، في الموضع السالف من "الجامع". (5) في "المحلى": (2/ 36).

(1/96)


عامرِ بن شَقيق وليس مشهورًا بقوَّة النقل. وقال في موضع آخر (1): عامر بن شَقيق ضعيف. وهذا تعليل باطل, فإن إسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحاق, احتجَّ به الشيخان وبقية الستة, ووثقه الأئمة الكبار. وقال فيه أبو حاتم: ثقة متقن من أتقن أصحاب أبي إسحاق، ووثقه ابن معين وأحمد, وكان يتعجَّب من حفظه (2). والذي غَرَّ أبا محمد قولُ أحمدَ في رواية ابنه صالح (3): إسرائيل عن أبي إسحاق: فيه لِين, سمع منه بأخَرَة. وهذا الحديث ليس من روايته عن أبي إسحاق, فلا يحتاج إلى جواب. وأما عامر بن شقيق، فقال النسائي: ليس به بأس, وروي عن ابن معين تضعيفه, روى له أهل السنن الأربعة (4). وفي الباب: حديث عائشة, رواه أبو عُبيد (5)، عن حجاج، عن شُعْبة، عن عمرو بن أبي وهب الخزاعي، عن موسى بن ثروان العجلي (6)، عن طلحة بن عبيد الله بن كُرَيز عنها, قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ خلَّل _________ (1) من "المحلى": (5/ 125). (2) تنظر ترجمته في "الجرح والتعديل": (2/ 330 - 331)، و"تهذيب التهذيب": (1/ 263). (3) (ص 262). (4) ترجمته في "تهذيب التهذيب": (5/ 69). (5) في "الطهور" (314)، وأخرجه أحمد في "المسند" (25970)، والحاكم: (1/ 150). قال الهيثمي: "رجاله موثقون"، وحسَّنه الحافظ في "التلخيص": (1/ 97). (6) في الأصل: "البجلي" تصحيف. وتنظر ترجمته في "التهذيب": (10/ 338).

(1/97)


لحيته". وفي الباب حديث عمار بن ياسر, رواه الطبراني (1)، عن الدَّبَري، عن عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عبد الكريم، عن حسَّان بن بلال أن عمار بن ياسر توضأ فخلَّل لحيتَه, فقيل له: ما هذا؟ قال: "رأيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يخلِّل لحيتَه". وقد أعلَّه ابنُ حزم (2) بعلتين: إحداهما أنه قال: حسان بن بلال مجهول. والثانية قال: لا نعرف له لقاءً لعمَّار بن ياسر. فأما العلة الأولى: فإن حسّانًا روى عنه أبو قِلابة، وجعفر بن [أبي] (3) وحشية، وقَتادة، ويحيى بن أبي كثير، ومطر الورَّاق، وابن أبي المُخارق، وغيرهم. وروى له الترمذي، والنسائي، وابن ماجه. قال عليّ بن المديني: "كان ثقة". ولم يُحفظ فيه تضعيفٌ لأحد. _________ (1) لم أقف عليه في معاجمه بهذا الطريق، وقد أخرجه في "الأوسط" (2395) من طريق إبراهيم بن بشار الرمادي، عن ابن عيينة، عن ابن أبي عَروبة، عن قتادة، عن حسان بن بلال، عن عمار به. وأخرجه الحميدي في "المسند" (146)، وأبو عبيد في "الطهور" (310)، وابن أبي شيبة (98) جميعًا عن سفيان بن عيينة به. وفي إسناده عبد الكريم بن أبي المخارق ضعيف، وقتادة لم يسمع من حسان بن بلال، فالإسناد ضعيف. (2) في "المحلى": (2/ 36). (3) سقط من الأصل. وتنظر ترجمة جعفر في "التاريخ الكبير": (2/ 186)، و"الجرح والتعديل": (2/ 473).

(1/98)


وأما العلة الثانية، فباطلة أيضًا. فإنّ الترمذي رواه من طريقين (1) إلى حسَّان, أحدهما: عن ابن أبي عمر، عن سفيان، عن سعيد بن أبي عَروبة، عن قتادة، عن حسَّان، عن عمَّار. والثاني: عن ابن أبي عُمر، عن سفيان بن عُيينة، عن عبد الكريم بن أبي المُخارق، عن حسّان قال: رأيت عمّارًا توضأ فخلَّل لحيته, وفيه: "ولقد رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخلِّل لحيته". وعلّة هذا الحديث المؤثِّرة هي ما قاله الإمام أحمد في رواية ابن منصور (2) عنه, قال: قال ابن عيينة: لم يسمع عبدُالكريم من حسّان بن بلال حديثَ التخليل. قال الترمذي (3): سمعت إسحاق بن منصور يقول: سمعت أحمد بن حنبل فذكره. وذكر الحافظ ابن عساكر عن البخاري (4) مثل ذلك. وقال الإمام أحمد: لا يثبتُ في تخليل اللحية حديث (5). وفي الباب: حديث ابن أبي أوفى. رواه أبو عُبيد (6)، عن مروان بن معاوية، عن أبي الورقاء عنه أنه قال: "رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخلِّل لحيتَه". _________ (1) (29، 30). (2) نقله عنه الترمذي في "جامعه" كما سيأتي. وليس في المطبوع من "مسائله". وذكره عن أحمد أبو داود في "مسائله" (ص 450)، وعبد الله في "العلل": (1/ 455). (3) في "الجامع": (1/ 44). (4) كلام البخاري في "التاريخ الكبير": (3/ 31). (5) نقله أبو داود في "مسائله" (ص 13). (6) في "الطهور" (311).

(1/99)


وفيه: حديث أبي أيوب. رواه أبو عُبيد (1)، عن محمد بن ربيعة، عن واصل بن السائب الرَّقاشي، عن أبي سَوْرة، عنه قال: "رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ فخلَّل لحيته". قلت: وتصحيح ابن القطان لحديث أنس من طريق الذُّهلي فيه نظر, فإن الذُّهليّ أعلَّه, فقال (2): وثنا يزيد بن عبد ربّه، ثنا محمد بن حرب، عن الزُّبيدي: أنه بلغه عن أنس بن مالك فذكره. قال الذّهلي: هذا هو المحفوظ. قال ابن القطان: وهذا لا يضرُّه, فإنه ليس من لم يحفظ حجّة على من حفظ، والصفَّار قد عَيَّن شيخَ الزبيدي فيه, وبيَّن أنه الزهري, حتى لو قلنا: إن محمد بن حرب حدَّث به تارةً فقال فيه: "عن الزبيدي، بلغني عن أنس", لم يضرّه ذلك, فقد يراجع كتابه فيعرف منه أن الذي حدّثه (3) به الزهري, فيحدِّث به عنه, فأخَذَه عنه الصفَّار هكذا. وهذه التجويزات لا يلتفت إليها أئمةُ الحديث وأطباءُ علله, ويعلمون أنَّ الحديث معلول بإرسال الزبيدي له, ولهم ذوقٌ لا يحول بينه وبينهم فيه التجويزات والاحتمالات. ولهذا الحديث طريق أخرى, رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (4) من _________ (1) في "الطهور" (312). (2) زاد في طبعة الفقي: "في الزهريات" ولا وجود لها في الأصل. (3) في (ش) والطبعتين: "حدّث"، والمثبت أقرب إلى رسم الأصل، وموافق لما في (هـ) وكتاب ابن القطان. (4) لم أقف عليه في المطبوع من "المعجم الكبير" وأخرجه في "الأوسط" (4465) وقال: لم يرو هذا الحديث عن ثابت إلا عمر أبو حفص العبدي. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد": (1/ 234) فقال: "وله في الكبير أيضًا: قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح الماء على لحيته ورجليه" ورجاله موثقون".

(1/100)


حديث أبي حفص العبدي، عن ثابت، عن أنس قال: "رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ" فذكره كما تقدم. وأبو حفص وثقه أحمد، وقال: لا أعلم إلا خيرًا, ووثقه ابنُ معين، وقال عبد الصمد بن عبد الوارث: ثقة وفوق الثقة (1). فهذه ثلاث طرق حسنة. وذكر الحاكم في "المستدرك" (2) حديثَ عثمان في ذلك, ثم قال: "وله شاهد صحيح من حديث أنس". ورواه ابن ماجه في "سننه" (3) من حديث [ق 23] يحيى بن كثير أبي (4) النضر، عن يزيد الرّقاشي، عن أنس قال: كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ خلَّل لحيتَه وفرَّج أصابعه مرتين. قال الدارقطني: أبو النضر هذا متروك. وقال النسائي: يزيد الرقاشي _________ (1) ذهب وَهَل المؤلّف إلى أن أبا حفص العبدي راوي الحديث هو عمر بن إبراهيم أبو حفص العبدي، ومن ثَمّ نقل توثيقه عن أحمد وابن معين وعبد الصمد، والصحيح أن راوي الحديث هو أبو حفص عمر بن حفص العبدي كما صرّح بذلك العقيلي في "الضعفاء": (1/ 281)، وابن حبان في "المجروحين": (2/ 84)، وهو المعروف بالرواية عن ثابت. وأبو حفصٍ هذا قال أحمد: تركتُ حديثَه وحرقناه، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال النسائي: متروك، وأطبقوا على تضعيفه. ينظر "الكامل": (5/ 49 - 50)، و"المجروحين": (2/ 84)، و"العلل" (5333) لأحمد، و"اللسان": (6/ 88 - 90). وعليه فالإسناد واهٍ. (2) (1/ 149). (3) (431). (4) في الأصل و (ش): "بن" خطأ.

(1/101)


متروك. ورواه ابنُ عدي (1) من حديث هاشم بن سعيد (2)، عن محمد بن زياد، عن أنس مرفوعًا, ثم قال ابن عدي: وهاشمٌ هذا مقدار ما يرويه لا يُتابَع عليه. ورواه البيهقيّ في "السنن" (3) من حديث إبراهيم الصائغ، عن أبي خالد (4)، عن أنس مرفوعًا. وأبو خالد هذا مجهول. فهذه ثلاث طرق ضعيفة, والثلاثة الأُوَل أقوى منها. وأما حديث عمار, فقد تقدم تعليلُ أحمدَ والبخاريِّ له من طريق عبد الكريم. وأما طريق ابن عُيينة، عن ابن أبي عَروبة، عن قَتادة، عن حسَّان, فقال ابن أبي حاتم في كتاب "العلل" (5): سألت أبي عن حديث رواه ابن عيينة، عن سعيد بن أبي عَروبة، فذكره؟ فقال أبي: لم يحدِّث بهذا أحدٌ سوى ابن عيينة، عن ابن أبي عَروبة. قلت: هو صحيح؟ قال: لو كان صحيحًا لكان في مصنفات ابن أبي عَروبة, ولم يصرِّح فيه ابن عيينة بالتحديث, وهذا مما يوهِّنه. يريد بذلك أنه لعله دَلَّسه. قلت: وقد سُئل الإمام أحمد عن هذا الحديث؟ فقال: إما أن يكون _________ (1) في "الكامل": (7/ 115). (2) في الأصل: "سعد"، والتصويب من "الكامل" ومصادر ترجمته. ينظر "تهذيب التهذيب": (11/ 17). (3) (1/ 54). (4) في الأصل و (ش، هـ): "حازم" تصحيف، والتصحيح من كتاب البيهقي. (5) (60).

(1/102)


الحُمَيدي اختلط, وإما أن يكون من حدَّث عنه خَلّط (1). ولكن متابعة ابن أبي عمر له ترفع هذه العُهْدة. والله أعلم. وقد رُويت أحاديثُ التخليل من حديث عثمان, وعلي, وأنس, وابن عباس, وابن عمر, وعائشة, وأم سلمة, وعمار بن ياسر, وأبي أيوب, وابن أبي أوفى, وأبي أمامة, وجابر بن عبد الله, وجرير بن عبد الله البجلي, - رضي الله عنهم -. ولكن قال عبد الله بن أحمد (2): قال أبي: ليس يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التخليل شيء. وقال الخلال في كتاب "العلل" (3): أنا أبو داود (4) قال: قلت لأحمد: تخليل اللحية؟ قال: قد رُوي فيه أحاديث ليس يثبت منها حديث, وأحسنُ شيء فيه حديث شقيق، عن عثمان. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب "العلل" (5): سمعت أبي يقول: لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تخليل اللحية حديث. قلت: وحديث ابن عباس (6) من رواية نافع مولى يوسف السلمي, قال _________ (1) أخرج الحميدي هذه الرواية في "المسند" (147). ونقل كلامَ أحمد ابنُ دقيق العيد في "الإمام": (1/ 491) من مختصر "العلل" للخلال، وعلّق عليه بأن عُهْدة الحميدي خرجَتْ عنه بمتابعة ابن أبي عمر، وأن أبا حاتم لم ينكر رواية سفيان بل حكم على روايته عن ابن أبي عروبة بالوهم. (2) لم أجده في "مسائله" المطبوعة، ونقله الحافظ في "التلخيص": (1/ 98). (3) ليس في "المنتخب" منه لابن قدامة. (4) "مسائل أبي داود" (ص 13). وليس فيه قوله: "وأحسن شيء ... عثمان". وقد نقل هذه الزيادة ابن الملقن في "البدر المنير": (2/ 192). (5) (60). (6) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (2277) من طريق نافع أبي هرمز عن عطاء عن ابن عباس قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتطهر ... وفيه: "وخلل لحيته". قال الطبراني: "لم يرو هذه اللفظة ... في تخليل اللحية في الوضوء إلا نافع أبو هرمز، تفرد به شيبان".

(1/103)


العقيلي (1): لا يُتابَع عليه, منكر الحديث. وقال أبو حاتم: متروك الحديث (2). وحديث ابن عمر رواه الدارقطني (3)، وقال: الصواب أنه موقوف على ابن عمر. وكذلك قال عبد الحق (4): الصحيح أنه من فِعْل ابن عمر غير مرفوع. وله علّة أخرى ذكرها ابن أبي حاتم (5) عن أبيه, وهي: أن الوليد بن مسلم حَدّث به عن الأوزاعي مرسلًا, وعبد الحميد رفَعَه عنه. والصواب رواية أبي المغيرة عنه موقوف. وذكره الخلال في كتاب "العلل" عن عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر موقوفًا (6). ثم حكى عن جعفر بن محمد أنه قال: قال أحمد: ليس في التخليل أصح من هذا, يعني الموقوف (7). _________ (1) في "الضعفاء": (6/ 164). (2) "الجرح والتعديل": (8/ 459). (3) (374، 375). (4) في "الأحكام الوسطى": (1/ 173). (5) في "العلل" (58)، ونقله عنه الدارقطني في "السنن": (1/ 189). ووقع في الأصل "ابن المغيرة" والتصويب من السنن. (6) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (1363) ووقع في الأصل: "عبيد الله بن عمر عن نافع" والتصحيح من "الأوسط" و"الإمام": (1/ 492). (7) نقلها ابن دقيق العيد في "الإمام": (1/ 492)، وعنه ابن الملقن في "البدر المنير": (2/ 190 - 191).

(1/104)


وأما حديث أبي أيوب، فذكره الترمذي في كتاب "العلل" (1) , وقال: سألت محمدًا عنه؟ فقال: لا شيء. فقلت: أبو سَورة ما اسمه؟ فقال: ما أدري، ما يُصنع به؟ عنده مناكير, ولا يُعْرف له سماع من أبي أيوب. ورواه ابنُ ماجه في "سننه" (2) من (3) حديث ابن أبي أوفى، وراويه فائد أبو (4) الورقاء, متروك باتفاقهم (5). وحديث أبي أمامة رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (6) من حديث أبي غالب، عن أبي أمامة. وأبو غالب ضعَّفه النسائي ووثقه الدارقطني. وقال ابن معين: صالح الحديث. وصحح له الترمذي (7). _________ (1) (1/ 33). وأخرجه أحمد (23541)، وابن ماجه (433). (2) (416) مختصرًا ليس فيه لفظة التخليل، وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" كما في "الإتحاف" (561) بسياق أتم وفيه: "ثم يمسح برأسه ويخلل لحيته". وضعَّفه البوصيري في "الإتحاف" وفي "مصباح الزجاجة": (1/ 335). وأخرجه أبو عبيد في "الطهور" (311). (3) زاد في ط. المعارف: " [و] من حديث" وقال إنها زيادة لابد منها؛ لأن ابن ماجه لم يخرج حديث ابن أبي أوفى. قلت: بل خرَّجه كما سلف في الحاشية السابقة، فالزيادة مقحمة لا مبرر لها. (4) الأصل: "ورواية فائد أبي"، وفي ط. الفقي "من رواية" والسياق يقتضي ما أثبته. (5) ترجمته في "الجرح والتعديل": (7/ 83)، و"تهذيب التهذيب": (8/ 255 - 256). (6) (112)، وأخرجه الطبراني في "الكبير": (8/ 333). قال الحافظ: "وإسناده ضعيف" "التلخيص": (1/ 97). وحسَّنه ابن الملقن في "البدر المنير": (2/ 190). (7) ترجمته في "التهذيب": (12/ 197).

(1/105)


وحديث جابر ضعيف جدًّا (1). وحديث جَرير ذكره ابنُ عدي (2) من حديث ياسين الزيّات, عن رِبْعيّ بن حراش، عن جرير مرفوعًا. وياسين متروك عند النسائي والجماعة (3). وحديث عائشة رواه أحمد في "مسنده" (4). وحديث أم سلمة ذكره الترمذي في كتابه (5) معلَّقًا فقال: وفي الباب عن أم سلمة، وذَكَر جماعةً من الصحابة (6).

  10 - باب المسح على العمامة

15/ 133 - عن ثوبان - رضي الله عنه - قال: "بعثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سريّة، فأصابهم البرد، فلمَّا قَدِموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرَهم أن يمسحوا على العصائب _________ (1) أخرجه ابن عدي في "الكامل": (1/ 403) في ترجمة أصرم بن غياث، وذكره في مناكيره، وقال الحافظ في "التلخيص": (1/ 98): "وأصرم متروك الحديث قاله النسائي، وفي الإسناد انقطاع أيضًا". (2) في "الكامل": (7/ 184) في ترجمة ياسين الزيات وقال: "وكل رواياته أو عامتها غير محفوظة". (3) ترجمته في "الكامل": (7/ 183 - 184)، و"الجرح والتعديل": (9/ 312 - 313). (4) (25970)، وأخرجه أبو عبيد في "الطهور" (314)، والحاكم: (1/ 150). قال الدارقطني: إسناده مجهول، حَمَله الناسُ، وقال الهيثمي في "المجمع": "رجاله موثقون". وحسّن إسناده الحافظ في "التلخيص": (1/ 97). (5) (1/ 45). وأخرجه الطبراني في "الكبير": (23/ 298)، وأشار إليه البيهقي: (1/ 54). قال الحافظ: "وفي إسناده خالد بن إلياس، وهو منكر الحديث". (6) بعده في الأصل بياض نحو سطرين.

(1/106)


والتّسَاخين". 16/ 134 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال: "رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ وعليه عمامة قِطْرِيّة، فأدخل يديه من تحت العمامة، فمسح مقدَّم رأسه، ولم ينقُضِ العمامة" (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: قال ابن المنذر (2): ويَمْسح على العمامة, لثبوت ذلك عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وعن أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -. وقال الجوزجاني (3): رَوى المسحَ على العمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: سلمانُ الفارسي، وثوبان، وأبو أمامة، وأنس بن مالك، والمغيرة بن شُعبة، وأبو موسى. وفَعَله الخليفة الراشد أبو بكر الصديق، وقال عمر بن الخطاب: مَن لم يطهِّره المسح على العمامة فلا طهَّره الله. قال: والمسح على العمامة سُنَّة مِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماضية مشهورة عند ذوي القناعة من أهل العلم في الأمصار. وحكاه عن ابن أبي شيبة وأبي خيثمة زهير، وسليمان بن داود الهاشمي (4) مذهبًا لهم. ورواه أيضًا عَمرو بن أمية الضّمْري وبلال. _________ (1) في الأصل نقل المجرّد الحديث بلفظ: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينقض العمامة". وهو اختصار يعكس المعنى. (2) في "الإقناع": (1/ 63 - 64). وانظر "الأوسط": (2/ 119 - 123). (3) لعله في كتابه "المترجم"، فإن ابن قدامة وغيره ينقلون منه روايات وكلامًا في الفقه، قال ابن كثير: "فيه علوم غزيرة وفوائد كثيرة". "البداية والنهاية": (14/ 545). (4) في الأصل: "الهاشم".

(1/107)


فأما حديث سلمان (1).

  11 - باب التوقيت في المسح (2)

17/ 145 - عن خُزيمة بن ثابت - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "المسحُ على الخُفّين للمسافر ثلاثة أيام، وللمقيم يومٌ وليلة". وأخرجه الترمذي وابن ماجه (3). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. 18/ 146 - وفي لفظ لأبي داود: "ولو استزَدْناه لزادنا". وفي لفظ لابن ماجه (4): "ولو مضى السائلُ على مسألته لجعلها خمسًا". وذَكَر الخطّابيّ: أن الحَكَم وحمادًا قد روياه عن إبراهيم، فلم يذكرا (5) فيه هذا الكلام. ولو ثبت لم يكن فيه حجة، لأنه ظنٌّ منه وحُسْبان. والحجَّة إنما تقوم بقول صاحب الشريعة، لا بظنِّ الراوي. وقال البيهقي: وحديث خزيمة بن ثابت إسناده مضطرب، ومع ذلك فما لم يرد لا يصير سنة. [ق 24] هذا آخر كلام _________ (1) كذا في الأصل، وفي الكلام نقص ظاهر؛ فلعلّ المصنف قصد الكلام على الأحاديث واحدًا واحدًا كما صنع في أحاديث تخليل اللحية، وحديث سلمان أخرجه ابن أبي شيبة (229)، وأحمد (23717)، وابن حبان (1344). قال الترمذي في "العلل": (1/ 181 - 182): "سألتُ محمدًا عن هذا الحديث، قلت: أبو شريح ما اسمه؟ قال: لا أدري، لا أعرف اسمه، ولا أعرف اسم أبي مسلم مولى زيد بن صوحان، ولا أعرف له غير هذا الحديث. (2) يعني المسح على الخُفّين. (3) أخرجه أبو داود (157)، والترمذي (95)، وابن ماجه (554). (4) (553). (5) (خ): "يذكر"، وصوّبها في الهامش فقال: "في معالم السنن: يذكرا".

(1/108)


البيهقي (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد أعلَّ أبو محمد بن حزم (2) حديثَ خُزيمة هذا بأن قال: "رواه عنه أبو عبد الله الجدليّ, صاحب راية الكافر المختار, لا يعتمد على روايته". وهذا تعليلٌ في غاية الفساد, فإن أبا عبد الله الجدليّ قد وثَّقه الأئمة: أحمد ويحيى، وصحَّح الترمذيُّ حديثَه، ولا يُعلم أحدٌ من أئمة الحديث طَعَن فيه (3). وأما كونه صاحب راية المختار, فإن المختار إنما أظهر الخروج لأخْذِه بثأر الحسين والانتصار له مِن قَتَلَته. وقد طعن أبو محمد بن حزم (4) في أبي الطفيل, وردَّ روايته بكونه كان صاحب راية المختار أيضًا, مع أن أبا الطفيل كان من الصحابة, ولكن لم يكونوا يعلمون ما في نفس المختار وما يُسِرُّه, فردُّ روايةِ الصاحبِ والتابعِ الثقةِ بذلك باطلٌ. وأيضًا: فقد روى ابن ماجه (5) هذا الحديث عن علي بن محمد، عن وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن إبراهيم التيمي، عن عَمرو بن ميمون، عن _________ (1) في (خ): "آخر كلامه"، وفي الأصل و (ط المختصر) كما هو مثبت، وبقي من كلام المنذري سياقه لحديث عليّ في مسلم، ولم نسقه لأن المجرِّد ذكر أن تعليق ابن القيم كان عند قول المنذري "آخر كلام البيهقي". (2) في "المحلى": (2/ 89). (3) ترجمته في "التهذيب": (12/ 148). (4) في "المحلى": (3/ 174). (5) (553).

(1/109)


خزيمة. فهذا عَمرو بن ميمون قد تابع أبا عبد الله الجَدَلي, وكلاهما ثقة صدوق. وقد قيل: إن عَمرو بن ميمون رواه أيضًا عن أبي عبد الله الجَدَلي عن خزيمة (1)، فإن صحَّ ذلك لم يضرّه شيئًا, فلعله سَمِعه من أبي عبد الله, فرواه عنه, ثم سمعه من خزيمة, فرواه عنه. 19/ 147 - وعن أُبيِّ بن عِمَارة ــ وكان قد صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القِبْلَتَين ــ أنه قال: "يا رسول الله، أمْسَحُ على الخُفّين؟ قال: نعم، قال: يومًا؟ قال: يومًا، قال: ويومين (2)؟ قال: ويومين، قال: وثلاثة؟ قال: نعم وما شئت". 20/ 148 - وفي رواية: "حتى بلغ سَبعًا ــ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ــ: نعم، ما بَدَا لَك". وأخرجه ابن ماجه (3). وقال أبو داود: وقد اختلف في إسناده، وليس بالقوي. وبمعناه قال البخاري. وقال الإمام أحمد بن حنبل: رجاله لا يعرفون. وقال الدارقطني: هذا إسنادٌ لا يثبت. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد اخْتُلف فيه على يحيى بن أيوب اختلافًا كثيرًا. وعبد الرحمن، ومحمد بن يزيد، وأيوب بن قَطَن: مجهولون كلُّهم (4). وقد _________ (1) وهي رواية الترمذي (95)، وأحمد (22201). (2) "قال: يومًا، قال: ويومين؟ " سقطت من (خ - المختصر) والمثبت من "سنن أبي داود" (158)، و (ط - المختصر). (3) أخرجه أبو داود (158)، وابن ماجه (557). (4) هذا التعليل بنصه ذكره ابن الجوزي في "التحقيق": (1/ 209). وانظر "تنقيح التحقيق": (1/ 332 - 333)، و"البدر المنير": (3/ 41 - 43).

(1/110)


أخرجه الحاكم في "المستدرك" (1) من طريق يحيى بن عثمان بن صالح ويحيى بن معين, كلاهما عن عَمرو بن الربيع بن طارق، أنا يحيى (2) بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رَزين، عن محمد بن يزيد بن أبي زياد ــ قال يحيى: شيخٌ من أهل مصر ــ عن عُبادة بن نُسَي (3) ... الحديث. قال الحاكم: هذا إسناد مصري, لم يُنْسَب واحد منهم إلى جرح (4)، وهذا مذهب مالك, ولم يخرجاه. والعجب من الحاكم، كيف يكون هذا مستدركًا على "الصحيحين" ورواته لا يعرفون بجرح ولا بتعديل؟ والله أعلم (5). 12 - باب المسح على الجورَبَين 21/ 149 - عن أبي قيسٍ الأوْدِيّ، عن هُزَيل بن شُرَحْبيل، عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على الجوْرَبين والنعلين". وأخرجه الترمذي وابن ماجه (6)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال أبو داود: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدِّث بهذا الحديث، لأن _________ (1) (1/ 170 - 171). (2) في ط. الفقي: "محمد" تحريف. (3) رسمه في الأصل: "لس"! (4) وتعقبه الذهبي فقال: "بل مجهول". (5) وانظر كلام المؤلف على الحاكم ومستدركه في "الفروسية" (ص 185 - 186 و 213) و"المنار المنيف" (ص 5). (6) أخرجه أبو داود (159)، والترمذي (99)، وابن ما جه (559).

(1/111)


المعروف عن المغيرة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين". قال أبو داود: ورُوي هذا أيضًا عن أبي موسى الأشعري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه مسح على الجَورَبين" وليس بالمتصل ولا بالقوي (1). قال أبو داود: ومسَحَ على الجوربين: عليُّ بنُ أبي طالب، وأبو (2) مسعود، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك، وأبو أمامة، وسهل بن سعد، وعَمرو بن حُرَيث. ورُوي ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، - رضي الله عنهم -. وذكر أبو بكر البيهقي حديثَ المغيرة هذا وقال: وذاك حديث منكر، ضَعّفه سفيان الثوري، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعليّ بن المديني، ومسلم بن الحجاج. والمعروف عن المغيرة حديث المسح على الخُفّين، ويُروى عن جماعة أنهم فعلوه. والله أعلم بالصواب. هذا آخر كلامه. وأبو قيس الأودي اسمه عبد الرحمن بن ثَرْوان الأَوْدي الكوفي. وهو وإن كان البخاريُّ قد احتجَّ به فقد قال الإمام أحمد بن حنبل: لا يحتج بحديثه. وسئل عنه أبو حاتم الرازي؟ فقال: ليس بقوي، هو قليل الحديث، وليس بحافظ، قيل له: كيف حديثه؟ قال: هو صالح، هو ليّن الحديث. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال النسائي (3): "ما نعلم أن أحدًا تابع هُزَيلًا _________ (1) ذكر المجرِّد أن تعليق ابن القيم كان عند قول المنذري "ولا بالقوي" وذكرنا كلامه بتمامه لفائدته في الكلام على الحديث والمسألة التي علق عليها المؤلف. (2) في (ط- المختصر) ومطبوعات "السنن": "ابن" وهي رواية ابن داسة. وفي نسخ "المختصر"، ونسخ عتيقة "للسنن": "أبو". (3) في "السنن الكبرى" (129)، وعبارته هناك: "ما نعلم أحدًا تابع أبا قيس ... ".

(1/112)


على هذه الرواية, والصحيح عن المغيرة: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخُفّين". وقال البيهقي (1): قال أبو محمد ــ يعني يحيى بن منصور ــ رأيتُ مسلمَ بن الحجَّاج (2) ضعَّف هذا الخبر, وقال: أبو قيس الأودي وهُزيل بن شرحبيل لا يَحْتَمِلان هذا مع مخالفتهما جُمْلة الذين رووا هذا الخبر عن المغيرة, فقالوا: "مَسَح على الخفّين". وقال: لا يُتْرَك ظاهرُ القرآن بمثل أبي قيس وهُزيل. قال: فذكرتُ هذه الحكاية عن مسلم لأبي العباس الدَّغولي (3)؟ فسمعته يقول: سمعت علي بن مَخْلد بن شيبان يقول: سمعت أبا قدامة السرخسي يقول: قال عبد الرحمن بن مهدي: قلت لسفيان الثوري: لو حدَّثتني (4) بحديث أبي قيس عن هُزيل ما قَبِلتُه منك؟ فقال سفيان: الحديث ضعيف, أو واهٍ, أو كلمة نحوها. وقال عبد الله بن أحمد (5): حدَّثتُ أبي بهذا الحديث, فقال أبي: ليس _________ (1) في "السنن الكبرى": (1/ 284). (2) ينظر كلام مسلم في تعليل الخبر في "التمييز": (ص 202 - 203). (3) الأصل: "الدغورا" خطأ. والتصويب من "سنن البيهقي" وهو الحافظ محمد بن عبد الرحمن السَّرَخسيّ الدغولي (ت 325). ترجمته في "السير": (14/ 557). (4) في الأصل: "لو رجل حدثني"، وفي "سنن البيهقي" والمصادر كما هو مثبت، وهو الصواب بدليل قوله: "ما قبلتُه منكَ". (5) في كتاب "العلل": (3/ 366 - 367)، وقال في آخره: "يعني حديث المغيرة هذا لا يرويه إلا من حديث أبي قيس".

(1/113)


يُرْوى هذا إلا من حديث أبي قيس. قال أبي: أبى (1) عبدُ الرحمن بن مهدي أن يحدِّث به, يقول: هو منكر. وقال ابن البرَّاء: قال علي بن المديني: حديث المغيرة بن شعبة في المسح، رواه عن المغيرة أهلُ المدينة وأهلُ الكوفة وأهلُ البصرة, ورواه هُزَيل بن شرحبيل عن المغيرة, إلا أنه قال: "ومسَحَ على الجَوْرَبين" وخالفَ الناسَ. وقال المفضّل بن غسّان (2): سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث؟ فقال: الناس كلّهم يروونه "على الخفين" غير أبي قيس. قال ابن المنذر (3): يُروى المسح على الجورَبين عن تسعةٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: عليّ, وعمَّار, وأبي مسعود الأنصاري, وأنس, وابن عمر, والبراء, وبلال, وعبد الله بن أبي أوفى (4) , وسهل بن سعد. وزاد أبو داود (5): أبو أمامة, وعَمرو بن حُرَيث, وعُمر, وابن عباس. فهؤلاء ثلاثة عشر صحابيًّا. والعمدة في الجواز على هؤلاء - رضي الله عنهم - لا على _________ (1) في مطبوعة "العلل": "أتى" تصحيف. (2) في ط. الفقي: "الفضل بن عتبان" تصحيف. (3) في "الأوسط": (2/ 115). (4) في "الأوسط" بدلًا منه: "وأبي أمامة". فلعلّ المؤلف نقل من نسخة أخرى، وقد وافق المؤلف في النقل عن ابن المنذر ابنُ قدامة في "المغني": ــ ولعل المؤلف صادر عنه ــ (1/ 374)، وابنُ عبد الهادي في "التنقيح": (1/ 346). وهو من حديث أبي أمامة في "مصنف ابن أبي شيبة" (1991). (5) في "السنن": (1/ 41).

(1/114)


حديث أبي قيس. مع أن المنازعين في المسح متناقضون, فإنهم لو كان هذا الحديث من جانبهم لقالوا: هذه زيادة, والزيادة من الثقة مقبولة, ولا يلتفتون إلى ما ذكروه هاهنا من تفرُّد أبي قيس. فإذا كان الحديث مخالفًا لهم أعلّوه بتفرُّد راويه, ولم يقولوا: زيادة الثقة مقبولة, كما هو موجود في تصرفاتهم! والإنصاف: أن تَكْتال لمنازعك بالصاع الذي تَكْتال به لنفسك, فإنّ في كلِّ شيء وفاءً وتَطْفيفًا. ونحن لا نرضى هذه الطريقة, ولا نعتمد على حديث أبي قيس. وقد نصَّ أحمد على جواز المسح على الجوربين (1) , وعلَّل رواية أبي قيس. وهذا من إنصافه وعدله رحمه الله, وإنما عمدته هؤلاء الصحابة وصريحُ القياس, فإنه لا يظهر بين الجوربين والخُفَّين فرقٌ مؤثِّر يصح أن يُحَال الحكم عليه. والمسح عليهما [ق 25] قولُ أكثر أهل العلم، منهم من سَمَّينا من الصحابة, وأحمد, وإسحاق بن راهويه, وعبد الله بن المبارك، وسفيان الثوري، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري, وسعيد بن المسيب, وأبو يوسف. ولا يُعْرَف في الصحابة مخالفٌ (2) لمن سَمَّينا. وأما حديث أبي موسى الذي أشار إليه أبو داود, فرواه البيهقي (3) من حديث عيسى بن يونس، عن أبي سنان عيسى بن سنان، عن الضحَّاك بن عبد الرحمن، عن أبي موسى قال: "رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الجَورَبين والنعلين". _________ (1) كما في "مسائل ابن هانئ": (1/ 17)، و"مسائل الكوسج": (2/ 287 - 288). (2) في الطبعتين: "ولا نعرف في الصحابة مخالفًا ... " خلاف الأصل. (3) (1/ 284).

(1/115)


وهذا الحديث له علّتان ذكرهما البيهقي: أحدهما (1): أن الضحَّاك بن عبد الرحمن لم يثبت سماعُه من أبي موسى. والثانية: أن عيسى بن سنان ضعيف. قال البيهقي (2): وتأوَّل الأستاذُ أبو الوليد حديثَ المسح على الجَورَبين والنعلين على أنه مسحَ على جوربين مُنَعَّلين, لا أنه جورب على الانفراد, ونعل على الانفراد. قلت: هذا مبنيٌّ على أنه يستحبّ مسح أعلى الخُفّ وأسفله [والاستيعابُ] (3) في ذلك. والظاهر أنه مسَحَ على الجوربين الملبوس عليهما (4) نعلان منفصلان. هذا المفهوم منه, فإنه فَصَل بينهما وجعلهما شيئين (5). ولو كانا جوربين مُنَعَّلَين لقال: مسح على الجوربين المُنعَّلين. وأيضًا: فإن الجِلْد الذي في أسفل الجورب لا يسمى نعلًا في لغة العرب, ولا أطلق أحد عليه هذا الاسم. _________ (1) كذا في الأصل، والوجه: "إحداهما" وقد تكرر ذلك مرارًا. (2) (1/ 285). (3) كلمة غير محررة في الأصل، وفي ط. الفقي: "والبيان"، وفي ط. المعارف: "والشأن". وما أثبتناه يستقيم به المعنى. (4) الأصل: "عنهما". (5) في الطبعتين: "سنّتين"، والكلمة غير محرّرة النقط في الأصل، والمثبت من (ش، هـ). وهو الموافق للمعنى.

(1/116)


وأيضًا: فالمنقول عن عمر بن الخطاب في ذلك أنه مَسَح على سيور النعل التي على ظاهر القَدَم مع الجورب (1) , فأما أسفله وعَقِبه فلا. وفيه وجه آخر: أنه يمسح على الجورب وأسفل النعل وعقبه. والوجهان لأصحاب أحمد (2). وأيضًا: فإن تجليد أسافل الجوربين لا يخرجهما عن كونهما جورَبين ولا يؤثِّر اشتراط ذلك في المسح، وأيُّ فرقٍ بين أن يكونا مجلَّدين أو غير مجلَّدين؟ وقول مسلم - رحمه الله -: "لا يُترك ظاهر القرآن بمثل أبي قيس وهُزيل" جوابه من وجهين: أحدهما: أن ظاهر القرآن لا ينفي المسحَ على الجوربين إلا كما ينفي المسحَ على الخُفّين, وما كان الجواب عن موارد الإجماع فهو الجواب في مسألة النزاع. الثاني: أن الذين سمعوا القرآن من النبي - صلى الله عليه وسلم - وعرفوا تأويلَه مسحوا على الجَورَبين, وهم أعلم الأمة بظاهر القرآن ومراد الله منه. والله أعلم.

  13 - باب كيف المسح؟

22/ 157 - عن المغيرة بن شعبة قال: "وضّأتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، فمسح أعلى الخفِّ وأسفَلَه". _________ (1) لم أقف عليه. (2) ينظر "الإنصاف": (1/ 179 - 181)، و"المبدع": (1/ 109).

(1/117)


وأخرجه الترمذي وابن ماجه (1). وضعَّف الإمام الشافعي - رضي الله عنه - حديثَ المغيرة هذا. وقال أبو داود: بلغني أنه لم يسمع ثورٌ هذا الحديث من رجاء. وقال الترمذي: وهذا حديث معلول. وقال: سألت أبا زرعة ومحمدًا عن هذا الحديث؟ فقالا: ليس بصحيح. قال ابن القيم (2) - رحمه الله -: حديث المغيرة هذا قد ذُكِر له أربع علل: أحدها (3): أن ثور بن يزيد لم يسمعه من رجاء بن حَيْوة, بل قال: حُدِّثت عن رجاء. قال عبد الله بن أحمد في كتاب "العلل" (4): نا أبي قال: وقال عبد الرحمن ابن مهدي، عن عبد الله بن المبارك، عن ثور بن يزيد قال: حُدِّثت عن رجاء بن حَيْوة, عن كاتب المغيرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح أعلى الخُفّين وأسفلهما". العلة الثانية: أنه مرسل, قال الترمذي (5): سألت أبا زرعة ومحمدًا عن _________ (1) أخرجه أبو داود (165)، والترمذي (97)، وابن ماجه (550). (2) رسمه في الأصل: "إبراهيم"، وكذا أثبت في الطبعتين. وأصلحه في هامش (ش) إلى "ابن القيم"، وهو الصواب. (3) كذا في الأصل، والوجه: "إحداها". (4) لم أجده في المطبوع منه، ونقله عنه أبو داود في "السنن" (132). وذكر مثله ابن أبي حاتم في "مقدمة الجرح والتعديل": (ص 37)، والعقيلي في "الضعفاء": (4/ 14) عن علي ابن المديني عن سفيان. (5) "الجامع" (97). وباقي كلامه: "لم يذكر فيه المغيرة". وذكره في "العلل الكبير" (70) عنهما وزاد أنهما ضعّفاه.

(1/118)


هذا الحديث؟ فقالا: ليس بصحيح، لأن ابن المبارك روى هذا عن ثورٍ عن رجاء, قال: حُدِّثت عن كاتب المغيرة، مرسل عن (1) النبي - صلى الله عليه وسلم -. العلة الثالثة: أنَّ الوليد بن مسلم لم يصرِّح فيه بالسماع من ثور بن يزيد, بل قال فيه: "عن ثور"؛ والوليد مدلِّس, فلا يُحْتجّ بعنعنته ما لم يصرِّح بالسماع. العلة الرابعة: أن كاتب المغيرة لم يسمَّ فيه, فهو مجهول. ذكر أبو محمد بن حزم (2) هذه العلة. وفي هذه العلل نظر: أما العلة (3) الأولى وهي: أن ثورًا لم يسمعه من رجاء، فقد قال الدارقطني في "سننه" (4): نا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، نا داود بن رُشَيد، نا الوليد بن مسلم، عن ثور بن يزيد قال: نا رجاء بن حيوة، عن كاتب المغيرة بن شعبة، عن المغيرة، فذكره. فقد صرَّح في هذه الرواية بالتحديث وبالاتصال، فانتفى الإرسال عنه. وأما العلة الثالثة: وهي تدليس الوليد, وأنه لم يصرِّح بسماعه، فقد رواه _________ (1) قوله "كاتب المغيرة مرسل عن" سقط من ط. الفقي. (2) في "المحلى": (2/ 114). (3) قوله: "العلة" كتبت فوق السطر وعليها علامة التصحيح. وغيّر النص في (ط. الفقي) إلى: "أما العلتان الأولى والثانية: وهما أن ... وأنه مرسل". وهو تصرّف بلا تنبيه، ولا حاجة إليه. (4) (752).

(1/119)


أبو داود (1) عن محمود بن خالد الدمشقي، ثنا الوليد، أنا ثور بن يزيد. فقد أُمِنَ تدليس الوليد في هذا. وأما العلة الرابعة: وهي جهالة كاتب المغيرة، فقد رواه ابن ماجه في "سننه" (2) وقال: "عن رجاء بن حَيْوة، عن ورَّاد كاتب المغيرة، عن المغيرة". وقال شيخنا أبو الحجاج المِزّي (3): رواه إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن عبد الملك بن عُمير، عن وَرَّاد، عن المغيرة. تم كلامه. وأيضًا: فالمعروف بكتابة المغيرة هو مولاه ورَّاد، وقد خُرِّج له في "الصحيحين" (4) , وإنما تُرك ذِكْر اسمه في هذه الرواية لشهرته وعدم التباسه بغيره. ومن له خبرة بالحديث ورواته لا يتمارى في أنه وَرَّاد كاتبه. وبعد، فهذا حديث قد ضَعَّفه [ق 26] الأئمة الكبار: البخاري, وأبو زرعة, والترمذي, وأبو داود, والشافعي, ومن المتأخرين: أبو محمد بن حزم. وهو الصواب، لأن الأحاديث الصحيحة كلها تخالفه. وهذه العلل وإن كان بعضها غير مؤثِّر، فمنها ما هو مؤثِّرٌ مانعٌ من صحة الحديث. وقد تفرَّد الوليد بن مسلم بإسناده ووَصْلِه، وخالفه من هو أحفظ منه وأجلّ، وهو الإمام الثبت عبد الله بن المبارك, فرواه عن ثور، عن رجاء _________ (1) (165). (2) (550). (3) في "تحفة الأشراف": (8/ 497). (4) خرج له البخاري أحاديث منها برقم (844، 2408، 5975)، ومسلم برقم (593، 1499).

(1/120)


قال: حُدِّثت عن كاتب المغيرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (1). وإذا اختلف عبد الله بن المبارك والوليد بن مسلم فالقول ما قال عبد الله. وقد قال بعض الحفاظ: أخطأ الوليد بن مسلم في هذا الحديث في موضعين: أحدهما: أن رجاء لم يسمعه من كاتب المغيرة, وإنما قال: حُدِّثت عنه. والثاني: أن ثورًا لم يسمعه من رجاء (2). وخطأ ثالث: أن الصواب إرساله. فميَّزَ الحُفّاظ ذلك كلَّه في الحديث وبيَّنوه, ورواه الوليدُ معنعنًا من غير تبيين. والله أعلم.

  14 - باب تفريق الوضوء

23/ 165 - عن قتادة قال: حدثنا أنس - رضي الله عنه -: أن رجلًا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد توضأ وتركَ على قَدمه (3) مثلَ موضع الظُّفْر، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارجع فأحسِنْ وضوءَك". وأخرجه ابن ماجه (4). وقال أبو داود: وهذا الحديث ليس بمعروف (5)، ولم يروه إلا ابنُ وهب. وقد رُوي عن معقل بن عبيد الله الجَزري، عن أبي الزبير، عن جابر، عن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه، قال: "ارجع فأحْسِن وضوءك". _________ (1) ذكره الترمذي: (1/ 162). كذا قال، والصواب أن ابن المبارك يرويه عن ثور قال: حُدّثت عن رجاء بن حيوة عن كاتب المغيرة ... كما ذكره في "العلل" (70)، وذكره الدارقطني في "العلل": (7/ 110). (2) ينظر: "تنقيح التحقيق": (1/ 340 - 341) لابن عبد الهادي. (3) (خ المختصر): "قدميه". (4) أخرجه أبو داود (173)، وابن ماجه (665). (5) في "السنن": (1/ 121) زيادة: "عن جرير بن حازم".

(1/121)


وذكره أبو داود (1) أيضًا من حديث الحسن ــ وهو البصري ــ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، مرسلًا بمعنى قتادة. وذكر الدارقطني (2) أن جرير بن حازم تفرَّد به عن قتادة، ولم يروه عنه غيرُ ابن وهب. وحديث عمر ــ الذي أشار إليه أبو داود ــ: أخرجه مسلم في "صحيحه" (3) عن سَلَمة بن شَبيب، عن ابن أعْيَن، عن مَعقِل. وأخرجه ابن ماجه (4) من حديث عبد الله بن لهيعة، عن أبي الزبير، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا يصلي، وفي ظهر قدمه لُمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد الوضوء والصلاة". في إسناده بقية بن الوليد، وفيه مقال. قال ابن القيم - رحمه الله -: هكذا علَّل أبو محمد المنذري وابنُ حزم (5) هذا الحديث برواية بَقِيَّة له. وزاد ابن حزم تعليلًا آخر, وهو: أن راويه مجهول لا يُدْرى مَن هو. والجواب عن هاتين العلتين: أما الأولى: فإنّ بَقيَّة ثقة في نفسه صدوق حافظ, وإنما نُقِمَ عليه التدليس, مع كثرة روايته (6) عن الضعفاء والمجهولين, وأما إذا صرَّح _________ (1) (174). وذكره أيضًا (175) من طريق بقية، عن بَحير، عن خالد، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ... وسيذكره المؤلف من "مسند أحمد". (2) (381). (3) (243). (4) لم أجده في ابن ماجه بهذا الطريق وإنما من طريق أبي الزبير، عن جابر، عن عمر بن الخطاب (666). (5) في "المحلى": (2/ 70 - 71). (6) الأصل: "رواته"، خطأ.

(1/122)


بالسماع فهو حجة. وقد صرَّح في هذا الحديث بسماعه له (1). قال أحمد في "مسنده" (2): حدثنا إبراهيم بن أبي العباس، نا بقيَّة، حدثني بَحِير بن سعد (3)، عن خالد بن معدان، عن بعض أزواج (4) النبي - صلى الله عليه وسلم -. فذكر الحديث. وقال: "فأمره أن يعيد الوضوء". قال الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل: هذا إسناد جيّد؟ قال: جيّد (5). وأما العلة الثانية: فباطلة أيضًا على أصلِ ابن حزمٍ، وأصلِ سائر أهل الحديث؛ فإن عندهم جهالة الصحابي لا تقدح في الحديث, لثبوت عدالة جميعهم. وأما أصل ابن حزم، فإنه قال في كتابه (6) في أثناء مسألة: كلُّ نساءِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ثقاتٌ فواضلُ عند الله عز وجل، مقدَّسات بيقين. 15 - باب الرخصة في ذلك (7) 24/ 171 - عن قيس بن طَلْق، عن أبيه قال: "قَدِمْنا على نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء _________ (1) بقية بن الوليد يدلّس تدليس التسوية، فلا يُقبل حتى يصرّح هو وشيخه بالسماع، ولا يكفي تصريحه هو فقط، ينظر: "نتائج الأفكار": (1/ 118 و 2/ 351) لابن حجر، و"البدر المنير": (5/ 102). (2) (15495). وأخرجه أبو داود (175) من طريق حيوة بن شريح عن بقية به، ومن طريقه البيهقي: (1/ 83). (3) وقع في الأصل و (ش) و"المحلى": "يحيى بن سعيد" تصحيف، وفي "السنن": "بجير ابن سعيد" تصحيف أيضًا، والتصويب من "المسند" وترجمته في "التقريب" (640). (4) كذا في الأصل، وفي "المحلى": "أزواج"، ووقع في "المسند" ومصادر الحديث: "أصحاب"، وتعليق ابن القيم على كلام ابن حزم يدلّ على أنها عنده "أزواج". (5) نقله في "المغني": (1/ 186)، وابن دقيق العيد في "الإلمام": (1/ 74). (6) "المحلى": (3/ 86). (7) الباب قبله: "الوضوء من مسّ الذَّكَر".

(1/123)


رجل كأنه بدويٌّ، فقال: يا نبي الله، ما ترى في مَسِّ الرَّجُل ذكرَه بعدما يتوضأ؟ فقال: هل هو إلا مُضْغَةٌ منه، أو بَضْعَة منه! ". وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (1). وفي لفظ النسائي ورواية لأبي داود: "في الصلاة" (2). قال الإمام الشافعي - رضي الله عنه -: قد سألنا عن قيس، فلم نجد من يعرفه بما يكون لنا قبول خبره، وقد عارضه مَن وَصَفْنا نعته ورجاحته في الحديث وثَبْته. وقال يحيى بن معين: لقد أكثر الناس في قيس بن طلق، وأنه لا يحتجّ بحديثه. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عن هذا الحديث؟ فقالا: قيس بن طلق ليس ممن يقوم به حجة، ووهَّناه، ولم يثبتاه. قال ابن القيم - رحمه الله -: نقض (3) الوضوء مِن مسِّ الذَّكَر فيه حديث بُسرة, قال الدارقطني: قد صحّ سماع عُروة من بُسرة هذا الحديث, وبُسرة هذه من الصحابيات الفُضَّل (4). قال مالك: أتدرون مَن بُسرة بنت صفوان؟ هي جدَّة عبد الملك بن مروان أمُّ أمِّه, فاعرفوها. وقال مصعب الزبيري: هي بنت صفوان بن نوفل, من المبايعات, وورقة بن نوفل عمها (5). _________ (1) أخرجه أبو داود (182)، والترمذي (85)، والنسائي (165)، وابن ماجه (483)، وأحمد (16286). (2) بعد في (ط- المختصر): "يعني مسّ الرجل ذكره في الصلاة". (3) الأصل: "حديث نقض". (4) ط. الفقي: "الفضليات". وكلام الدارقطني في "العلل": (15/ 313). (5) أخرجهما الحاكم في "المستدرك": (1/ 138)، ومن طريقه البيهقي في "معرفة السنن والآثار": (1/ 225 - 226).

(1/124)


وقد ظَلَم مَن تكلَّم في بُسرة وتعدَّى. وفي "الموطأ" في حديثها من رواية ابن بُكَير (1): "إذا مسَّ أحدُكم ذَكَره فليتوضأ وضوءه للصلاة". وفيه (2) حديث أبي هريرة يرفعه: "إذا أفضى أحدُكم بيده إلى ذَكَره, ليس بينه وبينها (3) شيء فليتوضأ". رواه الشافعي (4) عن سليمان بن عَمرو ومحمد بن عبد الله، عن يزيد بن عبد الملك الهاشمي، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة. قال ابن السَّكَن: هذا الحديث من أجود ما رُوِي في هذا الباب (5). قال ابن عبد البر (6): كان حديث أبي هريرة لا يُعْرف إلا بيزيد بن عبد الملك النوفلي، عن سعيد، عن أبي هريرة ــ ويزيد ضعيف ــ حتى رواه أصبغ بن الفَرَج، عن ابن القاسم، عن نافع بن أبي نعيم ويزيد بن عبد الملك جميعًا, عن سعيد، عن أبي هريرة. قال: فصحَّ الحديث بنقل العدل عن العدل على ما قال ابنُ السَّكَن, إلا أن أحمد بن حنبل كان لا يرضى نافع بن _________ (1) ذكرها ابنُ عبد البر في "التمهيد" بإسناده: (17/ 186). (2) أي: وفي الباب. (3) كذا في الأصل، أي بين ذكره وبين يده. وفي "الأم": "بينه وبينه". (4) في "الأم": (2/ 43)، وفي "المسند" (88). وأخرجه أحمد (8404)، وابن حبان (1118)، والدارقطني (532)، والبيهقي: (1/ 133) وغيرهم. (5) نقله ابن عبد البر في "التمهيد": (17/ 195). (6) في "التمهيد": (17/ 195).

(1/125)


أبي نعيم, وخالفه ابنُ معين فقال: هو ثقة. قال الحازمي (1): "وقد رُوي عن نافع بن عمر الجُمَحي، عن سعيد, كما رواه يزيد. وإذا اجتمعت هذه الطرق دلّتنا على أن له أصلًا من رواية أبي هريرة". وفي الباب حديث عَمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه يرفعه: "أيّما رجل مسَّ فرجَه فليتوضأ, وأيّما امرأةٍ مَسَّت فرجها فلتتوضأ" (2). قال الحازمي (3): "هذا إسناد صحيح؛ لأن إسحاق بن راهويه رواه في "مسنده": نا بقيَّة بن الوليد، حدثني الزبيدي، حدثني عَمرو، فذكره. وبَقيَّةُ ثقة في نفسه, وإذا روى عن المعروفين فمحتجٌّ به, وقد احتجَّ به مسلم ومن بعده من أصحاب الصحيح. والزّبيدي ــ محمد بن الوليد ــ إمامٌ محتجٌّ به. وعَمْرو بن شعيب ثقة باتفاق أئمة الحديث. قال: وإذا روى عن غير أبيه لم يختلف أحدٌ [ق 27] في الاحتجاج به, وأما روايته عن أبيه، عن جده, فالأكثرون على أنها متصلة, ليس فيها إرسال ولا انقطاع. _________ (1) في "الاعتبار": (1/ 224). (2) أخرجه أحمد (7076) وإسحاق بن راهويه كما في "الاعتبار": (1/ 225)، والدارقطني (534)، والبيهقي: (1/ 132). وقد نقل المؤلف تصحيحه عن البخاري والحازمي. (3) في "الاعتبار": (1/ 225 - 226).

(1/126)


وذكر الترمذي في كتاب "العلل" (1) له, عن البخاري أنه قال: "حديث عبد الله بن عَمرو في هذا الباب ــ في باب مَسِّ الذَّكَر ــ هو عندي صحيح". قال الحازمي: "وقد رُويَ هذا الحديث من غير وجهٍ عن عَمرو بن شعيب, فلا يُظَنّ أنه من مفاريد بقية". وأما حديث طَلْق، فقد رُجِّح حديثُ بُسرة وغيره عليه من وجوه: أحدها: ضعفه. والثاني: أن طلقًا قد اختلف عنه, فرُوي عنه: "هل هو إلا بضعة منك؟ " (2). وروى أيوب بن عُتبة، عن قيس بن طلق، عن أبيه مرفوعًا: "من مسَّ فَرْجَه فليتوضأ". رواه الطبراني (3) وقال: "لم يروه عن أيوب بن عتبة إلا حماد بن محمد، وهما عندي صحيحان, يشبه أن يكون سمع الحديث الأول من النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل هذا, ثم سمع هذا بَعْدُ (4) , فوافق حديثَ بُسرة، وأم حبيبة، وأبي هريرة، وزيد بن خالد الجهني، وغيرهم؛ فسمع الناسخَ والمنسوخَ" (5). _________ (1) (1/ 49). (2) وهو حديث الباب الذي تقدم. (3) في "الكبير": (8/ 334). ونقله الحازمي في "الاعتبار": (1/ 233) والمؤلف صادرٌ عنه. (4) في الأصل فوق العين علامة للسكون كبيرة، تشبه الهاء، فأثبت في (ش) وطبعة الفقي: "بعده". والمثبت موافق لما في (هـ) و"معجم الطبراني". (5) لفظ الطبراني: " ... وغيرهم ممن روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمرَ بالوضوء من مسّ الذكر، فسمع المنسوخَ والناسخَ".

(1/127)


الثالث: أن حديث طَلْق لو صحّ لكان حديث أبي هريرة ومَنْ معه مقدَّمًا عليه؛ لأن طلقًا قَدِمَ المدينةَ وهم يبنون المسجد, فذَكَر الحديث (1) , وفيه قصة مسّ الذَّكَر. وأبو هريرة أسلم عام خيبر, بعد ذلك بستّ سنين, وإنما يُؤخَذ بالأَحْدَث فالأحْدَث مِن أمْرِه - صلى الله عليه وسلم -. الرابع: أن حديث طَلْق مُبْقٍ على الأصل, وحديث بُسرة ناقل, والناقل مقدَّم لأن أحكام الشارع ناقلة عما كانوا عليه. الخامس: أن رُواة النقض أكثر, وأحاديثه أشهر, فإنه من رواية بُسرة, وأم حبيبة, وأبي هريرة، وأبي أيوب، وزيد بن خالد (2). _________ (1) أخرجه البيهقي: (1/ 135)، والحازمي في "الاعتبار": (1/ 231 - 232). (2) حديث بسرة وأبي هريرة تقدم تخريجهما. * وحديث أم حبيبة أخرجه ابن ماجه (481)، وابن أبي شيبة (1736)، والطحاوي في "شرح المعاني": (1/ 75)، والبيهقي في "السنن": (1/ 130) وفي "الخلافيات": (2/ 271 - 272). والحديث صححه أحمد فيما نقله الخلال، وقوّاه أبو زرعة فيما نقله الترمذي في "العلل": (1/ 161). وضعفه البخاري وغير واحد وأعلوه بالانقطاع، بأن مكحولًا الشامي لم يسمع من عنبسة، وخالفهم آخرون فأثبتوا سماعه. ينظر "التخليص الحبير": (1/ 133)، و"مصباح الزجاجة": (1/ 69)، و"الإرواء": (1/ 151). * وحديث أبي أيوب أخرجه ابن ماجه (482)، والطبراني في "الكبير": (4/ 140) من طريق إسحاق بن أبي فروة عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريّ عنه ... الحديث. قال الزيلعي في "نصب الراية": (1/ 57): "وهو حديث ضعيف، فإن إسحاق بن أبي فروة متروك باتفاقهم وقد اتهمه بعضهم". وانظر "مصباح الزجاجة": (1/ 69). * وأما حديث زيد بن خالد الجهني فأخرجه أحمد (21689)، وابن أبي شيبة (1735)، والطحاوي في "شرح المعاني": (1/ 73)، والطبراني في "الكبير": (5/ 243)، والبيهقي في "المعرفة": (1/ 222). من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عروة عنه الحديث. وأعله ابن المديني والبخاري بأن الزهري إنما رواه عن عبد الله بن أبي بكر عن عروة عن بسرة، رواه عنه ابن جريج، أخرجه ابن راهويه في "مسنده"، والبيهقي في "الخلافيات": (2/ 261). قال البيهقي: وهذا إسناد صحيح.

(1/128)


السادس: أنه قد ثبت الفرق بين الذَّكَر وسائر الجسد في النظر والمسّ, فثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أنه نهى أن يمسَّ الرجلُ ذَكَرَه بيمينه" (1)، فدلّ على أن الذَّكَر لا يشبه سائر الجسد, ولهذا صانَ اليمينَ عن مسِّه, فدلّ على أنه ليس بمنزلة الأنف والفَخِذ والرِّجْل. فلو كان كما قال المانعون: إنه بمنزلة الإبهام واليد والرِّجْل، لم يَنْه عن مَسَّه باليمين. والله أعلم. السابع: أنه لو قُدِّر تعارض الحديثين من كلِّ وجه لكان الترجيح لحديث النقض, لقول أكثر الصحابة, منهم: عمر بن الخطاب, وابنه, وأبو أيوب الأنصاري, وزيد بن خالد, وأبو هريرة, وعبد الله بن عَمرو, وجابر, وعائشة, وأم حبيبة, وبُسرة بنت صفوان. وعن سعد بن أبي وقاص روايتان، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - روايتان.

  16 - باب في الوضوء من لحوم الإبل

25/ 172 - عن البَراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء من لحوم الإبل؟ فقال: "توضؤوا منها". وسئل عن (2) لحوم الغنم؟ فقال: "لا توضؤوا منها". وسُئل عن الصلاة في مَبارك الإبل؟ فقال: "لا تُصَلوا في _________ (1) أخرجه البخاري (153)، ومسلم (267) من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه -. (2) في (خ- المختصر) زيادة: "الوضوء من"، وفي "السنن" بدونها.

(1/129)


مبارك الإبل، فإنها من الشياطين". وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال: "صلُّوا فيها، فإنها بَرَكة". وأخرجه الترمذي وابن ماجه مختصرًا (1). وكان أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقولان: قد صحَّ في هذا الباب حديث البراء بن عازب، وحديث جابر بن سَمُرة. قال الشيخ: وحديث جابر بن سمرة خَرَّجه مسلم في "صحيحه" (2)، ولفظه: أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: "إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ". قال: أأتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: "نعم، فتوضأ من لحوم الإبل". قال: أأصلي في مرابض الغنم؟ قال: "نعم". قال: أأصلي في مبارك الإبل؟ قال: "لا". قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد أعلّ ابنُ المديني حديثَ جابر بن سَمُرة في الوضوء من لحوم الإبل. قال محمد بن أحمد بن البرَّاء: قال عليّ: جعفر مجهول, يريد جعفر بن أبي ثور راويه عن جابر. وهذا تعليل ضعيف، قال البخاري في "التاريخ" (3): جعفر بن أبي ثور [عن] جدّه جابر بن سمرة، قال سفيان وزكريا وزائدة: عن سِماك، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في اللحوم. قال البخاري (4): _________ (1) أخرجه أبو داود (184)، والترمذي (81)، وابن ماجه (494)، وأحمد (18538)، وابن حبان (1128). (2) (360). (3) (2/ 187). وما بين المعكوفين منه. (4) في "التاريخ الكبير": (2/ 187).

(1/130)


وقال أهلُ النسب: ولدُ جابرِ بن سَمُرة: خالدٌ، وطلحةُ، ومَسْلمةُ (1) وهو أبو ثور. قال: وقال شعبة: عن سماك، عن أبي ثور بن عكرمة بن جابر بن سَمُرة، عن جابر. قال الترمذي في "العلل" (2): حديث سفيان الثوري أصحّ من حديث شعبة, وشعبة أخطأ فيه فقال: عن أبي ثور, وإنما هو جعفر بن أبي ثور. قال البيهقي (3): وجعفر بن أبي ثور رجل مشهور, وهو مِن ولد جابر بن سمرة, روى عنه سِماك بن حَرْب وعثمان بن عبد الله بن مَوهَب، وأشعث بن أبي الشعثاء. قال ابن خزيمة: وهؤلاء الثلاثة من أجِلَّة رواة الحديث. قال البيهقي (4): ومن روى عنه مثل هؤلاء خرج من (5) أن يكون مجهولًا، ولهذا أودعه مسلم كتابه "الصحيح". قال البيهقي (6): وأخبرنا أبو بكر أحمد بن عليّ الحافظ، نا إبراهيم بن عبد الله الأصفهاني، قال: قال محمد بن إسحاق بن خزيمة: لم نر خلافًا بين _________ (1) كذا في الأصل وهو كذلك في بعض نسخ "التاريخ"، وفي بعضها: "سلمة"، وانظر هامش "التاريخ". (2) (1/ 46). وانظر "العلل": (13/ 404 - 406) للدارقطني. (3) في "السنن الكبرى": (1/ 158)، وهذا القول برمته للترمذي في "العلل": (1/ 46). (4) "السنن الكبرى": (1/ 158). (5) في الطبعتين: "عن" خلافًا لما في الأصل و"السنن الكبرى". وهو أسلوب صحيح سائغ استعمله الشافعي في مواضع من كتاب "الأم". (6) "السنن الكبرى": (1/ 159).

(1/131)


علماء الحديث أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل لعدالة ناقليه. قال البيهقي: ورُوّينا عن علي بن أبي طالب وابن عباس: "الوضوء مما خرج, وليس مما دخل". وإنما قالا ذلك في ترك الوضوء مما مَسّت النار. ثم ذَكَر عن ابن مسعود أنه أُتِيَ بقصعةٍ من الكبد والسّنام من لحم الجزور, فأكل ولم يتوضَّأ. قال: وهذا منقطع وموقوف. ورُوي عن أبي عبيدة قال: كان عبد الله بن مسعود يأكل من ألوان الطعام ولا يتوضَّأ منه. قال البيهقي: وبمثل هذا لا يُتْرَك ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [ق 28] هذا كلامه في "السنن الكبير". وهو كما ترى صريحٌ في اختياره القولَ بأحاديث النقض. واختاره ابن خزيمة. ومن العجب معارضة هذه الأحاديث بحديث جابر: "كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مَسّت النار" (1)، ولا تعارض بينهما _________ (1) أخرجه أبو داود (192)، والنسائي (185)، وابن خزيمة (43)، وابن حبان (1134)، والبيهقي: (1/ 155 - 156) من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر به. وأعله أبو حاتم في "العلل" (168) للاضطراب في المتن، وذكر أبو داود وابن حبان بأنه مختصر من حديث: "قرّبت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خبزًا ولحمًا فأكل ... " الحديث، وفيه أنه أكل لحمًا ولم يتوضأ. وذكر ابن أبي حاتم أن شعيب بن أبي حمزة يمكن أن يكون حدّث به من حفظه فوهم. وناقش هذا التعليل ابن دقيق العيد في "الإمام" فاستبعد قضية الاختصار. وأُعل بعلة أخرى بأن ابن المنكدر لم يسمع هذا الحديث من جابر، وإنما سمعه من عبد الله بن محمد بن عقيل عنه. وعبد الله صدوق فيه بعض اللين. وللحديث شواهد. والحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان وابن السكن والنووي وابن الملقن وغيرهم. ينظر "الإمام": (1/ 403 - 405)، و"البدر المنير": (2/ 412 - 416)، و"التلخيص": (1/ 125 - 126).

(1/132)


أصلًا؛ فإنَّ حديثَ جابر هذا إنما يدلّ على أن كونه ممسوسًا بالنار ليس جهة من جهات نقض الوضوء, ومَن نازعكم في هذا؟ نعم، هذا يصلح أن يحتجّوا به على من يوجب الوضوء مما مسَّت النار, على صعوبة تقرير دلالته. وأما من يجعل كون اللحم لحمَ إبل هو الموجِبَ للوضوء, سواء مَسَّته النار أم لم تمسّه، فيوجب الوضوءَ من نِيِّه ومطبوخه وقديده, فكيف يُحتجّ عليه بهذا الحديث؟ وحتى لو كان لحم الإبل فردًا من أفراده، فإنما تكون دلالته بطريق العموم, فكيف يُقدَّم على الخاص؟ هذا مع أن العموم لم يُسْتَفد ضِمْنَ كلامِ (1) صاحب الشرع, وإنما هو من قول الراوي. وأيضًا: فأبْيَن مِن هذا كلّه: أنه لم يحكِ لفظًا, لا خاصًّا ولا عامًّا, وإنما حكى أمرين هما فعلان، أحدهما متقدِّم, وهو فعل الوضوء, والآخر متأخّر، وهو تركه مِن ممسوس النار. فهاتان واقعتان, توضّأ في أحدهما (2) وترك _________ (1) "ضمن كلام" كتبه الناسخ لحقًا، ثم ضرب على "كلام" لوجوده في الصلب، ولكن مسبوقًا بحرف "مِن". فأصلح في طبعة الفقي هكذا: "ضمنًا من كلام"، وفي طبعة المعارف أصلحها إلى: "لم يستفد من كلام". ويظهر أن "مِن" تصحيف "ضمن". والله أعلم. (2) كذا في الأصل والوجه: "إحداهما". وقد تكرّر مثله في الكتاب في مواضع سبق بعضها.

(1/133)


في الأخرى مِن شيء معيّن مسَّتْه النار, لم يحكِ لفظًا عامًّا ولا خاصًّا يُنْسَخ به اللفظ الصريح الصحيح. وأيضًا: فإنّ الحديث قد جاء مبيَّنًا من رواية جابر نفسه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دُعِي إلى طعام, فأكل، ثم حضرت الظهر, فقام وتوضأ وصلى ثم أكل, فحضرت العصر, فقام فصلى ولم يتوضأ" (1). فكان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مسّت النار. فالحديث له قصة, فبعض الرواة اقتصر على موضع الحجة فحذف القصة، وبعضهم ذكرها, وجابر روى الحديث بقصته. والله أعلم.

  17 - باب في المَذْي

26/ 196 - وعن عروة بن الزبير، عن عليّ بن أبي طالب نحو حديث المقداد، وفيه: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليغسل ذكره وأنثييه". وأخرجه النسائي ولم يذكر "أنثييه" (2). وقال أبو حاتم الرازي: عروة بن الزبير عن علي مرسل. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد رواه أبو عوانة الإسفراييني في "صحيحه" (3) من حديث سليمان بن حيّان (4)، عن ابن حسان، عن محمد بن سيرين، عن _________ (1) أخرجه أبو داود (191)، وهو بنحوه عند الترمذي (80)، وابن ماجه (489)، وإسناده صحيح. (2) أخرجه أبو داود (206، 208)، والنسائي (435)، وأحمد (1009). (3) (765). وصحّحها ابن الملقن، وقال الحافظ: "لا مطعن فيها". ينظر "فتح الغفّار": (1/ 27). (4) في الأصل: "حسان"، والتصويب من "صحيح أبي عوانة". وترجمته في "التهذيب": (4/ 181).

(1/134)


عَبيدة السلماني، عن عليّ. وفيه: "يغسل أُنثييه وذَكَره". وهذا متصل. 27/ 198 - وعن عبد الله بن سعد الأنصاري قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما يوجب الغسلَ، وعن الماء يكون بعد الماء؟ قال: "ذلك المذي، وكلّ فحلٍ يمذي، فتغسل من ذلك فرجك وأنثييك، وتوضأ وضوءك للصلاة". 28/ 199 - وفي لفظ: أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يحلّ لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: "لك ما فوق الإزار" ــ وذكر مواكلة الحائض أيضًا ــ وساق الحديث. وأخرج الترمذي طرفًا منه في "الجامع"، وطرفًا في "الشمائل"، وقال: حسن غريب. وأخرجه ابن ماجه مختصرًا في موضعين (1). 29/ 200 - وعن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ فقال: "ما فوق الإزار، والتعفّف عن ذلك أفضل". قال أبو داود: وليس بالقوي. قال ابن القيم - رحمه الله -: قال أبو محمد بن حزم (2): نظرنا في حديث حرام بن حكيم عن عمه, فوجدناه لا يصح ــ يعني حديث عبد الله بن سعد ــ حكيمٌ ضعيف, وهو الذي روى غسل الأُنثيين من المذي. تم كلامه. وهذا الحديث قد رواه أبو داود عن إبراهيم بن موسى، عن عبد الله بن وهب ــ وهما مِن المتّفَقِ على حديثهما ــ، عن معاوية بن صالح ــ وهو ممن _________ (1) أخرجه أبو داود (211 - 212)، والترمذي في "الجامع" (133)، و"الشمائل" (297)، وابن ماجه (651، 1378)، وابن خزيمة (1202). (2) في "المحلى": (2/ 180 - 181).

(1/135)


روى له مسلم ــ، عن العلاء بن الحارث ــ روى له مسلم أيضًا ــ. وحرامُ بن حكيم وثَّقه غيرُ واحد ... (1). وعمُّه هو عبد الله بن سعد الأنصاري ــ صاحب الحديث ــ صحابيّ. وقوله: "وهو الذي روى حديث غسل الأُنثيين من المَذْي", فالحديث حديثٌ واحد, فَرَّقه بعضُ الرواة وجمعَه غيرُه. وقد روى الأمرَ بغسل الأنثيين من المذي أبو عوانة في "صحيحه" (2) من حديث محمد بن سيرين، عن عَبيدة السّلْماني، عن عليّ، الحديث. وفيه: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يغسل أنثييه وذَكَره ويتوضأ". وأما حديت معاذ؛ فأعلَّه ابنُ حزم (3) ببقيَّة بن الوليد، وبسعيد الأغطش, قال: وهو مجهول، وقد ضعَّفه أبو داود كما تقدم. ورواه الطبراني (4) من طريق إسماعيل بن عيَّاش، حدّثني سعيد بن عبد الله الخزاعي، عن عبد الرحمن بن عائذ الأزدي، عن معاذ. وهو منقطع. _________ (1) بعده في الأصل بياض بمقدار ثلاث كلمات. وتنظر ترجمته في "تهذيب التهذيب": (2/ 222 - 223). (2) (765). (3) في "المحلى": (2/ 181). (4) في "المعجم الكبير": (20/ 99). وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد": (1/ 332): "إسناد هذا الحديث حسن". لكن قال أبو حاتم وأبو زرعة: إن عبد الرحمن بن عائذ لم يدرك معاذًا، فالإسناد كما قال المؤلف: منقطع. ينظر: "تهذيب التهذيب": (6/ 203 - 204)، و"تحفة التحصيل" (ص 199).

(1/136)


 18 - باب الجُنُب يؤخِّر الغسل

30/ 216 - وعن أبي إسحاق (وهو السبيعي)، عن الأسود (وهو ابن يزيد) عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام وهو جُنُب من غير أن يمسَّ ماء. وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (1). وقال يزيد بن هارون: هذا الحديث وهم ــ يعني حديث أبي إسحاق. وقال الترمذي: يرون أن هذا غلطٌ من أبي إسحاق. وقال سفيان الثوري: فذكرت الحديث يومًا ــ يعني حديث أبي إسحاق ــ فقال لي إسماعيل: يا فتى، تَشُدُّ هذا الحديثَ بشيء؟ قال البيهقي: وحمل أبو العباس بن سُرَيج رواية أبي إسحاق على أنه كان لا يمس ماءً للغسل. قال ابن القيم - رحمه الله -: قال أبو محمد بن حزم (2): نظرنا في حديث أبي إسحاق فوجدناه ثابتًا صحيحًا تقومُ به الحجَّة. ثم قال: وقد قال قوم: إن زهير بن معاوية روى عن أبي إسحاق هذا الخبر فقال فيه: "وإن نام جُنُبًا توضّأ وضوءَ الرجلِ للصلاة", قال: فدلَّ ذلك على أن سفيان اختصره أو وهم فيه. ومُدَّعِي هذا الخطأ والاختصار في هذا الحديث هو المخطئ, بل نقول: إن رواية زهير عن أبي إسحاق صحيحة. ورواية الثوريِّ ومَن تابعه عن أبي إسحاق صحيحة، ولم تكن ليلةً واحدة فتُحْمَل روايتهم على التضادّ, _________ (1) أخرجه أبو داود (228)، والترمذي (118)، والنسائي في "الكبرى" (9003)، وابن ماجه (581). وأخرجه أحمد (24161). (2) ينظر "المحلى": (1/ 87، 2/ 221).

(1/137)


بل كان يفعل مرةً هذا ومرةً هذا. قال ابن مفوّز (1): وهذا كله تصحيحٌ للخطأ الفاسد بالخطأ البَيّن؛ أما حديث أبي إسحاق من رواية [ق 29] الثوري وغيره فأجْمَع من تقدّم من المحدِّثين ومن تأخَّر منهم أنه خطأ منذ زمان أبي إسحاق إلى اليوم, وعلى ذلك تلقَّوه منه وحملوه عنه، وهو أول حديث أو ثان مما ذكره مسلم في كتاب "التمييز" (2) له, مما حُمِل من الحديث على الخطأ. وذلك أن عبد الرحمن بن الأسود (3)، وإبراهيم النخعي ــ وأين يقَعُ أبو إسحاق من أحدهما, فكيف باجتماعهما على مخالفته؟! ــ رويا الحديثَ بعينه عن الأسود بن يزيد، عن عائشة: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان جُنُبًا فأراد أن ينام توضأ وضوءَه للصلاة" (4) , فحكم الأئمة برواية هذين الفقيهين الجليلين عن الأسود على رواية أبي إسحاق عن الأسود، عن عائشة: "أنه كان ينام ولا يمسّ ماء", ثم عضدوا ذلك برواية عروة، وأبي سلمة بن _________ (1) تحرف في ط. الفقي إلى "معوذ"، وقد تقدمت ترجمته، وأن له كتابًا يردّ فيه على ابن حزم، فلعل النقل منه. وقد ذكر تعليله الحافظ في "التخليص": (1/ 149) وقال: "كذا قال! وتساهل في نقل الإجماع، فقد صححه البيهقي، وقال: إن أبا إسحاق قد بيَّن سماعه من الأسود في رواية زهير عنه ... وقال الدارقطني في "العلل": يُشبه أن يكون الخبران صحيحين ... ". (2) (ص 181 - 182). (3) في الأصل: "يزيد" خطأ، فإن الحديث من رواية عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه، وليس عبد الرحمن بن يزيد، كما في "التمييز" ومصادر الحديث. (4) أما رواية إبراهيم النخعي فأخرجها مسلم (305)، ورواية عبد الرحمن بن الأسود أخرجها أحمد (26342)، والدارمي (757) بإسناد حسن.

(1/138)


عبد الرحمن، وعبد الله بن أبي قيس، عن عائشة (1) , وبفتوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عُمرَ بذلك حين استفتاه (2). وبعض المتأخرين من الفقهاء الذين لا يعتبرون الأسانيد ولا ينظرون الطرق يجمعون بينهما بالتأويل, فيقولون: لا يمس ماء للغسل. ولا يصح هذا. وفقهاء المحدثين وحُفَّاظهم على ما أعْلَمْتُك. وأما الحديث الذي نسبه إلى رواية زهير عن أبي إسحاق فقال فيه: "وإن نام جُنُبًا توضأ" وحَكَى أن قومًا ادعوا فيه الخطأ والاختصار, ثم صحّحه هو, فإنما عنى بذلك أحمد بن محمد الأزدي (3) , فهو الذي رواه بهذا اللفظ, وهو الذي ادعى فيه الاختصار. وروايته خطأ, ودعواه سهوٌ وغفلة. ورواية زهير عن أبي إسحاق كرواية الثوري وغيره عن أبي إسحاق في هذا المعنى، وحديث زهير أتمّ سياقةً. وقد روى مسلم (4) الحديثَ بكماله في كتاب الصلاة, وقال فيه: "وإن لم يكن جنبًا توضأ للصلاة" وأسقط منه وهم أبي إسحاق، وهو قوله: "ثم ينام قبل أن يمسّ ماء" فأخطأ فيه بعضُ النَّقَلة فقال: "وإن نام جُنبًا توضأ للصلاة" فعَمَد ابنُ حزم إلى هذا الخطأ الحادث على زهير فصحَّحه, وقد _________ (1) رواية عروة أخرجها البخاري (288)، ورواية أبي سلمة بن عبد الرحمن أخرجها مسلم (305/ 21)، ورواية عبد الله بن أبي قيس أخرجها مسلم (307). (2) أخرجها البخاري (287)، ومسلم (306). (3) يعني الإمام الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار": (1/ 124، 125) من رواية زهير وسفيان. (4) (739).

(1/139)


كان صحَّح خطأ أبي إسحاق القديم، فصحح خطأين متضادين! وجمع بين غلطين متنافرين! تم كلامه (1). قال البيهقي (2): والحُفَّاظ طعنوا في هذه اللفظة، وتوهَّمُوها مأخوذةً عن غير الأسود, وأن أبا إسحاق ربما دلّس, فرأوها (3) من تدليساته, بدليل رواية إبراهيم عن الأسود، وعبد الرحمن بن الأسود عن أبيه، عن عائشة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن ينام وهو جُنُب توضأ وضوءَه للصلاة, ثم ينام" رواه مسلم. قال: وحديث أبي إسحاق صحيح من جهة الرواية, فإن أبا إسحاق بَيَّن فيه سماعَه من الأسود, والمُدَلِّس إذا بين سماعَه وكان ثقةً فلا وجه لردِّه. تم كلامه. والصواب ما قاله أئمة الحديث الكبار، مثل يزيد بن هارون، ومسلم، والترمذي، وغيرهم= مِنْ أن هذه اللفظة وهم وغلط. والله أعلم.

  19 - باب في الجُنُب يدخل المسجد

31/ 220 - عن جَسرَة بنت دَجَاجة عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووجوه بيوت أصحابه شارعةٌ في المسجد، فقال: "وجِّهوا هذه البيوت عن المسجد"، ثم دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يصنع القومُ شيئًا، رجاء أن ينزل فيهم رخصة، فخرج إليهم بعدُ، فقال: وجِّهوا هذه البيوتَ عن المسجد، فإني لا أُحِلُّ المسجد لحائضٍ ولا جُنُب". _________ (1) يعني ابن مفوز. (2) في "السنن الكبرى": (1/ 201). (3) الأصل: "فرواها"، والمثبت من "سنن البيهقي".

(1/140)


وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (1)، وفيه زيادة، وذكر بعده حديث عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سدّوا هذه الأبواب إلا باب أبي بكر"، ثم قال: وهذا أصح. وقال الخطابي: وضعَّفوا هذا الحديث، وقالوا: أفْلَتُ ــ راويه ــ مجهول، لا يصح الاحتجاجُ بحديثه. وفيما حكاه الخطابي أنه مجهول نظر، فإنه أفلتُ بن خليفة، ويقال: فُلَيت بن خليفة العامري، ويقال: الذهلي، وكنيته: أبو حسان، حديثه في الكوفيين، روى عنه سفيان بن سعيد الثوري، وعبد الواحد بن زياد. وقال الإمام أحمد بن حنبل: ما أرى به بأسًا. وسئل عنه أبو حاتم الرازي؟ فقال: شيخ. وحكى البخاري أنه سمع من جَسرة بنت دجاجة. قال البخاري: وعند جَسْرة عجائب. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال الدارقطني (2): أفْلَتُ بن خليفة صالح. وقد روى ابن ماجه في "سننه" (3) من حديث أبي الخطاب الهَجَري، عن مَحْدُوج الذُّهلي (4)، عن جَسْرة بنت دجاجة، عن أم سلمة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نادى بأعلى صوته: "ألا إنَّ هذا المسجد لا يحلّ لجُنُبٍ ولا لحائض". _________ (1) (2/ 67 - 68)، وأخرجه أبو داود (232)، ومن طريقه البيهقي: (2/ 442)، وابن خزيمة (1327). (2) "سؤالات البرقاني للدارقطني" (39). (3) (645). وأخرجه البيهقي في الكبرى: (7/ 65). (4) تصحف في الأصل إلى: "الهذلي" والتصحيح من مصادر الترجمة والحديث، وانظر ترجمته في "التاريخ الكبير": (8/ 66)، و"التهذيب": (10/ 55).

(1/141)


قال أبو محمد بن حزم (1): محدوج ساقط, وأبو الخطاب مجهول. ثم رواه من طريق عبد الوهاب بن عطاء الخَفّاف، عن ابن أبي غَنيّة (2)، عن إسماعيل، عن جسرة، عن أم سلمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هذا المسجد حرام على كلِّ جُنُب من الرجال وحائض من النساء, إلا محمدًا وأزواجه وعليًّا وفاطمة" (3). قال ابن حزم: عبد الوهاب بن عطاء منكر الحديث، وإسماعيل مجهول. وليس الأمر كما قال أبو محمد؛ فقد قال ابن معين في رواية الدوري (4): إنه ثقة, وقال في رواية الدَّارمي (5) وابن أبي خيثمة: ليس به بأس. وقال في رواية الغَلّابي: يُكتب حديثُه. وقال أحمد (6): كان يحيى بن سعيد حَسَن الرأي فيه, وكان يعرفه معرفةً قديمة. وقال صالح بن محمد: أنكروا على الخفَّاف حديثًا رواه لثور بن يزيد، عن مكحول، عن كُرَيب، عن ابن عباس في فضل العباس (7). وما أنكروا عليه غيرَه, فكان يحيى يقول: _________ (1) في "المحلى": (2/ 186). (2) في الأصل: "عتبة" تصحيف، والتصحيح من مصادر الحديث، وانظر ترجمته في "التهذيب": (6/ 392). (3) وأخرج الحديث الطبراني في "الكبير": (23/ 374)، والبيهقي: (7/ 65)، وغيرهم. وضعّفه أيضًا البيهقي. (4) (3248). (5) (519). (6) "العلل": (2/ 354). (7) ولفظه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للعباس: "إذا كان غداة الاثنين فأتِني أنت وولدك حتى أدعو لهم بدعوة ينفعك الله بها وولدَك"، فغدا فغدونا معه فألبسنا كِساءً ثم قال: "اللهم اغفر للعباس وولدِه مغفرةً ظاهرة وباطنة لا تغادر ذنبًا، اللهم احفظه في ولده". أخرجه الترمذي (3762)، والطبراني في "مسند الشاميين" (460). قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه". وقال أبو زرعة: منكر، كما في "العلل" (5/ 563 - 564) لابن أبي حاتم.

(1/142)


هذا موضوع، وعبد الوهاب لم يقل فيه: حدثنا ثور, ولعله دلّس فيه، وهو ثقة (1). وأما إسماعيل, فإن كان إسماعيل بن رجاء بن ربيعة الزُّبَيدي الكوفي فإنه ذكر في ترجمة ابن أبي غَنيَّة (2) أنه روى عن إسماعيل هذا, ولم يُذْكَر في شيوخه إسماعيل غيره, فهو ثقة, روى له مسلم في "الصحيح" (3). وبعدُ، فهذا الاستثناء باطلٌ موضوع، من زيادة بعض غُلاة الشيعة, ولم يخرِّجه ابنُ ماجه (4) في الحديث.

  20 - باب المرأة هل تنقض شعرها عند الغسل؟

32/ 244 - عن أم سلمة - رضي الله عنها - أن امرأة من المسلمين ــ وقال زهير (يعني: ابنَ حرب): أنها ــ قالت: يا رسول الله، إني امرأة أشدّ ضُفْرَ رأسي أفأنقضُه للجنابة؟ قال: "إنما يكفيك أن تحفني عليه ثلاثًا ــ وقال زهير: تَحثي عليه ثلاثَ (5) حَثَيات من ماء ــ ثم تُفيضي على سائر جسدك، فإذا أنت قد طَهُرتِ". _________ (1) انظر "تاريخ بغداد": (12/ 276 - ط. بشار). (2) تصحف في الأصل إلى "عتبة"، وتقدم تصحيحه. (3) رقم (1774، 2069، 2467). (4) تقدم. (5) "ثلاث" ساقط من مخطوطة المختصر، وهو ثابت في المطبوع، وفي أصل "السنن".

(1/143)


وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (1). وفي روايةٍ لأبي داود: "وَاغْمِزي قُرونَكِ عند كلِّ حَفْنَةٍ" (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: حديث أم سلمة هذا يدل على أنه ليس على المرأة أن تنقض شعرها لغسل الجنابة, وهذا اتفاق من أهل العلم, إلا ما يُحكى عن عبد الله بن عَمرو وإبراهيم النخعي (3) أنهما قالا: تنقضه, ولا يُعلَم لهما موافق. وقد أنكرت عائشةُ على عبد الله قولَه, وقالت: "يا عجبا لابن عَمرو هذا! يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن, أوَلا (4) يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن!؟ لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد ما أزيد أن أُفْرِغ على رأسي ثلاث إفراغات" رواه مسلم (5). وأما نقضه في غُسل الحيض فالمنصوص عن أحمد أنها تنقضه فيه (6). قال مهنّا: سألت أحمدَ عن المرأة تنقض شعرَها [إذا اغتسلت من الجنابة؟ فقال: لا. فقلت له: في هذا شيء؟ قال: نعم، حديث أمّ سلمة. قلت: فتنقض شعرها] من الحيض؟ قال: نعم. قلت له: كيف تنقضه من الحيض ولا _________ (1) أخرجه أبو داود (251)، ومسلم (330)، والترمذي (105)، والنسائي (241)، وابن ماجه (603). (2) (252). (3) أثر عبد الله بن عمرو أخرجه مسلم (331)، والبيهقي في "الكبرى": (1/ 196)، وأثر النخعي أخرجه ابن أبي شيبة (799). (4) في الأصل: "ولا"، والمثبت من (ش) و"صحيح مسلم". (5) (331). (6) ونص عليه في رواية أبي داود (ص 29).

(1/144)


تنقضه من الجنابة؟ فقال: حدثت أسماء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تنقضه" (1). فاختلف أصحابُه في نصِّه هذا؛ فحملَتْه طائفةٌ منهم على الاستحباب, وهو قول الشافعي ومالك وأبي حنيفة. وأجرَتْه طائفة على ظاهره, وهو قول الحسن وطاوس. وهو الصحيح, لِمَا احتجَّ به أحمد من حديث عائشة: "أن أسماء سألت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن غُسل المحيض؟ فقال: "تأخذ إحداكنّ ماءها وسدرها فتطهَّر, فتحسن الطهور, ثم تصبُّ على رأسها فتدلكه دلكًا شديدًا حتى تبلغ شؤونَ رأسِها" الحديث. رواه مسلم (2). وهذا دليل على أنه لا يُكتفَى فيه بمجرّد إفاضة الماء كغسل الجنابة, ولا سيما فإن في الحديث نفسه: وسألته عن غُسل الجنابة فقال: "تأخذ ماء فتطهّر (3) فتحسن الطهور, أو تُبْلِغ الطهور, ثم تصبّ على رأسها فتدلكه حتى تبلغ شؤونَ رأسِها. ثم تُفِيض عليها الماء"، ففرَّق بين غُسل الحيض والجنابة في هذا الحديث، وجعل غُسل الحيض آكد. ولهذا أمر فيه بالسدر المتضمِّن لنقضه. _________ (1) ذكر الرواية في "المغني": (1/ 298)، وابن تيمية في "شرح العمدة": (1/ 404، 406) وما بين المعكوفين منهما. ووقع في "المغني": "لا تنقضه" وهو خطأ، وقد علّق ابن تيمية على كلمة "تنقضه" بقوله: "وإن لم تكن هذه اللفظة فيه (أي في حديث أسماء) والسياق الذي ذكرناه في المسألة قبل هذه، لكن فيه ذِكْر السدر، والسدر إنما يستعمل مع نقضٍ". (2) (332). (3) كتب بعده في الأصل: "به" ثم ضرب عليه، وليس هو في "صحيح مسلم"، ولا في نسختي (ش، ن)، ولم ينتبه محققا الطبعتين فأثبتاه.

(1/145)


وفي وجوب السدر قولان, هما وجهان لأصحاب أحمد (1). وفي حديث عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها إذ كانت حائضًا: "خذي ماءَك وسدرَك وامتشطي" (2). وللبخاري (3): "انقضي رأسَكِ وامتشطي". وقد روى ابن ماجه (4) بإسناد صحيح عن عروة، عن عائشة: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لها, وكانت حائضًا: "انقضي شعرك واغتسلي". والأصل نقض الشعر لتيقّن وصول الماء إلى ما تحته, إلا أنه عُفي عنه في غُسل الجنابة لتكرُّره ووقوع المشقَّة الشديدة في نقضه, بخلاف غُسل الحيض, فإنه في الشهر أو الأشهر مرة, ولهذا أمر فيه بثلاثة أشياء لم يأمر بها في غسل الجنابة: أخْذ السدر, والفُرْصة المُمَسَّكة, ونقض الشعر. ولا يلزم من كون السدر والمسك مستحبًّا أن يكون النقض كذلك, فإن الأمر به لا معارِض له, فبأيّ شيء يُدفع وجوبُه؟ فإن قيل: يُدفع وجوبه بما رواه مسلم في "صحيحه" (5) من حديث أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله, إني امرأة أشدّ ضُفْر (6) رأسي, أفأنقضه _________ (1) ينظر "الفروع": (1/ 267). (2) بهذا اللفظ مذكور في "المغني": (1/ 299) وغيره من كتب المذهب، ولم أجده بهذا السياق، وقد أخرج الدارميّ (800)، وابن الجارود (117) عن عائشة قالت: سألت امرأةٌ من الأنصار النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الحائض إذا أرادت أن تغتسل من المحيض قال: "خذي ماءَك وسِدْرَك ... ". (3) (316). وهو في مسلم أيضًا (1211). (4) (641). وقال البوصيري: رجاله ثقات. (5) (330). (6) في الأصل و (ش) هنا وفي مواضع أخرى: "ظفر" بالظاء المشالة، وصوابه بالضاد.

(1/146)


للحيضة والجنابة؟ قال: "لا, إنما يكفيك أن تَحْثي على رأسك ثلاث حَثَيات ثم تُفيضين عليك الماء فتطهُرين". وفي "الصحيح" (1) عن عائشة قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد, وما أزيد على أن أُفْرغ على رأسي ثلاثَ إفراغات". وفي حديث أبي داود (2): أن امرأة جاءت إلى أم سلمة فسألت لها النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الغسل، وقال فيه: "واغمزي قرونَك عند كلِّ حَفْنَة". وحديث عائشة وإنكارها على عبد الله بن عَمرو أمْرَ النساء بنقض رؤوسهن دليلٌ على أنه ليس بواجب. قيل: لا حجة في شيء من هذا؛ أما حديث أم سلمة فالصحيح فيه الاقتصار على ذِكْر الجنابة دون الحيض, وليست لفظة "الحيضة" فيه محفوظة, فإن هذا الحديث رواه أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه وعَمرو الناقد وابنُ أبي عمر, كلهم عن ابن عُيينة، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي سعيد، عن عبد الله بن رافع، عن أم سلمة قلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, إني امرأة أشدُّ ضُفْرَ رأسي، أفأنقضُه لغُسل الجنابة؟ فقال: "لا".ذَكَره _________ (1) أخرجه مسلم (331). (2) (252)، والبيهقي: (1/ 181) من طريق أسامة بن زيد الليثي عن المقبري عن أم سلمة به. وأخرجه مسلم (330)، وأبو داود (251)، والترمذي (105)، والنسائي (24)، وابن ماجه (603). وهي غير محفوظة وسيأتي كلام المؤلف عليها. قال البيهقي: رواية أيوب بن موسى أصح من رواية أسامة بن زيد، وقد حفظ في إسناده ما لم يحفظ أسامة بن زيد.

(1/147)


مسلم (1) عنهم. وكذلك رواه عَمرو الناقد، عن يزيد بن هارون، عن الثوري، عن أيوب بن موسى. ورواه عَبْد بن حُميد، عن عبد الرزاق، عن الثوري، عن أيوب, وقال: "أفأنقضه للحيضة والجنابة؟ " (2). قال مسلم (3): وحدثنيه أحمد الدارمي، أخبرنا زكريا بن عدي، أخبرنا (4) يزيد يعني ابنَ زُرَيع، عن رَوْح بن القاسم, قال: حدثنا أيوب بهذا الإسناد وقال: "أَفأحُلّه وأغسله من الجنابة؟ " ولم يذكر "الحيضة". فقد اتفق ابنُ عيينة ورَوحُ بن القاسم عن أيوب, فاقتصرا على الجنابة. واخْتُلِفَ فيه على الثوري، فقال يزيد بن هارون عنه كما قال ابنُ عيينة ورَوح، وقال عبد الرزاق عنه: "أفأنقضه للحيضة والجنابة". وروايةُ الجماعة أولى بالصواب, فلو أن الثوريّ لم يُخْتَلَف عليه لترجَّحت رواية ابن عيينة ورَوْح, [ق 31] فكيف وقد روى عنه يزيد بن هارون مثل رواية الجماعة؟! ومن أعطى النظرَ حقَّه عَلِم أن هذه اللفظة ليست محفوظة في الحديث. وأما حديث عائشة: "أنها كانت تُفرغ على رأسها ثلاث إفراغات" (5) فإنما ذلك في غُسل الجنابة, كما يدلُّ عليه سياق حديثها, فإنها وصفت _________ (1) (330). (2) رواية يزيد بن هارون عن الثوري أخرجها أحمد (26677). ورواية عبد الرزاق عن الثوري في "المصنف": (1/ 272). (3) (330). (4) في (ش) و"الصحيح": "حدثنا". (5) تقدم تخريجه.

(1/148)


غُسلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما كانت تغتسل معه من الجنابة التي يشتركان فيها, لا من الحيض, فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يغتسل معها من الحيض. وهذا بيِّن. وأما حديث أم سلمة الذي ذكره أبو داود وفيه: "واغمزي قرونك" فإنما هو في غُسل الجنابة. وعنه وقع السؤال كما هو مصرَّح به في الحديث. فإن قيل: فحديث عائشة الذي استدللتم به ليس فيه أمرها بالغسل, إنما أمرها بالامتشاط, ولو سلمنا أنه أمرها بالغُسل فذاك غُسل الإحرام لا غسل الحيض, والمقصود منه التنظُّف وإزالة الوَسَخ, ولهذا تؤمر به الحائض حال حَدَثها. ولو سلمنا أنه أَمَر الحائضَ بالنقض وجب حملُه على الاستحباب جمعًا بين الحديثين, وهو أولى من إلغاء أحدهما والمصير إلى الترجيح. فالجواب: أما قولكم ليس فيه أمْرُها بالغسل ففاسد, فإنه قال: "خذي ماءَك وسِدْرَك" وهذا صريح في الغسل, وقوله: "انقضي رأسك وامتشطي" أمرٌ لها في غسلها بنقض رأسها لا أمر بمجرَّد النقض والامتشاط. وأما قولكم: إنه كان في غسل الإحرام فصحيح, وقد بينَّا أن غُسل الحيض آكد الأغسال، وأَمَر فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بما لم يأمر به في سواه من زيادة التطهُّر والمبالغة فيه, فأَمْرُها بنقضِه ــ وهو غير رافعٍ لحَدَث الحيض ــ تنبيهٌ (1) على وجوب نقضه إذا كان رافعًا لحدَثِه بطريق الأولى. وأما قولكم: إنه يُحْمَل على الاستحباب جمعًا بين الحديثين، فهذا إنما يكون عند ثبوت تلك الزيادة التي تنفي النقضَ للحيض, وقد تبين أنها غير _________ (1) (ش): "تعينه" تحريف.

(1/149)


ثابتة, وأنها ليست محفوظة. 33/ 248 - عن شُرَيح بن عبيد قال: أفتاني جُبير بن نُفير عن الغسل من الجنابة: أن ثوبان حدَّثهم أنهم استفتوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: "أما الرجل فليَنْشُر رأسه فليغسِلْه حتى يبلغ أصول الشعر، وأما المرأة فلا عليها أن لا تنقُضَه، لتغرفْ على رأسها ثلاث غَرَفات بِكَفَّيها" (1). في إسناده محمد بن إسماعيل بن عيَّاش وأبوه، وفيهما مقال. قال ابن القيم - رحمه الله -: وهذا الحديث رواه أبو داود من حديث [محمد بن] (2) إسماعيل بن عيّاش، عن أبيه، عن ضمضم بن زُرْعة، عن شُريح بن عُبيد، عن جُبَير بن نُفَير، عن ثوبان. وهذا إسناد شاميّ, وأكثرُ أئمة الحديث (3) يقول: حديث إسماعيل بن عياش عن الشاميين صحيح, ونصَّ عليه أحمدُ بن حنبل (4) - رضي الله عنه -.

  21 - باب إتيان الحائض (5)

34/ 257 - عن ابن عباس، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الذي يأتي امرأتَه وهي حائض _________ (1) أخرجه أبو داود (255) وهو من مفاريده. وإسناده حسن. (2) سقطت من النسخ، والإكمال من "السنن". (3) (ش): "أهل العلم بالحديث". (4) ينظر "الكامل": (1/ 292) لابن عدي. (5) كذا عنوان الباب في مخطوطة المختصر، وأصل المجرّد. وفي طبعة المختصر و"السنن": "باب في إتيان الحائض". ثم إنه ورد هذا الباب في أصل المجرّد بعد حديث ميمونة في الباب التالي وقبل حديث عائشة من نفس الباب، وهو خلل في الترتيب، وأثبتناه هنا حسب ترتيب "السنن" و"المختصر".

(1/150)


قال: "يتصدَّق بدينار أو نصف دينار". قال أبو داود: هكذا الرواية الصحيحة؛ قال: "دينار أو نصف دينار". وربما لم يرفعه شعبة. قال ابن القيم - رحمه الله -: قول أبي داود: "هكذا الرواية الصحيحة" يدلَّ على تصحيحه للحديث, وقد حكم أبو عبد الله الحاكم بصحته, وأخرجه في "مستدركه" (1) , وصحَّحه ابنُ القطان (2) أيضًا, فإن عبد الحميد بن زيد بن الخطاب أُخرج له في "الصحيحين" ووثَّقه النسائيُّ (3). وأما مِقْسَم فاحتجّ به البخاريُّ في "صحيحه" (4) , وقال فيه أبو حاتم: صالح الحديث لا بأس به (5). وأما أبو محمد بن حزم (6) فإنه أعلَّ الحديث بمِقْسَم وضعَّفه. وهو تعليلٌ فاسد, وإنما علَّته المؤثِّرة وقفه. وقد رواه الطبراني (7) من طريق سفيان الثوري، عن عبد الكريم وعلي بن بَذِيمة وخُصَيف، عن مِقْسَم، عن ابن _________ (1) (1/ 171 - 172). (2) في "بيان الوهم والإيهام": (5/ 274، 277). (3) ترجمته في "تهذيب التهذيب": (6/ 119). واسمه عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب. (4) كما في (3954، 4595). (5) "الجرح والتعديل": (8/ 414). (6) في "المحلى": (2/ 188). (7) لم أجده عند الطبراني في "معاجمه"، فلعله تصحيف عن الدارقطني، فقد أخرجه من هذه الطريق في "سننه" (3746، 3747)، وأخرجه ابن المنذر في "الأوسط": (2/ 212)، والبيهقي أيضًا: (1/ 316). وقال: خصيف الجزري غير محتجّ به.

(1/151)


عباس, فهؤلاء أربعة عن مِقْسم. وعبدُ الكريم قال شيخنا أبو الحجَّاج المِزّي (1): هو ابن مالك الجَزَري. وقد رواه شَريك، عن خُصَيف، عن عكرمة، عن ابن عباس: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "في الذي يأتي أهلَه حائضًا يتصدّق بنصف دينار". رواه النسائي (2). وأعلَّه أبو محمد بن حزم (3) بشريك وخُصيف. قال: كلاهما ضعيف, فسقط الاحتجاج به. وشَريك هذا هو القاضي, قال يزيد (4) بن الهيثم: سمعت يحيى بن معين يقول: شريك ثقة, وقال أيضًا: قلت ليحيى بن معين: روى يحيى بن سعيد القطان عن شريك؟ قال: لم يكن شريك عند يحيى بشيء, وهو ثقة ثقة (5). وقال العجلي (6): ثقةٌ حَسَن الحديث. واحتجَّ به أهلُ السنن الأربعة, واستشهد به البخاريُّ, وروى له مسلم في المتابعات. وأما خُصَيف فقال ابن معين وابن سعد: ثقة. وقال النسائي: صالح روى له أهل السنن الأربعة. وفي رواية عن ابن معين: ليس به بأس. وعن أحمد _________ (1) في "تحفة الأشراف": (5/ 247). (2) في "الكبرى": (1065). (3) في "المحلى": (2/ 188). (4) الأصل: "زيد" تصحيف، وهو يزيد بن الهيثم أبو خالد الدقاق، ترجمته في "تاريخ بغداد": (14/ 349). وروايته عن يحيى مطبوعة. (5) رواية الدقاق (31، 32). وصححّ في الأصل على "ثقة" الثانية. (6) في "الثقات": (1/ 453).

(1/152)


قال: ليس بالقوي في الحديث. وعن عليِّ بن المديني: سمعت يحيى يقول: كنا نجتنب خُصَيفًا (1). وروى عبدُ الملك بن حبيب، أخبرنا أصبغ بن الفرج، عن السبيعي، عن زيد بن عبد الحميد، عن أبيه أن عمر بن الخطاب وطئ جاريةً, فإذا بها (2) حائض, فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره, فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تصدَّق بنصف دينار" (3). وأعلَّ ابنُ حزم (4) هذا الحديث بعبد الملك بن حبيب وبالسبيعي, وذكر أنه لا يُدْرَى مَن هو! وهذا تعليل باطل, فإن عبد الملك أحد الأئمة الأعلام, ولم يلتفت الناسُ إلى قول ابن حزم فيه. وأما السَّبيعي فهو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي. وقد روى إسحاق بن راهويه هذا الحديث في "مسنده" (5) عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق، عن زيد بن عبد الحميد. وعيسى هذا احتجَّ به الأئمةُ الستة ولم يُذكر بضَعْف. _________ (1) ينظر: "تهذيب التهذيب": (3/ 143 - 144). (2) (ش): "فإذا هي". (3) ذكره عبد الملك بن حبيب في "أدب النساء" (ص 102) وعلق إسناده إلى زيد بن عبد الحميد. وأخرجه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (98 - زوائده) من طريق عيسى بن يونس عن زيد بن عبد الحميد به. (4) "المحلى": (2/ 189). (5) كما في "المطالب العالية": (2/ 536).

(1/153)


وروى ابن حزم (1) من طريق موسى بن أيوب، عن الوليد بن مسلم، عن ابن جابر، عن علي بن بَذِيمة، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرَ رجلًا أصابَ حائضًا بعتق نسمة" وأعلَّه بموسى بن أيوب, وقال: هو ضعيف. وموسى بن أيوب هذا هو النصيبي الأنطاكي, روى عنه أبو زرعة وأبو حاتم الرازيّان وأحمد بن صالح العجلي, وقال: ثقة (2). وقال أبو حاتم الرازي: صدوق (3). روى له أبو داود والنسائي.

  22 - بابٌ يصيب منها (أي: من الحائض) دون الجماع (4)

35/ 261 - عن ميمونة - رضي الله عنها -: "أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُباشر المرأةَ من نسائه وهي حائض، إذا كان عليها إزار إلى أنصاف الفخذين أو الركبتين تَحْتَجِزُ به". وأخرجه النسائي (5). قال ابن القيم - رحمه الله -: حديث ميمونة هذا يرويه الليثُ بن سعد، عن الزهري، عن حبيب مولى عروة، عن ندبة مولاة ميمونة، عن ميمونة. قال أبو _________ (1) في "المحلى": (2/ 189) وأعلّه أيضًا بعبد الرحمن بن يزيد. (2) في "الثقات": (2/ 303). (3) "الجرح والتعديل": (8/ 134 - 135). (4) كذا عنوان الباب في مخطوطة المختصر، وأصل المجرّد. وفي طبعة المختصر و"السنن": "باب في الرجل يصيب منها ما دون الجماع". (5) في ط. الفقي: "حسن، وأخرجه النسائي". وليس في مخطوطة المختصر (ق 41) قوله "حسن". والحديث أخرجه أبو داود (267)، والنسائي (287)، وأحمد (26850)، وابن حبان (1365).

(1/154)


محمد بن حزم (1): ندبة مجهولة لا تُعرَف, و (2) أبو داود يروي هذا الحديث من طريق الليث فقال: قال "نَدَبة" بفتح النون والدال, ومعمر يرويه يقول "نُدْبة" بضم النون وإسكان الدال, ويونس يقول: "بُدَيَّة" بالباء المضمومة والدال المفتوحة والياء (3) المشدّدة, كلهم يرويه عن الزهري كذلك, فسقط خبر ميمونة. تم كلامه. ولهذا الحديث طريق آخر: رواه ابن وهب، عن مَخْرمة بن بُكير، عن أبيه، عن كُرَيب مولى ابن عباس قال: سمعتُ ميمونةَ أم المؤمنين قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضطجع معي وأنا حائض, وبيني وبينه ثوب" رواه مسلم في "الصحيح" (4) عن ابن السرح وهارون الأيلي, ومحمد بن عيسى, ثلاثتهم عن ابن وهب به. وأعلَّ أبو محمد بن حزم (5) هذا أيضًا بعلتين, إحداهما: أن مخرمة لم يسمع من أبيه, والثانية: أن يحيى بن معين قال فيه: مخرمة ضعيف ليس حديثه بشيء. فأما تعليله حديث نَدَبة بكونها مجهولة، فإنها مدنية رَوَت عن مولاتها _________ (1) "المحلى": (2/ 179). (2) سقطت "الواو" من الأصل، وهي في ش و"المحلى". (3) في الأصل و (ش) والمطبوعات: "تدبة، بالتاء ... والباء" وهو تصحيف، والصواب ما أثبت، كما في "المحلى"، وينظر "تهذيب التهذيب": (12/ 405)، و"تبصير المنتبه": (1/ 72). (4) (295). (5) "المحلى": (2/ 179).

(1/155)


ميمونة وروى عنها حبيب, ولم يُعلَم أحدٌ جرحَها (1). والراوي إذا كانت هذه حاله إنما يُخْشَى منه تفرُّدُه بما لا يُتابَع عليه، فأما إذا روى ما رواه الناس وكان لروايته شواهد ومتابعات، فإن أئمة الحديث يقبلون حديث مثل هذا ولا يردّونه ولا يعللونه بالجهالة, فإذا صاروا إلى معارضة ما رواه لما هو أثبت منه وأشهر علَّلوه بمثل هذه الجهالة وبالتفرُّد. ومَن تأمّل كلامَ الأئمة رأى فيه ذلك, فيظن أن ذلك تناقضٌ منهم، وهو بمحض العلم والذوق والوزن المستقيم, فيجب التنبُّه لهذه النكتة, فكثيرًا ما تمرُّ بك في الأحاديث ويقع الغلط بسببها. وأما مَخْرمة بن بُكير (2) فقد قال أحمد وابن معين: إنه لم يسمع من أبيه شيئًا, إنما يروي عن كتاب أبيه, ولكن قال أحمد: هو ثقة, وقال أبو حاتم الرازي: سألتُ إسماعيل بن أبي أويس: هذا الذي يقول مالك: حدثني الثقة, من هو؟ قال: مخرمة بن بُكَير بن الأشج. وقال إسماعيل بن أبي أويس: وجدتُ في ظهر كتاب مالك: سألت مخرمة بن بكير: ما يحدِّث به عن أبيه, سمَعه من أبيه؟ فحلف لي وقال: [ق 32] وربِّ هذا البيت ــ يعني المسجد ــ سمعتُ من أبي. وقال مالك: كان رجلًا صالحًا, وقال النسائي: ليس به بأس, وقال أحمد بن صالح: كان من ثقات المسلمين. _________ (1) ذكرها ابن حبان في "الثقات": (5/ 487)، وقال ابن حجر في "التقريب": مقبولة، وذكرها الذهبي في "الميزان": (4/ 610) في عداد المجهولات. (2) ترجمة مخرمة في "تاريخ الدوري": (2/ 553 - 554) وضعَّفه ابن معين، و"سؤالات ابن الجنيد" (ص 227)، و"العلل" (5592، 5593، 4119) لعبد الله بن أحمد، و"الجرح والتعديل": (8/ 363)، و"تهذيب التهذيب": (10/ 70). والظاهر أنه لم يسمع من أبيه إلا شيئًا يسيرًا، وروايته عن أبيه وجادة.

(1/156)


36/ 265 - وعن عائشة أنها قالت: "كنتُ إذا حِضْت نزلتُ عن المثال على الحصير، فلم نَقْرَب رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم نَدْنُ منه حتى نطهُر" (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: قال أبو محمد بن حزم (2): أما هذا الخبر فإنه من طريق أبي اليمان كثير بن اليمان الرحَّال, وليس بالمشهور, عن أم ذَرَّة وهي مجهولة, فسقط. وما ذكره ضعيف؛ فإن أبا اليمان هذا ذكره البخاريُّ في "تاريخه" (3) , فقال: سمع أمَّ ذرَّة, روى عنه أبو هاشم عمَّار بن هاشم وعبد العزيز الدراوردي. وذكره ابن حبان في "الثقات" (4) , وقال: يروي عن أمّ ذَرّة [و] عن شداد بن أبي عمرو. وأمّا أمّ ذَرَّة (5) فهي مدنيَّة, رَوَت عن مولاتها عائشة وعن أمِّ سلمة, وروى عنها محمد بن المنكدر وعائشة بنت سعد بن أبي وقاص وأبو اليمان كثير بن اليمان. فالحديث غير ساقط. _________ (1) أخرجه أبو داود (271)، وهو من مفاريده، من طريق أبي اليمان كثير بن يمان عن أمّ ذَرَّة عنها به. قال ابن رجب: "أبو اليمان وأم ذَرَّة ليسا بمشهورَين، فلا يُقبل تفرّدهما بما يخالف رواية الثقات الحفاظ الأثبات". "فتح الباري": (1/ 418 - 419). وضعَّفه الألباني. (2) "المحلى": (2/ 177). (3) (7/ 212 - 213). وينظر "الجرح والتعديل": (7/ 158). (4) (7/ 351). (5) وقد وثقها العجلي: (2/ 461)، وقال الحافظ في "التقريب": مقبولة. ترجمتها في "تهذيب الكمال": (8/ 594).

(1/157)


 23 - بابٌ المرأة تُسْتَحاض (1)

37/ 277 - عن عروة بن الزبير، عن فاطمة بنت أبي حُبيش أنها كانت تُسْتَحاض، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان دم الحيضة (2) فإنه أسود يُعرَف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عِرْق". حسن. وأخرجه النسائي (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: حديث عُروة عن فاطمة هذا قال ابن القطان (4): منقطع, لأنه انفرد به محمد بن عَمرو، عن الزُّهري، عن عروة, ورواه عن محمدِ بن عمرو محمدُ بن أبي عدي مرتين: إحداهما من كتابه هكذا، والثانية زاد فيه "عائشة" بين عروةَ وفاطمةَ، وهذا متصل, ولكن لما حدَّث به من _________ (1) هذا الباب في "السنن" بلفظ: "باب في المرأة تُستحاض، ومن قال: تدع الصلاةَ في عدة الأيام التي كانت تحيض"، ثم بوّب بعده: "باب من روى أن الحيضة إذا أدبرت لا تدع الصلاة"، ويليه: "باب مَن قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة"، وفي هذا الثالث ورد الحديث الآتي. ولكن المنذري جمع أحاديث الأبواب الثلاثة تحت باب واحد في "مختصره". (2) في مخطوطة المختصر إشارة إلى أنه في نسخة: "دم الحيض". (3) أخرجه أبو داود (286)، والنسائي (215). قوله: "وأخرجه النسائي" في مخطوطة المختصر لَحَق موضعه قبل قوله: "حسن"، ولعل الصواب ما أثبتناه. وتحسين المنذري ساقط من طبعة الفقي. (4) في "بيان الوهم والإيهام": (2/ 457 - 479). وقال البيهقي: (1/ 325) عن عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: كان ابن أبي عدي حدثنا به عن عائشة ثم تركه. وقال النسائي: قد روى هذا الحديث غير واحد لم يذكر أحد منهم ما ذكره ابنُ أبي عدي. وقال أبو حاتم في "العلل" (117): "لم يتابع محمد بن عمرو على هذه الرواية، وهو منكر".

(1/158)


[ق 33] كتابه منقطعًا ومن حفظه متصلًا، فزاد "عائشة" أورثَ ذلك نظرًا فيه. وقد جاء في "سنن أبي داود" مصرّحًا به أنه أخذه من عائشة لا من فاطمة. وروى أبو داود (1) من حديث الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن بُكَير بن عبد الله، عن المنذر بن المغيرة، عن عروة: أن فاطمة حدثَتْه أنها سألَتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -. لكنّ المنذر (2) مجهول, قاله أبو حاتم الرازي (3). والحديثُ عند غير أبي داود معنعن, لم يقل فيه: "إن فاطمة حدثته". قال: وكذلك حديث سُهيل بن أبي صالح، عن الزهري، عن عروة: حدثتني فاطمةُ "أنها أمرَتْ أسماءَ، أو أسماءُ حدثتني أنها أمرَتْها (4) فاطمةُ أن تسأل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -" فهو مشكوك فيه في سماعه من فاطمة. قال: وفي متن الحديث ما أُنْكِر على سُهيل, وعُدّ مما ساء حفظه فيه, وظهر أثر تغيُّره عليه. وذلك لأنه أحال فيه على الأيام, قال: "فأمرها أن تقعد الأيام التي كانت تقعد", قال: والمعروف في قصة فاطمة الإحالة على الدم وعلى القروء. تمّ كلامه. وهذا كلُّه عَنَت ومناكَدَة من ابن القطان؛ أما قوله: "إنه منقطع" فليس كذلك, فإنّ محمد بن أبي عَدي مكانه من الحفظ والإتقان معروف لا _________ (1) (280). (2) في الأصل و (ش، هـ): "المغيرة" تصحيف أو سبق نظر إلى اسم الأب. وسيتكرر الخطأ في الصفحة الآتية. (3) كما في "الجرح والتعديل": (8/ 242). (4) الأصل و (ش): "أمرت"، والتصويب من "السنن" (281). وانظر "الكبرى": (1/ 331) للبيهقي.

(1/159)


يُجْهَل. وقد حفظه وحدَّث به مرةً عن عروة، عن فاطمة. ومرّةً عن عائشة، عن فاطمة. وقد أدرك كلتيهما وسمع منهما بلا ريب, ففاطمة بنت عمه، وعائشة خالته، فالانقطاع الذي رَمى به الحديثَ مقطوعٌ دابِرُه, وقد صرَّح بأن فاطمة حدثَتْه به. وقوله: "إن المنذر (1) جَهَّله أبو حاتم" لا يضره ذلك, فإنّ أبا حاتم الرازي يجهِّل رجالًا وهم ثقات معروفون, وهو متشدِّد (2) في الرجال. وقد وثّق المنذرَ جماعةٌ وأثنوا عليه وعرفوه (3). وقوله: "الحديث عند غير أبي داود معنعن", فإن ذلك لا يضرّه, ولا سيَّما على أَصْله في زيادة الثقة, وقد صرَّح سهيلٌ، عن الزهري، عن عروة قال: حدثتني فاطمةُ. وحَمْلُه على سهيل، وأن هذا مما ساء حفظُه فيه= دعوى باطلة, وقد صحَّح مسلمٌ وغيرُه حديثَ سُهَيل. وقوله: "إنه أحال فيه على الأيام, والمعروف الإحالة على القروء والدم"، كلامٌ في غاية الفساد, فإنّ المعروف الذي في "الصحيح" (4) إحالتها على الأيام التي كانت تحتسِبُها حيضها, وهي القرء بعينها, فأحدهما يصدِّق _________ (1) في الأصل و (ش، هـ): "المغيرة" تصحيف، وكذا في الموضع بعده. (2) ش: "يُشدّد". (3) لم أجد مَن وثَّقه غير ابن حبان حيث ذكره في "الثقات": (7/ 480). وقال الذهبي في "الكاشف": (2/ 295): "وُثِّق". وقال في "الميزان": (4/ 182): "لا يُعرف وبعضهم قوَّاه". وذكره في "المغني": (2/ 677) وقال: "لا يُعرف". وقال الحافظ: "مقبول". يعني: حيث يُتابَع. (4) البخاري (325)، ومسلم (334/ 65 - 66).

(1/160)


الآخر. وأما إحالتها على الدم فهو الذي يُنْظَر فيه, ولم يروه أصحاب الصحيح, وإنما رواه أبو داود والنسائي, وسأل عنه ابنُ أبي حاتم أباه فضعَّفه وقال: هذا منكر (1) , وصححه الحاكم (2). 38/ 278 - عن حَمْنة بنت جحش - رضي الله عنها - قالت: كنتُ أُستحاض حيضةً كثيرة شديدة، فأتيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أستفتيه وأخبره، فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش فقلت: يا رسول الله، إني (3) أُستحاض حيضةً كثيرة شديدة، فما ترى فيها؟ قد منعتني الصلاة والصوم. فقال: "أنعَتُ لكِ الكُرْسفَ، فإنه يُذهب الدمَ". قلت (4): هو أكثر من ذلك. قال: "فاتخذي ثوبًا". قالت: هو أكثر من ذلك إنما أثجّ ثجًّا. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سآمرك بأمرين أيهما فعلتِ أجزأ عنكِ من الآخر، وإن قويتِ عليهما فأنتِ أعْلَم". قال لها: "إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان فتَحَيَّضي ستةَ أيام أو سبعة أيام في علم الله تعالى ذِكْرُه، ثم اغتسلي حتى إذا رأيتِ أنكِ قد طَهُرت واستنقأت فصلِّي ثلاثًا وعشرين ليلة أو أربعًا وعشرين ليلة وأيامها (5)، فإن ذلك يجزيك، وكذلك فافعلي كلَّ (6) شهر كما تحيض النساء، وكما يطهرن ميقات حيضهن وطهرهن، وإن قويتِ على أن تؤخري الظهر وتعجِّلي العصرَ فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين الظهر والعصر، وتؤخِّرين المغرب وتعجِّلين العشاء، ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، _________ (1) سبق تخريجه وذكر كلام أبي حاتم. (2) في "المستدرك": (1/ 174). (3) بعده في "السنن": "امرأة". (4) كذا في مخطوطة المختصر، وفي "السنن" وط. الفقي: "قالت". (5) بعده في "السنن": "وصُومي". (6) في "السنن": "في كلّ".

(1/161)


وتغتسلين مع الفجر فافعلي، وصومي إن قدرتِ على ذلك". قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وهذا أعجب الأمرين إليَّ". وقد أخرجه الترمذي وابن ماجه (1). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال أيضًا: وسألت محمدًا ــ يعني البخاري ــ عن هذا الحديث، فقال: هو حديث حسن. وهكذا قال أحمد بن حنبل: هو حديث حسن صحيح. وقال أبو داود: رواه عمرو بن ثابت عن ابن عقيل، فقال: "قالت حمنة هذا أعجب الأمرين إليّ" لم يجعله قول النبي - صلى الله عليه وسلم -[جعله كلام حمنة]. قال أبو داود: كان عمرو بن ثابت رافضيًّا. وذكره عن يحيى بن معين. هذا آخر كلامه. وعمرو بن ثابت ــ هذا ــ هو أبو ثابت، ويعرف بابن أبي المقدام، كوفي، لا يحتج بحديثه. قال ابن القيم - رحمه الله -: هذا الحديث مداره على ابن عقيل, وهو عبد الله بن محمد بن عقيل, ثقة صدوق لم يُتكلَّم فيه بجرحٍ أصلًا. وكان الإمام أحمد وعبد الله بن الزبير الحميدي وإسحاق بن راهويه يحتجون بحديثه, والترمذيُّ يصحِّح له, وإنما يُخْشى من حفظه إذا تفرّد (2) عن الثقات أو خالفهم, فأما إذا لم يخالف الثقات ولم يتفرّد بما يُنْكَر عليه فهو حجة. وقال البخاري في هذا الحديث: هو حديث حسن, وقال الإمام أحمد: هو حديث صحيح (3). وأما ابن حزم (4) فإنه أعلّه بأن قال: لا يصح, لأن ابن جُرَيج لم يسمعه _________ (1) أخرجه أبو داود (287)، والترمذي (128)، وابن ماجه (622)، وأحمد (27474). (2) كذا في الأصل و (ش)، وفي المطبوعتين "انفرد". (3) نقلها الترمذي في "الجامع"، عقب الحديث (128). (4) في الأصل و (ش) والمطبوعتين: "خزيمة"، وهو تحريف صوابه ما أثبتناه، وكلام ابن حزم في "المحلى": (2/ 194).

(1/162)


من ابن عقيل، ثم ذَكَر عن الإمام أحمد أنه قال: قال ابن جريج: حُدِّثْتُ عن ابن عقيل، ولم يسمعه, قال أحمد: وقد رواه ابنُ جُرَيج عن النعمان بن راشد, قال أحمد: والنعمانُ يُعْرَف فيه الضعف (1). وقال ابن منده: لا يصح هذا الحديث عندهم مِن وجهٍ من الوجوه, لأنه من رواية عبد الله بن محمد بن عَقيل، وقد أجمعوا على ترك حديثه. والجواب عن هذه العلل: أما قوله: "إن ابن جريج لم يسمعه من ابن عَقيل وأن بينهما النعمان بن راشد" فجوابه: أن النعمان بن راشد ثقة. أخرج له مسلم في "صحيحه" (2) وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه, واستشهد به البخاري (3) , وقال: "في حديثه وهم كثير, وهو صدوق" (4). وقال ابن أبي حاتم: أدخله البخاري في "الضعفاء"، فسمعتُ أبي يقول: يُحوَّل اسمُه منه (5). فقد عادت علة هذا _________ (1) كلام أحمد في "العلل" (5271) لابنه. (2) (1435). (3) (1475). (4) في "الضعفاء" (ص 132). (5) "الجرح والتعديل": (8/ 449). لكن حُكْم المؤلف بكونه ثقة بإطلاق، فيه نظر؛ فقد ضعَّفه جدًّا يحيى القطان، وضعَّفه أبو داود والنسائي وابن معين (في رواية لهما) والعقيلي، وقال أحمد بن حنبل: مضطرب الحديث روى أحاديث مناكير. أما من قَوّى أمره ففي رواية عن ابن معين أنه قال: ثقة، وقال النسائي: صدوق فيه ضعف، وقال ابن عدي: احتمله الناس. ينظر "تهذيب التهذيب": (10/ 452)، و"الميزان": (4/ 265).

(1/163)


الحديث إلى النعمان بن راشد و [عبد الله بن] (1) محمد بن عقيل, وابنُ عَقيل قد تقدَّم عن الترمذي أن الحميديَّ وإسحاق والإمام أحمد, كانوا يحتجون بحديثه. ودعوى ابنِ منده الإجماعَ على تركِ حديثه غلطٌ ظاهر منه. ونحن نستوفي الكلامَ على هذا الحديث بعون الله فنقول: قال الدارقطني في "العلل" (2): "اختلف عن (3) عبد الله بن محمد بن عقيل في هذا الحديث, فرواه أبو أيوب الإفريقي عبد الله بن عليّ (4)، عن عبد الله بن محمد بن عَقيل، عن جابر, قال: ووهم فيه. وخالفه عُبيد الله بن عمر (5) وابن جُرَيج وعَمرو بن ثابت وزهير بن محمد وإبراهيم بن أبي يحيى, فرووه عن ابن عَقيل، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، عن عمران بن طلحة، عن أمه حَمْنة بنت جحش" (6). ورواه ابن ماجه في "سننه" (7) عن محمد بن يحيى، عن عبد الرزاق، _________ (1) ما بين المعكوفين سقط من الأصل، ووقع في المطبوعتين "ومحمد بن بن عقيل"! (2) (4067). (3) ش: "على". (4) وقع في الأصل و (ش، هـ) والمطبوعتين: "الإفريقي عن عبد الله بن عمر" وهو إقحام وتصحيف، وصوابه: "الإفريقي: عبد الله بن علي" لأن أبا أيوب الإفريقي هو عبد الله بن علي، وليس يروي عن شخص اسمه "عبد الله بن عمر". وانظر "علل الدارقطني" (4067)، و"تهذيب الكمال": (15/ 324) ترجمة أبي أيوب الإفريقي. (5) كذا في الأصل و (ش، هـ) والمطبوعتين ونسخة "العلل" للدارقطني، وصوابه: "عمرو"، وانظر "الاتحاف": (16/ 920). وزاده بعده في "العلل": "شريك". (6) قال الدارقطني عقبه: "وهو الصحيح". (7) كذا ساق المؤلف هذين الإسنادين، وهو تكرار لسندٍ واحد، ولعله أراد أن يسوق أولًا ما في ابن ماجه (627) من طريق يزيد بن هارون، عن شريك، عن ابن عقيل، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، عن عمّه عمران بن طلحة عن أمه حمنة به. وثانيًا ما في ابن ماجه أيضًا (622) من طريق محمد بن يحيى، عن عبد الرزاق عن ابن جريج (بالإسناد الذي ساقه المصنف مكررًا" وفيه "عن عمر بن طلحة". وانظر "تحفة الأشراف": (11/ 294).

(1/164)


عن ابن جُريج، عن ابن عقيل، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، عن عمه عمر بن [ق 34] طلحة، عن أمه حَمْنة بنت جحش. ورواه ابن ماجه في "سننه" (1) عن محمد بن يحيى، عن عبد الرزاق، عن ابن جُريج، عن ابن عَقيل، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، عن عمر بن طلحة، عن أم حبيبة. وكذلك رواه الترمذي في "جامعه" (2) وقال: "إن ابن جريج قال: عمر بن طلحة", قال: ورواه عُبيد الله بن عمرو (3) الرقّي وشَريك, وذكر أنهما قالا: عمران بن طلحة. ورواه الترمذي (4) من طريق زهير بن محمد، عن ابن عقيل فقال: "عمران بن طلحة", وقد تقدم في كلام الدارقطني (5) أن ابن جريج قال فيه: "عمران بن طلحة", وهو الصواب. فوقع الغلط من عمران بن طلحة إلى عمر بن طلحة. وتعلَّق أبو محمد بن حزم (6) في رَدّه بأن قال: رواتُه شريكٌ وزهير بن _________ (1) (622). (2) بعد رقم (128). (3) في الأصل: "عمر" خطأ، ووقع في (ش) على الصواب. (4) (128). (5) في "العلل" (4067). (6) في "المحلى": (2/ 194 - 195).

(1/165)


محمد, وكلاهما ضعيف عن عمرو بن ثابت, وهو ضعيف, قال: وعمر بن طلحة غير مخلوق, لا يُعرف لطلحة ابنٌ اسمه عمر. قال: والحارثُ بن أبي أسامة قد تُرِكَ حديثُه فسقط الخبر جملةً. وهذا تعلُّقٌ باطل؛ أما شَريك فقد تقدم (1) ذِكْره, وتوثيق الأئمة له. وأما زهير بن محمد فاحتجَّ به الشيخان وباقي الستة, وعن الإمام أحمد فيه أربع روايات (2): إحداها: أنه ثقة. والثانية: مستقيم الحديث. والثالثة: مقارب الحديث. والرابعة: ليس به بأس. وعن يحيى بن معين فيه ثلاث روايات (3): إحداها: صالح لا بأس به. والثانية: ثقة. والثالثة: ضعيف. وقال عثمان الدارمي: ثقة صدوق, وقال أبو حاتم: محلّه الصِّدْق, وقال يعقوب بن شيبة: صدوق صالح الحديث, وقال البخاري: ما روى عنه أهل الشام فإنه مناكير, وما رواه عنه أهل البصرة فإنه صحيح (4). وهذا الحديث قد رواه أبو داود والترمذي (5) من حديث أبي (6) عامر العَقَدي عبد الملك بن عمرو عنه, وهو بصري, فيكون على قول البخاري صحيحًا. وأما عَمرو بن ثابت فلم ينفرد به عن ابن عقيل, فقد تقدم مَن رواه _________ (1) (ص 152). (2) ينظر "موسوعة أقوال الإمام أحمد": (1/ 395 - 396). (3) ينظر "موسوعة أقوال ابن معين": (2/ 106). (4) ينظر الأقوال في "تهذيب الكمال": (9/ 414 - 418)، و"تهذيب التهذيب": (3/ 348 - 350). (5) أبو داود (287)، والترمذي (128). (6) في الأصل: "بن" تصحيف.

(1/166)


عن ابن عقيل, وأنهم جماعة، فلا يضرّ متابعة عَمرو بن ثابت لهم. وأما قوله: "عمر بن طلحة غير مخلوق", فقد ذكرنا أن هذا وهم ممن سماه عمر, وإنما هو عمران بن طلحة. وقوله: "الحارث بن أبي أسامة قد تُرِكَ حديثُه", فإنما اعتمد في ذلك على كلام أبي الفتح الأزديّ فيه (1) , ولم يُلْتَفَت إلى ذلك, وقد قال إبراهيم الحربي: هو ثقة, وقال البرقاني: أمرني الدارقطنيُّ أن أخرج عنه في الصحيح, وصحَّح له الحاكم, وهو أحد الأئمة الحُفّاظ.

  24 - باب ما رُوي أن المستحاضة تغتسل لكلّ صلاة

39/ 281 - عن عائشة، أن أم حبيبة بنت جحش اسْتُحيضت في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرها بالغُسْل لكلِّ صلاة (2). في إسناده محمد بن إسحاق، وهو مختلَف في الاحتجاج بحديثه. قال أبو داود: ورواه أبو الوليد الطيالسي ــ ولم أسمعه منه ــ، عن سليمان بن كثير، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: اسْتُحِيضت زينب بنت جحش فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اغتسلي لكل صلاة" وساق الحديث. ورواه عبد الصمد، عن سليمان بن كثير _________ (1) يُنظر "لسان الميزان": (2/ 527). وقد قال الحافظُ في الأزديِّ: "ولا عبرة بقول الأزدي لأنه ضعيف، فكيف يُعتمد في تضعيف الثقات". "هدى الساري" (ص 386). (2) أخرجه أبو داود (292)، والدارمي (775)، وأحمد (26005)، والبيهقي: (1/ 350) من طريق محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة به، وابن إسحاق متكلّم فيه، وقد خالف أصحاب الزهري الثقات في قوله: "فأمرها بالغسل لكل صلاة".

(1/167)


قال: "توضّئي لكلِّ صلاة". وهذا وهم من عبد الصمد، والقول قول أبي الوليد. هذا آخر كلامه. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد ردَّ جماعةٌ من الحفَّاظ هذا وقالوا: زينب بنت جحش زوجة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لم تكن مُسْتَحاضة, وإنما المعروف أن أختيها أم حبيبة وحمنة هما اللتان اسْتُحِيْضتا. وقال أبو القاسم السُّهَيلي (1): قال شيخنا أبو عبد الله محمد بن نجاح: أمّ حبيبة كان اسمها زينب، فهما زينبان, غلبت على إحداهما الكنية, وعلى الأخرى الاسم (2). ووقع في "الموطأ" (3): "أن زينب بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف". واسْتُشكِل ذلك بأنها لم تكن تحت عبد الرحمن, وإنما كانت عنده (4) أختُها أمّ حبيبة. وعلى ما قال السُّهَيلي عن ابن نجاح يرتفع الإشكال. 40/ 282 - وعن أبي سلمة ــ وهو ابن عبد الرحمن ــ قال: أخبرتني زينب _________ (1) في كتابه "الروض الأُنف": (4/ 163). (2) الذي في "الإصابة": (7/ 574) أن اسمها حبيبة، وكنيتها "أم حبيب، ويقال: أم حبيبة. وذكر فيه (7/ 670) أن يونس بن مغيث في شرحه للموطأ زعم أن أم حبيبة أو أم حبيب كان اسمها زينب، بل كل بنات جحش تسمّى زينب. وقال في "فتح الباري": (1/ 427) تعليقًا على رواية الموطأ: "قيل هو وهم (أي تسميتها زينب) وقيل: بل صواب وأن اسمها زينب وكنيتها أم حبيبة، وأما كون اسم أختها أم المؤمنين زينب فإنه لم يكن اسمها الأصلي وإنما كان اسمها "برّة" فغيّره النبي - صلى الله عليه وسلم - ... " ثم ردّ على من زعم أن بنات جحش كلهن تسمّى زينب بأنه لا دليل عليه. (3) (159). (4) (ش): "تحته".

(1/168)


بنت أبي سلمة: أن امرأةً كانت تُهْرَاق الدمَ، وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تغتسل عند كلِّ صلاة وتصلي. وأخبرني أن أم بكر أخبرته، أن عائشة قالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في المرأة ترى ما يريبها بعد الطُّهْر: "إنما هي عرق ــ أو قال: عروق ــ". حسن (1). وأخرج ابنُ ماجه (2) حديث أم بكر فقط. قال محمد بن يحيى: يريد "بعد الطهر": بعد الغسل. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد أعلَّ ابنُ القطَّان (3) هذا الحديثَ بأنه مرسل, قال: "لأن زينبَ ربيبةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - معدودةٌ في التابعيات, وإن كانت ولدت بأرض الحبشة، فهي [إنما] تروي عن عائشة وأمِّها أمِّ سلمة. وحديث: "لا يحلُّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ إلا على زوج" (4) ترويه عن أمها وعن أم حبيبة وعن زينب أزواج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وكلّ ما جاء عنها عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مما لم تَذْكر بينها وبينه أحدًا لم تذكر سماعًا منه, مثل حديثها هذا, أو حديثها: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الدُّبّاء والحنتم. وحديثها في تغيير اسمها". وهذا تعليل فاسد, فإنها معروفة الرواية عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وعن أمّها وأمِّ حبيبة وزينب (5). وقد أخرج النسائيُّ هذا الحديث وابنُ ماجه (6) من روايتها عن أمِّ سلمة, والله أعلم. وقد حفظَتْ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودخلت عليه وهو _________ (1) ساقط من المطبوع. (2) أخرجه أبو داود (293)، وابن ماجه (646)، وهو في "المسند" (24428). (3) في "بيان الوهم والإيهام": (2/ 549 - 550). (4) أخرجه البخاري (1280)، ومسلم (1486/ 58). (5) ينظر "الإصابة": (8/ 159)، و"صحيح سنن أبي داود ــ المخرّج" للألباني. (6) لم أقف عليه فيهما، وقد راجعت "تحفة الأشراف" فلم يذكره من حديثها.

(1/169)


يغتسل، فنضح في وجهها, فلم يزل ماءُ الشباب في وجهها حتى (1) كبرت (2).

  25 - [ق 35] باب ما جاء في وقت النُّفَساء

41/ 295 - عن مُسَّة ــ وهي الأزديّة ــ، عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: "كانت النفساء على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقعد بعد نفاسها أربعين يومًا ــ أو أربعين ليلة ــ وكنّا نطلي على وجوهنا الوَرْس" تعني من الكَلَف. وأخرجه الترمذي وابن ماجه (3). وقال الترمذي: ولا نعرفه إلا من حديث أبي سهل عن مُسَّة الأزدية. وقال: قال محمد بن إسماعيل: عليُّ بن عبد الأعلى ثقة، وأبو سهل ثقة، ولم يعرف محمدٌ هذا الحديثَ إلا من حديث أبي سهل. وقال الخطابي: حديثُ مُسَّة أثنى عليه محمد بن إسماعيل قال: مسّة هذه أزدية. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى عنها أبو سهل كثير بن زياد, والحَكَم بن عُتَيبة, ومحمد بن عبد الله العرزمي, وزيد بن علي بن الحسين (4). _________ (1) رسمها في الأصل و (ش): "حين"، وفي المصادر كما أثبت. (2) أخرجه الزبير بن بكار في "المنتخب من كتاب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - (5)، وقال الحافظ في "الإصابة": (8/ 159): روّيناه في "القطعيات" يعني بنحوه وذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب": (4/ 1855) بلفظه بلا إسناد. (3) أخرجه أبو داود (311)، والترمذي (139)، وابن ماجه (648)، وأحمد (26561). (4) قال الدارقطني: "لا تقوم بها حجة". وقال ابن القطان: "لا تعرف حالها ولا عينها ولا تعرف في غير هذا الحديث"، وقال الحافظ: مقبولة. ينظر "الميزان": (4/ 610)، و"التهذيب": (12/ 451)، و"بيان الوهم": (3/ 329).

(1/170)


 26 - باب الجُنُب يتيمم

42/ 313 - عن عَمرو بن بُجْدان، عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: اجتمعت غُنَيمة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا أبا ذر ابْدُ فيها". فبدوتُ إلى الرّبَذة، فكانت تصيبني الجنابة، فأمكث الخمسَ والستّ، فأتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أبو ذر" فسكتُّ، فقال: "ثكلتك أمك أبا ذر! لأمِّك الويل! ". فدعا لي بجارية سوداء فجاءت بعُسٍّ فيه ماء، فسترتني بثوب واستترتُ بالراحلة واغتسلت، فكأني ألقيتُ عنِّي جبلًا. فقال: "الصعيد الطيب وَضوء المسلم ولو إلى عشر سنين، فإذا وجدتَ الماء فأمسَّه جلدك، فإن ذلك خير". وفي رواية: "غُنَيمة مِن الصدقة". وأخرجه الترمذي والنسائي (1). وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال ابن القيم - رحمه الله -: وصحَّحه الدارقطنيُّ (2). وفي "مسند البزار" (3) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصعيدُ الطيِّب وضوءُ المسلم وإن لم يجد الماءَ عشرَ سنين, فإذا وجدَ الماءَ فليتقِ الله وَلْيُمِسَّه بشرتَه, فإن ذلك خير". وذكره ابنُ القطان (4) في باب "أحاديثَ ذَكَر أن أسانيدها صحاح". _________ (1) أخرجه أبو داود (332)، والترمذي (124)، والنسائي (322) مختصرًا، وأحمد (21304). (2) ينظر "العلل" (1423) ورجح فيه الرواية المرسلة، ونقل تصحيحه الحافظ في "الفتح": (1/ 446). (3) كما في "كشف الأستار" (310) وقال: "لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه، ومقدّمٌ ثقة". وصححه ابن القطَّان، لكن قال الدارقطني: الصواب أنه مرسل. وأخرجه البزار من حديث أبي ذر (3973). (4) في "بيان الوهم والإيهام": (5/ 266). وضعَّفه ابن القطان، قال: "للجهل بحال راويه عن أبي ذر" (5/ 670). وتعقبه ابن الملقن فذكر أن العجليّ وثقه. وصححه ابن حبان (1311)، والحاكم: (1/ 176 - 177)، وابن الملقن في "البدر المنير": (2/ 656). وقواه الحافظ في "الفتح": (1/ 235).

(1/171)


 27 - باب المجدور (1) يتيمم

43/ 317 - عن جابر ــ وهو ابن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "خرجنا في سفر فأصاب رجلًا معنا حجرٌ، فشجَّه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أُخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذْ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العِيّ السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر، أو يعصب ــ شكّ موسى ــ على جُرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده" (2). فيه الزبير بن خُرَيق، قال الدارقطني: ليس بالقوي. وخُرَيق بضم الخاء المعجمة بعدها راء مهملة مفتوحة، وياء آخر الحروف ساكنة، وقاف (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: قال أبو عليّ بن السَّكَن: لم يُسنِد الزبيرُ بن خُرَيق غيرَ حديثين, أحدهما هذا, والآخر عن أبي أمامة الباهلي (4) , وقال لي أبو _________ (1) كذا في "المختصر" وبعض نسخ "سنن أبي داود"، وفي بعضها: "المجروح". (2) أخرجه أبو داود (336)، والدارقطني (729) ونقل عن ابن أبي داود قوله: هذه سنة تفرّد بها أهل مكة وحملها أهل الجزيرة. (3) من قوله "فيه الزبير" إلى هنا ساقط من مطبوعة المختصر. (4) أخرجه الطبراني في "الكبير": (8/ 251) ولفظه: "ما كنت قريبًا من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا سمعته يدعو بهذا الدعاء: "اللهم اهدني لصالح الأعمال والأخلاق ... " الحديث. قال في "المجمع": (10/ 148): رجاله رجال الصحيح غير الزبير بن خريق وهو ثقة". قلت: لم يوثقه غير ابن حبان، وتكلم فيه أبو داود والدارقطني.

(1/172)


بكر بن أبي داود: حديث الزبير بن خُرَيق أصح من حديث الأوزاعي, وهذا أمثل ما رُوي في المسح على الجبيرة. وحديث الأوزاعي الذي أشار إليه أبو بكر بن أبي داود: حديث ابن أبي العشرين عنه، عن عطاء بن أبي رباح قال: سمعت ابنَ عباس يخبر: أن رجلًا أصابه جُرح في رأسه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أصابه الاحتلام, فأُمِر بالاغتسال فاغتسل، فكُزَّ (1) فمات, فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -, فقال: "قتلوه, قتلهم الله, أولم يكن شفاء العِيِّ السؤال؟ ". قال عطاء: وبلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو غسل جسده وترك رأسه حيث أصابه الجرح؟ " رواه ابن ماجه (2) عن هشام بن عمار عنه. قال البيهقي (3): وأصح ما في هذا حديث عطاء بن أبي رباح. يعني حديث الأوزاعي هذا. وأما حديث عليّ: "انكسرت إحدى زنديه فأمره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يمسح على الجبائر" (4) فهو من رواية عَمرو بن خالد، وهو متروك. رماه أحمد بن _________ (1) في "النهاية": (4/ 170): "الكُزاز: داء يتولّد من شدة البرد، وقيل: هو نفس البرد". (2) (572). وأخرجه الدارقطني (733)، والبيهقي: (1/ 227). قال البوصيري: هذا إسناد منقطع، قال الدارقطني: الأوزاعي عن عطاء مرسل. وأخرجه بنحوه من طرق أخرى عن الأوزاعي أبو داود (337)، وابن خزيمة (273)، وابن حبان (1314)، والحاكم: (1/ 178). (3) في "الكبرى": (1/ 228)، و"معرفة السنن والآثار": (1/ 300 - 302) باختصار وتصرف. (4) أخرجه ابن ماجه (657) بنحوه، والبيهقي في "معرفة السنن": (1/ 300)، و"الخلافيات" (840) وإسناده واهٍ. وانظر: "البدر المنير": (2/ 611 - 620)، و"التلخيص الحبير": (1/ 155 - 156).

(1/173)


حنبل ويحيى بن معين بالكذب. وذكر ابنُ عديّ (1) عن وكيع قال: كان عمرو بن خالد في جوارنا يضع الحديث، فلما فُطِنَ له تحوَّل إلى واسط. وقد سرقه عُمر بن موسى بن وجيه، فرواه عن [زيد بن] (2) عليّ مثله, وعمر هذا متروك منسوب إلى الوضع. ورُوي بإسنادٍ آخر لا يثبت (3). قال البيهقي (4): وصحّ عن ابن عمر المسح على العِصابة موقوفًا عليه, وهو قول جماعة من التابعين. * * * _________ (1) في "الكامل": (5/ 123). (2) رسمها في الأصل: "زينب" غير محررة، وزادها في ط الفقي إشكالًا فغيَّرها إلى: "زينب بنت"! (3) أخرج الطريق الآخر البيهقي في "الخلافيات": (2/ 502 - 503) وفي إسناده عبد الله بن محمد البلوي، قال البيهقي: "مجهول، رأينا في أحاديثه المناكير". (4) ينظر "الخلافيات": (2/ 504)، و"الكبرى": (1/ 228).

(1/174)


 كتاب الصلاة

  1 - بابٌ في الأذان قبل دخول الوقت

44/ 501 - عن بلال: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: «لا تُؤذِّن حتّى يَستبينَ لكَ الفجرُ هكذا» ومدّ يديه عرضًا (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: قال أبو داود ــ في رواية ابن داسة ــ: «شدَّاد مولى عياض لم يدرك بلالًا» (2). وهذا من روايته عنه.

  2 - باب المرأة تصلي بغير خِمار

45/ 612 - عن صفية بنت الحارث، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يقبلُ الله عز وجل صلاةَ حائضٍ إلا بخِمار». وأخرجه الترمذي وابن ماجه (3). وقال الترمذي: حديث حسن. وقال أبو داود: رواه سعيد ــ يعني ابن أبي عَروبة ــ عن قَتادة، عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن القيم - رحمه الله -: وأخرجه ابنُ خزيمة في «صحيحه» (4) ولفظه: «لا يقبل الله صلاةَ امرأةٍ قد حاضت إلا بخمار». ورجال إسناده محتجٌّ بهم في _________ (1). أخرجه أبو داود (534)، وأخرجه ابن أبي شيبة (2234)، والبيهقي (1/ 384). (2). ينظر «الجرح والتعديل»: (4/ 329)، و «تهذيب التهذيب»: (4/ 319)، و «تحفة التحصيل» (ص 145). (3). أخرجه أبو داود (641)، والترمذي (378)، وابن ماجه (655)، وأخرجه أحمد (25167)، وابن حبان (1711). (4). (775)، وأخرجه ابن الجعد في «مسنده» (3308) باللفظ نفسه.

(1/175)


«الصحيحين» , إلا صفية بنت الحارث, وقد ذكرها ابن حبان في «الثقات» (1).

  3 - باب الرجل يصلي وحدَه خلفَ الصفّ

46/ 653 - عن وابِصة ــ وهو ابن مَعبد الأسدي ــ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا يصلي خلفَ الصفِّ وحدَه، فأمره أن يعيد. قال سليمانُ: الصلاة. وأخرجه الترمذي وابن ماجه (2). وقال الترمذي: حديث وابصة حديث حسن. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى الإمام أحمد, وابن حبان في «صحيحه» (3) , من حديث عليِّ بن شيبان ــ وكان أحدَ الوفد الذين وفدوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بني حنيفة ــ قال: صليتُ خلفَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[صلاته] نظر إلى رجل خلف الصفِّ وحدَه, فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هكذا صليت؟» قال: نعم, قال: «فأعِدْ صلاتَك, فإنه لا صلاةَ لفردٍ _________ (1). (4/ 385 - 386). وأشار الحافظ في «الإصابة»: (8/ 209) إلى احتمال أن لها صحبة، وجزم بذلك في «التقريب». (2). أخرجه أبو داود (682)، والترمذي (230)، وابن ماجه (1004)، وأخرجه أحمد (18002)، وابن حبان (2199 و 2200). (3). أخرجه أحمد (16297)، وابن حبان (2202 و 2203) وما بين المعكوفين منه، وأخرجه ابن ماجه (1003)، وصححه ابن خزيمة (1569).

(1/176)


خلف الصفِّ وحدَه». هذا لفظ أبي حاتم. ولفظ أحمد عنه: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا يصلي خلف الصف, فوقف حتى انصرف الرجلُ, فقال له: «استقبل صلاتك, فإنه لا صلاة لفردٍ خلفَ الصفّ». وحديث وابصة أخرجه أيضًا أبو حاتم في «صحيحه» والإمام أحمد (1). وفي لفظ لأحمدَ فيه (2): سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجلٍ صلى خلفَ الصفِّ وحدَه؟ فقال: «يعيد الصلاة». وقد أعلَّ الشافعيُّ حديثَ وابصةَ, فقال: قد سمعت من أهل العلم بالحديث [ق 36] مَن يذكر أن بعض المحدِّثين يُدْخِل بين هلال بن يِساف ووابصة رجلًا. ومنهم مَن يرويه عن هلال عن (3) وابصة, سمعه منه. وسمعتُ بعضَ أهل العلم منهم كأنه يوهِّنه بما وصفتُ (4). وأعلَّه غيرُه بأنّ هلال بن يِساف تفرَّد به عن وابصة. والعلَّتان جميعًا ضعيفتان، فأما الأولى فإن هلال بن يِساف رواه عن عَمرو بن راشد عن وابصة, وعن (5) زياد بن أبي الجعد عن وابصة. ذكر ذلك أبو حاتم في «صحيحه» (6). وقال: سمع هذا الخبر هلال بن يساف من عَمرو بن راشد، وسمعه من زياد بن أبي الجعد, كلاهما عن وابصة. قال: والطريقان (7) جميعًا محفوظان. فإدخال زياد وعمرو بن راشد بين هلال _________ (1). تقدمت الإشارة إليهما. (2). (18004). (3). في الأصل و (ش): «بن» تحريف. (4). «اختلاف الحديث- مع الأم»: (10/ 171 - 172). (5). الأصل و (ش): «ومن» الصواب ما أثبت. (6). «الإحسان»: (5/ 578). (7). في الأصل و (ش): «قال: قال طريقان» والمثبت من كتاب ابن حبان.

(1/177)


ووابصة لا يوهن الحديث شيئًا. وأما العلة الثانية: فباطلة. وقد أشار أبو حاتم (1) إلى بطلانها فقال: «ذِكْر الخبر المُدْحِض قول مَن زعم أن هلال بن يِساف تفرَّد بهذا الخبر». ثم ساق من حديث عُبيد بن أبي الجعد، عن أبيه زياد بن أبي الجعد، عن وابصة, فذكره. فالحديث محفوظ. قال الشافعي (2): ولو ثبت حديثُ وابصةَ فحديثنا أولى أن يؤخَذ به, لأن معه القياس وقول العامة. يريد حديث أبي بكرة لما ركع وحدَه دون الصف ومشى حتى دخل في الصف (3). قال (4): فإن قيل: ما القياس؟ قال: أرأيت صلاةَ الرجل منفردًا وصلاة الإمام أمام الصف وهو في صلاة. قال: فإن قيل: فهكذا سنة موقف الإمام والمنفرد. قيل: فسنة موقفهما تدلّ على أنه ليس في الانفراد شيء يُفسِد الصلاة. ثم ذكر حديث أنس في صلاة المرأة وحدها خلف [الصف] (5). وليس _________ (1). «الإحسان»: (5/ 579). (2). «اختلاف الحديث- مع الأم»: (10/ 173). (3). أخرجه البخاري (783)، وأبو داود (683) وغيرهما. (4). أي الشافعي، وكلامه في «اختلاف الحديث»: (10/ 173)، وقد نقله المؤلف مع تصرف واختصار، وتصرّف الشيخ الفقي في طبعته في النص، فذكر نص المحاورة كما في كتاب الشافعي دون تنبيه! (5). زيادة يقتضيها السياق، وأضيفت في الطبعتين بلا تنبيه.

(1/178)


في شيء من هذا ما يعارض حديثَ وابصةَ وعليِّ بن شيبان. أما حديث أبي بكرة فإنما فيه «أنه ركع دون الصف، ثم مشى حتى دخل في الصف» والاعتبارُ إنما هو بإدراك الركوع مع الإمام في الصف, وليس في حديثه أنه لم يجامعه في الركوع في الصف. فلا حجةَ فيه (1). وأما موقف الإمام والمرأة, فالسنة تقدّم هذا وتأخر المرأة, والسنة للمأموم الوقوف في الصف, إما استحبابًا وإما وجوبًا. فكيف يقاس أحدهما على الآخر؟ ولو خالفت المرأةُ موقفها بطلت صلاتها في أحد القولين, وكُرِه لها ذلك من غير بطلان في القول الآخر. ولو وقف الرجل فَذًّا كما تقف المرأة, بطلت صلاتُه في قول وكُرِهت في آخر، فأين أحدُهما من الآخر؟

  4 - باب إذا صلى إلى سارية أو نحوها، أين يجعلها منه؟

47/ 661 - عن ضُباعة بنت المقداد بن الأسود، عن أبيها قال: ما رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعَلَه على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يَصْمُد له صَمْدًا (2). في إسناده أبو عبيدة الوليد بن كامل البَجَلي الشامي، وفيه مقال. قال ابن القيم - رحمه الله -: حديث ضُباعة قال ابن القطان (3): فيه ثلاثة مجاهيل: الوليد بن كامل، عن المهلّب بن حُجْر، عن ضُباعة بنت المقداد _________ (1). زاد في ط. الفقي: «مرجوحة» دون تنبيه، ولا حاجة إليها. وحديث أبي بكرة أخرجه البخاري (783). (2). أخرجه أبو داود (693)، وأحمد (23820)، والبيهقي: (2/ 271). من طريق أبي عبيدة الوليد بن كامل، عن المهلب بن حجر عن ضباعة به. (3). في «بيان الوهم والإيهام»: (3/ 351 - 352).

(1/179)


عن أبيها. قال عبد الحق: ليس إسناده بقويّ (1). ورواه النسائي (2) من حديث بقيّة، عن الوليد بن كامل: حدثنا المهلّب بن حُجر البَهْراني، عن ضُبيعة بنت المقدام بن معديكرب، عن أبيها [قال]: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا صلى أحدُكم إلى عمود أو سارية أو شيء، فلا يجعله نُصْب عينيه، وليجعله على حاجبه الأيسر». فهذا أمرٌ وحديث أبي داود فعل. فقد اخْتُلف على الوليد بن كامل كما ترى, فعليُّ بن عيّاش رواه فعلًا, وبقيّةُ رواه قولًا. وابن أبي حاتم (3) ذكر المهلّب بن حُجر أنه يروي عن ضُباعة بنت المقدام بن معديكرب. وهذا غير ما في الإسنادين، فإن فيهما ضباعة بنت المقداد, أو ضُبيعة بنت المقدام. والله أعلم.

  5 - باب الدُّنّوِ من السُّتْرة

48/ 663 - عن سهل بن أبي حَثْمَة ــ يبلغ به النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ــ قال: «إذا صلى أحدُكم إلى سُتْرة فليَدْنُ منها، لا يقطع الشيطانُ عليه صلاتَه». وأخرجه النسائي (4). وقال أبو داود: واختلف في إسناده. _________ (1). في «الأحكام الوسطى»: (1/ 344). (2) لم أجده في «السنن الصغرى» ولا «الكبرى». وانظر «التحفة» (11551)، وعزاه إليه ابن السكن في «سننه» كما نقله عنه ابن القطان في «بيان الوهم»: (2/ 352) والمؤلف صادر عنه. (3). في «الجرح والتعديل»: (8/ 370). (4). أخرجه أبو داود (695)، والنسائي (748). وأخرجه أحمد (16090)، وابن حبان (2373)، وابن خزيمة (803). وذكر البيهقي الاختلاف فيه ثم قال: «قد أقام إسناده سفيانُ بن عُيينة وهو حافظ حجة». وصححه الإمام أحمد والعُقيلي كما في «فتح الباري»: (2/ 624) لابن رجب، وصححه النووي في «الخلاصة»: (1/ 518).

(1/180)


قال ابن القيم - رحمه الله -: قلتُ: رجال إسناده رجال مسلم، والاختلاف الذي أشار إليه أبو داود: هو أنه رُوي مرفوعًا وموقوفًا، ومسندًا ومتصلًا.

  6 - باب ما يُؤمَر المصلِّي أن يدرأ عن المَمَرِّ بين يديه

49/ 668 - وعن حميد ــ يعني ابن هلال ــ قال: قال أبو صالح: «أُحَدِّثك عما رأيتُ من أبي سعيد، وسمعته منه: دخل أبو سعيدٍ على مروان، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا صلى أحدُكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحدٌ أن يجتاز بين يديه فليدفع في نَحْره، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان». وأخرجه البخاري ومسلم بمعناه أتمّ منه (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: قال ابن حبان وغيره: التحريم المذكور في الحديث إنما هو إذا صلى الرجل إلى سُترة, فأما إذا لم يصلِّ إلى سُترة فلا يحرم المرور بين يديه. واحتجَّ أبو حاتم على ذلك بما رواه في «صحيحه» (2) عن المطلب بن أبي وداعة قال: «رأيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ــ حين فرغ من طوافه ــ أتى حاشية المطاف, فصلى ركعتين, وليس بينه وبين الطوَّافين أحد». قال أبو حاتم: في هذا الخبر دليل على إباحة مرور المرء بين يدي المصلي إذا صلى إلى غير سُتْرة (3). _________ (1). أخرجه أبو داود (700)، والبخاري (509)، ومسلم (505). (2). (2363). وأخرجه النسائي (2959)، وأحمد (27244)، وصححه ابن خزيمة (815) والحاكم: (1/ 254) من طرقٍ عن ابن جريج، عن كثير بن كثير، عن أبيه عن المطلب به. ورواته ثقات غير أن رواية ابن جريج غير محفوظة، وانظر حاشية «المسند»: (45/ 215 - 218). (3). «الإحسان»: (6/ 129). لكن عبارة ابن حبان هذه قالها تعليقًا على الحديث الآتي (2364)، وقد بوّب على هذا الحديث بقوله: «ذكر إباحة مرور المرء قُدّام المصلّي إذا صلى إلى غير سُترة».

(1/181)


وفيه دليل واضح على أن التغليظ الذي رُوي في المارِّ بين يدي المصلي إنما أريد بذلك إذا كان المصلِّي يصلي إلى سُتْرة, دون الذي يصلي إلى غير سُتْرة يستتر بها. قال أبو حاتم (1): «ذِكْر البيان بأن هذه الصلاة لم تكن بين الطوَّافين وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - سترة» ثم ساق من حديث المطلب قال: «رأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي حَذْوَ [ق 37] الركن الأسود، والرجالُ والنساءُ يمرُّون بين يديه, ما بينهم وبينه سترة» (2).

  7 - باب ما يقطعُ الصلاةَ

50/ 672 - وعن عكرمة، عن ابن عباس قال: أحسبه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إذا صلى أحدُكم إلى غير سُترةٍ، فإنه يقطع صلاتَه الحمارُ، والخنزيرُ، واليهوديُّ، والمجوسيُّ، والمرأةُ. ويجزئ عنه ــ إذا مرّوا بين يديه ــ على قَذْفةٍ بحجر» (3). قال أبو داود (4): في نفسي من هذا الحديث شيء، كنتُ أذاكِرُ به إبراهيمَ وغيرَه، فلم أرَ أحدًا جاء به عن هشام ولا يَعْرِفه، ولم أر أحدًا يحدِّث به عن هشام، _________ (1). «الإحسان»: (6/ 128). (2). (2364). (3). أخرجه أبو داود (704)، والبيهقي: (2/ 275) وغيرهما من طرق عن معاذ بن هشام عن أبيه عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة به. (4). كلام أبي داود ثابت في مخطوطة «المختصر» وموجود في بعض نسخ «السنن» دون بعض، وفي نسخة «فيض الله» من «السنن» وهي مقروءة على الحافظ المنذري وعليها خطه (جـ 1/ق 98 ب) كُتِب كلام أبي داود في المتن ثم علّق عليه في الهامش بقوله: «في الأصل مضروب عليه ولم يحقق سماعه».

(1/182)


وأحسب الوهم من ابن أبي سَمينة، والمنكَرُ فيه ذِكْر المجوسيّ، وفيه: «على قذفةٍ بحجر» وذِكْر الخنزير، وفيه نَكارة. قال أبو داود: ولم أسمع هذا الحديث إلا من محمد بن إسماعيل. وأحسبه وهم، لأنه كان يحدِّثنا من حفظه. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال ابن القطان (1): «علَّته شكُّ الراوي في رفعه, فإنه قال عن ابن عباس: «أحسبه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» فهذا رأيٌ لا خبر, ولم يجزم ابنُ عباس برفعه، وابنُ أبي سَمَينة (2) , أحد الثقات. وقد جاء هذا الخبر موقوفًا على ابن عباس بإسنادٍ جيد, بِذِكْر «أربعة» فقط. قال البزار (3): حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: قلت لجابر بن زيد: ما يقطع الصلاة؟ قال: قال ابن عباس: الكلبُ الأسود, والمرأةُ الحائض (4). قلت: قد كان يذكر الثالث (5)؟ قال: ما هو؟ قلت: الحمار, قال: رويدك, الحمار؟ قلت: قد كان يذكر رابعًا؟ قال: ما هو؟ قال: العِلْج الكافر. قال: إن استطعت أن لا يمرّ بين يديك كافرٌ ولا مسلم فافعل» تم كلامه. 51/ 675 - وعن سعيد بن غزوان، عن أبيه: «أنه نزل بتبوك ــ وهو حاج ــ فإذا برجل مقعَد فسأله عن أمره. فقال: سأحدِّثك حديثًا، فلا تحدِّث به ما سمعتَ أني حيٌّ: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل بتبوك إلى نخلة. فقال: هذه قبلتُنا، ثم صلى إليها، _________ (1). في «بيان الوهم والإيهام»: (3/ 355 - 356). (2). تحرف في الأصل و (ش، هـ): «واست اسمسه»! (3). في «مسنده» (5268). (4). في الأصل و (ش، هـ): «والحائض» خطأ. (5). الأصل و (ش، هـ): «الرابع» خطأ.

(1/183)


فأقبلتُ، وأنا غلام أسعى، حتى مررتُ بينه وبينها. فقال: قطعَ صلاتَنا قطعَ الله أثرَه. فما قمت عليها إلى يومي هذا» (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: حديث ابن غزوان هذا قال عبد الحق: إسنادُه ضعيف, قال ابن القطان (2): «سعيد مجهول. فأما أبوه غزوان: فإنه لا يعرف مذكورًا, وأما ابنه فقد ذُكِر وتُرجم في مظانّ ذِكْره بما يُذْكَر به المجهولون. وظنّ عبدُ الحق أن غزوان هذا صحابي, وليس كذلك, فإنه نقص في إسناده» (3). * * * _________ (1). أخرجه أبو داود (707). وأخرجه البخاري في تاريخه: (8/ 365 - 366)، والبيهقي: (2/ 275). وقال الحافظ في «الفتح»: (2/ 706): «في إسناده جهالة». (2). في «بيان الوهم والإيهام»: (3/ 356). وكلام عبد الحق في «الأحكام الوسطى»: (1/ 345). (3). نص عبارة ابن القطان الأخيرة (3/ 356): «واعترى أبا محمد في هذا الحديث ــ مِن جَعْل غزوان هذا صحابيًّا وليس كذلك ــ ما قد ذكرناه في باب النقص من الأسانيد». وذكر هناك (2/ 65) أن غزوان تابعي ثم قال: «والحديث في غاية الضعف ونكارة المتن، فإنّ دعاءه عليه السلام لمن ليس له بأهل زكاةٌ ورحمة فاعلم ذلك».

(1/184)


تفريع استفتاح الصلاة

  8 - باب رفع اليدين في الصلاة

52/ 694 - وعن عاصم بن كُليب، عن أبيه، عن وائل بن حُجر قال: «قلت: لأنظرنَّ إلى صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يصلي؟ قال: فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستقبل القبلة، فكبَّر فرفع يديه، حتى حاذتا أُذنيه. ثم أخذ شمالَه بيمينه. فلما أراد أن يركع رفعهما مثل ذلك. ثم وضع يديه على ركبتيه. فلما رفع رأسَه من الركوع رفعهما مثل ذلك. فلما سجد وضع رأسَه بذلك المنزل من بين يديه، ثم جلس فافترش رجلَه اليسرى ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى، وحَدَّ مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، وقبض ثنتين، وحلّق حَلْقة. ورأيته يقول هكذا» وحلّقَ بِشْرٌ الإبهامَ والوسطَى وأشار بالسبابة». 53/ 695 - وفي رواية: «ثم وضع يدَه اليمنى على ظهر كفِّه اليسرى، والرُّسْغ والساعد» وقال فيه: «ثم جئت بعد ذلك في زمنٍ فيه بردٌ شديد، فرأيت الناسَ عليهم جُلُّ الثياب، تَحَرَّكُ أيديهم تحت الثياب». وأخرجه النسائي وابن ماجه (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: فيه وَضْع اليمنى على اليسرى في القيام. وفي الباب: حديث سهل بن سعد الساعدي قال: «كان الناس يُؤمرون أن يضع الرجل اليدَ اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة» قال أبو حازم: لا أعلمه _________ (1). أخرجه أبو داود (726، 727)، والنسائي في «الكبرى» (1189)، وابن ماجه (867). وأخرجه أحمد (18850) وصححه ابن خزيمة (480)، وابن حبان (1860)، والنووي في «الخلاصة»: (1/ 356).

(1/185)


إلا يَنْمِي ذلك. رواه مالك في «موطئه» (1) عن أبي حازم بن دينار عنه, وبوَّب عليه, فقال: «وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة». وقال في الباب (2): عن عبد الكريم بن أبي المُخَارق أنه قال: «من كلام النبوّة: إذا لم تستح فافعل ما شئت، ووضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة, يضع اليمنى على اليسرى, وتعجيل الفطر، والاستيناء بالسَّحُور». قال أبو عمر (3): «يضع اليمنى على اليسرى» من كلام مالك. وهذه الترجمة والدليل والتفسير صريح في أن مذهبه وضع اليمنى على اليسرى. وقد روى أبو حاتم ابن حبان في «صحيحه» (4) من حديث ابن وهب: أخبرنا عَمرو بن الحارث، أنه سمع عطاء بن أبي رباح يحدِّث عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّا معشرَ الأنبياء أُمِرنا أن نؤخِّر سُحُورنا, _________ (1). (437). وأخرجه البخاري (740)، وأحمد (22849). (2). رقم (436). (3). يعني ابن عبد البر في «التمهيد»: (20/ 67). (4). (1770). من طريقه أخرجه الضياء في «المختارة»: (11/ 209). وأخرجه الطبراني في «الأوسط»: (1884). من طرق عن حرملة عن ابن وهب به وقال: «لم يروه عن عمرو بن الحارث إلا ابن وهب تفرد به حرملة. وقال الحافظ ابن حجر: «أخشى أن يكون الوهم فيه من حرملة». ينظر «التخليص»: (1/ 238). وذكر له شواهد لا تخلو أسانيدها من ضعف. يشير الحافظ إلى رواية أبي داود الطيالسي (2776)، والدارقطني (1097)، والبيهقي: (4/ 238) للحديث من طرق عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، به. وأنه الصواب في إسناد الحديث. قال البيهقي: «هذا الحديث يُعرف بطلحة بن عمرو وهو ضعيف، واختلف عليه ... » إلخ. وقال البوصيري في «الإتحاف»: (3/ 95): «مدار أسانيدهم على طلحة بن عمرو، وهو ضعيف».

(1/186)


ونعجِّل فِطْرنا, وأن نُمسِك بأيماننا على شمائلنا في صلاتنا».

  9 - باب افتتاح الصلاة

54/ 698 - وعن محمد بن عَمرو بن عطاء قال: سمعت أبا حُميد الساعديّ في عشرة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، منهم أبو قتادة، قال أبو حميد: «أنا أعلمكم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قالوا: فلم؟ فوالله ما كنتَ بأكثرنا له تَبِعَةً، ولا أقدمِنا له صحبة. قال: بلى. قالوا: فاعْرِضْ. قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه، حتى يحاذيَ بهما مَنكِبيه، ثم كبر حتى يَقِرَّ كلَّ عظمٍ في موضعه معتدلًا، ثم يقرأ، ثم يكبر، فيرفع يديه حتى يحاذيَ بهما مَنكِبيه، ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه، ثم يعتدل، فلا يَصُبّ رأسَه، ولا يُقْنِع، ثم يرفع رأسه، فيقول: «سمع الله لمن حمده»، ثم يرفع يديه، حتى يحاذي مَنكِبيه معتدلًا، ثم يقول: الله أكبر، ثم يَهْوي إلى الأرض، فيُجافي يديه على جنبيه، ثم يرفع رأسَه ويَثني رجله اليسرى، فيقعد عليها، ويَفْتح أصابع رجليه إذا سجد، ثم يسجد، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع، ويثني رجله اليسرى، فيقعد عليها حتى يرجع كلُّ عظم إلى موضعه. ثم يصنع في الأخرى مثل ذلك، ثم إذا قام من الركعتين كبَّر ورفع يديه حتى يحاذي بهما مَنكِبيه، كما كبر عند افتتاح الصلاة، ثم يصنع ذلك في بقية صلاته، حتى إذا كانت السجدةُ التي فيها التسليم: أخَّر رجلَه اليسرى، وقعد مُتوَرِّكًا على شقّه الأيسر، قالوا: صدقت، هكذا كان يصلي - صلى الله عليه وسلم -». وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه مختصرًا ومطولًا (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: حديث أبي حُميد هذا حديث صحيح, متلقًّى بالقبول, لا علة له. وقد أعلَّه قومٌ بما برّأه الله وأئمةُ الحديث منه. ونحن نذكر _________ (1). أخرجه أبو داود (730)، والبخاري (828)، والترمذي (304)، والنسائي (1181)، وابن ماجه (862)، وأحمد (23599).

(1/187)


ما عللوه به, ثم نبين فساد تعليلهم وبطلانه بعون الله. قال ابن القطان في كتابه «الوهم والإيهام» (1): «هذا الحديث من رواية عبد الحميد بن جعفر، عن محمد بن عمرو، صدوق (2) , وثَّقه يحيى بن سعيد, وأحمد بن حنبل, ويحيى بن معين، وأخرج له مسلم. وضعَّفه يحيى بن سعيد في روايةٍ عنه، وكان الثوريُّ يَحْمِل (3) عليه من أجل القَدَر. فيجب التثبُّت فيما روى مِن قوله: «فيهم أبو قتادة»، فإن أبا قتادة توفي في زمن عليّ, وصلى عليه عليّ، وهو ممن قُتِل معه, وسِنُّ محمد بن عَمرو مقصِّرة عن إدراك ذلك». قال: «وقيل في وفاة أبي قتادة غير ذلك؛ أنه توفي سنة أربع وخمسين, وليس بصحيح, بل الصحيح ما ذكرناه. وقُتِل عليٌّ (4) سنةَ أربعين. ذَكَر هذا التعليل أبو جعفر الطحاوي. قال الطحاوي: والذي زاده محمد بن عمرو غير معروف ولا متصل, لأن في حديثه أنه حضر أبا حميد وأبا قتادة, ووفاة أبي قتادة قبل ذلك بدهر طويل, لأنه قُتِل مع عليٍّ وصلى عليه. فأين سنّ محمد بن عَمرو من هذا؟ قال الطحاوي: وعبد الحميد بن جعفر ضعيف». قال ابن القطان: «ويزيد هذا المعنى تأكيدًا: أن عطَّاف بن خالد روى هذا الحديثَ فقال: حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء، حدثنا رجل: أنه وجد _________ (1). (2/ 462 - 466). (2). عبارة ابن القطان: «وجملة أمره أنه من أهل الصدق». (3). الأصل و (ش، هـ) والطبعات: «يجد» مصحفة عما هو مثبت من كتاب ابن القطان، وستأتي على الصواب بعد صفحات. (4). تصحفت في ط. الفقي إلى: «وقيل في».

(1/188)


عشرة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - جلوسًا» فذكر نحو حديث أبي عاصم. وعطَّاف بن خالد مدنيّ ليس بدون عبد الحميد بن جعفر، وإن كان البخاريُّ حكى أن مالكًا لم يحمده, قال: وذلك لا يضرُّه, لأن ذلك غير مفسَّر مِن مالك بأمرٍ يجبُ لأجله ترك روايته». قال: «وقد اعترض الطبريُّ على مالك في ذلك بما ذكرناه مِن عدم تفسير الجرح، [و] (1) بأمر آخر لا نراه صوابًا, وهو أن قال: وحتى لو كان مالكٌ قد فسّر, لم يجب أن يُتْرَك بتجريحه روايةُ عطّاف, حتى يكون معه مجرِّح آخر. قال ابن القطان: وإنما [ق 38] لم نره صوابًا لوجهين: أحدهما: أن هذا المذهب ليس بصحيح، بل إذا جَرَح واحدٌ بما هو جُرحة قُبِل، فإنه نَقْلٌ منه لحالٍ سيئة تَسْقط بها العدالة، ولا يحتاج في النقل إلى تعدّد الرواة. والوجه الثاني: أن ابن مهدي أيضًا لم يرض عطّافًا، لكن لم يفسّر بماذا لم يرضه, فلو قبلنا قولَه فيه قلَّدْناه في رأيٍ لا في رواية. وغيرُ مالكٍ وابنِ مهدي يوثّقه. قال أبو طالب عن أحمد: هو من أهل المدينة، ثقة صحيح الحديث، روى نحو مائة حديث. وقال ابن معين: صالح الحديث, ليس به بأس. وقد قال ابن معين: مَن قلت: «ليس به بأس» فهو عندي ثقة. وقال أبو زرعة: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: ليس بذاك. قال ابن القطان: ولعله أحسن حالًا من عبد الحميد بن جعفر, وهو قد بيَّن أن بَيْن محمد بن عَمرو وبين أولئك الصحابة رجلًا. قال: ولو كان هذا عندي _________ (1). زيادة لازمة من كتاب ابن القطان.

(1/189)


محتاجًا إليه في هذا الحديث للقضاء بانقطاعه لكتبته في المدرك الذي قد فرغتُ منه, ولكنه غير محتاج إليه للمقرَّر من تاريخ وفاة أبي قتادة، وتقاصُر سنّ محمد بن عمرو عن إدراك حياته رجلًا. فإنما جاءت روايةُ عطَّاف عاضدة لما قد صحّ وفُرِغ منه». قال: «وقد رواه عيسى بن عبد الله بن مالك، عن محمد بن عمرو فقال فيه: عن عياش أو عباس بن سهل الساعدي: «أنه كان في مجلس فيه أبو قتادة (1) وأبو هريرة وأبو أسيد وأبو حميد» ولم يذكر فيه من الفرق بين الجلوسين ما ذكره عبد الحميد بن جعفر. ذكره أبو داود (2). وقد رواه البخاري في «صحيحه» (3): حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، سمع يزيد بن أبي حبيب ويزيد بن محمد، سمعا محمد بن عَمرو بن حلحلة، سمع محمد بن عمرو بن عطاء: «أنه كان جالسًا في نفرٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكروا صلاةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو حميد: أنا كنتُ أحفظكم لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رأيته إذا كَبَّر ... فذكر الحديث». وهذا لا ذِكْر فيه لأبي قتادة, ولكن ليس فيه ذِكْر لسماعه من أبي حميد, وإن كان ذلك ظاهره». هذا آخر كلامه. وهو مع طوله مداره على ثلاثة فصول: أحدها: تضعيف عبد الحميد بن جعفر. والثاني: تضعيف محمد بن عَمرو بن عطاء. _________ (1). في كتاب ابن القطان: «أبوه». (2). (733). (3). (828).

(1/190)


والثالث: انقطاع الحديث بين محمد بن عَمرو، وبين الصحابة الذين رواه عنهم. والجواب عن هذه الفصول: أما الأول: فعبد الحميد بن جعفر قد وثّقه يحيى بن معين في جميع الروايات عنه (1)، ووثقه الإمام أحمد (2) أيضًا، واحتجّ به مسلم في «صحيحه»، ولم يُحْفَظ عن أحدٍ من أئمة الجرح والتعديل تضعيفُه بما يوجب سقوطَ روايته، فتضعيفه بذلك مردود على قائله. وحتى لو ثبت عن أحدٍ منهم إطلاقُ الضعف عليه، لم يقدح ذلك في روايته ما لم يبيّن سببَ ضعفه، وحينئذٍ يُنظَر فيه هل هو قادح أم لا؟ وهذا إنما يُحتاج إليه عند الاختلاف في توثيق الرجل وتضعيفه، وأما إذا اتفق أئمةُ الحديث (3) على تضعيف رجلٍ لم يُحتج إلى ذِكْر سبب ضعفه، هذا أولى ما يقال في مسألة التضعيف المطلق (4). وأما الفصل الثاني: وهو تضعيف محمد بن عَمرو بن عطاء؛ ففي غاية الفساد، فإنه من كبار التابعين المشهورين بالصدق والأمانة والثقة، وقد وثَّقه أئمةُ الحديث، كأحمد، ويحيى بن سعيد، ويحيى بن معين، وغيرهم (5)، _________ (1). ينظر «موسوعة أقوال ابن معين»: (3/ 191). (2). ينظر «موسوعة أقوال أحمد»: (2/ 310). (3). زاد المؤلف في «رفع اليدين»: «أو جمهورهم». (4). ساق في المؤلف في «رفع اليدين» (ص 238 - 239) أقوال الموثقين لعبد الحميد. (5). ينظر ترجمته في «تهذيب التهذيب»: (9/ 373 - 375).

(1/191)


واتفق صاحبا الصحيح على الاحتجاج به (1). وتضعيف يحيى بن سعيد ــ إن صح عنه ــ فهو روايةٌ المشهور عنه خلافها (2). وحتى لو ثبت على تضعيفه وأقام عليه، ولم يبيّن سببَه= لم يُلتفَت إليه مع توثيق غيره من الأئمة له. ولو كان كلُّ رجلٍ ضعَّفَه رجلٌ سقط حديثُه لذهبت عامَّة الأحاديث الصحيحة من أيدينا، فقلّ رجلٌ من الثقات إلا وقد تكلَّم فيه آخر (3). وأما قوله: «كان سفيان يحمل عليه»؛ فإنما كان ذلك من جهة رأيه لا من جهة روايته، وقد رُمِي جماعةٌ من الأئمة المحتجّ بروايتهم بالقدَرِ كابن أبي عَروبة، وابن أبي ذِئب وغيرهم. وبالإرجاء كطَلْق بن حبيب، وغيره. وهذا أشْهر من أن يُذْكر نظائره، وأئمة الحديث لا يردّون حديثَ الثقة بمثل ذلك. وأما الفصل الثالث: وهو انقطاع الحديث؛ فغير صحيح، وهو مبنيّ على _________ (1) ينظر «تهذيب الكمال»: (6/ 459). (2) قال الحافظ في «التهذيب»: (9/ 332): «وقال أبو الحسن بن القطان الفاسي (بيان الوهم 2/ 426): جملة أمره أنه من أهل الصدق، وقد ضعّفه يحيى في رواية ووثقه في أخرى، وكان الثوري يحمل عليه من أجل القدر، وزعموا أنه خرج مع محمد بن عبد الله بن حسن ... قال الحافظ: وليس ذلك بصحيح؛ لأن الذي حمل عليه الثوري اختلف فيه فقيل: هو محمد بن عمرو بن علقمة الآتي ذكره بعد هذا، وهو الذي خرج مع محمد بن عبد الله بن حسن؛ لأنه تأخرت وفاته. فأما محمد بن عمرو بن عطاء فمات قبل خروج محمد بمدة مديدة» اهـ. (3). زاد في «رفع اليدين» (ص 240): «ورجال «الصحيحين» قد جاوزوا القَنْطَرة فلا التفاتَ إلى كلام من تكلَّم فيهم بما يقتضي ردّ حديثهم. نعم إذا تُكُلِّم في أحدهم لرأيه أو لأمرٍ تأوَّله فطُعِنَ به عليه؛ فهذا بابٌ لا يقدح في الرواية».

(1/192)


ثلاث مقدمات، أحدها (1): أن وفاة أبي قتادة كانت في خلافة عليّ، والثاني: أن محمد بن عَمرو لم يدرك خلافةَ عليّ، والثالث: أنه لم يثبت سماعُه من أبي حُميد، بل بينهما رجل. فأما المقام الأول، وهو وفاة أبي قتادة، فقال البيهقي (2): «أجمع أهلُ التواريخ على أن أبا قتادة الحارث بن رِبْعي بقي إلى سنة أربع وخمسين، وقيل: بعدها. ثم روى من طريق [ق 80] يعقوب بن سفيان، قال ابن بُكَير: قال الليث: مات أبو قتادة الحارث بن رِبْعي بن النعمان الأنصاري سنة أربع وخمسين. قال: وكذلك قاله الترمذي فيما أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، عن أبي حامد المقرئ عنه. وكذلك ذكره أبو عبد الله بن [ق 39] مَنده الحافظ في كتاب «معرفة الصحابة». وكذلك ذكر الواقديُّ عن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة: أن أبا قتادة مات بالمدينة سنة خمس وخمسين، وهو ابن سبعين سنة. قال: والذي يدلُّ على هذا أن أبا سلمة بن عبد الرحمن، وعبد الله ابن أبي قتادة، وعَمرو بن سليم الزُّرَقي، وعبد الله بن رَباح الأنصاري رووا عن أبي قتادة، وإنما حملوا العلمَ بعد أيام عليّ، فلم يثبت لهم عن أحدٍ ممن توفي في أيام عليّ سماع. وروّينا عن معمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل: أن معاوية ابن أبي سفيان لمّا قَدِم المدينة تلقّته الأنصارُ، وتخلَّف أبو قتادة، _________ (1). كذا بالتذكير، ومشى عليه في الثاني والثالث. وقوله «مقدّمات» واضحة محررة في الأصل، وإلا فكان الأنسب أن يقول «مقامات» لأنه ذكّرها حين عدّدها ولأنه سماها فيما سيأتي «المقام الأول .. الثاني ... ». (2) في «معرفة السنن والآثار»: (1/ 558 - 559).

(1/193)


ثم دخل عليه بعدُ وجرى بينهما ما جرى. ومعلومٌ أن معاوية إنما قَدِمها حاجًّا قَدْمته الأولى في خلافته سنة أربع وأربعين. وفي «تاريخ البخاري» (1) بإسناده عن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك: أن مروان بن الحكم أرسل إلى أبي قتادة وهو على المدينة: أنِ اغْدُ معي حتى تريني مواقف النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِه، فانطلق مع مروان حتى قضى حاجته (2). ومروان إنما ولي المدينة في أيام معاوية، ثم نُزِع عنها سنة ثمان وأربعين، واسْتُعْمِل عليها سعيد بن العاص، ثم نُزِع سعيد بن العاص سنة أربع وخمسين , وأُمِّر عليها مروان» (3). قال النسائي في «سننه» (4): أخبرنا محمد بن رافع، حدثنا عبدالرزاق، أخبرنا ابن جُريج، قال: سمعت نافعًا يزعم: أنّ ابنَ عمر صلّى على تسع جنائز جميعًا، فجعل الرجال يلون الإمام، والنساء يلين القِبْلة، فصفَّهن صفًّا واحدًا، ووُضِعت جنازةُ أمِّ كلثوم ابنةِ عليّ امرأةِ عمر بن الخطاب وابنٍ لها يقال له: زيد، وُضِعا جميعًا، والإمام يومئذ سعيد بن العاص، وفي الناس ابن عباس (5)، وأبو هريرة، وأبو سعيد، وأبو قتادة، فوُضِعَ الغلامُ مما يلي الإمام، _________ (1) «الكبير»: (2/ 258 - 259). (2) انتهى كلام البخاري. (3) انتهى النقل من كتاب «المعرفة» للبيهقي. (4) في «الصغرى» (1978). وفي «الكبرى» (2116). (5) هكذا في الأصل و (ش) و «رفع اليدين» للمؤلف، و «الكبرى». ووقع في «السنن الصغرى»: «ابن عمر» فالظاهر أنه وهم.

(1/194)


فقال رجل: فأنكرتُ ذلك فنظرتُ إلى ابن عباس، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وأبي قتادة، فقلت: ما هذا؟ قالوا: هي السنة. فتأمل سندَ هذا الحديث وصحّتَه وشهادةَ نافعٍ بشهود أبي قتادة هذه الجنازة، والأميرُ يومئذ سعيد بن العاص، وإنما كانت إمْرَتُه في خلافة معاوية سنة ثمان وأربعين إلى سنة أربع وخمسين كما قدمناه، وهذا مما لا يشكّ فيه عوامُّ أهلِ النقل وخاصَّتُهم. فإن قيل: فما تصنعون بما رواه موسى بن عبد الله بن يزيد: «أن عليًّا صلى على أبي قتادة, فكبَّر عليه سبعًا، وكان بدريًّا» (1). وبما رواه الشعبيّ قال: «صلى عليٌّ على أبي قتادة وكبّر عليه ستًّا» (2). قلنا: لا تجوز معارضةُ الأحاديث الصحيحة المعلومة الصحَّة بروايات التاريخ المنقطعة المغلوطة، وقد خطَّأ الأئمةُ روايةَ موسى هذه ومَن تابعه، وقالوا: هي غلط، قاله البيهقي (3) وغيره. ويدلّ على أنها غلط وجوه: أحدها: ما ذكرناه من الأحاديث الصحيحة المصرِّحة بتأخير وفاته وبقاء مُدَّته بعد موت عليّ. الثاني: أنه قال: «كان بدريًّا»، وأبو قتادة لا يُعرَف أنه شهد بدرًا، وقد ذكر _________ (1) أخرجه ابن أبي شيبة (11578)، وابن المنذر في «الأوسط» (5/ 433). (2) أخرجه ابن المنذر في «الأوسط»: (5/ 433). (3) في «المعرفة»: (1/ 558). وانظر «البدر المنير»: (5/ 261 - 262). وقال الحافظ في «التلخيص»: (2/ 127) تعليقًا على كلام البيهقي: «وهذه علة غير قادحة لأنه قد قيل: إن أبا قتادة قد مات في خلافة عليّ، وهذا هو الراجح».

(1/195)


عروةُ بن الزبير، والزهري، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق، وغيرُهم أسامي مَن شهد بدرًا من الصحابة، وليس في شيء منها ذِكْر أبي قتادة (1)، فكيف يجوز ردّ الرّوايات الصحيحة التي لا مَطْعَن فيها بمثل هذه الرواية الشاذَّة التي قد عُلِم خطؤها يقينًا، إمّا في قوله: «وصلى عليه عليّ»، وإمّا في قوله: «وكان بدريًّا»! وأما رواية الشعبي؛ فمنقطعة (2) أيضًا غير ثابتة، ولعلّ بعضَ الرواة غلط من تسمية قتادة بن النعمان أو غيره إلى أبي قتادة، فإن قتادة بن النعمان بدريٌّ، وهو قديم الموت (3). وأما المقام الثاني: أن محمد بن عَمْرو لم يدرك خلافةَ عليّ؛ فقد تبيَّن أن أبا قتادة تأخَّر عن خلافة عليّ. وأما المقام الثالث: وهو أن محمد بن عَمرو لم يثبت سماعُه من أبي حُمَيد بل بينهما رجل؛ فباطل أيضًا. قال الترمذي في «جامعه» (4): «حدثنا محمد بن بشَّار والحسن بن عليّ الخلّال وسَلَمة بن شَبيب، وغيرُ واحد قالوا: حدّثنا أبو عاصم، حدّثنا عبد الحميد بن جعفر، حدّثنا محمد بن عَمرو بن عطاء، قال: سمعتُ أبا _________ (1) انظر «السيرة النبوية»: (2/ 677 - 706) لابن هشام، و «مرويات غزوة بدر»: (ص 366 - 419) لباوزير. (2) قاله البيهقي في «المعرفة»: (1/ 558). (3) توفي سنة 23 للهجرة في خلافة عمر. انظر «تهذيب الكمال»: (6/ 105)، و «الإصابة»: (5/ 416 - 418). (4) (305).

(1/196)


حُمَيد السَّاعدي في عشرة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم: أبو قتادة بن رِبْعي ... » فذَكَره. وقال سعيد بن منصور في «سننه» (1): «حدّثنا هُشَيم، حدّثنا عبدالحميد بن جعفر، عن محمد بن عَمرو بن عطاء القرشي، قال: رأيتُ أبا حُمَيد الساعديّ مع عشرةِ رهطٍ من أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: ألا أحدّثكم». فذكره. وقال البخاري في «التاريخ الكبير» (2): «محمد بن عَمرو بن عطاء بن عيَّاشِ (3) بن علقمة العامري القرشي المدني، سمع أبا حُمَيد الساعديّ، وأبا قَتادة، وابنَ عباس. روى عنه عبدالحميد بن جعفر، وموسى بن عُقبة، ومحمد بن عمرو بن حَلْحَلَة، والزُّهري». وأبو حُميد توفي قبل الستين في خلافة معاوية، وأبو قتادة توفي بعد الخمسين كما ذكرنا، فكيف ننكر لقاء محمد لهما وسماعه منهما؟ ثم ولو سلَّمنا أن أبا قتادة توفي في خلافة عليّ، فمِنْ أين يمتنع أن يكون محمد بن عَمْرو في ذلك الوقت رجلًا؟ ولو امتنع أن يكون رجلًا لِتقاصُرِ _________ (1) ذكر رواية سعيد بن منصور الحافظ في «الفتح»: (2/ 357). وتابعه في الرواية عن هشيم أبو بكر بن أبي شيبة (2981)، والحسنُ بن عَرَفة أخرجه البزار (3710)، وأبو أحمد الحاكم في «شعار أصحاب الحديث» (ص 49)، وشجاع بن مخلد أخرجه أبو أحمد أيضًا. (2) (1/ 189). (3) هكذا في الأصل و (ش، هـ) و «تهذيب الكمال»: (6/ 459) وجوَّد ضبطه ناسخُه ابن المهندس تلميذ المزي كذلك. ووقع في «التاريخ الكبير» للبخاري: «عباس».

(1/197)


سِنّه عن ذلك لم يمتنع [ق 40] أن يكون صبيًّا مميّزًا، وقد شاهد هذه القصَّةَ في صغره ثم أداها بعد بلوغه، وذلك لا يقدح في روايته وتحمُّله اتفاقًا، وهو أُسْوةُ أمثاله في ذلك. فردُّ الأحاديث الصحيحة بمثل هذه الخيالات الفاسدة مما يَرْغَب عن مثله أئمةُ العلم، والله الموفق. وأما إدخال من أدْخَل بين محمد بن عَمرو بن عطاء، وبين أبي حُميد الساعدي رجلًا، فإن ذلك لا يضرّ الحديثَ شيئًا. فإنّ الذي فعل ذلك رجلان: عطَّاف بن خالد، وعيسى بن عبد الله (1)؛ فأما عطَّافٌ فلم يرض أصحابُ الصحيح إخراجَ حديثهِ، ولا هو ممن يُعارَض به الثقات الأثبات، قال مالك: ليس هو من جِمال المحامل (2). وقد تابع عبدَالحميد بن جعفر على روايته محمدُ بن عَمرو بن حَلْحَلة، كلاهما قال: عن محمد بن عَمرو بن عطاء، عن أبي حميد. ولا يُقاوَم عَطّاف بن خالد بهذين حتى تُقدَّم روايتُه على روايتهما. وقوله: «لم يصرِّح محمد بن عَمرو بن حَلْحَلة في حديثه بسماع ابن عطاء من أبي حميد»؛ فكلام بارد، فإنه قد قال: «سمع محمد بن عَمرو بن عطاء أنه كان جالسًا في نفرٍ من أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فذكروا صلاةَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، _________ (1) انظر ما سبق (ص 189 - 191) في سياق كلام ابن القطان. (2) المنقول عن مالك في عطاف قوله: «ليس من إبل القِباب»، وإبل القباب هي الإبل القوية القادرة على حمل الهوادج. والمعنى: ليس بقويّ في الحديث. انظر «الضعفاء»: (3/ 425) للعقيلي، و «تهذيب الكمال»: (5/ 182)، و «تهذيب التهذيب»: (7/ 198) ــ وتحرفت فيه إلى «أهل القباب» ــ. فلعل ابن القيم ساقها بالمعنى، إذ معناهما واحد. وقد استُعملت عبارة «جمال المحامل» في غير واحد من الرواة، استعملها يحيى القطان وغيره. انظر «ألفاظ الجرح القليلة والنادرة» (ص 12) لسعدي الهاشمي.

(1/198)


فقال أبو حميد». وقد قال: «رأيتُ أبا حميد»، ومرة: «سمعتُ أبا حُميد». فما هذا التكلّف البارد والتعَنُّت الباطل في قطع ما وصله الله؟! وأما حديث عيسى بن عبد الله فقال البيهقي (1): «اختلف في اسمه فقيل: عيسى بن عبد الله، وقيل: عيسى بن عبد الرحمن، وقيل: عبد الله بن عيسى. ثم اخْتُلف عليه في ذلك؛ فروى عن الحسن بن الحرّ، عن عيسى بن عبد الله، عن محمد بن عَمرو، عن عيّاش ــ أو عباس ــ بن سهل، عن أبي حُميد. ورُوي عن عُتبة بن أبي حكيم، عن عبد الله بن عيسى، عن العباس ابن سهل، عن أبي حُميد. ليس فيه محمد بن عطاء (2). ورُوِّينا حديثَ أبي حُميد، عن فُليح بن سليمان، عن عبّاس بن سهل، عن أبي حميد. وبَيَّن فيه عبدُ الله بن المبارك، عن فُليح سماعَ عيسى من (3) عبّاس، مع سماع فُلَيح من عبّاس، فذِكْرُ محمد بن عَمرو بينهما وَهْم». آخر كلامه. وهذا ــ والله أعلم ــ من تَخْليط عيسى أو مَن دونه, فإنّ حديثَ عبّاس هذا لا ذِكْر فيه لمحمد بن عَمرو، ولا رواه محمد بن عَمرو عنه، ونحن نذكر حديثه: _________ (1) في «معرفة السنن والآثار»: (1/ 560). (2) «المعرفة»: «محمد بن عمرو». (3) تحرفت في (ش) و «المعرفة» إلى «بن».

(1/199)


قال الترمذي (1): «حدثنا محمد بن بشّار، حدثنا أبو عامر العَقَديّ، حدثنا فُلَيح بن سليمان، حدثنا عبَّاس بن سهل قال: اجتمع أبو حميد، وأبو أسيد، وسهل بن سعد، ومحمد بن مَسْلمة، فذكروا صلاةَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -[فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]: إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركع فوضع يديه على ركبتيه كأنَّه قابضٌ عليهما، ووَتّر يديه فنحّاهما عن جنبيه». قال: حسن صحيح. وقال أبو داود (2): «حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا عبد الملك بن عَمرو، أخبرنا فُليح، حدثنا عباس بن سهل، قال: اجتمع أبو حُميد، وأبو أسيد» فذكره أطولَ من حديث الترمذي. قال أبو داود: «ورواه عُتبة بن أبي حكيم، عن عبد الله بن عيسى، عن العبَّاس بن سهل». قال: «ورواه ابنُ المبارك، أخبرنا فُلَيح، قال: سمعت عباس بن سهل يحدّث فلم أحفظه، فحدَّثنيه [أُراه ذَكَر] عيسى بن عبد الله، أنه سمعه من عبّاس بن سهل، قال: حضرتُ أبا حميد». فهذا هو المحفوظ من رواية عبَّاس لا ذِكْر فيه لمحمد بن عَمرو بوجه. ورواه أبو داود (3) من حديث أبي خيثمة، حدثنا الحسن بن الحُرّ، أخبرنا عيسى بن عبد الله بن مالك، عن محمد بن عَمرو بن عطاء أَحَد بني _________ (1) (260). وما بين المعكوفين منه. (2) (734). وما بين المعكوفين منه. (3) (733).

(1/200)


مالك، عن عباس أو عياش بن سهل الساعدي: أنه كان في مجلسٍ فيه أبوه، وفي المجلس أبو هريرة، وأبو حُميد، وأبو أسَيد ... » بهذا الخبر يزيد وينقص (1). فهذا الذي غرَّ مَن قال: إن محمد بن عَمرو لم يسمعه من أبي حُميد، وهذا ــ والله أعلم ــ من تخليط عيسى أو من دونَه؛ لأن محمدًا قد صرَّح بأنّ أبا حُميد حدَّثه به وسمعه منه, ورآه حين حَدَّثه به, فكيف يُدْخِل بينه وبينه عبَّاس بن سهل؟ وإنما وقع هذا لمّا رواه محمد بن عَمرو عن أبي حُميد، ورواه العبَّاس ابن سهل عن أبي حُميد، فخلّط بعضُ الرواة، وقال: «عن محمد بن عَمرو عن العباس»، وكان ينبغي أن يقول: «وعن العباس» (2) بالواو. ويدلّ على هذا: أنّ عيسى بن عبد الله قد سمعه من عبَّاس, كما في رواية ابن المبارك، فكيف يشافهه به عبَّاس بن سهل ثم يرويه عن محمد ابن عَمرو عنه؟ فهذا كلُّه يبيّن أنّ محمد بن عَمرو وعبَّاس بن سهل اشتركا في روايته عن أبي حُميد، فصحّ الحديثُ بحمد الله. وظهر أن العلة التي رُمي بها مما تدلُّ على قوَّته وحفظه, وأن رواية عبَّاس بن سهل شاهدةٌ ومُصدِّقة لرواية محمد بن عَمرو. وهكذا الحق يصدِّق بعضُه بعضًا. وقد رواه الشافعي من حديث إسحاق بن عبد الله، عن عبَّاس بن سهل, _________ (1) «السنن»: (1/ 471 - 472). (2). وقال في «رفع اليدين» (ص 250): «ولعلها سقطت من النسخة فرواه بإسقاطها».

(1/201)


عن أبي حُميد ومَن مَعَه من الصحابة (1). ورواه فُلَيح بن سليمان، عن عبَّاس, عن أبي حُميد (2). وهذا لا ذِكْر فيه لمحمد بن عَمرو, وهو إسناد متّصل تقومُ به [ق 41] الحجّة، فلا ينبغي الإعراضُ عن هذا والتعلّق عليه بالباطل. ثم لو نزلنا عن هذا كلِّه، وضربنا عنه صفحًا إلى التسليم أن محمد ابن عَمرو لم يدرك أبا قتادة, فغايتُه أن يكون الوهم قد وقع في تسمية أبي قتادة وحده دون غيره ممن معه. وهذا لا يُجوِّز بمجرّده تركَ حديثه، والقدحَ فيه عند أحدٍ من الأئمة. ولو كان كلُّ من غَلِط ونسيَ واشتبه عليه اسم رجل بآخر يسقط حديثُه= لذهبت الأحاديثُ ورواتها (3) من أيدي الناس. فهَبْه غلطَ في تسميته أبا قتادة، أفيلزم من ذلك أن يكون ذِكْر باقي الصحابة غلطًا، ويقدحُ في قوله: «سمعت أبا حميد» , و «رأيت أبا حُميد» , أو «أن أبا حميد قال»؟! وأيضًا فإن هذه اللفظة لم يتفق عليها الرواة، وهي قوله: «فيهم أبو قتادة»، فإن محمد بن عَمرو بن حَلْحلة رواه عن محمد بن عَمرو بن عطاء ولم يذكر «فيهم أبو قتادة». ومن طريقه رواه البخاري ولم يذكرها (4). _________ (1) ذكره البيهقي في «معرفة السنن»: (1/ 544) قال: «قال الشافعي في القديم: أخبرنا رجل قال: أخبرني إسحاق بن عبد الله .. » به. (2) عند أبي داود والترمذي. (3). في «رفع اليدين» (ص 251) للمؤلف: «إلا أقلها». (4) في «الصحيح» (828).

(1/202)


وأما عبد الحميد بن جعفر، فرواه عنه هُشَيم ولم يذكرها (1)، ورواه عنه أبو عاصم الضحَّاك بن مَخْلد، ويحيى بن سعيد فذكراها عنه (2). وأظنّ عبد الحميد بن جعفر تفرَّدَ بها. ومما يُبيّن أنها ليست بوهم: أن محمد بن مسلمة قد كان في أولئك الرَّهْط، ووفاته سنة ثلاث وأربعين، فإذا لم تتقاصر سنُّ محمد بن عَمرو عن لقائه، فكيف تتقاصر عن لقاء أبي قتادة؟ ووفاتُه إما بعد الخمسين عند الأكثرين، أو قُبَيل الأربعين عند بعضهم. والله الموفّقُ للصواب (3). 55/ 707 - وعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبي هريرة أنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كَبَّر للصلاة جَعَل يديه حَذْو مَنْكِبيه، وإذا ركع فَعَل مثل ذلكَ، وإذا رفع للسجود فعل مثل ذلك، وإذا قام من الركعتين فعل مثل ذلك» (4). _________ (1) سبق تخريجه (ص 197). (2) أخرجه أبو داود (963). (3). في هامش الأصل: «بلغ مقابلة فصحّ على أصله». (4). أخرجه أبو داود (738)، وابن خزيمة (694، 695) من طريق يحيى بن أيوب الغافقي وعثمان بن الحكم عن ابن جريج، عن ابن شهاب به. لكن خالفهما عبد الرزاق عند مسلم (392/ 28) فرواه عن ابن جريج به وذكر فيه التكبير ولم يذكر رفع اليدين. وقد رواه عن الزهري غير واحدٍ ولم يذكروا رفع اليدين، منهم عقيل الأيلي عند البخاري (789) ومسلم (392/ 29)، ومعمر عند النسائي (746). وقد رواه عن أبي هريرة كذلك أبو سلمة بن عبد الرحمن عند البخاري (785) ومسلم (392/ 27)، وأبو صالح ذكوان عند مسلم (392/ 32). فرواية ابن جريج شاذة أو أن الوهم من الرواة عنه.

(1/203)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وهذا الحديث على شرط مسلم رواه جماعةٌ عن الزهري، عن أبي بكر.

  10 - باب مَن لم يذكر الرفعَ عند الركوع

56/ 717 - عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة قال: قال عبد الله بن مسعود: ألا أصلي بكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: فصلى، فلم يرفع يديه إلا مرة. 57/ 718 - وفي رواية: قال: «فرفع يديه في أول مرة». 58/ 719 - وفي رواية: «مرة واحدة». وأخرجه الترمذيُّ والنسائي (1). وقال الترمذي: «حديث حسن». وقد حُكيَ عن عبد الله بن المبارك أنه قال: لا يثبت هذا الحديث. وقال غيره: لم يسمع عبد الرحمن من علقمة. وقد يكون خَفِي هذا على ابن مسعود، كما خفي عليه نسخ التطبيق، ويكون ذلك كان في الابتداء قبل أن يُشرع رفع اليدين في الركوع، ثم صار التطبيق منسوخًا، وصار الأمر في السنة إلى رفع اليدين عند الركوع ورفع الرأس منه. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال سفيان بن عبد الملك: سمعت ابنَ المبارك يقول: لم يثبت حديثُ ابن مسعود «أنه رفع يديه في أول تكبيرة» (2). _________ (1). أخرجه أبو داود (748 و 749)، والترمذي (257)، والنسائي (1058)، وأحمد (3681) وغيرهم من طرق عن عاصم بن كليب عن عبد الرحمن به. قال أبو داود: «ليس هو بصحيح على هذا اللفظ». (2). ذكره الترمذي عقب إخراجه للحديث. والبيهقي في «الكبرى»: (2/ 79)، و «الخلافيات ــ مختصره»: (2/ 75).

(1/204)


وقال ابن أبي حاتم في كتاب «العلل» (1): سألتُ أبي عن هذا الحديث فقال: هذا خطأ, يقال: وَهِم فيه الثوريُّ. وروى هذا الحديثَ جماعةٌ عن عاصم فقالوا كلهم: «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - افتتح فرفع يديه ثم ركع فطبَّق» ولم يقل أحدٌ ما روى الثوريّ. وقال الحاكم (2): خبرُ ابن مسعود مختصر, وعاصم بن كُلَيب لم يخرَّج حديثُه في الصحيح. وليس كما قال، فقد احتجَّ به مسلم (3) , إلا أنه ليس في الحفظ كابن شهاب وأمثاله. وأما إنكار سماع عبد الرحمن من علقمة فليس بشيء, فقد سمع منه، وهو ثقة، وأُدخِل على عائشة وهو صبيّ (4). ولكن معارضة سالمٍ عن أبيه بعاصم بن كليب عن عبد الرحمن بن الأسود لا تُقبَل. وقال الأثرم: قال أبو عبد الله: كان وكيع يقول في الحديث «يعني» وربما طرح «يعني» وذَكَر تفسير (5) الحديث، ثم قال أحمد: عن عاصم بن كُليب سمعته منه, يعني من وكيع غير مرة فيه «ثم لم يعد» فقال لي أبو عبد الرحمن _________ (1). (258). (2). نقله عنه تلميذه البيهقي في «الخلافيات ــ مختصره»: (2/ 75). (3). قال البيهقي تعليقًا على قول الحاكم: «يريد ــ والله أعلم ــ «صحيح البخاري»، لأن مسلمًا قد أخرج حديثه عن أبي بردة عن علي ... ». (4). وانظر جواب ابن دقيق العيد عن هذه العلة في «نصب الراية»: (1/ 395) مطولًا. (5). في الأصل و (ش) والمطبوعات: «نفس» وهو تصحيف، والتصويب من كتاب «رفع اليدين» (ص 53) للمؤلف.

(1/205)


الوكيعي (1): كان وكيع يقول فيه: «يعني: ثم لم يعد» وتبسَّم أحمد (2). وقال أبو حاتم البستي في كتاب «الصلاة» له: هذا الحديث له علّة توهِّنه؛ لأن وكيعًا اختصره من حديث طويل, ولفظة «ثم لم يعد» إنما كان وكيع يقولها في آخر الخبر مِن قِبَلِه وقبلها «يعني»، فربما أسقطت «يعني». وحكى البخاريُّ (3) تضعيفَه عن يحيى بن آدم وأحمد بن حنبل وتابعهما عليه, وضعَّفه الدارميُّ والدارقطني والبيهقي. وهذا الحديث روي بأربعة ألفاظ (4): أحدها: قوله: «فرفع يديه في أول مرة ثم لم يعد». والثانية: «فلم يرفع يديه إلا مرة». والثالثة: «فرفع يديه في أول مرة» لم يذكر سواها. والرابعة: «فرفع يديه مرة واحدة». والإدراجُ ممكن في قوله «ثم لم يعد». وأما باقيها فإما أن يكون قد رُوي بالمعنى, وإما أن يكون صحيحًا. 59/ 720 - وعن البراء ــ وهو ابن عازب ــ: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه، ثم لا يعود» (5). _________ (1). هو أحمد بن جعفر الكوفي الوكيعي الضرير (ت 215). ترجمته في «تاريخ بغداد»: (4/ 58)، و «السير»: (10/ 575 - 576). (2). ينظر: «العلل»: (1/ 370) لأحمد. (3). في كتابه «رفع اليدين في الصلاة» (ص 79 - 80). (4). وكل هذه الألفاظ في «السنن» وقد تقدم العزو إليها. (5). أخرجه أبو داود (750)، وأخرجه البخاري في «رفع اليدين» (ص 84)، والبيهقي في «الكبرى»: (2/ 77). وانظر كلام المؤلف حوله بتوسّع في كتابه «رفع اليدين» (ص 43 - 50).

(1/206)


في إسناده يزيد بن أبي زياد، أبو عبد الله الهاشمي، مولاهم الكوفي، ولا يحتج بحديثه، وقال الدارقطني: إنما لُقِّن يزيد في آخر عمره «ثم لم يَعُد» فتَلَقَّنه، وكان قد اختلط. وقال البخاري: وكذلك روى الحفاظ الذين سمعوا من يزيد قديمًا، منهم الثوري، وشعبة، وزهير، ليس فيه: «ثم لا يعود». قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال عثمان الدارمي: سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث؟ فقال: لا يصح هذا الحديث (1). وقال يحيى بن محمد الذهلي: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: هذا حديث واهٍ (2). [ق 42] ورواه الشافعيُّ (3) عن ابن عيينة، عن يزيد, ولفظه: «رأيت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتح الصلاةَ رفع يديه» , قال ابن عيينة: ثم قدمتُ الكوفة فلقيتُ يزيد, فسمعته يحدِّث بهذا. وزاد فيه «ثم لا يعود» فظننتُ أنهم قد لقَّنوه. قال الشافعي (4): ذهب سفيان إلى تغليط يزيد. وقال الإمام أحمد: هذا حديث واهٍ (5). وقال ابن عبد البر (6): تفرَّد به يزيدُ بن أبي زياد, ورواه شعبة والثوري وابن عيينة وهُشَيم وخالد بن عبد الله لم يذكر أحدٌ منهم: «ثم لا يعود». _________ (1). رواه عنه البيهقي في «الكبرى»: (2/ 76). (2). رواه البيهقي في «معرفة السنن»: (1/ 548). ويحيى بن محمد هو الملقّب حَيْكان ابن الإمام الذهلي. ووقع في «رفع اليدين» (ص 47) للمؤلف: «محمد بن يحيى الذهلي» فلعلّه وهم من الناسخ! (3). في «الأم»: (2/ 236). (4). في «الأم» كما تقدم. (5). سبق قريبًا. (6). في «التمهيد»: (9/ 219 - 220).

(1/207)


وقال يحيى بن معين (1): يزيد بن [أبي] (2) زياد ضعيف الحديث. وقال ابن عديّ: ليس بذاك (3). وقال الحميدي الكبير: قلنا للمحتج بهذا: إنما رواه يزيد, ويزيدُ يزيد (4). وقال أحمد في روايةٍ عنه: لا يصحّ عنه هذا الحديث. وقال الدارمي: ومما يحقِّق قولَ سفيان أنهم لقنوه هذه الكلمة: أن الثوريَّ وزهيرَ بن معاوية وهُشيمًا وغيرَهم من أهل العلم لم يجيئوا بها إنما جاء بها من سمع منه بأخرة (5). قال البيهقي (6): وقد رواه إبراهيم بن بشار، عن سفيان، حدثنا يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب قال: «رأيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتح الصلاةَ رفع يديه, وإذا أراد أن يركع، وإذا رفع رأسَه من الركوع» قال سفيان: فلما قدمتُ الكوفةَ سمعته يقول: «يرفع يديه إذا افتتح الصلاة, ثم لا يعود» وظننت أنهم لقَّنوه. _________ (1). نقل هذه الرواية في «الكامل»: (7/ 275). (2). سقطت من الأصل و (ش). (3). كذا في الأصل و (ش) و «رفع اليدين» للمؤلف، والذي في «الكامل»: (7/ 275) نِسْبة هذا القول لأحمد، ثم قال ابن عدي في آخر الترجمة: «ومع ضعفه يُكتب حديثه». (4). أي: يزيد في إسناد الحديث رفعًا ووصلًا، وفي متنه إدراجًا. ينظر «البدر المنير»: (3/ 488). (5). نقله البيهقي في «الكبرى»: (2/ 76). ووقع في الأصل و (ش) «هشيم» بلا ألف. (6). المصدر نفسه: (2/ 77).

(1/208)


فهذه ثلاثه أوجه عن يزيد, فلو قُدِّر أنه من الحفّاظ الأثبات، وقد اختلف حديثُه، لوجب تركُه والرجوع إلى الأحاديث الثابتة التي لم تختلف, مثل حديث الزهري، عن سالم، عن أبيه ونحوها. فمعارضتُها بمثل هذا الحديث الواهي المضطرب المخْتَلِف في غاية البطلان. قال الحاكم: وإبراهيم بن بشَّار ثقة مأمون (1)، وقال ابن معين: ليس بشيء (2)، وقال أحمد: يأتي عن سفيان بالطامات, حتى كأنه ليس بسفيان (3).

  11 - باب ما يُستفتحُ به الصلاة من الدعاء

60/ 725 - عن علي بن أبي طالب قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة كبَّر، ثم قال: وجَّهتُ وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين، إنَّ صلاتي ونُسُكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أُمِرتُ وأنا أول المسلمين. اللهم أنت الملكُ لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدُك، ظلمتُ نفسي، واعترفتُ بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، لا يغفر الذنوبَ إلا أنت، واهدِني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سَيّئها لا يصرفُ سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك والخيرُ كلُّه في يديك [والشر ليس إليك]، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليتَ، أستغفرك وأتوب إليك. وإذا ركع قال: اللهم لك ركعتُ، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومُخِّي وعظامي وعصَبي. وإذا رفع قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد مِلءَ السموات والأرض وما بينهما، ومِلْءَ ما شئتَ من شيء بعدُ. وإذا سجد قال: اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوَّره _________ (1). نقله عنه البيهقي في «الخلافيات - مختصره»: (2/ 80 - 81). (2). ينظر «تهذيب التهذيب»: (1/ 108 - 111). (3). ينظر «موسوعة أقوال أحمد»: (1/ 22).

(1/209)


فأحسن صوره، وشَقَّ سمعه وبصره، وتبارك الله أحسن الخالقين. وإذا سلَّم من الصلاة قال: اللهم اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخّرتُ، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مِنّي، أنت المقدِّمُ وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت». وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي مطولًا، وأخرجه ابن ماجه مختصرًا (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: واختُلِف في وقت هذا الدعاء الذي في آخر الصلاة، ففي «سنن أبي داود» كما ذكره هنا قال «وإذا سلَّم قال»، وفي «صحيح مسلم» روايتان, إحداهما (2): «ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم، اللهم اغفر لي» إلى آخره. والرواية الثانية (3): «قال: وإذا سلَّم قال: اللهم اغفر لي» كما ذكره أبو داود. وفي هذا الحديث شيء آخر, وهو أن مسلمًا أدخله في باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل, وظاهر هذا أن هذا الافتتاح كان في قيام الليل, وقال الترمذي وابن حبان في «صحيحه» (4) في هذا الحديث: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبَّر ثم قال» الحديث. وروى النسائيُّ (5) من حديث محمد بن المنكدر، عن جابر قال: «كان _________ (1). أخرجه أبو داود (760)، ومسلم (771)، والترمذي (3421)، والنسائي (1126)، وابن ماجه (1054). وأخرجه أحمد (729)، وابن خزيمة (463)، وابن حبان (1771). وما بين المعكوفين من المصادر، وسقط من بعض نسخ «السنن». (2). (771/ 201). (3). (771/ 202). (4). (1771، 1772). (5). (896).

(1/210)


النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا استفتحَ الصلاةَ كبَّر ثم قال: إن صلاتي ونُسُكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين لا شريك له وبذلك أُمِرتُ وأنا أول المسلمين» وذكر دعاءً بعده. قال النسائي (1): هذا حديث حمصي رجع إلى المدينة ثم إلى مكة.

  12 - باب (2) الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم

61/ 747 - وعن عائشة - رضي الله عنها - ــ وذَكَر [عروة] الإفك ــ قالت: «جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكشف عن وجهه، وقال: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} (3) الآية [النور: 11]». قال أبو داود: هذا حديث منكر. قد روى هذا الحديث جماعة عن الزهري، لم يذكروا هذا الكلام على هذا الشرح. وأخاف أن يكون أمرُ الاستعاذة منه كلامَ حُميد. هذا آخر كلامه. وحميد ــ هذا ــ هو أبو صفوان حميد بن قيس المكي الأعرج، احتجَّ به الشيخان. قال ابن القيم - رحمه الله -: قال ابن القطَّان (4): «حُمَيد بن قيس أحد الثقات, وإنما عِلّته أنه من رواية قَطَن بن نُسَير، عن جعفر بن سليمان، عن حُمَيد. وقَطَن ــ وإن كان روى عنه مسلم ــ فكان أبو زرعة يحمل عليه ويقول: روى عن جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس أحاديثَ مما أُنْكِر عليه. وجعفرٌ _________ (1) في «الكبرى» (972) (2) كذا في الأصل وبعض نسخ «السنن»، وفي أكثرها: «باب من لم ير الجهر». ينظر «السنن»: (2/ 562 - ط. التأصيل). (3) أخرجه أبو داود (785). من طريق قطن بن نُسير عن جعفر الضُبعي عن حميد الأعرج عن ابن شهاب عن عروة به. (4) في «بيان الوهم»: (3/ 368). وفيه أيضًا سليمان الضّبعي متكلَّم فيه.

(1/211)


أيضًا مختلَف فيه, فليس ينبغي أن يُحْمَل على حُميد ــ وهو ثقة بلا خلاف ــ في شيء جاء به عنه مَن يُخْتَلَف فيه».

  13 - باب مَن ترك القراءةَ في صلاته

62/ 786 - وعن [عبادة بن الصامت] قال: «كُنّا خلفَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الفجر، فقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فثَقُلَتْ عليه القراءةُ، فلما فرغ قال: لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟ قلنا: نعم، هَذًّا يا رسول الله، قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لِمَنْ لم يقرأ بها». وأخرجه الترمذي (1)، وقال: حديث حسن. قال ابن القيم - رحمه الله -: وأُعِلّ هذا الحديث بأن ابن إسحاق رواه عن مكحول, وهو مدلِّس, لم يصرِّح بسماعه من مكحول وإنما عَنْعَنَه, والمدلِّس إذا عنعن لم يُحتجّ بحديثه, وكذلك رواه أبو داود. قال البيهقي (2): وقد رواه إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق. فذكر سماعَه فيه من مكحول, فصار الحديثُ بذلك موصولًا صحيحًا. وقد رواه البخاريُّ في كتاب «القراءة خلف الإمام» (3) وقال: هو _________ (1). أخرجه أبو داود (823)، والترمذي (311). وأخرجه أحمد (22671)، وابن حبان (1785) من طريق محمد بن إسحاق عن مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة به. (2). في «معرفة السنن والآثار»: (2/ 52). وقد أخرج هذه الرواية أحمد في «المسند» (22745). (3). (38).

(1/212)


صحيح, ووثَّقَ ابنَ إسحاق وأثنى عليه, واحتج بحديثه فيه (1) , ثم رواه من غير حديث ابن إسحاق أيضًا (2) , وقال: هو صحيح.

  14 - باب مَن رأى القراءةَ إذا لم يجهر

63/ 789 - عن ابن أُكَيمة الليثي، عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من صلاةٍ جَهَر فيها بالقراءة، فقال: «هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا؟» فقال رجل: نعم، يا رسول الله، قال: «إني أقول: ما لي أُنازَعُ القرآن؟» قال: فانتهى الناسُ عن القراءة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيما جهر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقراءة من الصلوات، حين سمعوا ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (3). وقال الترمذي: هذا حديث حسن. 64/ 790 - وفي رواية لأبي داود: عن الزهري قال: سمعت ابن أُكيمة يحدث سعيد بن المسيب، قال: سمعت أبا هريرة يقول: «صلى بنا سول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة نظن أنها الصبح ــ بمعناه إلى قوله ــ: ما لي أُنازع القرآن؟ وفيها ــ قال معمر، عن الزهري ــ قال أبو هريرة: فانتهى الناس. قال أبو داود: سمعت محمد بن يحيى بن فارس قال: قوله «فانتهى الناس»: من كلام الزهري. _________ (1). ينظر «القراءة خلف الإمام» (ص 233 - 235). (2). (39). (3). أخرجه أبو داود (826)، والترمذي (312)، والنسائي (2919)، وابن ماجه (848). وأخرجه أحمد (7270) وابن حبان (1843) من طرق عن ابن شهاب عن ابن أُكيمة به.

(1/213)


[ق 43] قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد أعلَّ البيهقيُّ (1) هذا الحديث بابن أُكيمة, وقال: تفرَّد به وهو مجهول, ولم يكن عند الزهري من معرفته أكثر من أن رآه يحدِّث سعيدَ بن المسيب. واختلفوا في اسمه، فقيل: عمارة، وقيل: عمّار, قاله البخاري. وقوله: «فانتهى الناس عن القراءة» من قول الزهري, قاله محمد بن يحيى الذهلي صاحب «الزُّهريات» , والبخاري, وأبو داود (2). واستدلوا على ذلك برواية الأوزاعي, حين ميَّزه من الحديث, وجعله من قول الزهري. قال: وكيف يكون ذلك من قول أبي هريرة وهو يأمر بالقراءة خلف الإمام فيما جَهَر فيه وفيما خافت؟! وقال غيره: هذا التعليل ضعيف, فإن ابن أُكَيمة من التابعين وقد حدَّث بهذا الحديث ولم ينكره عليه أعلمُ الناس بأبي هريرة وهو سعيد بن المسيب، ولا يُعلَم أحدٌ قدحَ فيه ولا جرحَه بما يوجبُ ترك حديثه، ومثل هذا أقلّ درجات حديثه أن يكون حسنًا. كما قال الترمذي (3). وقوله: «فانتهى الناس» وإن كان الزهري قاله فقد رواه مَعْمَر، عن _________ (1). في «الكبرى»: (2/ 158)، و «معرفة السنن»: (2/ 47 - 48)، و «القراءة خلف الإمام» (ص 142) ونقل تعليله عن الحميدي وابن خزيمة. (2). ينظر «القراءة خلف الإمام» (ص 162) للبخاري و «التاريخ الكبير»: (9/ 38) له، و «السنن» (827) لأبي داود، و «البدر المنير»: (3/ 546 - 547). (3). وقد صحح حديثه أبو حاتم الرازي وابن حبان، وروى عنه ثقتان وأخرج له مالك، ولم يتفرد عن الزهري، وكان يحدِّث في مجلس سعيد بن المسيب وهو يصغي إلى حديثه. ينظر «البدر المنير»: (3/ 544 - 547).

(1/214)


الزهري قول أبي هريرة، وأيُّ تنافٍ بين الأمرين؟ بل كلاهما صواب, قاله أبو هريرة كما قال معمر، وقاله الزهري كما قال هؤلاء، وقاله معمر أيضًا كما قال أبو داود. فلو كان قول الزهري له علَّة في قول أبي هريرة لكان قول معمر له علة في قول الزهري, وأن نجعل ذلك كلام معمر. وقوله: «كيف يصحّ ذلك عن أبي هريرة, وهو يأمر بالقراءة خلف الإمام؟» فالمحفوظ عن أبي هريرة أنه قال: «اقرأ بها في نفسك» وهذا مطلق ليس فيه بيان أن يقرأ بها حالَ الجهر. ولعله قال له يقرأ بها في السرِّ والسكتات, ولو كان عامًّا فهذا رأيٌ له خالفه فيه غيرُه من الصحابة، والأخذ بروايته أولى. وقد روى الدارقطنيُّ والبيهقيُّ (1) من حديث زيد بن واقد، عن حرام بن حكيم ومكحول، عن نافع بن محمود: «أنه سمع عُبادة بن الصامت يقرأ بأمِّ القرآن وأبو نعيم يجهر بالقراءة, فقلت: رأيتُك صنعتَ في صلاتك شيئًا؟ قال: وما ذاك؟ قلت: سمعتُك تقرأ بأمّ القرآن وأبو نعيم يجهر بالقراءة؟ قال: نعم, صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض الصلوات التي يُجْهَر فيها بالقراءة، فلما انصرف قال: «هل منكم من أحدٍ يقرأ شيئًا من القرآن إذا جهرتُ بالقراءة؟» قلنا: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وأنا أقول: مالي أُنازَع القرآن؟ لا يقرأنَّ أحدٌ منكم شيئًا من القرآن إذا جَهَرتُ بالقراءة, إلا بأم القرآن». قال الدارقطني: إسناده حسن ورجاله ثقات. قال البيهقي (2): وزيد بن واقد ثقة, ومكحولٌ سمع هذا الحديث من _________ (1). الدارقطني (1220)، والبيهقي: (2/ 164). (2). في «معرفة السنن والآثار»: (2/ 53).

(1/215)


محمود بن الربيع, ومن ابنه نافع بن محمود, ونافع بن محمود وأبوه محمود بن الربيع سمعا من عُبادة بن الصامت. وروى البيهقيُّ (1) من طريق سفيان، عن خالد الحذَّاء، عن أبي قلابة، عن محمد بن أبي عائشة، عن رجل من أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لعلكم تقرؤون والإمام يقرأ؟» قالوا: إنا لنفعل, قال: «فلا تفعلوا, إلا أن يقرأ أحدُكم بفاتحة الكتاب» رواه جماعة عن سفيان. قال: وهذا إسناد صحيح، وأصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - كلُّهم ثقة, فتَرْك ذِكْر أسمائهم في الإسناد لا يضرّ. إذا لم يعارِضْه ما هو أصحّ منه. ولكن لهذا الحديث علّة, وهي أن أيوبَ خالف فيه خالدًا, ورواه عن أبي قِلابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا, وهو كذلك في «تاريخ البخاري» (2) عن مُؤمّل، عن إسماعيل بن عُلَية، عن أيوب، عن أبي قِلابة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما حديث جابر يرفعه: «مَن كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» (3) فله علتان: إحداهما: أن شعبةَ والثوريَّ وابنَ عُيينة وأبا (4) عوانة وجماعةً من _________ (1). في «الكبرى»: (2/ 166)، و «المعرفة»: (2/ 53). (2). (1/ 207). (3). أخرجه ابن ماجه (850)، وأحمد (14643)، والدارقطني (1253)، والبيهقي في «الكبرى»: (2/ 160)، وفي «القراءة خلف الإمام» (ص 150، 155) من طرق عن جابر الجعفي عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - به. (4). في الأصل و (ش): «وأبو»!

(1/216)


الحفاظ رووه عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شدَّاد مرسلًا (1). والعلة الثانية: أنه لا يصح رفعُه، وإنما المعروف وقفُه (2) , قال الحاكم: سمعت سلَمة بن محمد يقول: سألت أبا موسى الرازي الحافظ عن الحديث المرويِّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَن كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة»؟ فقال: لم يصح فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء, إنما اعتمد مشايخُنا فيه على الروايات عن عليّ وابن مسعود والصحابة. قال الحاكم: أعجبني هذا لما سمعته, فإن أبا موسى أحْفَظ مَن رأينا من أصحاب الرأي تحت أديم السماء, وقد رفعه جابرٌ الجعفي وليثُ بن أبي سُلَيم, عن أبي الزبير، عن جابر, وتابعهما مَن هو أضعف منهما أو مثلهما (3).

  15 - باب ما يُجزئ [الأميَّ] (4) والأعجميَّ من القراءة

65/ 795 - وعن إبراهيم السَّكْسَكي، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: جاء رجل إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئًا، فعلمني ما _________ (1). أخرجه الدارقطني (1233 و 1234)، والطحاوي في «شرح المعاني»: (1/ 317)، والبيهقي في «الكبرى»: (2/ 159 - 160)، وفي «جزء القراءة» (ص 147 - 148) وغيرهم. (2). أخرجه مالك في «الموطأ» (223) عن وهب بن كيسان عن جابر موقوفًا، وإسناده صحيح. وأخرجه الطحاوي في «شرح المعاني»: (1/ 218)، والدارقطني (1241) وغيرهما من طريق يحيى بن سلام عن مالك به مرفوعًا. قال الدارقطني: يحيى بن سلام ضعيف، والصواب موقوف. (3). ينظر كلام الحاكم في «السنن الكبرى»: (2/ 160)، و «المعرفة»: (2/ 50)، و «جزء القراءة» (ص 215). (4). سقطت من الأصل، والاستدراك من «المختصر» و «السنن».

(1/217)


يجزئني منه، فقال: قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال: يا رسول الله، هذا لله عز وجل، فما لي؟ قال: قل: اللهم ارحمني، وارزقني، وعافني، واهدني. فلما قام قال هكذا بيده، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمَّا هذا فقد ملأ يديه من الخير». وأخرجه النسائي (1)، وقال: إبراهيم السكسكي ليس بذاك القوي، وقال يحيى بن سعيد القطان: كان شُعبة يُضَعِّف إبراهيم السّكْسَكي. وذكر ابنُ عَديّ أن مدار هذا الحديث على إبراهيم السكسكي. وقد احتجَّ البخاريُّ في «صحيحه» بإبراهيم السكسكي. قال ابن القيم - رحمه الله -: وصحح الدارقطنيُّ هذا الحديث (2).

  16 - باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه

66/ 801 - عن وائل بن حُجْر قال: «رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه». وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (3). وقال الترمذي: هذا حديث حسن _________ (1). أخرجه أبو داود (832)، والنسائي في «الكبرى» (998) مختصرًا. وأخرجه أحمد (19110)، وغيرهم من طرقٍ عن إبراهيم السكسكي به، وإبراهيم فيه ضعف يسير، وقد تابعه طلحة بن مصرف عند ابن حبان (1810)، وإسماعيل بن أبي خالد عند أبي نُعيم في «الحلية»: (7/ 113) وفي إسنادهما ضعف. وانظر حاشية «المسند»: (31/ 455 - 456). وصححه ابن حبان والحاكم على شرط البخاري، وحسَّنه الحافظ في «نتائج الأفكار»: (1/ 70) وضعَّفه النووي في «المجموع» و «الخلاصة»، وتعقَّبه ابن الملقن في «البدر المنير»: (3/ 576). (2). لم أجد تصحيحه في «السنن» ولا في «العلل». وذكر تصحيحه الحافظ في «بلوغ المرام» (285). (3). أخرجه أبو داود (838)، والترمذي (268)، والنسائي (1089)، وابن ماجه (882) من طريق شريك النخعي، وفي حفظه ضعف، وله طريق أخرى عند أبي داود (839) من طريق عبد الجبار بن وائل بن حجر عن أبيه، وفيها انقطاع. وانظر للكلام على الحديث «البدر المنير»: (3/ 655 - 657).

(1/218)


غريب، لا نعرف أحدًا رواه غير شريك. وذكر أن همَّامًا (1) رواه عن عاصم مرسلًا، ولم يذكر فيه وائل بن حجر. وقال النسائي: لم يقل هذا عن شريك غير يزيد بن هارون. وقال الدارقطني: تفرد به يزيد عن شريك، ولم يحدِّث به عن عاصم بن كُلَيب غير شَريك، وشَريك ليس بالقوي فيما ينفرد به. [ق 44] قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد صحَّحه ابنُ خزيمة وأبو حاتم بن حبان والحاكم (2). 67/ 802 - وعن محمد بن جُحادة، عن عبد الجبار بن وائل، عن أبيه: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ــ فذكر حديث الصلاة ــ قال: فلما سجد وقعتا ركبتاه إلى الأرض قبل أن يقعا كَفَّاه. قال همام: وحدثنا شقيق قال: حدثني عاصم بن كُلَيب، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل هذا، وفي حديث أحدهما ــ وأكبرُ علمي أنه في حديث محمد بن جُحادة ــ: وإذا نهضَ نهضَ على ركبتيه، واعتمد على فخذه» (3). _________ (1). تصحفت في خ المختصر إلى «هشامًا». (2). ابن خزيمة (626 و 629)، وابن حبان (1912)، والحاكم: (1/ 226) على شرط مسلم. وصححه أيضًا ابن السكن. وضعَّفه ابن القطان في «بيان الوهم»: (2/ 65 - 66)، وجعله الدارقطني والبيهقي من أفراد شريك، ورجَّح الحازمي في «الاعتبار»: (1/ 330) أن الصواب فيه الإرسال. وتعقبه ابن الملقن في «البدر». (3). أخرجه أبو داود (839)، والبيهقي في «الكبرى»: (2/ 98)، وفي إسناده انقطاع، وأخرجه البيهقي: (2/ 99) من طريق محمد بن حُجر بن عبد الجبار، عن عمه سعيد بن عبد الجبار، عن أبيه، عن أمه، عن وائل به. ومحمد بن حجر وعمه سعيد ضعيفان.

(1/219)


عبد الجبار بن وائل لم يسمع من أبيه. وكُلَيب بن شهاب ــ والد عاصم ــ حديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل، فإنه لم يدركه. قال ابن القيم - رحمه الله -: قاله جماعةٌ (1). ومسلم أخرج له من روايته عن أخيه علقمة، عن أبيه وائل (2). 68/ 803 - وعن محمد بن عبد الله بن حسن، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سجدَ أحدُكم فلا يَبْرُك كما يبرك البعير، ولْيَضَعْ يديه قبل ركبتيه» (3). 69/ 804 - وفي رواية: «يعتمد أحدكم في صلاته: يبرك كما يبرك الجمل». وأخرجه الترمذي والنسائي (4). وقال الترمذي: حديث غريب، لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه. وذكر البخاري أن محمد بن عبد الله بن حسن لا يتابع عليه، ولا أدري سمع من أبي الزناد أم لا؟ قال ابن القيم - رحمه الله -: قال الترمذي (5): وقد رُوي من حديث عبد الله بن _________ (1). ينظر «تحفة التحصيل»: (ص 276)، و «تهذيب الكمال»: (16/ 401). (2). رقم (401). (3). أخرجه أبو داود (840)، والنسائي في «الكبرى» (682)، وأحمد (8955). من طريق عبد العزيز بن محمد، عن محمد بن عبد الله به. (4). أخرجه أبو داود (841)، والترمذي (269)، والنسائي في «الكبرى» (681) من طريق عبد الله بن نافع، عن محمد بن عبد الله به. (5). عقب الحديث رقم (269) ثم قال: «وعبد الله بن سعيد المقبري ضعَّفه يحيى بن سعيد القطان وغيره».

(1/220)


سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة. [قال المنذري]: وقال أبو بكر بن أبي داود السجستاني: وهذه سنة تفرد بها أهل المدينة، ولهم فيها إسنادان، هذا أحدهما، والآخر: عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن القيم - رحمه الله -: كان يضع يديه قبل ركبتيه (1). قال المنذري: وأخرج البخاريُّ حديثَه في «صحيحه» مقرونًا بعبد العزيز بن أبي حازم. قال ابن القيم - رحمه الله -: قال ابن المنذر (2): وقد زعم بعضُ أصحابنا أن وضع اليدين قبل الركبتين منسوخ، وقال هذا القائل: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كُهيل, حدثنا أبي، عن أبيه، عن سلمة، عن مصعب بن سعد، عن سعد قال: «كنَّا نضعُ اليدين قبل الركبتين، فأُمِرْنا بالركبتين قبل اليدين» تم كلامه. _________ (1). أخرجه ابن خزيمة (627)، والدارقطني (1303)، والحاكم: (1/ 226) وصححه على شرط مسلم، وهو عند أبي داود من رواية ابن العبد كما في «التحفة»: (6/ 156) وقال: «روى عبد العزيز عن عبيد الله أحاديث مناكير». (2). في «الأوسط»: (3/ 166 - 167)، وأراد بقوله: «بعض أصحابنا» الإمامَ ابن خزيمة، فقد ذكر هذا الإسناد بعينه في «صحيحه» (628)، وبوّب عليه بقوله: «باب ذكر الدليل على أن الأمر بوضع اليدين قبل الركبتين عند السجود منسوخ ... ». لكن هذا الإسناد ضعيف جدًّا، فيه إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل متروك، وإبراهيم ابنه ضعيف. ويحيى بن سلمة أيضًا ضعيف كما سيأتي.

(1/221)


وهذا الحديث هو في «الصحيحين» (1) عن مصعب بن سعد قال: «صليتُ إلى جنب أبي, فجعلتُ يديَّ بين ركبتيَّ, فنهاني عن ذلك, فعدْتُ, فقال: لا تصنع هذا, فإنَّا كنّا نفعله فنُهِينا عن ذلك, وأُمِرْنا أن نضع أيدينا على الرُّكَب». فهذا هو المعروف عن سعد أن المنسوخ هو قصة التطبيق ووضع الأيدي على الرُّكَب, ولعلَّ بعض الرواة غلط فيه من وضع اليدين على الركبتين إلى وضع اليدين قبل الركبتين. قال ابن المنذر (2): وقد اختلف أهلُ العلم في هذا الباب، فممن رأى أن يضعَ ركبتيه قبل يديه: عمرُ بن الخطاب, وبه قال النخعي، ومسلم بن يسار، والثوري, والشافعي, وأحمد, وإسحاق, وأبو حنيفة وأصحابه, وأهل الكوفة. وقالت طائفة: يضع يديه قبل ركبتيه, قاله مالك. وقال الأوزاعيُّ: أدركتُ الناسَ يضعون أيدِيَهم قبل رُكَبهم, ورُوِي عن ابن عمر فيه حديث. أما حديث سعد ففي إسناده مقال (3)، ولو كان محفوظًا لدلَّ على النَّسْخ, غير أن المحفوظ عن مصعب، عن أبيه حديث نسخ التطبيق. وقد روى الدارقطني (4) من حديث حفص بن غِياث عن عاصم الأحول، عن أنس قال: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ... انحطَّ بالتكبير, فسبقت ركبتاه يديه. وروى البيهقيُّ (5) من حديث إبراهيم بن موسى، عن محمد بن فُضَيل، _________ (1). البخاري (790)، ومسلم (535). (2). في «الأوسط»: (3/ 164 - 165). (3). تقدم ذكره. (4). (1308). (5). (2/ 100).

(1/222)


عن عبد الله بن سعيد، عن جَدّه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا سجد أحدُكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه ولا يبرُك بروكَ الجَمَل». قال البيهقي: وكذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة، عن محمد بن فُضَيل، إلا أن عبد الله بن سعيد المقبري ضعيف. قلت: قال أحمد والبخاري: متروك (1). وهذا الحديث الذي أشار إليه الترمذي (2) , وهو خلاف حديث الأعرج عنه. وقد روى ابنُ خزيمة في «صحيحه» (3) من حديث يحيى بن سلمة بن كُهَيل، عن أبيه، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: «كنا نضع اليدين قبل الركبتين, فأُمِرنا بالركبتين قبل اليدين» وهذا الحديث مداره على يحيى بن سلمة بن كُهَيل (4) , وقد قال النسائي: ليس بثقة, وقال البخاري: في أحاديثه مناكير. قال البيهقي (5): المحفوظ عن مصعب بن سعد، عن أبيه نسخ التطبيق, وإسناد هذه الرواية ضعيف, وكذلك قال الحازميُّ (6) وغيره. والراجحُ البداءةُ بالركبتين لوجوه: أحدها: أن حديث وائل بن حُجْر لم يُخْتَلف عليه, وحديث أبي هريرة _________ (1). ينظر «التاريخ الكبير»: (5/ 105)، و «الجرح والتعديل»: (5/ 71). (2). عقب حديث (269). (3). (628). (4). ترجمته في «التاريخ الكبير»: (8/ 277 - 278) و «الجرح والتعديل»: (9/ 154)، و «تهذيب التهذيب»: (11/ 224 - 225). (5). في «معرفة السنن والآثار»: (2/ 5)، و «السنن الكبرى»: (2/ 100). (6). في «الاعتبار»: (1/ 328).

(1/223)


قد اخْتُلِف فيه كما ذكرنا. الثاني: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التشبُّه بالجَمَل في بروكه, والجمل إذا برك إنما يبدأ بيديه قبل ركبتيه. وهذا موافق لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن التشبُّه بالحيوانات في الصلاة, فنهى عن التشبُّه بالغراب في النَّقْر, والتفاتٍ كالتفات الثعلب، وافتراش كافتراش السَّبُع، وإقعاء كإقعاء الكلب, ورفع الأيدي في السلام كأذناب الخيل, وبروك كبروك البعير. الثالث: حديث أنس (1) من رواية حفص بن غياث، عن عاصم الأحول عنه, ولم يختلف. الرابع: أنه ثابت عن عمر بن الخطاب (2) , وأما حديث عبد الله ابنه فالمرفوع منه ضعيف, وأما الموقوف فقال البيهقي (3): المشهور عنه: «إذا سجد أحدكم فليضع يديه, فإذا رفع فليرفعهما, فإن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه» فهذا هو الصحيح عنه.

  17 - باب صلاة مَن لا يقيم صُلْبَه في الركوع والسجود

قال ابن القيم - رحمه الله - ــ عقب حديث المسيئ صلاته وغيره من الأحاديث الواردة في الباب ــ (4): فصلٌ في سياق صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبيان اتفاق _________ (1). تقدم. (2). أخرجه ابن أبي شيبة (2719)، وابن المنذر في «الأوسط»: (3/ 165). (3). في «معرفة السنن»: (2/ 4)، وينظر «السنن الكبرى»: (2/ 101 - 102). وقد أخرج الحديث المرفوع أبو داود (892)، والنسائي في «الكبرى» (683)، وأحمد (4501). وأخرجه مالك في الموطأ (450) موقوفًا. (4). ساق المنذري في «مختصره» عشرة أحاديث في الباب الأرقام (819 - 828).

(1/224)


الأحاديث [ق 45] فيها، وغلط مَن ظنَّ أن التخفيف الوارد فيها هو التخفيف الذي اعتاده سُرَّاق الصلاة والنقَّارون لها: ففي «الصحيحين» (1) عن البراء بن عازب قال: «رمقتُ الصلاةَ مع محمد - صلى الله عليه وسلم -, فوجدتُ قيامَه فركعتَه فاعتدالَه بعد ركوعه، فسَجْدَته فجلسته بين السجدتين، فسجدته فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريبًا من السواء» لفظ مسلم. وفي «صحيح مسلم» (2) أيضًا: عن شعبة، عن الحكم قال: غَلَب على الكوفة رجلٌ قد سماه زمنَ ابنِ الأشعث, فأمر أبا عبيدة بن عبد الله أن يصليَ بالناس, فكان يصلي, فإذا رفع رأسَه من الركوع قام قدرَ ما أقول: «اللهم ربنا لك الحمد، مِلءَ السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيءٍ بعد, أهلَ الثناء والمجد, لا مانعَ لما أعطيتَ, ولا معطيَ لما منعتَ, ولا ينفعُ ذا الجدِّ منك الجَدُّ». قال الحَكَم: فذكرتُ ذلك لعبد الرحمن بن أبي ليلى فقال: سمعتُ البراءَ بنَ عازب يقول: كانت صلاةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وركوعُه، وإذا رفعَ رأسَه من الركوع، وسجودُه، وما بين السجدتين قريبًا من السواء. وروى البخاريُّ (3) هذا الحديث وقال فيه: «ما خلا القيامَ والقعودَ, قريبًا من السواء». ولا شكّ أن القيامَ: قيامَ القراءة، وقعودَ التشهُّد يزيدان في الطول على بقية الأركان. ولما كان - صلى الله عليه وسلم - يوجز القيامَ ويستوفي بقيةَ الأركان صارت صلاتُه قريبًا من السواء. فكلُّ واحدةٍ من الروايتين تُصَدِّق الأخرى. _________ (1). أخرجه البخاري (792)، ومسلم (471/ 193). (2). (471/ 194). (3). (792).

(1/225)


والبراءُ تارةً قرَّب ولم يحدِّد, فلم يذكر القيامَ والقعودَ, وتارةً استثنى وحدَّد، فاحتاج إلى ذِكْر القيام والقعود. وقد غلط بعضُهم حيث فهم من استثناء القيام والقعود أنه استثنى القيام من الركوع والقعود بين السجدتين, فإنه كان يُخَفّفهما فلم يكونا قريبًا من بقية الأركان، فإنهما ركنان قصيران. وهذا من سوء الفهم, فإن سياق الحديث يُبْطِله, فإنه قد ذكر هذين الركنين بأعيانهما, فكيف يذكرهما مع بقية الأركان، ويخبر عنهما بأنهما مساويان لها, ثم يستثنيهما منها؟ وهل هذا إلا بمنزلة قول القائل: قام زيد وعمرو وبكر وخالد إلا زيدًا وعَمْرًا؟! وقد ثبت تطويل هذين الركنين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدَّة أحاديث صحيحة صريحة، أحدها هذا. وقد استدلَّ البراءُ بن عازب على إصابة أبي عبيدة في تطويله ركن الاعتدال من الركوع بقوله: «كانت صلاةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, وركوعُه، وإذا رفعَ رأسه، وسجودُه، وما بين السجدتين قريبًا من السواء». ولو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخفِّف هذين الركنين لأنكر البراءُ صلاةَ أبي عبيدة, ولم يرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يتضمَّن تصويبَه. ومنها: ما رواه مسلم في «صحيحه» (1) من حديث حماد بن سلمة: أخبرنا ثابت، عن أنس قال: «ما صليتُ خلفَ أحدٍ أوجزَ صلاةً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تمام، كانت صلاةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقاربة, وكانت صلاة أبي بكر متقاربة, فلما كان عمر مدَّ في صلاة الفجر. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: «سمع الله لمن حمده» قامَ حتى نقول: قد أَوْهَم, ثم يسجدُ ويقعُد بين _________ (1). (473).

(1/226)


السجدتين حتى نقول: قد أوهم». رواه مسلم بهذا اللفظ. ورواه أبو داود (1) من حديث حماد بن سلمة، أخبرنا ثابت وحُميد، عن أنس قال: «ما صليتُ خلفَ رجلٍ أوْجَزَ صلاةً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تمام, وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: «سمع الله لمن حمده» قام حتى نقول: قد أوهم, ثم يكبِّر, ثم يسجد, وكان يقعُدُ بين السجدتين حتى نقولَ: قد أوهم». فجمع أنسٌ - رضي الله عنه - في هذا الحديث الصحيح بين الإخبار عن إيجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاةَ وإتمامها، وأنّ من إتمامها إطالة الاعتدالين جدًّا, كما أخبر به. وقد أخبر أنه ما رأى أوجزَ صلاةً منها ولا أتمّ, فيشبه ــ والله أعلم ــ أن يكون الإيجاز عاد إلى القيام, والإتمام إلى الركوع والسجود ورُكني الاعتدال, فبهذا تصير الصلاةُ تامَّةً موجزة, فيصدق قوله: «ما رأيتُ أوْجَزَ منها ولا أتمّ». ويطابق هذا حديثَ البراء المتقدِّم. وأحاديثُ أنسٍ كلُّها تدلّ على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يطيل الركوعَ والسجودَ والاعتدالين زيادةً على ما يفعله أكثرُ الأئمة ويعتادونه. وروايات «الصحيحين» تدلُّ على ذلك؛ ففي «الصحيحين» (2) عن حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس قال: «إني لا آلو أن أصلي بكم كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا. قال ثابت فكان أنسٌ يصنع شيئًا لا أراكم تصنعونه, كان إذا رفعَ رأسَه من الركوع انتصبَ قائمًا, حتى يقول القائل: قد نسي, وإذا رفع رأسَه في السجدة مكَثَ حتى يقول القائل: قد نسي». وفي لفظ: «وإذا رفع رأسه بين _________ (1). (853). (2). البخاري (821)، ومسلم (472).

(1/227)


السجدتين» (1). وفي رواية للبخاري (2) من حديث شعبة، عن ثابت: «كان أنس ينعتُ لنا صلاةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, فكان يصلي، وإذا رفع رأسَه مِن الركوع قام حتى نقول: قد نسي». وهذا يبيِّن أن إطالة ركني الاعتدال مما ضُيِّع من عهدِ ثابتٍ. ولهذا قال: «فكان أنسٌ يصنع شيئًا لا أراكم تفعلونه». وهذا والله أعلم مما أنكره أنسٌ مما أحْدَث الناسُ في الصلاة حيث [ق 46] قال: «ما أعلم شيئًا مما كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قيل: ولا الصلاة؟ قال: أوليس قد أحدثتم فيها؟» (3). فقول ثابت: إنهم لم يكونوا يفعلون كفعل أنس: وقول أنس: «إنكم قد أحدثتم فيها» يبين لك أن تقصير هذين الركنين هو مما أُحْدِث فيها. ومما يدلّ على أن السنة إطالتهما: «أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بالليل, فقرأ البقرة والنساء وآل عمران, وركع نحوًا من قيامه، ورفع نحوًا من ركوعه, وسجد نحوًا من قيامه, وجلس نحوًا من سجوده» متفق عليه (4). وفي «صحيح مسلم» (5) عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: «اللهم ربَّنا لك الحمدُ ملءُ السموات وملءُ الأرض وما _________ (1). هو لفظ البخاري بالرقم السالف، ومسلم (473/ 196). (2). (800). (3). أخرجه البخاري (529) بنحوه، وأخرجه أحمد (11977)، والترمذي (2447) وغيرهم. وزاد في ط. الفقي في آخره: «ما أحدثتم». (4). أخرجه مسلم (772)، ولم أجده في البخاري. (5). (478).

(1/228)


بينهما، وملءُ ما شئتَ مِن شيءٍ بعدُ, أهلَ الثناء والمجد، لا مانع لما أعطيتَ ولا معطيَ لما منعتَ، ولا ينفعُ ذا الجدِّ منكَ الجدُّ». وفي «صحيح مسلم» (1) عن أبي سعيد قال: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسَه من الركوع قال: «اللهم ربنا لكَ الحمدُ ملءُ السموات وملءُ الأرض وملءُ ما شئتَ مِن شيء بعد, أهلَ الثناء والمجد, أحقُّ ما قال العبد، وكلُّنا لكَ عبد, لا مانع لما أعطيتَ ولا معطيَ لما منعتَ, ولا ينفعُ ذا الجدِّ منكَ الجَدُّ». وفي «صحيح مسلم» (2) نحوه من حديث عبد الله بن أبي أوفى. وزاد بعد قوله: «وملء ما شئت من شيء بعد: اللهم طهِّرني بالثلج والبرد والماء البارد, اللهم طهِّرني من الذنوب والخطايا كما يُنقَّى الثوبُ الأبيض من الوَسَخ» (3). فهذه الأذكار والدعوات ونحوها ــ والله أعلم ــ من التي كان يقولها في حديث أنس: «أنه كان يمكث بعد الركوع حتى يقولوا: قد أوهم» لأنه ليس محلّ سكوتٍ, فجاء الذِّكْر مفسَّرًا في هذه الأحاديث. وروى النسائيُّ وأبو داود (4) عن سعيد بن جُبير قال: سمعت أنس بن مالك يقول: «ما صليتُ وراءَ أحدٍ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشبه صلاةً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا الفتى, يعني عمر بن عبد العزيز. قال: فحزرنا في ركوعه عشرَ تسبيحات, وفي سجوده عشرَ تسبيحات» وإسناده ثقات. _________ (1). (477). (2). (476). (3). (476/ 204). (4). أخرجه أبو داود (888)، والنسائي في «الكبرى» (725)، وأحمد (12661).

(1/229)


وفي «صحيح مسلم» (1) عن أبي قَزْعة قال: «أتيتُ أبا سعيد الخدريَّ وهو مكثورٌ عليه, فلما تفرَّق الناسُ عنه قلت: إني لا أسألك عما يسألك هؤلاء عنه, أسألك عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: ما لك في ذلك من خير, فأعادها عليه, فقال: كانت صلاةُ الظهر تُقام, فينطلق أحدُنا إلى البقيع, فيقضي حاجته, ثم يأتي أهلَه فيتوضأ ثم يرجع إلى المسجد, ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الركعة الأولى»، وفي رواية: «مما يطوِّلها» (2). وفي هذا ما يدلُّ على أن أبا سعيد رأى أن صلاةَ الناسِ في زمانه أنقصُ مما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعلها. ولهذا قال للسائل: «ما لك في ذلك من خير». وفي «الصحيحين» (3): «أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الفجر بالستين إلى المائة». ومن المتيقّن أنه - صلى الله عليه وسلم - لم تكن قراءته في الصلاة هذًّا بل ترتيلًا بتدبُّرٍ وتأنٍّ. وروى النسائيُّ (4) بإسناد صحيح عن عائشة: «أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قرأ في المغرب بسورة الأعراف, فرَّقها في ركعتين». وأصله في «الصحيح» (5): «أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قرأ في المغرب بِطُولى الطّولَيين» يريد الأعرافَ, كما جاء مفسَّرًا في رواية النسائي. _________ (1). (454/ 162). (2). في مسلم (454/ 161). (3). البخاري (547)، ومسلم (647). من حديث أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه -. (4). (991). وحسّن إسناده النووي في «الخلاصة»: (1/ 386)، وابن الملقن في «البدر المنير»: (3/ 183)، وله شاهد من حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -، أخرجه ابن خزيمة (517)، والحاكم: (1/ 237) وصححه على شرط الشيخين. (5). أخرجه البخاري (764)، والنسائي (989 و 990) من حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -.

(1/230)


وفي «الصحيحين» (1) عن جُبَير بن مُطعِم: «أنه سمع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطور». وفي «الصحيحين» (2) عن ابن عباس: أنّ أمّ الفضل بنت الحارث سمعَتْه وهو يقرأ: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} , فقالت: يا بُنيّ لقد ذَكَّرتني بقراءتك هذه السورة, إنها لآخر ما سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها في المغرب. وهذا يدلُّ على أن هذا الفعل غير منسوخ, لأنه كان في آخر حياته - صلى الله عليه وسلم -. وقد روى الإمام أحمد (3) عن أبي هريرة قال: شكا أصحابُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مشقَّةَ السجود عليهم, قال: «استعينوا بالرُّكَب» قال ابن عجلان: هو أن يضع مَرْفِقَيه على ركبتيه إذا طال السجودُ وأعيا. وهذا يدلُّ على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يطيل السجود بحيث يحتاج الصحابةُ إلى الاعتماد على رُكَبهم, وهذا لا يكون مع قِصَر السجود. وفي «الصحيحين» (4) أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إني لأقومُ في الصلاة وأنا أريدُ أن _________ (1). البخاري (765)، ومسلم (463). (2). البخاري (763)، ومسلم (462). (3). في «المسند» (8477)، وهو عند أبي داود (902)، والترمذي (286)، وابن حبان (1918)، والحاكم: (1/ 229) وصححه على شرط مسلم من رواية ابن عجلان، عن سميّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة به. وحسَّنه النوويّ في «الخلاصة»: (1/ 412)، وصححه أحمد شاكر. ورواه الثوري وابن عيينة عن سُميّ، عن النعمان بن أبي عياش عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا، ورجَّحه البخاري وأبو حاتم الرازي والدارقطني. ينظر: «فتح الباري»: (5/ 109 - 110) لابن رجب الحنبلي. (4). البخاري (709)، ومسلم (470) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

(1/231)


أُطَوِّل فيها, فأسمع بكاءَ الصبيِّ فأتجوَّز فيها مخافَة أن أشقَّ على أُمِّه». وأما ما رواه مسلم في «صحيحه» (1) من حديث جابر بن سَمُرة: «أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الفجر بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} , وكانت صلاته بعدُ تخفيفًا» فالمراد به ــ والله أعلم ــ أن صلاته كانت بعد الفجر تخفيفًا, يعني أنه كان يطيلُ قراءةَ الفجر ويخفِّف قراءةَ بقية الصلوات، لوجهين: أحدهما: أن مسلمًا روى في «صحيحه» (2) عن سِماك بن حرب قال: سألتُ جابر بن سَمُرة عن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: كان يخفِّف الصلاةَ ولا يصلي صلاةَ هؤلاء, قال: وأنبأني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الفجر [ق 47] بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ونحوها. فجمع بين وصف صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتخفيف وأنه كان يقرأ في الفجر بـ {ق}. الثاني: أن سائر الصحابة اتفقوا على أن هذه كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي ما زال يصليها. ولم يذكر أحدٌ أنه نقص في آخر أمره من الصلاة, وقد أخبرَتْ أمُّ الفضل عن قراءته في المغرب بـ «المرسلات» في آخر الأمر, وأجمع الفقهاء أن السنة في صلاة الفجر أن يقرأ بطوال المفصَّل. وأما قوله: «ولا يصلي صلاةَ هؤلاء» فيحتمل أمرين: أحدهما: أنه لم يكن يحذف كحذفهم, بل يتمّ الصلاة. والثاني: أنه لم يكن يطيل القراءةَ إطالتهم. _________ (1). (458). (2). (458/ 169). وقوله: «المجيد» في إحدى روايات الصحيح.

(1/232)


وفي «مسند أحمد» و «سنن النسائي» (1) عن عبد الله بن عمر قال: «إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليأمرنا بالتخفيف, وإن كان ليؤمّنا بالصافات». وهذا يدلُّ على أن الذي أَمَر به هو الذي فعَلَه, فإنه - صلى الله عليه وسلم - أمرَ أصحابَه أن يصلوا مثلَ صلاته, ولهذا صلى على المنبر وقال: «إنما فعلت هذا لتأتمُّوا بي ولتعلموا صلاتي» (2). وقال لمالك بن الحويرث وصاحبه: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (3). وذلك أنه ما من فعل في الغالب إلا ويسمَّى خفيفًا بالنسبة إلى ما هو أطول منه، وطويلًا بالنسبة إلى ما هو أخفّ منه, فلا يمكن تحديد التخفيف المأمور به في الصلاة باللغة ولا بالعُرْف, لأنه ليس له عادة في العرف، كالقبض والحِرز والإحياء والاصطياد, حتى يُرْجَع فيه إليه, بل هو من العبادات التي يُرْجَع في صفاتها ومقاديرها إلى الشارع, كما يُرْجَع إليه في أصلها, ولو جاز الرجوع فيه إلى العرف لاختلفت الصلاةُ الشرعية اختلافًا متباينًا لا ينضبط, ولكان لكلِّ أهل عصر ومصر ــ بل لأهل الدرب والسِّكّة, وكلّ محلّ وكل (4) طائفة ــ غَرَض وعُرْف وإرادة في مقدار الصلاة يخالف عُرْفَ غيرِهم, وهذا يفضي إلى تغيير الشريعة, وجَعْل السنة تابعةً لأهواء _________ (1). أخرجه أحمد (4796)، والنسائي في «المجتبى» (826) وفي «الكبرى» (902). وأخرجه ابن خزيمة (1606)، وابن حبان (1817). وفي إسناده الحارث بن عبد الرحمن القرشي صدوق، وبقية رجاله ثقات. (2). أخرجه مسلم (544) من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنهما -. (3). أخرجه البخاري (631)، ومسلم (674)، وليس في مسلم لفظ: «صلوا كما رأيتموني أصلي». (4). الأصل و (ش، هـ) والمطبوعات: «فكل» ولعله ما أثبت.

(1/233)


الناس, فلا يُرْجَع في التخفيف المأمور به إلَّا إلى فعله - صلى الله عليه وسلم -, فإنه كان يصلي وراءَه الضعيفُ والكبيرُ وذو الحاجة, وقد أَمَرَنا بالتخفيف لأجلهم, فالذي كان يفعله هو التخفيف, إذ من المحال أن يأمر بأمر ويعلِّله بعلّةٍ، ثم يفعل خلافَه مع وجود تلك العلة, إلا أن يكون منسوخًا. وفي «صحيح مسلم» (1) عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ طولَ صلاةِ الرجل وقِصَرَ خطبته مَئِنَّةٌ مِن فقهِهِ, فأطيلوا الصلاةَ واقْصُروا الخُطبةَ, وإن من البيان سِحْرًا». فجعل طولَ الصلاة علامةً على فقه الرجل, وأمر بإطالتها, وهذا الأمر إما أن يكون عامًّا في جميع الصلوات, وإما أن يكون المراد به صلاة الجمعة, فإن كان عامًّا فظاهر, وإن كان خاصًّا بالجمعة مع كون الجَمْع فيها يكون عظيمًا، وفيه الضعيف والكبير وذو الحاجة, وتُفْعَل في شدَّة الحرّ, ويتقدمها خطبتان، ومع هذا فقد أمر بإطالتها, فما الظنُّ بالفجر ونحوِ التي تُفْعَل وقتَ البرد والراحة مع قلة الجَمْع؟! وقد روى النسائيُّ في «سننه» (2): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في الفجر بالروم. وفي «سنن أبي داود» (3) عن جابر بن سَمُرة: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دحضَتِ الشمسُ صلى الظهرَ وقرأ بنحوٍ من {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} , والعصر كذلك, والصلوات كلها كذلك إلا الصبح فإنه كان يطيلها». _________ (1). (869). (2). (947)، وفي «الكبرى» (1021)، وأحمد (15873) عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورجاله ثقات غير أبي روح وحديثه حسن. وقد حسَّنه ابن كثير في «تفسيره»: (6/ 2738). (3). (806)، وأخرجه النسائي (980)، ومسلم (618، 459) مختصرًا.

(1/234)


وقد روى الإمام أحمد والنسائيُّ (1) بإسنادٍ على شرط مسلم عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة قال: «ما صليتُ وراءَ أحدٍ أشبَهَ صلاةً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فلان, قال سليمان: كان يُطيل الركعتين الأوليين من الظهر, ويخفِّف الأُخريين, ويخفِّف العصرَ, ويقرأ في المغرب بقصار المفصَّل, ويقرأ في العشاء بوسط المفصَّل, ويقرأ في الصبح بطوالِ المفصّل». وفي «الصحيحين» (2) عن أبي بَرْزة قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلي الصبحَ فينصرفُ الرجلُ فيعرفُ جليسَه, وكان يقرأ في الركعتين ــ أو إحداهما ــ ما بين الستين إلى المائة» لفظ البخاري. وهذا يدلُّ على أمرين: شدة التغليس بها, وإطالتها. فإن قيل: ما ذكرتموه من الأحاديث معارَض بما يدلُّ على نقيضه, وأن السنة هي التخفيف, فروى أبو داود في «سننه» (3) من حديث ابن وهب، أخبرني سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العَمْياء، أن سهل بن أبي أُمامة حدَّثه «أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة، في زمن عمر _________ (1). أحمد (7991)، والنسائي في «المجتبى» (982) وفي «الكبرى» (1056). (2). البخاري (771)، ومسلم (647). (3). (4904). وأخرجه أبو يعلى (3694) من طريق أحمد بن عيسى عن ابن وهب به. قال الهيثمي في «المجمع»: (6/ 259): رجاله رجال الصحيح غير ابن أبي العمياء، وهو ثقة. وصحح إسناده البوصيري في «الإتحاف»: (5/ 258). وقول الهيثمي عن ابن أبي العمياء: «ثقة» فيه نظر، فلم يوثقه غير ابن حبان. وقال الحافظ: «مقبول» أي حيث يُتابع. وللحديث متابعات وشواهد ضعيفة.

(1/235)


بن عبد العزيز, وهو أمير المدينة, فإذا هو يصلي صلاةً خفيفةً كأنها صلاة مسافر أو قريبًا منها, فلما سلَّم قال [أبي]: يرحمُك الله, أرأيتَ هذه الصلاة المكتوبة, أم شيء تَنَفَّلْتَه؟ قال: إنها لَلْمَكتوبة, وإنها لَصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, [ما أخطأتُ إلا شيئًا سهوتُ عنه، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (1) كان يقول: «لا تشدِّدوا على أنفسكم فيُشَدَّد عليكم, فإنّ قومًا شدَّدوا على أنفسهم فشُدِّد عليهم, فتلك بقاياهم في الصوامع والديار. {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27]». وسهلُ بن أبي أُمامة وثَّقه يحيى بن معين وغيره، وروى له مسلم (2). وفي «الصحيحين» (3) عن أنس قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوجِزُ الصلاةَ [ق 48] ويكمِّلها». وفي «الصحيحين» (4) أيضًا عنه قال: «ما صليتُ وراءَ إمامٍ قطّ أخفّ صلاةً ولا أتمّ من صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -». زاد البخاريُّ: «وإن كان ليسمع بكاءَ الصبيِّ فيخفف, مخافة أن تفتتن أمُّه». وفي «سنن أبي داود» (5) عن رجل من جُهينة: «أنه سمع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الصبح: {إِذَا زُلْزِلَتِ} في الركعتين كلتيهما, فلا أدري أنسيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أم عمدًا فَعَل ذلك». وفي «صحيح مسلم» عن جابر بن سَمُرة: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر بـ {اللَّيْلِإِذَا يَغْشَى} , وفي العصر نحو ذلك». _________ (1). ما بين المعقوفات مستدرك من «سنن أبي داود». (2). تنظر ترجمته في «تهذيب التهذيب»: (4/ 246). (3). البخاري (706)، ومسلم (469/ 189). (4). البخاري (708)، ومسلم (469/ 190). (5). (816)، وأخرجه البيهقي: (2/ 390). وإسناده صحيح.

(1/236)


وفي «سنن ابن ماجه» (1) عن ابن عمر قال: «كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]». وفي «سنن ابن ماجه» (2) عن عَمرو بن حُرَيث قال: «كأني أسمع صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في صلاة الغداة: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير: 15 - 16]». وفي «سنن أبي داود» (3) عن جابر بن سَمُرة قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر بـ {السَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} , {السَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} , وشبههما». وفي «صحيح مسلم» (4) عنه أيضًا قال: «كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر بـ {اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} , وفي العصر نحو ذلك, وفي الصبح أطول من ذلك». وفي «الصحيحين» (5) عن البراء: «أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قرأ في العشاء بـ {التِّينِ _________ (1). (833). وأخرجه الطبراني في «الكبير»: (12/ 377) من طريق أحمد بن بُديل، عن حفص بن غياث، عن عبيد الله بن نافع، عن ابن عمر به. وأحمد بن بديل فيه ضعف، وقال الدارقطني: تفرّد به حفص بن غياث عن عبيد الله. وقال الحافظ في «الفتح»: (2/ 248): «ظاهر إسناده الصحة إلا أنه معلول». (2). (817)، وأخرجه مسلم (456)، وأبو داود (817). (3). (805)، وأخرجه الترمذي (307)، والنسائي (979)، وأحمد (20982) وغيرهم. وحسَّنه الترمذي، وصححه ابن حبان (1827). (4). (459). (5). البخاري (767)، ومسلم (464).

(1/237)


وَالزَّيْتُونِ} , في السفر». وفي بعض السنن (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ في الصبح بالمعوِّذتين. وفي «الصحيحين» (2) عن جابر: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: «أفتَّانٌ أنتَ يا معاذ؟ هلَّا صليتَ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} , {الشَّمْسِ وَضُحَاهَا} , {اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}؟». وفي «الصحيحين» (3) عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا صلى أحدُكم للناس فليخفِّف، فإن فيهم الضعيفَ والسقيمَ والكبير, وإذا صلى أحدُكم لنفسه فليطوِّل ما شاء». ورواه ابنُ ماجه (4) من حديث عثمان بن أبي العاص. وفي «صحيح مسلم» (5) عن أنس قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يسمعُ بكاءَ الصبيِّ مع أمه وهو في الصلاة، فيقرأ بالسورة الخفيفة أو بالسورة القصيرة (6). فالجواب: أنه لا تعارُضَ بحمد الله بين هذه الأحاديث, بل هي أحاديث _________ (1). أخرجه النسائي (952) وفي «الكبرى» (1026). وأخرجه ابن حبان (1818)، وابن خزيمة (536)، والحاكم: (1/ 240) من حديث عقبة بن عامر وصححه الحاكم على شرط الشيخين. (2). البخاري (705)، ومسلم (465/ 17). (3). البخاري (703)، ومسلم (467/ 184). (4). (988). (5). (470/ 191). (6). في هامش الأصل و (ش): «بياض في الأصل» ثم ترك فراغًا بمقدار سطر.

(1/237)


يصدِّقُ بعضُها بعضًا, وأن ما وصَفَه أنسٌ من تخفيف النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - صلاتَه هو مقرونٌ بوصفه إيّاها بالتمام كما تقدم, وهو الذي وصفَ تطويلَه ركنَي الاعتدال حتى كانوا يقولون: «قد أوْهَم» , ووصفَ صلاةَ عمرَ بن عبد العزيز بأنها تشبه صلاةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -, مع أنهم قدَّروها بعشر تسبيحات. والتخفيف الذي أشار إليه أنس, هو تخفيف القيام مع تطويل الركوع والسجود, كما جاء مصرَّحًا به فيما رواه النسائي (1) عن قتيبة، عن العطَّاف بن خالد، عن زيد بن أسلم قال: «دخلنا على أنس بن مالك فقال: صليتم؟ قلنا: نعم, قال: يا جارية, هَلُمِّي لنا وضوءًا. ما صليتُ وراءَ إمامٍ أشبَهَ بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إمامكم هذا, قال زيد: «وكان عمر بن عبد العزيز يتمُّ الركوعَ والسجودَ, ويخففُ القيامَ والقعودَ» وهذا حديثٌ صحيح, فإن العطَّاف بن خالد المخزومي وثقه ابنُ معين, وقال أحمد: ثقة صحيح الحديث (2). وقد جاء هذا صريحًا في حديث عمران بن حُصَين, لما صلى خلفَ عليٍّ بالبصرة قال: «لقد أذكرني صلاةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت صلاةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتدلة, كان يخفِّف القيامَ والقعودَ ويطيلُ الركوعَ والسجودَ» (3). وقد تقدَّم قولُ أنس: «كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقاربة»، وحديث البراء بن عازب: «أن قيامَه - صلى الله عليه وسلم - وركوعَه وسجودَه كان قريبًا من السواء» (4). _________ (1). (981)، وفي «الكبرى» (1055)، وأخرجه أحمد (13351). وإسناده حسن من أجل عطاف بن خالد، ففي حفظه كلام، وصححه المصنف. (2). ينظر ما سبق (ص 189، 198) وتنظر ترجمته في «تهذيب التهذيب»: (7/ 222). (3). أخرجه البخاري (786)، ومسلم (393/ 33). (4). تقدم تخريجها.

(1/239)


فهذه الأحاديثُ كلُّها تدلُّ على معنى واحد, (1) أنه كان يطيل الركوعَ والسجودَ ويخفِّفُ القيامَ. وهذا بخلاف ما كان يفعله بعضُ الأمراء الذين أنكر الصحابةُ صلاتهم من إطالة القيام على ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله غالبًا, وتخفيف الركوع والسجود والاعتدالين. ولهذا أنكر ثابتٌ عليهم تخفيف الاعتدالين, وقال: «كان أنس يصنع شيئًا لا أراكم تصنعونه» (2). وحديث ابن أبي العمياء إنما فيه أن صلاة أنس كانت خفيفة. وأنسٌ فقد وصف خِفَّة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -, وأنها أشبه شيء بصلاة عمر بن عبد العزيز مع تطويل الركوع والسجود والاعتدالين، وأحاديثُه لا تتناقض, والتخفيفُ أمرٌ نسبيٌّ إضافيّ, فعشر تسبيحات وعشرون آية أخفّ من مائة تسبيحة ومائتي آية, فأيُّ معارَضة في هذا لما تقدم من الأحاديث الصحيحة الصريحة؟! وأما تخفيف النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الصلاةَ عند بكاء الصبيّ, فلا يُعارِض [ق 49] ما ثبت عنه من صفة صلاته, بل قد قال في الحديث نفسه: «إني أدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها, فأسمع بكاءَ الصبيِّ فأتجَوَّز». فهذا تخفيفٌ لعارض, وهو من السنة, كما يخفف صلاة السفر وصلاة الخوف, وكلُّ ما ثبت عنه من التخفيف فهو لعارض, كما ثبت عنه أنه قرأ في السَّفَر في العشاء بالتين والزيتون، وكذلك قراءته في الصبح بالمعوِّذَتَين (3) , فإنه كان في السَّفَر, ولذلك رفع الله تعالى الجُنَاح عن الأمة في قصر الصلاة في السفر والخوف. _________ (1). زاد في ط. الفقي: «وهو»، والمعنى واضح بدونها. (2). تقدم تخريجه. (3). تقدم تخريجها.

(1/240)


والقصرُ قصران: قصرُ الأركان, وقصرُ العدد؛ فإن اجتمع السفر والخوف, اجتمع القصران, وإن انفرد السفرُ وحده شُرِع قصر العدد, وإن انفرد الخوفُ وحدَه, شُرِع قصر الأركان. وبهذا يُعْلَم سرّ تقييد القصر المطلق في القرآن بالخوف والسفر, فإن القصر المطلق الذي يتناول القصرين إنما يُشْرَع عند الخوف والسفر، فإن انفرد أحدُهما بقي مطلق القصر, إما في العدد وإما في القَدْر. ولو قُدّر أنه - صلى الله عليه وسلم - خفّفَ الصلاةَ لا لعذرٍ, كان في ذلك بيان الجواز, وأن الاقتصار على ذلك العذر ونحوه يكفي في أداء الواجب. فأما أن يكون هو السُّنَّة وغيره مكروه, مع أنه فِعْل النبي - صلى الله عليه وسلم - في أغلب أوقاته فحاشى وكلّا, ولهذا رواته عنه أكثر من رواة التخفيف, والذين رووا التخفيف رووه أيضًا, فلا تُضْرَب سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعضُها ببعض, بل يُستعمل كلٌّ منها في موضعه. وتخفيفُه إما لبيان الجواز, وتطويله لبيان الأفضل، وقد يكون تخفيفه لبيان الأفضل إذا عَرَض ما يقتضي التخفيفَ, فيكون التخفيف في موضعه أفضل, والتطويل في موضعه أفضل, ففي الحالتين ما خرج عن الأفضل, وهذا اللائق بحاله - صلى الله عليه وسلم -, وجزاه عنَّا أفضل ما جزى نبيًّا عن أمته, وهو اللائق بمن اقتدى به وائتمَّ به - صلى الله عليه وسلم -. وأما حديث معاذ فهو الذي فَتَن النقَّارين وسُرّاق الصلاة, لعدم علمهم بالقصة وسياقها؛ فإنّ معاذًا صلى مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عشاء الآخرة, ثم ذهب إلى بني عمرو بن عوف بقباء, فقرأ بهم بسورة (1) البقرة. هكذا جاء في _________ (1). كذا في الأصل و (ش، هـ)، وفي المطبوعات: «سورة» خلاف الأصل.

(1/241)


«الصحيحين» (1) من حديث جابر: «أنه استفتح بهم بسورة البقرة, فانفرد بعضُ القوم وصلى وحدَه، فقيل: نافقَ فلانٌ؟ فقال: والله ما نافقتُ, ولآتينَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتاه فأخبره, فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حينئذٍ: «أفتَّانٌ أنتَ يا معاذ؟ هلَّا صليتَ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} , {الشَّمْسِ وَضُحَاهَا} , {اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}». وهكذا نقول: إنه يستحبُّ أن تُصلَّى العشاءُ بهذه السور وأمثالها. فأيُّ متعلَّقٍ في هذا للنقَّارين وسُرَّاق الصلاة؟! ومن المعلوم أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يؤخِّر عشاءَ الآخرة، وبُعْد ما بين بني عَمرو بن عوف وبين المسجد, ثم طول سورة البقرة= فهذا الذي أنكره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو موضع الإنكار, وعليه يُحْمَل الحديث الآخر: «يا أيها الناس، إن منكم مُنَفّرين» (2). ومعلومٌ أن الناسَ لم يكونوا يَنْفِرون من صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا ممن يصلِّي بقَدْرِ صلاته, وإنما ينفرون ممن يزيد في الطول على صلاته, فهذا الذي يُنَفِّر. وأما إن قُدِّر نفور كثير ممن لا يأتون الصلاة إلا وهم كُسالى, وكثير من الباطولية الذين يعتادون النَّقْر كصلاة المنافقين, وليس لهم في الصلاة ذوق ولا لهم فيها راحة, بل يصليها أحدُهم استراحةً منها لا بها, فهؤلاء لا عبرة بنفورهم, فإنَّ أحدَهم يقف بين يدي المخلوق مُعْظَمَ اليوم, ويسعى في خدمته أعظم السعي, فلا يشكو طولَ ذلك ولا يتبرَّمُ به, فإذا وقف بين يدي ربِّه في خدمته جزءًا يسيرًا من الزمان, وهو أقلّ القليل بالنسبة _________ (1). تقدم. (2). أخرجه البخاري (702)، ومسلم (466) من حديث أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه -.

(1/242)


إلى وقوفه في خدمة المخلوق= استثقل ذلك الوقوفَ, واستطالَ وشكا منه, وكأنه واقفٌ على الجمر يتلوَّى ويتقلَّى (1). ومَن كانت هذه كراهته لخدمة ربه والوقوف بين يديه, فالله تعالى أَكْرَه لهذه الخدمة منه, والله المستعان.

  18 - باب مقدار الركوع والسجود

70/ 848 - عن السَّعدي، عن أبيه ــ أو عن عمّه ــ قال: «رمقتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في صلاته، فكان يتمكَّنُ في ركوعِه وسجودِه قَدْرَ ما يقول: سبحان الله ــ ثلاثًا ــ» (2). السعديُّ مجهول. قال ابن القيم - رحمه الله -: قال ابن القطَّان (3): السعديُّ وأبوه وعمه ما منهم من يُعْرَف, وقد ذكره ابنُ السَّكَن في «كتاب الصحابة» في الباب الذي ذَكَر فيه رجالًا لا يُعرفون.

  19 - باب التأمين وراء الإمام

71/ 895 - عن وائل بن حُجْر قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأ {وَلَا الضَّالِّينَ} قال: آمين، ورفعَ بها صوتَه». _________ (1). غير محررة في الأصل و (ش، هـ) ورسمها: «ببعلق» كذا. ولعلها ما أثبت. (2). أخرجه أبو داود (885)، ومن طريقه البيهقي: (2/ 86). من طريق سعيد الجُرَيري عن السعدي به، والجريري اختلط. والسعدي مجهول، وأعله به ابن القطان كما سيأتي في كلام المؤلف. وقال النووي في «الخلاصة»: (1/ 415): «رواه أبو داود ولم يُضعّفه» وله شواهد من حديث ابن مسعود (886) وعقبة بن عامر (870) كلاهما عند أبي داود، وحذيفة عند ابن ماجه (888) يرقى بها إلى التحسين. (3). في «بيان الوهم والإيهام»: (3/ 376).

(1/243)


وأخرجه الترمذي وابن ماجه (1). وقال الترمذي: حديث حسن. قال ابن القيم - رحمه الله -: حديث وائل بن حُجْر رواه شعبة وسفيان, فأما سفيان فقال: «ورفع بها صوته»، وأما شعبة فقال: «خفض بها صوته» ذكره الترمذي (2). قال البخاري: حديث سفيان أصحّ, وأخطأ شعبة في قوله: «خفض بها صوته» (3). وفي هذا [ق 50] الحديث أمور أربعة (4): أحدها: اختلاف شُعبة وسفيان في «رفع وخفض». الثاني: اختلافهما في «حُجْر» , فشعبة يقول: «حجر أبو العنبس» , والثوري يقول: «حجر بن عنبس» , وصوَّب البخاريُّ وأبو زُرعة قولَ _________ (1). أخرجه أبو داود (932)، والترمذي (246) وحسَّنه، وأخرجه ابن ماجه (855)، والنسائي في «المجتبى» (879)، وفي «الكبرى» (955) من طريق عبد الجبار بن وائل عن أبيه، ولم يسمع منه. وانظر «صحيح سنن أبي داود - المخرّج»: (4/ 90 - 92) للألباني. (2). في «العلل الكبير»: (1/ 218)، وذكره مسلم في «التمييز» (ص 180 - 181). (3). نقله الترمذي في «العلل الكبير»: (1/ 218 - 219). وقد قال البيهقي في «معرفة السنن»: (2/ 390): «أجمع الحفاظ؛ محمد بن إسماعيل وغيره على أنه (أي شعبة) أخطأ في ذلك ... (وذكر الروايات) وفي كل ذلك دلالة على صحة رواية الثوري، وكان شعبة يقول: سفيان أحفظ مني ... ». وانظر «نصب الراية»: (1/ 369)، و «البدر المنير»: (3/ 577 - 585)، و «الخلاصة»: (1/ 381). (4). هذه الأربع إلى آخر الفقرة ملخّصة من كلام ابن القطان في «بيان الوهم والإيهام»: (3/ 374 - 375).

(1/244)


الثوري (1). الثالث: أنه لا يُعْرَف حال حُجْر. الرابع: أن الثوري وشعبة اختلفا؛ فجعله الثوريُّ من رواية حُجْر، عن وائل بن حُجْر, وشعبة جعله من رواية حُجْر عن علقمة بن وائل، عن وائل, والدارقطنيُّ (2) ذكر رواية الثوري وصححها ولم يره منقطعًا بزيادة شعبة علقمةَ بن وائل في الوسط, وفيه نظر. ولهذه العلة لم يصحّحه الترمذيُّ (3). والله أعلم. 72/ 897 - وعن أبي هريرة قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تلا: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قال: آمين، حتى يُسْمِع من يَليه من الصفِّ الأول». وأخرجه ابن ماجه (4). قال ابن القيم - رحمه الله -: وروى الحاكم حديث أبي هريرة في _________ (1). ينظر «علل الترمذي»: (1/ 218)، و «علل ابن أبي حاتم» (251). (2). «السنن» (1271). (3). ومال ابن القطان إلى تضعيفه وأنه إلى الضعف أقرب منه إلى الحُسْن. لكن صححه الدارقطني وغيره، وقال ابن الملقّن في «البدر»: (3/ 584) بعد أن ساق كلام ابن القطان: «هذا كلامه ولا نسلِّم له ذلك، بل هو حسنٌ أو صحيح كما قدمنا عن الدارقطني وغيره من الأئمة تصحيحه». (4). أخرجه أبو داود (934)، وابن ماجه (853) من طريق صفوان بن عيسى، عن بشر بن رافع، عن ابنِ عمّ أبي هريرة، عنه به. وسنده ضعيف لضعف بشرٍ وجهالة ابن عمّ أبي هريرة. لكن له طريق أخرى صحيحة سيذكرها المؤلف.

(1/245)


«المستدرك» (1) بلفظ آخر, من حديث الزهري، عن أبي سلمة وسعيد، عن أبي هريرة قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغَ مِن أمِّ القرآن رفعَ صوتَه قال: آمين». قال الحاكم: هذا حديث حسن صحيح.

  20 - باب مَن تجبُ عليه الجُمُعة

73/ 1015 - وعن عبد الله بن عَمْرو - رضي الله عنهما - عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «الجُمعةُ على مَن سَمِع النداء» (2). قال أبو داود: روى هذا الحديث جماعةٌ عن سفيان، مقصورًا على عبد الله بن عمرو، ولم يرفعوه، وإنما أسنده قَبيصة. هذا آخر كلامه. وفي إسناده محمد بن سعيد الطائفي، وفيه مقال. قال ابن القيم - رحمه الله -: حديث «الجمعةُ على مَن سمع النداء» قال عبد الحق (3): الصحيح أنه موقوف. وفيه أبو سلمة بن نُبَيه, قال ابن _________ (1). (1/ 223). وأخرجه ابن حبان (1806)، والدارقطني (1274). ورواه نُعيم المجمِّر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بنحوه، أخرجه النسائي (905)، وابن خزيمة (499)، وابن حبان (1797). وقال ابن خزيمة: «صح الجهر بها بإسناد ثابت متصل لا ارتياب في صحته عند أهل المعرفة». (2). أخرجه أبو داود (1065)، وأخرجه الدارقطني (1590)، والبيهقي: (3/ 173) من طريق قبيصة، عن سفيان، عن محمد بن سعيد، عن أبي سلمة بن نبيه، عن عبد الله بن هارون، عن عبد الله بن عمرو به مرفوعًا. وأعلّ بأن جماعة رووه عن سفيان موقوفًا كما ذكر أبو داود وعبد الحق وغيرهما. وللحديث شواهد، وينظر «البدر المنير»: (4/ 643 - 645). (3). في «الأحكام الوسطى»: (2/ 102).

(1/246)


القطان (1): لا يُعرَف بغير هذا, وهو مجهول. وفيه أيضًا الطائفيُّ, مجهول عند ابن أبي حاتم, ووثقه الدارقطني (2). وفيه أيضًا عبد الله بن هارون, قال ابن القطان: مجهول الحال. وفيه أيضًا قَبيصة, قال النسائي: كثير الخطأ, وأطْلَق, وقيل: كثير الخطأ على الثوري, وقيل: هو ثقة إلا في الثوري (3).

  21 - باب ما يقرأ في الأضحى [والفطر] (4)

74/ 1113 - عن عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود: «أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقدٍ الليثيَّ: ماذا كان يقرأ به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الأضحى والفِطْر؟ قال: كان يقرأ فيهما بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}، و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}. وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (5). قال ابن القيم - رحمه الله -: أبو واقد الليثي اسمه الحارث بن عوف على المشهور. والحديث غير متصل في ظاهره, لأن عبيد الله لا سماع له من عمر. وقد ذكره مسلم (6) بغير هذا, فبيَّن فيه الاتصال, فإنه أخرجه من رواية _________ (1). في «بيان الوهم»: (3/ 399 - 400). (2). ينظر ترجمته في «تهذيب التهذيب»: (9/ 191). (3). ينظر ترجمته في «تهذيب التهذيب»: (8/ 347 - 349). (4). زيادة من (خ- المختصر)، و «سنن أبي داود». (5). أخرجه أبو داود (1154)، ومسلم (891)، والترمذي (542)، والنسائي في «الكبرى» (11486)، وابن ماجه (1282). وأخرجه أحمد (21896) من طرق عن ضمرة بن سعيد عن عبيد الله به. (6). (891/ 15).

(1/247)


فُلَيح بن سليمان عن ضَمْرة بن سعيد، عن عبيد الله، عن أبي واقد الليثي, قال: «سألني عمر». وسؤالُ عمرَ عن هذا ومثله لا يخفى عليه, لعله ليختبره: هل حَفِظَه أم لا؟ أو يكون دخل عليه الشكُّ أو نازعه غيرُه فأحبَّ الاستشهادَ, أو نسيه. والله أعلم.

  22 - باب من قال: يصلي بكلِّ طائفةٍ ركعتين

75/ 1204 - عن أبي بَكْرَة قال: «صلى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في خوفٍ الظهرَ، فصفَّ بعضُهم خلفَه وبعضُهم بإزاء العدوِّ، فصلّى ركعتين ثم سلَّم، فانطلق الذين صلّوا معه، فوقفوا موقفَ أصحابهم، ثم جاء أولئك فصلّوا خلفَه، فصلى بهم ركعتين ثم سلَّم، فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعًا، ولأصحابه ركعتين ركعتين». وبذلك كان يفتي الحَسَن. وأخرجه النسائي (1)، وليس فيه فتوى الحسن. قال أبو داود: وكذلك في المغرب، تكون للإمام ستّ ركعات وللقوم ثلاثًا. وذَكَر أنه رُوِي من حديث أبي سلمة، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2)، وسليمان اليَشْكرِي، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (3). _________ (1). أخرجه أبو داود (1248)، والنسائي في «المجتبى» (1554)، وفي «الكبرى» (522). وأخرجه أحمد (20408)، وابن حبان (2881) من طريق أشعث عن الحسن عن أبي هريرة، وسنده صحيح. (2). أخرجه مسلم (843). (3). وقع في الأصل أن كلام ابن القيم عقب قول المنذري: «وحديث أبي سلمة الذي أشار إليه أبو داود أخرجه مسلم في «صحيحه». قلت: كلام المنذري إنما ورد في الباب الذي قبله، وحقّه أن يذكر في هذا الباب؛ لأن إشارة أبي داود لحديث أبي سلمة عن جابر إنما جاءت في هذا الباب.

(1/248)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وحديث أبي بَكْرة هذا رواه الدارقطني (1) عنه, فقال فيه: «إنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالقوم صلاة المغرب ثلاث ركعات, ثم انصرف وجاء الآخرون, فصلى بهم ثلاث ركعات, وكانت له ستّ ركعات, وللقوم ثلاث ركعات». قال ابن القطان (2): وعندي أن الحديثين غيرُ متصلَيْن, فإن أبا بكرة لم يصلِّ معه صلاةَ الخوف, لأنه بلا ريب أسلم في حصار الطائف, فتدلى ببكرةٍ من الحِصْن, فسمّي أبا بكرة, وهذا كان بعد فراغه من هوازن، ثم لم يلق كيدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى أن قبضه الله. وهذا الذي قاله لا ريب فيه, لكن مثل هذا ليس بعلة ولا انقطاع عند جميع أئمة الحديث والفقه؛ فإن أبا بكرة وإن لم يشهد القصةَ فإنه إنما سمعها من صحابيٍّ غيره, وقد اتفقت الأمة على قبول رواية ابن عباس ونظرائه من الصحابة, مع أن عامتها مرسلة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يتنازع في ذلك اثنان من السلف وأهل الحديث والفقهاء. فالتعليل على هذا باطل, والله أعلم.

  23 - باب مَن فاتته (أي: ركعتا الفجر) (3)، متى يقضيها؟

76/ 1223 - عن محمد بن إبراهيم، عن قيس بن عمرو قال: «رأى رسولُ الله _________ (1). (1783)، وضعّفه البيهقي في «معرفة السنن»: (3/ 17). (2). في «بيان الوهم والإيهام»: (2/ 475). (3). ما بين القوسين ليس في «السنن» ولا «المختصر»، وأضافها المجرِّد للتوضيح.

(1/249)


- صلى الله عليه وسلم - رجلًا يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلاةُ الصبحِ ركعتان! فقال الرجل: إني لم أكن صليتُ الركعتين اللتين قبلهما، فصليتُهما الآن، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». وأخرجه الترمذي وابن ماجه (1). وقال الترمذي: لا نعرفه مثل هذا إلا من حديث سعد بن سعيد. وذكر أن هذا الحديث إنما يُروى مرسلًا، وأن إسناده ليس بمتصل، محمد بن إبراهيم التيمي لم يسمع من قيس. هذا آخر كلامه. [قال ابن القيم - رحمه الله -:] وقيسٌ هذا هو قيس بن عَمرو, ويقال: قيس بن قَهْد (2) , وجعلهما ابنُ السَّكَن اثنين: ابن قهد, وابن عمرو. وسعد بن سعيد ــ راويه عن محمد بن إبراهيم ــ: فيه اختلاف.

  24 - باب في صلاة الليل

77/ 1305 - وعن علقمة بن وقَّاص، عن عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بتسع ركعات، ثم أوتر بسبع ركعات. وركع ركعتين وهو جالس بعد الوتر، يقرأ فيهما، فإذا أراد أن يركع قام فركع، ثم سجد. وفي رواية: قال علقمة بن وقَّاص: «يا أُمَّتاه، كيف كان يصلي الركعتين؟». _________ (1). أخرجه أبو داود (1267)، والترمذي (424)، وابن ماجه (1154)، وأخرجه أحمد (23760)، وابن خزيمة (1116)، وابن حبان (2471) من طريقه والحاكم: (1/ 274). وفي إسناده انقطاع، وانظر حاشية «المسند»: (39/ 171 - 174). (2). وقع في الأصل و (ش): «فهد» بالفاء، تصحيف وفي الموضع الثاني مهمل النقط، والصواب بالقاف. ينظر «المؤتلف والمختلف»: (4/ 1843) للدارقطني، و «تهذيب الأسماء واللغات»: (2/ 63).

(1/250)


وأخرج مسلم (1) طرفًا منه في الركعتين. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى أبو حاتم في «صحيحه» (2) من حديث حفص بن غِياث، عن حُمَيد الطويل، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة: «أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صلى متربِّعًا». وهذا يدلُّ على أن أفضل هيئات المصلِّي جالسًا التربُّع, والله أعلم.

  25 - باب مَن لم يَرَ السجودَ في المُفَصَّل

78/ 1357 - عن عكرمة عن ابن عباس: «أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسجد في شيءٍ من المفصَّل منذ تحوَّل إلى المدينة» (3). في إسناده أبو قُدامة، واسمه الحارث بن عُبيد، إياديٌّ بصريٌّ، لا يحتجّ بحديثه. وقد صحَّ أن أبا هريرة سجد مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} على ما سيأتي، وأبو هريرة إنما قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السنة السابعة من الهجرة. _________ (1). أخرجه أبو داود (1351)، ومسلم (731). وأخرجه أحمد (26002). (2). (2512). وأخرجه النسائي (1661)، وابن خزيمة (1238)، والحاكم: (1/ 275) من طريق أبي داود الحَفَريَّ، عن حفص بن غياث به. قال النسائي: لا أعلم أحدًا روى هذا الحديث غير أبي داود، وهو ثقة. ووقع بعده في بعض نسخ النسائي قوله: «ولا أحسب هذا الحديث إلا خطأ». قال ابن عبد الهادي في «المحرر»: (1/ 254): «كذا قال، وقد تابع الحَفَريَّ محمدُ بن سعيد الأصبهاني وهو ثقة». ومتابعته هذه أخرجها البيهقي في «الكبرى»: (2/ 305). (3). أخرجه أبو داود (1403)، وابن خزيمة (560)، والبيهقي: (2/ 312 - 313) وغيرهم من طريق أبي قدامة، عن مطر الوراق، عن عكرمة به.

(1/251)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال الإمام أحمد: أبو قدامة مضطرب الحديث. وقال يحيى بن معين: ضعيف. وقال [ق 51] النسائي: صدوق, عنده مناكير. وقال البستيُّ: كان شيخًا صالحًا ممن كثر وهمه (1). وعلَّله ابنُ القطان (2) بمطر الورَّاق، وقال: كان يشبه في سوء الحفظ محمدَ بن عبد الرحمن بن أبي ليلى, وقد عِيبَ على مسلم إخراجُ حديثه، وضعَّف عبدُ الحق (3) هذا الحديث. 26 - بابٌ في الوتر قبل النوم 79/ 1383 - وعن جُبَير بن نُفَير، عن أبي الدرداء قال: «أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بثلاثٍ، لا أدعهنّ لشيء: أوصاني بصيام ثلاثة أيام مِن كلِّ شهر، ولا أنام إلَّا على وَتْر، وبِسُبْحَة الضحى، في الحَضَر والسَّفَر». وقد أخرجه مسلمٌ (4) من حديث أبي مُرَّة مولى أم هانئ عن أبي الدرداء بنحوه، وليس فيه: «في الحَضَر والسَّفَر». _________ (1). تنظر ترجمة أبي قدامة في «تهذيب الكمال»: (5/ 258)، و «تهذيب التهذيب»: (2/ 149 - 150). (2). في «بيان الوهم والإيهام»: (3/ 394). (3). في «الأحكام الوسطى»: (2/ 92). وقال عنه ابنُ عبد البر في «التمهيد»: (19/ 120): «حديث منكر»، وضعَّفه ابن خزيمة في «الصحيح» (559) وابن المنذر في «الأوسط»: (5/ 270)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (752). (4). أخرجه أبو داود (1433) من طريق أبي إدريس السكوني عن جُبير به، ومسلم (722) من طريق أبي مرة مولى أم هانئ عن أبي الدرداء به دون قوله: «الحضر والسفر». وقد جاءت لفظة «الحضر والسفر» في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند أبي داود (1432). وفي إسناده ضعف.

(1/252)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وحديث أبي الدرداء الذي أخرجه أبو داود هو من رواية أبي إدريس السَّكُوني، عن جُبير بن نُفَير. قال البزار: هو حديث حسن الإسناد (1) , وقال غيره (2): أبو إدريس ليس بالخولاني فحاله مجهول. ولعلَّ البزار حسَّنه قبولًا منه لرواية المساتير.

  27 - باب في الاستغفار

80/ 1465 - وعن عليٍّ قال: «كنتُ رجلًا إذا سمعتُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثًا نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدَّثني أحدٌ من أصحابه اسْتَحْلَفْتُه، فإذا حلف لي صدَّقتُه، قال: وحدّثني أبو بكر ــ وصَدَقَ أبو بكر ــ أنه قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما مِن عبد يُذنِبُ ذنبًا، فيُحسن الطُّهُور، ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله، إلا غَفر الله له، ثم قرأ هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} إلى آخر الآية [آل عمران: 135]. وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (3). وقال الترمذي: حديث حسن، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وذَكَر أن بعضَهم رواه فوقفَه. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال البخاري في «التاريخ الكبير» (4): «ولم يرو _________ (1). «مسند البزار» (4136). (2). هو ابن الأثير في «جامع الأصول»: (12/ 193). (3). أخرجه أبو داود (1521)، والترمذي (406)، والنسائي في «الكبرى» (10175)، وابن ماجه (1395)، وأحمد (56)، وابن حبان (623) من طرق عن عثمان بن المغيرة، عن علي بن ربيعة، عن أسماء بن الحكم به. والحديث حسّنه الترمذي وابن عدي في «الكامل» (1/ 430)، والذهبي في «التذكرة»: (1/ 14)، وقواه المِزّي وابن حجر في «التهذيب». ومال البخاريُّ إلى تعليله كما نقله المؤلف من «التاريخ الكبير». (4). (2/ 54).

(1/253)


عن أسماء بن الحكم (1) إلا هذا الحديث الواحد، وحديثٌ آخر, ولم يُتابَع, وقد روى أصحابُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بعضُهم عن بعض, فلم يُحَلِّف بعضُهم بعضًا». 81/ 1475 - وعن أوس بن أوس قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إن (2) من أفضل أيامكم يومَ الجمعة، فأكْثِروا عليَّ من الصلاة فيه، فإنّ صلاتَكم معروضةٌ عليَّ. قال: فقالوا: يا رسول الله، وكيف تُعْرَض صلاتُنا عليك وقد أرَمْتَ؟ قال: يقولون: بَلِيتَ، قال: إن الله حرَّم على الأرضِ أجسادَ الأنبياء». وأخرجه النسائي وابن ماجه (3)، وله علة، وقد جمعتُ طرقَه في جزءٍ مفرد (4). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد غلط في هذا الحديث فريقان: فريقٌ في لفظه, وفريقٌ في تضعيفه, فأما الفريق الأول فقالوا: اللفظ به «أرَمَّتَ» بفتح الراء وتشديد الميم وفتحها وفتح التاء, قالوا: وأصله «أرْمَمْتَ» , أي صرت _________ (1). تحرفت في ط. الفقي إلى «ابن أبي الحر»! (2). «إنّ» ليست في (خ- المختصر) ولا في «المسند»، وهي ثابتة في المطبوع و «السنن». (3). أخرجه أبو داود (1047 و 1531)، والنسائي في «المجتبى» (1374) وفي «الكبرى» (1678)، وابن ماجه (1085)، وأخرجه أحمد (16162)، وابن خزيمة (1733)، وابن حبان (910)، والحاكم: (4/ 559) من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس بن أوس به - رضي الله عنه -. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والنووي والمنذري وغيرهم، وأعله آخرون كالبخاري وأبو حاتم الرازي وغيرهم. وانظر كلام المؤلف عنه بتوسع في «جلاء الأفهام»: (77 - 83) ومال إلى تصحيحه، وانظر «القول البديع» للسخاوي (ص 152). (4). وقد ذكر المنذري بعد كلامه هذا ملخّص ما قيل في الحديث ووجه تعليله.

(1/254)


رميمًا, فنقلوا حركةَ الميم إلى الراء قبلها, ثم أدغموا إحدى الميمين في الأخرى, وأبقوا تاء الخطاب على حالها, فصار «أرَمَّت». وهذا غلط, إنما يجوز إدغام مثل هذا إذا لم يكن آخر الفعل ملتزم السكون, لاتصال ضمير المتكلِّم والمخاطب ونون النسوة به, كقولك: «أرَمّ, وأرَمّا, وأرَمُّوا» , وأما إذا اتصل به ضمير يوجب سكونه لم يجز الإدغام لإفضائه إلى التقاء الساكِنَين على غير حَدِّهما, أو إلى تحريك آخره, وقد اتصل به ما يوجبُ سكونَه. ولهذا لا نقول: «أمَدّتُ, وأمَدّتَ, وأمَدّنَ» في «أمْدَدْتُ وأمْدَدْتَ وأمْدَدْنَ» لما ذُكر. وهؤلاء لما رأوا الفعل يُدغَم إذا لم يكن آخره ساكنًا, نحو «أرَمَّ» ظنوا أنه كذلك في «أرْمَمْت» , وغفلوا عن الفرق. والصواب فيه: «أَرَمْت» بوزن «ضَرَبْت» فحذفوا إحدى الميمين تخفيفًا, وهي لغة فصيحة مشهورة جاء بها القرآن في قوله تعالى: {ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} [طه: 97] وقوله: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65] وأصله: ظلَلْت عليه وظلَلْتم تفكّهون, ونظائره كثيرة. وأما الفريق الثاني الذين ضعَّفوه فقالوا: هذا حديثٌ معروف بحسين بن علي الجعفي, حدَّث به عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس بن أوس, قالوا: ومن نظر ظاهر هذا الإسناد لم يَرْتَب في صحَّته, لثقة رواته وشهرتهم وقبول الأئمة أحاديثهم واحتجاجهم بها. وحدَّث بهذا الحديث عن حسينٍ الجعفي جماعةٌ من النبلاء, قالوا: وعِلّته أن حسين بن علي الجعفي لم يسمع من عبد الرحمن بن يزيد بن جابر, وإنما سمع من عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، وعبدُ الرحمن بن يزيد بن تميم لا يُحتجُّ به، فلمّا حدَّث به حسين الجعفي غلط في اسم

(1/255)


الجدِّ, فقال: ابن جابر. وقد بيَّن ذلك الحفّاظ ونبهوا عليه؛ قال البخاري في «التاريخ الكبير» (1): «عبد الرحمن بن يزيد بن تميم السُّلَمي الشامي، عن مكحول، سمع منه الوليد بن مسلم, عنده مناكير, ويقال: هو الذي روى عنه أهلُ الكوفة: أبو أسامة وحسين فقالوا: عبد الرحمن بن يزيد بن جابر. وابن تميم أصحّ. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم (2): سألت أبي عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم؟ فقال: عنده مناكير, يقال: هو الذي روى عنه أبو أسامة وحسين الجُعْفي وقالا: هو ابن يزيد بن جابر, وغَلِطا في نسبه، ويزيد بن تميم أصحّ, وهو ضعيف الحديث. وقال أبو بكر الخطيب (3): «روى الكوفيون أحاديثَ عبد الرحمن بن يزيد بن تميم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر, ووهموا في ذلك, والحَمْلُ عليهم في تلك الأحاديث. وقال موسى بن هارون الحافظ: روى أبو أسامة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر, وكان ذلك وهمًا منه, هو لم يلق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وإنما لقيَ عبدَ الرحمن بن يزيد بن تميم, فظنَّ أنه ابنُ جابر, وابن جابر ثقة, وابن تميم ضعيف». _________ (1). (5/ 365). وليس في المطبوع قوله: «وابن تميم أصحّ». (2). في «الجرح والتعديل»: (5/ 300). (3). في «تاريخ بغداد»: (11/ 471 - 472 - بشار) وبقية كلامه: «ولم يكن ابن تميم ثقة ... وأما ابن جابر فليس في حديثه منكر ... » ثم ذكر كلام موسى بن هارون.

(1/256)


قالوا: وقد أشار غير واحد من الحفَّاظ إلى ما ذكره هؤلاء الأئمة (1). * * * _________ (1). الكلام في تضعيف الحديث مأخوذ من كلام المنذري في «مختصره»: (2/ 155 - 156). وقد أجاب المصنف في «جلاء الأفهام» (ص 79 - 83) عن هذا التعليل بما ظهر له وإن لم يجزم بدفعه. (تنبيه) وقع سقط في مطبوعة «جلاء الأفهام» (ص 78) عند نقل كلام البخاري وابن أبي حاتم أدى إلى تداخل كلامهما، فليتنبه لذلك.

(1/257)


 كتاب الزكاة

  1 - باب في زكاة السائمة

82/ 1509 - عن حماد ــ وهو ابن سلمة ــ قال: «أخذتُ من ثُمامة بن عبد الله بن أنس كتابًا زعم أن أبا بكر كتبه لأنس، وعليه خاتَم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حين بعثه مُصَدِّقًا وكتبه له، فإذا فيه: هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين، التي أمر الله بها نبيه عليه الصلاة والسلام، فمن سُئِلها من المسلمين على وجهها فليُعْطها، ومن سُئل فوقها فلا يعطه: فيما دون خمس وعشرين من الإبلِ، الغَنَمُ، في كل خمسٍ ذَوْدٍ شاةٌ، فإذا بلغت خمسًا وعشرين ففيها بنتُ مخاض، إلى أن تبلغ خمسًا وثلاثين، فإن لم يكن فيها بنت مخاض، فابنُ لَبُون ذَكَر، فإذا بلغت ستًا وثلاثين ففيها بنت لَبون، إلى خمس وأربعين، فإذا بلغت ستًّا وأربعين ففيها حِقَّة طَرُوقة الفَحْل، إلى ستين، فإذا بلغت إحدى وستين ففيها جَذَعة، إلى خمس وسبعين، فإذا بلغت ستًّا وسبعين ففيها ابنتا لَبُون، إلى تسعين، فإذا بلغت إحدى وتسعين ففيها حِقَّتان طَروقتا الفحل، إلى عشرين ومائة، فإذا زادت على عشرين ومائة، ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حِقَّة. فإذا تبايَن أسنان الإبل في فرائض الصدقات، فمن بلغت عنده صدقة الجذعة وليست عنده جَذَعة، وعنده حِقة فإنها تُقبل منه وأن يجعل معها شاتين إن اسْتَيسرتا له، أو عشرين درهمًا، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده حِقّة، وعنده جَذَعة فإنها تُقبل منه، ويعطيه المصدِّق عشرين درهمًا أو شاتين،

(1/258)


ومن بلغت عنده صدقة الحِقّة وليست عنده حِقّة، وعنده ابنة لبون فإنها تُقبل منه ــ قال أبو داود: من ههنا لم أَضبِطْه عن موسى كما أحبُّ ــ ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له، أو عشرين درهمًا. ومن بلغت عنده صدقة بنت لبون وليست عنده إلا حِقَّة فإنها تُقبل منه ــ قال أبو داود: إلى ههنا، ثُمَّ أتقنتُه ــ ويعطيه المصدق عشرين درهمًا أو شاتين. ومن بلغت عنده صدقة ابنة لَبون، وليس عنده إلا ابنة مَخاض، فإنها تُقبل منه وشاتين أو عشرين درهمًا، ومن بلغت عنده صدقة ابنةِ مخاض، وليس عنده إلا ابنُ لبون ذَكَر، فإنه يقبل منه، وليس معه شيء، ومن لم يكن عنده إلا أربع فليس فيها شيء، إلا أن يشاء رَبُّها، وفي سائمة الغنم: إذا كانت أربعين ففيها شاة، إلى عشرين ومائة، فإذا زادت على عشرين ومائة، ففيها شاتان، إلى أن تبلغ مائتين، فإذا زادت على مائتين ففيها ثلاث شِياه، إلى أن تبلغ ثلاثمائة، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاةٍ شاةٌ، ولا يؤخذ في الصدقة هَرِمَة، ولا ذات عَوارٍ (1) من الغنمِ، ولا تَيْس الغنم، إلا أن يشاء المصَّدِّق، ولا يُجمع بين متفرِّق، ولا يفرَّق بين مُجتمع، خشيةَ الصدقة، وما كان من خَليطين، فإنهما يتراجعان بالسَّوِيَّة، فإن لم تبلغ سائمةُ الرجل أربعين، فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربُّها، وفي الرِّقَةَ ربع العُشر، فإن لم يكن المال إلا تسعين ومائة، فليس فيها شيء، إلا أن يشاء ربُّها». وأخرجه النسائي (2). وأخرجه البخاري وابن ماجه (3) من حديث عبد الله بن المثنى الأنصاري عن عمه ثمامة. قال ابن القيم - رحمه الله -: وأخرجه الدارقطني (4) من حديث النضر بن شُمَيل، عن حماد بن سلمة قال: أخذنا هذا الكتاب من ثمامة بن عبد الله بن أنس، يحدثه عن أنس بن مالك [ق 52] عن رسول - صلى الله عليه وسلم -. وقال: إسناده صحيح، وكلهم ثقات. وقال الإمام الشافعي: حديث أنس حديث ثابت من _________ (1). العَوار بالفتح: العيب، وقد يضمّ. «النهاية»: (3/ 318). (2). أخرجه أبو داود (1567)، والنسائي في «الكبرى» (2247)، وأحمد (72). (3). البخاري (1448، 1453)، وابن ماجه (1800). (4). (1985).

(1/259)


جهة حماد بن سلمة وغيره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبه نأخذ (1). 83/ 1513 - وعن عاصم بن ضَمْرة وعن الحارث الأعور، عن عليّ ــ قال زهير، وهو ابن معاوية: ــ أحسبه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «هاتوا ربع العشور، من كلّ أربعين درهمًا درهم، وليس عليكم شيء حتى تَتِمَّ مئتي درهم، فإذا كانت مئتي درهم ففيها خمس دراهم، فإذا زاد فعلى حساب ذلك، وفي الغنم: في كلِّ أربعين شاةً شاةٌ، فإن لم يكن إلا تسع وثلاثون فليس عليك فيها شيء. وساقَ صدقةَ الغنم مثل الزهري، قال: وفي البقر: في كل ثلاثين تَبيعٌ، وفي الأربعين مُسِنَّة، وليس على العوامل شيء، وفي الإبل ــ فذكر صدقتها كما ذكر الزهري ــ قال: وفي خمس وعشرين: خمس من الغنم، فإن زادت واحدة ففيها ابنة مخاض، فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذَكَر، إلى خمس وثلاثين، فإذا زادت واحدة ففيها بنت لَبون، إلى خمس وأربعين، فإذا زادت واحدة ففيها حِقَّة طَروقة الجمل، إلى ستين. ثم ساق مثل حديث الزهري، قال: فإذا زادت واحدة، يعني واحدة وتسعين، ففيها حِقَّتان طروقتا الجمل، إلى عشرين ومائة، فإذا كانت الإبل أكثر من ذلك، ففي كلِّ خمسين حِقّة، ولا يفرَّق بين مجتَمِع، ولا يُجْمَع بين متفرِّق، خشية الصدقة، ولا يؤخذ في الصدقة هَرِمة ولا ذات عَوَار ولا تَيْس، إلا أن يشاء المصَّدِّق. وفي النبات: ما سقته الأنهارُ أو سقتِ السماءُ العُشْرَ. وما سُقِي بالغَرْب، ففيه نصف العشر. وفي حديث عاصم والحارث: الصدقة في كل عام قال زهير: أحسبه قال: مرة، وفي حديث عاصم: إذا لم يكن في الإبل ابنة مخاض ولا ابن لبون فعشرة دراهم أو شاتان». وفي رواية: «فإذا كانت لك مائتا درهم، وحال عليها الحَوْلُ ففيها خمسة _________ (1). هذا التعليق برمته هو نصّ كلام المنذري في «مختصره»: (2/ 182) في التعليق على الحديث، نَسَبه المجرّد لابن القيم، فلعله اشتبه عليه فظنَّه من كلام المؤلف.

(1/260)


دراهم، وليس عليك شيء، يعني في اللهب، حتى يكون لك عشرون دينارًا وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك، قال: فلا أدري، أعليٌّ يقول، فبحساب ذلك أو رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ وليس في مالٍ زكاة حتى يحول عليه الحول، إلا أن جَريرًا قال ابن وهب: يزيدُ في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ليس في مالٍ زكاة حتى يحول عليه الحول. وذكر أن شعبة وسفيان وغيرهما لم يرفعوه. وأخرج ابن ماجه (1) طَرَفًا منه، والحارث وعاصم ليسا بحجة. قال ابن القيم - رحمه الله -: قال ابن حزم: «حديثُ عليٍّ هذا رواه ابنُ وهب، عن جرير بن حازم، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضَمْرة والحارث الأعور, قَرَن فيه أبو إسحاق بين عاصم والحارث, والحارثُ كذّابٌ, وكثيرٌ من الشيوخ يجوز عليه مثل هذا, وهو أنَّ الحارثَ أسْنَده وعاصم لم يسنده, فجمعهما جريرٌ، وأدخل حديثَ أحدِهما في الآخر. وقد رواه شعبةُ وسفيانُ ومعمر عن أبي إسحاق، عن عاصم، عن عليٍّ موقوفًا عليه. وكذلك كلُّ ثقةٍ رواه عن عاصم إنما وقَفَه على عليٍّ، فلو أنّ جريرًا أسنده عن عاصم وبيَّن ذلك أخذنا به. هذه حكايةُ عبد الحق الإشبيليّ (2) عن ابن حزم، وقد رجع عن هذا في _________ (1). أخرجه أبو داود (1572)، وابن ماجه (1790)، والنسائي في «الكبرى» (2268) وأحمد (711 و 913) مختصرًا من طريق أبي إسحاق السبيعي عن عاصم والحارث (غير مقرونين) به. (2). في «الأحكام الوسطى»: (2/ 167)، وكلام ابن حزم في «المحلى»: (6/ 70).

(1/261)


كتابه «المحلى» (1) , فقال في آخر المسألة: «ثم استدركنا فرأينا أن حديث جرير بن حازم مسند صحيح, لا يجوز خلافه, وأن الاعتلالَ فيه بأن (2) أبا إسحاق أو جريرًا خَلَط إسنادَ الحديث بإرسال عاصم هو الظنُّ الباطل الذي لا يجوز, وما علينا في مشاركة الحارث لعاصم, [ولا] (3) لإرسال من أرسله, ولا لشكِّ زهيرٍ فيه, وجريرٌ ثقةٌ. فالأخْذُ بما أسند لازم» تمّ كلامُه. وقال غيره (4): هذا التعليل لا يقدح في الحديث, فإن جريرًا ثقة, وقد أسندَه عنهما, وقد أسنده أيضًا أبو عَوانة، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضَمْرة، عن عليّ, ولم يذكر الحول. ذَكَر حديثَه الترمذيُّ (5)، وأبو عَوانة ثقة. وقد رُوي حديث: «ليس في مالٍ زكاة حتى يحولَ عليه الحولُ» من _________ (1). (6/ 74). وعدّ ابنُ الملقّن في «البدر المنير»: (5/ 560) هذا تناقضًا من ابن حزم، ولعل هذا من ولعه بتخطئة ابن حزم، وإلا فقد بيّن ابن حزم أنه استدرك على نفسه، ولذلك علق الشيخ أحمد شاكر على هذا الموضع من «المحلى» بقوله: «لله درّ أبي محمد بن حزم، رأى خطأه فسارع إلى تداركه، وحكم بأنه الظن الباطل الذي لا يجوز، وهذا شأن المنصفين من أتباع السنة الكريمة، وأنصار الحق، وقليل ما هم». (2). في «المحلى» زيادة «عاصم بن ضمرة». (3). سقطت من الأصل و (ش)، والاستدراك من «المحلى». (4). حكاه عنه عبد الحق الإشبيلي في «الأحكام الوسطى»: (2/ 167)، وأشار إليه في «بيان الوهم والإيهام»: (5/ 449 - 450). (5). (620) وهو الحديث الآتي، وقال الترمذي عقبه: روى هذا الحديث الأعمش وأبو عوانة وغيرهما عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، وروى سفيان الثوري وابن عيينة وغير واحد عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي. وسألت محمدًا عن هذا الحديث. فقال: «كلاهما عندي صحيح عن أبي إسحاق، يحتمل أن يكون رُوي عنهما جميعًا».

(1/262)


حديث عائشة بإسناد صحيح (1). قال محمد بن عبيد الله بن المنادي: حدثنا أبو زيد شجاع بن الوليد، حدثنا حارثة بن محمد، عن عَمرة، عن عائشة قالت: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا زكاةَ في مالٍ حتى يحولَ عليه الحولُ» رواه أبو الحسين بن بشران، عن عثمان بن السمَّاك، عن ابن المنادي. 84/ 1515 - وعن عاصم بن ضَمْرة عن عليٍّ قال: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد عَفَوتُ عن الخيل والرقيق، فهاتوا صدقة الرِّقَة: مِن كلّ أربعين درهمًا درهمًا، وليس في تسعين ومائة شيء، فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم». وأخرجه الترمذي وابن ماجه (2). وحكى الترمذي عن البخاري أنه يحتمل أن يكون ــ يعني أبا إسحاق السَّبيعي ــ رواه عن عاصم بن ضَمْرة وعن الحارث. قال ابن القيم - رحمه الله -: إنما أسقط الصدقةَ من الخيل والرقيق إذا كانت للرُّكوب والخدمة, فأما ما كان منها للتجارة ففيه الزكاة في قيمتها. _________ (1). أخرجه ابن أبي شيبة (10322)، وابن ماجه (1792)، والدارقطني (1893)، والبزار (305)، والبيهقي: (4/ 95) من طريق ابن بشران التي ذكرها المؤلف من طرقٍ عن شجاع بن الوليد به. قال الزيلعي في «نصب الراية»: (2/ 330): «حارثة هذا ضعيف» وذكر كلام ابن حبان في تضعيفه، وضعّفه ابن الملقن في «البدر»: (5/ 455) وابن حجر في «التلخيص»: (2/ 165) وغيرهم. (2). أخرجه أبو داود (1574)، والترمذي (620)، وابن ماجه (1790). وانظر الحديث السالف. ونقل الترمذي كلام البخاري الذي أورد المنذري طرفًا منه، وسقناه في التعليق على الحديث السابق، ووافقه الدارقطني في «العلل»: (3/ 156 - 159) فقال بعد أن ذكره من الطريقين: «ويُشبه أن يكون القولان صحيحين».

(1/263)


85/ 1516 - وعن بَهزْ بن حكيم, عن أبيه, عن جَدِّه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «في كلِّ سائمةِ إبلٍ، في أربعين بنت لبون، لا يُفَرَّق إبل عن حسابها، من أعطاها مُؤتجرًا ــ قال ابنُ العلاء: مُؤْتَجرًا بها ــ فله أجرها، ومَن منعها فإنَّا آخذوها وشَطْرَ مالِه، عَزْمةٌ من عزمات ربنا عز وجل، ليس لآلِ محمدٍ منها شيء». وأخرجه النسائي (1). وجَدُّ بَهْز بن حَكيم هو معاوية بن حَيْدَة القُشَيري، وله صحبة. وبهز بن حكيم وثَّقه بعضُهم، وتكلَّم فيه بعضُهم. قال ابن القيم - رحمه الله -: قوله: «فإنَّا آخِذُوها وشَطْرَ ماله» أكثرُ العلماء على أن الغُلولَ في الصدقة والغنيمة لا يوجبُ غرامةً في المال, وقالوا: كان هذا في أول الإسلام ثم نُسِخ. واستدلّ الشافعيُّ على نسخه بحديث البراء بن عازب (2) فيما أفسدت ناقته, فلم يُنقل عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه أضعف الغرم, بل _________ (1). أخرجه أبو داود (1575)، والنسائي في «المجتبى» (2444) وفي «الكبرى» (2236)، وأحمد (20016)، وابن خزيمة (2266)، والحاكم: (1/ 397) وغيرهم من طرق عن بهز بن حكيم به. قال أحمد: صالح الإسناد، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه ابن عبد الهادي في «التنقيح»: (3/ 141) وفي «المحرر»: (1/ 339)، وقال ابن الملقن في «البدر المنير»: (5/ 481): «إسناد هذا الحديث صحيح إلى بهز، واختلف الحفاظ في الاحتجاج بحديث بهز ... » وذكر من وثقه ومن تكلم فيه، ومن ضعّف الحديث من أجله كالشافعي وابن حبان وابن حزم. وانظر «التلخيص الحبير»: (2/ 170). (2). أخرجه أبو داود (3569)، وعبد الرزاق (18437)، وأحمد ــ من طريقه ــ (23697)، وابن حبان (6008)، والبيهقي: (8/ 342) وغيرهم. وذكر الحفّاظ أن عبد الرزاق تفرّد بوصل هذا الحديث، فلم يتابَع على قوله «عن أبيه»، وأن وهيب بن خالد وأبا مسعود الزجاج روياه عن معمر فلم يقولا: «عن أبيه». وقال ابن عبد البر في «التمهيد»: (11/ 81 - 82) بعد أن ذكر هذه العلة: «هذا الحديث وإن كان مرسلًا، فهو حديث مشهور، أرسله الأئمة وحدّث به الثقات واستعمله فقهاء الحجاز، وتلقوه بالقبول، وجرى في المدينة به العمل». وفي الحديث خلاف طويل يراجع «بيان الوهم والإيهام»: (5/ 565 - 567)، و «البدر المنير»: (9/ 19 - 22).

(1/264)


نُقِل فيها حكمه بالضمان فقط. وقال بعضهم: يُشبه أن يكون هذا على سبيل التوعُّد, لينتهي فاعل ذلك. وقال بعضهم: إن الحقَّ يُستوفَى منه غير متروك عليه وإن تلف شطرُ ماله, كرجل كان له ألف شاة, فتلفت حتى لم يبق له إلا عشرون, فإنه يُؤخَذ منه عشر شياه لصدقة الألف, وهو شطر ماله الباقي أو نصفه, وهو بعيد لأنه لم يقل: إنَّا آخذوا شطرَ ماله. وقال إبراهيم الحربي (1): «إنما هو «وشُطِرَ مالُه» أي يُجْعَل ماله شَطْرين, ويتخيَّر عليه المصدّق فيأخذ الصدقةَ من خير النصفين عقوبةً لمنعه الزكاة». فأما ما لا يلزمه فلا. قال الخطابي (2): ولا أعرف هذا الوجه. هذا آخر كلامه. وقال بظاهر الحديث الأوزاعيُّ والإمامُ أحمد وإسحاقُ بن راهويه على ما فُصِّل عنهم. وقال الشافعيُّ في القديم: مَن مَنَع زكاةَ ماله أُخِذَت منه وأُخِذ شطرُ ماله عقوبةً على منعه, واستدلَّ بهذا الحديث. وقال في الجديد: لا _________ (1). نقله عنه البيهقي في «معرفة السنن»: (3/ 242)، والبغوي في «شرح السنة»: (6/ 80)، وابن الجوزي في «غريب الحديث»: (2/ 540)، وابن الأثير في «جامع الأصول»: (4/ 573). (2). حكاه عنه ابن الأثير في «النهاية»: (2/ 473)، وليس في «معالم السنن - بهامش السنن»: (2/ 234) ولا في «غريب الحديث» للخطابي.

(1/265)


يُؤخَذ منه إلا الزكاة لا غير، وجَعَل هذا الحديث منسوخًا, وقال: كان ذلك حين كانت العقوبات في المال ثم نُسِخت. هذا آخر كلامه. ومَن قال: إن بَهْز بن حكيم ثقة احتاج إلى الاعتذار عن هذا الحديث بما تقدم. فأما من قال: لا يُحتجُّ بحديثه فلا يحتاج إلى شيء من ذلك. وقد قال الشافعي (1) في بهز: ليس بحجة, فيحتمل أن يكون ظهر له ذلك منه بعد اعتذاره عن الحديث, أو أجاب عنه على تقدير الصحة. وقال أبو حاتم الرازي (2) في بهز بن حكيم: هو شيخ يُكْتَب حديثه ولا يحتجُّ به. وقال البستي (3): «كان يخطئ كثيرًا, فأما الإمام أحمد وإسحاق فهما يحتجَّان به ويرويان عنه, وترَكَه جماعةٌ من أئمتنا, ولولا حديثه: «إنَّا آخذوها وشطر إبله عَزْمة من عَزَمات ربنا» لأدخلناه في «الثقات»، وهو ممن أستخير الله [ق 53] فيه». فجَعَل روايتَه لهذا الحديث مانعةً من إدخاله في «الثقات» تم كلامه. وقد قال علي ابن المديني: حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده صحيح. وقال الإمام أحمد: بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده صحيح. وليس لمن ردَّ هذا الحدث حجة, ودعوى نسخه دعوى باطلة، إذ هي دعوى ما لا دليل عليه, وفي ثبوت شرعية العقوبات المالية عدة أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -,لم يثبت نسخُها بحجَّةٍ, وعمل بها الخلفاءُ بعدَه (4). _________ (1). ينظر «تهذيب التهذيب»: (1/ 498). (2). «الجرح والتعديل»: (2/ 431). (3). يعني ابن حبان في «المجروحين»: (1/ 194). (4). عقد المؤلف فصلًا في التعزير بالعقوبات المالية في كتابه «الطرق الحكمية»: (2/ 688 - 698). وانظر «زاد المعاد»: (3/ 99 و 5/ 50).

(1/266)


وأما معارضته بحديث البراء في قصة ناقته, ففي غاية الضعف, فإن العقوبة إنما تسوغ إذا كان المعاقَب متعديًّا بمَنْع واجب أو ارتكاب محظور, وأما ما تولَّد من غير جنايته وقصده, فلا يسوِّغ أحدٌ عقوبته عليه, وقول من حَمَل ذلك على سبيل التوعّد دون الحقيقة في غاية الفساد, يُنَزَّه عن مثله كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقول مَن حَمَله على أخذ الشطر الباقي بعد التلَف باطل؛ لشدة منافرته وبُعْده عن مفهوم الكلام، ولقوله: «فإنَّا آخذوها وشطرَ ماله». وقول الحربي: إنه «وشُطِرَ» بوزن شُغِل، في غاية الفساد، ولا يعرفه أحدٌ من أهل الحديث, بل هو من التصحيف. وقول ابن حبان: لولا حديثه هذا لأدخلناه في «الثقات» , كلام ساقط جدًّا, فإنه إذا لم يكن لضعفه سببٌ إلا رواية هذا الحديث وهذا الحديث إنما ردَّه لضعفه, كان هذا دورًا باطلًا, وليس في روايته لهذا ما يوجب ضعفَه، فإنه لم يخالف فيه الثقات. وهذا نظير ردّ مَن ردّ حديث عبد الملك بن أبي سليمان, حديث جابر في شُفْعة الجوار (1) , وضعَّفه بكونه روى هذا _________ (1). وهو حديث: «الجارُ أحقّ بشُفْعَة جاره ... » أخرجه أبو داود (3518)، والترمذي (1421)، والنسائي في «الكبرى» (7264)، وابن ماجه (2494)، وأحمد (14253) من طرق عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر به. وقد تكلّم شعبةُ في عبد الملك بسبب هذا الحديث، وكذا الشافعي وأحمد ويحيى. وقال الترمذي: سألت محمدًا عن هذا الحديث؟ فقال: لا أعلم أحدًا رواه عن عطاء غير عبد الملك، تفرّد به، ويروى عن جابر خلاف هذا. وانظر كلام المؤلف في الجواب عن تعليله في كتابنا هذا (2/ 537)، وينظر أيضًا: «نصب الراية»: (4/ 173 - 174)، و «تنقيح التحقيق»: (4/ 175 - 176).

(1/267)


الحديث، وهذا غير موجِبٍ للضعف بحال. والله أعلم.

  2 - باب رضا المصدِّق

86/ 1525 - وعن عبد الرحمن بن جابر بن عَتيك، عن أبيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «سيأتيكم رَكْب (1) مُبَغَّضُون، فإذا جاؤوكم فرحِّبوا بهم، وخَلُّوا بينهم وبين ما يبتغون، فإن عدلوا فلأنفسهم، وإن ظلموا فعليها، وأرضوهم، فإن تمام زكاتكم رضاهم، وليدعوا لكم» (2). في إسناده: أبو الغُصْن، وهو ثابت بن قيس المدني الغِفاري، مولاهم، وقيل: مولى عثمان بن عفان، قال الإمام أحمد: ثقة، وقال يحيى بن معين: ضعيف، وقال مرة: ليس بذاك صالح، وقال مرة: ليس به بأس، وقال أبو حاتم محمد بن حِبَّان البُسْتِي: كان قليل الحديث، كثير الوهم فيما يرويه، لا يحتج بخبره إذا لم يتابعه عليه غيره. هذا آخر كلامه (3). _________ (1). كذا في مخطوطة «المختصر» و «سنن أبي داود»، وفي مطبوعة «المختصر» وبعض نسخ «السنن»: «رُكَيب» بالتصغير. (2). أخرجه أبو داود (1588)، والبيهقي: (4/ 114) من طريق بشر بن عمر، عن أبي الغُصن، عن صخر بن إسحاق، عن عبد الرحمن به. وذكر المنذري أن في إسناده أبا الغصن وذَكَر الكلام فيه، وفيه أيضًا صخر بن إسحاق وعبد الرحمن بن جابر مجهولان. تنظر ترجمتهما في «التهذيب»: (4/ 410 و 6/ 154). وقد ضعَّفه عبد الحق وابن القطان وغيرهم. وروى الحديث ابن أبي شيبة (9932)، وابن زنجويه في «الأموال» (1574) وغيرهم فجعلوه من مسند جابر بن عبد الله الأنصاري. ينظر «بيان الوهم والإيهام»: (2/ 131 - 132). (3). ذكر المنذري بعده العبارة الآتية فيمن يعرف باسم «ثابت بن قيس» التي نسبها المجرِّد لابن القيم.

(1/268)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي الرواة خمسة كل منهم اسمه ثابت بن قيس لا نَعْرف فيهم مَن تُكُلِّم فيه غيره (1).

  3 - باب مَن روى نصفَ صاعٍ مِن قَمْح (2)

87/ 1555 - وعن حُميد ــ وهو الطويل ــ، عن الحسن ــ وهو البصري ــ قال: «خطَبَ ابنُ عباس في آخر رمضان على منبر البصرة فقال: أخرجوا صدقةَ صومِكم، فكأنَّ الناسَ لم يعلموا، فقال: مَن ههنا مِن أهلِ المدينة؟ قوموا إلى إخوانكم فعلِّموهم، فإنهم لا يعلمون، فرَضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الصدقة، صاعًا من تمر أو شعير، أو نصف صاع قمح، على كلِّ حرٍّ أو مملوكٍ، ذَكرٍ أو أنثى، صغيرٍ أو كبير، فلما قدم عليٌّ رأى رُخْصَ السِّعْر، قال: قد أوسعَ الله عليكم، فلو جعلتموه صاعًا مِن كل شيء؟ قال حميد: وكان الحسن يرى صدقةَ رمضان على مَن صام. وأخرجه النسائي (3)، وقال: الحسن لم يسمع من ابن عباس. وهذا الذي قاله النسائي هو الذي قاله الإمام أحمد وعلي بن المديني وغيرهما من الأئمة، وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: الحسن لم يسمع من ابن عباس، وقوله: «خطبنا ابن عباس» يعني خطب أهل البصرة، وقال علي بن المديني في حديث الحسن: _________ (1). كذا نَسَب مُجرِّد «التهذيب» هذا القول لابن القيم بينما هذا النقل من كلام المنذري في «مختصره»: (2/ 202) ومخطوطته (ق 20 ب - المحمودية) ووقع في المخطوط تقديم وتأخير بين كلام ابن حبان وبقية الأئمة. وهؤلاء الخمسة ذكرهم الخطيب في «المتفق والمفترق»: (1/ 591 - 600). (2). يعني في زكاة الفطر. (3). أخرجه أبو داود (1622)، والنسائي في «المجتبى» (1850) وفي «الكبرى» (1815).

(1/269)


«خطبنا ابن عباس بالبصرة»: إنما هو كقول ثابت «قدم علينا عمران بن حصين» ومثل قول مجاهد: «خرج علينا علي» وكقول الحسن: «إن سُراقة بن مالك بن جُعْشُم حدثهم» وقال ابن المديني أيضًا: الحسن لم يسمع من ابن عباس، وما رآه قط، كان بالمدينة أيام ابن عباس على البصرة. قال ابن القيم - رحمه الله -: قال الترمذيُّ (1): سألت أبا عبد الله البخاري عن حديث الحسن: «خَطَبنا ابنُ عباس فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَرَض صدقَة الفطر»؟ فقال: روى غيرُ يزيد بن هارون، عن حُميد، عن الحسن: «خَطَبَ ابنُ عباس» وكأنه رأى هذا أصحّ. قال الترمذيُّ: وإنما قال البخاريُّ هذا لأن ابن عباس كان بالبصرة في أيام عليّ, والحسنُ البصريُّ في أيامِ عثمانَ وعليّ كان بالمدينة.

  4 - بابٌ في تعجيل الزكاة

88/ 1556 - عن أبي هريرة قال: بعث النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عمرَ بن الخطاب على الصدقة، فمنع ابنُ جميل، وخالدُ بن الوليد، والعباسُ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرًا فأغناه الله، وأما خالد بن الوليد، فإنكم تظلمون خالدًا، فقد احتبسَ أدراعَه وأَعْتُدَه في سبيل الله، وأما العبّاس عمُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي عليَّ ومثلها»، ثم قال: «أما شعرتَ أنّ عمّ الرجل صِنْو الأب» أو «صِنْو أبيه». وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: لفظ مسلم وأبي داود: «فهي علَيَّ ومثلُها معها». _________ (1). في كتاب «العلل الكبير» (1/ 325 - 326). (2). أخرجه أبو داود (1623)، والبخاري (1468)، ومسلم (983)، والنسائي (2464).

(1/270)


وفيه قولان، أحدهما: أنه كان تسلَّف منه صدقةَ عامين. والثاني: أنه تحمَّلها عنه يؤدِّيها عنه. ولفظ البخاريّ والنسائيّ: «فهي عليه صدقة ومثلها معها» وفيه قولان، أحدهما: أنه جعله مصرفًا لها، وهذا قبل تحريمها على بني هاشم. والثاني: أنه أسقطها عامين لمصلحةٍ كما فعل عمرُ عامَ الرّمادة. ولفظ ابن إسحاق: «هي عليه ومثلُها معها» حكاه البخاريُّ (1)، وفيه قولان، أحدهما: أنه أنظره بها ذلك العام إلى القابل فيأخذها ومثلها. والثاني: أن هذا مدحٌ للعباس وأنه سَمح بما طُلِب منه، لا يمتنع من إخراج ما عليه بل يخرجه ومثله معه. وقال موسى بن عُقْبة: «فهي له ومثلها معها» ذكره ابن حبان (2)، وفيه قولان، أحدهما: أن «له» بمعنى «عليه» كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]. والثاني: إطلاقها له وإخراج النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه من عنده بِرًّا له، ولهذا قال: «أما شعرتَ أنّ عمّ الرجل صِنْو أبيه».

  5 - بابٌ في الاستعفاف

89/ 1582 - وعن ابن الساعِدِي قال: استعلمني عمرُ على الصدقة، فلما فرغتُ منها وأدَّيتها إليه، أمر لي بعُمَالة، فقلت: إنما عملتُ لله، وأجري على الله، قال: خذ ما أُعطيتَ، فإني قد عملتُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعَمَّلني، فقلتُ مثلَ قولك، فقال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أُعطيتَ شيئًا مِن غيرِ أن تسأله فكُلْ وتصدَّقْ». _________ (1). (2/ 122) معلقًا بعد حديث (1468). (2). في «الصحيح»: (8/ 69).

(1/271)


وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (1) بنحوه (2). ورواه الزهري، عن السائب بن يزيد، عن حُوَيطب بن عبد العُزَّى، عن عبد الله بن السَّعْدي، عن عمر، فاجتمع في إسناده أربعة من الصحابة، وهو من الأحاديث التي جاءت كذلك. ووقع في حديث الليث بن سعد: «ابن الساعدي» كما قدمناه، وهو عبد الله بن السعدي، ولم يكن سعديًّا، وإنما قيل لأبيه: السعدي، لأنه كان مُسْتَرضَعًا في بني سعد بن بكر، وهو قرشيّ عامريّ مالكيّ، من بني مالك بن حِسْلٍ، واسم السعدي: عَمرو بن وَقْدان، وقيل: قُدامة بن وقدان. وأما الساعدي: فنسبة إلى بني ساعدة من الأنصار، من الخزرج، ولا وجه له ههنا، إلا أن يكون له نزول أو حِلْف أو خُؤولة، أو غير ذلك. وقوله: «فعَمَّلَني» بفتح العين المهمة، وتشديد الميم وفتحها، أي: جعل لي العُمَالة، وهي أجرة العمل. وفيه جواز أخذ الأجرة على أعمال المسلمين وولاياتهم الدينية والدنيوية، قيل: وليس معنى الحديث في الصدقات، وإنما هو في الأموال التي يقسمها الإمام على أغنياء الناس وفقرائهم، واستشهد بقوله في بعض طرقه «يَتَموَّله» وقال: الفقير لا ينبغي أن يأخذ من الصدقة ما يتخذه مالًا، كان عن مسألة أو عن غير مسألة (3). واختلف العلماء فيما أمر به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عمر من ذلك ــ بعد إجماعهم على أنه _________ (1). أخرجه أبو داود (1647)، والبخاري (7164)، ومسلم (1045)، والنسائي (2397). (2). «بنحوه» من مخطوطة «المختصر». (3). من قوله: «وقوله: فعَمَّلَني ... » إلى هنا، مكتوب في هامش مخطوطة «المختصر» (31 أ) وليس عليها علامة التصحيح، وهي في متن المطبوعة، وأشار المجرِّد أنها من كلام المنذري الذي علق عليه المؤلف.

(1/272)


أمْرُ نَدْبٍ وإرشاد ــ فقيل: هو ندب من النبي - صلى الله عليه وسلم - لكلِّ مَن أُعطي عطيَّة, كانت من سلطان أو عامِّيّ, صالحًا كان أو فاسقًا, بعد أن يكون ممن تجوز عطيتُه. حكى ذلك غيرُ واحد. وقيل: ذلك مِن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نَدْب إلى قبول عطية غير (1) السلطان, فأما السلطان, فبعضهم منعها, وبعضهم كرهها. وقال آخرون: ذلك ندبٌ لقبول هدية السلطان دون غيره, ورجَّح بعضُهم الأول، بأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يخصّ (2) وجهًا من الوجوه. تم كلامه (3). [قال ابن القيم - رحمه الله -]: وسياق الحديث إنما يدلُّ على عطية العامل على الصدقة, [ق 54] فإنه يجوز له أخذ عَمالته وتَمَوّلها وإن كان غنيًّا, والحديث إنما سِيْقَ لذلك, وعليه خرج جوابُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس المراد به العموم في كلِّ عطية مِن كلِّ معطٍ, والله أعلم. 90/ 1583 - وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو على المنبر، وهو يذكر الصدقة والتعفُّف منها والمسألة: «اليدُ العُليا خيرٌ مِن اليد السُّفْلَى، واليدُ العليا المنفِقَة، والسُّفْلى السائلة». _________ (1). في «الأصل»: «من غير» والمثبت من مخطوطة «المختصر». (2). في مخطوطة «المختصر»: «لأن النبي عليه السلام لم يخص». (3). من قوله: «واختلف العلماء» إلى هنا نسبه المجرِّد إلى ابن القيم ثم كتب الناسخ فوق (قال): «ينظر من كلام الزكي»، وفوق (تم كلامه): «إلى هنا» يعني أن هذه الفقرة من كلام صاحب المختصر زكيّ الدين المنذري، وهذه الفقرة لا وجود لها في مطبوعة «المختصر»: (2/ 242 - 243)، وهو موجود في مخطوطة «المختصر» (ق 30 ب) معلقة في هامشها. ولم يتفطن في ط. الفقي إلى ذلك فساقه من كلام ابن القيم، وفي ط. المعارف ساقه من كلام ابن القيم ولم ينتبه لتعليق الناسخ، وإن ذكر في الهامش أن الكلام لعله للمنذري.

(1/273)


وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (1) بهذا اللفظ: «اليدُ العُلْيا المنفقة، والسُّفْلى السائلة». وقد ذكر أبو داود (2) عن أيوب: «العُليا المتعفِّفَة»، وروي عن الحسن البصري: «أن السُّفْلى الممسكة المانعة». وقد ذكر في حديث مالك بن نَضْلة الذي بعده: «أن الأيدي ثلاثة» (3). وذهبت المتصوفةُ إلى أن اليد العُليا هي الآخذة، لأنها نائبة عن يد الله تعالى، وما جاء في الحديث الصحيح من التفسير مع فهم المقصد مِن الحثِّ على الصدقة أولى. فعلى التأويل الأول هي عُليا بالصورة، وعلى الثاني عليا بالمعنى. وفي الحديث نَدْبٌ إلى التعفف عن المسألة، وحَضٌّ على معالي الأمور، وترك دَنِيّها، وفيه أيضًا حضٌّ على الصدقة. قال أبو داود: اختُلف على أيوب عن نافع في هذا الحديث، قال عبد الوارث: «اليدُ العُليا المتعفّفة»، وقال أكثرهم عن حماد بن زيد عن أيوب: «اليدُ العُليا المنفقة» وقال غير (4) واحدٍ ــ يعني ــ عن حماد بن زيد: «المتعفِّفَة». قال ابن القيم - رحمه الله -: وتفسير مَن فسَّر اليدَ العُليا بالآخِذَة، باطل قطعًا من وجوه: أحدها: أن تفسير النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لها بالمنفقة يدلُّ على بطلانه. _________ (1). أخرجه أبو داود (1648)، والبخاري (1429)، ومسلم (1033)، والنسائي (2533). (2). ذكره عقب الحديث. (3). أخرجه أبو داود (1649)، وأحمد (15890)، وابن خزيمة (2440)، وابن حبان (3362). (4). «غير» ليست لا في مطبوعة «المختصر» ولا في المخطوطة وضبطها في المخطوط بالضم «واحدٌ». وهي مما ذكره المجرِّد من كلام المنذري.

(1/274)


الثاني: أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر أنها خيرٌ مِن اليد السُّفْلى، ومعلومٌ بالضرورة أن العطاء خيرٌ وأفضل من الأخذ، فكيف تكون يد الآخذ أفضل مِن يد المعطي؟ الثالث: أن يَدَ المعطي أعلى من يد السائل حسًّا ومعنًى، وهذا معلوم بالضرورة. الرابع: أن العطاء صفة كمال دالّ على الغِنَى والكرم والإحسان والمجد، والأخذ صفة نقصٍ، مَصْدره عن الفقر والحاجة، فكيف تُفَضَّل يدُ صاحبه على يدِ المعطي؟ هذا عكس الفطرة والحسِّ والشريعة، والله أعلم. * * *

(1/275)


 كتابُ اللُّقَطَة

91/ 1635 - وعن بُسْر بن سعيد، عن زيد بن خالد الجهني: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن اللُّقَطة؟ فقال: عَرِّفْهَا سَنَةً، فإن جاء باغيها فأدِّها إليه، وإلا فاعْرِف عِفَاصَهَا ووكاءها، ثم كُلْهَا، فإن جاء باغيها، فأدِّها إليه». وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه (1) بمعناه، وفي رواية: «فإن جاء باغيها فعَرَفَ عِفاصها وعدَدها، فادفعها إليه» (2). قال أبو داود: وهذه الزيادة التي زاد حماد بن سلمة: «إن جاء صاحِبُها فعَرَف عِفاصها ووكاءها فادفعها إليه» ليست بمحفوظة. وحديث عُقْبة بن سُويد، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضًا، قال: «عَرِّفها سنة». وحديث عمر بن الخطاب أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عرِّفها سنة». هذا آخر كلامه. وهذه الزيادة قد أخرجها مسلم في «صحيحه» (3) من حديث حماد بن سلمة. وقد أخرجه الترمذي والنسائي (4) من حديث سفيان الثوري عن سَلَمة بن _________ (1). أخرجه أبو داود (1706)، والبخاري (2372)، ومسلم (1722/ 1) والنسائي في «الكبرى» (5779)، وابن ماجه (2507)، وأحمد (17046)، وابن حبان (4889) وغيرهم من طرق عن بُسر بن سعيد به. (2). من قوله: «وأخرجه مسلم ... » إلى هنا، ليس في مطبوعة «المختصر»: (2/ 268)، فأضاف الطابع بين معقوفين ما يدلّ على هذه الزيادة لاقتضاء الكلام لها. (3). (1723/ 10). (4) الترمذي (1374)، والنسائي في «الكبرى» (5794).

(1/276)


كُهَيل بهذه الزيادة، كما قدمناه عنهما. وذكر مسلم في «صحيحه» (1) أن سفيان الثوري، وزيد بن أبي أُنيسة، وحماد بن سلمة، ذكروا هذه الزيادة، فقد تبيَّن أن حماد بن سلمة لم ينفرد بهذه الزيادة، فقد تابعه عليها من ذكرناه. قال ابن القيم - رحمه الله -: والسنة الصحيحة مصرِّحةٌ بأنّ مدَّةَ التعريف سنة. ووقع في حديث أُبيِّ بن كعب المتقدِّم (2): أنها تُعرَّف ثلاثة أعوام، ووقع الشكُّ في رواية حديث أُبيّ بن كعب أيضًا, هل ذلك في سنة أو في ثلاث سنين, وفي الأخرى «عامين أو ثلاثة» فلم يجزم, والجازم مقدَّم. وقد رجع أُبيُّ بن كعب آخرًا إلى عام واحد, وترك ما شكَّ فيه (3). وحكى مسلم في «صحيحه» (4) عن شعبة أنه قال: فسمعتُه ــ يعني سَلَمة بن كُهَيل ــ بعد عشر سنين يقول: «عرِّفها عامًا واحدًا». وقيل: هي قضيتان, فالأولى لأعرابيّ أفتاه بما يجوز له بعد عام. والثانية: لأُبيِّ بن كعب أفتاه بالكفّ عنها, والتربُّص بحُكْم الوَرَع ثلاثة أعوام, وهو من فقهاء الصحابة وفضلائهم. وقد يكون ذلك لحاجة الأول إليها وضرورته, واستغناء أُبيّ, فإنه كان من مياسير الصحابة. _________ (1). (1723/ 10). (2). يعني في أصل الكتاب، والحديث أخرجه البخاري (2426)، ومسلم (1723)، وأبو داود (1701) وغيرهم. (3). كذا، والذي شكّ فيه هو راويه سلمةُ بن كُهيل وليس أبيّ بن كعب، قال الحافظ في «الفتح»: (5/ 79): «وأغرب ابن بطّال فقال: الذي شك فيه هو أبيّ بن كعب، والقائل هو سُويد بن غَفَلة. اهـ ولم يصب في ذلك، وإن تَبِعه جماعة منهم المنذري، بل الشكّ فيه من أحد رواته، وهو سلمة لمّا استثبته فيه شعبة». (4). (1723/ 9).

(1/277)


ولم يقل أحدٌ من أئمة الفتوى بظاهره, وأن اللقطة تعرَّف ثلاثَة أعوام إلا رواية جاءت عن عمر بن الخطاب (1). ويحتمل أن يكون الذي قال له عمر ذلك موسرًا. وقد رُوي عن عمر أن اللُّقَطة تعرَّف سنة, مثل قول الجماعة (2). وحكى في «الحاوي» (3) عن شواذَّ من الفقهاء أنه يلزمه أن يعرِّفها ثلاثة أحوال. 92/ 1646 - وعن المنذر بن جَرير قال: كنتُ مع جَرير بالبوازيج فجاء الراعي بالبقَرِ، وفيها بقرةٌ ليست منها، فقال له جرير: ما هذه؟ قال: لحقَتْ هذه (4) بالبقر، لا ندري لمن هي، فقال جرير: أخرجوه، سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يأوي الضالَّة إلا ضَالٌّ». وأخرجه النسائي وابن ماجه (5). وقد أخرج مسلم في «صحيحه» (6) من حديث زيد بن خالد الجهني، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مَن آوَى ضالةً فهو ضالٌّ، ما لم يُعَرِّفها». وأخرجه النسائي (7)، ولفظه: «مَن أخذَ لُقَطةً فهو ضالّ، ما لم يُعَرِّفها». _________ (1). ذكرها ابن المنذر ــ كما في الفتح: (5/ 79) ــ وابن حزم في «المحلى»: (8/ 262). (2). ذكرها ابن المنذر، وابن حزم، ينظر الحاشية السالفة. (3). «الحاوي الكبير»: (8/ 31 - ط. دار الفكر) للماوردي. (4). من خ المختصر. (5). أخرجه أبو داود (1720)، والنسائي في «الكبرى» (5767)، وابن ماجه (2503)، وأحمد (19209)، وفي إسناده اضطراب، وانظر حاشية «المسند» تحت رقم (19184). (6). (1725). (7). في «الكبرى» (5774).

(1/278)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال بعضهم: الفرق بين لُقَطة مكة وغيرها: أن الناسَ يتفرَّقون مِن مكة, فلا يمكن تعريف اللُّقَطة في العام, فلا يحلّ لأحدٍ أن يلتقطَ لُقَطَتَها إلا مبادِرًا إلى تعريفها قبل تفرُّق الناس, بخلاف غيرها من البلاد. والله أعلم. * * *

(1/279)


 كتاب الحج

  1 - باب في المواقيت

93/ 1665 - وعن ابن عباس قال: «وَقَّتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأهلِ المشرق العقيقَ». وأخرجه الترمذي (1) وقال: هذا حديث حسن. هذا آخر كلامه. وفي إسناده يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف، وذكر البيهقيُّ أنه تفرَّد به. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال ابن القطان (2): عِلّته الشكّ في اتصاله، فإن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس يرويه عن ابن عباس، ومحمد بن علي إنما هو معروف الرواية عن أبيه، عن جدّه ابن عباس. وفي «صحيح مسلم» (3): حدثنا حبيب بن أبي ثابت، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن عبد الله بن عباس: «أنه رقَدَ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» الحديث. وحديثه عن أبيه، عن جدّه: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكَلَ كَتِفًا أو لحمًا, ثم _________ (1) أخرجه أبو داود (1740)، والترمذي (832)، وأحمد (3205) من طريق يزيد بن أبي زياد، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس به. وفي إسناده يزيد بن أبي زياد، وما سيذكره ابن القطان من الانقطاع. (2) «بيان الوهم والإيهام»: (2/ 558). (3) (354).

(1/280)


صلى ولم يمسَّ ماءً» ذكره البزار (1). وقال (2): ولا أعلم روى عن جدِّه إلا هذا الحديث, يعني «وَقَّت لأهلِ المشرق» وأخاف أن يكون منقطعًا. ولم يذكر البخاريُّ ولا ابنُ أبي حاتم (3) أنه روى عن جده, وقال مسلم في كتاب «التمييز» (4). لم يُعلَم له سماعٌ من جدِّه ولا أنه لقيه. 94/ 1666 - وعن أمِّ سلَمة زوجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنها سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَن أهلَّ بحَجَّة أو عُمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، أو وجبت له الجنة ــ شكَّ عبدُ الله أيتهما قال». وأخرجه ابن ماجه (5)، ولفظه: «مَن أهَلَّ بعُمْرة من بيت المقدس غُفِر له». وفي رواية (6): «مَن أهلَّ بعمرةٍ من بيت المقدس كانت كفارةً لما قبلها من الذنوب». وقد اختلف الرواة في متنه وإسناده اختلافًا كثيرًا. _________ (1) (5246)، وأخرجه البيهقي: (1/ 153). (2) أي ابن القطان في «بيان الوهم» الموضع السالف. (3) ينظر «التاريخ الكبير»: (1/ 183)، و «الجرح والتعديل»: (8/ 26). (4) (ص 215). (5) أخرجه أبو داود (1741)، وابن ماجه (3002)، وأحمد (26558) من طريق عبد الله بن يُحَنّس، عن يحيى الأخنس، عن جدته حُكَيمة، عن أم سلمة به. وإسناده ضعيف لجهالة حُكيمة، وفي إسناده اضطراب كما أشار المنذري، انظر حاشية «المسند»: (44/ 181 - 183). (6) لابن ماجه (3002).

(1/281)


قال ابن القيم - رحمه الله -: هذا الحديث ــ حديث أم سلمة ــ قال غير واحد من الحفَّاظ: إسناده ليس بالقوي, وقد شكّ (1) عبدُ الله بن عبد الرحمن بن يُحَنّس: هل قال: «و وجبت له الجنة» , أو قال: «أو وجبت» بالشكّ بدل قوله: «غُفِر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر»؟ هذا هو الصواب بـ «أو». وفي كثير من النُّسَخ «ووجبت» بالواو, [ق 55] وهو غلط، والله أعلم (2).

  2 - باب في هدي البقرة

95/ 1676 - وعن أبي هريرة: «أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ذَبحَ عمَّن اعتمر من نسائه بقرةً بينهنّ». وأخرجه النسائيُّ وابن ماجه (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى النسائيُّ (4) من حديث إسرائيل، عن عمّار، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: «ذبحَ عنَّا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ حَجَجْنا بقرةً بقرةً». وعن الزهري، عن عَمْرة، عن عائشة قالت: «ما ذُبِح عن آل محمد في الوداع إلا بقرة» (5). وبه عن عائشة: «أن _________ (1) في ط. الفقي: «سُئل» وقد كان كتبها في الأصل كذلك ثم جوّدها كما أثبتنا. (2) في هامش الأصل: «بلغ مقابلة». (3) أخرجه أبو داود (1751)، والنسائي في «الكبرى» (4114)، وابن ماجه (3133)، وابن خزيمة (2903)، وابن حبان (4008)، والحاكم: (1/ 466) وقال: صحح على شرط الشيخين. كلهم من طريق الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - به. (4) في «الكبرى» (4115). وقال الحافظ في «الفتح»: (3/ 551) عن هذه الرواية: إنها شاذة. (5) أخرجه النسائي أيضًا في «الكبرى» (4116).

(1/282)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نَحَر عن آل محمدٍ في حجَّة الوداع بقرةً واحدةً» (1). وسيأتي قول عائشة: «ذبَحَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه البقَرَ يومَ النحر» (2). ولا ريب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجَّ بنسائه كلِّهن, وهنّ يومئذٍ تسع, وكلُّهن كنَّ متمتّعات حتى عائشة, فإنها قَرَنت, فإن كان الهدي متعدِّدًا فلا إشكال, وإن كان بقرةً واحدةً بينهنّ, وهنّ تسع, فهذا حجة لإسحاق ومن قال بقوله: أن البدنة تُجْزئ عن عشرة، وهو إحدى الروايتين عن أحمد (3). وقد ذهب ابن حزم (4) إلى أن هذا الاشتراك في البقرة إنما كان بين ثمانِ نسوة, قال: لأن عائشة لمّا قَرَنت لم يكن عليها هَدْي, واحتجَّ بما في «صحيح مسلم» (5) عنها من قولها: «فلما كانت ليلة الحَصْبة وقد قضى الله حجَّنا، أرسل معي عبد الرحمن فأردفني، وخرج بي إلى التنعيم، فأهللتُ بعمرة، فقضى الله حجَّنا وعمرَتَنا, ولم يكن في ذلك هدي ولا صدقة ولا صوم». وجعل هذا أصلًا في إسقاط الدم عن القارن. ولكن هذه الزيادة وهي: «ولم يكن في ذلك هدي» مُدرجةٌ في الحديث _________ (1) أخرجه أبو داود (1750)، والنسائي في «الكبرى» (4112)، وابن ماجه (3135). (2) أخرجه البخاري (294)، ومسلم (1211/ 19)، وأبو داود (1782)، وغيرهم. (3) ينظر لقول إسحاق «مسائل الكوسج»: (5/ 2225)، وذكر المؤلف هذه المسألة في «زاد المعاد»: (2/ 265 - 267) وأن القول بأنها تجزئ عن سبعةٍ قول الشافعي وأحمد في المشهور عنه. وهو قول الجمهور، ولم أر حكاية أنها تجزئ عن عشرة روايةً في المذهب في كتب الحنابلة المعروفة. ينظر «المغني»: (13/ 363 - 364)، و «الإنصاف»: (9/ 340)، و «المبدع»: (3/ 200). (4) في «المحلى»: (7/ 150 - 152). (5) (1211/ 15). وأخرجه البخاري أيضًا (316 و 1561).

(1/283)


من كلام هشام بن عروة, بيَّنه مسلمٌ في «الصحيح» (1). قال: أنبأنا أبو كُرَيب، أنبأنا وكيع، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة ــ فذكرت الحديث ــ وفي آخره: قال عروة في ذلك: «إنه قضى الله حجَّها وعمرتها» قال هشام: «ولم يكن في ذلك هدي ولا صيام ولا صدقة». فجعل وكيعٌ هذا اللفظ لهشامٍ، وابنُ نُمَير وعَبْدةُ لم يقولا: «قالت عائشة» , بل أدرجاه إدراجًا, وفصَّلَه وكيعٌ وغيره.

  3 - باب تبديل الهدي

96/ 1682 - عن سالم بن عبد الله، عن أبيه قال: «أهدى عمرُ بن الخطاب بُخْتِيًّا فأُعْطِي بها ثلثمائة دينار، فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إني أهْدَيتُ بُختيًّا فأُعْطِيتُ بها ثلثمائة دينار، أفأبيعها وأشتري بثمنها بُدْنًا؟ قال: لا، انْحَرها إيَّاها» (2). قال البخاري: لا نعرف للجَهم سماعًا من سالم. قال ابن القيم - رحمه الله -: هو الجهم بن الجارود. وقد ذكر هذا الحديثَ البخاريُّ في «تاريخه الكبير» (3) , وعلَّله بهذه العلة, وأعلَّه ابنُ القطّان (4) بأنّ جَهْم بن الجارود لا يُعْرَف حاله, ولا يُعْرَف له راوٍ إلا أبو عبد الرحيم _________ (1) (1211/ 17). (2) أخرجه أبو داود (1756)، وأحمد (6325)، وابن خزيمة (2911)، والبيهقي: (5/ 241) من طريق جهم بن الجارود، عن سالم به. وجهم مجهول، ولا يعرف له سماع من سالم. (3) (2/ 230). (4) في «بيان الوهم والإيهام»: (3/ 58).

(1/284)


خالد بن أبي يزيد. قال: وبذلك ذكره البخاري وأبو حاتم (1).

  4 - باب في الهدي إذا عَطِب قبل أن يبلغ

97/ 1691 - وعن عبد الله بن قُرْطٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القَرِّ، وهو اليوم الثاني»، قال: وقُرِّب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدناتٌ خمسٌ أوستٌّ، فطفِقْن يَزدَلِفن إليه، بأيَّتِهنَّ يبدأ، فلما وجَبت جُنوبُها، قال، فتكلّم بكلمةٍ خَفيّة لم أفهمها، فقلت: ما قال؟ قال: «من شاء اقتطع». وأخرجه النسائي (2). _________ (1) في «الجرح والتعديل»: (2/ 522). ووقع في مطبوعة «بيان الوهم»: «وابن أبي حاتم» وأشار المحقق أنه في نسخة (ت): «وأبو حاتم» كما هنا، لكن وصفها بالتحريف، وليس كذلك، إذا فهمنا أنه أراد قائل القول وهو أبو حاتم لا صاحب الكتاب الذي هو ابنه. وما ورد في كتابنا يؤيد صحة ما في نسخة (ت)، وإن كان يصح على أي الوجهين أُثبت. (2) أخرجه أبو داود (1765)، والنسائي في «الكبرى» (4098)، وأحمد (19075)، وابن خزيمة (2866)، وابن حبان (2811)، والحاكم: (4/ 221). وإسناده صحيح. تنبيه: ذكر المجرِّد أن ابن القيم علّق بعد أن ساق قولَ المنذري: «وفيه جواز أخذ النُّثار في الأملاك». وهذه العبارة ليست في «مختصر المنذري» (2/ 296) المطبوع، وهي في مخطوطة «المختصر» (ق 45 أ) في آخر كلام عُلِّق على طرة النسخة، نسوقه كاملًا ليتضح الكلام (وما تركناه نقاطًا لم تظهر لنا قراءته): ««يوم القرّ» بفتح القاف وهو اليوم الذي يلي يوم النحر، لأنّ الناس يقرّون فيه بمنى، لأنهم قد فرغوا من طواف الإفاضة والنحر فقرّوا. و «يزدلفن» معناه يقتربن، وهو يفتعلن من القُرْب فأبدل التاء دالًا. و «طَفِق» يفعل كذا أي جعل، وهو بفتح الطاء وكسر الفاء، وقيل فيه أيضًا: «طَفَق» بفتح الفاء يَطْفِق، وإنما تقوله العرب في .... «وجبت جنوبُها» رهقت أنفسها فسقطت على جنوبها. وفيه دليل على هِبَة المتاع، وفيه جواز أخذ النُّثار في الأملاك».

(1/285)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وفيه (1) دليل على أن يوم النحر أفضل الأيام, وذهبت جماعةٌ من العلماء إلى أن يوم الجمعة أفضل الأيام, واحتجُّوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «خير يومٍ طلعت فيه الشمس يوم الجمعة» وهو حديث صحيح رواه ابن حبان (2) وغيره. وفَصْل النزاع: أن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع, ويوم النحر أفضل أيام العام, فيوم النحر مُفضَّل على الأيام كلِّها التي فيها الجمعة وغيرها, ويوم الجمعة مفضَّل على أيام الأسبوع، فإن اجتمعا في يومٍ تظاهرت الفضيلتان, وإن تباينا, فيوم النحر أفضل وأعظم لهذا الحديث. والله أعلم (3).

  5 - باب إفراد الحجِّ

98/ 1704 - وعن [عائشة] أنها قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُوَافِين هلالَ ذي الحِجّة، فلما كان بذي الحُلَيفة قال: «مَن شاءَ أن يُهِلّ بِحَجٍّ (4) فليُهِلَّ، ومن شاء أن يهلّ بعمرة فليُهِلّ بعمرة. قال موسى ــ يعني ابن إسماعيل ــ في حديث وُهيب: فإني لولا أني أهْدَيْتُ لأهللت بعمرة ــ. وقال في حديث حماد بن _________ (1) كتب فوقها بخط أصغر: «أي في الحديث». (2) (2772)، وأخرج مسلم (854) طرفًا منه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (3) وانظر «زاد المعاد»: (1/ 60 - 64)، و «بدائع الفوائد»: (3/ 1103 - 1104)، و «مجموع الفتاوى»: (25/ 288 - 289). (4) سقطت من (خ- المختصر).

(1/286)


سلمة: وأما أنا فأُهِلُّ بالحج، فإنّ معي الهدي ــ ثم اتفقوا (1) ــ فكنتُ فيمن أهلَّ بعمرة، فلما كان في بعض الطريق حِضْتُ، فدخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، فقال: ما يُبكيك؟ قلت: وَدِدْتُ أني لم أكن خرجتُ العامَ، قال: ارفضي عمرتَك، وانقُضي رأسك، وامتَشِطي ــ قال موسى: وأهلِّي بالحج، وقال سليمان، يعني ابن حرب: واصنعي ما يصنع المسلمون في حجهم، فلما كان ليلة الصَّدَرَ أمر ــ يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ــ عبدَ الرحمن فذهب بها إلى التنعيم. زاد موسى: فأهلَّتْ بعمرة مكان عمرتها، وطافت بالبيت، فقضى الله تعالى عمرتها وحَجَّها ــ قال هشام، يعني ابن عروة: ولم يكن في شيء من ذلك هَديٌ. زاد موسى في حديث حماد بن سلمة: فلما كانت لَيْلَةُ البَطْحَاءِ طَهرت عائشة». وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: والأحاديث الصحيحة صريحة بأنها أهلَّتْ أولًا بعمرة, ثم أمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حاضت أن تُهِلّ بالحجِّ, فصارت قارنة. ولهذا قال لها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «يكفيكِ طوافُكِ بالبيت وبين الصفا والمروة لحجّك وعمرتك» متفق عليه (3) , وهو صريح في ردِّ قول من قال: إنها رفضت إحرام العمرة رأسًا وانتقلت إلى الإفراد, وإنما أُمِرت برفض أعمال العمرة من الطواف والسعي حتى تطهُر, لا برفض إحرامها. _________ (1) «ثم اتفقوا» سقطت من (خ- المختصر). (2) أخرجه أبو داود (1778)، والبخاري (1786)، ومسلم (1211)، والنسائي (2717)، وابن ماجه (3000). وساق المنذري ألفاظًا وروايات أخرى لحديث عائشة - رضي الله عنها - (1704 - 1710). (3) أخرجه مسلم (1211/ 132)، ولم أجده في البخاري. وأخرجه أبو داود (1897)، وأحمد (24932).

(1/287)


وأما قوله: «ولم يكن في شيء من ذلك هديٌ» فهو مُدرَج من كلام هشام, كما بيَّنه وكيعٌ وغيرُه عنه, حيث فَصَل كلامَ عائشة من كلام هشام, وأما ابن نُمَير وعَبْدة فأدرجاه في حديثها ولم يميِّزاه, والذي ميَّزه معه زيادةُ عِلْم, ولم يعارضه غيرُه، فابن نُمَير وعَبْدة لم [ق 56] يقولا: «قالت عائشة: ولم يكن في شيء من ذلك هدي» بل أدرجاه وميَّزَه غيرُهما (1). وأما قول من قال: إنها أحرمت بحجٍّ ثم نوت فسخَه بعمرة, ثم رجعت إلى حجٍّ مفرد, فهو خلاف ما أخبرَتْ به عن نفسها, وخلاف ما دلَّ عليه قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لها: «يسعُك طوافُك لحجِّك وعمرتك» (2)، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إنما أمرها أن تُهِلَّ بالحجِّ لمّا حاضت, كما أخبرت بذلك عن نفسها, وأمرها أن تدعَ العمرةَ وتهِلَّ بالحجِّ. وهذا كان بِسَرِف (3) , قبل أن يأمر أصحابه بفسخ حَجِّهم إلى العمرة, فإنه إنما أمرهم بذلك على المروة. وقوله: إنها أشارت بقولها: «فكنتُ فيمن أهلَّ بعمرة» إلى الوقت الذي نَوَت فيه الفسخ= في غاية الفساد، فإن صريح الحديث يشهد ببطلانه, فإنها قالت: «فكنتُ فيمن أهلَّ بعمرةٍ، فلما كان في بعض الطريق حضت» فهذا صريح في أنها حاضت بعد إهلالها بعمرة. _________ (1) ينظر ما سبق في الحديث السالف (ص 283 - 284). (2) أخرجه مسلم (1211/ 132). (3) سَرِف: بفتح السين وكسر الراء وآخره فاء، وادٍ كبير قريب من مكة على بعد 12 كيلًا، ويسمى الآن «النوارية» وفيه بنى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأم المؤمنين ميمونة، وتوفيت بعد ذلك به، وبه قبرها. ينظر «معجم البلدان»: (3/ 212)، و «معالم مكة التاريخية» (ص 132 - 133) للبلادي. وانظر «صحيح البخاري» (305 و 1788)، ومسلم (1211/ 120).

(1/288)


ومَن تأمَّل أحاديثها علم أنها أحرمت أوّلًا بعمرة, ثم أدْخَلَتْ عليها الحجَّ فصارت قارنة, ثم اعتمرت من التنعيم عمرةً مستقلّة تطييبًا لقلبها. وقد غَلِط في قصة عائشة من قال: إنها كانت مفردة, فإن عمرَتَها من التنعيم هي عمرة الإسلام الواجبة. وغلط مَن قال: إنها كانت متمتِّعة, ثم فسخت المتعةَ إلى إفراد, وكأنّ عمرةَ التنعيم قضاءٌ لتلك العمرة. وغلط مَن قال: إنها كانت قارِنةً, ولم يكن عليها دم ولا صوم, وأن ذلك إنما يجب على المتمتِّع. ومن تأمل أحاديثها علم ذلك, وتبيَّن له أن الصواب ما ذكرنا. والله أعلم. 99/ 1707 - وعنها أنها قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّة الوداع، فأهْلَلْنا بعمرة، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن كان معه هديٌ فَلْيُهِلَّ بالحج مع العمرة، ثم لا يَحِلّ حتى يحلّ منهما جميعًا، فقدمت مكةَ وأنا حائض، فلم أطُف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: انقضي رأسك وامتشطي، وأهلّي بالحجّ ودعي العمرة، قالت: ففعلت، فلما قضينا الحجَّ أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم، فاعتمرت، فقال: هذه مكانَ عمرتك، قالت: فطاف الذين أهلُّوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم حَلُّوا، ثم طافوا طوافًا آخر، بعد أن رجعوا من منًى لحجهم، وأما الذين كانوا جمعوا الحجَّ والعمرةَ، فإنما طافوا طوافًا واحدًا». وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (1). _________ (1) أخرجه أبو داود (1781)، والبخاري (1556)، ومسلم (1211/ 111)، والنسائي (2764). تنبيه: نقل المجرّد عبارة للمنذري وهي: (ولم تتمكن من فعلها للحيض) لم أجدها في «المختصر» المخطوط والمطبوع.

(1/289)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد احتجَّ به ابنُ حزم (1) على أن المُحْرِم لا يحرُم عليه الامتشاط, ولم يأت بتحريمه نصٌّ، وحَمَله الأكثرون على امتشاطٍ رفيقٍ لا يقطع الشعر. ومَن قال: كان بعد جمرة العقبة, فسياق الحديث يبطل قولَه. ومَن قال: هو التمشُّط بالأصابع, فقد أبْعَدَ في التأويل. ومَن قال: إنها أُمِرت بترك العمرة رأسًا, فقوله باطل لما تقدم, فإنها لو تركَتْها رأسًا لكان قضاؤها واجبًا, والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قد أخبرها أنه لا عمرة عليها, وأن طوافها يكفي عنهما. وقوله: «أهلِّي بالحجّ» صريحٌ في أن إحرامها الأول كان بعمرة, كما أخبرَتْ به عن نفسها، وهو يُبطل قولَ مَن قال: كانت مفرِدَةً, فأُمِرَت باستدامة الإفراد. وفي الحديث دليل على تعدُّد السعي على المتمتِّع, فإن قولها: «ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا مِن منى لحجِّهم» تريد به الطواف بين الصفا والمروة، ولهذا نفَتْه عن القارِنِين, ولو كان المراد به الطواف بالبيت لكان الجميع فيه سواء، فإن طواف الإفاضة لا يفترق فيه القارن والمتمتِّع. وقد خالفها جابر في ذلك, ففي «صحيح مسلم» (2) عنه أنه قال: «لم يطف النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافًا واحدًا طوافَه اللأول». _________ (1) في «المحلى»: (7/ 178). (2) (1215/ 140).

(1/290)


وأخَذَ الإمام أحمد بحديث جابرٍ هذا في رواية ابنه عبد الله (1) , والمشهور عنه أنه لا بدّ من طوافَين على حديث عائشة, ولكن هذه اللفظة وهي «فطاف الذين أهلُّوا بالعمرة بالبيت» إلى آخره قد قيل: إنها مدرجة في الحديث من كلام عروة (2). 100/ 1710 - وعنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لما سُقْتُ الهديَ، قال محمد ــ وهو ابن يحيى الذُّهْلي ــ: أحسبه قال: ولحللتُ مع الذين أحلّوا مِن العمرة، قال: أراد أن يكون أمر الناس واحدًا». وأخرجه البخاري بنحوه (3). وليس فيه «أراد أن يكون أمرُ الناسِ واحدًا». قال بعضهم: إنه يدل على أن التمتع أفضل، إذ لا يتمنى - صلى الله عليه وسلم - إلا ما هو أفضل. ويحتمل أن يريد بذلك الفسخ، كما ذكر في هذا الحديث وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ولحللت مع الناس حين حلُّوا» أخرجه البخاري كذلك؛ أراد أن يطيّب قلوبهم بموافقته لهم، وكره ما ظهر منهم من إشفاقهم لمخالفتهم له في الحلّ (4). _________ (1) (2/ 686)، وهي في رواية «إسحاق الكوسج» (5/ 2124)، ورجحها شيخ الإسلام ابن تيمية كما في «مجموع الفتاوى»: (26/ 26، 38 - 39)، و «شرح العمدة»: (4/ 293 - 296 - ط عالم الفوائد». وللروايات الأولى ينظر «التعليقة»: (2/ 63) لأبي يعلى، و «الفروع»: (3/ 516)، و «الإنصاف»: (4/ 44). (2) ينظر «التمهيد»: (19/ 264)، و «مجموع الفتاوى»: (26/ 41)، و «المغني»: (5/ 370). قال ابن عبد البر: «وأما قوله: «انقضي رأسك وامتشطي» فهذا لم يقله أحدٌ عن عائشة غير عروة لا القاسم ولا غيره» وقال: (8/ 217): «هو غلط ووهم لم يُتابِع عروةَ على ذلك أحدٌ من أصحاب عائشة ... ». (3) أخرجه أبو داود (1784)، والبخاري (7229)، ومسلم (1211/ 130). (4) تعليق المنذري ساقط من مطبوعة «المختصر»، وهوفي المخطوط (النسخة البريطانية). ونقل المجرّد طرفه الأخير من قوله: «أراد أن يطيب ... » إلخ وفيه تصرّف يسير عمّا في مخطوطة «المختصر».

(1/291)


قال ابن القيم - رحمه الله -: والصوابُ أن ما أحرم به - صلى الله عليه وسلم -,كان أفضل, وهو القِران, ولكن أخبر أنه لو استقبل مِن أمره ما استدبر لأحرم بعمرة, وكان حينئذٍ موافقةً لهم في المفضول, تأليفًا لهم وتطييبًا لقلوبهم, كما ترك بناءَ الكعبة على قواعد إبراهيم, وإدخال الحِجْر فيها, وإلصاق بابها بالأرض, تأليفًا لقلوب الصحابة الحديثي العهد بالإسلام, خشيةً أن تنفر قلوبُهم. وعلى هذا فيكون الله تعالى قد جمع له الأمرين: النُّسُك الأفضل الذي أحرم به, وموافقته لأصحابه بقوله: «لو استقبلت» فهذا بفعله, وهذا بتبيينه (1) وقوله, وهذا الألْيَق بحاله صلوات الله وسلامه عليه. 101/ 1713 - وعن عطاء بن أبي رَباح قال: حدثني جابر بن عبد الله قال: «أهللنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج خالصًا، لا يُخالطه شيء، فقدمنا مكة لأربع ليالٍ خَلَوْنَ من ذي الحجة، فطُفنا وسعينا، ثم أمرَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن نَحلّ، وقال: لولا هَدْيِي لحللتُ، ثم قام سُراقة بن مالك فقال: يا رسول الله، أرأيتَ مُتْعتَنا هذه، لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بل هي للأبد». وأخرجه البخاريُّ ومسلم والنسائيُّ وابن ماجه (2). _________ (1) كذا في الأصل و (ش، هـ)، وفي ط. الفقي: «بنيته»، ولعلها أقرب؛ لأن تبيينه هو فعله، والنية والقول هو ما يدل عليه قوله: «لو استقبلت ... »، ويؤيده ما في «بدائع الفوائد»: (3/ 1171) للمؤلف وفيه: « ... وعلى هذا فيكون الله تعالى قد اختار له أفضل الأنساك بفعله وأعطاه ما تمناه من موافقة أصحابه وتآلف قلوبهم بنيته ومناه فجمع له بين الأمرين». (2) أخرجه أبو داود (1787)، والبخاري (2505)، ومسلم (1216)، والنسائي في الكبرى (3773)، وابن ماجه (2980).

(1/292)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وعند النسائي (1) عن سُراقة: «تمتَّعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وتمتَّعْنا معه, فقلنا: أَلَنا خاصةً أم للأبد؟ قال: بل للأبد». وهو صريح في أنّ العمرةَ التي فسخوا حجَّهم إليها لم تكن مختصةً بهم، وأنها مشروعة للأمة إلى يوم القيامة. وقول مَن قال: إن المراد به السؤال عن المُتْعة في أشهر الحجّ, لا عن عُمرة الفسخ= باطل من وجوه: أحدها: أنه لم يقع السؤال عن ذلك, ولا في اللفظ ما يدلُّ عليه, وإنما سأله عن تلك العمرة المعينة, التي أُمِروا بالفسخ إليها, ولهذا أشار إليها بعينها, فقال: «مُتْعتنا هذه» ولم يقل: العمرة في أشهر الحج. الثاني: أنه لو قُدِّر أن السائل أراد ذلك, فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أطلقَ الجوابَ بأن تلك العمرة مشروعة إلى الأبد, ومعلومٌ أنها مشتملة على وصفين: كونها عمرة, فُسِخ الحجُّ إليها, وكونها في أشهر الحجّ. فلو كان المراد أحد الأمرين, وهو كونها في أشهر الحج, لبينه للسائل، لا سيما إذا كان الفسخُ حرامًا باطلًا, فكيف يُطلِق الجوابَ عما يجوز ويُشرع وما لا يحلّ ولا يصح إطلاقًا واحدًا؟ هذا مما يُنَزَّه عنه آحادُ أُمَّته - صلى الله عليه وسلم - فضلًا عنه - صلى الله عليه وسلم -. ومعلومٌ أنّ مَن سُئل عن [ق 57] أمر يشتمل على جائز ومحرَّم, وجبَ عليه أن يبين للسائل جائِزَه من حرامِه، ولا يطلقُ الجوازَ والمشروعية عليه إطلاقًا واحدًا. الثالث: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد اعتمر قبل ذلك ثلاثَ عُمَر كلّهن في أشهر _________ (1) (2807)، وفي «الكبرى» (3775)، والطبراني في «الكبير» (7/ 136) من طريق عطاء بن أبي رباح عن سراقة به، قال ابن حجر في «التهذيب»: (3/ 456): وروايته عنه منقطعة.

(1/293)


الحج (1) , وقد علم ذلك الخاصُّ والعامُّ, أفما كان في ذلك ما يدلُّ على جواز العمرة في أشهر الحج؟! الرابع: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لهم عند إحرامهم: «من شاء أن يُهِلَّ بعمرة فليهلّ» وفي هذا أعظم البيان لجواز العمرة في أشهر الحج. الخامس: أنه خصَّ بذلك الفسخَ مَن لم يكن معه هَدْي، وأما مَن كان معه هدي فأَمَرَه بالبقاء على إحرامه وأن لا يفسخ, فلو كان المراد ما ذكروه لعمَّ الجميعَ بالفسخ، ولم يكن للهدي أثرٌ أصلًا, فإن سبب الفسخ عندهم الإعلام المجرَّد بالجواز, وهذا الإعلام لا تأثير للهدي في المنع منه. السادس: أن طُرق الإعلام بجواز الاعتمار في أشهر الحج أظْهَر وأَبْيَن قولًا وفعلًا من الفسخ, فكيف يَعْدِل - صلى الله عليه وسلم - عن الإعلام بأقرب الطرق وأبينها وأسهلها وأدلّها, إلى الفسخ الذي ليس بظاهر فيما ذكروه من الإعلام؟ والخروج من نُسُك إلى نُسُك وتعريضهم لمشقّة (2) ذلك عليهم لمجرَّد الإعلام الممكن الحصول بأقرب الطرق (3)؟ وقد بيَّن - صلى الله عليه وسلم - ذلك غايةَ البيان بقوله وفعله, فلم يُحِلْهم بالإعلام على الفسخ. السابع: أنه لو فُرِض أن الفسخ للإعلام المذكور, كان ذلك دليلًا على دوام مشروعيته إلى يوم القيامة, فإنّ ما شُرِع في المناسك لمخالفة _________ (1) ثبت ذلك من حديث أنس عند البخاري (1778) وغيره، وعن ابن عباس عند أحمد (2211) وابن حبان (3946)، وعائشة عند مسلم (1255/ 219 - 220). (2) ط. الفقي: «وتعويضهم بسعة»! (3) الأصل و (ش): «بالطرق» والصواب ما أثبت.

(1/294)


المشركين مشروع أبدًا, كالوقوف بعرفة لقريش (1) وغيرهم, والدفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس. الثامن: أن هذا الفسخ وقع في آخر حياة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولم يجئ عنه كلمة قطُّ تدلّ على نسخِه وإبطاله, ولم تُجمع الأمة بعده على ذلك, بل منهم مَن يوجبه, كقول حَبْر الأمة وعالمها عبدِ الله بن عباس ومن وافقه, وقول إسحاق, وهو قول الظاهرية وغيرهم (2). ومنهم مَن يستحبُّه ويراه سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كقول إمام السنة (3) أحمد بن حنبل, وقد قال له سَلَمة بن شبيب: يا أبا عبد الله كلّ شيء منك حَسَن إلا خصلة واحدة, تقول بفَسْخ الحجِّ إلى العمرة؟! فقال: يا سلمة، كان يبلغني عنك أنك أحمق, وكنت أدافع عنك, والآن علمتُ أنَّك أحمق! عندي في ذلك بضعة عشر حديثًا صحيحًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, أدعُها لقولك (4)؟ _________ (1) الأصل و (ش): «لقُرَيشِهم» كذا! (2) قول ابن عباس ذكره البخاري (4396) ومسلم (1245)، وقول إسحاق ذكره ابن حزم في «المحلى»: (7/ 101)، لكن في «مسائل الكوسج لأحمد وإسحاق» (1402 و 1578) اختار أنه إن ساق الهدي فالقِران أفضل، فإن لم يسق فالتمتّع. وحكاه ابن المنذر كما في «الإشراف»: (3/ 198)، وعنه العراقي في «طرح التثريب»: (5/ 26)، وذكره ابن عبد البر في «الاستذكار»: (11/ 134)، وابن تيمية في «الفتاوى»: (26/ 62)، والحافظ في «الفتح»: (3/ 429). ولقول الظاهرية ينظر «حجة الوداع» (ص 359) لابن حزم. (3) في ط. الفقي: «أهل السنة» خلاف الأصل. (4) ذكر القصة في «المغني»: (5/ 253)، وذكره شيخ الإسلام في «المنهاج»: (4/ 152) وغيره.

(1/295)


وهو قول الحسن وعطاء ومجاهد وعُبيد الله بن الحسن، وكثير من أهل الحديث, أو أكثرهم (1). التاسع: أن هذا موافق لحجِّ خيرِ الأمة وأفضلها, مع خير الخلق وأفضلهم, فإنه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالفسخ إلى المُتْعة, وهو لا يختار لهم إلا الأفضل, فكيف يكون ما اختاره لهم هو المفضول المنقوص, بل الباطل الذي لا يسوغ لأحدٍ أن يقتدي بهم فيه؟ العاشر: أن الصحابة - رضي الله عنهم - إذا لم يكتفوا بعمل العمرة معه ثلاثة أعوام في أشهر الحج، وبقوله لهم عند الإحرام: «مَن شاء أن يُهلَّ بعمرة فليهلّ» على جواز العمرة في أشهر الحج, فهم أحرى أن لا يكتفوا بالأمر بالفسخ في العلم بجواز العمرة في أشهر الحجّ, فإنه إذا لم يحصل لهم العلم بالجواز بقوله وفعله, فكيف يحصل بأمره لهم بالفسخ؟ الحادي عشر: أن ابن عباس الذي روى أنهم كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور, وأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرهم لما قدموا بالفسخ، هو كان يرى وجوبَ الفسخِ ولا بدّ (2) , بل كان يقول: «كلُّ مَن طاف بالبيتِ فقد حَلَّ من إحرامه ما لم يكن معه هدي» (3). وابنُ عباس أعلم بذلك, فلو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمرهم بالفسخ للإعلام بجواز العمرة, لم يَخْفَ ذلك على ابن عباس, ولم يقل: «إن كلَّ مَن طاف بالبيت مِن قارنٍ أو حجَّ (4) لا هدْيَ معه فقد حَلَّ». _________ (1) ينظر «جامع الترمذي»: (3/ 176 - 177)، و «المغني»: (5/ 82). (2) أخرجه البخاري (1564)، ومسلم (1240/ 198). (3) أخرجه البخاري (4396)، ومسلم (1244/ 206). (4) كذا في الأصل و (ش)، وفي المطبوعات «حاج».

(1/296)


الثاني عشر: أنه لا يُظنّ بالصحابة الذين هم أصحُّ الناس أذهانًا وأفهامًا, وأَطْوَعهم لله ولرسوله= أنهم لم يفهموا جواز العمرة في أشهر الحج, وقد عملوها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أعوام, وأذن لهم فيها, ثم فهموا ذلك من الأمر بالفسخ. الثالث عشر: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إما أن يكون أمرهم بالفسخ لأن التمتُّع أفضل, فأمرهم بالفسخ إلى أفضل الأنساك, أو يكون أمرهم به ليكون نُسُكهم مخالفًا للمشركين في التمتُّع في أشهر الحج, وعلى التقديرَين, فهو مشروع غير منسوخ إلى الأبد. أما الأول فظاهر, وأما الثاني فلأن الشريعة قد استقرَّت ــ ولا سيما في المناسك ــ على قَصْد مخالفة المشركين, فالنُّسُك المشتمل على مخالفتهم أفضل بلا ريب, وهذا واضح. الرابع عشر: أن السائل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «عمرتنا هذه لعامنا أم للأبد؟» (1) لم يُرِد به أنها هل تُجزئ عن تلك السَّنَة فقط, أو عن العمر كلّه؟ فإنه لو كان مراده ذلك لسأل عن الحجِّ الذي هو فرض الإسلام, ومن المعلوم أن العمرة إن كانت واجبةً لم تجب في العُمُر إلا مرةً واحدةً. ولأنه لو أراد ذلك لم يقل له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بل لأبد الأبد» فإن أبدَ الأبدِ إنما يكون في حقِّ الأمة قومًا بعد قوم (2) إلى يوم القيامة, و «أبد (3) الأبد» لا يكون في حقِّ طائفة معينة, _________ (1) هذا نفسه حديث الباب السالف، وهذا لفظ النسائي في «المجتبى» (2805) وفي الكبرى (3773)، وأحمد (14116). (2) في النسخ المخطوطة والمطبوعات: «قومًا يعرفون»! ولعل الصواب ما أثبت بدليل السياق واحتمال الرسم لها. (3) ط. الفقي: «وأن الأبد» خلاف الأصل.

(1/297)


بل هو لجميع الأمة. ولأنه قال [ق 58] في رواية النسائي (1): «أَلَنا خاصة أم للأبد؟» فدلَّ على أنهم إنما سألوه: هل يسوغ فِعْلها بعدك على هذا الوجه؟ فأجابهم بأن فِعْلها كذلك سائغ أبَدَ الأبَد. وفي رواية للبخاري (2): «أن سُراقة بن مالك لقي النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: ألكم هذه خاصة يا رسول الله؟ قال: «بل للأبد». الخامس عشر: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم في تلك الحَجَّة أن كلّ مَن طاف بالبيت فقد حلَّ إلا مَن كان معه الهَدْي, ففي «السنن» (3) من حديث الرّبِيع بن سَبْرة، عن أبيه قال: «خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بعُسْفان قال له سُرَاقة بن مالك المُدْلجيّ: يا رسول الله اقضِ لنا قضاءَ قومٍ كأنما ولدوا اليوم؟ فقال: «إن الله عز وجل قد أدخل عليكم في حجكم هذا عمرةً, فإذا قدمتم فمن تَطَوَّف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حلّ, إلا مَن كان معه هَدْي» , وسيأتي الحديث. فهذا نصٌّ في انفساخه شاء أم أبى, كما قال ابن عباس وإسحاق ومَن وافقهما. وقوله: «اقض لنا قضاءَ قومٍ كأنما ولدوا اليوم» يريد قضاء لازمًا لا يتغير ولا يتبدَّل، بل نتمسك به من يومنا هذا إلى آخر العمر. السادس عشر: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما سُئل عن تلك العمرة التي فسخوا إليها الحجَّ وتمتّعوا بها ابتداءً فقال: «دخلت العمرةُ في الحجِّ إلى يوم القيامة» _________ (1) (2807) وقد تقدم الكلام عليه (ص 293). (2) (1785). (3) أخرجه أبو داود (1801)، وأحمد (15345)، والدارمي (1857) وغيرهم بإسناد صحيح.

(1/298)


كان هذا تصريحًا منه بأن هذا الحكم ثابت أبدًا, لا ينسخ إلى يوم القيامة, ومَن جعله منسوخًا فهذا النصّ يردُّ قولَه. وحَمْله على العمرة المبتدأة التي لم يُفْسَخ الحجُّ إليها باطل, فإنّ عمرة (1) الفسخ سبب (2) الحديث فهي مرادة منه نصًّا, وما عداها ظاهرًا. وإخراجُ محلِّ السبب وتخصيصُه من اللفظ العامِّ لا يجوز, فالتخصيص وإن تطرَّق إلى العموم فلا يتطرَّق إلى محلِّ السبب. وهذا باطل. السابع عشر: أن متعةَ الفسخ لو كانت منسوخةً لكان ذلك من المعلوم عند الصحابة ضرورةً، كما كان من المعلوم عندهم نسخ الكلام في الصلاة, ونسخ القبلة, ونسخ تحريم الطعام والشراب على الصائم بعد ما ينام, بل كان بمنزلة الوقوف بعرفة والدفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس, فإنَّ هذا من أمور المناسك الظاهرة المشترك فيها أهل الإسلام, فكان نسخه لا يخفى على أحد. وقد كان ابن عباس إذا سألوه عن فتياه بها يقول: «سنة نبيكم, وإن رَغِمْتُم» (3) فلا يراجعونه. فكيف تكون منسوخةً عندهم وابن عباس يخبرهم (4) أنها سنة نبيهم، ويفتي بها الخاصَّ والعامَّ, وهم يُقرِّونه على ذلك؟ هذا من أبطل الباطل. الثامن عشر (5): أن الفسخَ قد رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعةَ عشر من _________ (1) ط. الفقي: «عمدة» تصحيف. (2) رسمها في الأصل: «بسبب» والظاهر ما أثبت. (3) أخرجه مسلم (1244/ 206)، وأحمد (2513). (4) ط. الفقي: «يخبر». (5) هذا السرد لرواة الحديث مستفاد من كتاب «حجة الوداع» (ص 389) لابن حزم.

(1/299)


الصحابة, وهم: عائشة, وحفصة, وعليّ, وفاطمة, وأسماء بنت أبي بكر, وجابر, وأبو سعيد, وأنس, وأبو موسى, [وابن عمر] (1)، والبراء, وابن عباس, وسُراقة, وسَبْرة. ورواه عن عائشة: الأسودُ بن يزيد, والقاسم, وعُروة، وعَمْرة, وذَكوان مولاها. ورواه عن جابر: عطاء, ومجاهد, ومحمد بن علي, وأبو الزبير. ورواه عن أسماء: صفية، ومجاهد. ورواه عن أبي سعيد: أبو نضرة. ورواه عن البراء: أبو إسحاق. ورواه عن ابن عمر: سالمٌ ابنُه, وبكر بن عبد الله. ورواه عن أنس: أبو قِلابة. ورواه عن أبي موسى: طارقُ بن شهاب. ورواه عن ابن عباس: طاوس, وعطاء، وأنس بن سُلَيم (2)، وجابر بن _________ (1) سقط من الأصل، وهو مستدرك من «حجة الوداع» لابن حزم، وسيذكره المؤلف بعد قليل عند سرد مَن روى عنه الحديث من التابعين. (2) في الأصل و (ش، هـ): «أنس بن سيرين» خطأ، وسيأتي على الصواب بعد قليل عند المؤلف، وروايته أخرجها الطبراني في «الكبير»: (12/ 213)، وابن حزم في «حجة الوداع» (ص 343).

(1/300)


زيد, ومجاهد, وكُرَيب, وأبو العالية, ومسلم القُرّي (1) , وأبو حسّان الأعرج. ورواه عن سَبْرة: ابنُه (2). فصار نَقْلَ كافةٍ عن كافة، يوجِب العلمَ, ومثل هذا لا يجوز دعوى نسخه إلا بما يترجَّح عليه أو يقاومه. فكيف يسوغ دعوى نسخه بأحاديث لا تقاومه ولا تدانيه ولا تقاربه, وإنما هي بين مجهولٍ رواتُها, أو ضعفاء لا تقوم بهم حُجّة؟ وما صحَّ فيها فهو رأيُ صاحِبٍ, قاله بظنه واجتهاده, وهو أصح ما فيها, وهو قول أبي ذر: «كانت المتعة لنا خاصة» (3) , وما عداه فليس بشيء, وقد كفانا رواتُه مؤنتَه. فلو كان ما قاله أبو ذر رواية صحيحة ثابتة مرفوعة لكان نسخ هذه الأحاديث المتواترة به ممتنعًا, فكيف وإنما هو قوله؟! ومع هذا فقد خالفه فيه عشرةٌ من الصحابة كابن عباس, وأبي موسى الأشعري (4) , وغيرهما؟! التاسع عشر: أن الفسخ موافقٌ للنصوص والقياس. أما موافقته للنصوص فلا ريب فيه كما تقدم. وأما موافقته للقياس: فإن المحرم إذا التزم أكثر مما كان التزمه جاز بالاتفاق, فلو أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحجَّ _________ (1) في الأصل و (هـ، ش): «القرشي» تصحيف، ورواية القُرّي في «صحيح مسلم» (1238/ 194) و «سنن أبي داود» (1803) والتصحيح منها، ومن «حجة الوداع» (ص 386) لابن حزم. (2) وبقي حديث: سراقة فرواه عنه طاووس. وقد سقط سهوًا من المؤلف أو الناسخ، وهو في كتاب «حجة الوداع» (ص 389) لابن حزم. (3) أخرجه مسلم (1224/ 163). (4) أخرجه البخاري (1724)، ومسلم (1221/ 154).

(1/301)


جاز اتفاقًا, وعكسه لا يجوز عند الأكثرين، وأبو حنيفة يجوِّزه على أصله, في أن القارِن يطوف طوافين ويسعى سعيين (1) , فإذا أدخلَ العمرةَ على الحجِّ جاز عنده, لالتزامه طوافًا ثانيًا وسعيًا, وإذا كان كذلك فالمُحْرِم بالحجِّ لم يلتزم إلا الحجّ، فإذا صار متمتِّعًا صار ملتزمًا لعمرة وحجّ، فكان ما التزمه بالفسخ أكثر مما كان عليه, فجاز ذلك بل استُحِبّ له لأنه أفضل وأكثر مما التزمه أولًا. وإنما يتوهّم الإشكال مَن يتوهم أنه فَسْخ حجٍّ إلى عمرة, وليس كذلك, فإنه لو أراد أن يفسخ الحجَّ إلى عمرة مفردة، لم يجز عند أحدٍ, وإنما يجوز الفسخ لمن نيّتُه أن يحجَّ بعد متعته من عامه, والمتمتع من حين يحرم بالعمرة دخَلَ في الحج, كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «دخلت العمرةُ في الحج» (2). [ق 59] فهذه المتعةُ التي فُسِخ إليها هي جزءٌ من الحجِّ, ليست عمرةً مفردةً, وهي من الحجِّ بمنزلة الوضوء من غُسل الجنابة، فهي عبادة واحدة قد تخللها الرخصة بالإحلال, وهذا لا يمنع أن تكون واحدة, كطواف الإفاضة, فإنه من تمام الحج, ولا يُفْعَل إلا بعد التحلل الأول, وكذلك رَمْي الجمار أيام منى من تمام الحج, وهو يُفْعَل بعد التحلل التام. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من حَجَّ هذا البيت فلم يرفُثْ ولم يَفْسُق» (3) يتناول من حجّ حجةً تمتّعَ فيها بالعمرة, وإن تحلل من إحرامه ولم تكن حجته مكية, إذ لا ينقلهم الرؤوف الرحيم بهم من الفاضل الراجح إلى المفضول _________ (1) ينظر لمذهبه «بدائع الصنائع»: (2/ 149)، و «الهداية»: (1/ 386 - 387). (2) تقدم تخريجه. (3) أخرجه البخاري (1521)، ومسلم (1350) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

(1/302)


الناقص، بل إنما نقَلَهم من المفضول إلى الفاضل الكامل, لا يجوز غير هذا البتة. العشرون: أن القياس أنه إذا اجتمعت عبادتان, كبرى وصغرى، فالسنة تقديم الصغرى على الكبرى منهما, ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبدأ في غسل الجنابة بالوضوء أولًا, ثم يُتبِعُه الغسل, وقال في غسل ابنته: «ابدَأْنَ بميامنها, ومواضع الوضوء منها» (1). ففَسْخ الحجِّ إلى العمرة يتضمَّن موافقةَ هذه السنة. فقد تبيَّن أنه موافق للنصوص والقياس, ولحجِّ خيار الأمة مع نبيها - صلى الله عليه وسلم -. ولو لم يكن فيه نصٌّ لكان القياس يدلُّ على جوازه من الوجوه التي ذكرنا وغيرها, ولو تتبعنا أدلة جوازه لطالت. وفي هذا كفاية والحمد لله. 102/ 1714 - وعنه قال: قَدِم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه لأربعِ ليالٍ خَلَوْنَ من ذي الحجّة، فلما طافوا بالبيت وبالصفا والمروة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اجعلوها عمرةً، إلَّا مَنْ كان معه الهدي، فلما كان يومُ التَّروية أَهَلُّوا بالحجِّ، فلما كان يوم النحر، قدموا فطافوا بالبيت، ولم يطَّوّفوا بين الصفا والمروة». وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (2)، بنحوه مختصرًا ومطولًا. قال ابن القيم - رحمه الله -: وفيه اكتفاء المتمتِّع بسعي واحد, كما تقدم. والله أعلم. _________ (1) أخرجه البخاري (167)، ومسلم (939) من حديث أم عطية - رضي الله عنها -. (2) أخرجه أبو داود (1788)، والبخاري (1568)، ومسلم (1216)، والنسائي (3971)، وابن ماجه (2972).

(1/303)


103/ 1716 - وعن مجاهد، عن ابن عباس (1)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «هذه عمرة اسْتَمْتَعْنا بها، فمن لم يكن عنده هدي فليُحِلَّ الحِلَّ كلَّه، وقد دخلت العمرةُ في الحجّ إلى يوم القيامة». وأخرجه مسلم والنسائي (2). وقال أبو داود: هذا منكر، إنما هو قول ابن عباس (3). وفيما قاله أبو داود نظر؛ وذلك أنه قد رواه الإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن المثنَّى ومحمد بن بشار وعثمان بن أبي شيبة، عن محمد بن جعفر، عن شُعبة مرفوعًا. ورواه أيضًا يزيد بن هارون ومعاذ بن معاذ العَنْبري وأبو داود الطيالسي وعَمْرو بن مرزوق، عن شعبة مرفوعًا. وتقصير من يقصِّر به من الرواة لا يؤثِّر فيما أثبته الحُفَّاظ. والله عز وجل أعلم. 104/ 1717 - وعن عطاءٍ، عن ابن عباس، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أهلَّ الرجلُ بالحجِّ، ثم قدم مكةَ فطافَ بالبيت وبالصفا والمروة، فقد حلَّ، وهي عمرة» (4). _________ (1) «عن ابن عباس» سقطت من (خ- المختصر). (2) أخرجه أبو داود (1790)، ومسلم (1241)، والنسائي في «الكبرى» (3681). وأخرجه الترمذي أيضًا (950) مختصرًا. (3) سيأتي قول المؤلف أن كلام أبي داود على الحديث الآتي عن عطاء عن ابن عباس، وأن الأمر انقلب على الناسخ فكتبه على هذا الحديث، ولم يتنبه لذلك المنذري فنقله كذلك وعلّق عليه. (4) أخرجه أبو داود (1791)، وأخرجه أحمد (2223) من طريق آخر عن عطاء، وفي إسناده عبد الله بن ميمون الرقي شيخ أحمد لم يوثَّق، وكان أحمد ينتقي شيوخَه ولا يروي إلا عن ثقة. وبحسب كلام المؤلف فإن قول أبي داود «هذا منكر»، إنما عَنَى قول ابن عباس في هذا الحديث.

(1/304)


في إسناده النَّهاسُ بن قَهْم أبو الخطَّاب البصري، ولا يحتَجُّ بحديثه. قال أبو داود: رواه ابن جُريج، [عن رجل] (1)، عن عطاء قال: «دخل أصحابُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُهِلِّين بالحجِّ خالصًا، فجعلها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عُمرة». قال ابن القيم - رحمه الله -: والتعليل الذي تقدَّم لأبي داود في قوله: «هذا حديث منكر» إنما هو لحديث عطاءٍ هذا, عن ابن عباس يرفعه: «إذا أهلَّ الرجلُ بالحجِّ» فإنّ هذا قول ابن عباس الثابت عنه بلا ريب, رواه عنه أبو الشعثاء وعطاء وأنس بن سُليم وغيرهم من كلامه, فانقلب على الناسخ, فنقله إلى حديث مجاهدٍ عن ابن عباس, وهو إلى جانبه, وهو حديث صحيح لا مَطْعَن فيه ولا علة, ولا يعلِّلُ أبو داود مثلَه, ولا من هو دون أبي داود, وقد اتفق الأئمة الأثبات على رَفْعه, والمنذريُّ - رحمه الله - رأى ذلك في «السنن» , فنقله كما وجده, والأمر كما ذكرناه. والله أعلم. وقوله (2): «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» لا ريب في أنه من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقل أحدٌ إنه من قول ابن عباس, وكذلك قوله: «هذه عمرة استمتعنا بها» , وهذا لا يشكُّ فيه مَن له أدنى خبرة بالحديث. والله أعلم. 105/ 1719 - وعن سعيد بن المسيَّب: «أن رجلًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى عمرَ بنَ الخطاب - رضي الله عنه -، فشهد عنده أنه سمعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه _________ (1) سقطت من «مختصر السنن»، والاستدراك من «السنن». (2) يعني في حديث مجاهد عن ابن عباس.

(1/305)


الذي قُبِضَ فيه ينهى عن العمرة قبل الحج» (1). سعيد بن المسيّب لم يصح سماعُه من عمر بن الخطاب. وقال أبو سليمان الخطابي (2): في إسناد هذا الحديث مقال، وقد اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرتين قبل حَجِّه، [والأمر الثابت المعلوم لا يُترك بالأمر المظنون] وجواز ذلك إجماعٌ من أهل العلم، ولم يذكر فيه خلاف. وقد يحتمل أن يكون النهي [عنه اختيارًا أو] استحبابًا، وأنه إنما أمر بتقديم الحج لأنه أعظم الأمرين [وأهمهما] ووقته محصور [والعمرة ليس لها وقت موقوت]، وأيّام السنة كلّها تتسع للعمرة، وقد قدّم الله تعالى اسم الحجّ عليها فقال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (3) [البقرة: 196]. قال ابن القيم - رحمه الله -: وهذا الحديث باطل, ولا يحتاج تعليله إلى عدم سماع ابن المسيّب من عُمر, فإن ابن المسيّب إذا قال: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» فهو حجة. قال الإمام أحمد: إذا لم يُقْبَل سعيد بن المسيب عن عمر, فمَن يُقبل (4)؟ وقال أبو محمد بن حزم (5): «هذا حديث في غاية الوهي والسقوط, _________ (1) أخرجه أبو داود (1793)، ومن طريقه البيهقي: (5/ 19). (2) في «معالم السنن»: (2/ 390 بهامش أبي داود). (3) من قوله: «وقد يحتمل ... » إلى هنا، سقط من مطبوعة «مختصر المنذري»: (2/ 317) وقد نقل المجرِّد طرفًا منها، والاستدراك من المخطوط (ق 50 ب)، ومن «معالم السنن»: (2/ 390 بهامش أبي داود) وما بين المعكوفات منه. (4) ينظر «الجرح والتعديل»: (4/ 61)، وسيأتي (3/ 384 - 385) كلام المؤلف بتوسُّع حول حجيّة رواية سعيد عن عمر. (5) في «حجة الوداع» (ص 484).

(1/306)


لأنه مرسل عمن لم يُسمّ, وفيه أيضًا ثلاثة مجهولون: أبو عيسى الخراساني, وعبد الله بن القاسم, وأبوه, ففيه خمسة عيوب ... وهو ساقط لا يَحتجّ به مَن له أدنى علم». وقال عبد الحق (1): هذا منقطع ضعيف الإسناد (2). 106/ 1720 - وعن أبي شيخ الهُنائي (3) ــ حَيْوان بن خَلْدة ــ ممن قرأ على أبي موسى الأشعري من أهل البصرة: أن معاوية بن أبي سفيان قال لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كذا وكذا، وركوب جلود النمور؟ قالوا: نعم، قال: فتعلمون أنه نهى أن يُقْرَن بين الحج والعمرة؟ فقالوا: أما هذا فلا، قال: أمّا إنها معهن، ولكنكم نسيتم». وأخرجه النسائي مختصرًا (4). وقد اخْتُلِف في هذا الحديث اختلافًا كثيرًا، فرُويَ (5) كما ذكرناه؛ ورُوِي عن أبي شيخ، عن أخيه حِمَّان، ويقال: أبو حمان، عن معاوية. ورُوي عن بَيْهس بن فَهْدان، عن أبي شيخ، عن عبد الله بن عُمر. وعن بَيْهَس، عن أبي شيخ، عن معاوية. _________ (1) «الأحكام الوسطى»: (2/ 316). (2) ينظر «بيان الوهم»: (2/ 410، 594 و 3/ 450) لابن القطان. (3) «الهُنائي» من مطبوعة «المختصر». (4) أخرجه أبو داود (1794)، والنسائي (2734) مختصرًا، وأحمد (16833) وغيرهم. (5) سقطت من مطبوعة «المختصر».

(1/307)


وقد اختلف على يحيى بن أبي كثير فيه. فروي عنه عن أبي شيخ (1)، عن أخيه. ورُوِي عنه عن أبي إسحاق عن حِمّان. ورُوِي عنه حدّثني حُمرَان، من غير واسطة. وسماه حمران. وقال الخطابي (2): جواز القِرَان بين الحج والعمرة إجماع من الأمة، ولا يجوز أن يتفقوا على جواز شيءٍ منهيٍّ عنه. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال عبد الحق (3): لم يسمع أبو شيخ من معاويَة هذا الحديث, وإنما سمع منه النهيَ عن ركوب جلود النمور, فأما النهي عن القِران فسمعه من أبي حسان عن معاوية. ومرَّةً يقول: عن أخيه حِمّان, ومرّةً يقول: جمّاز (4) وهم مجهولون. وقال ابن القطان (5): يرويه عن أبي شيخ رجلان: قتادةُ ومطر، فلا يجعلان بين أبي شيخ وبين معاوية أحدًا, ورواه عنه بيهس بن فهدان, فذَكَر سماعَه من معاوية لفظ النهي عن ركوب جلود النمور خاصة. قال النسائي (6): ورواه عن أبي شيخ: يحيى بن أبي كثير, فأَدْخَل بينه وبين معاوية رجلًا اختلفوا في ضبطه، فقيل: أبو حمان, وقيل: [جماز، _________ (1) من قوله: «عن معاوية ... » إلى هنا سقط من مخطوطة «المختصر»، وهو انتقال نظر. (2) في «معالم السنن»: (2/ 390 بهامش السنن). (3) في «الأحكام الوسطى»: (2/ 273). (4) في ط. الفقي: «جمان»! (5) في «بيان الوهم والإيهام»: (2/ 417). (6) ينظر «سنن النسائي الكبرى» (9391 - 9396).

(1/308)


وقيل:] (1) حمان, وهو أخو أبي شيخ. وقال الدارقطني (2): القول قول مَن لم يُدخل بين أبي شيخ ومعاوية فيه أحدًا, يعني: قتادة ومطرًا وبيهس بن فهدان (3). وقال غيره: أبو شيخ هذا لم نعلم عدالتَه وحفظَه, ولو كان حافظًا, لكان حديثه هذا معلوم البطلان, إذ هو خلاف المتواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِن فِعْله وقوله, فإنه أحرم قارنًا, رواه عنه ستة عشر نفسًا من أصحابه, وخَيّر أصحابَه بين القِران والإفراد والتمتع, وأجمعت الأمةُ على جوازه. ولو فُرِض صحّة هذا عن معاوية, فقد أنكر الصحابةُ عليه أن يكونَ [ق 60] رسولُ الله نهى عنه, فلعله - رضي الله عنه - وهم, أو اشتبه عليه - رضي الله عنه - نهيُه عن مُتعة النساء بمتعة الحجّ, كما اشتبه على غيره. والقِران داخلٌ عندهم في اسم المتعة. وكما اشتبه عليه تقصيرُه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض عُمَره, بأن ذلك في حجَّته (4). وكما اشتبه على ابن عباس نكاح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لميمونة, فظن أنه نَكَحها محرِمًا (5) , وكان قد أرسل أبا رافع إليها, ونَكَحها وهو حلال (6) _________ (1) من «بيان الوهم» وهي مقتضى الخلاف الذي ذكره النسائي في «سننه». (2) ينظر «العلل»: (7/ 73). (3) هنا ينتهي كلام ابن القطان. وتصحف «مطر» في ط. الفقي إلى «مطرف» في الموضعين. (4) أخرجه النسائي (2989)، وفي «الكبرى» (3969). (5) أخرجه البخاري (1837)، ومسلم (1410/ 46). (6) ثبت ذلك من حديثها عند مسلم (1411/ 48). وحديث أبي رافع أخرجه الترمذي (841)، وقال: حديث حسن. وأخرجه أحمد (27197).

(1/309)


فاشتبه الأمرُ على ابن عباس. وهذا كثير. ووقع في بعض نسخ «سنن أبي داود» (1): «نهى أن يُفرّق بين الحج والعمرة» بالفاء والقاف. قال ابن حزم (2): «هكذا روايتي عن عبد الله بن ربيع, وهكذا في كتابه, وهو ــ والله أعلم ــ وهم, والمحفوظ: «يُقْرَن» في هذا الحديث». تم كلامه. وقد رواه النسائي في «سننه» (3) قال: حدثنا أبو داود، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا شَرِيك عن أبي فروة (4)، عن الحسن قال: «خطبَ معاويةُ الناسَ, فقال: إني مُحدِّثكم بحديث سمعتُه مِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[فما سمعتم منه] فصدِّقوني, سمعتُ رسولَ الله يقول: «لا تلبسوا الذهبَ إلا مُقطّعًا» , قالوا: سمعنا, قال: وسمعتُه يقول: «من ركب النمور (5) لم تصحبه _________ (1) راجعت أكثر من نسخة خطية كنسخة الخطيب المقروءة على ابن طبرزد (113 ب)، ونسخة فيض الله (ج 2 ق 55) المقروءة على المنذري، وعدة مطبوعات، ولم أجد هذه الرواية. (2) في «حجة الوداع» (ص 483 - 484). (3) في «الكبرى» (9738) وما بين المعقوفين منه. (4) وقع في الأصل و (ش، هـ): «شريك بن أبي فروة» تصحيف، وصوابه ما أثبتنا من «سنن النسائي». وكان قد علق الشيخ أحمد شاكر على هذا الموضع من ط. الفقي بأن استظهر أن يكون صوابه: «شريك عن قرة عن الحسن» واستشكاله في محله، لكن اقتراحه لم يكن صوابًا. وانظر «تحفة الأشراف»: (8/ 435). (5) كذا في الأصل و (ش، هـ) والنسائي: «النمور»، ووقع في المطبوعات: «جلود النمور»، وإنما هو كذلك في رواية أخرى لحديث معاوية عند النسائي (9730)، وأبي داود (1794)، وأحمد (16864).

(1/310)


الملائكة» , قالوا: سمعنا, قال: وسمعتُه ينهى عن المُتْعَة, قالوا: لم نسمع. فقال: بلى, وإلا فصُمّتا». فهذا أصحُّ من حديث أبي شيخ، وإنما فيه النهي عن المتعة, وهي ــ والله أعلم ــ متعة النساء, فظنَّ مَن ظنَّ أنها متعة الحجِّ, والقِران متعة, فرواه بالمعنى, فأخطأ خطأً فاحشًا. وعلى كلِّ حال فليس أبو شيخ مما يُعارَض به كبار الصحابة الذين رووا القِران عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإخباره أن العمرة دخلت في الحج إلى يوم القيامة, وأجمعت الأمةُ عليه. والله أعلم.

  6 - بابٌ في القِرَان (1)

قال ابن القيم - رحمه الله -: ومَنْ تأمل الأحاديثَ الواردةَ في هذا الباب حقَّ التأمُّل جَزَم جزمًا لا ريب فيه: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أحرم في حجَّته قارنًا, ولا تحتمل الأحاديثُ غير ذلك بوجهٍ من الوجوه أصلًا. قال الإمام أحمد: لا أشكُّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قارنًا. تم كلامه (2). وقد روى عنه ذلك خمسة عشر (3) من أصحابه, وهم: عمر بن _________ (1) ذكر المنذري أحدَ عشر حديثًا في باب القران (1721 - 1731) ولم يذكر المجرِّد أي حديث علق عليه المؤلف، وإنما قال: «وقال في باب القران» وساق كلامه. (2) نقله شيخ الإسلام كما في «الفتاوى»: (26/ 34)، و «الاختيارات» (ص 173). (3) كذا، والذين ذكرهم اثنا عشر، وكذا ذكر ابن حزم في «حجة الوداع» (ص 421) أنهم اثنا عشر، وقد ذكر غير واحدٍ أيضًا فيهم سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمرو. وذكر المؤلف في «زاد المعاد»: (2/ 102 - 111) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج قارنًا لبضعةٍ وعشرين حديثًا صحيحة صريحة في ذلك، وسرَدها ... ثم قال: «وهؤلاء الذين رووا القِران بغاية البيان: عائشة أم المؤمنين ... (وزاد ممن لم يذكره هنا): عثمان بن عفان بإقراره لعليّ، وأبو طلحة، وسعد بن أبي وقاص، والهرماس بن زيادِ، فهؤلاء سبعة عشر صحابيًّا».

(1/311)


الخطاب, وعليّ بن أبي طالب, وعائشة أم المؤمنين, وعبد الله بن عمر, وجابر بن عبد الله, وعبد الله بن عباس, وعِمْران بن حُصَين, والبراء بن عازب, وحفصة أم المؤمنين, وأنس بن مالك, وأبو قَتادة, وابن أبي أوفى. فهؤلاء صحَّت عنهم الرواية بغاية البيان والتصريح. ورواه الهِرْماس بن زياد، وسُرَاقة بن مالك، وأبو طلحة, وأم سلمة. لكن رَوَت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ أهلَه بالقِران (1). وهؤلاء منهم مَن أخبر عن لفظه في إهلاله بنُسُكه أنه قال: «لبيك حجًّا وعمرة» كأنس (2). وهو متفق على صحته, وكعليّ بن أبي طالب, فإنه قال: «سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يلبِّي بهما جميعًا» وهو في «الصحيحين» والنسائي و «سنن أبي داود» (3) , ولفظ أصحاب «الصحيح»: أن عليًّا أهلَّ بحجٍّ وعمرة, وقال: «ما كنتُ لأدعَ سنةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لقولِ أحدٍ». فقد أخبر عليٌّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبَّى بهما جميعًا, وأهلَّ هو بهما جميعًا، وأخبر أنها سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ووافقه عثمانُ على ذلك. ومنهم مَن أخبر عن خبره - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه بأنه كان قارنًا, وهم البراء بن _________ (1) أخرجه أحمد (26548)، والبيهقي: (4/ 355) وغيرهم، وإسناده صحيح. (2) أخرجه البخاري (1551)، ومسلم (1232). (3) أخرجه البخاري (1569)، ومسلم (1223)، والنسائي (2722) ولم أجده عند أبي داود. وهو في «المسند» (733).

(1/312)


عازب, فإنه روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -,لفظه أنه قال لعليّ: «إني سقتُ الهديَ وقَرَنت» وهو حديث صحيح رواه أهل «السنن» (1). ومنهم مَن أخبر عنه - صلى الله عليه وسلم - باللفظ الذي أُمِر به من ربِّه, وهو أن يقول: «عمرة في حجة» كعمر بن الخطاب (2). وحَمْلُ ذلك على أنه أَمْرٌ بتعليمه، كلامٌ في غاية البطلان. ومَن تأمل سياقَ الحديث ولفظَه ومقصودَه، عَلِم بطلان هذا التأويل الفاسد. وقولهم: إن الرواية الصحيحة: «قل: عمرة وحجة» (3)، وأنه فَصَل بينهما بالواو. وهو صريح في نفس القِران, فإنه جمع بينهما في إحرامه وامتثل - صلى الله عليه وسلم - أمرَ ربه, وهو أحقُّ مَن امتثله, فقال: «لبيكَ عمرةً وحجًّا» (4) بالواو. وقولهم: يحتمل أن يريد به أنه يحرم بعمرة إذا فرغَ مِن حجَّته قبل أن يرجع إلى منزله, فعياذًا بالله مِن تقليدٍ يوقع في مثل هذه الخيالات الباطلة! فمن المعلوم بالضرورة أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر بعد حجَّته قطّ, هذا ما لا يشكُّ فيه مَن له أدنى إلمام بالعلم, وهو - صلى الله عليه وسلم - أحقُّ الخلق بامتثال أمر ربِّه, فلو كان أُمِر أن يعتمر بعد الحجِّ كان أولى الخلق بالمبادرة إلى ذلك. ولا ريبَ أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر مع حجَّته, فكانت عمرته مع الحجِّ لا بعده قطعًا. ونُصرة الأقوال _________ (1) أخرجه أبو داود (1797)، والنسائي في «المجتبى» (2725) وفي «الكبرى» (3691). (2) أخرجه البخاري (1534). (3) أخرجها البخاري (7343). (4) سبق تخريجه من حديث أنسٍ - رضي الله عنه -.

(1/313)


إذا أفضت بالرجل إلى هذا الحدِّ ظهر قُبْحُها وفسادُها. وقولهم: محمول على تحصيلهما معًا. قلنا: أجل, وقد حصَّلهما - صلى الله عليه وسلم - جميعًا بالقِران, على الوجه الذي أخبر به عن نفسه, وتبعه أصحابُه من إهلاله. ومنهم مَن أخبر عن فعله, وهو عِمران بن حُصَين في «الصحيحين» (1) عنه قال: «جمعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بين حَجّةٍ وعمرة». وتأويلُ هذا بأنه أَمَر أو أذِنَ في غاية الفساد, ولهذا قال: «تمتع وتمتّعنا [ق 61] معه» فأخبر عن فِعْله وفعلهم. وسَمّى القِرانَ تمتُّعًا, وهو لغة الصحابة, كما سيأتي. ومنهم مَن أخبر عن إهلاله بهما أحدهما بعد الآخر, وهم عبد الله بن عمر وعائشة ففي «الصحيحين» عنهما: «وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهلَّ بالعمرة, ثم أهلَّ بالحجِّ» (2) وعن عائشة مثله (3). وفي «الصحيحين» عن عائشة: «أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اعتمر أربع عُمَر, الرابعة مع حجته» (4). ومن المعلوم ضرورةً أنه _________ (1) أخرجه البخاري (1571)، ومسلم (1226/ 169). (2) أخرجه البخاري (1691)، ومسلم (1227/ 174). (3) أخرجه البخاري (1692)، ومسلم (1228/ 175). (4) الذي في حديث عائشة - رضي الله عنها - في البخاري (1776)، ومسلم (1255) إنما فيه قولها تعليقًا على قول ابن عمر - رضي الله عنهما -: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتمر أربع عُمر إحداهن في رجب فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهده وما اعتمر في رجب قط». وجاء التصريح بأن الرابعة في حجته في حديث عائشة وسيأتي، وفي حديث أنس عند البخاري (1778)، ومسلم (1253/ 217)، وفي حديث ابن عباس عند أبي داود (1993)، والترمذي (828)، وابن ماجه (3003) - رضي الله عنهم -.

(1/314)


لم يعتمر بعد الحج, فكانت عمرته مع حجَّته قطعًا. وفي «الصحيحين» مثله عن أنس (1). واتفق ستة عشر نفسًا من الثقات عن أنس: «أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أهلَّ بهما جميعًا» , وهم: الحسن البصري, وأبو قِلابة, وحُمَيد بن هلال, وحُمَيد بن عبد الرحمن الطويل (2) , وقَتادة, ويحيى بن سعيد الأنصاري, وثابت البُناني, وبكر بن عبد الله المزني, وعبد العزيز بن صُهيب, وسليمان التيمي, ويحيى بن أبي إسحاق, وزيد بن أسلم, ومصعب بن سليم, وأبو أسماء, وأبو قُدامة, وأبو قَزَعة الباهلي. وروى البزار (3) من حديث ابن أبي أوفى قال: «إنما جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الحجِّ والعمرة لأنه علم أنه لا يحجّ بعد عامه ذلك». وروى أبو القاسم البغويُّ (4) من حديث سفيان بن عيينة، عن ابن أبي _________ (1) سبقت الإشارة إليه في الحاشية السالفة. (2) كذا الأصل و (ش، هـ) والمطبوعات: «حميد بن عبد الرحمن الطويل» وهو مشهور «بحميد بن أبي حميد» واختلف في اسم أبي حميد على عشرة أقوال منها «عبد الرحمن» فلعلّ المؤلف اختاره، والمشهور باسم «حميد بن عبد الرحمن» هو ابن عوف الزهري. ينظر «تهذيب التهذيب»: (3/ 38 و 3/ 45). (3) (3344) من طريق يزيد بن عطاء، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن ابن أبي أوفى به، قال البزار: «وهذا الحديث أخطأ فيه يزيد بن عطاء إذ رواه عن إسماعيل عن ابن أبي أوفى، وإنما الصحيح عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ». (4) لم أجده في «معجم الصحابة» له، وأخرجه ابن حزم من طريقه في «حجة الوداع» (ص 499).

(1/315)


خالد: أنه سمع عبد الله بن أبي قتادة [عن أبيه] (1) يقول: «إنما جمع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بين الحجِّ والعمرة لأنه علم أنه لا يحجّ بعدها». وروى الإمام أحمد في «مسنده» (2) من حديث الهرماس بن زياد: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهلَّ بالحجِّ والعمرة». وروى ابن أبي شيبة (3): حدثنا شَبَابة، حدثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي عمران قال: دخلتُ على أمِّ سَلَمة أم المؤمنين, فقالت: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أهِلّوا يا آل محمد بعمرةٍ وحجّ». ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - يختار لآله إلا أفضل الأنساك, وهو الذي اختاره لعليٍّ, وأخبر عن نفسه أنه فَعَله. فهذه الأحاديثُ صحيحة صريحة, لا تحتمل مطعنًا في سندها, ولا تأويلًا يخالف مدلولَها, وكلُّها دالة على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قارنًا. والذين عليهم مدار الإفراد أربعة: عائشة, وابن عمر, وجابر, وابن _________ (1) ما بين المعقوفين مستدرك من كتاب ابن حزم، و «زاد المعاد»: (2/ 104). (2) (15971 - زوائد عبد الله)، وأخرجه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (1254) وفي إسناده عبد الله بن عمران الأصبهاني، له مناكير، وقد أنكره الإمام أحمد، فيما ذكره ابنُ أبي حاتم عن أبيه في «العلل» (872). وقال أبو حاتم: «أرى دخل لعبد الله بن عمران حديث في حديث، وسرقه الشاذكوني، لأنه حدث به بعدُ عن يحيى بن الضريس. وضعّفه الحافظ في «إطراف المُسنِد المعتلي»: (5/ 429) و «إتحاف المهرة»: (13/ 620). (3) «المصنف» (14500)، وأخرجه أحمد (26548)، والبيهقي: (4/ 355) من طريق الليث بن سعد به، وإسناده صحيح.

(1/316)


عباس, وكلهم قد روى القِران. أما ابن عمر وعائشة، ففي «الصحيحين» عن ابن عمر أنه قال: «بدأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فأهلَّ بالعمرة, ثم أهلَّ بالحجِّ» (1)، وفي «الصحيحين» عن عروة: «أن عائشة أخبرته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تمتُّعِه بالحجِّ إلى العمرة، وتمتَّع الناسُ معه بمثل هذا» (2). وروى عبد الرزاق (3)، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع: أن ابن عمر قَرَن بين الحج والعمرة, فطاف لهما بالبيت وبين الصفا والمروة طوافًا واحدًا, وقال: «هكذا صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». ورواه مسلم (4) عن قُتيبة، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر. وقالت عائشة: «اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا سوى التي قرن بحجة الوداع». ذكره أبو داود (5) , وسيأتي. وروى الثوريُّ، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجّ ثلاثَ حِجَج: [حَجّتين] قبل أن يهاجر، وحجّة بعد ما هاجر, معها عمرة» الحديث (6). _________ (1) أخرجه البخاري (1691)، ومسلم (1227). (2) أخرجه البخاري (1692)، ومسلم (1228). (3) أخرجه من طريقه الدارقطني (2594)، وابن حزم في «حجة الوداع» (ص 406). (4) (1230/ 182). (5) (1992)، وهو في «مسند أحمد» (5383) وغيره. وصحّ عن عائشة خلافه كما في «الصحيحين». (6) أخرجه الترمذي (815)، وابن خزيمة (3056)، والدارقطني (2696)، والبيهقي: (5/ 12). قال الترمذي: «هذا حديث غريب من حديث سفيان، لا نعرفه إلا من حديث زيد بن الحباب، وسألتُ محمدًا عن هذا فلم يعرفه من حديث الثوري عن جعفر عن أبيه عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورأيته لم يعدّ هذا الحديثَ محفوظًا، وقال: إنما يروى عن الثوري عن أبي إسحاق عن مجاهد مرسلًا» اهـ. وما بين المعقوفين مستدرك من المصادر.

(1/317)


وفي «صحيح مسلم» (1) عن ابن عباس: «أهلَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعمرة وأهلَّ أصحابُه بحجّ, فلم يحلّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ولا مَن ساق الهديَ من أصحابه, وحلّ بقيتهم». وسيأتي في كتاب «السنن» (2) عن عكرمة عنه قال: «اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعَ عُمَر: عمرةَ الحديبية, والثانيةَ حين تواطؤوا على عُمرة قابلٍ, وثالثة (3) من الجِعْرَانة, والرابعة التي قَرَن مع حجته» فهذه العمرة التي قرنها مع حجَّته هي التي قال فيها: «أهلَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعمرة» ردًّا على من قال: أهلَّ بحجٍّ مفرد. ولم يقل أحدٌ من هؤلاء ولا من غيرهم قطُّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إني أفردت الحج كما قال: «قَرَنت»، ولا قال: «سمعته يقول: لبيك حجًّا» كما قال: «لبيك حجًّا وعمرة» ولا هو أخبر عن نفسه بذلك, ولا أحد من أصحابه (4) أخبر عن لفظِ إهْلالِه به. وأما إخباره عن نفسه بالقِران، وإخبار أصحابه عنه بلفظه فصريحٌ لا معارضَ له. والذين رووا الإفراد قد تبين أنهم رووا القِران والتمتُّع, وهم _________ (1) (1239/ 196). (2) (1993). (3) كذا في «المختصر»، وفي «السنن»: «والثالثة». (4) ط. الفقي: «الصحابة».

(1/318)


لا يتناقضون في روايتهم, بل رواياتهم يصدِّقُ بعضُها بعضًا, وإنما وقع الإشكال حيث لم تقع الإحاطة بمعرفة مراد الصحابة ولغتهم, فإنهم كانوا يسمّون القِرانَ تمتعًا, كما في «الصحيحين» من حديث ابن عمر وقد تقدم, وحديث عليّ: «أن عثمان لما نهى عن المُتعة قال علي: لبيك بهما, وقال: لم أكن لأدع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقول أحد» (1). ومن قال: أفرد الحج, لم يقل أفرد إهلال الحجِّ وإنما مرادُه أنه اقتصر على أعمال الحجِّ ودخلت عمرتُه في حجّه، فلم يُفرد كلَّ واحد من النُّسُكَين بعمل، ولهذا أخبر أيضًا أنه قَرَن، فعُلِم أن مراده بالإفراد ما ذكرنا. ومَن قال: «تمتع» أراد به التمتُّع العام الذي يدخل فيه القِران بنصّ القرآن, في قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] والقارن داخل في هذا النص، فتمتَّع - صلى الله عليه وسلم - بِتَرَفُّهِه بسقوط أحدِ السَّفَرين، وقَرَن بجَمْعِه في إهلاله بين النُّسُكَيْن، وأفرد فلم يطُفْ طوافَين ولم يَسْعَ سَعْيين. ومن تأمل [ق 62] الأحاديث الصحيحة في هذا الباب جزم بهذا, وهذا فَصْل النزاع, والله أعلم. 107/ 1729 - وعن ابن عباس أن معاويةَ قال له: «أما علمتَ أني قَصَّرت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمِشْقَصِ أعرابيٍّ، على المروة لحجَّتِه؟». وأخرجه النسائي (2)، وليس فيه «لحجته». وقوله: «لحجته» يعني لعمرته. _________ (1) تقدم تخريجه. (2) أخرجه أبو داود (1803)، والنسائي (2988)، وأحمد (16884) وإسناده صحيح.

(1/319)


وقد أخرجه النسائي (1) أيضًا، وفيه: «في عمرة على المروة»، وتسمَّى العمرة حجًّا لأن معناها القَصْد (2). وقد قالت حفصة - رضي الله عنها -: «ما بالُ الناس حَلُّوا ولم تحلل أنت من عُمرتك؟» قيل: إنما تعني من حَجَّتِك. قال ابن القيم - رحمه الله -: واحتجَّ بهذا مَن قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تمتَّع في حجَّة الوداع تمتُّعًا حلَّ فيه كالقاضي أبي يعلى وغيره (3). وهذا غلطٌ منهم, فإن المعلوم من شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يحلّ بعمرة في حجَّته, وقد تواتر عنه ذلك، وقال: «لولا أن معيَ الهَدْيَ لأحللتُ» (4). وهذا لا يستريبُ فيه مَن له علمٌ بالحديث, فهذا لم يقع في حجته بلا ريب, إنما وقع في بعض عُمَرِه, ويتعيَّن أن يكون في عمرة الجِعْرَانة, والله أعلم, لأن معاوية إنما أسلم يوم الفتح مع أبيه, فلم يقصِّر عنه في عمرة الحديبية, ولا عمرة القضية, و النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكن محرِمًا في الفتح, ولم يحلّ من إحرامه في حجَّة الوداع بعمرة, فتعيَّن أن يكون ذلك في عمرة الجِعْرَانة, هذا إن كان المحفوظ أنه هو الذي قصَّر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإن كان المحفوظ هو الرواية الأخرى, وهو قوله: «رأيته يُقَصَّر عنه على المروة» (5) فيجوز أن يكون في عُمرة القضية والجِعْرَانة حَسْبُ, ولا يجوز أن يكون في غيرهما لما تقدم. والله أعلم (6). _________ (1) (2987). (2) في مطبوعة «المختصر»: «المقصد»، والمثبت من المخطوط. (3) ينظر «التعليقة الكبيرة»: (1/ 312). وانظر «شرح العمدة»: (4/ 203) لابن تيمية. (4) أخرجه البخاري (1557، 4352)، ومسلم (1216) من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. (5) أخرجه مسلم (1246). (6) ينظر «شرح العمدة»: (5/ 205 - 206)، وقد قال في شرح ذلك: «ومن تأمل أحاديث حجة الوداع وأحوالها كان كالجازم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحلَّ بشيء من الأشياء. فأما حديث معاوية فحديث شاذٌّ، وقد طعن الناس فيه قديمًا وحديثًا كما أخبر قيس بن سعد، فإنهم أنكروا أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قصّر. ويُشبِه ــ والله أعلم ــ أن يكون أصله أن معاوية قصَّر من رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - في عمرة الجعرانة، فإنه في عمرة القضية لم يكن أسلم بعدُ. والرواية الصحيحة المتصلة إنما فيها أنه قصَّر من رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - على المروة بمِشْقَصٍ، وكانت عمرة الجعرانة ليلًا، فانفرد معاوية بعلم هذا. أما حجة الوداع فكان وقوفه على المروة ضُحًى، والناس كلهم حوله، ومثل هذا لا يجوز أن ينفرد بروايته الواحدُ، وكانت الجعرانة في ذي القعدة. وأما الرواية التي فيها: «أنه قصَّر من رأسه في العشر» فرواية منقطعة؛ لأن عطاء لم يسمع من معاوية، ومراسيله ضعاف، ويُشبِه أن يكون الراوي لما سمع «عن معاوية أنه قصَّر من رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - بمِشْقَصٍ» اعتقد أنه كان في حجته، وقد عُلِم أن دخوله مكةَ كان في العشر، فحملَ هذا على هذا.

(1/320)


108/ 1731 - وعن عبد الله بن عمر قال: «تمتَّعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى، وساقَ معه الهديَ مِن ذي الحُليفة، وبدأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فأهلَّ بالعمرة، ثم أهلَّ بالحج، وتَمتَّع الناسُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة إلى الحج، فكان مِن الناس مَن أهدى فساقَ الهديَ، ومنهم من لم يُهْدِ، فلما قَدِم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مكةَ قال للناس: مَن كان منكم أهدى، فإنه لا يَحِلّ له (1) من شيء حَرُمَ منه حتى يقضي حَجَّه، ومَن لم يكن منكم أهدى فَلْيَطُفْ بالبيت وبالصفا والمروة، وليُقَصِّر ولْيَحلِلْ، ثم ليهلَّ بالحج وليُهْدِ، فمن لم يجد هدْيًا فليصم ثلاثةَ أيام في الحجِّ وسبعةٍ إذا رجع إلى أهلِه، وطافَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكَةَ، فاستلم الرُّكْن أوَّلَ شيء، ثم خَبَّ ثلاثةَ أطواف من السبع، ومشى أربعةَ أطواف، ثم _________ (1) سقطت من (خ- المختصر).

(1/321)


ركع حين قضى طوافَه بالبيت عند المقام ركعتين، ثم سَلَّم، فانصرف فأتى الصفا، فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف، ثم لم يحلِلْ مِن شيء حَرُم منه، حتى قضى حجَّه، ونحرَ هديَه يوم النَّحر، وأفاضَ، فطاف بالبيت، ثم حَلَّ مِن كلِّ شيء حَرُم منه، وفعَلَ الناسُ مثلَ ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مَنْ أهدى وساق الهديَ مِن الناس». أخرجه البخاري ومسلم والنسائي (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: الذين قالوا: قَرَن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حجَّته اختلفَتْ طرُقُهم في كيفية قِرانه: فطائفة قالت: أحرمَ بالعمرة أوّلًا, ثم أدخل عليها الحجّ، وهذا ظاهر حديث ابن عمر وعائشة كما تقدم، وهي طريقة أبي حاتم بن حبان في «صحيحه» (2). قال: هذه الأخبار التي ذكرناها في إفراد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقِرانه وتمتّعه بهما (3) مما تنازع الأئمة فيها من لَدُن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى زماننا هذا, وشَنَّع بها المعطِّلةُ وأهلُ البدع على أئمتنا, وقال (4): رويتم ثلاثةَ أحاديثَ متضادَّة في فعلٍ واحد ورَجُل واحد وحالة واحدة, وزعمتم أنها ثلاثتها صحاح من جهة النقلِ، والعقلُ يدفع ما قلتم, إذ مُحالٌ أن يكون النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حجَّة الوداع كان مُفرِدًا قارِنًا متمتّعًا. إلى أن قال: ولو تمَلَّق (5) قائل هذا في الخَلْوة إلى الباري وسأله التوفيقَ لإصابة الحقّ والهدايةَ لطلب الرشد في الجمع _________ (1) أخرجه أبو داود (1805)، والبخاري (1691)، ومسلم (1227)، والنسائي (2732). (2) (9/ 228 - 230). (3) «وقرانه وتمتّعه بهما» سقطت من ط. الفقي. (4) في ابن حبان: «وقالوا» وهو أوجه. (5) ط. الفقي: «توجّه»!

(1/322)


بين الأخبار، ونفي التضادّ عن الآثار, لَعَلِمَ بتوفيق الواحد القهَّار (1) أن أخبار المصطفى لا تتضادّ ولا تتهاتر (2) , ولا يكذِّب بعضُها بعضًا, إذا صحّت من جهة النقل. قال: والفصل بين الجمع في هذه الأخبار: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهلَّ بالعمرة حيث أحرم، كذلك قاله مالك، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة (3). فخرج وهو مُهِلّ بالعمرة وحدها, حتى بلغ سَرِف أمرَ أصحابَه بما ذكرنا في خبر أفلح بن حُمَيد (4) (يعني بالفسخ إلى العمرة) , فمنهم مَن أفرد, ومنهم مَن أقام على عمرته, وأما مَن ساقَ الهديَ منهم فأدخلَ الحجَّ على عمرته (5) , ولم يحلّ, فأهلَّ - صلى الله عليه وسلم - بهما معًا حينئذٍ إلى أن دخل مكة، وكذلك أصحابُه الذين ساقوا الهدي. فكلُّ خبر رُوي في قِران النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان ذلك حيث رأوه يهلّ بهما بعد إدخاله الحجَّ على العمرة, إلى أن دخل مكة فطاف وسعى, وأمر ثانيًا مَن لم يكن ساق الهديَ وكان قد أهلَّ بعمرة أن يتمتع ويحلّ, وكان يتلهَّف على _________ (1) عند ابن حبان: «الجبّار». (2) أي: لا تتساقط فتبطل، فيُكذّب بعضُها بعضًا. «القاموس» (ص 495). ووقع في الطبعتين: «تهاتر». (3) تقدم تخريجه. (4) أخرجه البخاري (1560)، ومسلم (1211/ 123) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (5) عبارة «وأما من ساق الهدي منهم فأدخل الحجّ على عمرته» ثابتة في نسخة «الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان» لكن محققو الكتاب أسقطوها من المتن لأنهم لم يجدوها في «التقاسيم والأنواع» أصل كتاب ابن حبان، ووضعوها في الهامش! وهذا تصرف غير مرضيّ، ونقل المؤلف لها هنا دليل على ثبوتها وصحتها.

(1/323)


ما فاته من الإهلال حيث كان ساق الهدي, حتى إن بعض أصحابه ممن لم يكن ساق الهدي لم يحلّوا, حيث رأوه - صلى الله عليه وسلم - لم يحلّ, حتى كان مِن أمره ما وصفنا مِن دخوله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة وهو مُغْضَب, فلما كان يوم التروية، وأحرم المتمتعون، خرج - صلى الله عليه وسلم - إلى منى وهو يُهلّ بالحج مفردًا, إذ العمرة التي قد أهلّ بها في أول الأمر قد انقضَتْ عند دخوله مكة بطوافه بالبيت, وسعيه بين الصفا والمروة. فحكى ابنُ عمر وعائشةُ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفردَ الحجَّ, أرادا أنَّ (1) خروجه إلى منى من مكة من غير أن يكون بين هذه الأخبار تضادّ أو تهاتُر. وفقنا الله لما يحبُّه من الخضوع عند ورود السنن إذا صحّت والانقياد لقبولها، واتهام الأنفس وإلزاق العيب (2) بها إذا لم يوفَّق لإدراك حقيقة الصواب, دون القدح في السنن, والتعريج على الآراء المنكوسة والمقاييس المعكوسة, إنه خير مسؤول. تمّ كلامه (3). وطائفة قالت (4): كان مفرِدًا أولًا, ثم أدخل العمرةَ على الحج, فصار قارنًا, فظنوا أن ذلك من خصائصه, وأنهم يجمعون بذلك بين الأحاديث. وهذا مع أن الأكثر لا يُجَوِّزونه, فلم تأتِ لفظةٌ واحدة تدلُّ عليه, بخلاف الأول, فإنه قد قاله طائفةٌ, وفيه أحاديث صحاح. _________ (1) ط. الفقي: «أرادا» وأسقط «أن»، وط. المعارف: «أرادان»! وفي ابن حبان: «أراد من». (2) ط. الفقي: «الخطأ»! (3) أي ابن حبان، وأول كلامه (ص 322). (4) واختاره القاضي عياض والنووي والعراقي وابن حجر وغيرهم، ينظر «طرح التثريب»: (5/ 18 - 22)، و «شرح مسلم»: (8/ 135 - 235)، و «فتح الباري»: (3/ 430).

(1/324)


وطائفة قالت (1): قَرَن ابتداءً مِن حين أحرم, وهو أصح الأقوال, لحديث عُمر وأنس وغيرهما وقد تقدما. والذين قالوا: أفرد, طائفتان: طائفةٌ ظنت أنه أفرد إفرادًا اعتمر عقيبه من التنعيم، وهذا غلط بلا ريب, لم يُنقَل قطّ بإسناد صحيح ولا ضعيف, ولا قاله أحدٌ من الصحابة, [ق 63] وهو خلاف المتواتر المعلوم مِن فعله - صلى الله عليه وسلم -. وطائفة قالت: أفرد إفرادًا اقتصر فيه على الحجِّ ولم يعتمر (2). والأحاديثُ الثابتةُ التي اتفق أئمة الحديث على صحتها صريحة في أنه اعتمر مع حجته، وهذا يبطل الإفراد قطعًا، فإنه إن كان إفرادًا اعتمر (3) عقيبه, فهو باطل قطعًا, وإن كان إفرادًا مجرَّدًا عن العمرة, فالأحاديث الصحيحة تدلّ على خلافه. والذين قالوا: تمتَّعَ طائفتان: طائفة قالت: تمتَّعَ تمتُّعًا حلّ منه. وهذا باطل قطعًا كما تقدم (4). وطائفة قالت: تمتّعَ تمتُّعًا لم يحلّ منه لأجل الهدي (5). وهذا وإن كان _________ (1) وهو قول أحمد كما سبق، وابن تيمية، ينظر «مجموع الفتاوى»: (26/ 62). واختيار ابن حزم، ينظر «حجة الوداع» (ص 403 وما بعدها). (2) وهو قول مالك وقوّاه ابن عبد البر، ينظر «الاستذكار»: (13/ 88 - 89)، و «التمهيد»: (8/ 214). (3) «مع حجته ... اعتمر» سقط من ط. الفقي. (4) وهو قول القاضي أبي يعلى في «التعليقة» كما سبقت الإشارة إليه. (5) وهو قول ابن قدامة في «المغني»: (5/ 85 - 88).

(1/325)


أقلّ خطأً مِن الذي قبله, فالأحاديث الصحيحة تدلُّ على أنه قَرَن, إلا أن يريدوا بالتمتُّع القِران فهذا حقّ. وطائفة قالت: أحْرَم إحرامًا مطلقًا, ثم عيَّنه بالإفراد, وهذا أيضًا يكفي في ردِّه الأحاديثُ الثابتةُ الصريحة. وطائفةٌ قالت: قَرَن وطاف طوافين, وسعى سعيين. والأحاديث الثابتة التي لا مَطْعَن فيها تبطل ذلك, والله أعلم (1). 109/ 1732 - وعن حَفصةَ زوجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: يا رسولَ الله، ما شأنُ الناسِ حَلُّوا ولم تَحْلِل أنتَ مِن عُمْرتك؟ فقال: إني لَبَّدْتُ رأسي، وقَلّدْتُ هديي، فلا أحِلّ حتى أنحر». وأخرجه البخاريّ ومسلم والنسائي وابن ماجه (2). وقد تقدم أن المراد بالعمرة ههنا الحج. وقد رُوِي: «حَلّوا فلم تحْلِل من حَجِّك». واختُلِف في قولها هذا، فقيل: قالتَ ذلك لأنها ظنّت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان فسخ حجّه بعمرة كما أمر بذلك مَن لا هديَ معه، فذكر - صلى الله عليه وسلم - لها العلّةَ، وهي سوقُه الهدي. وقيل: معناه ما شأن الناس حلّوا مِن إحرامهم ولم تحلّ أنتَ من إحرامك الذي ابتدأته معهم بنيّةٍ واحدة، بدليل قوله: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سُقتُ الهدي ولجعلتها عمرة» فعُلِم بهذا أنه لم يحرم بعمرة. وقيل: معناه: لِمَ لَمْ _________ (1) ذكر هذه الأقوال شيخ الإسلام ابن تيمية في «الفتاوى»: (26/ 74 - 75) وردّها. (2) أخرجه أبو داود (1806)، والبخاري (1566)، ومسلم (1229)، والنسائي (2682)، وابن ماجه (3046).

(1/326)


تحلِل من حجّك بعمرة كما أمرتَ أصحابك؟ وقد تأتي «من» بمعنى «الباء» كما قال تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] أي: بأمر الله، يريد ولم تحلّ أنت بعمرة من إحرامك الذي جئت به مفردًا في حجتك (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقالت طائفة: هذه اللفظة غير محفوظة, فإن عبيد الله بن عمر لم يذكرها في حديثه. حكاهما ابن حزم (2). وقالت طائفة: هي مروية بالمعنى, والحديث: «ولم تحِلّ أنتَ مِن حَجِّك» , فأبدل لفظ الحجِّ بالعمرة. وقالت طائفة: الحديث إنما فيه إقراره لها على أنه في عمرة, وليس فيه أنها عمرة مفردة لا حجَّةَ معها. وقد أخبر عن نفسه بأنه قَرَن, فهو إذن في حجٍّ وعمرة ومَن كان في حج وعمرة فهو في عُمرة قطعًا. وهذه الوجوه بعضها واهٍ وبعضها مُقارِب. فقول من قال: المراد به من حجتك بعيدٌ جدًّا, إذ لا يُعَبَّر بالعمرة عن الحجّ, وليس هذا عُرْف الشرع, ولا يطلق ذلك إلا إطلاقًا مقيَّدًا, فيقال: هي الحجّ الأصغر. _________ (1) ذكر المجرِّد أن المؤلف علَّق على كلام المنذري ــ وساق طرفًا منه ــ وليس كلام المنذري في المطبوع من «مختصره»: (2/ 329) إلا إلى قوله: «فلم تحلل من حجك»، وقد وجدنا نصه في (خ - المختصر) (ق 52 ب) معلّقًا في طرة النسخة، فسقناه كاملًا. وفي ط. الفقي ساق كلام ابن القيم من قوله: «وقد تأتي «من» بمعنى «الباء» ... » وفي ط. المعارف من قوله: «وقالت طائفة: معناه لم تحلل ... » وذلك ناتج عن عدم وقوفهم على كلام المنذري. ويظهر لي أن المجرِّد لم يحرِّر مبدأ كلام المؤلف ومنتهى كلام المنذري، وربما كان ذلك عائدًا إلى تداخل كلام ابن القيم والمنذري. والله أعلم. (2) في «حجة الوداع» (ص 438).

(1/327)


وقول من قال: إنها ظنّت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان فسخ العمرةَ, كما أمرَ أصحابَه, ولم يحل كما أحلوا، فبعيدٌ جدًّا, فإن هذا الظن إنما كان يظهر بإحلاله، فبه يكون معتمرًا، فكيف تظنّ أنه قد فسخَ بعُمَرة, وهي تراه لم يحلّ؟ وأما قول من قال: معناه لم تحلل بعمرة, و «مَن» بمعنى الباء (1)، فتعسُّفٌ ظاهر, وإضافة العمرة إليه تدل على أنها عمرة مختصة به هو فيها. وأما قول من قال: معناه لم تحلل من العمرة التي أمرتَ الناسَ بها ففاسدٌ, فإنه كيف يحلّ مِن عمرةِ غيره؟ وحفصة أجلُّ مِن أن تسأل هذا السؤال (2). وأما قول مَن قال: إن هذه اللفظة غير محفوظة, ولم يذكرها عُبيد الله، فخطأ من وجهين، أحدهما: أن مالكًا قد ذكرها, ومالكٌ مالكٌ (3). والثاني: أن عُبيدَ الله نفسَه قد ذكرها أيضًا, ذكره مسلم في «الصحيح» (4) عن محمد بن المثنّى، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله, فذكر الحديثَ, وفيه: «ولم تحِلّ من عمرتك». وقول مَن قال: مروية بالمعنى بعيدٌ أيضًا. فالوجه الأخير أقربها إلى الصواب؛ وهو أنه ليس فيه إلا الإخبار عن _________ (1) ينظر «الاستذكار»: (13/ 89)، و «شرح البخاري»: (4/ 248 - 249) لابن بطّال، و «فتح الباري» (3/ 427). (2) ينظر «فتح الباري»: (3/ 427). (3) ينظر «حجة الوداع» (ص 438)، و «التمهيد»: (15/ 298). (4) (1229).

(1/328)


كونه في عمرة, وهذا لا ينفي أن يكون في حجة. وأجود منه أن يقال: المراد بالعمرة المُتْعة, وقد تقدم أن التمتُّع يُراد به القِران, والعمرة تُطلَق على التمتُّع, فيكون المراد لم تحلّ مِن قِرانك، وسَمّتْه عمرةً, كما يسمّى تمتُّعًا, وهذه لغة الصحابة كما تقدم, والله أعلم. 110/ 1733 - (1) عن سُلَيم بن الأسود: أن أبا ذرٍّ كان يقول، فيمن حجَّ ثمَّ فسَخَها بعمرة: لم يكن ذلك إلا للرَّكب الذين كانوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد أخرجه مسلم في «صحيحه» (2) من حديث يزيد بن شَريك التيمي، عن أبي ذر قال: «كانت المتعةُ في الحجِّ لأصحابِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - خاصة» وأخرجه النسائي وابن ماجه (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: وهذا الحديث قد تضمَّن أمرين: أحدهما: فِعْل الصحابة لها, وهو بلا ريب بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -, وهذا رواية. والثاني: اختصاصهم بها دون غيرهم, وهذا رأي. فروايتُه حُجّة ورأيه غير حجة. وقد خالفه فيه عبد الله بن عباس, وأبو موسى الأشعري. _________ (1) كذا في «المختصر» وبعض نسخ «السنن» بدون باب قبل الحديث، وفي نسخ أخرى من «السنن» قبل هذا الحديث: «باب الرجل يهلّ بالحج ثم يجعلها عمرة»، وقد أضافه في ط. الفقي إلى متن «المختصر»، والأولى تركه رعاية للنُسَخ. (2) أخرجه أبو داود (1807)، ومسلم (1224). (3) أخرجه النسائي (3777)، وابن ماجه (2985). وقوله «ابن ماجه» ليست في (خ- المختصر) وهي في المطبوع.

(1/329)


وقد حَمَله طائفةٌ على أن الذين (1) اختصوا به هو وجوب الفسخ عليهم حتمًا, وأما غيرهم فيستحبّ له ذلك, هذا إن كان مراده مُتعة الفسخ, وإن كان المراد مطلق المتعة، فهو خلاف الإجماع والسُّنة المتواترة. والله أعلم. 111/ 1734 - وعن بلال بن الحارث، قال: قلتُ: يا رسولَ الله، فَسْخُ الحجِّ لنا خاصَّة، أو لِمَن بعدَنا؟ قال: «لكم خاصة». وأخرجه النسائي وابن ماجه (2). قال الدارقطني: تفرَّد به ربيعة بن عبد الرحمن، عن الحارث، عن أبيه، وتفرَّد به عبدُ العزيز الدراوردي عنه. هذا آخر كلامه. والحارث هو ابن بلال بن الحارث، وهو شبيه المجهول. وقد قال الإمام أحمد في حديث بلال هذا: إنه لا يثبت. هذا آخر كلامه. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد قال عبد الله بن أحمد (3): سألت أبي عن حديث بلال بن الحارث المزني في فسخ الحج؟ فقال: لا أقول به, وليس إسناده بالمعروف, ولم يروه إلا الدراورديُّ وحدَه. وقال عبد الحق (4): الصحيح في هذا قول أبي ذرٍّ غير المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن القطان (5): فيه الحارث بن بلال، عن أبيه بلال بن _________ (1) كذا في الأصل و (ش، هـ)، والوجه: «الذي». (2) أخرجه أبو داود (1808)، والنسائي (2808)، وابن ماجه (2984)، وأحمد (15853)، وفي إسناده ضعف. (3) في «المسائل»: (2/ 693 - 694)، وانظر «مسائل ابن هانئ»: (1/ 148)، و «مسائل أبي داود» (ص 408). (4) في «الأحكام الوسطى»: (4/ 179). (5) في «بيان الوهم والإيهام»: (3/ 468).

(1/330)


الحارث, والحارث بن بلال لا يُعرَف حاله.

  7 - بابُ الرجلِ يحُجُّ عن غيره

112/ 1736 - وعن أبي رَزِين ــ وهو لَقِيْطٌ العُقَيلي ــ أنه قال: يا رسولَ الله، إن أبي شيخٌ كبير، لا يستطيع الحجَّ والعمرةَ ولا الظَّعَنَ، قال: «احْجُجْ (1) عن أبيك واعتَمِرْ». وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (2). وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال الإمام أحمد: لا أعلم في [ق 64] إيجاب العمرة حديثًا أجودَ مِن هذا ولا أصحّ منه. قال ابن القيم - رحمه الله -: قول الإمام أحمد, قال البيهقي (3): قال مسلم: سمعتُ أحمدَ بن حنبل يقول، فذَكَره. وفي «سنن ابن ماجه» (4) بإسنادٍ على شرط «الصحيحين» عن عائشة قالت: قلتُ: يا رسول الله, هل على النساء جهاد؟ قال: «جهادٌ لا قتالَ فيه, الحجُّ والعمرة». واحتجَّ مَن نفى الوجوبَ بحديث جابر: «أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن العمرة, أواجبةٌ هي؟ قال: «لا, وأنْ تعتمر خيرٌ لك» , رواه الترمذي (5) من حديث _________ (1) في (خ- المختصر): «حج» ومثله في «سنن الترمذي»، وفي «السنن» كما أثبتناه. (2) أخرجه أبو داود (1810)، والترمذي (947)، والنسائي (2621)، وابن ماجه (2906)، وأخرجه أحمد (16184)، وابن حبان (3991). (3) في «السنن الكبرى»: (4/ 350). (4) (2901). وهو بنحوه في البخاري (1520) دون ذكر العمرة. وأخرجه أحمد (25322)، وابن حبان (3702). (5) (931). وأخرجه أحمد (14397)، وابن خزيمة (3068) وغيرهم.

(1/331)


الحجَّاج بن أرطاة، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن جابر. وقال: حسن صحيح. قال البيهقي (1): كذا رواه الحجاج مرفوعًا, والمحفوظ إنما هو عن جابر موقوف عليه غير مرفوع. وقد نوقش الترمذيُّ في تصحيحه, فإنه من رواية الحجاج بن أرطاة, وقد ضُعِّف, ولو كان ثقة فهو مدلِّس كبير, وقد قال: «عن محمد بن المنكدر» , لم يذكر سماعًا. ولا ريب أن هذا قادحٌ في صحة الحديث. وقد قال الشافعي (2): ليس في العمرة شيء ثابت بأنها تطوُّع, وقد رُوي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بإسناد ضعيف, لا تقوم بمثله حجة. تم كلامه. قال البيهقي (3): وروى ابنُ لهيعة، عن عطاء، عن جابر مرفوعًا: «الحجُّ والعمرة فريضتان واجبتان» , قال البيهقي: وهذا أيضًا ضعيف لا يصح. فقد سقط الاحتجاج برواية جابر من الطريقين. وفي «سنن ابن ماجه» (4) من حديث عُمر بن قيس، أخبرني طلحة بن _________ (1) في «الكبرى»: (4/ 349). (2) نقله الترمذي في «الجامع»: (3/ 261). وقد قال في «الأم»: (3/ 326): «والذي هو أشبه بظاهر القرآن وأولى بأهل العلم عندي ــ وأسأل الله التوفيق ــ أن تكون العمرةُ واجبةً». (3) في «الكبرى»: (4/ 350). (4) (2989). من طريق الحسن بن يحيى الخُشني، عن عمر بن قيس به. قال البوصيري في «مصباح الزجاجة»: (2/ 138): «هذا إسناد ضعيف عمر بن قيس المعروف بمندل ضعّفه أحمد وابن معين والفلاس وأبو زرعة والبخاري وأبو حاتم وأبو داود والنسائي وغيرهم، والحسن الراوي عنه ضعيف»، وضعَّفه ابن دقيق العيد كما في «نصب الراية»: (3/ 150). وقال أبو حاتم في «العلل» (850): حديث باطل.

(1/332)


يحيى، عن محمد بن إسحاق، عن طلحة بن عُبيد الله: أنه سمع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الحجُّ جهاد, والعمرةُ تطوُّع» رواه عن هشام بن عمّار، عن الحسن بن يحيى الخُشَني. 8 - باب كيف (1) التلبية 113/ 1738 - عن عبد الله بن عمر: «أنَّ تلبيةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لبَّيْكَ اللهم لبيك، لبَّيك لا شريكَ لكَ لبيك، إنَّ الحمدَ، والنعمةَ لكَ والملكَ، لا شريكَ لك، قال: وكان عبد الله بن عمر يزيد في تلبيته: لبيك لبيك، لبيك وسَعْديك، والخير بيديك، والرَّغْبَاءُ إليك والعمل». وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: في معنى التلبية ثمانية أقوال: أحدها: إجابةً لك بعد إجابة, ولهذا المعنى كُرِّرت التلبية إيذانًا بتكرير الإجابة. الثاني: أنه انقياد لكَ بعد انقياد, من قولهم: لبَّبْتُ الرجلَ, إذا قبضتُ على تلابيبه, ومنه: «فلبّبْتُه بردائه». والمعنى: انقدْتُ لكَ, وسَعَت نفسي لك خاضعةً ذليلة, كما يُفْعَل بمن لُبِّبَ بردائه, وقُبِضَ على تلابيبه. الثالث: أنه مِن «لَبّ بالمكان» , إذا أقام به ولزمه. والمعنى: أنا مقيم على _________ (1) ط. المعارف: «كيفية» خطأ. (2) أخرجه أبو داود (1812)، والبخاري (1549)، ومسلم (1184/ 19)، والترمذي (849)، والنسائي (2750)، وابن ماجه (2918).

(1/333)


طاعتك ملازم لها. اختاره صاحب «الصَّحاح» (1). الرابع: أنه مِن قولهم: «داري تلُبُّ دارَك» , أي تواجهها وتقابلها, أي: أنا مواجِهُك بما تحبُ متوجِّه إليك. حكاه في «الصَّحاح» (2) عن الخليل. الخامس: معناه: حُبًّا لكَ بعد حُبّ, مِن قولهم: امرأةٌ لَبَّة, إذا كانت مُحِبّة لولدها. السادس: أنه مأخوذ مِن لُبّ الشيء, وهو خالصه, ومنه: لُبّ الطعام, ولُبّ الرجل: عقلُه وقلبُه. ومعناه: أخلصت لُبّي وقَلْبي لك, وجعلتُ لك لُبِّي وخالصتي. السابع: أنه مِن قولهم: فلانٌ رَخيُّ اللَّبَبِ, وفي لَبَبٍ رَخِيٍّ, أي: في حالٍ واسعةٍ منشرح الصدر. ومعناه: أني منشرحُ الصدر متسعُ القلب لقبول دعوتك وإجابتها, متوجه (3) إليك بلَبَبٍ رَخِيّ توجّه (4) المحبّ إلى محبوبه, لا بِكُره ولا تكلُّف. الثامن: أنه من الإلباب, وهو الاقتراب: أي اقترابًا إليك بعد اقتراب, كما يتقرَّب المحبّ من محبوبه. و «سعديك»: من المساعدة, وهي المُطاوَعة. ومعناه: مساعدةً في طاعتك وما تحبّ بعد مساعدة. _________ (1) (1/ 216). (2) (1/ 216). (3) الأصل و (ش): «متوجًا» والوجه ما أثبت. (4) ط. الفقي: «يوجد».

(1/334)


قال الجَرْمي (1): ولم يُسْمَع «سعديك» مفردًا. و «الرَّغْباء إليك» يقال: بفتح الراء مع المدّ, وبضمها مع القَصْر. ومعناها الطلب والمسألة والرغبة. واختلف النُّحاة في الياء في «لبيك». فقال سيبويه (2): هي ياء التثنية. وهو من المُلْتَزم نصبُه على المصدر, كقولهم: حمدًا وشكرًا وكرامةً ومسرَّةً. والتزموا تثنيتَه إيذانًا بتكرير معناه واستدامته. والتزموا إضافتَه إلى ضمير المخاطَب لما خصوه بإجابة الداعي. وقد جاء إضافته إلى ضمير الغائب نادرًا, كقول الشاعر (3): دعوتُ لِمَا نابني مسورًا ... فلبَّى فلبَّيْ يَدَي مسور والتثنية فيه كالتثنية في قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك:4] وليس المراد ما يشفع الواحد فقط. وكذلك «سعديك ودواليك». وقال يونس: هو مفرد, والياء فيه مثل الياء في «عليك وإليك ولديك». ومِن حُجَّة سيبويه على يونس: أن «على» و «إلى» يختلفان بحسب الإضافة, فإن جَرَّا مُضمرًا كانا بالياء, وإن جَرَّا ظاهرًا كانا بالألف، فلو كان «لبيك» كذلك لما كان بالياء في جميع أحواله، سواء أضيف إلى ظاهر أو _________ (1) تصحف في ط. الفقي إلى «الحربي». والجَرْمي هو: صالح بن إسحاق أبو عمرو الجرمي (ت 225) له تصانيف كثيرة في النحو واللغة. ينظر «إنباه الرواة»: (2/ 80)، و «وفيات الأعيان»: (2/ 285). (2) في «الكتاب»: (1/ 350 - 354). (3) البيت من شواهد سيبويه. وانظر «الخزانة»: (1/ 268).

(1/335)


مضمر, كما قال: «فلبّي يَدَي مِسْور». وقالت طائفة من النحاة: أصلُ الكلمة لبًّا لبًّا, أي إجابة بعد إجابة, فثقل عليهم تكرار الكلمة, فجمعوا بين اللفظين ليكون أخفَّ عليهم, فجاءت التثنيةُ وحُذِف التنوين لأجل الإضافة. وقد اشتملت كلمات التلبية على قواعد عظيمة وفوائد جليلة: إحداها: أن قولك «لبيك» يتضمن إجابة داعٍ دعاك ومنادٍ ناداك, ولا يصح في لغةٍ ولا عقل إجابةُ مَن لا يتكلَّم ولا يدعو (1). الثانية: أنها تتضمن المحبة كما تقدم, ولا يقال «لبيك» إلا لمن تحبُّه وتعظِّمُه, ولهذا قيل في معناها: أنا مواجِهٌ لك بما تحبّ, وأنها من قولهم: امرأة لَبَّة, أي مُحِبّة لولدها. الثالثة: أنها تتضمّن التزام دوام العبودية, ولهذا قيل: هي من الإقامة, أي: أنا مقيم على طاعتك. الرابعة: أنها تتضمن الخضوعَ والذُّلَّ, [ق 65] أي خضوعًا لك (2) بعد خضوع, من قولهم. أنا مُلِبّ بين يديك, أي خاضع ذليل. الخامسة: أنها تتضمّن الإخلاص, ولهذا قيل: إنها من اللُّبّ, وهو الخالص. _________ (1) بعده في الأصل: «من أجابه» ثم ضبّب على الكلمتين ووضع فوق الضبة ميمًا صغيرة «ضـ م» والظاهر أنه إشارة إلى حذفها لأن المعنى تام بدونها، وكذلك لم يكتبها في ش. ولم يُتنبه لهذه الإشارة في الطبعتين فأثبتوها. (2) سقطت من ط. الفقي.

(1/336)


السادسة: أنها تتضمّن الإقرار بسمع الرب تعالى, إذ يستحيل أن يقول الرجل «لبيك» لمن لا يسمع دعاءه. السابعة (1): أنها تتضمّن التقرُّب من الله, ولهذا قيل: من الإلباب, وهو التقرُّب. الثامنة: أنها جُعِلَت في الإحرام شعار الانتقال (2) من حال إلى حال, ومن مَنْسك إلى مَنْسك, كما جُعل التكبير في الصلاة شعار الانتقال (3) من ركن إلى ركن, ولهذا (4) السنةُ أن يُلَبِّي حتى يَشْرَع في الطواف, فيقطع التلبية, ثم إذا سار لبَّى حتى يقف بعرفة فيقطعها، ثم يلبِّي حتى يقف بمزدلفة فيقطعها، ثم يلبِّي حتى يرمي جمرة العقبة فيقطعها، فالتلبية شعار الحجِّ والتنقُّل في أعمال المناسك, فالحاجُّ كلما انتقل من ركن إلى ركن قال: «لبيك اللهم لبيك» كما أن المصلي يقول في انتقاله من ركن إلى ركن: «الله أكبر»، فإذا حلّ من نُسُكه قطعها, كما يكون سلام المصلي قاطعًا لتكبيره. التاسعة: أنها شعار التوحيد وملّة إبراهيم, الذي هو روح الحجِّ ومقصده, بل روح العبادات كلها والمقصود منها. ولهذا كانت التلبية مفتاح هذه العبادة التي يُدْخَل فيها بها. العاشرة: أنها متضمنة لمفتاح الجنة وباب الإسلام الذي يُدخَل منه إليه, _________ (1) الأصل و (ش، هـ): «السابع» سهو. (2) في الطبعتين: «شعارًا لانتقال» والمثبت من الأصل أصح. (3) ط. المعارف: «شعارًا لانتقال» مخالف للأصل، وتحرفت في ط. الفقي إلى: «سبعًا، للانتقال»! (4) زاد في ط. الفقي: «كانت» والعبارة مستقيمة بدونها.

(1/337)


وهو كلمة الإخلاص والشهادة لله بأنه لا شريك له. الحادية عشر: أنها مشتملة على الحمد لله الذي هو مِن أحبِّ ما يَتَقرَّب به العبدُ إلى الله, وأول من يُدعَى إلى الجنة أهلُه, وهو فاتحة الصلاة وخاتمتها. الثانية عشر: أنها مشتملة على الاعتراف لله بالنعمة كلِّها, ولهذا عرَّفها باللام المفيدة للاستغراق, أي النعم كلها لك ومنك (1) , وأنتَ موليها (2) والمُنْعِم بها. الثالثة عشر: أنها مشتملة على الاعتراف بأن المُلْك كلَّه لله وحده, فلا مُلك على الحقيقة لغيره. الرابعة عشر: أن هذا المعنى مؤكَّد الثبوت بـ «إنَّ» المقتضية تحقيق الخبر وتثبيته، وأنه مما لا يدخله ريبٌ ولا شكّ. الخامسة عشر: في «أنّ» وجهان: فتحها وكسرها, فمن فتحها تضمَّنت معنى التعليل, أي لبيك لأنّ الحمدَ والنعمةَ لك. ومَن كسرها كانت جملةً مستقلّةً مستأنَفَةً, تتضمن ابتداءَ الثناء على الله, والثناءُ إذا كَثُرت جُمَلُه وتعدَّدَت كان أحسن من قِلّتها, وأما إذا فُتِحت فإنها تُقدَّر بلام التعليل المحذوفة معها قياسًا, والمعنى: لبيك لأن الحمد لك، والفرق (3) بين أن تكون جُمَل الثناء علةً لغيرها وبين أن تكون مستقلةً مرادة لنفسها, ولهذا قال _________ (1) سقطت من ط. الفقي. (2) ط. المعارف: «مولاها»! (3) كذا في الأصول، ولعلها: «وفرقٌ».

(1/338)


ثعلب (1): من قال «إن» بالكسر فقد عمّ, ومَن قال: «أن» بالفتح فقد خصّ. ونظير هذين الوجهين والتعليلين والترجيح سواء قوله تعالى حكاية عن المؤمنين: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 28] بكسر «إن» وفتحها. فمَن فتَحَ كان المعنى: «ندعوه لأنه هو البَرُّ الرحيم»، ومَن كَسَر كان الكلام جملتين, إحداهما قولهم: «ندعوه» , ثم استأنف فقال: «إنه هو البر الرحيم» , قال أبو عبيد (2): والكسر أحسن, ورجَّحَه بما ذكرناه. السادسة عشر: أنها متضمِّنة للإخبار عن اجتماع المُلْك والنعمة والحمد لله عز وجل, وهذا نوعٌ آخر مِن الثناء عليه, غير الثناء بمفردات تلك الأوصاف العَليَّة, فله (3) سبحانه من أوصافه العُلى نوعا ثناءٍ: نوعٌ متعلِّق بكلّ صِفَةٍ صِفَةٍ (4) على انفرادها, ونوعٌ متعلِّق باجتماعها، وهو كمالٌ مع كمال، وهو غاية الكمال, والله سبحانه يَقْرِن في صفاته بين المُلك والحمد, ويُنَوِّع هذا المعنى إذ (5) اقتران أحدهما بالآخر من أعظم الكمال؛ فالملك وحدَه كمال, والحمد كمال، واقتران أحدهما بالآخر كمال, فإذا اجتمع المُلك المتضمِّن للقدرة مع النعمة المتضمِّنة لغاية النفع والإحسان والرحمة، مع _________ (1) ذكر قولَه الخطابي في «غريب الحديث»: (3/ 246)، وعياض في «المشارق»: (1/ 43). (2) ينظر «إعراب القرآن» (ص 887 - 888) للنحاس، و «البحر المحيط»: (8/ 150) لأبي حيان. وقرأ بفتح «أنّه» نافع والكسائي، والباقون بالكسر. ينظر «المبسوط» (ص 351) لابن مهران. (3) الأصل و (ش): «فإنه» ولعلها ما أثبت. (4) صحّح عليهما في الأصل مرتين. (5) ط. الفقي: «وسوغ ... أن» خطأ وتصرف في النص.

(1/339)


الحَمْد المتضمِّن لغاية الجلال والإكرام الداعي إلى محبَّته= كان في ذلك من العَظَمة والكمال والجلال ما هو أولى به وهو أهله, وكان في ذِكْر الحَمْد له ومعرفته به من انجذاب قلبه إلى الله وإقباله عليه, والتوجُّه بدواعي المحبَّة كلها إليه= ما هو مقصود العبودية ولُبّها. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. ونظير هذا: اقتران الغِنَى بالكرم, كقوله: {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40] فله كمالٌ مِن غناه وكرمه, ومنِ اقتران أحدهما بالآخر. ونظيره اقتران العِزّة بالرحمة: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:9]. ونظيره اقتران العفو بالقدرة: {فَإِنَّ (1) اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء:149]. ونظيره اقتران العِلْم بالحلم: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء:12]. ونظيره اقتران الرحمة بالقدرة: {وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة:7]. وهذا يُطْلِع ذا اللبِّ على رياضٍ من العلم أنيقات, ويفتح له بابَ محبَّةِ الله ومعرفته, والله المستعان وعليه التكلان. السابعة عشر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أفضل ما قُلتُ أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» (2) وقد اشتملت التلبيةُ على هذه الكلمات بعينها, وتضمَّنت معانيها, _________ (1) وقع في الأصل و (ش، هـ): «وكان الله عفوًّا ... » وهم. (2) أخرجه الترمذي (3585) من طريق حماد بن أبي حميد, عن عمرو بن شعيب, عن أبيه عن جده به. قال الترمذي: «هذا حديث غريب من هذا الوجه، وحماد بن أبي حميد ... ليس بالقوي عند أهل الحديث». وأخرجه مالك (572، 1270)، ومن طريقه البيهقي: (4/ 284، 5/ 117) من حديث طلحة بن عبيد الله بن كريز, عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال البيهقي: هذا مرسل، وقد روي عن مالك بإسناد آخر موصّلًا ووصله ضعيف.

(1/340)


وقوله: «وهو على كل شيء قدير» , لك أن تُدخلها تحت قولك في التلبية: «لا شريك لك»، ولك أن تُدخلها تحت قولك: «إن الحمد (1) لك». ولك أن تُدخلها تحت إثبات الملك له تعالى, [ق 66] إذ لو كان بعض الموجودات خارجًا عن قُدْرته ومُلكه, واقعًا بخلق غيره, لم يكن نفي الشريك عامًّا, ولم يكن إثبات الملك والحمد له عامًّا, وهذا من أعظم المحال, والمُلك كلُّه له, والحمد كلُّه له, وليس له شريك بوجه من الوجوه. الثامنة عشر: أن كلمات التلبية متضمِّنة للردِّ على كلِّ مُبطِل في صفات الله وتوحيده؛ فإنها مُبْطِلة لقول المشركين على اختلاف طوائفهم ومقالاتهم، ولقول الفلاسفة وإخوانهم من الجهمية المعطِّلين لصفات الكمال التي هي مُتعَلَّق الحمدِ, فهو سبحانه محمودٌ لذاته ولصفاته ولأفعاله, فمَن جَحَد صفاته وأفعاله فقد جَحَد حَمْدَه. ومُبْطِلةٌ لقول مجوس الأمة من (2) القدَرِيَّة الذين أخرجوا عن ملكِ الرب وقدرتِه أفعالَ عبادِه من الملائكة والجن والإنس, فلم يُثبِتوا له عليها قدرةً، ولا جعلوه خالقًا لها. فعلى قولهم لا تكون داخلةً تحت مُلكه, إذ مَنْ لا قدرةَ له على الشيء كيف يكون (3) داخلًا تحت ملكه؟ فلم يجعلوا الملكَ كلَّه لله, ولم يجعلوه على كلِّ شيء قدير. _________ (1) ط. الفقي زاد: «والنعمة» وليست في الأصل. (2) سقطت من ط. الفقي. (3) ط. الفقي: «يكون هذا الشيء» وهو إقحام لا موجب له!

(1/341)


وأما الفلاسفة فعندهم لا قدرة له على شيءٍ البتة. فمن علم معنى هذه الكلمات وشهدها وأيقن بها بايَنَ جميعَ الطوائف المبطلة (1). التاسعة عشر: في عطف المُلك على الحمد والنعمة بعد كمال الخَبَر, وهو قوله: «إنّ الحمدَ والنعمةَ لك والملك» ولم يقل: إن الحمد والنعمة والملك لك= لطيفة بديعة, وهي: أن الكلام يصير بذلك جملتين مستقلّتين, فإنه لو قال: «إن الحمد والنعمة والملك لك» كان عطفُ الملكِ على ما قبله عطفَ مفردٍ على مفردٍ, فلما تمَّت الجملةُ الأولى بقوله «لك» ثم عَطَف الملكَ, كان تقديره: والملك لك. فيكون مساويًا لقوله: «له الملك وله الحمد» , ولم يقل: له الملك والحمد, وفائدته تكرار الجُمَل (2) في الثناء. العشرون: لمَّا عَطَف النعمةَ على الحمد ولم يفصل بينهما بالخبر, كان فيه إشعار باقترانهما وتلازمهما, وعدم مفارقة أحدهما للآخر, فالإنعام والحمد قرينان. الحادية والعشرون: في إعادة الشهادة له بأنه لا شريك له لطيفة، وهو (3): أنه أخبر أنه لا شريك له عقب إجابته بقوله «لبيك» , ثم أعادها عقب قوله: «إنّ الحمدَ والنعمةَ لك والملك لا شريكَ لك». وذلك يتضمَّن أنه لا شريك له في الحمد والنعمة والملك, والأول يتضمَّن أنه لا شريك لك في إجابة هذه الدعوة, وهذا نظير قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ _________ (1) هكذا استظهرتها في الأصل و (ش)، وفي الطبعتين: «المعطلة». (2) ط. الفقي: «الحمد». (3) ط. الفقي: «وهي».

(1/342)


وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] فأخبر بأنه «لا إله إلا هو» في أول الآية, وذلك داخل تحت شهادته وشهادة ملائكته وأولي العلم, وهذا هو المشهود به, ثم أخبر عن قيامه بالقسط وهو العدل, فأعاد الشهادةَ بأنه لا إله إلا هو مع قيامه بالقسط.

  9 - باب ما يلبسُ المُحْرِم

114/ 1749 - عن سالم، عن أبيه قال: سأل رجلٌ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يتركُ المحرمُ من الثياب؟ فقال: لا يلبس القميصَ، ولا البُرْنُسَ، ولا السراويل، ولا العمامة، ولا ثوبًا مَسَّهُ وَرْسٌ ولا زَعْفران، ولا الخُفَّين، إلا أن لا يجد النعلَين، فمَنْ لم يجد النعلين فليلبَسِ الخُفَّين، وليقْطَعْهما حتى يكونا أسفلَ مِن الكعبين». وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي بنحوه (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: حديث ابن عمر هذا فيه أحكام عديدة: الحكم الأول: أنه - صلى الله عليه وسلم - سُئل عما يُلْبَس (2) وهو غير محصور, فأجاب بما لا يُلْبَس لحصره. فعُلِم أن غيرَه على الإباحة، ونبَّه بالقميص على ما فُصِّل للبدن كلِّه, مِن جُبّة أو دَلَق (3) أو درَّاعة أو عَرَقْشِين (4) ونحوه. ونبَّه بالعمامة _________ (1) أخرجه أبو داود (1823)، والبخاري (366)، ومسلم (1177)، والنسائي (2667). ولفظ أبي داود: «ما يترك المحرم ... »، ولفظ الصحيحين: «ما يلبس المحرم ... ». (2) زاد في ط. الفقي: «المحرم» ولا وجود لها في الأصل وش. (3) نوع من الرداء طويل مؤلف من خرق الجوخ من ملابس القضاة والصوفية. ينظر «قاموس الملابس» (ص 150 - 152)، و «تكملة المعاجم»: (4/ 397) كلاهما لدوزي. و «مسالك الأبصار»: (4/ 449). (4) ويقال: عرقـچـين، وهي نوع من اللباس يستعمل لامتصاص العرق، وهي كلمة فارسية مركبة من كلمتين «عَرَق چين»، ينظر «المعجم العربي لأسماء الملابس» (ص 324).

(1/343)


على كلِّ ساترٍ للرأسِ معتادٍ كالقُبْع (1) والطاقية والقَلَنْسُوة والكُلْتة (2) ونحوها. ونبَّه بالبُرْنُس على المحيط بالرأس والبدن جميعًا, كالغفارة (3) ونحوها. ونبَّه بالسراويل على المفصَّل على الأسافل, كالتُّبّان ونحوه. ونبَّه بالخُفَّين على ما في معناهما, من الجُرْمُوق (4) والجورب والزَّرْبول ذي الساق (5) ونحوه. الحكم الثاني: أنه مَنَعه من الثوب المصبوغ بالوَرْس أو الزعفران, وليس هذا لكونه طِيبًا, فإن الطِّيْب في غير الوَرْس والزعفران أشدّ, ولأنه خصَّه بالثوب دون البدن. وإنما هذا من أوصاف الثوب الذي يحرم فيه, أن لا يكون مصبوغًا بوَرْس ولا زعفران، وقد نَهَى أن يتزعفر الرجل (6) , وهذا منهيٌّ عنه خارج الإحرام, وفي الإحرام أشدّ. والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لم يتعرَّض هنا إلا _________ (1) وهو ما يُلبس تحت الخوذة لحماية الرأس، أو طاقية صغيرة توضع تحت العمامة. ينظر «المعجم العربي لأسماء الملابس» (ص 376). (2) كذا في الأصل، وفي (ش): «الكلية» تحريف، ويقال: «الكُلُوتة»، وهي غطاء للرأس مثل الطاقية ونحوها، ينظر المصدر السابق (ص 434 - 435). (3) الغفارة: خرقة تلبسها المرأة تغطي بها رأسها. ينظر «اللسان»: (5/ 26). (4) الجرموق: خفّ صغير يلبس فوق الخف، ينظر «اللسان»: (10/ 35). والكلمة فارسية معربة. (5) الزربول أو الزربون: نوعٌ من الأحذية، مولّدة. ينظر «تاج العروس»: (18/ 258)، و «تكملة المعاجم»: (5/ 299). (6) أخرجه البخاري (5846)، ومسلم (2101) من حديث أنسٍ - رضي الله عنه -.

(1/344)


لأوصاف الملبوس, لا لبيان جميع محظورات الإحرام. الحكم الثالث: أنه - صلى الله عليه وسلم - رخَّص في لُبس الخُفّين عند عدم النعلين ولم يذكر فديةً, ورخَّص في حديث كعب بن عُجْرة في حَلْق رأسِه مع الفدية, وكلاهما محظور بدون العذر. والفرق بينهما: أن أذى الرأس ضرورة خاصة لا تعمّ, فهي رفاهية للحاجة. وأما لُبس الخُفّين عند عدم النعلين فبَدَل يقوم مقام المُبْدَل, والمُبْدَل ــ وهو النعل ــ لا فدية فيه, فلا فدية في بدله, وأما حلق الرأس فليس ببدل، وإنما هو ترفُّه للحاجة, فجُبِر بالدم. الحكم الرابع: أنه أمَرَ لابس الخُفَّين بقطعهما أسفل مِن كعبيه, في حديث ابن عمر, لأنه إذا قطعهما أسفل من الكعبين صارا شبيهين بالنعل. فاختلف الفقهاء في هذا القطع, هل هو واجب أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه واجب, وهذا قول الشافعي وأبي حنيفة ومالك [ق 67] والثوري وإسحاق وابن المنذر, وإحدى الروايتين عن أحمد (1) , لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقطعهما, وتعجَّبَ الخطّابيُّ (2) من أحمد فقال: العجَبُ من أحمد في هذا! فإنه لا يكاد يخالف سنةً تبلُغُه, وَقلَّت سنةٌ لم تبلُغْه. وعلى هذه الرواية إذا لم يقطعهما تلزمه الفدية. والثاني: أن القطع ليس بواجبٍ, وهو أصحّ الروايتين عن أحمد, ويُروى عن عليّ بن أبي طالب, وهو قول أصحاب ابن عباس, وعطاء, _________ (1) ينظر: «التمهيد»: (15/ 14)، و «المغني»: (5/ 120 - 121)، و «شرح مسلم»: (8/ 75)، و «بدائع الصنائع»: (2/ 184). (2) في «معالم السنن»: (2/ 177).

(1/345)


وعكرمة (1). وهذه الرواية أصح, لما في «الصحيحين» (2) عن ابن عباس قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يخطب بعرفات: «مَن لم يجد إزارًا فليلبس سراويل, ومن لم يجد نعلين فليلبس خُفّين». فأطلق الإذن في لبس الخُفّين ولم يشترط القطع، وهذا كان بعرفات, والحاضرون معه إذ ذاك أكثرهم لم يشهدوا خطبتَه بالمدينة, فإنه كان معه مِن أهل مكة واليمن والبوادي مَن لا يحصيهم إلا الله تعالى, وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع. وفي «صحيح مسلم» (3) عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن لم يجد نعلين فليلبس خُفّين, ومن لم يجد إزارًا فليلبس سراويل» , فهذا كلام مُبتدأٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم -,بَيَّن فيه في عَرَفات ــ في أعظم جَمْع كان له ــ أن من لم يجد الإزار فليلبس السراويل, ومن لم يجد النعلين فليلبس الخُفَّين, ولم يأمر بقطعٍ ولا فَتْق, وأكثر الحاضرين بعرفات لم يسمعوا خطبته بالمدينة، ولا سمعوه يأمر بقطع الخُفّين، وتأخير البيان عن وقته ممتنع؛ فدلَّ هذا على أن هذا الجواز لم يكن شُرِع بالمدينة, وأن الذي شُرِع بالمدينة هو الخفّ المقطوع, ثم شرع بعرفات الخف (4) من غير قطع. فإن قيل: فحديث ابن عمر مُقيَّد، وحديث ابن عباس مطلق, والحكم والسبب واحد, وفي مثل هذا يتعيَّن حَمْل المطلق على المقيَّد, وقد أَمَر في _________ (1) ينظر: «المغني»: (120 - 121)، و «التمهيد»: (15/ 114). (2) البخاري (1841)، ومسلم (1178). (3) (1179). (4) زاد في ط. الفقي في هذا الموضع والذي قبله كلمة «لبس» قبل «الخف»، والسياق لا يحتاج إليها.

(1/346)


حديث ابن عمر بالقطع. فالجواب من وجهين: أحدهما: أن قوله في حديث ابن عمر: «وليقطعهما» قد قيل: إنه مُدْرَج من كلام نافع. قال صاحب «المغني» (1): «كذلك رُوِيَ في «أمالي أبي القاسم بن بشران» بإسناد صحيح: أن نافعًا قال بعد روايته للحديث: وليقطع الخُفّين أسفلَ مِن الكعبين». والإدراجُ فيه محتمل, لأن الجملة الثانية يستقلّ الكلام الأول بدونها, فالإدراج فيه ممكن, فإذا جاء مصرَّحًا به أن نافعًا قاله زال الإشكال. ويدلُّ على صحة هذا: أن ابن عمر كان يفتي بقطعهما للنساء, فأخبرَتْه صفيةُ بنت أبي عبيد عن عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخَّصَ للمحرم أن يلبس الخفين ولا يقطعهما, قالت صفية: فلما أخبرته بهذا رجع» (2). الجواب الثاني: أن الأمر بالقطع كان بالمدينة و رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب على المنبر, فناداه رجل فقال: ما يلبس المحرم من الثياب؟ فأجابه بذلك, وفيه الأمر بالقَطْع، وحديثُ ابن عباس وجابر بعده، وعَمرو بن دينار روى الحديثين معًا ثم قال: انظروا أيهما كان قبل (3). وهذا يدلُّ على أنهم علموا نسخَ الأمرِ بحديث ابن عباس. _________ (1) (5/ 121). وفي «المغني»: «رُوّيناه». وليس الحديث فيما طُبع من «أمالي ابن بشران». (2) أخرجه أبو داود (1831)، وأحمد (24067)، وابن خزيمة (2686)، والبيهقي: (5/ 52). وإسناده حسن. (3) أخرجه الدارقطني (2471)، والبيهقي: (5/ 51).

(1/347)


وقال الدارقطني (1): قال أبو بكر النيسابوري: حديث ابن عمر قبل, لأنه قال: نادى رجلٌ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد» فذَكَره, وابنُ عباس يقول: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب بعرفات. فإن قيل: حديث ابن عباس رواه أيوبُ والثوريُّ وابنُ عيينة وحماد بن زيد وابن جُرَيج وهُشَيم, كلُّهم عن عَمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس, ولم يقل أحدٌ منهم «بعرفات» غيرُ شعبة, ورواية الجماعة أولى من رواية الواحد. قيل: هذا عَنَت (2) , فإن هذه اللفظة متفق عليها في «الصحيحين» , وناهيك برواية شعبةَ لها, وشعبةُ حفِظَها وغيرُه لم يَنْفِها, بل هي في حكم جملة أخرى في الحديث مستقلّة, وليست تتضمن مخالفة للآخرين, ومثل هذا يُقْبَل ولا يُردّ, ولهذا رواها الشيخان. وقد قال عليٌّ - رضي الله عنه -: «قَطْع الخُفّين فسادٌ، يلبسهما كما هما» (3). وهذا مقتضى القياس، فإن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سوَّى بين السراويل وبين الخفّ في لُبس كلٍّ منهما عند عدم الإزار والنّعْل, ولم يأمر بفتق السراويل, لا في حديث ابن عمر ولا في حديث ابن عباس ولا غيرهما. ولهذا كان مذهب الأكثرين: أنه يلبس السراويل بلا فَتْق عند _________ (1) في «السنن» عقب حديث (2471). (2) ط. الفقي: «عَبَث». (3) ذكره في «المغني»: (5/ 120)، وعنه في كتب المذهب، والأثر نسبه أبو يعلى في «التعليقة»: (1/ 347) وشيخ الإسلام في «شرح العمدة»: (4/ 477) إلى رواية أبي طالب عن الإمام أحمد. ورواه بنحوه ابن أبي شيبة (14858) عن عكرمة، وابن عبد البر في «الاستذكار»: (11/ 32) عن عطاء.

(1/348)


عدم الإزار, فكذلك الخُفّ يُلْبَس بلا قطعٍ, ولا فرق بينهما. وأبو حنيفة (1) طَرَد القياسَ وقال: تُفْتَق السراويل, حتى تصير كالإزار, والجمهور قالوا: هذا خلاف النص, لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «السراويل لمن لم يجد الإزار» (2) وإذا فُتِق لم يبق سراويل. ومَن اشترط قطعَ الخُفّ خالفَ القياس مع مخالفته النصَّ المطلق بالجواز. ولا يسلم مِن مخالفة النصِّ والقياس إلا مَن جوَّز لُبسهما بلا قطع, أما القياس فظاهر, وأما النصّ فما تقدم تقريرُه (3). والعجبُ أن مَن يوجب القطعَ يوجبُ ما لا فائدةَ فيه, فإنهم لا يجَوِّزون لُبس المقطوع كالمداس والجمجم ونحوهما، بل عندهم المقطوع كالصحيح في عدم جواز لُبسه. فأيُّ معنًى للقطع والمقطوعُ عندكم كالصحيح؟! وأما أبو حنيفة (4) - رحمه الله - فيجوِّز لبس المقطوع, وليس عنده كالصحيح, وكذلك المداس والجمجم ونحوهما. قال شيخنا (5): وأفتى به جدِّي أبو البركات في آخر عمره [ق 68] لمّا حجَّ. قال شيخنا: وهو الصحيح, لأن المقطوع لُبسه أصلٌ لا بَدَل. قال شيخنا (6): فأبو حنيفة - رحمه الله - فهم من حديث ابن عمر أن المقطوعَ _________ (1) ينظر: «بدائع الصنائع»: (2/ 188)، وهو مذهب المالكية أيضًا كما في «التمهيد»: (15/ 112). (2) في حديث ابن عباس، وقد تقدم تخريجه. (3) في الطبعتين: «تقديره». (4) ينظر: «بدائع الصنائع»: (2/ 184). (5) أي ابن تيمية، ينظر: «مجموع الفتاوى»: (21/ 196). (6) ينظر المصدر نفسه.

(1/349)


لبسه أصلٌ لا بَدَل, فجَوَّز لبسه مطلقًا, وهذا فهمٌ صحيح, وقولُه في هذا أصحّ من قول الثلاثة. والثلاثةُ فهموا منه الرخصة في لُبس السراويل عند عدم الإزار والخفِّ عند عدم النعل, وهذا فهمٌ صحيح, وقولهم في هذا أصح من قوله. وأحمدُ فهم من النص المتأخر لبس الخفِّ صحيحًا بلا قطع عند عدم النعل, وأن ذلك ناسخ للأمر بالقطع, وهذا فهم صحيح, وقوله في ذلك أصح الأقوال. فإن قيل: فلو كان المقطوع أصلًا، لم يكن عدم النعل شرطًا فيه, و النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إنما جعله عند عدم النعل. قيل: بل الحديث دليلٌ على أنه ليس كالخفّ, إذ لو كان كالخُفّ لما أمر بقطعه، فدلَّ على أنه بقطعه يخرج عن شَبَه الخفِّ, ويلتحق بالنعل. وأما جَعْله عدم النعل شرطًا فلأجل أن القطعَ إفساد لصورته ومالِيَّته, وهذا لا يُصارُ إليه إلا عند عدم النعل, وأما مع وجود النعل فلا يُفْسِدُ الخفَّ ويُعْدِم مالِيّته, فإذا تبيَّن هذا تبين أن المقطوع ملحقٌ بالنعل لا بالخُفّ, كما قال أبو حنيفة, وأن على قول الموجبين للقطع لا فائدة فيه, فإنهم لا يجوِّزون لبس المقطوع, وهو عندهم كالخفِّ. فإن قيل: فغايةُ ما يدلُّ عليه الحديث جوازُ الانتقال إلى الخفّ والسراويل عند عدم النعل والإزار, وهذا يفيد الجواز, وأما سقوط الفدية فلا, فهلَّا قلتم كما قال أبو حنيفة: يجوز له ذلك مع الفدية؟ فاستفادَ الجوازَ من هذا الحديث, واستفادَ الفديةَ من حديث كعب بن عُجْرة, حيث جوَّز له

(1/350)


فِعْل المحظورِ مع الافتداء (1) , فكان أسعدَ بالنصوص وموافقتها منكم, مع موافقته لابن عمر في ذلك. قيل: بل إيجاب الفدية ضعيف في النصِّ والقياس, فإنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ذكر البَدَلَ في حديث ابن عمر وابن عباس وجابر وعائشة, ولم يأمر في شيءٍ منها بالفدية, مع الحاجة إلى بيانها, وتأخيرُ البيان عن وقته ممتنع, فسكوته عن إيجابها مع شدَّة الحاجة إلى بيانه ــ لو كان واجبًا ــ دليلٌ على عدم الوجوب, كما أنه جَوَّز لبس السراويل بلا فتق, ولو كان الفتقُ واجبًا لبيَّنَه. وأما القياس فضعيف جدًّا؛ فإن مثل (2) هذا من باب الأبدال التي تجوز عند عدم مُبْدَلاتها, كالتراب عند عدم الماء, وكالصيام عند العجز [عن] (3) الإعتاق والإطعام, وكالعدة بالأشهر عند تعذُّر الأقراء ونظائره, ليس هذا من باب المحظور المستباح بالفدية. والفرقُ بينهما: أن الناس مشتركون في الحاجة إلى لبس ما يسترون به عوراتِهم, ويَقُوْنَ به أرجلَهم الأرضَ والحرَّ والشوكَ ونحوَه, فالحاجة إلى ذلك عامة, ولما احتاج إليه العموم لم يُحْظَر عليهم, ولم يكن عليهم فيه فدية، بخلاف ما يحتاج إليه لمرض أو برد, فإنَّ ذلك حاجة لعارض, ولهذا رخَّص النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للنساء في اللباس مطلقًا بلا فدية, ونهى عن النقاب والقُفَّازين, فإن المرأة لما كانت كلها عورة, وهي محتاجة إلى ستر بدنها, لم _________ (1) ط. الفقي: «الفدية». (2) ط. الفقي: «قيل» تصحيف. (3) في الأصل و (ش، هـ): «و» بدلا من «عن» واستفيد الإصلاح من الطبعتين، لكنهم لم يشيروا إلى ما في الأصل.

(1/351)


يكن عليها في ستر بدنها فدية, وكذلك حاجة الرجال إلى السراويلات والخِفاف هي عامة, إذا لم يجدوا الإزار والنعال, وابنُ عمر لمَّا لم يبلُغْه حديث الرخصة مطلقًا أخذ بحديث القطع, وكان يأمر النساءَ بقطع الخِفاف, حتى أخبرَتْه بعد هذا صفيةُ زوجتُه عن عائشة: «أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أرخص للنساء في ذلك» , فرجع عن قوله (1). ومما يبيِّن أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أرخص في الخفين بلا قطع بعد أن منع منهما: أن في حديث ابن عمر المنع من لبس السراويل مطلقًا, ولم يبيِّن فيه حالة من حالة, وفي حديث ابن عباس وجابر المتأخِّرَين ترخيصُه في لبس السراويل عند عدم الإزار, فدلَّ على أن رُخصة البدل لم تكن شُرِعت في لبس السراويل, وأنها إنما شُرِعت وقت خُطبته بها, وهي متأخرة, فكان الأخْذُ بالمتأخِّر أولى, لأنه إنما يُؤخَذ بالآخر فالآخر مِن أَمْرِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فمدار المسألة على ثلاث نُكَت: إحداها: أن رُخصة البدليَّة إنما شُرِعت بعرفات لم تُشْرَع قَبْلُ. والثانية: أن تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع. والثالثة: أن المقطوعَ (2) كالنعل أصلٌ, لا أنه بدل. والله أعلم. فصل وأما نهيه - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر المرأةَ أن تنتقب، وأن تلبس القُفَّازَين, فهو دليل على أن وجه المرأة كبدن الرجل لا كرأسه, فيحرم عليها فيه ما وُضِع وفُصِّل على قَدْر الوجه كالنقاب والبرقع, ولا يحرم عليها ستره _________ (1) تقدم تخريجه (ص 347). (2) ط. الفقي: «الخف المقطوع» بزيادة الخف.

(1/352)


بالمقنعة والجلباب ونحوهما، وهذا أصحّ القولين. فإن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سوى بين وجهها ويديها, ومنَعَها من القُفّازَين والنقاب, ومعلومٌ أنه لا يحرم عليها سَتْر يديها (1) , وأنهما كبدن المحرم يحرم سترهما بالمفصَّل على قدرهما وهما القفازان, فهكذا الوجه إنما يَحْرُم سَتْره بالنقاب ونحوه, وليس عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حرفٌ واحد في وجوب كشف المرأة وجهها عند الإحرام, إلا النهي عن النقاب, وهو كالنهي عن القُفَّازَين، [ق 69] فنسبة النقاب إلى الوجه كنسبة القُفّازَين إلى اليد سواء. وهذا واضح بحمد الله. وقد ثبت عن أسماء أنها كانت تُغطِّي وجهها وهي محرمة (2) , وقالت عائشة: «كانت الركبانُ يمرون بنا, ونحن محرمات مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا حاذوا بنا سدلَتْ إحدانا جلبابَها على وجهها, فإذا جاوزونا كشفنا» ذكَرَه أبو داود (3). واشتراط المجافاة عن الوجه كما ذكره القاضي (4) وغيره ضعيفٌ لا أصل له دليلًا ولا مذهبًا. قال صاحب «المغني» (5): «ولم أر هذا الشرط ــ يعني المجافاة ــ عن أحمد ولا هو في الخَبَر, مع أن الظاهر خلافُه, فإن الثوب المسدولَ لا يكاد يسلم من إصابة البشرة, فلو كان هذا شرطًا لَبُيِّن, _________ (1) (ش): «بدنها» تصحيف. (2) أخرجه ابنُ خزيمة (2690)، والحاكم: (1/ 453) وصححه على شرط الشيخين. (3) (1833)، وأخرجه أحمد (24021)، وابن ماجه (2935). وفي إسناده ضعف. (4) لم أره في «التعليقة» المطبوعة، وذكره عنه ابن قدامة في «المغني»، والزركشي في «شرح الخرقي»: (3/ 140). (5) (5/ 155).

(1/353)


وإنما مُنِعَت المرأةُ مِن البرقع والنقاب ونحوهما مما يُعَدّ لستر الوجه, قال أحمد: لها أن تسدل على وجهها مِن فوق, وليس لها أن ترفع الثوبَ مِن أسفل. كأنه يقول: إن النقاب من أسفل على وجهها. تم كلامه. فإن قيل: فما تصنعون بالحديث المرويِّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إحرام الرجل في رأسه, وإحرام المرأة في وجهها» (1) فجعَلَ وجهَ المرأة كرأس الرجل, وهذا يدلُّ على وجوب كشفه؟ قيل: هذا الحديث لا أصل له, ولم يروه أحدٌ مِن أصحاب الكتب المعتمد عليها, ولا يُعْرَف له إسناد, فلا تقوم به حُجّة (2) , ولا يُتْرَك له الحديثُ الصحيحُ الدالُّ على أن وجهها كبدنها, وأنه يحرم عليها فيه ما أُعِدّ للعضو كالنقاب والبرقع ونحوه, لا مطلق الستر كاليدين. والله أعلم. _________ (1) لم أجده مرفوعًا بهذا اللفظ، وأخرجه الدارقطني (2761)، ومن طريقه البيهقي (5/ 47)، وأخرجه العقيلي: (1/ 116) من طريق هشام بن حسان، عن عُبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر موقوفًا. قال البيهقي: هكذا رواه الدراوردي وغيره موقوفًا على ابن عمر. أما المرفوع فأخرجه الدارقطني (2760)، وابن عدي: (1/ 357)، ومن طريقه البيهقي: (5/ 47) من طريق أيوب بن محمد أبو الجمل، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر بلفظ: «ليس على المرأة إحرام إلا في وجهها». قال ابن عدي: لا أعلمه يرفعه عن عبيد الله غير أبي الجمل هذا. قال البيهقي: «وأيوب بن محمد أبو الجمل ضعيف عند أهل العلم بالحديث، فقد ضعفه يحيى بن معين وغيره، وقد رُوي هذا الحديث من وجه آخر مجهول عن عبيد الله بن عمر مرفوعًا والمحفوظ موقوف». وانظر «علل الدارقطني» (2938)، و «نصب الراية»: (3/ 93)، و «البدر المنير»: (6/ 329 - 331). (2) ينظر «مجموع الفتاوى»: (26/ 112).

(1/354)


115/ 1750 - وعن نافعٍ، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعناه، زاد: «ولا تَنْتَقِبُ المرأةُ الحرام، ولا تلبسُ القُفَّازَين». وأخرجه البخاريُّ والترمذي والنسائي (1). هذا مستثنى من تضييع المال، وكل إتلاف وباب المصلحة فليس بتضييع وليس في أوامر الشريعة إلا الاتباع. وقال عطاء: لا يقطعهما فإن في قطعهما فسادًا .... أن يكون لم يبلغه حديث ابن عمر. وقال الشافعي: أرى أن يقطعهما لأن ذلك في حديث ابن عمر وإن لم يكن في حديث ابن عباس، وكلاهما صادق حافظ، وليس زيادة أحدهما على الآخر شيئًا لم يروه الآخر إما غير رغبة وإما شك فيه فلم يؤدّه، وإما سكت عنه وإما أدّاه فلم يُؤدَّ عنه لبعض هذه المعاني إطلاقًا. والقفّاز بالضم والتشديد شيء يلبسه نساء العرب في أيديهن يُغطّي الأصابع والكف والساعد من البرد، يُحْشى بقطن ويكون له أزرار تُزَرّ على الساعدين. وقيل: هو ضربٌ من الحليّ ... المرأة لديها. وذهب أكثر العلماء إلى أنه لا شيء على المرأة في لباسه، وعللوا حديثَ ابن عمر بأن ذكر القفّازين إنما هو قول ابن عمر ليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعَلَّق الشافعيُّ القولَ في ذلك (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: تحريم لبس القُفَّازَين قول عبد الله بن عمر وعطاء _________ (1) أخرجه أبو داود (1825)، والبخاري (1838)، والترمذي (848)، والنسائي (2673). (2) تعليق المنذري من قوله: «هذا مستثنى ... » إلى هنا، ساقط من مطبوعة «المختصر» وهوفي المخطوط (ق 54 ب) في طرتها. وقد أشار إليه المجرِّد وأن ابن القيم ساقه إلى قوله: «وعلق الشافعي القولَ في ذلك». وتصحفت في ط. المعارف «علق» إلى «على»!

(1/355)


وطاوس ومجاهد وإبراهيم النَّخَعي ومالك والإمام أحمد والشافعي في أحدِ قوليه وإسحاق بن راهويه (1). وتُذْكَر الرخصة عن عليّ وعائشة وسعد بن أبي وقاص, وبه قال الثوريُّ وأبو حنيفة (2) والشافعيُّ في القول الآخر (3). ونَهْي المرأةِ عن لُبسهما ثابتٌ في الصحيح, كنهي الرجل عن لُبس القميص والعمائم, وكلاهما في حديثٍ واحدٍ, عن راوٍ واحدٍ. وكنهيه المرأةَ عن النقاب, وهو في الحديث نفسه. وسنةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أولى بالاتباع, وهي حجةٌ على مَن خالفها، وليس قولُ مَن خالفها حجةً عليها. وأما تعليل حديث ابن عمر في القُفّازَين بأنه مِن قوله (4). فإنه تعليل باطل, وقد رواه أصحابُ الصحيح والسنن والمسانيد عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث نَهْيه عن لبس القُمُص والعمائم والسراويلات وانتقاب المرأة ولبسها القفازين. ولا ريب عند أحدٍ من أئمة الحديث أن هذا كلَّه حديث واحد من أصح الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرفوعًا إليه, ليس من كلام ابن عمر. _________ (1) ينظر: «التمهيد»: (15/ 108)، و «المغني»: (5/ 158 - 159)، و «الإنصاف»: (5/ 503)، و «روضة الطالبين»: (3/ 127)، ولقول إسحاق «مسائل الكوسج»: (5/ 2189). (2) ينظر لمذاهبهم: «مصنف ابن أبي شيبة» (14433 - 14443)، و «التمهيد»: (15/ 107)، و «بدائع الصنائع»: (2/ 186). (3) ينظر «نهاية المطلب»: (4/ 249)، و «روضة الطالبين»: (3/ 127). (4) نقل البيهقي: (5/ 47) عن الحاكم أن الحافظ أبا عليّ النيسابوري قال: إن قوله في حديث ابن عمر: «لا تنتقب المرأة» من قول ابن عمر وقد أدرج في الحديث.

(1/356)


وموضع الشُّبْهَة في تعليله أن نافعًا اختلف عليه فيه: فرواه الليث بن سعد عنه، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -,فذكر فيه: «ولا تلبس القُفّازين» قال أبو داود (1): ورواه حاتم بن إسماعيل ويحيى بن أيوب، عن موسى بن عُقْبة، عن نافع على ما قال الليث. ورواه موسى بن طارق، عن موسى بن عُقْبة موقوفًا على ابن عمر. وكذلك رواه عُبيدُ الله بن عمر ومالكٌ وأيوبُ [عن نافع عن ابن عمر] (2) موقوفًا, وكذلك هو في «الموطأ» (3) عن نافع: أن عبد الله بن عمر كان يقول: «لا تنتقِبُ المرأةُ, ولا تلبس القُفّازين. ولكن قد رفعه الليثُ بن سعد وموسى بن عُقبة في الأكثر عنه. وإبراهيم بن سعيد أيضًا رفَعَه عن نافع, ذكره أبو داود (4). ورواه محمد بن إسحاق عن نافع مرفوعًا, كما تقدم. فأما حديث الليث بن سعد فأخرجه البخاري في «صحيحه» والترمذي (5). وقال: حديث صحيح. ورواه النسائي في «سننه» (6). ولم يروا وَقْف مَن وَقَفه عِلّة. _________ (1) عقب الحديث رقم (1825). (2) ما بين المعقوفين مستدرك من «سنن أبي داود». (3) (918). (4) بعد حديث (1825) ووقع في الأصل و (ش): «إبراهيم بن سعد» والتصويب من «السنن». وقال عَقبه: «إبراهيم بن سعيد المديني شيخ من أهل المدينة ليس له كبير حديث». (5) البخاري (1838)، والترمذي (833)، وعبارة الترمذي في المطبوع: «حسن صحيح». (6) (2673).

(1/357)


وأما حديث موسى بن عُقبة فرواه النسائي في «سننه» (1) عن سُويد بن نَصْر، أخبرنا عبد الله بن المبارك، عن موسى بن عُقبة فذكر الحديث وقال في آخره: «ولا تنتقب المرأةُ الحرام ولا تلبس القُفّازين» مرفوعًا. قال البخاري (2): «تابعه موسى بن عقبة، وإسماعيل بن إبراهيم بن عُقبة، وجُوَيرية، وابنُ إسحاق في النقاب والقفازين». وقال عبيد الله: [ولا وَرْس] وكان يقول: «لا تَنْتَقِبُ المُحْرِمةُ ولا تلبس القُفّازين». وقال مالك عن نافع عن ابن عمر: «لا تَنْتَقِبُ [المُحْرِمة] (3)» وتابعه ليثُ بن أبي سُلَيم. فالبخاري - رحمه الله - ذكر تعليلَه، ولم يرها عِلّة مؤثِّرة, فأخرجه في «صحيحه» عن عبد الله بن يزيد، حدثنا الليث، حدثنا نافع، عن ابن عمر فذَكَره.

  10 - باب المحرم يَنْكِح (4)

116/ 1767 - وعن ابن عباس: «أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تزوَّج ميمونةَ وهو مُحْرِم». وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي بنحوه (5). وعن سعيد بن المسيَّب، قال: وَهِمَ ابنُ عباس في تزويج ميمونة وهو محرم. _________ (1) (2681). (2) (3/ 15) عقب حديث (1838) وما بين المعقوفين مستدرك منه وسقط من الأصل و (ش، هـ). (3) في الأصل و (ش): «المرأة» والمثبت من «الصحيح». (4) كذا في الأصل و (ش)، والذي في «السنن» و «مختصره»: «يتزوّج» ولعله اختلاف نسخ. (5) أخرجه أبو داود (1844)، والبخاري (1837)، والترمذي (842)، والنسائي (2839).

(1/358)


قال أبو عُمر النَّمري: والرواية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوّج ميمونة وهو حلال متواترة عن ميمونة وعن أبي رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن سليمان بن يسار مولاها، وعن يزيد بن الأصم وهو ابن أخيها، وهو مولى سعيد بن المسيّب، وسليمان بن يسار وأبي بكر بن عبد الرحمن وابن شهاب وجمهور علماء المدينة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينكح ميمونة إلا وهو حلال قبل أن يُحرِم، وما أعلم أن أحدًا من الصحابة روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكح ميمونة وهو محرم إلا عبد الله بن عباس، ورواية مَن ذكرنا معارضة لروايته، والقلبُ إلى رواية الجماعة أمْيَل، لأن الواحد أقرب إلى الغلط. وأقرب أحوال حديث ابن عباس أن يجعل متعارضًا مع رواية مَن ذكرنا، فإذا كان كذلك سقط الاحتجاج بجميعها، ووجب طلب الدليل على هذه المسألة من غيرها، فوجدنا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن نكاح المحرم وقال: «لا يَنكِح المحرم ولا يُنْكِح» فوجب المصير إلى هذه الرواية التي لا معارض لها» (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وعن سعيد بن المسيب قال: «وهم ابن عباس في تزويج ميمونةَ وهو محرم» , وقد روى مالك في «الموطأ» (2) عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سُليمان بن يَسار: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا رافع مولاه ورجلًا من الأنصار, فزوَّجاه ميمونة بنت الحارث, ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة قبل أن يخرج» , وهذا وإن كان ظاهره الإرسال فهو متصل (3) , لأن سليمان بن يسار رواه عن أبي رافع: «أن رسول الله تزوَّج ميمونةَ وهو حلال, _________ (1) كلام ابن عبد البر غير موجود في مطبوعة «المختصر» وسقناه من طرة المخطوط، حيث أشار المجرِّد على أن المنذريَّ قد ساق كلامه إلى قوله: «لا معارض لها». (2) (996). (3) ينظر «التمهيد»: (3/ 151) لابن عبد البر.

(1/359)


وبنى بها وهو حلال, وكنتُ الرسولَ بينهما» (1). وسليمان بن يسار مولى ميمونة, وهذا صريح في تزوّجها بالوكالة قبل الإحرام (2).

  11 - باب لَحْم الصيد للمحْرِم

117/ 1774 - وعن أبي قَتادة: أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى إذا كان ببعض طريقِ مكةَ، تخلَّف مع أصحابٍ له مُحْرِمين، وهو غيرُ محرمٍ، فرأى حمارًا وحشيًّا، فاستوى على فرسه، قال: فسأل أصحابَه أن يُناولوه سَوْطَه، فأبوا، فسألهم رُمْحَه، فأبوا، فأخذَه ثم شَدَّ على الحمار فقتله، فأكلَ منه بعضُ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبى بعضُهم، فلما أدركوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سألوه عن ذلك؟ فقال: «إنما هي طُعْمَة أطعَمَكُموها الله تعالى». وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي (3). ووقع في البخاري ومسلم (4): «أنه - صلى الله عليه وسلم - أكل منه». وأخرجه الدارقطني في «سننه» (5) من حديث مَعْمَر بن راشد، وفيه: «وإني إنما اصطدته لكَ، فأمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه فأكلوا، ولم يأكل حين أخبرتُه أني اصطدته له». قال الدارقطني: قال أبو بكر ــ يعني النيسابوري ــ قوله: «اصطدتُه لكَ»، وقوله: «ولم يأكل منه» لا أعلم أحدًا ذكَرَه في _________ (1) أخرجه أحمد (27197)، والترمذي (841)، والنسائي في «الكبرى» (5402)، وابن حبان (4130) وقال الترمذي: حديث حسن. (2) بهامش الأصل: «بلغ مقابلة». (3) أخرجه أبو داود (1852)، والبخاري (2914)، ومسلم (1196)، والترمذي (863)، والنسائي (2816). (4) أخرجه البخاري (2854)، ومسلم (1196/ 63)، ولفظه: «قال: هل معكم منه شيء؟ قال: معنا رجله، فأخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - فأكلها». (5) (2749).

(1/360)


هذا الحديث غير مَعْمر. وقال غيره: هذه لفظة غريبة، لم نكتبها إلا من هذا الوجه. هذا آخر كلامه. وقد تقدم في «الصحيحين»: «أنه أكل منه - صلى الله عليه وسلم -». قال ابن القيم - رحمه الله -: وروى مسلم في «صحيحه» (1) من حديث عبد الرحمن بن عُثمان التيمي قال: «كُنّا مع طلحةَ بن عُبيد الله في طريق مكة, ونحن محرمون، فأهدوا لنا لحم صيدٍ وطلحةُ راقد, فمنّا مَن أكل ومِنّا مَن تورَّع فلم يأكل, فلما استيقظ قال للذين أكلوا: أصبتم, وقال للذين لم يأكلوا: أخطأتم, فإنّا قد أكلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن حُرُم». وروى مالك (2) عن يحيى بن سعيد: أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي، عن عيسى بن طلحة، عن عُمَير (3) بن سَلَمة الضّمْري، عن البَهْزيّ (4): «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج يريد مكة, وهو محرم, حتى إذا كانوا بالروحاء, إذ حمارٌ وحشيٌّ عقير, فذُكِر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -, فقال: «دعوه, فإنه يوشك أن يأتي صاحبُه» , فجاء البهزيُّ ــ وهو صاحبه ــ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله شأنكم بهذا الحمار, فأمرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر فقَسَمه بين الرفاق ثم مضى, حتى إذا كان بالأُثاية بين الرُّوَيْثة والعَرْج (5) , إذا ظبيٌ حاقِفٌ في ظلّ وفيه سهم, فزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرَ رجلًا يقف عنده, لا يريبُه أحدٌ من الناس _________ (1) (1197). (2) في «الموطأ» (1008). وأخرجه النسائي في «الكبرى» (3786)، وابن حبان (5111) وغيرهم. (3) وقع في الأصل و (ش): «عمرو» والتصويب من «الموطأ» ومصادر الحديث. (4) زاد في ط. الفقي: «يزيد بن كعب». (5) الأثاية والرّوَيثة والعَرْج مواضع بين مكة والمدينة. ينظر «المعالم الأثيرة» (ص 15، 131، 181).

(1/361)


حتى جاوزوه». وفي «الصحيحين» (1) عن الصّعْب بن جَثَّامة: «أنه أَهْدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمارًا وحشيًّا, وهو بالأبواء أو بودَّان، فردَّه عليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -, وقال: «إنّا لم نردَّه عليك إلا أنا حُرُم». ورواه مسلم (2) عن سفيان, وقال: «لحم حمار وَحْش». قال الحُمَيدي: كان سفيان يقول في الحديث: «أَهديتُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحمَ حمارِ وَحْشٍ»، وربما قال سفيان: «يقطر دمًا»، وكان فيما خلا ربما قال: «حمار وحش» ثم صار إلى «لحم» حتى مات. وفي رواية لمسلم (3): «شقّ حمار وحش وهو محرم (4) فردَّه»، وفي رواية له: «عَجُز حمار فردَّه»، وفي رواية له: «رجل حمار». قال الشافعي (5): فإن كان الصّعْبُ أهدى للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الحمار حيًّا, فليس لمُحْرِم ذبح حمار وحشيّ, وإن كان أَهدَى له لحمًا, فقد يحتمل أن يكون علم أنه صِيْدَ له, فردَّه عليه. وإيضاحه في حديث جابر. قال: وحديث مالك «أنه أهدى إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حمارًا» أثبت مِن حديث من حَدَّث (6) «أنه أهدى له من لحم حمار». تم كلامه. _________ (1) أخرجه البخاري (1825)، ومسلم (1193). (2) (1193/ 52). (3) كل هذه الروايات برقم (1193/ 54). (4) «وهو محرم» ليست في «صحيح مسلم». (5) نقله البيهقي في «معرفة السنن والآثار»: (4/ 199)، و «السنن الكبرى»: (5/ 193). (6) «من حدّث» سقطت من ط. الفقي.

(1/362)


قال البيهقي (1): وروى يحيى بن سعيد، عن جعفر بن عَمرو بن أمية الضمري، عن أبيه: «أن الصعبَ بن جَثَّامة أهدى للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عجز حمار وهو بالجُحْفة, فأكل منه وأكل القوم». قال: وهذا إسناد صحيح, فإن كان محفوظًا فكأنه ردَّ الحيَّ وقبل اللحمَ, تم كلامه. وقد اختلف الناسُ قديمًا وحديثًا في هذه المسألة, وأشكلت عليهم الأحاديثَ فيها, فكان عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير يرون للمحرم أكلَ ما صادَه الحلال من الصيد, وبه قال أبو حنيفة وأصحابه, وهو قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفَّان والزبير بن العوَّام وأبي هريرة, ذَكَر ذلك ابنُ عبد البر (2) عنهم. وحُجَّتهم: حديث أبي قتادة المتقدِّم, وحديث طلحة بن عُبيد الله، وحديث البَهْزيّ. وقالت طائفة: لحم الصيد حرامٌ على المحرم بكلِّ حال, وهذا قول عليّ وابن عباس وابن عمر. قال ابن عباس: «{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} [المائدة: 96] هي مبهمة». ورُوي عن طاوس وجابر بن زيد وسفيان الثوري المنع منه (3). وحجة هذا المذهب: حديث ابن عباس عن الصّعْب بن جَثَّامة (4) , وحديث عليّ في أول الباب (5) , واحتجّوا بظاهر الآية, وقالوا: تحريم الصيد يعمّ _________ (1) في «السنن الكبرى»: (5/ 193). (2) في «التمهيد»: (21/ 152 - 153). (3) ينظر «التمهيد»: (9/ 60 - 61). (4) سبق تخريجه. (5) أخرجه أبو داود (1849)، وأحمد (783).

(1/363)


اصطياده وأكله. وقالت طائفة: ما صاده الحلالُ للمحرِمِ ومِن أجله, فلا يجوز له أكله, [و] (1) ما لم يَصِدْه من أجله, بل صاده لنفسه أو لحلال, لم يَحْرُم على المُحْرِم أكلُه, وهذا قول مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم, وقول إسحاق وأبي ثور (2). قال ابن عبد البر (3): وهو الصحيح عن عثمان في هذا الباب. قال: وحجة من ذهب هذا المذهب: أنه عليه تصحّ الأحاديث في هذا الباب, وإذا حُمِلت على ذلك لم تتضادّ ولم تختلف ولم تتدافع, وعلى هذا [ق 71] يجب أن تُحْمَل السنن ولا يُعارَض بعضُها ببعض ما وُجِد إلى استعمالها سبيل. تم كلامه. وآثار الصحابة كلُّها في هذا الباب إنما تدلُّ على هذا التفصيل؛ فروى البيهقيُّ (4) من حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: «رأيتُ عثمانَ بن عفان بالعَرْج في يوم صائف وهو محرم، وقد غطَّى وجهَه بقطيفةِ أرجوان, ثم أُتيَ بلحمِ صيدٍ, فقال لأصحابه: كلوا, قالوا: ألا تأكل أنتَ؟ قال: إني لست كهيئتكم, إنما صِيْدَ من أجلي». وحديث أبي قتادة والبَهْزيّ وطلحة بن عُبيد الله قضايا أعيان لا عموم لها, وهي تدلّ على جواز أكل المحرم من صيد الحلال, وحديثُ _________ (1) زيادة يستقيم بها السياق، وأصلحها في ط. الفقي: «فأما ما لم». (2) ينظر «التمهيد»: (21/ 153)، و «نهاية المطلب»: (4/ 408 - 409)، و «المغني»: (5/ 135)، و «مسائل الكوسج»: (5/ 2242). (3) في «التمهيد»: (21/ 153 - 154)، وينظر «الاستذكار»: (11/ 277). (4) في «الكبرى»: (5/ 191)، وأخرجه مالك في «الموطأ» (1016).

(1/364)


الصّعْب بن جَثَّامة يدلّ على منعه منه, وحديث جابر صريح في التفريق. فحيثُ أكَلَ عُلِم أنه لم يُصَد لأجله, وحيثُ امتنَع عُلِم أنه صيدَ لأجله, فهذا فعله وقوله في حديث جابر يدلُّ على الأمرين, فلا تعارض بين أحاديثه - صلى الله عليه وسلم - بحال. وكذلك امتناع عليٍّ مِن أكلِه لعله ظنَّ أنه صِيْد لأجله, وإباحة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه حمارَ البهزيِّ، ومنعهم من التعرُّض للظبي (1) , لأن الحمار كان عقيرًا في حدِّ الموت, وأما الظبي فكان سالمًا لم يسقط إلى الأرض, فلم يتعرَّض له لأنه حيوانٌ حيٌّ. والله أعلم.

  12 - بابُ الإحْصَارِ

118/ 1784 - وعن أبي حاضِرٍ الحِمْيري ــ وهو عثمان بن حاضر ــ قال: «خرجت مُعْتَمِرًا، عام حاصَر أهلُ الشام ابنَ الزُّبير بمكّةَ، وبعثَ معي رجالٌ من قومي بهَدْي، فلما انتهينا إلى أهل الشام منعونا أن ندخلَ الحرمَ، فنحرتُ الهَدْيَ مكاني، ثم أحللتُ، ثم رجعتُ، فلما كان من العام المقبل خرجتُ لأقضيَ عُمرتي، فأتيتُ ابنَ عباس، فسألته؟ فقال: أبْدِلَ الهديَ، فإنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أمرَ أصحابَه أن يُبْدِلوا الهديَ الذي نحروا عامَ الحديبية في عمرةِ القضاء» (2). في إسناده محمد بن إسحاق، وقد تقدَّم الكلامُ عليه. وقال البيهقي: ولعله إن _________ (1) في الطبعتين زيادة: «الحاقف» ولا وجود لها في الأصل و (ش، هـ). (2) أخرجه أبو داود (1864)، والحاكم: (1/ 485 - 486) وقال: صحيح الإسناد. والضياء في «المختارة»: (11/ 186) من طريق محمد بن إسحاق عن عَمرو بن ميمون عن أبي حاضر به. ومحمد بن إسحاق متكلم فيه، وهو مدلس وقد عنعن، فالإسناد ضعيف.

(1/365)


صحّ الحديثُ استحبّ الإبدال وإن لم يكن واجبًا، كما استحبّ الإتيان بالعمرة وإن لم يكن قضاء ما أحصر عنه واجبًا بالتحلُّل. والله أعلم. وإن صحَّ حديثُ الحجَّاج بن عَمرو فقد حَمَله بعضُ أهل العلم أنه يحلّ بعد فواته بما يحلّ به من يفوته الحجُّ بغير مَرَض, فقد رُوِّينا عن ابن عباس ثابتًا عنه أنه قال: «لا حَصْر إلا حَصْر عدوٍّ». تم كلامه. وقال غيره: معنى حديث الحجاج بن عَمرو أن تحلله بالكَسْر والعَرَج إذا كان قد اشترط ذلك في عقد الإحرام, على معنى حديث ضُباعة. قالوا: ولو كان الكسرُ مبيحًا للحلِّ, لم يكن للاشتراط معنى. قالوا: وأيضًا فلا يقول أحدٌ بظاهر هذا الحديث, فإنه لا يحلِّ بمجرَّد الكَسْر والعَرَج, فلا بد من تأويله, فيحمله على ما ذكرناه. قالوا: وأيضًا فإنه لا يستفيد بالحلّ زوال عذره, ولا الانتقال من حاله, بخلاف المحصر بالعدو. وقوله: «وعليه الحجُّ مِن قابل» هذا إذا لم يكن حجَّ الفرضَ, فأما إن كان متطوِّعًا, فلا شيء عليه غير هَدْي الإحصار. قال البيهقي (1): وحديث الحجَّاج بن عَمرو قد اختلف في إسناده, والثابت عن ابن عباس خلافه, وأنه لا حصر إلا حصر العدوّ. تم كلامه (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: اختلف العلماء من الصحابة فمَن بعدَهم فيمن مُنِعَ من الوصول إلى البيت بمرض أو كَسْر أو عَرَج هل حكمه حكم المحْصَر _________ (1) في «السنن الكبرى»: (5/ 220). (2) هذا التعليق بطوله من قوله: «وإن صح حديث الحجاج» إلى هنا للمنذري مع تصرُّف لابن القيم فيه، وهو في (خ- المختصر) (ق 58 ب) في طرتها، وسقط من طبعة «المختصر»، وقد ساق منه المجرِّد إلى آخر كلام البيهقي، وظنه الفقي في طبعته للمؤلف فنسبه إليه. وكلام البيهقي في «الكبرى»: (5/ 220)، وفي «المعرفة»: (4/ 245 - 246).

(1/366)


بالعدوّ (1) في جواز التحلُّل؟ فرُوي عن ابن عباس وابن عمر ومروان بن الحكم: أنه لا يُحِلّه إلا الطواف بالبيت، وهو قول مالك والشافعي وإسحاق وأحمد في المشهور من مذهبه (2). ورُوي عن ابن مسعود أنه كالمحصر بالعدوِّ، وهو قول عطاء والثوري وأبي حنيفة وأصحابه، وإبراهيم النخعي وأبي ثور وأحمد في الرواية الأخرى عنه (3). ومن حُجّة هؤلاء: حديث الحجَّاج وأبي هريرة وابن عباس. قالوا: وهو حديث حسن يحتجُّ بمثله. قالوا: وأيضًا ظاهرُ القرآن بل صريحُه يدلُّ على أن الحصر يكون بالمرض، فإن لفظ الإحصار إنما هو للمرض، يقال: أحْصَره المرضُ وحَصَره العدوُّ، فيكون لفظ الآية صريحًا في المريض، وحصر العدوّ ملحقٌ به، فكيف يثبت الحكم في الفرع دون الأصل؟ قال الخليلُ (4) وغيره: حصرتُ الرجلَ حصرًا منعتُه وحبستُه، وأُحْصِر عن بلوغ المناسك بمرضٍ أو نحوه. قالوا: وعلى هذا خُرِّج قولُ ابن عباس: «لا حصر إلا حصر العدوّ» (5)، _________ (1) سقطت من ط. الفقي. (2) ينظر «التمهيد»: (15/ 207 - 210)، و «نهاية المطلب»: (4/ 428 - 429)، و «المغني»: (5/ 203)، و «مسائل الكوسج»: (5/ 2326). (3) ينظر «التمهيد»: (15/ 205، 206)، و «المغني»: (5/ 203). (4) ذكره في «التمهيد»: (15/ 194)، وينظر «الصحاح»: (2/ 632). (5) أخرجه البيهقي في «الكبرى»: (5/ 219)، وفي «المعرفة»: (4/ 242).

(1/367)


ولم يقل: لا إحصار إلا إحصار العدوّ. فليس بين رأيه وروايته تعارض، ولو قُدِّر تعارضهما فالأخذ بروايته دون رأيه، لأن روايته حجة ورأيه ليس بحجة. قالوا: وقولكم: لو كان يحلّ بالحصر لم يكن للاشتراط معنى. جوابه من وجهين: أحدهما: أنكم لا تقولون بالاشتراط ولا يفيد الشرط عندكم شيئًا. فلا يحل عندكم بشرط ولا بدونه، فالحديثان معًا حجة عليكم، وأما نحن فعندنا أنه يستفيد بالشرط فائدتين: إحداهما: جواز الإحلال، والثانية: سقوط الدم، فإذا لم يكن شرط استفاد (1) بالعذر الإحلال وحده، وثبت وجوب الدم عليه، فتأثير الاشتراط في سقوط الدم. وأما قولكم: إن معناه أنه يحلّ بعد فواته بما يحلّ به مَن يَفُوته الحجّ لغير مرض، ففي غاية الضعف، فإنه لا تأثير للكَسْر ولا للعَرَج في ذلك، فإن المفوت يحل صحيحًا كان أو مريضًا. وأيضًا: فإن هذا يتضمّن تعليقَ الحكم بوصف لم يعتبره النص، وإلغاء الوصف الذي اعتبره، وهذا غير جائز. وأما قولكم: «إنه يُحْمَل على الحلّ بالشرط»، فالشرط إما أن يكون له تأثر في الحلّ عندكم, أو لا تأثير له, فإن كان مؤثرًا في الحِلّ لم يكن الكَسْر والعَرَج هو السبب الذي عُلِّق الحكمُ به, وهو خلاف النص, وإن لم يكن له تأثير في الحلّ بطَلَ حَمْل الحديث عليه. _________ (1) غير محررة في الأصل، ولعلها ما أثبت.

(1/368)


قالوا: وأما قولكم: «إنه لا يقول أحد بظاهره» فإنّ ظاهره أنه بمجرَّد الكَسْر والعَرَج يحلّ. فجوابه: أن المعنى: فقد صار ممن يجوز له الحلّ بعد أن كان ممنوعًا منه, وهذا كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أقبل الليلُ من هاهنا وأدبرَ النهارُ من هاهنا, فقد أفطر الصائم» (1) وليس [ق 72] المراد به أنه أفطر حكمًا, وإن لم يباشر المفطِّرات, بدليل إذنه لأصحابه في الوصال إلى السّحَر, ولو أفطروا حكمًا لاستحالَ منهم الوصال, ولقوله تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] فإذا نكَحَت زوجًا آخر حلَّت, لا بمجرَّد نكاح الثاني, بل لا بدَّ من مفارقته, وانقضاء العدة, وعَقْد الأول عليها. قالوا: وأما قولكم: «إنه لا يستفيد بالإحلال الانتقال من حاله التي هو عليها ولا التخلص من أذاه, بخلاف مَن حَصَره العدوُّ= كلامٌ لا معنى تحته, فإنه قد يستفيد بحله أكثر مما يستفيده المحصر بالعدوِّ, فإنه إذا بقي ممنوعًا من اللباس وتغطية الرأس والطيب مع مرضه, تضرَّر بذلك أعظم الضّرَر في الحرِّ والبرد, ومعلوم أنه قد يستفيد بحله من الترَفُّه ما يكون سبب زوال أذاه, كما يستفيد المحصر بالعدوِّ بحلِّه, ولا فرق بينهما, فلو لم يأت نصٌّ بحلّ المحصَر بمرضٍ لكان القياس على المحصر بالعدوِّ يقتضيه، فكيف وظاهر القرآن والسنة والقياس يدلّ عليه؟ والله أعلم.

  13 - بابُ استلامِ الأركان

119/ 1795 - وعنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يَدَعُ أن يستلمَ الرُّكْنَ _________ (1) أخرجه البخاري (1954)، ومسلم (1100) من حديث عمر - رضي الله عنه -.

(1/369)


اليماني والحَجَر في كلِّ طَوْفة، قال (1): وكان عبد الله بن عمر يفعله. وأخرجه النسائي (2). وفي إسناده عبد العزيز بن أبي روَّاد، وفيه مقال. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى ابن حبان في «صحيحه» (3) عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَسْح الحَجَر والركن اليماني يحطّ الخطايا حطًّا». وروى النسائي (4) من حديث حنظلة بن أبي سفيان قال: «رأيت طاوسًا يمرُّ بالركن, فإن وجد عليه زحامًا مرَّ ولم يُزاحِم, فإن رآه خاليًا قَبَّله ثلاثًا, ثم قال: رأيتُ ابنَ عباس فَعَل مثل ذلك, ثم قال ابن عباس: رأيتُ عمر بن الخطاب فعَلَ مثل ذلك, ثم قال: «إنك حَجَر لا تنفع ولا تضر, ولولا أني رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَبَّلك ما قَبَّلتك» , ثم قال عمر - رضي الله عنه -: «رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَعَل مثل ذلك». وترجم عليه النسائيُّ: «كم يُقَبِّل الحَجَرَ؟» (5). وفي النسائي (6) عن عمر: «أنه قَبَّل الحجرَ الأسودَ والتزمه, وقال: رأيتُ أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - بك حَفِيًّا». _________ (1) من (خ- المختصر)، والقائل هو نافع. (2) أخرجه أبو داود (1876)، والنسائي في «الكبرى» (3914)، وابن خزيمة (2723)، والحاكم: (1/ 456). (3) (3698). وأخرجه أحمد (5621)، والترمذي (959)، والحاكم: (1/ 489) وإسناده جيّد. (4) (2938). (5) هذا في «السنن الكبرى» (3908) بنحوه، أما في «المجتبى» فترجم للباب بقوله: «كيف يُقبِّل». (6) (2936). وأخرجه مسلم (1271).

(1/370)


وفي النسائي (1) عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الحَجَر الأسود من الجنة». وفي «صحيح أبي حاتم» (2) عن نافع بن شيبة الحَجَبِي قال: سمعتُ عبدَ الله بن عَمْرو يقول: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو مُسنِدٌ ظهرَه إلى الكعبة: «الركنُ والمَقامُ ياقوتتان من ياقوت الجنة, ولولا أن الله طمس نورَهما, لأضاءا ما بين المشرق والمغرب». وفي «صحيحه» (3) أيضًا عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن لهذا الحَجَر لسانًا وشفتين يشهدان لمن استلمَه يومَ القيامة بحقٍّ». وفي «صحيحه» (4) أيضًا عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليبعثنَّ الله هذا الركنَ يوم القيامة له عينان يُبصِر بهما, ولسانٌ ينطق به, يشهد لمن استلَمَه بالحقِّ». وأخرج النسائي (5) عن ابن عباس: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يطوف بالبيت على راحلته, فإذا انتهى إلى الركن أشار إليه. _________ (1) (2935). وأحمد (2795)، وأخرجه الترمذي (877)، وابن خزيمة (2733)، قال الترمذي: حسن صحيح. (2) (3710). وأخرجه أحمد (7000)، والترمذي (878)، وابن خزيمة (2732). (3) (3711). وأخرجه أحمد (2398)، وابن خزيمة (2736). (4) (3712). وأخرجه أحمد (2215)، والترمذي (961)، وابن ماجه (2944)، وابن خزيمة (2735). (5) (2955)، وفي «الكبرى» (3912)، والبخاري (1612)، والترمذي (865).

(1/371)


وفي «الصحيح» (1) عن ابن عمر: «أنه سُئل عن استلامِ الحَجَر؟ فقال: رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يستلمه ويقبِّله». رواه البخاري. وهذا يحتمل الجمعَ بينهما, ويحتمل أنه رآه يفعل هذا تارة وهذا تارة. وقد ثبت تقبيل اليدِ بعد استلامه، ففي «الصحيحين» (2) أيضًا عن نافع قال: «رأيت ابنَ عُمَر استلم الحَجَر بيده, ثم قَبَّل يده, وقال: ما تركته منذ رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله». فهذه ثلاثة أنواع صحّت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: تقبيلُه, وهو أعلاها, واستلامُه وتقبيلُ يده, والإشارة إليه بالمحْجَن وتقبيله، لما رواه مسلم (3) عن أبي الطفيل قال: «رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف بالبيت, ويستلم الحَجَر بمحْجَنٍ معه, ويقبِّل المِحْجَن». وقد روى الإمام أحمد في «مسنده» (4) عن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «يا عمر إنك رجلٌ قويٌّ, لا تزاحم على الحَجَر, إن وجدت خَلْوة فاستلمه, وإلا فاستقبله, وهلِّل, وكبِّر». وأما الركن اليماني, فقد صحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه استلمه, من رواية ابن عمر وابن عباس, وحديث ابن عمر في «الصحيحين» (5): «لم يكن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - _________ (1) أخرجه البخاري (1611). (2) أخرجه مسلم (246). ولم أجده في البخاري! (3) (1275). (4) (190) وهو مرسل. (5) أخرجه البخاري (166)، ومسلم (1187).

(1/372)


يمسّ مِن الأركان إلا اليمانِيَيْن». وحديث ابن عباس في الترمذي (1). وقد روى البخاري في «تاريخه» (2) عن ابن عباس قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استلمَ الركنَ اليمانِيَ قَبَّله». وفي «صحيح الحاكم» (3) عنه: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُقبِّل الركَن اليماني, ويضع خَدَّه عليه» وهذا المراد به الأسود, فإنه يسمى يمانيًّا مع الركن الآخر, يقال لهما: اليمانيين (4) , بدليل حديث عمر في تقبيله الحجر الأسود خاصة وقوله: «لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبِّلك ما قَبَّلتك» (5) , فلو قَبَّل الآخرَ لقبَّله عمر. وفي النفس من حديث ابن عباس هذا شيء وهل هو محفوظ أم لا؟

  14 - باب الطواف بعد العصر

120/ 1814 - عن جُبير بن مُطْعِم يبلغ به النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تمنعوا أحدًا يطوف بهذا البيت ويصلي أيّ ساعةٍ شاء من ليل أو نهار». _________ (1) (858). وهو عند البخاري (1608)، ومسلم (1269). (2) (1/ 290). (3) «المستدرك»: (1/ 455). وقال: صحيح الإسناد، وأخرجه ابن خزيمة (2727)، والدارقطني (2743)، والبيهقي: (5/ 76) لكن قال البيهقي: تفرّد به عبد الله بن مسلم بن هرمز وهو ضعيف. (4) كتب فوقها في الأصل: «كذا». وعلق عليه البيهقي في «السنن»: (5/ 76) بقوله: «إلا أن يكون أراد بالركن اليماني الحجرَ الأسود، فإنه أيضًا يسمى كذلك، فيكون موافقًا لغيره». (5) تقدم تخريجه.

(1/373)


وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه. وقال الترمذي: حديث جُبير بن مطعم حديث حسن صحيح (1). قال المنذري: «فيه دليل على أن الصلاة [جائزة] بمكة في الأوقات المنهيّ عنها في سائر البلدان، ومنع بعضُهم ذلك لعموم النهي، وتأوّل بعضهم الصلاةَ في هذا الحديث على الدعاء، وفيه بُعْد» (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى ابن حبان في «صحيحه» (3) عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[ق 73] يقول: «مَن طاف بالبيت أسبوعًا، لا يضع قدمًا ولا يرفع أخرى، إلا حطَّ الله عنه بها خطيئةً, وكتبَ له بها حسنةً ورفعَ له بها درجةً». وأخرج النسائي (4) عن عبد الله بن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن طاف بالبيت أسبوعًا, فهو كعِدْل رَقَبة». وهذه الأحاديث عامة في كلِّ الأوقات, لم يأتِ ما يُخَصّصها ويخرجها _________ (1) أخرجه أبو داود (1894)، والترمذي (868)، والنسائي (585، 2924) وفي «الكبرى» (1574، 3932)، وابن ماجه (1254). (2) لم يذكر المجرِّد الحديث الذي علق عليه المؤلف ولا كلام المنذري، فذكرناه من (خ- المختصر) (ق 61 ب)، وفي ط. الفقي ذكر أن كلام المنذري هذا ليس له وإنما هو كلام الخطابي، وفيه نظر، فهو في (خ- المختصر) مقيّد في طرتها نظير كثير من تعليقات المنذري، وبمقارنته بكلام الخطابي نجد الفرقَ بينهما، وإن كان مقتبسًا منه كعادته في تلخيص كلامه. (3) (3697)، وأخرجه الترمذي (959)، وابن خزيمة (2753)، والحاكم: (1/ 489) وصححه. (4) (2919) وهي إحدى روايات الحديث السابق.

(1/374)


عن عمومها. وقد روى الترمذي في «الجامع» (1) من حديث عبد الله بن سعيد بن جُبير، عن أبيه، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن طاف بالبيت خمسين مرةً خرج مِن ذنوبه كيوم ولدته أمُّه». قال: وفي الباب عن أنس وابن عمر, وحديث ابن عباس غريب. وسألت محمدًا عن هذا الحديث؟ فقال: إنما يروى هذا عن ابن عباس قولَه. وقال أيوب السختياني: وكانوا يقولون: عبد الله بن سعيد بن جُبير أفضل من أبيه (2).

  15 - بابُ طوافِ القارِن

121/ 1815 - عن جابر بن عبد الله قال: «لم يَطُفِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابُه بين الصفا والمروةِ إلا طوافًا واحدًا، طوافَهُ الأول» (3). وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (4). قال ابن القيم - رحمه الله -: اختلف العلماء في طواف القارن والمتمتع على ثلاثة مذاهب: أحدها: أن على كلٍّ منهما طوافَين وسعْيَين, رُوي ذلك عن علي وابن مسعود, وهو قول سفيان الثوري, وأبي حنيفة, وأهل الكوفة, والأوزاعي, _________ (1) (866). (2) ذكره الترمذي (867) عقب الحديث السابق. (3) لم يذكر المجرِّدُ أيّ حديث علق عليه ابن القيم، فالظاهر أنه علق على حديث جابر هذا فذكرناه احتمالًا. (4) أخرجه أبو داود (1895)، ومسلم (1215)، والترمذي (968)، والنسائي (2986)، وابن ماجه (2973).

(1/375)


وإحدى الروايات عن الإمام أحمد (1). الثاني: أن عليهما كليهما طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا, نصّ عليه الإمامُ أحمد في رواية ابنه عبد الله (2) , وهو ظاهر حديث جابر هذا. والثالث: أن على المتمتع طوافين وسعيين, وعلى القارن سعي واحد. وهذا هو المعروف عن عطاء, وطاووس, والحسن (3)، وهو مذهب مالك والشافعي, وظاهر مذهب أحمد (4). وحجتهم حديث عائشة, وقد تقدم, وذكرنا ما قيل فيه. وقد رُوي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أنه طاف طوافَين, وسعى سَعْيَين» من رواية عليٍّ وابن مسعود وعبد الله بن عمر وعِمران بن حُصَين، ولا يثبت شيء منها (5). والذين قالوا: لا بدّ للمتمتع من سعيين تأوَّلوا حديثَ جابر بتأويلات مُسْتَكرَهة جدًّا. فقال بعضهم: «طوافًا واحدًا» أي: طوافين على صفةٍ واحدةٍ, فـ «الواحدة» راجعة إلى صفة الطواف لا إلى نفسه! وهذا في غاية البُعْد, _________ (1) ينظر: «الجامع»: (3/ 274) للترمذي، و «المحلى»: (7/ 175)، و «التمهيد»: (8/ 233)، و «بدائع الصنائع»: (2/ 149)، و «المغني»: (5/ 347). (2) «مسائل عبد الله»: (2/ 686). (3) روى آثارهم ابن أبي شيبة في «المصنف» (14531، 14536، 14538). (4) ينظر: «البيان»: (4/ 371)، و «التمهيد»: (8/ 230)، و «المغني»: (5/ 347). (5) ينظر لهذه الأحاديث: «سنن الدارقطني» (2629 - 2634)، وقد ضعفها البيهقي في «السنن»: (5/ 108 - 109)، وابن الجوزي في «التحقيق»: (2/ 149)، وابن عبد الهادي في «التنقيح»: (3/ 521 - 523)، وابن حجر في «الفتح»: (3/ 495).

(1/376)


وسياق الكلام يشهد ببطلانه. وقال البيهقي (1): «أراد به أصحابَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الذين كانوا قارنين خاصة. فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان مفرِدًا, وأمر أصحابَه أن يحلُّوا مِن إحرامهم إلا مَن ساق الهَدْيَ, فاكتفى هو وأصحابُه القارنون بطواف واحد». وهذا بعيدٌ جدًّا, فإن الذين قَرَنوا من أصحابه كلّهم حلُّوا بعمرة إلا من ساق الهدي من سائرهم, وهم آحاد يسيرة, لم يبلغوا العشرة بل ولا الخمسة, بل الحديث ظاهرٌ جدًّا في اكتفائهم كلّهم بطوافٍ واحدٍ بين الصفا والمروة, ولم يأتِ لهذا الحديث معارِضٌ إلا حديث عائشة. وقد ذَكَر بعضُ الحفَّاظ أن تلك الزيادة من قول عروة لا من قولها. وقد ثبت عن ابن عباس اكتفاء المتمتِّع بسعيٍ واحد؛ روى الإمام أحمد في مناسك ابنه عبد الله (2)، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن عطاء, عن ابن عباس أنه كان يقول: «القارن والمفرد والمتمتع يجزيه طوافٌ بالبيت, وسعيٌ بين الصفا والمروة». ولكن في «صحيح البخاري» (3) عن عكرمة, عن ابن عباس: «أنه سُئل عن مُتْعَة الحجّ؟ فقال: أهلَّ المهاجرون والأنصارُ وأزواجُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّة الوداع وأهْلَلْنا, فلما قدمنا مكةَ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اجعلوا إهلالَكم بالحجِّ عمرةً, إلا من قلَّدَ الهَدْي» , طفنا بالبيت وبالصفا والمروة, وأتينا _________ (1) في «السنن الكبرى»: (5/ 106) بنحوه، وينظر «معرفة السنن»: (4/ 96 - 97). (2) «المناسك» لم يُعثر عليه، وليس في «المسائل» المطبوعة، وذكره شيخ الإسلام في «الفتاوى»: (26/ 39)، وفي «شرح العمدة»: (5/ 279). (3) (1572).

(1/377)


النساءَ, ولبسنا الثياب, وقال: «مَن قَلَّد الهَدْيَ فإنه لا يحلّ له حتى يبلَغ الهديُ مَحِلَّه» , ثم أَمَرنا عشيةَ التروية أن نُهِلَّ بالحجِّ, فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة, فقد تمّ حَجُّنا, وعلينا الهدي، كما قال الله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] إلى أمصاركم, الشاةُ تجزئ, فجمعوا نُسُكَين في عامٍ بين الحج والعمرة, فإن الله أنزله في كتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأباحه للناس غير أهل مكة» وذَكَر باقي الحديث. فهذا صريحٌ في أن المتمتع يسعى سعيين, وهذا مثل حديث عائشة سواء, بل هو أصرح منه في تعدُّد السعي على المتمتع, فإن صحّ عن ابن عباس ما رواه الوليد، عن الأوزاعي، عن عطاء, فلعلَّ عنه في المسألة روايتان (1) , كما عن الإمام أحمد فيها روايتان. وفي «مسائل عبد الله» (2) قال: قلت لأبي: المتمتع كم يسعى بين الصفا والمروة؟ قال: إن طاف طوافين فهو أجود, وإن طاف طوافًا واحدًا فلا بأس, قال: وإن طاف [طوافَين] (3) فهو أعجبُ إليَّ, واحتجَّ بحديث جابر. وأحمدُ فَهِم من حديث عائشة قولها: «فطاف الذين أهلُّوا بالعمرة بالبيت وبالصفا والمروة, ثم حلوا, ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا مِن منى بحجهم» = أن هذا طواف القدوم. واستحبَّ في رواية المرُّوذي وغيره للقادم من عرفة, إذا كان متمتعًا أن _________ (1) كذا في الأصول، والوجه: «روايتين». (2) (2/ 686 و 746). (3) في الأصل و (ش، هـ): «طوافًا واحدًا» خطأ، والتصحيح من «المسائل».

(1/378)


يطوف طوافَ القُدُوم. وردَّ عليه بعض أصحابه (1) ذلك, وفَهِم من حديث عائشة أن المراد به طواف الفرض, وهذا سهو منه, فإن طواف الفرض مشترك بين الجميع, وعائشة أثبتت للمتمتع ما نفَتْه عن القارن, وليس المراد بحديث عائشة إلا الطواف بين الصفا والمروة, والله أعلم. 122/ 1816 - وعن عائشة: «أن أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين كانوا معه لم يطوفوا حتى رَمَوُا الجَمْرَة» (2). وأخرجه النسائي (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي «الصحيحين» (4) عن جابر: أن [ق 74] النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة لما طافت بالكعبة وبالصفا والمروة: «حللتِ من حجِّك وعُمْرَتك جميعًا» , قالت: يا رسول الله, إني أجِدُ في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حجَجْتُ, قال: «فاذهب بها يا عبد الرحمن, فأعْمِرها من التنعيم».

  16 - باب المُلْتَزَم

123/ 1818 - عن عبد الرحمن بن صفوان قال: لما فتَح رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مكةَ، قلتُ: لألْبَسَنَّ ثيابي ــ وكانت داري على الطريق ــ ولأنظرنَّ كيف يصنعُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فانطلقتُ، فرأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد خرجَ مِن الكعبة هو وأصحابُه، قد اسْتَلمُوا البيتَ مِن الباب إلى الحَطِيم، وقد وضعوا خُدُودَهم على البيت، _________ (1) ينظر «المغني»: (5/ 315). (2) لم يسق المجرِّد الحديث الذي علق عليه المؤلف، وذكرناه احتمالًا. (3) أخرجه أبو داود (1896)، والنسائي في «الكبرى» (4158) وإسناده صحيح. (4) أخرجه البخاري (1785) بنحوه، ومسلم (1213).

(1/379)


ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَسَطَهم» (1). في إسناده يزيدُ بن أبي زياد، ولا يحتجُّ به، وذكر الدارقطنيُّ أن يزيدَ بنَ أبي زياد تفرَّد به عن مجاهد. قال ابن القيم - رحمه الله -: وروى البيهقيُّ (2) من حديث عَمْرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه قال: «رأيت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُلْزِقُ وجهَه وصدْرَه بالمُلْتَزَم». وفي البيهقي (3) أيضًا عن ابن عباس: «أنه كان يَلْزَم ما بين الركن والباب, وكان يقول: ما بينَ الركن والباب يُدْعَى المُلتَزَم, لا يلزم ما بينهما أحدٌ يسألُ الله شيئًا إلا أعطاه إياه». وأما الحَطِيم فقيل فيه أقوال (4): أحدها: أنه ما بين الركن والباب، وهو المُلْتَزَم, وقيل: ما بين الركن والمقام والحِجْر، وقيل (5): هو جدار الحِجْر, لأن البيتَ رُفِعَ وتُرِكَ هذا الجدار محطومًا, والصحيح: أن الحطيمَ الحِجْرُ نفسُه، وهو الذي ذكره البخاري في «صحيحه» (6) , واحتجَّ عليه بحديث _________ (1) أخرجه أبو داود (1898)، وأحمد (15550) ببعضه، وابن خزيمة (3017)، والبيهقي: (5/ 92) من طرقٍ عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن صفوان به. وقد ذكر المنذري الأمر في يزيد وأنه لا يحتج به، وضعّف الحديثَ البخاريُّ في «التاريخ الكبير»: (3/ 247). (2) (5/ 164). (3) (5/ 164) وقال: هذا موقوف. (4) ينظر «معجم البلدان»: (5/ 190 و 2/ 273)، و «فتح الباري»: (6/ 379)، و «معجم المعالم الجغرافية» (ص 102 - 103). (5) قوله: «ما بين الركن ... وقيل» ساقط من الطبعتين. (6) (3887).

(1/380)


الإسراء قال: «بينا أنا نائم في الحطيم، وربما قال: في الحِجْر» , قال: وهو حطيم بمعنى محطوم, كقتيل بمعنى مقتول.

  17 - باب الصلاة بِجَمْعٍ

124/ 1845 - وعن عبد الله بن مالك قال: صلَّيتُ مع ابنِ عمرَ المغربَ ثلاثًا، والعشاءَ ركعتين، فقال له مالكُ بن الحارث: ما هذه الصلاة؟ قال: صليتُهما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا المكان بإقامةٍ واحدة. وأخرجه الترمذيُّ (1) وقال: حسن صحيح. وذهب سفيان الثوري وجماعة إلى أنه يصليهما بإقامة واحدة لهما, كما جاء في بعض روايات حديث ابن عمر (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: قال ابن عبد البر (3): وهو محفوظ من روايات الثقات: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى المغرب والعشاء بِجَمْعٍ بإقامة واحدة». قلت: وقد ثبت ذلك عن ابن عباس: «أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلاتين بالمزدلفة بإقامةٍ واحدة» (4). وقال مالك: صلاهما بأذانين وإقامتين, وهو _________ (1) أخرجه أبو داود (1929)، والترمذي (902). وأحمد (4676)، وأخرجه مسلم (1288) عن سعيد بن جبير عن ابن عمر عنهما. (2) ذكر المجرِّد أن ابن القيم ساق كلام المنذري إلى قوله: «روايات حديث ابن عمر» ولم نجد هذا التعليق في «المختصر» لا المطبوع ولا المخطوط (ق 68 ب)، مع أن في «المختصر» تعليقًا طويلًا لكن ليس فيه ما نقله المجرِّد عنه. فالله أعلم. (3) في «التمهيد»: (9/ 265). (4) أخرجه ابن حزم في «حجة الوداع» (ص 288) من طريق قاسم بن أصبغ.

(1/381)


مذهب ابن مسعود. وفي «صحيح البخاري» (1) من حديث ابن مسعود «أنه صلى صلاتين كلَّ واحدةٍ وحدَها بأذان وإقامة». قال ابن المنذر: ورُوِيَ هذا عن عمر - رضي الله عنه -. قال ابن عبد البر (2): ولا أعلم في ذلك حديثًا مرفوعًا إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بوجهٍ من الوجوه, ولكنه رُوِيَ عن عمر بن الخطاب أنه صلاهما بالمزدلفة كذلك. ومذهب إسحاق وسالم والقاسم: أنه يصليهما بإقامتين فقط، وحُجَّتهم حديث ابن عمر المتقدِّم، وهو رواية عن أحمد. ومذهب أحمد والشافعي في الأصح عنه وأبي ثور وعبد الملك الماجشون والطحاوي: أنه يصليهما بأذان واحد وإقامتين. وحجتهم: حديث جابر الطويل. وقد تكلَّف قومٌ الجمعَ بين هذه الأحاديث بضروبٍ من التكلُّف. وعن ابن عمر في ذلك ثلاث روايات. إحداهن: أنه جمع بينهما بإقامتين فقط, والثانية: أنه جمع بينهما بإقامة واحدة لهما, وقد ذكر أبو داود الروايتين (3) , والثالثة: أنه صلاهما بلا أذان ولا إقامة, ذَكَر ذلك البغوي (4): حدثنا الحجَّاج بن المِنهال، حدثنا حماد بن سلمة، عن أنس بن سيرين قال: «وقفتُ مع ابن عمر بعرفة, وكان يُكثِر أن يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد, وهو على كل شيء قدير, فلما أفضنا من عرفة دخل _________ (1) (1683). (2) في «التمهيد»: (9/ 261 - 265). (3) (1928 - 1933). (4) أخرجه ابن حزم في «حجة الوداع» (ص 285) من طريق علي بن عبد العزيز البغوي به.

(1/382)


الشِّعْب فتوضَّأ, ثم جاء إلى جَمْعٍ فعرَّضَ راحلتَه, ثم قال: الصلاة، فصلى المغربَ, ولم يؤذِّن ولم يُقِم, ثم سَلَّم, ثم قال: الصلاة, ثم صلى العشاء, ولم يؤذِّن ولم يُقِم». والصحيح في ذلك كلِّه: الأخذُ بحديث جابر, وهو الجمع بينهما بأذان وإقامتين لوجهين اثنين: أحدهما: أن الأحاديث سواه مضطربة مختلفة؛ فهذا حديث ابن عمر في غاية الاضطراب, كما تقدم, فرُويَ عن ابن عمر مِن فِعْله الجمعُ بينهما بلا أذان ولا إقامة، ورُويَ عنه الجمعُ بينهما بإقامة واحدةٍ، ورُويَ عنه الجمعُ بينهما بأذان واحدٍ وإقامة واحدة، ورُويَ عنه مسنَدًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمعُ بينهما بإقامة واحدة, ورُويَ عنه مرفوعًا الجمع بينهما بإقامتين, وعنه أيضًا مرفوعًا الجمعُ بينهما بأذان واحد وإقامة واحدة لهما, وعنه مرفوعًا الجمعُ بينهما دون ذكر أذان ولا إقامة. وهذه الروايات صحيحة عنه, فيسقط الأخذُ بها, لاختلافها واضطرابها. وأما حديث ابن مسعود فإنه موقوف عليه، فعله (1). وأما حديث ابن عباس فغايته أن يكون شهادةً على نفي الأذان والإقامة الثانية (2)، ومن أثبتهما معه زيادةُ عِلْم, وقد شهد على أمرٍ ثابت عاينَه وسَمِعَه. _________ (1) ط. الفقي: «من فعله» زيادة لا موجب لها. (2) ط. الفقي: «الثابتين»!

(1/383)


وأما حديث أسامة فليس فيه إلا بيان تعدُّد (1) الإقامة لهما وسكت عن الأذان, وليس سكوتُه عنه مقدَّمًا على حديث من أثبته سماعًا صريحًا، بل لو نفاه جملةً لقُدِّم عليه حديث مَن أثبته, لتضمُّنه زيادةَ علمٍ خَفِيَت على النافي. الوجه الثاني: أنه قد صحّ من حديث جابر (2) في جمعه - صلى الله عليه وسلم - بعرفة: أنه جمع بينهما بأذانٍ وإقامتين, ولم يأت في حديثٍ ثابت قطّ خلافُه, والجمعُ بين الصلاتين بمزدلفة كالجمع بينهما بعرفة, لا يفترقان إلا في التقديم [ق 75] والتأخير, فلو فرضنا تدافُعَ أحاديثِ الجَمْع بمزدلفة جملةً لأخذنا حكم الجمع من جَمْع عرفة.

  18 - باب التعجيل مِن جَمْع

125/ 1861 - وعن عائشة أنها قالت: أرسلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأُمِّ سَلَمة لَيلةَ النَّحر، فرمَتْ الجمرةَ قبلَ الفجرِ، ثم مضَتْ فأفاضت، وكان ذلك اليومُ اليومَ الذي يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ــ تعني عندها». قال البيهقي: هذا إسناد صحيح لا غبار عليه، ذكَرَ ذلك عقيب حديث أبي داود، وقال الشافعي: فدلّ على أن خروجها بعد نصف الليل وقبل الفجر، ولأنّ دفعها كان قبل الفجر، لأنها لا تصلي الصبح بمكة إلا وقد قدمت قبل الفجر بساعة. ووافق الشافعيَّ عطاءٌ وطاووس فقالا: ترمي قبل طلوع الفجر، وقال مالك وغيره: ترمي بعد الفجر ولا يجوز قبل ذلك (3). _________ (1) تحرفت في ط. الفقي إلى: «الإتيان بعدد»! (2) تقدم تخريجه. (3) كلام البيهقي هذا ساقه المنذري بحسب كلام المجرِّد، وهو في طرّة خ «المختصر» (ق 69 أ)، وساقه الفقي في طبعته في هامشها لا في متنها، لأنه ورد في هامش المنذري من نسخته. فالله أعلم.

(1/384)


قال ابن القيم - رحمه الله -: قال ابن عبد البر (1): كان الإمام أحمد يدفع حديثَ أمِّ سلمة هذا ويُضَعِّفه. قال ابن عبد البر (2): وأجمع المسلمون على أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنما رماها ضحى ذلك اليوم, وقال جابر: «رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يرمي الجمرةَ ضحى يوم النحر وحدَه, ورمى بعد ذلك بعد زوال الشمس» أخرجه مسلم (3). وقال أبو ثور (4): اختلفوا في رميها قبل طلوع الشمس, فمن رماها قبل طلوع الشمس لم تُجزِئْ وعليه الإعادة. قال ابن عبد البر (5): وحُجّته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رماها بعد طلوع الشمس, فمن رماها قبل طلوع الشمس كان مخالفًا للسنة, ولزمه إعادتها. قال: وزعم ابنُ المنذر: أنه لا يعلم خلافًا فيمن رماها قبل طلوع الشمس وبعد الفجر أنه يُجْزِئه. قال: ولو علمتُ أن في ذلك خلافًا لأوجبتُ على فاعل ذلك الإعادة. قال: ولم يعلَمْ قولَ الثوري (6) , يعني أنه لا يجوز رميها إلا بعد طلوع الشمس, وهو قول مجاهد وإبراهيم النخعي (7). _________ (1) في «التمهيد»: (7/ 270). (2) في «التمهيد»: (7/ 268). (3) (1299/ 314). (4) تحرفت في ط. الفقي إلى «أبو داود»! (5) في «التمهيد»: (7/ 270). (6) حكاه عنه الطحاوي في «بيان المشكل»: (9/ 123)، وهو قول أبي ثور أيضًا كما تقدم في «التمهيد». (7) ينظر «المغني»: (5/ 295).

(1/385)


فمقتضى مذهب ابن المنذر: أنه يجب الإعادة على مَن رماها قبل طلوع الشمس, وحديث ابن عباس صريح في توقيتها بطلوع الشمس, وفِعْله - صلى الله عليه وسلم - متفق عليه بين الأمة, فهذا فعله وهذا قوله, وحديث أم سلمة قد أنكره الإمام أحمد وضعَّفه. وقال مالك: لم يبلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرْخَصَ لأحدٍ رَمَى قَبَل طلوع الفجر. 126/ 1862 - وعن عطاء ــ وهو ابن أبي رباح ــ قال: أخبرني مُخْبِرٌ عن أسماء: أنها رمت الجمرةَ، قلت: إنّا رمينا الجمرةَ بليلٍ؟ قالت: إنا كُنَّا نَصْنَع هذا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه النسائي (1)، وقال فيه: عن عطاء: «أن مولى لأسماء أخبره» وأخرج البخاري ومسلم بمعناه أتمَّ منه من رواية عبد الله مولى أسماء عنها. قال ابن القيم - رحمه الله -: والحديث الذي أشار إليه هو ما في «الصحيحين» (2) عن عبد الله مولى أسماء: أنها نزلت ليلة جَمْعٍ عند المزدلفة, فقامت تصلي فصلت ساعةً, ثم قالت: «يا بُنيَّ هل غابَ القمرُ؟ فقلتُ: لا، فصلَّت ساعة ثم قالت: هل غاب القمر؟ قلت: نعم, قالت: فارتحلوا, فارتحلنا, فمضينا حتى رمَتْ الجمرةَ, ثم رجعت, فصلّت الصبحَ في منزلها, فقلتُ لها: يا هَنْتاه, ما أُرانا إلا قد غَلَّسْنا؟ قالت: يا بنيَّ, إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذِنَ للظُّعُن» وفي لفظ لمسلم: «لِظُعُنِه». _________ (1) أخرجه أبو داود (1934)، والنسائي (3050)، وأحمد (26941) وسيأتي أن أصله في «الصحيحين». (2) أخرجه البخاري (1679)، ومسلم (1291).

(1/386)


وليس في هذا دليل على جواز رميها بعد نصف الليل, فإن القمر يتأخر في الليلة العاشرة إلى قبيل الفجر, وقد ذهبت أسماء بعد غيبوبته (1) من مزدلفة إلى منى, فلعلها وصلت مع الفجر أو بعده, فهي واقعةُ عَينٍ, ومع هذا فهي رخصة للظُّعُن, وإن دَلّت على تقدُّم الرمي, فإنما تدلّ على الرمي بعد طلوع الفجر. وهذا قول أحمد في رواية, واختيار ابن المنذر (2) , وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابهما (3).

  19 - باب يوم الحجِّ الأكبر

127/ 1864 - عن ابن عمر: أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وقفَ يوم النَّحْرِ بين الجَمَرَاتِ في الحجَّةِ التي حَجَّ (4)، فقال: أيُّ يومٍ هذا؟ قالوا: يوم النحر؟ قال: هذا يومُ الحجِّ الأكبر» (5). وأخرجه ابن ماجه، وأخرجه البخاري تعليقًا (6). قال ابن القيم - رحمه الله -: والقرآنُ قد صرَّح بأن الأذان يوم الحج الأكبر, ولا خلاف أن النداء بذلك إنما وقع يوم النحر بمنى, فهذا دليل قاطع على أن يوم _________ (1) ط. الفقي: «غيابه»، ورسمها في الأصل وش: «غيبوبه» ولعله ما أثبت. (2) ينظر: «الإقناع» له: (1/ 222). (3) ينظر: «نهاية المطلب»: (4/ 317)، و «المجموع»: (8/ 180)، و «بدائع الصنائع»: (2/ 137)، و «التمهيد»: (7/ 268 - 269)، و «المغني»: (5/ 295). (4) خ «المختصر» زيادة: «فيها». (5) لم يورد المجرِّد أي حديث علّق عليه المؤلف، فلعله هذا الحديث، استظهارًا. (6) أخرجه أبو داود (1945)، وابن ماجه (3058)، وعلّقه البخاري بعد حديث (1742) مجزومًا به. وإسناده صحيح.

(1/387)


الحجِّ الأكبر يوم النحر. وذهب عمر بن الخطاب وابنه عبد الله والشافعي إلى أنه يوم عرفة. وقيل: أيام الحج كلها, فعبَّر عن الأيام باليوم, كما قالوا: يوم الجمل, ويوم صفين, قاله الثوري. والصواب القول الأول (1).

  20 - بابُ مَنْ لم يُدْرِك عرفةَ

128/ 1869 - وعن عامر ــ وهو الشعبيّ ــ قال: أخبرني عروة بن مُضَرِّسٍ الطائيّ، قال: أتيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بالموقف ــ يعني بجَمْعٍ ــ قلتُ: جِئتُ يا رسول الله من جَبَلَي طَيِّئٍ، أكْلَلْتُ مَطِيَّتي، وأتعبتُ نفسي، والله ما تركتُ من حَبْلٍ إلا وقفتُ عليه، فهل لي من حَجٍّ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عَرَفات قبلَ ذلك ليلًا أو نهارًا فقد تمَّ حَجُّهُ وقَضى تَفَثَهُ» (2). وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (3). وقال الترمذي: حسن صحيح. هذا آخر كلامه. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال عليُّ بن المديني: عروة بن مُضَرِّس لم يرو عنه غير الشعبيّ (4). _________ (1) وانظر: «زاد المعاد»: (1/ 54 - 55)، و «التبيان في أيمان القرآن» (ص 42 - 43)، و «التمهيد»: (1/ 125)، و «شرح مسلم»: (9/ 116)، و «فتح الباري»: (8/ 321). (2) لم يسق المجرِّد الحديث الذي علّق عليه المؤلف، وذكرنا حديث عروة لأن تعليق المؤلف كان عليه. (3) أخرجه أبو داود (1950)، والترمذي (906)، والنسائي (3043)، وابن ماجه (3016)، وأحمد (16208)، وابن حبان (3851). وإسناده صحيح. (4) ساق المجرِّد هذه العبارة على أنها من كلام ابن القيم، وهي في كلام المنذري كما في «مختصره». فتركناها كما نَسَبها. وينظر: «الآحاد والمثاني»: (4/ 438) لابن أبي عاصم.

(1/388)


 21 - باب الصلاة بمنى

129/ 1883 - وعن [الزهري]: أن عثمانَ بن عفَّان أتمَّ الصلاةَ بمنًى مِن أجلِ الأعراب، لأنهم كَثُروا عامَئِذٍ، فصَلّى بالناس أربعًا ليعلمهم أن الصلاة أربع» (1). والظاهر: أن هذا كلَّه إنما هو تأويلٌ لفعل عثمان - رضي الله عنه -، وقد أجبتُ عن هذا جميعه، أما من قال: «من أجل الأعراب» فردُّه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم ركعتين، وهو عليه السلام القدوة للأعراب وغيرهم، وكان الأعراب في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجهل بأحكام الصلاة، وأمرُ الصلاة في زمان عثمان أشهر من أن يخفى عددُها. وأما مَن قال: إنه أجمعَ المقام بمكة بعد الحج، فردُّه أن المهاجرين فُرِض عليهم ترك المقام بمكة، ولا يقيم بها بعد قضاء نُسُكِه سوى ثلاث، وقد رُوي عن عثمان أنه كان لا يودّع النساء إلا على راحلته ويسرع الخروج من مكة خشيةَ أن يرجع في هجرته. وأما مَن قال: إن عائشة تأولت أنها أم المؤمنين وعثمان أنه إمامهم، فحيث حلّا فكأنهما في منازلهما، فردّه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أولى الناس بذلك ولم يُتمّ. وما رُوي عن عثمان أنه تأهّل بمكة يردّه سفر النبي - صلى الله عليه وسلم - بزوجاته وقد قَصَر (2). _________ (1) أخرجه أبو داود (1964)، والبيهقي: (3/ 144). ويشهد له ما أخرجه البخاري (1084) ومسلم (695) عن عبد الرحمن بن يزيد عن عثمان - رضي الله عنه -. (2) ذكر المجرِّد أن المؤلف علق على كلام المنذري بعد قوله: «يردّه سفر النبي - صلى الله عليه وسلم - بزوجاته» فسقنا كلامه إلى هذا الموضع، وبقي منه قوله: «والمختار أن عثمان وعائشة أتمّا في السَّفَر لأنهما اعتقدا أن قصر النبي عليه السلام أنه لما خُيّر بين القصر والإتمام اختار الأيسر من ذلك على أمته، وأخذت هي وعثمان في أنفسهما بالشدّة وتركا الرخصةَ اختيارًا للأتمّ والأكمل» وإنما سقناه لأنه غير موجود في أي من مطبوعات «المختصر».

(1/389)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وأما ما رُوي عن عثمان «أنه تأهَّل بمكّة» فيردُّه أن هذا غير معروف، بل المعروف أنه لم يكن له بها أهلٌ ولا مال. وقد ذكر مالك في «الموطأ» (1) أنه بلغه «أن عثمان بن عفان كان إذا اعتمر ربما لم يحْطُطْ راحلته حتى يرجع»، ويردُّه ما تقدّم أن عثمان من المهاجرين الأولين, وليس لهم أن يقيموا بمكة بعد الهجرة. وقال ابن عبد البر (2): وأصح ما قيل فيه: أن عثمان أخذ بالإباحة في ذلك. قال غيره: اعتقد عثمان وعائشة في قصر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان رخصةً، أخذَ بالأيسر رِفقًا بأمته, فأخذا بالعزيمةِ وتركا الرخصةَ. والله أعلم.

  22 - باب (3) رَمْي الجِمار

130/ 1893 - وعن ابن مسعود: لما انتهى إلى الجَمْرة الكُبرى، جَعَل البيتَ عن يساره، ومِنًى عن يمينه، ورَمَى الجمرةَ بسبعِ حَصَيات، وقال: هكذا رَمَى الذي أُنزلَتْ عليه سورةُ البقرة (4). وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه مختصرًا ومطولًا (5). _________ (1) (990). (2) في «التمهيد»: (22/ 304). (3) كذا في الأصل و (ش)، وفي «المختصر» و «السنن»: «بابٌ في ... ». (4) لم يذكر المجرّد أيّ حديث علّق عليه المؤلف في هذا الباب، فاستظهرت أنه علق على هذا الحديث لمناسبته لتعليقه، وقد ساق المنذري في الباب ثلاثة عشر حديثًا. (5) أخرجه أبو داود (1974)، والبخاري (1748)، ومسلم (1296)، والترمذي (916)، والنسائي (4062)، وابن ماجه (3030). وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

(1/390)


قال ابن القيم - رحمه الله -: قد صحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رمى الجمرةَ بسبع حَصَيات من رواية عبد الله بن عباس, وجابر بن عبد الله, وعبد الله بن عمر. وشكُّ الشاكِّ لا يؤثِّر في جَزْم الجازم. واختلف الناسُ في ذلك (1)، فالذي ذهب إليه الجمهور: وجوب استيفاء السبع في كلّ رمي, وحكى الطبريُّ عن بعضهم أنه لو ترك رمي جميعهن, بعد أن يُكَبِّر عند [ق 76] كلِّ جمرة سبع تكبيرات, أجزأه ذلك, قال: وإنما جُعِل الرميُ بالحصى في ذلك سببًا لحفظ التكبيرات السبع. وقال عطاء: إن رمى بخمسٍ أجزأه. وقال مجاهد: إن رمى بستٍّ فلا شيء عليه, وبه قال إسحاق. وقال الإمام أحمد: إن نقصَ حصاةً أو حصاتين فلا بأس, وقال مرة: إن رمى بستٍّ ناسيًا, فلا شيء عليه, ولا ينبغي أن يتعمَّدَه, فإن تعمَّدَه تصدَّق بشيء. وكان [ابن] (2) عمر يقول: «ما أبالي رميتُ بستٍّ أو بسبع». وقال مرة: لا يجزئه أقلّ مِن سبع (3). وروى النسائي والبيهقي في «سننه» والأثرم وغيرهم (4) عن ابن أبي _________ (1) ينظر مذاهب الناس في ذلك: «مصنف ابن أبي شيبة» (13609 - 13617)، و «التمهيد»: (17/ 255 - 256)، و «المغني»: (5/ 330)، و «فتح الباري»: (3/ 581)، و «عمدة القاري»: (10/ 88). (2) زيادة لازمة لأن الأثر مرويّ عنه لا عن أبيه، أخرجه ابن أبي شيبة (13613). (3) ينظر «المغني»: (5/ 330)، و «الإنصاف»: (4/ 46 - 47). (4) أخرجه النسائي (3077) وفي «الكبرى» (4069) دون أثر طاووس، والبيهقي: (5/ 149)، وأحمد (1439). ومجاهد لم يسمع من سعد بن أبي وقاص فهو منقطع، كما ذكر ابن القطان وغيره.

(1/391)


نَجيح: سُئل طاوسٌ عن رجل ترك حَصَاة؟ قال: يطعم لقمةً, [قال: فذكرتُ ذلك لمجاهد] (1) فقال أبو عبد الرحمن: لم تسمع قول سعد, قال سعد بن مالك: «رجعنا في حَجَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمِنَّا مَن يقول: رميتُ بستٍّ, ومِنّا مَن يقول: رميتُ بسبعٍ, فلم يعِبْ ذلك بعضُنا على بعض».

  23 - باب العمرة

131/ 1908 - وعن عائشة: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتمرَ عُمْرتين، عمرةً في ذي القَعْدة، وعمرةً في شوّال» (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: لم يتكلَّم المنذريُّ على هذا الحديث, وهو وهم, فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر في شوال قطُّ، فإنه لا ريب أنه اعتمر عمرة الحديبية, وكانت في ذي القَعْدة, ثم اعتمر من العام القابل عمرةَ القضيَّة، وكانت في ذي القَعْدة, ثم غزا غزاة الفتح ودخل مكة غير محرم, ثم خرج إلى هوازن وحرب ثقيف, ثم رجع إلى مكة فاعتمر من الجِعْرَانة, وكانت في ذي القَعْدة, ثم اعتمر مع حَجَّته عمرةً قَرنَها بها, وكان ابتداؤها في ذي _________ (1) سقط من الأصل، واستدركته من «مسند أحمد» والبيهقي. (2) أخرجه أبو داود (1991) وذكر الحافظ في «الفتح»: (3/ 600) أن سعيد بن منصور أخرجه مرفوعًا من طريق الدراوردي عن هشام بن عروة. قال: «وإسناده قويّ، وقد رواه مالك في «الموطأ» (972) عن هشام عن أبيه مرسلًا، لكن قولها: «في شوال» مخالف لقول غيرها: «في ذي القعدة» ويجمع بينهما أن يكون ذلك وقع في آخر شوال وأول ذي القعدة. ويؤيده ما رواه ابن ماجه بإسناد صحيح عن مجاهد عن عائشة: لم يعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرةً إلا في ذي القعدة». واختلف في وصله وإرساله كما سيذكره المؤلف في التعليق.

(1/392)


القَعْدة. وسيأتي حديث أنس (1) بعد هذا في أن عُمَرَه كلّها كانت في ذي القعدة. وقد روى مالك في «الموطأ» (2) عن هشام بن عروة عن أبيه: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر إلا ثلاثًا, إحداهن في شوَّال, واثنتين في ذي القعدة». وهذا مرسل عند جميع رواة «الموطأ». قال ابن عبد البر (3): وقد رُوِي مسندًا عن عائشة, وليس رواته (4) مسندًا ممن يُذْكَر مع مالك في صحّة النقل. وقال ابن شهاب: «اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عُمَر, اعتمر عام الحديبية, فصدَّه الذين كفروا في ذي القعدة سنة ستٍّ, واعتمر من العام المقبل في ذي القَعْدة سنة سبع, آمنًا هو وأصحابُه, ثم اعتمر العمرة الثالثة في ذي القَعْدة سنة ثمان, حين أقبل من الطائف من الجعرانة» (5). وروى معمر، عن الزهري: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتمر أربعًا» (6) , فذكر _________ (1) أخرجه أبو داود (1994)، والبخاري (1780)، ومسلم (1253). (2) (972). (3) في «التمهيد»: (22/ 289). (4) الأصل و (ش): «روايته» ولعل الصواب ما أثبت؛ لأن العبارة في «التمهيد» بعد أن ساق مَن رواه مسندًا: «وليس هؤلاء ممن يُذْكَر مع مالك في صحة النقل» وهي الموافقة لما أثبتنا. (5) أخرجه ابن عبد البر في «التمهيد»: (22/ 290) من طريق قاسم بن أصبغ. (6) ذكره في «التمهيد»: (24/ 411).

(1/393)


مثل هذا, وكذلك في حديث عبد الله بن عمرو (1) وغيره, وكذلك ذكر موسى بن عقبة وزاد: «ومنهن واحدة مع حجته» (2)، وكذلك قال جابر: «اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عمر كُلُّهن في ذي القعدة, إحداهن زمن الحديبية, والأخرى في صُلح قريش, والأخرى في رَجْعَته من الطائف ومن حُنين من الجعرانة» (3). وهذا لا يناقض ما روى الثوري، عن جعفر، عن أبيه، عن جابر: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجَّ ثلاث حِجَج: [حجّتين] قبل أن يهاجر, وحجة بعد ما هاجر معها عمرة» (4) فإن جابرًا أرادَ عمرتَه المفردة التي أنشأ لها سفرًا لأجل العمرة. ولا يناقض هذا أيضًا حديثَ ابن عمر: «أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر عمرتين» (5) كما سيأتي بعد هذا، فإن كان هذا محفوظًا عن عائشة: «أنه اعتمر في شوال» فلعله عَرَض لها في ذلك ما عرضَ لابن عمر من قوله: «إنه اعتمر في رجب». وإن لم يكن محفوظًا عن عائشة كان الوهم _________ (1) كذا في الأصل والظاهر أنه تحريف، وصوابه: ابن عُمَر، وحديثه أخرجه البخاري (1775) وأحمد (6126). وحديث ابن عَمْرو أخرجه أحمد (6685 و 6686) لكن فيه: «اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عمر، كل ذلك في ذي القعدة ... ». (2) الذي في «التمهيد»: (24/ 411) أن هذه رواية معمر. (3) أخرجه البزار كما في «كشف الأستار»: (2/ 38) ومن طريقه ابنُ عبد البر في «التمهيد»: (22/ 290 - 291)، والطبراني في «الأوسط» كما في «مجمع الزوائد»: (3/ 279) وقال: رجاله رجال الصحيح. (4) أخرجه الترمذي (815)، وابن ماجه (3076)، وابن خزيمة (3056)، والحاكم: (1/ 469). قال الترمذي: هذا حديث غريب ... ونقل عن البخاري أنه لم يعرفه من حديث الثوري ... ولا يعدّ هذا الحديث محفوظًا. وصححه الحاكم على شرط مسلم! وما بين المعكوفين من المصادر. (5) أخرجه أبو داود (1992).

(1/394)


من عروة أو من هشام, والله أعلم, إلا أن يُحْمَل على أنه ابتدأ إحرامها في شوال, وفَعَلها في ذي القعدة. فتتفق الأحاديثُ كلّها، والله أعلم (1). 132/ 1909 - وعن مجاهد قال: سُئِلَ ابنُ عمر: كم اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: مرتين، فقالت عائشة: لقد عَلِم ابنُ عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد اعتمر ثلاثًا، سوى التي قَرَنها بحجَّة الوداع. وأخرجه النسائي. وأخرجه ابن ماجه مختصرًا بنحوه (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: قال ابن حزم (3): «صَدَقَت عائشةُ, وصَدَق ابنُ عمر؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر منذ هاجر إلى المدينة عمرةً كاملةً مفردة. إلا اثنتين كما قال ابن عمر، وهما عمرة القضاء، وعمرة الجِعْرَانة عام حُنين. وعدَّتْ عائشةُ وأنسٌ إلى هاتين العمرتين عمرةَ الحديبية التي صُدَّ عنها, والعمرة التي قَرنَها بحَجَّته, فتآلفَتْ أقوالُهم وانتفى التعارض عنها». ثم قال ابن القيم - رحمه الله - ــ بعد قول المنذري (4): وذَكَر بعضُهم أن رسول الله خرج معتمرًا في رمضان، إلى أن قال المنذريُّ: وكان ابتداءُ خروجهم لها في رمضان ــ: وهذا لا يصحّ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يخرج في رمضان إلى مكةَ إلا في _________ (1) وهذا ما ذكره الحافظ في «الفتح»: (3/ 600). وانظر «زاد المعاد»: (2/ 92 - 96 و 116). (2) أخرجه أبو داود (1992)، والنسائي في «الكبرى» (4204)، وابن ماجه (2997) مختصرًا عن مجاهد عن عائشة - رضي الله عنها -. (3) في «حجة الوداع» (ص 406). (4) كلامه غير موجود في المطبوع من «المختصر»، وهو في المخطوط (ق 74 ب) معلقًا على طرتها عند حديث أنسٍ (1911).

(1/395)


غَزاة الفتح ولم يعتمر فيها.

  24 - باب الإفاضَةِ في الحجِّ

133/ 1915 - عن ابن عمر: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أفاضَ يومَ النحرِ، ثم صلى الظهرَ بمنًى، يعني راجعًا. وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي بنحوه، ولفظ البخاري مختصر (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: هكذا قال ابن عمر, وقال جابر في حديثه الطويل: «ثم أفاض إلى البيت فصلى بمكّةَ الظهر» رواه مسلم (2). وقالت عائشة: «أفاضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن آخر يومه حين صلى الظهر, ثم رجع إلى منى, فمكث بها» (3) الحديث, وسيأتي. فاختلف الناس في ذلك, فرجَّحت طائفةٌ ــ منهم [ق 77] ابنُ حزم وغيرُه ــ حديثَ جابر وأنه صلى الظهر بمكة. قالوا: وقد وافقته عائشةُ, واختصاصها به وقربها منه, واختصاص جابر وحرصه على الاقتداء به, أمرٌ لا يُرْتابُ فيه. قالوا: ولأنه - صلى الله عليه وسلم - رمى الجمرة وحلَقَ رأسَه, وخَطَب الناسَ, ونحرَ مائة بدَنَة هو وعليٌّ, وانتظر حتى سُلِخَت, وأخذ مِن كلِّ بَدَنة بضعة, فطُبِخَت وأكلا مِن لحمها. _________ (1) أخرجه أبو داود (1998)، والبخاري (1732)، ومسلم (1308)، والنسائي (4154). (2) (1218). (3) أخرجه أبو داود (1973)، وأحمد (24592)، وابن خزيمة (2956)، وابن حبان (3868)، والحاكم: (1/ 477) وصححه على شرط مسلم.

(1/396)


قال ابن حزم (1): وكانت حجَّته في آذار, ولا يتسع النهارُ لِفِعْل هذا جميعه, مع الإفاضة إلى البيت والطواف وصلاة الركعتين, ثم يرجع إلى منى, ووقت الظهر باق. وقالت طائفة, منهم شيخ الإسلام ابن تيمية (2) وغيره: الذي يترجَّح أنه إنما صلى الظهرَ بمنى لوجوه: أحدها: أنه لو صلى الظهرَ بمكة لنَابَه (3) عنه في إمامة الناس بمنى إمامٌ يصلي بهم الظهرَ, ولم يُنْقَل ذلك قطّ (4). ومُحالٌ أن يصلي بالمسلمين الظهرَ بمِنَى نائبٌ له, ولا ينقلُه أحدٌ, فقد نقلَ الناسُ نيابةَ عبد الرحمن بن عوف لما صلى بهم الفجرَ في السفر, ونيابةَ الصديق لما خرج - صلى الله عليه وسلم - يصلح بين بني عَمرو بن عوف, ونيابته في مرضه. ولا يحتاج إلى ذِكْر مَن صلى بهم بمكة, لأن إمامهم الراتب الذي كان مستمرًّا على الصلاة قبل ذلك وبعده, هو الذي كان يصلي بهم. الثاني: أنه لو صلى بهم بمكة لكان أهل مكة مقيمين, فكان يتعيَّن عليهم الإتمام, ولم يقل لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أتمُّوا صلاتَكم فإنا قوم سَفْر» كما قاله في _________ (1) في «حجة الوداع» (ص 295). (2) لم أجد بحث شيخ الإسلام صراحةً في هذه المسألة، لكن في «مجموع الفتاوى»: (24/ 125 و 157 - 159 و 26/ 130، 170) ما يشير إلى اختياره في المسألة. (3) ط. الفقي: «لأناب عنه». (4) ط. الفقي: «أحد» بدلًا من «قط» وهو تصرف في النص، وفي ط. المعارف: «ذلك أحدٌ قط» فأضاف كلمة «أحد» ولا وجود لها في الأصل، ولعل سبب التباس الجملة أنهم قرأوا الفعل «ينقل» مبنيًّا للمعلوم، وبقراءته مبنيًّا للمجهول ينحل الإشكال.

(1/397)


غزاة الفتح (1). الثالث: أنه يمكن اشتباه الظهر المقصورة بركعتي الطواف, ولا سيما والناس يصلونهما معه, ويقتدون به فيهما فظنَّهما الرائي الظهرَ. وأما صلاته بمنى والناس خلفه فهذه لا يمكن اشتباهها بغيرها أصلًا, لا سيما وهو - صلى الله عليه وسلم - كان إمام الحجِّ الذي لا يصلي لهم سواه, فكيف يدعهم بلا إمام يصلون أفرادًا ولا يقيم لهم من يصلي بهم؟ هذا في غاية البعد. وأما حديث عائشة فقد فَهِم منه جماعةٌ ــ منهم المحبّ الطبري (2) وغيره ــ أنه صلى الظهر بمنى, ثم أفاض إلى البيت بعد ما صلى الظهر, لأنها قالت: «أفاضَ مِن آخر يومه حين صلى الظهر, ثم رجع إلى منى» (3). _________ (1) أخرجه أبو داود (1229)، وأحمد (19865) من حديث عمران بن حصين، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان فيه ضعف. (2) المحبّ الطبري هو: أحمد بن عبد الله أبو العباس المكي الشافعي (ت 694). ينظر «تاريخ الإسلام»: (15/ 784)، و «طبقات الشافعية»: (8/ 18 - 20). وكلامه في «الأحكام الكبرى»: (5/ 265). (3) وسبقه إلى هذا الإمام ابن خزيمة فقال في «الصحيح» عقب حديث (2956): «وأحسب أن معنى هذه اللفظة (التي في خبر عائشة) لا تضادّ خبر ابن عمر، لعل عائشة أرادت: أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آخر يومه حين صلى الظهر بعد رجوعه إلى منى، فإذا حُمِل خبر عائشة على هذا المعنى لم يكن مخالفًا لخبر ابن عمر، وخبر ابن عمر أثبت إسنادًا من هذا الخبر، وخبر عائشة ما تأولتُ من الجنس الذي نقول: إن الكلامَ مقدّم ومؤخر ... فمعنى قول عائشة على هذا التأويل: أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آخر يومه ثم رجع حين صلى الظهر، فقدَّم «حين صلى الظهر» قبل قوله: «ثم رجع» ... ».

(1/398)


قالوا: ولعله صلى الظهر بأصحابه, ثم جاء إلى مكة فصلى الظهر بمَن لم يصل, كما قال جابر, ثم رجع إلى منى، فرأى قومًا لم يصلوا فصلى بهم ثالثة, كما قال ابن عمر. وهذه خرفشةٌ (1) في العلم, وطريقة يسلكها القاصرون فيه, وأما فحول أهل العلم فيقطعون ببطلان ذلك, ويحيلون الاختلافَ على الوهم والنسيان, الذي هو عُرضة البشر. ومَن له إلمام بالسنة ومعرفة حجّه (2) - صلى الله عليه وسلم -, يقطعُ بأنه لم يصلِّ الظهرَ في ذلك اليوم ثلاثَ مرّات بثلاث جماعات, بل ولا مرتين. وإنما صلاها على عادته المستمرَّة قبل ذلك اليوم وبعده - صلى الله عليه وسلم -. وفَهِم منه آخرون ــ منهم ابن حزم وغيره ــ أنه أفاض حين صلاها بمكة (3). وفي نسخة من نسخ «السنن»: «أفاض حتى صلى الظهر ثم رجع» (4). وهذه الرواية ظاهرة في أنه صلاها بمكة, كما قال جابر, ورواية «حين» محتملة للأمرين, والله أعلم. 134/ 1916 - وعن أم سلمة قالت: كانت ليلتي التي يصير إليَّ فيها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مساءَ يومِ النحر، فصار إليَّ، فدخل عليَّ وَهْب بن زَمْعَة، ومعه رجلٌ من آل أبي أُمية مُتَقَمِّصَيْنِ. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لوهب: «هل أفَضْتَ أبا عبد الله؟»، قال: _________ (1) الخرفشة والخربشة والخرمشة: الفساد والتشويش. ينظر «اللسان»: (6/ 295). (2) كذا في الأصل و (ش)، وط. الفقي: «بحجته». (3) ينظر «حجة الوداع» (ص 209). (4) نقل هذا اللفظ ابنُ حزم في «حجة الوداع» (ص 209 - 298) بإسناده إلى «سنن أبي داود» برواية ابن الأعرابي وابن داسة. وهو لفظ الدارقطني في «سننه» (2680).

(1/399)


لا والله يا رسول الله، قال: «انْزِعْ عنك القَمِيصَ»، قال: فنزعه من رأسه، ونزع صاحِبُه قميصَه مِن رأسه، ثم قال: ولِمَ يا رسول الله؟ قال: «إنَّ هذا يومٌ رُخِّصَ لكم إذا أنتم رَمَيْتُم الجمرة أن تَحلّوا، يعني مِن كلّ ما حُرِمتم منه إلا النساء، فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا هذا البيتَ صِرْتُم حُرُمًا كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة، حتى تطوفوا به» (1). في إسناده محمد بن إسحاق، وقد تقدم الكلامُ عليه. قال ابن القيم - رحمه الله -: هذا الحديث يرويه ابن إسحاق، عن أبي عُبيدة بن عبد الله بن زَمْعة، عن أبيه وعن أمه زينب بنت أبي سلمة, يحدثانه عن أم سلمة, وقال أبو عبيدة: وحدثتني أم قيس بنت مِحْصَن, وكانت جارة لهم, قالت: «خرج من عندي عُكَّاشة بن مِحْصَن في نفرٍ من بني أسد متقمِّصًا, عشيةَ يوم النحر, ثم رجعوا إليَّ عشاءً, وقُمُصُهم على أيديهم يحملونها, فقلت: أي عُكَّاشة, ما لكم خرجتم متقمِّصين ثم رجعتم وقُمُصكم على أيديكم تحملونها؟ فقال: خيرٌ يا (2) أمَّ قيس، كان هذا يومًا رخَّص فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنا إذا نحن رمينا الجمرةَ حَلَلْنا مِن كلِّ ما حُرِمْنا منه إلا ما كان من النساء حتى نطوف بالبيت، فإذا أمسينا ولم نطف [به صِرْنا حُرُمًا كهيئتنا قبل _________ (1) أخرجه أبو داود (1999)، وأحمد (26530)، وابن خزيمة (2958) ــ ومن طريقه الحاكم: «1/ 489 - 490) ــ من طريق ابن إسحاق عن أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة عن أبيه وأمه (زينب بنت أبي سلمة) عن أم سلمة به. وأبو عبيدة بن زمعة مستور، وقال فيه الحافظ «مقبول» يعني حيث يتابَع، وقد اضطرب في هذا الحديث على عدة أنحاء، ينظر حاشية «المسند»: (44/ 153). (2) تحرفت في ط. الفقي وط. «المسند» القديمة وبعض نسخه إلى: «أخبرتنا»!

(1/400)


أن نرمي الجمرة حتى نطوف به، فأمسينا ولم نطف فـ] (1) جعلنا قُمُصَنا على أيدينا» (2). وهذا يدلّ على أن الحديثَ محفوظٌ, فإن أبا عُبيدة رواه عن أبيه وعن أمه وعن أم قيس. وقد استشكله الناس, قال البيهقي (3): وهذا حكمٌ لا أعلمُ أحدًا من الفقهاء يقول به. تم كلامه. وقد روى أبو داود (4) عَقِبَه عن أبي الزبير، عن عائشة وابن عباس: «أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أخَّر طوافَ يومِ النحر إلى الليل». وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (5) , وقال الترمذي: حديث حسن, وأخرجه البخاري (6) تعليقًا. وكأنّ روايةَ أبي داود له عَقِب حديثِ أم سلمة استدلال (7) منه على أنه أولى من حديث أمِّ سلمة, لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحلّ قبل طوافه بالبيت, ثم أخَّره إلى الليل. لكن هذا الحديث وهم, فإنّ المعلومَ مِن فِعْله - صلى الله عليه وسلم - أنه إنما طاف طوافَ الإفاضة نهارًا بعد الزوال, كما قاله جابر وعبد الله بن عمر _________ (1) ما بين المعكوفين مستدرك من «المسند». (2) هذا لفظ أحمد في «المسند» (26531) وهو حديث الباب وقد سبق تخريجه. (3) (5/ 136). (4) (2000). وتحرف النص في ط. الفقي إلى: «عن عقبة»! (5) أخرجه الترمذي (920)، والنسائي في «الكبرى» (4155) وابن ماجه (3059). وفي إسناده ضعف. (6) (2/ 174). (7) الأصل و (ش، هـ) والمطبوعات: «استدلالًا»، والوجه ما أثبتّ خبر كأنّ.

(1/401)


وعائشة, وهذا أمرٌ لا يرتاب فيه أهلُ العلم بالحديث, وقد تقدّم (1) قولُ [ق 78] عائشة: «أفاضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حين صلى الظهر» من رواية أبي سلمة والقاسم عنها، قال البيهقي (2): وحديث أبي سلمة عن عائشة أصح. وقال البخاري (3): في سماع أبي الزبير من عائشة نظر, وقد سمع من ابن عباس. وقال المنذريّ (4): ويمكن أن يُحْمَل قولها «أخَّر طوافَ يوم النحر إلى الليل» على أنه أَذِن في ذلك، فنُسِب إليه, وله نظائر. 25 - بابُ تحريمِ مكة (5) 135/ 1934 - عن أبي هريرة قال: لمّا فَتَحَ الله تعالى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكَّةَ قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم، فحَمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: «إنَّ الله حَبَسَ عن مكة الفيل، وَسلَّطَ عليها رسولَهُ والمؤمنين، وإنما أُحِلَّتْ لي ساعةً من النهار، ثم هي حرامٌ إلى يوم القيامة، لا يُعْضَدُ شَجَرُها، ولا يُنَفَّرُ صَيْدُها، ولا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إلا لِمُنْشِدٍ»، فقام عباس، أو قال: قال العباس: يا رسول الله، إلا الإذْخِرَ، فإنه لقبورنا وبيوتنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إلا الإذْخِرَ». وزاد فيه ابنُ المصفَّى عن الوليد: فقام أبو شاهٍ ــ رجلٌ من أهل اليمن ــ فقال: يا رسول الله، اكتبوا لي، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «اكتُبُوا لأبي شاهٍ». فقلت للأوزاعي: _________ (1) يعني في «سنن أبي داود» (1973) وتقدم تخريجه. (2) في «الكبرى»: (5/ 144). (3) ذكره عنه الترمذي في «العلل الكبير»: (1/ 134) والحافظ في «التغليق»: (3/ 99). (4) كذا في الأصل، وجعله في طبعة الفقي من كلام المؤلف، ولم أجد كلام المنذري في (خ - مختصر السنن) (ق 75 ب). (5) في مطبوعة «المختصر»: «حرم مكة».

(1/402)


ما قوله: «اكتبوا لأبي شاه؟» قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: في حديث: «اكتبوا لأبي شاه»: فيه أن مكة فُتِحَت عَنْوَة. وفيه تحريم قطع شجر الحرم, وتحريم التعرُّض لصيده بالتنفير فما فوقه. وفيه أن لُقَطتها لا تجوز (2) إلا لتعريفها أبدًا, والحفظ على صاحبها. وفيه جواز قطع الإذخر خاصةً, رطبه ويابسه. وفيه أن اللاجئ إلى الحرم لا يُتَعرَّض له ما دام فيه, ويؤيده قوله في «الصحيحين» (3) في هذا الحديث: «فلا يحلّ لأَحدٍ أن يسفكَ بها دمًا». وفيه جواز تأخير الاستثناء عن المستثنى منه, وأنه لا يشترط اتصاله به ولا نيته مِن أول الكلام. وفيه الإذن في كتابة السُّنَن, وأن النهيَ عن ذلك منسوخٌ. والله أعلم. 136/ 1936 - وعن يوسف بن ماهَك، عن أمِّه، عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، ألا نَبْنِي لك بمنًى بيتًا، أو بناءً، يُظِلُّكَ من الشمس؟ فقال: «لا، إنما هو مُنَاخُ من سَبَقَ إليه». وأخرجه الترمذي وابن ماجه (4). وقال الترمذي: حديث حسن. وفي حديث الترمذي وابن ماجه: عن أمه مُسَيكة، وذكر غيرهما: أنها مكية. _________ (1) أخرجه أبو داود (2017)، والبخاري (2434)، ومسلم (1355)، والترمذي (2667)، والنسائي في «الكبرى» (5824). (2) ط. الفقي: «لا يجوز أخذها» وهو تصرف في الأصل بما لا حاجة إليه، دون تنبيه. (3) البخاري (104)، ومسلم (1354) من حديث أبي شريح الخزاعي - رضي الله عنه -. (4) أخرجه أبو داود (2019)، والترمذي (881)، وابن ماجه (3006)، وأحمد (25541).

(1/403)


قال ابن القيم - رحمه الله -: قال ابن القطان (1): وعندي أنه ضعيف لأنه من رواية يوسف بن ماهَك عن أُمّه مُسَيكَة, وهي مجهولة, لا يُعرَف روى عنها غير ابنها. والصوابُ تحسين الحديث, فإن يوسف بن ماهَك من التابعين, وقد سمع أمَّ هانئ وابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو، وقد رَوى عن أمه, ولم يُعْلَم فيها جرح, ومثل هذا الحديث حَسَن عند أهل العلم بالحديث, وأمه تابعية قد سمعت عائشة (2). 26 - بابٌ في تحريم المدينة (3) 137/ 1959 - وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجعلوا بيوتَكُم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا عَلَيَّ فإن صلاتَكُم تبلغني حيثُ كنتم» (4). _________ (1) في «بيان الوهم والإيهام»: (3/ 468 - 469). (2) لكن فيه أيضًا إبراهيم بن مهاجر الراوي عن يوسف بن ماهك، متكلّم فيه من قبل حفظه، قال ابن عدي: يُكتب حديثه في الضعفاء، وقال يحيى بن سعيد: حدّث بأحاديث لا يُتابع عليها. وقد تفرّد بهذا الحديث فلا يُحتمل تفرّده وهذه حاله. ينظر «تهذيب التهذيب»: (1/ 167 - 168). (3) في المطبوع بين معكوفين [باب زيارة القبور] وذكر في الحاشية أنها زيادة من «السنن»، والمثبت من المخطوط (ق 79 ب). ووقع في بعض نسخ «السنن» «باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وزيارة قبره». (4) أخرجه أبو داود (2042)، وأحمد (8804) من طريق عبد الله بن نافع، عن ابن أبي ذئب عن المقبري، عن أبي هريرة به، وإسناده حسن، وصححه الحافظ في «الفتح»: (6/ 488). وأخرجه مسلم (780)، والترمذي (3093)، وأحمد (7821) من طريق أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعًا: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر».

(1/404)


في إسناده عبد الله بن نافع الصائغ المديني مولى بني مخزوم، كنيته أبو محمد، قال البخاري: يُعْرَف حفظه ويُنكر. ووثَّقه يحيى بن معين. وقال أحمد بن حنبل: لم يكن صاحبَ حديثٍ، كان ضعيفًا فيه، ولم يكن في الحديث بذاك. وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالحافظ، هو ليّن، تَعْرِف حفظه وتُنْكِر. وقال أبو زُرْعة: لا بأس به. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد أبْعَدَ بعضُ المتكلِّفين وقال (1): «يحتمل أن يكون المراد به الحثّ على كثرة زيارة قبره، وأن لا يُهْمَل حتى لا يُزَار إلا في بعض الأوقات، كالعيد الذي لا يأتي في العام إلا مرتين. قال: ويؤيّد هذا التأويل: ما جاء في الحديث نفسه: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا» أي: لا تتركوا الصلاةَ في بيوتكم حتى تجعلوها كالقبور التي لا يصلَّى فيها». قال بعضهم (2): وزيارةُ قبره صلوات الله وسلامه عليه غنيَّة عن هذا التكلُّف البارد والتأويل الفاسد، الذي يُعْلَم فسادُه مِن تأمُّل سياق الحديث ودلالة اللفظ على معناه، وقوله في آخره: «وصلوا عليَّ فإنّ صلاتَكم تبلغني حيثُ كنتم». وهل في الإلغاز أبعد من دلالة من يريد الترغيب في الإكثار من الشيء وملازمته بقوله: «لا تجعله عيدًا»؟ وقوله: «ولا تتخذوا بيوتكم قبورًا» نَهْيٌ لهم أن يجعلوها (3) بمنزلة _________ (1) هذا كلام المنذري بنصّه كما في طرة (خ- المختصر) (ق 175 أ) وذكره السبكي في «شفاء السقام» (ص 231) نقلًا عنه. (2) هذا الجواب ملخّصٌ من كتاب «الصارم المنكي في الرد على السبكي» (ص 309 - 311) لابن عبد الهادي. ونقل المؤلف نظير هذه الشبهة وأجاب عنها وفنّدها في «إغاثة اللهفان»: (1/ 349 - 350). (3) في الأصل و (ش): «يجعلوه»، والمثبت من (هـ).

(1/405)


القبور التي لا يُصلَّى فيها، وكذلك نهيه لهم أن يتخذوا قبرَه عيدًا نَهْيٌ لهم أن يجعلوه مَجْمعًا، كالأعياد التي يَقْصِد الناسُ الاجتماعَ إليها للصلاة. بل يُزار قبرُه صلوات الله وسلامه عليه كما كان يزوره الصحابة رضوان الله عليهم, على الوجه الذي يُرضيه ويُحبّه, صلوات الله وسلامه عليه. * * *

(1/406)


 كتاب النكاح

  1 - باب فيمن (1) حَرَّم به ــ يعني رضاع الكبير ــ

138/ 1977 - عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمِّ سَلَمة: أن أبا حُذيفة بن عُتبة بن رَبيعة بن عبد شمس كان تبَنَّى سالمًا، وأنكحه ابنةَ أخيه هندَ بنت الوليد بن عُتبة بن ربيعة، وهو مولًى لامرأةٍ من الأنصار، كما تبنَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زيدًا. وكان مَن تبنَّى رجلًا في الجاهلية دعاه الناس إليه وَوُرِّثَ ميراثَه، حتى أنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5]، فَرُدُّوا إلى آبائهم، فمن لم يُعلم له أبٌ كان مولًى وأخًا في الدين، [فجاءت] سهلةُ (2) بنت سُهيل بن عَمرو القرشي ثم العامري، وهي امرأة أبي حذيفة، فقالت: يا رسول الله، إنّا كُنّا نرى سالمًا ولدًا، وكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد، ويراني فُضُلًا، وقد أنزل الله عز وجل فيهم ما قد علمتَ، فكيف ترى فيه؟ فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أرْضِعيه»، فأرضعته خمسَ رضعات، فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة، فبذلك كانت عائشة تأمر بنات أخواتها وبنات إخوتها أن يُرْضِعْنَ من أحَبَّت عائشةُ أن يراها ويدخُلَ عليها ــ وإن كان كبيرًا ــ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، ثم يَدخُل عليها، وأبَتْ أُمُّ سَلَمة وسائرُ أزواجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أن يُدْخِلن عليهن بتلك الرضاعة أحدًا من الناس، _________ (1) كذا في مخطوطة الكتاب، وفي «المختصر»: «من». وقوله: «يعني رضاع الكبير» من توضيح المجرّد وليست من تبويب الكتاب. (2) تكررت كلمة «مواليكم» من الآية في (خ- المختصر)، وسقطت كلمة «فجاءت» منه أيضًا فأثبتناها من المطبوع و «السنن». وقوله: «سهلة» ليست في مطبوعة المختصر، وأثبتناها من (خ- المختصر) و «السنن».

(1/407)


حتى يُرْضَع في المهد، وقُلْن لعائشة: والله ما ندري، لعلها كانت رُخصةً من النبي - صلى الله عليه وسلم - لسالم دون الناس». وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد قال بقول عائشة في رَضاع الكبير: الليثُ بن سعد وعطاءٌ وأهلُ الظاهر. والأكثرون حملوا الحديثَ إما على الخصوص وإما على النسخ (2). واستدلوا على النسخ بأن قصِّةَ سالم كانت في أول الهجرة, لأنها جرت (3) عقب نزول الآية، والآية نزلت في أوائل الهجرة (4). وأما أحاديث الحكم بأن التحريم يختص بالصغر، فرواها مَن تأخَّر إسلامهم من الصحابة، نحو أبي هريرة وابن عباس وغيرهم فتكون أولى. _________ (1) أخرجه أبو داود (2061)، والبخاري (4000)، ومسلم (1453)، والنسائي في «الكبرى» (5426). (2) ينظر للمسألة: «الاستذكار»: (18/ 272 - 279)، و «التمهيد»: (8/ 257 - 261)، و «فتح الباري»: (9/ 146 - 149)، و «طرح التثريب»: (7/ 138 - 139)، و «زاد المعاد»: (5/ 514 - 527)، و «إعلام الموقعين»: (4/ 264) وختم البحث بقوله: «وفي قصة سالم مسلك آخر، وهو أن هذا كان موضع حاجة، فإن سالمًا كان قد تبنّاه أبو حذيفة وربّاه، ولم يكن له منه ومن الدخول على أهله بُدّ، فإذا دعت الحاجة إلى مثل ذلك فالقول به مما يسوغ فيه الاجتهاد، ولعل هذا المسلك أقوى المسالك، وإليه كان شيخنا (يعني ابن تيمية) يجنح» اهـ. (3) ط. الفقي: «هاجرت»! (4) يعني آية: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5].

(1/408)


 2 - باب ما يُكرَه الجمع (1) بينهنّ من النساء

139/ 1985 - وعن عليّ بن حسين: أنهم حين قدموا المدينة من عند يزيد بن معاوية مَقتَلَ الحسين بن علي - رضي الله عنهما - لقيه المِسْوَر بن مَخْرمة، فقال له: هل لك إليَّ من حاجة تأمرني بها؟ قال: فقلت له: لا، قال: هل أنت مُعْطِيَّ سَيْفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإني أخاف أن يَغلبكَ القومُ عليه، وايْمُ الله لئن أعطيتنيه لا يُخْلَصُ إليه أبدًا حتى يُبْلَغَ إلى نفسي، إن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - خطَبَ بنتَ أبي جَهْلٍ على فاطمةَ - رضي الله عنها -، فسمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب الناس في ذلك على منبره هذا، وأنا يومئذ مُحتَلِم، فقال: إن فاطمة مِنِّي، وأنا أتَخَوَّفُ أن تُفتنَ في دينها، قال: ثم ذكر صِهْرًا له من بني عبد شمس، فأثنى عليه في مصاهرته إياه، فأحسن، قال: حَدَّثني فَصَدَقَني، ووعدني فوفَّى لي، وإني لست أُحَرِّمُ حلالًا ولا أُحلُّ حرامًا، ولكن والله لا تجتمع بنتُ رسولِ الله وبنتُ عدوِّ الله مكانًا واحدًا أبدًا» (2). قال المنذري: فيه جواز حلف الرجل على القطع في المستقبل ثقة بالله، كما حلف - صلى الله عليه وسلم - (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي الاستدلال بهذا نظر, فإنّ هذا حكمٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤيَّد مؤكَّد بالقَسَم, ولكن حلف المسْوَر بن مَخْرَمة أنه لا يوصل إليه أبدًا ظاهرٌ فيه ثقةً بالله في إبراره. _________ (1) كذا في الأصل و (ش)، و «السنن» و (خ- المختصر) (ق 84 ب): «أن يُجمَع». (2) أخرجه أبو داود (2069)، والبخاري (3110)، ومسلم (2449) وغيرهم. (3) كلام المنذري ليس في «المختصر» المطبوع وهو في المخطوط (ق 85 أ) ونصه: «حلف على القطع على المستقبل ثقة بالله في إبراره»، وذكر المجرِّد ما أثبتناه منه.

(1/409)


وفيه ردٌّ على مَن يقول: إن المِسْوَر ولد بمكة في السنة الثانية من الهجرة، وكان له يوم موت النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمان سنين, هذا قول أكثرهم (1). وقوله: «وأنا يومئذ محتلم» هذا الكلمة ثابتة في «الصحيحين». وفيه تحريم أذى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بكلِّ وجهٍ من الوجوه, وإن كان بفعلٍ مباح, فإذا تأذَّى به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يَجُز فعله, لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب:53]. وفيه غيرةُ الرجل وغضبه لابنته [ق 79] وحُرمته. وفيه بقاء عار الآباء في الأعقاب لقوله: «بنت عدوِّ الله» , فدل على أنّ لهذا الوصف تأثيرًا في المنع, وإلا لم يذكره مع كونها مسلمة. وفيه (2) بقاءُ أثر صلاح الآباء في الأعقاب, لقوله تعالى {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82]. _________ (1) ينظر «الإصابة»: (6/ 119)، و «تهذيب التهذيب»: (10/ 151 - 152) حيث ذكر أن قوله: «وأنا يومئذ محتلم» تدل أنه ولد قبل الهجرة، لكن يشكل عليه إطباق العلماء أنه ولد بعدها وأن عمره وقت القصة نحو ست أو سبع سنين، وذَكَر عن بعضهم أن قوله: «محتلمًا» من الحِلْم بالكسر لا من الحُلُم بالضم، يريد أنه كان عاقلًا ضابطًا لما يتحمّله. وأخذ منه الذهبي أنه كان كبيرًا محتَلِمًا دون تردد كما في «السير»: (3/ 393). (2) غير محررة في الأصل و (ش) ورسمها: «وعلسـ»، ولعل الصواب ما أثبت، ويؤيده سياق كلام المؤلف ونص ما في (خ- المختصر): «وكذلك الخير والشرف في الدين يبقى». وفي ط. المعارف: «وعكسه»، وفي ط. الفقي: «وعليه».

(1/410)


وفيه أوضح دليلٍ على فضل فاطمة, وأنها سيدة نساء هذه الأمة, لكونها بضعة من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفيه ثناء الرجل على زوج ابنته بجميل أوصافه ومحاسن أفعاله. وفيه أن أذى أهلِ بيته - صلى الله عليه وسلم - وإرابتهم أذًى له. وقوله: «يريبني ما أرابها» تقول: رابني فلان إذا رأيتَ منه ما يَرِيبك وتكرهه, وأرابني أيضًا لغتان (1) , قال الفراء (2): هما بمعنى واحد. وفرَّق آخرون بينهما بأن «رابني» تحقّقْتَ منه الريبة، و «أرابني»: إذا ظننتَ ذلك به, كأنه أوقعك فيها (3). والصِّهْر الذي ذكره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هو أبو العاص بن الربيع, وزوجته زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وبنت أبي جهل هذه المخطوبة, قال عبد الغني بن سعيد وغيره: اسمها العوراء (4) (5). _________ (1) سقطت من ط. الفقي. (2) «معاني القرآن»: (1/ 79 - 80). (3) ينظر: «اللسان»: (1/ 442). (4) ينظر: «الإصابة»: (7/ 564 و 8/ 42)، و «غوامض الأسماء المبهمة» (1/ 340 - 341). وقيل: اسمها جويرية ولقبها العوراء. (5) بعده في الأصل: «هذه العبارة ذكر بعضَها المنذري بمعناها» وهي للمجرِّد محمد بن أحمد السعودي، يريد أن المؤلف قد اختصر وهذب بعض كلام المنذري وأورده، وأشار إلى ذلك لأنه تكفّل بتخليص كلام المؤلف من كلام المنذري وإيراد كلام المؤلف فقط، فلما لم يستطع ذلك هنا نبّه عليه. وانظر لكلام المنذري بتمامه مخطوطة «المختصر» (ق 85 أ).

(1/411)


 3 - باب نكاح (1) المُتْعة

140/ 1989 - وعن ربيع بن سَبْرَة، عن أبيه: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حَرَّمَ مُتْعَةَ النساءِ» (2). قال المنذري: اختلف العلماء في المتعة، فقال بعضهم: نُسِخت مرتين، كانت مباحة في أول الإسلام ثم نسخت عام خيبر بحديث علي عليه السلام ثم أبيحت بعد ذلك، ثم حُرّمت في الفتح إلى يوم القيامة. وقال بعضهم: نسخ الله تعالى القبلةَ مرتين ونكاح المتعة مرتين وتحريم الحُمُر الأهلية مرتين، ولا أحفظ رابعًا. وقال آخرون: إنما نُسخت مرةً واحدة يوم خيبر وتحريمها في الفتح كان إشاعةً لما تقدم من التحريم وإشهارًا له، وكذلك تحريمها في حجة الوداع لهذا المعنى. وفي هذا نظر، فإنه قد صحّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذِن فيها في الفتح ثم حرّمها بعد ذلك. وكان سفيان بن عيينة يزعم أن تاريخ خيبر في حديث علي إنما هو في النهي عن لحوم الحمر الأهلية لا في نكاح المتعة. قال البيهقي (3): وهو يشبه أن يكون كما قال، فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رخّص فيه بعد ذلك ثم نهى عنه، فيكون احتجاج عليّ بنهيه عنه آخرًا حتى تقوم به الحجة على ابن عباس. وقال أيضًا (4): فلولا معرفة عليّ بن أبي طالب بنسخ نكاح المتعة وأن النهي عنه كان بعد الرخصة لما أنكره على ابن عباس. والله أعلم. _________ (1) في مطبوعة «المختصر»: «باب في نكاح». (2) أخرجه أبو داود (2073)، ومسلم (1406). (3) «معرفة السنن والآثار»: (5/ 342). (4) «السنن الكبرى»: (7/ 202).

(1/412)


وقال غيره (1): هذا الحُكم كان مباحًا مشروعًا في صدر الإسلام، وإنما أباحه النبي عليه السلام للسبب الذي ذكره ابنُ مسعود، وإنما كان ذلك يكون في أسفارهم، ولم يبلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أباحه لهم وهم في بيوتهم، ولهذا نهاهم عنها غير مرة ثم أباحها لهم في أوقات مختلفة، حتى حرمها عليهم في آخر أيامه عليه السلام، وذلك في حجة الوداع، وكان تحريم تأبيدٍ لا تأقيت، فلم يبق اليوم في ذلك خلاف بين فقهاء الأمصار وأئمة الأمة، إلا شيئًا ذهب إليه بعض الشيعة، ويروى عن ابن جُريج جوازه. وقوله: «للسبب الذي ذكره ابن مسعود» وهو قول ابن مسعود: «كنّا نغزو مع رسول الله ليس معنا نساء فقلنا: ألا نستخصي، فنهانا عن ذلك، ثم رخّص لنا أن ننكح المرأةَ بالثوب إلى أجل». أخرجاه في «الصحيح» (2). قال ابن القيم - رحمه الله - (3): وأما ابن عباس, فإنه سَلَك هذا المسلك في إباحتها عند الحاجة والضرورة, ولم يُبِحْها مُطلقًا, فلما بلغه إكثارُ الناس منها رَجَع, وكان يحملُ التحريمَ على مَن لم يحتج إليها. قال الخطَّابي (4): حدثنا ابن السمَّاك, حدثنا الحسن بن سلام، حدثنا الفضل بن دُكَين، حدثنا عبد السلام، عن الحجَّاج، عن أبي خالد، عن المِنْهال، عن ابن جُبير قال: «قلت لابن عباس: هل تدري ما صنعت, وبما _________ (1) هو الحازمي في «الاعتبار»: (2/ 630). (2) أخرجه البخاري (4615)، ومسلم (1404). (3) ذكر المجرِّد أن ابن القيم علق على كلام المنذري، وليس في طبعة «المختصر» كلام له، ونقلنا كلام المنذري بطوله من طرّة المخطوط (85 ب نسخة المحمودية) و (ق 178 نسخة دار الكتب». (4) في «معالم السنن»: (2/ 559 - بهامش السنن).

(1/413)


أفتيتَ؟ قد سارت بفُتْياك الرُّكْبان, وقالت فيه الشعراء. قال: وما قالوا؟ قلت: قالوا: قد قلت للشيخ لما طال مجلسُه (1): ... يا صاحِ هل لك في فُتْيا ابنِ عباسِ؟ هل لكَ في رَخْصَةِ الأطْراف آنسةٍ ... تكون مثواك حتى رَجْعة الناسِ؟ فقال ابن عباس: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون! والله ما بهذا أفتيتُ, ولا هذا أردْتُ, ولا أحللتُ إلا مثل ما أحلَّ الله الميتةَ والدمَ ولحمَ الخنزير, وما تحل إلا للمضطرّ, وما هي إلا كالميتة والدم ولحم الخنزير» (2). وقال إسحاق بن راهويه: حدثنا رَوْحُ بن عُبادة، حدثنا موسى بن عُبَيدة، سمعت محمد بن كعب القُرَظي يحدِّث عن ابن عباس قال: «كانت المتعة في أول الإسلام, متعة النساء, فكان الرجل يَقْدَم بسلعته البلدَ, ليس له مَن يحفظ عليه ضيعتَه (3) ويضمّ إليه متاعَه, فيتزوَّجُ المرأةَ إلى قَدْر ما يرى أنه يقضي حاجتَه, وقد كانت تُقرأ: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ (إلى أجلٍ مسمّى) فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24] حتى نزلت: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى قوله: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء:23 - 24] فتُرِكَت المتعةُ وكان الإحصان, إذا شاء طلَّق وإذا شاء أمسك, ويتوارثان, وليس لهما _________ (1) كذا في الأصل و (هـ، ش) و «الاعتبار»، وفي نسخة من «معالم السنن»: «محبسه». (2) ورواه الحازمي في «الاعتبار» (ص 639 - 640) من طريق الخطابي، وأخرجه الطبراني في «الكبير»: (10/ 259)، والبيهقي في «الكبرى»: (7/ 205). (3) ط. الفقي: «شيئه»!

(1/414)


من الأمر شيء» (1). فهاتان الروايتان المقيَّدتان عن ابن عباس تفسِّران مرادَه من الرواية المطلقة (2) , والله أعلم.

  4 - باب [في] (3) الشِّغار

141/ 1991 - وعن عبد الرحمن بن هُرْمُز الأعرج: أن العباس بن عبد الله بن العباس أنْكَحَ عبدَ الرحمن بن الحَكَم ابنتَه، وأنكحَهُ عبدُ الرحمن ابنتَه، وكانا جَعلا صَداقًا، فكتب معاويةُ إلى مروان يأمره بالتفريق بينهما، وقال في كتابه: هذا الشِّغَارُ الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (4). في إسناده محمد بن إسحاق. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى ابن حبان في «صحيحه» (5) من حديث عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: _________ (1) رواه الحازمي في «الاعتبار» (ص 635) من طريق إسحاق، وقال: هذا إسناد صحيح لولا موسى بن عبيدة، وهو الربذي. قلت: وهو ضعيف. وأخرجه الطبراني في «الكبير»: (10/ 320)، ومن طريقه البيهقي: (7/ 205)، وأخرجه الترمذيُّ (1122) مختصرًا من طريق موسى بن عبيدة أيضًا. وانظر تعليق الطبري على هذه القراءة وأنها بخلاف ما جاءت به مصاحف المسلمين ... «التفسير»: (6/ 588). (2) ط. الفقي زيادة: «المطلقة المقيّدة» وهو إقحام غريب! (3) من «مختصر المنذري» (ق 85 ب) وهي كذلك في المطبوعة، و «السنن». (4) أخرجه أبو داود (2075)، وأحمد (16856)، وابن حبان (4153). وفي إسناده محمد بن إسحاق وقد صرح بالتحديث، فإسناده حسن. (5) (3146). وأخرجه أحمد (12686)، وابن ماجه (1885) وهو صحيح بمجموع طرقه.

(1/415)


«لا شِغارَ في الإسلام» , ومن حديث حمّاد بن سلمة، عن حُمَيد، عن الحسن، عن عِمران بن حُصَين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا جَلَب, ولا جَنَب, ولا شِغار، ومَن انتهبَ نُهْبةً فليس مِنّا» (1).

  5 - باب التحليل

142/ 1992 - عن الحارث، عن عليّ ــ قال إسماعيل: وأُراه قد رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ــ قال: «لُعِنَ المُحِلّ والمحلَّلُ له». وأخرجه الترمذي وابن ماجه (2). وقال الترمذي: حديث عليّ وجابر ــ يعني ابن عبد الله ــ حديث معلول. هذا آخر كلامه. والحارث ــ هذا ــ هو ابن عبد الله الأعور الكوفي، كنيته: أبو زُهَير، وكان كذّابًا. وقد روى هُزَيل بن شُرَحْبيل، عن عبد الله بن مسعود قال: «لعنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المُحِلّ والمحلَّل له» أخرجه الترمذي (3) والنسائي (4)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. _________ (1) أخرجه ابن حبان (4154)، والترمذي (1123) وقال: حسن صحيح, والنسائي (3335)، وأحمد (19929). وأخرجه أبو داود (2581) من طريقين عن حميد الطويل عن الحسن، وعن عنبسة عن الحسن به وزاد فيه: «في الرهان» وليس فيه لفظة: «ولا شغار في الإسلام». (2) أخرجه أبو داود (2076)، والترمذي (1119)، وابن ماجه (1935)، والنسائي في «الكبرى» (9335) مرسلًا، وأحمد (635). (3) (1120)، والنسائي (3416)، وأحمد (4283) وغيرهم، وإسناده صحيح. وصححه ابن الملقن في «البدر المنير»: (7/ 612). (4) «والنسائي» سقطت من مطبوعة «المختصر».

(1/416)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وحديث جابر الذي أشار إليه رواه الترمذي (1) من حديث مُجالد، عن الشعبي، عن جابر: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن المُحِلَّ (2) والمُحَلَّلَ له» , قال: «هكذا روى أشعثُ بن عبد الرحمن، عن مُجالِد، عن عامر، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا حديثٌ ليس إسناده بالقائم, لأن مجالدَ بن سعيد قد ضعَّفه بعضُ أهل العلم, منهم أحمد بن حنبل, وروى عبد الله بن نُمَير هذا الحديث عن مُجالِد، عن عامر، عن جابر، عن عليّ, وهذا وهم, وهِمَ فيه ابنُ نُمَير, والحديث الأول أصح, قال: وقد رُوي الحديثُ عن عليّ مِن غير وجه, قال: وفي الباب عن [ابن مسعود، و] أبي هريرة, وعُقْبة بن عامر, وابن عباس. قال: والعملُ على هذا الحديث عند أهل العلم من أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، منهم: عمر بن الخطاب, وعثمان بن عفّان, وعبد الله بن عمر (3) وغيرهم, وهو قول الفقهاء من التابعين، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك, والشافعي وأحمد وإسحاق. قال: وسمعتُ الجارود يذكر عن وكيع أنه قال بهذا, وقال: ينبغي أن يُرمَى بهذا الباب من قول أصحاب الرأي. قال وكيع: وقال سفيان: إذا تزوج الرجلُ المرأةَ ليُحِلَّها ثم بدا له أن يمسكها فلا يحلّ له أن يمسكها حتى يتزوَّجها بنكاحٍ جديد. تم كلامه. وقال إبراهيم النخعي: لا يحلّها لزوجها الأول إلا نكاح (4) رغبة, [ق 80] _________ (1) (1119)، وما بين المعقوفين منه. (2) في ط. المعارف: «المحلل» خطأ. (3) في الترمذي: «عمرو»! (4) في الطبعتين: «بنكاح» خلاف الأصل و (ش).

(1/417)


فإن كانت نية أحد الثلاثة: الزوج الأول أو الثاني أو المرأة, أن تُحَلَّل, فالنكاح باطل, ولا تحلّ للأول (1). وحديث أبي هريرة الذي أشار إليه الترمذي رواه الإمام أحمد في «مسنده» (2): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ المُحِلّ والمُحَلَّل له. قال الترمذي في «كتاب العلل» (3): سألتُ محمدَ بن إسماعيل عن هذا الحديث؟ فقال: هو حديث حسن, وعبد الله بن جعفر المُخَرَّمي (4) صدوق ثقة, وعثمان بن محمد الأخنسي ثقة, وكنتُ أظن أن عثمان لم يسمع من سعيد المَقْبري.

  6 - باب في (5) كراهية أن يَخْطِب الرجلُ على خِطْبَةِ أخيه

143/ 1997 - وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يخْطِب أحَدُكم على خِطْبةِ أخيه، ولا يَبيعُ على بيع أخيه إلا بإذنه». وأخرجه مسلم وابن ماجه (6). ذكر الخطّابي أن نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك نهي تأديب وليس نهي تحريم يُبطل العقدَ، وهو قول أكثر العلماء. وذكر عن داود: إن خطَبَها رجلٌ بعد الأول وعَقدَ عليها فالنكاح باطل. وذكر أيضًا أنه دليل على أن ذلك إنما نُهي عنه إذا كان الخاطب الأول مسلمًا، ولا يضيق ذلك إذا كان الخاطب الأول يهوديًّا أو نصرانيًّا، _________ (1) أخرجه سعيد بن منصور: (2/ 50) بنحوه. (2) (8287). ووقع في ط. المعارف: «لعن المحلل» خطأ. (3) (1/ 161). (4) في ط. المعارف: «المخزمي» بالزاي تحريف. (5) ليست في الأصل و (ش)، وهي في «المختصر» و «السنن». (6) أخرجه أبو داود (2081)، ومسلم (1412)، وابن ماجه (1868).

(1/418)


لقَطع الله تعالى الأخوّة بين المسلمين وبين الكفار. وقال غيره: هذا مذهب الأوزاعي وجمهور العلماء على خلافه. وقال بعضهم: هذا في غير الفُسّاق فأما الفاسق فيخطب على خطبته. وقال بعضهم: هذا إذا كان شكلين، فإما إذا لم يكن الزوجان شكلين جاز للمُشاكِل أن يدخل عليه. وقال الشافعي: إنما نهى عن ذلك في حال دون حال، وهو أن تأذن المخطوبة في إنكاح رجلٍ بعينه، فلا يَحلّ لأحدٍ أن يخطبها في تلك الحالة حتى يأذن الخاطب له، واحتج بحديث فاطمة بنت قيس. وقال غيره: أن يركن كلّ واحد من الزوجين إلى صاحبه ويتفقا على صَداق معلوم لا يبقى إلا الإعلان والإشهاد. وقال ابن المنذر: النهي في هذا الحديث نهي تحريم لا نهي تأديب، واستدل بحديث عقبة بن عامر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «المؤمن أخو المؤمن، لا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يَذَر». وأخرجه مسلم (1). وذكر الطبريُّ أن بعضهم قال: نهيه عليه السلام أن يخطب على خطبة أخيه منسوخ بخطبته - صلى الله عليه وسلم - لأسامة فاطمةَ بنت قيس. وفيما قاله نظر (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: يعني بعد أن خطبها معاويةُ وأبو جهم. قال (3): _________ (1) (1414). (2) هذا بطوله كلام المنذري من طرة نسخة «المختصر» (ق 86 ب)، وليس في المطبوع منه، وقد نقل المجرّد منه قول الطبري الأخير. وقد ساقه في ط. الفقي على أنه من كلام ابن القيم! (3) أي محبّ الدين الطبري كما في «الفتح»: (9/ 200)، ولم أجده في المطبوع من كتاب الطبري «غاية الأحكام».

(1/419)


وهذا غلط, فإن فاطمة لم تركن إلى واحدٍ منهما, وإنما جاءت مستشيرةً للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فأشار عليها بما هو الأصلح لها, والأرضى لله ولرسوله, ولم يخطبها لنفسه, ومورد النهي إنما هو خطبة الرجل لنفسه على خطبة أخيه, فأما إشارته على المرأة إذا استشارته بالكُفء الصالح فأين ذلك من الخطبة على خطبة أخيه؟ فقد تبيَّن غلطُ القائل, والحمد لله. وأيضًا فإنَّ هذا من الأحكام الممتنع نسخُها, فإنَّ صاحبَ الشرع علَّله بالأخوَّة, وهي علة مطلوبة البقاء والدوام, لا يلحقها نسخ ولا إبطال.

  7 - باب الرجلِ ينظر إلى المرأة وهو يريد تزويجها (1)

144/ 1998 - عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا خطَبَ أحدُكم المرأةَ، فإن استطاع أن ينظرَ إلى ما يدعوه إلى نِكاحِها فليفعل»، فخطَبْتُ جاريةً، فكنتُ أتخبّأُ لها، حتى رأيتُ منها ما دعاني إلى نِكاحِها وتزويجها (2)» (3). في إسناده محمد بن إسحاق، وقد تقدم الكلام عليه. وقد أخرج مسلم في _________ (1) كذا في الأصل و (ش) و «السنن» المطبوعة والمخطوط (ق 132 ب- نسخة الخطيب)، ومطبوعة «المختصر»، وفي مخطوط «المختصر» (ق 86 ب): «وهو يريد أن يتزوجها». ووقع في ط. المعارف: «وهو يريد نكاحها» ولم يذكر مستنده في التغيير! (2) في نسخة من «السنن»: «فتزوجتها». (3) أخرجه أبو داود (2082)، وأحمد (14586 و 14869)، والحاكم (2/ 165)، والبيهقي: (7/ 84)، وصححه الحاكم. وإسناده حسن لأجل محمد بن إسحاق، وقد صرّح بالتحديث.

(1/420)


«صحيحه» (1) من حديث أبي حازم عن أبي هريرة قال: «كنتُ عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتاه رجلٌ فأخبره أنه تزوَّجَ امرأةً من الأنصار، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنظرتَ إليها؟ قال: لا، قال: فاذهب فانظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئًا». قال المنذري: قال الشافعي: ينظر إلى وجهها وكفيها وهي متغطية, ولا ينظر إلى ما وراء ذلك. وقال الشافعي: وسواء كان بإذنها أو بغير إذنها إذا كانت مستترة، وكره بعضُهم ذلك كلَّه، والسنةُ تقضي عليهم مع الإجماع على جواز النظر للحاجة كالشهادة وغيرها، وتمسك داودُ بظاهر اللفظ، وأجاز أن ينظر إلى سائر جسدها (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: وعن أحمد ثلاث روايات: إحداهن: ينظر إلى وجهها ويديها, والثانية: ينظر ما يظهر غالبًا, كالرقبة والساقين ونحوهما, والثالثة: ينظر إليها كلّها, عورة وغيرها، فإنه نصَّ على أنه يجوز أن ينظر إليها متجرِّدة (3)! واللفظ الذي ذكره مسلم ليس بصريح في نظر الخاطب, وقد رواه النسائي (4): خطب رجلٌ امرأةً من الأنصار, فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هل نظرتَ إليها؟»، قال: لا, فأمره أن ينظر إليها. رواه من طريق يزيد بن كيسان، _________ (1) (1424). (2) كلام المنذري من هامش (خ- المختصر) (ق 86 ب) وليست في المطبوع منه، وقد نقل المجرِّد بعضه مع تصرف، وجعله في ط. الفقي من كلام ابن القيم! (3) يُنظر للروايات عن أحمد: «المغني»: (9/ 491)، و «الفروع»: (8/ 181 - 182)، و «الإنصاف»: (8/ 17 - 18). والرواية الأخيرة التي ذكرها المؤلف عن أحمد لعلها ما ذكره ابن عقيل بأن للخاطب النظر إلى ما عدا العورة المغلّظة. (4) (3234).

(1/421)


عن أبي حازم، عن أبي هريرة؛ قال مروان بن معاوية الفزاري، عن يزيد: «خَطَب رجلٌ امرأةً». وقال سفيان، عن يزيد، عن أبي حازم، عن أبي هريرة: «أن رجلًا أراد أن يتزوج امرأة» (1). وهذا مفسِّر لحديث مسلم: «أنه أخبره أنه تزوج امرأة». وقد روى (2) ... من حديث بكر بن عبد الله المزني، عن المغيرة بن شعبة قال: خطبتُ امرأةً على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنظَرْتَ إليها؟» قلت: لا, قال: «فانظر (3) , فإنه أجدر (4) أن يُؤدَمَ بينكما».

  8 - باب لا نكاح إلا بوليّ (5)

145/ 1999 - عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيُّما امرأةٍ نكَحَتْ بغير إذن مواليها (6) فَنِكَاحُها باطِلٌ ــ ثلاث مرات ــ فإن دَخَل بها فالمهر لها بما أصاب منها، فإن تشاجروا فالسلطان وليُّ مَنْ لَا وَليَّ له». _________ (1) أخرجه النسائي في «الكبرى» (5329). (2) بعده بياض في الأصل قدر كلمة، ولعلها «النسائي» فإنه أخرجه في «المجتبى» (3235) وفي «الكبرى» (5328) والترمذي (1087) وقال: حديث حسن، وأحمد (18137). (3) في ش كتب فوقها: «إليها» وكتب في الهامش «شك»، وهذه اللفظة ثابتة في رواية النسائي للحديث. (4) ط. الفقي: «أحرى» خلاف الأصل، وإن كان موافقًا للفظ الترمذي. (5) في «السنن» ومطبوعة «المختصر»: «باب في الولي»، والمخطوط: «باب الولي». وفي الأصل كما أثبت. (6) في المطبوع: «وليها».

(1/422)


وأخرجه الترمذي وابن ماجه (1). وقال الترمذي: «هذا حديث حسن». وقال في موضع آخر (2): وحديث عائشة في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا نكاح إلا بولي» هو عندي حسن. ولم يؤثِّر عند الترمذي إنكارُ الزهريِّ له، فإن الحكاية في ذلك عن الزهري قد وهّنها بعضُ الأئمة. قال البيهقي: مع ما في مذهب أهل العلم بالحديث من وجوب قبول خبر الصادق، وإن نسيه مَن أخبره عنه. وقال علي ابن المديني: حديث إسرائيل صحيح في «لا نكاح إلا بوليّ». وسُئل عنه البخاري؟ فقال: الزيادة من الثقة مقبولة، وإسرائيل ثقة. فإن كان شعبة والثوري أرسلاه فإن ذلك لا يضرُّ الحديثَ. قال ابن القيم - رحمه الله -: قال الترمذي (3) ــ وذَكَر سليمانَ بن موسى راويه _________ (1) أخرجه أبو داود (2083)، والترمذي (1102)، وابن ماجه (1879) مختصرًا. والحديث حسَّنه الترمذي، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان (4074)، والحاكم وغيرهم. (2) «الجامع»: (3/ 399). (3) لم أجد كلام الترمذي في «الجامع» ولا «العلل». ونَسَبه للترمذي ابنُ القطان في «بيان الوهم والإيهام»: (4/ 577) وعزاه للعلل الكبير، فلعله سقط من المطبوع، وعزاه للترمذي أيضًا ابنُ الملقن في «البدر المنير»: (7/ 559)، وابن دقيق العيد في «الإلمام» (ص 231)، وابن عبد الهادي في «المحرر»: (1/ 234). وقد نقل الترمذي في «العلل»: (1/ 256) عن البخاري قولَه في سليمان بن موسى: «سليمان بن موسى منكر الحديث، أنا لا أروي عنه شيئًا، روى سليمان بن موسى أحاديث عامتها مناكير». والذي في «التاريخ الكبير»: (4/ 38 - 39)، و «الضعفاء (ص 70): «عنده مناكير». فإن ثبت أن الكلام للترمذي، فالظاهر أن آخره عند قوله: «أحاديث انفرد بها». وبقية الكلام لابن القيم.

(1/423)


عن الزهري عن عروة عن عائشة ــ: سليمان بن موسى ثقة عند أهل الحديث، لم يتكلم فيه أحدٌ من المتقدمين إلا البخاري وحده, فإنه تكلم فيه من أجل أحاديث انفرد بها. وذَكَره دُحَيم فقال: في حديثه بعض اضطراب, وقال: لم يكن في أصحاب مكحول أثبت منه, وقال النسائي: في حديثه شيء, وقال البزار: سليمان بن موسى أجلّ مِن ابن جُرَيج, وقال الزهري: سليمان بن موسى أحفظ من مكحول. قال البيهقي (1): مع ما في مذهب أهل العلم بالحديث من وجوب قبول خبر الصادق, وإن نَسِيَه من أخبره عنه. قال الترمذي (2): ورواه الحجَّاج بن أرطاة وجعفر بن ربيعة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابنُ جُرَيج: ثم لقيتُ الزهريَّ فسألته, فأنكر (3)، فضعَّفوا هذا الحديث من أجل هذا. وذُكِر عن يحيى بن معين أنه قال: لم يَذْكُر هذا الحرفَ عن ابنِ جريج إلا إسماعيلُ بن إبراهيم, قال يحيى بن معين: وسماع إسماعيل بن إبراهيم عن ابن جُرَيج ليس بذاك. إنما صحَّح كتبَه على كتب عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رَوَّاد ما سمع من ابن جُرَيج, وضعَّف يحيى روايةَ إسماعيل بن إبراهيم عن ابن جريج. _________ (1) في «معرفة السنن والآثار»: (5/ 232). (2) «الجامع»: (3/ 399 - 400). (3) في «الجامع»: «فأنكره».

(1/424)


قال (1): والعمل على حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب: «لا نكاحَ إلّا بوليّ» عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ منهم: عمر بن الخطاب, وعليّ بن أبي طالب, وعبد الله بن عباس, وأبو هريرة, وغيرهم. وهكذا رُوِي عن فقهاء [ق 81] التابعين أنهم قالوا: «لا نكاح إلا بولي» , منهم: سعيد بن المسيّب, والحسن البصري, وشُرَيح, وإبراهيم النخعي, وعمر بن عبد العزيز, وغيرهم. وبهذا يقول سفيان الثوريّ والأوزاعيّ وعبدُ الله بن المبارك (2) والشافعي وأحمد وإسحاق. 146/ 2000 - وعن أبي موسى ــ وهو الأشعري ــ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا نِكاحَ إلّا بوليِّ». وأخرجه الترمذيُّ وابنُ ماجه (3). وقال الترمذي: وحديث أبي موسى حديث فيه اختلاف، وذكر أن بعضَهم رواه مرسلًا، وقال ــ بعد ذكر الاختلاف ــ: ورواية هؤلاء الذين رووا عن أبي إسحاق عن أبي بُرْدة عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا نكاح إلا بوليٍّ» عندي أصح. قال ابن القيم - رحمه الله -: قال الترمذي (4): «وحديث أبي موسى حديثٌ فيه اختلاف؛ رواه إسرائيل وشَرِيك بن عبد الله وأبو عَوَانة وزُهَير بن معاوية وقيس بن الربيع، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. _________ (1) أي الترمذي. (2) في الترمذي زيادة: «ومالك». (3) أخرجه أبو داود (2085)، والترمذي (1101)، وابن ماجه (1881)، وأحمد (19518)، وابن حبان (4077). (4) في «الجامع»: (3/ 299).

(1/425)


وروى أسباطُ بن محمد وزيد بن حُباب، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن أبي بُرْدة، عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. [وروى أبو عبيدة الحداد، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه] (1) , ولم يذكر فيه «عن أبي إسحاق». وقد رُوي عن يونس بن أبي إسحاق، [عن أبي إسحاق]، عن أبي بردة، [عن أبي موسى]، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى شعبةُ والثوري عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا نكاحَ إلا بوليٍّ». وقد ذَكَر بعضُ أصحاب سفيان, عن سفيان، [عن أبي إسحاق، عن أبي بردة] , عن أبي موسى, ولا يصح. ورواية هؤلاء الذين رووا عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، [عن أبي موسى]، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا نِكاحَ إلا بوليّ» عندي أصح؛ لأن سماعَهم من أبي إسحاق في أوقات مختلفة, وإن كان شُعبة والثوري أحفظ وأثبت من جميع هؤلاء الذين رووا عن أبي إسحاق هذا الحديث، فإن رواية هؤلاء عندي أشبه [وأصح] لأن شعبةَ والثوريَّ سمعا هذا الحديث من أبي إسحاق في مجلس واحد. ومما يدلّ على ذلك ما حدثنا محمودُ بن غيلان، حدثنا أبو داود، حدثنا شعبة قال: سمعتُ سفيان الثوري يسأل أبا إسحاق: أسمعتَ أبا بُرْدة يقول: _________ (1) ما بين المعكوفين مستدرك من «جامع الترمذي»، وكذا ما بعده من الزيادات.

(1/426)


قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا نكاحَ إلا بوليٍّ»؟ فقال: نعم. فدلّ هذا (1) الحديث أن سماع شعبة وسفيان (2) الثوري هذا الحديث في وقت واحد, وإسرائيل هو ثقة (3) ثبت في أبي إسحاق. سمعتُ محمدَ بن المثنى يقول: سمعتُ عبدَ الرحمن بن مهدي يقول: ما فاتني الذي فاتني (4) من حديث الثوري عن أبي إسحاق, إلا لمّا اتكلتُ به على إسرائيل, لأنه كان يأتي به أتمّ. هذا آخر كلام الترمذي. وقال علي ابن المديني: حديث إسرائيل صحيح في «لا نكاح إلا بولي» (5). وسئل عنه البخاريّ فقال: الزيادة من الثقة مقبولة, وإسرائيل ثقة, فإن كان شعبة والثوري أرسلاه، فإن ذلك لا يضرّ الحديث (6). وقال قَبيصة بن عُقبة: جاءني عليُّ بن المديني فسألني عن هذا الحديث؟ فحدثته به عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى, لم يذكر فيه أبا إسحاق فقال: استرحنا من خلاف أبي إسحاق. قلت: وكذلك رواه الحسن بن محمد بن الصبَّاح، عن أسباط بن _________ (1) الأصل: «فدل في» والمثبت من الترمذي وهو أصح. (2) «سفيان» سقط من الطبعتين. (3) سقطت من ط. الفقي. (4) «الذي فاتني» في الأصل بعد «عن أبي إسحاق» والمثبت من الترمذي، وهو الأولى. (5) أخرجه الحاكم: (2/ 170)، والبيهقي: (7/ 108). (6) ذكره البيهقي في «السنن»: (7/ 108).

(1/427)


محمد، عن يونس، عن أبي بُرْدة، عن أبي موسى. ذكره الحاكم في «المستدرك» (1) , فهذا وجه. الثاني: رواية عيسى ابنه وحجَّاج بن محمد المِصّيصي والحسن بن قتيبة وغيرهم، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا. الثالث: رواية شعبة والثوري عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا. هذه رواية أكثر الأثبات عنهما. الرابع: رواية يزيد بن زُرَيع، عن شعبة, ورواية مُؤمَّل بن إسماعيل وبشر بن منصور عن الثوري, كليهما عن أبي إسحاق، عن أبي بُرْدة، عن أبيه موصولًا. فهذه أربعة أوجه. والترجيح لحديث إسرائيل في وصله من وجوه عديدة: أحدها: تصحيح من تقدَّم من الأئمة له وحكمهم لروايته بالصحة, كالبخاري, وعليّ بن المديني, والترمذي, وبعدهم الحاكم, وابن حبان, وابن خزيمة. الثاني: ترجيح إسرائيل في حفظه وإتقانه لحديث أبي إسحاق, وهذا بشهادة الأئمة له, وإن كان شعبة والثوري أجلّ منه, لكنه لحديث أبي إسحاق أتْقَن وبه أعْرَف. الثالث: متابعة مَنْ وافق إسرائيل على وصله, كشَرِيك, ويونس بن أبي _________ (1) (2/ 171).

(1/428)


إسحاق. قال عثمان الدارمي (1): سألتُ يحيى بن معين: شريكٌ أحبُّ إليك في أبي إسحاق أو إسرائيل؟ فقال: شَريك أحبّ إليّ, وهو أقدم, وإسرائيل صدوق. قلتُ: يونس بن أبي إسحاق أحبُّ إليك أو إسرائيل؟ فقال: كلٌّ ثقة. الرابع: ما ذكره الترمذيُّ (2) , وهو أن سماع الذين وصلوه عن أبي إسحاق كان في أوقات مختلفة, وشعبةُ والثوريُّ سمعاه منه في مجلس واحد. الخامس: أن وَصْلَه زيادةٌ مِن ثقة، ليس دون من أرسله, والزيادة إذا كان هذا حالُها فهي مقبولة, كما أشار إليه البخاري, والله أعلم. 147/ 2001 - وعن أم حبيبة: أنها كانت عند ابن جَحْشٍ فهَلَك عنها، وكان فيمن هاجر إلى أرض الحبَشة، فزوَّجها النَّجاشيُّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي عندهم. وأخرجه النسائي بنحوه (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: هذا هو المعروف المعلوم عند أهل العلم, أن الذي زوَّج أمَّ حبيبة للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - هو النجاشيُّ في أرض الحبشة, وأمْهَرها مِن عنده, وزوجها الأول التي كانت معه في الحبشة هو عُبيد الله بن جحش بن رئاب [ق 82] , أخو زينب بنت جحش زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, تنصَّر بأرض الحبشة, ومات بها نصرانيًّا, فتزوّج امرأتَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. _________ (1) «تاريخ الدارمي» (ص 59). (2) في «الجامع»: (3/ 399). (3) أخرجه أبو داود (2086)، والنسائي (3350)، وأحمد (27408)، وابن حبان (6027). و «أخرجه ... بنحوه» مستدركة من مطبوعة «المختصر».

(1/429)


وفي اسمها قولان: أحدهما: رملة, وهو الأشهر. والثاني: هند (1). وتزويج النجاشي لها حقيقة, فإنه كان مسلمًا, وهو أميرُ البلد وسلطانُه. وقد تأوَّله بعضُ المتكلِّفين على أنه ساق المهرَ من عنده، فأضيفَ التزويجُ إليه. وتأوَّله بعضُهم على أنه كان هو الخاطب، والذي ولي العقدَ عثمانُ بن عفان, وقيل: عَمْرو بن أمية الضَّمْري. والصحيح أن عَمرو بن أمية كان وكيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك, بعث به إلى النجاشي يزوِّجه إيَّاها, وقيل: الذي ولي العقدَ عليها خالدُ بن سعيد بن العاص, ابن عمِّ أبيها. وقد روى مسلم في «الصحيح» (2) من حديث عكرمة بن عمَّار، [عن أبي زُمَيل]، عن ابن عباس قال: «كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه, فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - يا نبيَّ الله, ثلاث أعْطِنِيهِنّ، قال: «نعم». قال: عندي أحسن العرب وأجمله, أمّ حبيبة بنت أبي سفيان, أزوِّجُكَها؟ قال: «نعم» , قال: ومعاوية تجعله كاتبًا بين يديك، قال: «نعم» , قال: وتُؤمّرني حتى أقاتل الكفار كما كنتُ أقاتل المسلمين؟ قال: «نعم». وقد ردَّ هذا الحديثَ جماعةٌ من الحفَّاظ, وعدُّوه من الأغلاط في كتاب مسلم, قال ابن حزم (3): هذا حديث موضوع لا شكَّ في وضعه, والآفةُ فيه من عكرمة بن عمار, فإنه لم يختلف في أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوَّجها قبل الفتح بدهر وأبوها كافر. _________ (1) ينظر «الإصابة»: (7/ 691). (2) (2501) وما بين المعقوفين منه. (3) في جزء له، طبع ضمن «نوادر ابن حزم» (ص 6 - 7). وانظر «المحلى»: (2/ 32).

(1/430)


وقال أبو الفرج بن الجوزي في كتاب «الكشف» (1) له: «هذا الحديث وهم من بعض الرواة, لا شكَّ فيه ولا تردُّد, وقد اتهموا به عكرمةَ بن عمار راويه, وقد ضعَّف أحاديثَه يحيى بنُ سعيد (2) , وقال: ليست بصحاح, وكذلك قال أحمد بن حنبل: هي أحاديث ضعاف, وكذلك لم يُخْرِج عنه البخاريُّ, إنما أخرج عنه مسلم لقول يحيى بن معين: ثقة. قال: وإنما قلنا إن هذا وهم, لأن أهل التاريخ أجمعوا على أن أم حبيبة كانت تحت عبيد الله بن جحش, وولدت له, وهاجر بها وهما مسلمان إلى أرض الحبشة, ثم تنصَّر, وثبتت أمُّ حبيبةَ على دينها, فبعثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاشي يخطبها عليه, فزوَّجه إياها, وأصْدَقها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة آلاف درهم, وذلك سنة سبع من الهجرة, وجاء أبو سفيان في زمن الهدنة فدخل عليها, فثَنَتْ (3) بساطَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يجلس عليه (4). ولا خلاف أن أبا سفيان ومعاوية أسلما في فتح مكة سنة ثمان, ولا يُعْرَف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمَّرَ أبا سفيان (5). _________ (1) «كشف مشكل الصحيحين»: (2/ 463 - 464). (2) ط. الفقي زيادة: «الأنصاري» ولا وجود لها في الأصل و (ش) ولا كتاب ابن الجوزي، مع كونها خطأ فيحيى بن سعيد هنا هو القطان وليس الأنصاري. ينظر «التهذيب»: (7/ 262). (3) كذا في الأصل، وفي «المشكل»: «فتلّت»، وفي ط. الفقي: «فنحّت». (4) هذا الخبر أخرجه ابن سعد: (10/ 97)، وابن هشام في «السيرة»: (2/ 396). وعندهما: «طوَتْه». (5) هنا ينتهي كلام ابن الجوزي.

(1/431)


وقد تكلَّف أقوام تأويلات فاسدة لتصحيح الحديث؛ كقول بعضهم: إنه سأله تجديد النكاح عليها! وقول بعضهم: إنه ظنَّ أن النكاحَ بغير إذنه وتزويجه غيرُ تامّ, فسأل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يزوّجه إياها نكاحًا تامًّا, فسلَّم له النبي - صلى الله عليه وسلم - حاله, وطيَّبَ قلبَه بإجابته! وقول بعضهم: إنه ظن أن التخيير كان طلاقًا, فسألَ رَجْعتها وابتداء النكاح عليها! وقول بعضهم: إنه استشعر كراهةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لها وأراد بلفظ التزويج استدامة نكاحها لا ابتداءه! وقول بعضهم: يحتمل أن يكون وقع طلاقٌ فسألَ تجديدَ النكاح! وقول بعضهم: يحتمل أن يكون أبو سفيان قال ذلك قبل إسلامه, كالمشترط له في إسلامه, ويكون التقدير: ثلاث إن أسلمتُ تُعْطِنِيهِنّ! وعلى هذا اعتمد المحبّ الطبري (1) في جواباته للمسائل الواردة عليه, وطوَّل في تقريره. وقال بعضهم: إنما سأله أن يزوِّجه ابنته الأخرى, وهي أختها, وخَفِيَ عليه تحريمُ الجمع بين الأختين لقرب عهده بالإسلام, فقد خفي ذلك على ابنته أم حبيبة, حتى سألَتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - (2) , وغَلِط الراوي في اسمها. وهذه التأويلات في غاية الفساد والبطلان, وأئمة الحديث والعلم لا _________ (1) سبق التعريف به. (2) حديثها أخرجه البخاري (5101، 5106)، ومسلم (1449).

(1/432)


يرضون بأمثالها, ولا يصححون أغلاط الرواة بمثل هذه الخيالات الفاسدة والتأويلات الباردة, التي يكفي في العلم بفسادها تصوُّرها وتأمّل الحديث. وهذا التأويل الأخير وإن كان في الظاهر أقلَّها فسادًا فهو أكْذَبُها وأبْطَلُها, وصريحُ الحديث يردُّه, فإنه قال: «أم حبيبة أزوجكها؟ قال: نعم» , فلو كان المسؤول تزويج أختها لما أنعم له بذلك - صلى الله عليه وسلم -، فالحديث غلطٌ لا ينبغي التردُّد فيه، والله أعلم.

  9 - باب قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} (1)

148/ 2004 - عن عكرمة عن ابن عباس ــ قال الشيباني: وذكره عطاء أبو الحسن السُّوائي، ولا أظنه إلا عن ابن عباس ــ في هذه الآية: {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} [النساء: 19] قال: كان الرجلُ إذا مات، كان أولياؤه أحقَّ بامرأته من وليِّ نفسها، إن شاء بعضهم زوَّجها أو زَوّجوها، وإن شاؤوا لم يزوّجوها، فنزلت هذه الآية في ذلك. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد استشكل بعضُ المفسرين (2) معنى وراثتهم النساء المنهيّ عنها, حتى قال: المعنى لا يحلُّ لكم أن ترثوا نكاحهنَّ لترثوا _________ (1) هكذا التبويب في الأصل و (ش، هـ)، وفي مطبوعة «المختصر» و «السنن»: «باب في قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ ... وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ}. تنبيه: من هنا إلى «باب الخلع» ساقط من نسخة المحمودية من «مختصر المنذري». وكتب في هامش (ق 87 ب) بخط مغربي: «هنا نقص قدر كراسين فأكثر بين قوله: (معنا كتاب الله) وبين قوله: (باب في المملوكة تُعتق). (2) ذكر المنذري في مختصره - خ (ق 179 ب) هذا القول عن الماوردي، ولم أجده في تفسيره المطبوع باسم «النكت والعيون»: (1/ 465 - 466) عند تفسير هذه الآية.

(1/433)


أموالهنّ كَرهًا. قال: وفي المراد بميراثهن [ق 83] وجهان: أحدهما: ما يصل إلى الأزواج من أموالهنّ بالموت دون الحياة، على ما يقتضيه الظاهر من لفظ الميراث. الثاني: الوصول إلى أموالهن في الحياة وبعدها, وقد يسمّى ما وصل في الحياة ميراثًا, كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} [المؤمنون:11]. وهذا تكلُّف وخروج عن مقتضى الآية (1) , بل الذي مُنِعوا منه: أن يجعلوا حقَّ الزوجية حقًّا موروثًا ينتقل إلى الوارث كسائر حقوقه, وهذه كانت شُبهتهم أن حقَّ الزوجية انتقل إليهم مِن موروثهم, فأبطل الله ذلك, وحكَمَ بأن الزوجية لا تنتقل بالميراث إلى الوارث, بل إذا مات الزوج كانت المرأةُ أحقَّ بنفسها, ولم يرث بُضْعَها أحدٌ, وليس البُضعُ كالمال فينتقل بالميراث. وقوله (2): «فوَعَظَ اللهُ ذلك» فيه وجهان: أحدهما: أن يُقَدَّر فيه حرف جرّ, أي في ذلك. والثاني: أن يُضَمَّن «وعَظَ» معنى «مَنَع وحذَّر» ونحوه. واستنبط بعضُهم من الآية أنه لا يحلّ للرجل أن يمسك امرأتَه ولا أَرَب له فيها, طمعًا أن تموت فيرث مالها، وفيه نظر (3). والله أعلم. _________ (1) ينظر في مناقشة كلام ابن القيم «اختيارات ابن القيم وترجيحاته في التفسير» (1/ 369 - 374) للدكتور محمد القحطاني رسالة علمية لم تطبع. (2) أخرجه أبو داود (2091) من قول الضحّاك. (3) في هامش الأصل و (ش) حاشية نصها: «ذكر المنذري بعضَ هذا بمعناه». وقد سبق مثلها قبل عدة أبواب، وعلقنا هناك على دلالة هذه الحاشية، فليُنظر.

(1/434)


 10 - باب في البِكْر يزوِّجها أبوها (1)

149/ 2011 - عن ابن عباس: أن جاريةً بكرًا أتتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فذكرَتْ أن أباها زوَّجها وهي كارهة، فخيَّرها النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه ابن ماجه (2)، وأخرجه أبو داود أيضًا مرسلًا (3). وقال: وكذا رواه الناس مرسلًا معروف. وقال البيهقي (4): فهذا حديث أخطأ فيه جرير بن حازم على أيوب السختياني، والمحفوظ عن أيوب عن عكرمة: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم -» مرسلًا. وقال أيضًا: وقد روي من أوجه أخرى عن عكرمة موصولًا، وهو أيضًا خطأ، وذكره عن عطاء عن جابر. وقال: هذا وهم، والصواب مرسل، وقال: وإن صح ذلك فكأنه كان وضعها في غير كُفْءٍ، فخيَّرها النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن القيم - رحمه الله -: وعلى طريقة البيهقي وأكثر الفقهاء وجميع أهل الأصول: هذا حديث صحيح, لأن جرير بن حازم ثقة ثبت, وقد وَصَله، وهم يقولون: زيادة الثقة مقبولة, فما بالها تُقْبَل في موضع, بل في أكثر المواضع التي توافق مذهبَ المقلِّد, وتُرَدّ في موضع يخالف مذهبه؟! وقد قبلوا زيادة الثقة في أكثر من مائتين من الأحاديث رفعًا ووصلًا وزيادةَ لفظٍ ونحوه, هذا لو انفرد به جرير, فكيف وقد تابعه على رفعه عن أيوب: زيدُ بن _________ (1) كذا الباب في الأصل و (ش)، وفي «السنن» و «مختصر المنذري» زيادة: «ولا يستأمرها». (2) أخرجه أبو داود (2096)، وابن ماجه (1875)، والنسائي في «الكبرى» (5366)، وأحمد (2469) من طرق عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس به. (3) أخرجه أبو داود (2097). وقال عقبه: «لم يذكر ابن عباس ... » وبقية العبارة ذكرها المنذري. (4) في «السنن الكبرى»: (7/ 117).

(1/435)


حبان, ذكره ابن ماجه في «سننه» (1). وأما حديث جابر فهو حديث يرويه شُعَيب بن إسحاق، عن الأوزاعي، عن عطاء، عن جابر: «أن رجلًا زوَّج ابنتَه وهي بِكْر من غير أمرها, فأتتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ففرَّق بينهما» رواه النسائي (2). ورواه أيضًا من حديث أبي حفص التنِّيسي (3): سمعتُ الأوزاعيَّ قال: حدثني إبراهيم بن مرة, عن عطاء بن أبي رَباح قال: «زوَّج رجلٌ ابنتَه وهي بكر» وساق الحديث. وهذا الإرسال لا يدلّ على أن الموصول خطأ بمجرَّده. وأما حديث جرير الذي أشار البيهقي (4) إلى أنه أخطأ فيه على أيوب, فرواه النسائي (5) أيضًا من حديث جَرير، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس: «أن جارية بكرًا أتتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -,فقالت: إن أبي زَوَّجني, وهي كارهة, فردَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - نكاحها». ورجاله محتجٌّ بهم في الصحيح. وقد تقدّم (6) قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُنْكَح البِكْرُ إلا بإذنها». وهذا نهيٌ صريح في المنع، فحَمْلُه على الاستحباب بعيد جدًّا. _________ (1) ساقه عقب حديث (1875). (2) في «الكبرى» (5363). (3) في «الكبرى» (5364). (4) في «السنن الكبرى»: (7/ 117). (5) (5366)، وأخرجه ابن ماجه (1875). (6) أي في «سنن أبي داود» (2092) وأخرجه البخاري (5136)، ومسلم (1419) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

(1/436)


وفي حديث ابن عباس: «والبِكْر يستأمرها أبوها» رواه مسلم (1)، وسيأتي, فهذا خبرٌ في معنى الأمر على إحدى الطريقتين, أو خبر محض, ويكون خبرًا عن حُكْم الشرع, لا خبرًا عن الواقع, وهي طريقة المحققين. فقد توافق أمرُه - صلى الله عليه وسلم - وخبرُه ونهيه على أن البِكْر لا تُزوَّج إلا بإذنها. ومثل هذا يَقْرُب مِن القاطع (2) ويبعُد كلَّ البعد حَمْلُه على الاستحباب. وروى النسائي (3) من حديث عكرمة، عن ابن عباس قال: «أنكَحَ رجلٌ من بني المنذر ابنتَه وهي كارهة, فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فردَّ نكاحها». وروى أيضًا (4) من حديث عبد الله بن بُرَيدة، عن عائشة: أن فتاةً دخلت عليها فقالت: إن أبي زوَّجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته, وأنا كارهة, قالت: اجلسي حتى يأتي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرَتْه, فأرسل إلى أبيها فدعاه, فجعلَ الأمرَ إليها, فقالت: يا رسول الله، قد أجزتُ ما صنع أبي, ولكني أردت أن أعْلَم أللنساءِ مِن الأمر شيءٌ؟». ورَوى أيضًا (5) عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة قال: «أنْكَح رجلٌ من بني المنذر ابنتَه وهي كارهة, فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فردَّ نكاحها». وحَمْل هذه القضايا وأشباهها على الثيِّب دون البِكْر خلاف مقتضاها, لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يسأل عن ذلك ولا استفصل, ولو كان الحكم يختلف بذلك _________ (1) (1421). (2) كذا ولعله «القطع». (3) (5368). (4) (5369). قال النسائي عقبه: هذا الحديث يرسلونه. (5) (5367).

(1/437)


لاستفصلَ وسألَ عنه, والشافعيُّ يُنَزِّلُ هذا منزلةَ العموم, ويحتجُّ به كثيرًا (1). وذكر أبو محمد بن حزم (2) من طريق قاسم بن أصبغ، عن ابن عمر: «أن رجلا زوَّج ابنتَه بكرًا، فأتت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فردَّ نكاحه» وذكر الدارقطني هذا الحديثَ في «سننه» (3) وفي كتاب «العلل» (4) , وأعلَّه برواية مَن روى: «أنّ عمّها زوَّجها بعد وفاة أبيها, وزوَّجها من عُبيد الله بن عمر, وهي بنت عثمان بن مظعون, وعمها قدامة, فكرهته, ففرَّق رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما, فتزوَّجها المغيرة بن شعبة». قال: وهذا أصحّ من قول مَن قال: زوجها أبوها, والله أعلم.

  11 - [ق 84] باب في الثيِّب

150/ 2015 - وعن خنساء بنت خِذَام الأنصارية: «أن أباها زوَّجها وهي ثَيِّبٌ، فكرهتْ ذلك، فجاءت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرَتْ ذلك له، فردَّ نكاحَها». وأخرجه البخاري والنسائي وابن ماجه (5). _________ (1) قال السبكي في «الأشباه والنظائر»: (2/ 137): «اشتهر عن الشافعي أن ترك الاستفصال في حكاية الأحوال مع قيام الاحتمال يُنزّل منزلة العموم في المقال. وهذا وإن لم أجده مسطورًا في نصوصه فقد نقله عنه لسان مذهبه» يعني أبا المعالي الجويني»، ينظر: «البرهان»: (1/ 237) له، و «المستصفى»: (2/ 149) للغزالي، و «المسوّدة» (ص 108). (2) في «المحلى»: (9/ 42). (3) (3570). (4) (13/ 73). (5) أخرجه أبو داود (2101)، والبخاري (5138)، والنسائي (3268)، وابن ماجه (1873) بنحوه.

(1/438)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد اخْتُلِف في خنساء هذه, هل كانت بكرًا أو ثيِّبًا؟ فقال مالك: وهي ثيِّب, وكذلك ذكره البخاري في «صحيحه» , من حديث مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عبد الرحمن ومُجَمِّع ابني يزيد بن جرير، عن خنساء. وخالف مالكًا سفيانُ الثوريُّ, فرواه عن عبد الرحمن بن القاسم، عن عبد الله بن يزيد، عن خنساء قالت: «أنكَحَنِي أبي وأنا كارهة, وأنا بِكْر, فشكوتُ ذلك للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: «لا تُنْكِحها وهي كارهة» رواه النسائي (1) من حديث ابن المبارك عن سفيان. قال عبد الحق (2): رُوِي أنها كانت بكرًا, ووقع ذلك في كتاب أبي داود والنسائي, والصحيح أنها كانت ثَيِّبًا.

  12 - باب في التزويج على العمل يُعْمَل (3)

151/ 2025 - عن سهل بن سعد الساعدي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءته امرأةٌ فقالت: يا رسول الله، إني قد وهبت نفسي لك، فقامت قيامًا طويلًا، فقام رجل، فقال: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هل عندكَ شيء تُصْدِقُها إيَّاه؟» فقال: ما عندي إلا إزاري هذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنك إن أعطيتها إزارك جلستَ لا إزارَ لك، فالتمِسْ شيئًا»، قال: لا أجدُ شيئًا، قال: «فالتَمِسْ ولو خاتمًا من حديد»، فالتمس فلم يجد شيئًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: _________ (1) في «الكبرى» (5361) وقال عقبه: «خالفه مالك بن أنس في إسناده وفي لفظه». (2) في «الأحكام الوسطى»: (3/ 144). (3) قوله: «يعمل» ليست في ط. «المختصر»، وهي ثابتة في الأصل و (ش) و «السنن» و (خ- المختصر).

(1/439)


«هل معك من القرآن شيء؟» قال: نعم، سورة كذا وسورة كذا، لسُوَرٍ سَمَّاها، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قد زَوَّجْتُكَهَا بما مَعَكَ من القرآن». وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (1). وفي رواية: فقال: «ما تحفظ من القرآن؟» قال: سورة البقرة والتي تليها. قال: «قم فعلّمها عشرين آية، وهي امرأتك» في إسناده عسل بن سفيان، وهو ضعيف. وفي رواية قال: وقد كان مكحول يقول: ليس ذاك لأحدٍ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رُوي «مَلّكْتُكها» وروي أيضًا «مُلِّكْتَها» بضم الميم وكسر اللام. قال أبو الحسن الدارقطني: رواية من روى «مُلّكتَها» وهم، ورواية من قال: «زوّجْتُكها» الصوابُ، وهم أكثر وأحفظ (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: وادعى بعضُهم أن هذا الحديث منسوخٌ بقوله: «لا نكاح إلا بوليٍّ» (3) ولا يصحّ ذلك, فإن الموهوبة كانت تحلّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد جعلَتْ أمرَها إليه, فزوَّجها بالولاية. وأما دعوى الخصوص في الحديث, فإنها من وجه دون وجه, فالخصوص به - صلى الله عليه وسلم -: نكاحُه بالهبة, لقوله تعالى {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} ــ إلى قوله ــ {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50]. _________ (1) أخرجه أبو داود (2111)، والبخاري (5030)، ومسلم (1425)، والترمذي (1114)، والنسائي (3339)، وابن ماجه (1889). (2) كلام المنذري هذا بطوله لا وجود له في (ط- المختصر) وهو من المخطوط (ق 182 - نسخة دار الكتب). وكلام المنذري أطول من هذا لخصّه المؤلف وزاد عليه في باقي كلامه. (3) تقدم تخريجه.

(1/440)


وأما تزويج المرأة على تعليم القرآن, فكثير من أهل العلم يجيزه, كالشافعي وأحمد وأصحابهما, وكثير يمنعه, كأبي حنيفة ومالك (1). وفيه جواز نكاح المُعْدَم الذي لا مال له. وفيه الردّ على من قال بتقدّر (2) أقلّ الصّدَاق إما بخمسة دراهم كقول ابن شبرمة، أو بعشرة كقول أبي حنيفة، أو أربعين درهمًا كقول النخعي, أو خمسين كقول سعيد بن جُبَير, أو ثلاثة دراهم, أو ربع دينار كقول مالك. وليس لشيءٍ من هذه الأقوال حجةٌ يجب المصيرُ إليها, وليس بعضُها بأولى من بعض. وغاية ما ذكره المُقَدِّرون: قياس استباحة البُضْع على قَطْع يد السارق. وهذا القياسُ ــ مع مخالفته النصَّ ــ فاسدٌ, إذ ليس بين البابين علة مشتركة توجِب إلحاق أحدهما بالآخر, وأين قطع يد السارق من باب الصَّدَاق؟! وهذا هو الوصف الطّرْدي المحض الذي لا أثر له في تعلّق الأحكام به. وفيه جواز عرضِ المرأةِ نفسَها على الرجل الصالح. وفيه جواز كون الوليّ هو الخاطب، وترجم عليه البخاري في «صحيحه» (3) كذلك, وذَكَر الحديث. وفيه جواز سكوت العالم، ومَن سُئل شيئًا لم يُرِدْ قضاءَه ولا الجوابَ _________ (1) ينظر: «التمهيد»: (21/ 118 - 120)، و «المغني»: (10/ 103)، و «شرح مسلم»: (9/ 213)، و «فتح الباري»: (9/ 212)، و «عمدة القاري»: (20/ 45). (2) في المطبوعتين: «بتقدير» والمثبت من الأصول. (3) (7/ 16).

(1/441)


عنه, وذلك أَلْيَنُ في صَرْف السائل, وأحْمَدُ مِن جَبْهِهِ بالردّ (1) , وهو من مكارم الأخلاق. وفيه دليل على جواز أن تكون منافع الحرّ صَدَاقًا, وفيه نظر. والله أعلم.

  13 - باب فيمن تزوَّج ولم يسمِّ لها صَدَاقًا [حتى مات] (2)

152/ 2028 - عن عبد الله ــ وهو ابن مسعود ــ في رجل تزوج امرأة، فمات عنها ولم يدخل بها ولم يفرض لها، فقال: لها الصداق كاملًا، وعليها العدة، ولها الميراث. قال مَعْقِل بن سِنان: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى به في بَرْوَعَ بنت واشِق. وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (3)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. 153/ 2029 - وعن عبد الله بن عُتبة بن مسعود: «أن عبد الله بن مسعود أُتِيَ في رجل ــ بهذا الخبر ــ قال: فاختلفوا إليه شهرًا، أو قال: مَرَّات ــ قال: فإني أقول فيها: إن لها صداقًا كصداق نسائها، لا وَكْسَ ولا شَطَطَ، فإن لها الميراث، وعليها العِدَّة، فإن يكُ صوابًا فمن الله، وإن يكُ خطأ فمنِّي ومن الشيطان، والله _________ (1) هكذا في الأصل: «وأحمد» وعليها علامة التصحيح، وفي الهامش كتب أمامها: «وأجمل» وفوقها حرف «خ» فلعله في نسخة، والعبارة في الطبعتين: «وأجمل من جهة الرد» وفيه تغيير وتصحيف، ولم يشيرا إلى ما كتبه الناسخ ولا لتصحيحه. وفي ش: «وأحمد وأجمل .. » ووضع عليها رمز (خ، م)! (2) «لها» ليست في «المختصر» ولا «السنن»، و «حتى مات» مستدركة منه ومن «السنن». (3) أخرجه أبو داود (2114)، والترمذي (1145)، والنسائي (3356)، وابن ماجه (1891). وأخرجه أحمد (18464)، وابن حبان (4098).

(1/442)


ورسوله بريئان. فقام ناسٌ من أشجع، فيهم الجرَّاح وأبو سنان، فقالوا: يا ابن مسعود، نحن نشهدُ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قضاها فينا، في بَرْوَعَ بنتِ واشِقٍ، وإن زوجَها هلالُ بن مُرَّة الأشجعي، كما قضيتَ. قال: ففرح عبدُ الله بن مسعود فرحًا شديدًا حين وافق قضاؤه قضاءَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -» (1). قال الشافعي (2) - رضي الله عنه - في هذا الحديث: فإن ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو أولى الأمور بنا ولا حجة في قول أحدٍ دون النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كثروا ولا في قياس فلا شيء في قوله إلا طاعة الله بالتسليم له، وإن كان لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن لأحدٍ أن يُثبِت عنه ما لم يثبت، ولم أحفظه بعد من وجهٍ يثبت مثله، وهو مرة يقال: عن معقل [بن يسار ومرة عن معقل] بن سنان ومرة عن بعض أشجع ولا يسمّى. وذكر البيهقي (3) أن عبد الرحمن بن مهدي إمام من أئمة أهل الحديث قد رواه ــ وذكر سنده أو قال: هذا إسناد صحيح، وقد سمّى فيه معقَلَ بن سنان وهو صحابي مشهور، ورواه يزيد بن هارون ــ وهو أحد حفاظ الحديث ــ مع عبد الرحمن بن مهدي وغيره بإسنادٍ آخر صحيح ــ وذكر سنده ــ. وقال البيهقي (4) أيضًا: وهذا الاختلاف في قصة بَرْوع بنت واشق عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يوهن الحديث، فإن جميع هذه الروايات أسانيدُها صحاح، وفي بعضها ما دلّ على أن جماعة من أشجع شهدوا بذلك، فكأنّ بعض الرواة سمّى فيهم واحدًا وبعضهم سمى آخر وبعضهم سمّى اثنين وبعضهم أطلق ولم يسمّ، وبمثله لا يُردّ _________ (1) أخرجه أبو داود (2116)، والنسائي (3358)، وأحمد (4099 و 4276) وإسناده صحيح. (2) في «الأم»: (6/ 175 - 176). وما بين المعكوفين منه. (3) في «السنن الكبرى»: (7/ 245). (4) المصدر نفسه: (7/ 246).

(1/443)


الحديث، ولولا ثقة من رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان لفرح عبد الله بن مسعود بروايته معنى. هذا آخر كلامه. وقد صحّح الحديثَ الترمذي (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وفيه أن الصواب في قول واحد، ولا يكون القولان المتضادان صوابًا معًا. وهو منصوص الأئمة الأربعة والسلف وأكثر الخلف. وفيه أن الله تعالى هو الموفِّق للصواب، المُلْهِم له بتوفيقه وإعانته، وأن الخطأ من النفس والشيطان، ولا يضاف إلى الله ولا إلى رسوله. ولا حُجَّةَ فيه للقدرية المجوسية (2)، إذ إضافته إلى النفس والشيطان إضافة إلى محلّه ومصدره وهو النفس، وسببه (3)، وهو الشيطان وتلبيسه الحقَّ بالباطل. بل فيه ردٌّ على القدرية الجبريّة الذين يبرِّئون النفسَ والشيطانَ مِن الأفعال البتة، ولا يرون للمكلَّف فعلًا اختياريًّا يكون صوابًا أو خطأ. والذي دلَّ عليه قولُ ابن مسعود، وهو قول الصحابة كلهم وأئمة السنة من التابعين ومَن بعدهم: وهو إثبات القَدَر، الذي هو نظام التوحيد، وإثباتِ فعل العبد الاختياري، الذي هو نظام الأمر والنهي، وهو متعلَّق المدح والذم، والثواب والعقاب، والله أعلم.

  14 - باب في خُطْبة النكاح

154/ 2032 - وعن أبي الأحوص وأبي عُبيدة عن عبد الله قال: «علّمنا _________ (1) كلام المنذري بطوله ليس في مطبوعة المختصر وهو في المخطوط (ق 182 أ) نسخة دار الكتب. وله بقية لكن المؤلف نقل منه إلى هنا فقط. (2) ط. المعارف: «والمجوسية» والواو مضروب عليها في الأصل، وليست في (ش). (3) ط. الفقي: «وشبهها»!

(1/444)


رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خُطبة الحاجة: إنّ الحمد لله، نستعينُه ونستغفرُه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، مَن يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، يا أيها الذين آمنوا {اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71]. وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (1). وقال الترمذي: حديث حسن. ومنهم من أخرجه عن أبي الأحوص وحده، ومنهم من أخرجه عنهما. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى النسائيُّ في «سننه» (2) من حديث عَمرو بن سعيد (3)، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس: أن رجلًا كلّم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في شيء, فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الحمد لله, نحمده ونستعينه, مَن يهدِه الله فلا مضلَّ له, ومَن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له, وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسوله، أما بعد». والأحاديثُ كلّها متفقة على أن «نستعينه ونستغفره ونعوذ به» بالنون, والشهادتان بالإفراد, «وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله». _________ (1) أخرجه أبو داود (2118)، والترمذي (1105)، والنسائي (1404)، وابن ماجه (1892)، وأحمد (3720 و 4115). (2) (3278)، وأخرجه مسلم (868)، وابن ماجه (1893). (3) ط. الفقي: «شعيب» ورسمها في الأصل قريب، والصواب ما أثبت من المصادر.

(1/445)


قال شيخ الإسلام [ق 85] ابن تيمية (1): لمّا كانت كلمة الشهادة لا يتحمّلها أحدٌ عن أحد, ولا تَقْبل النيابةَ بحالٍ أفردَ الشهادةَ بها، ولمّا كانت الاستعانة والاستعاذة والاستغفار تقبل ذلك, فيستغفر الرجل لغيره, ويستعين الله له, ويستعيذ بالله له, أتى فيها بلفظ الجمع, ولهذا نقول: اللهم أعنّا, وأعِذْنا, واغفر لنا. قال ذلك في حديث ابن مسعود وليس فيه «نحمده» , وفي حديث ابن عباس «نحمده» بالنون, مع أن الحمد لا يتحمّله أحدٌ عن أحد, ولا يقبل النيابة, فإن كانت هذه اللفظة محفوظة فيه .... (2) إلى ألفاظ الحمد والاستعانة على نَسَق واحد. وفيه معنى آخر, وهو أن الاستعانة والاستعاذة والاستغفار طلب وإنشاء, فيستحبّ للطالب أن يطلبه لنفسه ولإخوانه المؤمنين, وأما الشهادة فهي إخبار عن شهادته لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة, وهي خبر يطابق عقد القلب وتصديقه, وهذا إنما يخبر به الإنسانُ عن نفسه لعلمه بحاله, بخلاف إخباره عن غيره, فإنه إنما يخبر عن قوله ونطقه, لا عن عَقْد قلبه، والله أعلم. 155/ 2033 - وعن أبي العياض، عن ابن مسعود: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا تشهَّد، ذكر نحوه، وقال بعد قوله «ورسوله»: «أرسلَه بالحقّ بشيرًا ونذيرًا بين يدي الساعة، مَنْ يُطع الله ورسولَه فقد رَشد، ومن يعصهما فإنه لا يَضُرُّ إلا نفسَه، ولا يضرّ الله شيئًا» (3). _________ (1) لم أعثر على نصه في كتبه المطبوعة، وانظر رسالة «المرابطة بالثغور» ضمن «جامع المسائل»: (5/ 350) لابن تيمية. (2) مطموسة في (هـ)، وبياض في الأصل و (ش) بمقدار كلمتين، وكتب بجانبه بخط أصغر: «كذا». (3) أخرجه أبو داود (1097 و 2119)، والطبراني في «الكبير» (10/ 211)، والبيهقي: (3/ 215) وفي إسناده ضعف، ولخطبة الحاجة طرق أخرى صحت بها.

(1/446)


في إسناده عمران بن دَاوَرَ القطان، وفيه مقال. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى النسائيُّ وغيرُه (1) من حديث عَديّ بن حاتم قال: «تشهَّد رجلان عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -, فقال أحدهما: مَن يُطِعِ اللهَ ورسولَه فقد رَشَد, ومَن يَعْصِهما (2) , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بئس الخطيبُ أنتَ». فإن صحَّ حديثُ عمران بن داور, فلعله رواه بعضُهم بالمعنى, فظنَّ أن اللفظين سواء, ولم يبلغه حديث: «بئس الخطيبُ أنت». وليس عمران بذلك الحافظ.

  15 - باب تزويج الصِّغار

156/ 2035 - عن عائشة قالت: «تزوَّجني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا بنتُ سَبْع ــ قال سليمان وهو ابن حرب: أو ستٍّ ــ ودَخَل بي، وأنا بنتُ تسعٍ». وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: وروى النسائي (4) من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عنها: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوَّجها لسبع سنين, ودخل عليها لتسع _________ (1) أخرجه النسائي (3279)، وأخرجه مسلم (870)، وأبو داود (1099). (2) كذا في الأصل ليس فيه «فقد غوى» وهو موافق للفظ أبي داود، أما لفظ النسائي ومسلم ففيه «فقد غوى». (3) أخرجه أبو داود (2121)، والبخاري (5133)، ومسلم (1422)، والنسائي (3255)، وابن ماجه (1877). (4) (3255) وهو في مسلم (1422/ 70).

(1/447)


سنين». ثم روى (1) من حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود عنها: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوَّجها وهي بنت تسع, ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة». ثم روى (2) من حديث مُطَرِّف بن طريف، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة قال: قالت عائشة: «تزوَّجني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لتسع سنين, وصَحِبْته تسعًا». وليس شيءٌ مِن هذا بمختلف, فإن عَقْده - صلى الله عليه وسلم - عليها كان وقد استكملَتْ ستَّ سنين ودخلت في السابعة, وبناؤه بها كان لتسع سنين من مولدها, فعبَّر عن العقد بالتزويج، وكان لستٍّ (3) , وعبَّر عن البناء بها بالتزويج, وكان لتسع. فالروايتان حقّ.

  16 - باب ما يُقال للمتزوِّج

157/ 2043 - عن أبي هريرة: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رَفَّأ الإنسانَ إذا تزوَّج قال: «باركَ الله لكَ، وباركَ عليك، وجمع بينكما في خير». وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (4). وقال الترمذي: حسن صحيح. قال المنذري: «رفأه» من قولهم: رفأتُ الثوبَ ورفوتُه، فيكون دعاء له بالموافقة والملائمة، ويكون أيضًا معناه التسكين والطمأنينة من قولهم: «رفوتُ الرجلَ» إذا سكّنت ما به من رَوْع (5). _________ (1) (3258). (2) هو في «السنن» برقم (3257) قبل الحديث السابق. (3) زاد في ط. الفقي: «سنين» خلاف الأصل و (ش، هـ). (4) أخرجه أبو داود (2130)، والترمذي (1091)، والنسائي في «الكبرى» (10017)، وابن ماجه (1905). (5) قول المنذري هذا نقله المجرِّد، وليس في مطبوعة «المختصر» وهو في مخطوطته (ق 183 ب) في كلام طويل له.

(1/448)


قال ابن القيم - رحمه الله -: (1) فعلى الأول أصله «رفأ» , بالهمز, ثم خُفّف, فقيل: «رفا» , وعلى الثاني: أصله الواو, فهو من المعتلّ. قال الجوهري (2): رفوتُ الرجلَ, سكّنته من الرعب، قال أبو خراش الهذلي: رَفَوني وقالوا: يا خُويلد لم تُرعَ ... فقلتُ وأنكرت الوجوه هُمُ هُمُ (3) والمرافاة: الاتفاق. قال: ولمّا أن رأيتُ أبا رُوَيمٍ ... يرافيني ويكره أن يُلاما والرِّفاء: الالتحام والاتفاق, ويقال: رَفَّيتُه تَرْفِيَةً, إذا قلتَ للمتزوج: بالرفاء والبنين. قال ابن السِّكِّيت: وإن شئتَ كان معناه بالسكون والطمأنينة, مِن: رفوتُ الرجلَ إذا سَكَّنْتُه. تم كلامه. [قال المنذري: ورُوي «رفّحَ» بالحاء المهملة أبدل من الهمزة حاء، وقال بعضهم: «رقح» بالقاف، والترقيح: إصلاح المعيشة، وقد رُوي من حديث عقيل بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهانا أن نقول: بالرفاء والبنين وأمرنا أن نقول: بارك الله لك وبارك عليك ــ إلا أنه من رواية الحسن البصري عنه، والحسن البصري لم يسمع من عقيل بن أبي طالب. ورُوي أيضًا عن الحسن _________ (1) في ط. الفقي بعد قوله: «قال ابن القيم» زيادة: «على قول الخطابي في معنى رفأ» ولا وجود لها في النسخ! (2) في «الصِّحاح»: (6/ 2360)، وينظر «إصلاح المنطق» (ص 153). (3) أُسقط البيت وقائله في ط. الفقي، واستبدلها بقوله: «ثم ذكر بيت أبي خراش»!!

(1/449)


مرسلًا] (1). قال ابن القيم - رحمه الله - بعدَه: وقد رواه النسائيُّ في «سننه» (2) عن الحسن قال: «تزوَّج عَقيل بن أبي طالب امرأةً من بني جُشَم (3) , فقيل له: بالرفاء والبنين. فقال: قولوا كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بارك الله فيكم, وبارك لكم». 17 - باب في الرجل يتزوّج المرأةَ فيجدها حُبْلَى 158/ 2044 - عن سعيد بن المسيّب، عن رجلٍ من الأنصار ــ قال ابنُ أبي السِّرِي وهو محمد: مِن أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقل: من الأنصار ثم اتفقوا ــ يقال له: بَصْرَة، قال: تزوجتُ امرأةً بِكرًا في سِترها، فدخلتُ عليها، فإذا هي حُبلَى، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لها الصداقُ بما استحللتَ مِن فرجها، والولدُ عبدٌ لك. فإذا ولَدَتْ»، قال الحسن ــ وهو ابنُ عليّ ــ: «فاجلدها»، وقال ابن أبي السرى: «فاجْلِدوها»، أو قال: «فحُدُّوها» (4). وذَكَر أن منهم من رواه مرسلًا (5). _________ (1) قال المجرِّد: «ثم ذكر المنذريُّ حديث عقيل». وقد سقناه بين معكوفتين من (خ- المختصر) (ق 183 ب) من طرتها، ولا وجود لها في مطبوعته. (2) (3371)، وأخرجه ابن ماجه (1906)، وأحمد (1738). (3) كذا في الأصل و (ش) والمصادر، وفي ط. الفقي: «خيثم»، وفي ط. المعارف وفي بعض مطبوعات «السنن»: «جثم». (4) أخرجه أبو داود (2131)، والدارقطني (3616)، والطبراني في «الكبير»: (2/ 48)، والحاكم: (2/ 183)، والبيهقي: (7/ 157). قال الحاكم: صحيح الإسناد، والحديث معلول كما سيذكره المصنف. (5) (2132). هنا ينتهي كلام المنذري بحسب مطبوعة «المختصر»، لكن المجرِّد ذكر أن المنذري حكى كلامَ الخطابي على الحديث إلى قوله: «وقد يحتمل أن يكون هذا الحديث منسوخًا». فسقناه من المخطوط (ق 183 ب) نسخة دار الكتب.

(1/450)


قال الخطابي (1):هذا الحديث لا أعلم أحدًا من الفقهاء قال به، وهو مرسل. ولا أعلم أحدًا من العلماء اختلف في أن وَلَد الزنا حرّ إذا كان من حرّة، فكيف يستعبده؟ ويُشبه أن يكون معناه ــ إن ثبتَ الخبرُ ــ أنه أوصاه به خيرًا أو أمره باصطناعه وتربيته واقتنائه لينتفع بخدمته إذا بلغ، فيكون كالعبد له في الطاعة مكافأة له على إحسانه وجزاء لمعروفه. وفيه حجة ــ إن ثبتَ الحديثُ ــ لمن رأى الحَمْل من الفجور يمنع عقد النكاح، وهو قول سفيان الثوري وأبي يوسف وأحمد بن حنبل وإسحاق. وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن: النكاح جائز، وهو قول الشافعي. والوطء على مذهبه مكروه، ولا عِدّة عليها في قول أبي يوسف وكذلك عند الشافعي. ويشبه أن يكون إنما جعل لها صداق المثل دون المسمى لأن في هذا الحديث من رواية زيد بن نعيم عن ابن المسيب: أنه فرَّق بينهما، ولو كان النكاح وقع صحيحًا لم يجب التفريق، لأن حدوث الزنا بالمنكوحة لا يفسخ النكاح ولا يوجب للزوج الخيار. ويحتمل أن يكون الحديث ــ إن كان له أصل ــ منسوخًا. قال ابن القيم - رحمه الله -: هذا الحديث قد اضْطُرِب في سنده وحكمه, واسم الصحابي راويه. فقيل: «بصرة» بالباء الموحَّدة والصاد المهملة, وقيل: «نضرة» بالنون المفتوحة والضاد المعجمة، وقيل: «نَضْلَة» , بالنون والضاد المعجمة واللام, وقيل: «بُسْرَة» بالباء الموحّدة والسين المهملة، وقيل: نضرة بن أكثم الخزاعي, وقيل: الأنصاري, وذكر بعضهم: أنه بصرة بن أبي _________ (1) في «معالم السنن»: (2/ 599 - 600 - بهامش السنن).

(1/451)


بصرة الغفاري, ووهم قائله. وقيل: بصرة هذا مجهول. وله علة عجيبة, وهي: أنه حديثٌ يرويه ابنُ جُرَيج، عن صفوان بن سُلَيم، عن سعيد بن المسيّب، عن رجل من الأنصار. وابنُ جُرَيج لم يسمعه من صفوان, إنما رواه عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي، عن صفوان. وإبراهيم (1) هذا متروك الحديث؛ تركه أحمدُ بن حنبل ويحيى بن معين وابنُ المبارك وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان وغيرهم. وسُئل عنه مالك بن أنس: أكان [ق 86] ثقة؟ قال: لا, ولا في دينه. وله علّة أخرى: وهي أن المعروف إنما يُروَى مرسلًا عن سعيد بن المسيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. كذا رواه قتادة ويزيد بن نُعَيم وعطاء الخراساني، كلهم عن سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2). ذَكَر عبد الحق (3) هذين التعليلين, ثم قال: «والإرسال هو الصحيح». وقد اشتمل على أربعة أحكام: أحدها: وجوب الصَّدَاق عليه بما استحلّ مِن فرجها، وهو ظاهر لأن الوطء فيه غايته أن يكون وطءَ شبهة, إن لم يصحّ النكاح. الثاني: بطلان نكاح الحامل من الزنا. _________ (1) ترجمته في «تهذيب التهذيب»: (1/ 158 - 161). (2) ذكرها أبو داود في «السنن»: (2/ 600). (3) في «الأحكام الوسطى»: (3/ 156).

(1/452)


وقد اخْتُلِف في نكاح الزانية؛ فمذهب الإمام أحمد بن حنبل: أنه لا يجوز تزوُّجها حتى تتوب, وتنقضي عدَّتها, فمتى تزوجها قبل التوبة أو قبل انقضاء عدتها كان النكاح فاسدًا, ويفرَّق بينهما (1). وهل عِدَّتها ثلاث حِيَض, أو حيضة؟ على روايتين عنه. ومذهب الثلاثة: أنه يجوز أن يتزوَّجها قبل توبتها, والزنا لا يمنع عندهم صحَّة العقد, كما لم يوجب فسخَه طريانُه (2). ثم اختلف هؤلاء في نكاحها في عدّتها: فمَنَعَه مالك, احترامًا لماء الزوج, وصيانةً لاختلاط النسب الصريح بولد الزنا. وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنه يجوز العقد عليها من غير انقضاء عدة. ثم اختلفا, فقال الشافعي: يجوز العقد عليها وإن كانت حاملًا, لأنه لا حُرْمة لهذا الحمل. وقال أبو يوسف وأبو حنيفة في إحدى الروايتين عنه: لا يجوز العقد عليها حتى تضع الحملَ, لئلا يكون الزوج قد سقى ماءَه زرعَ غيرِه, ولنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن توطأ المَسْبية الحاملُ حتى تضع. مع أن حملها مملوك له, فالحامل من الزنا أولى أن لا تُوطَأ حتى تضع, ولأنّ ماء الزاني وإن لم يكن له حُرْمة فماء الزوج محترم، فكيف يسوغ له أن يخلطه بماء الفجور؟ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - همّ بلعن الذي يريد أن يطأ أَمَته الحامل من غيره وكانت مسبية, مع انقطاع الولد عن أبيه, وكونه مملوكًا له. وقال أبو حنيفة _________ (1) ينظر «المغني»: (9/ 561 - 563). (2) ينظر: «الأم»: (6/ 384 - 386) و «الذخيرة»: (4/ 259 - 260)، و «شرح فتح القدير»: (3/ 241 - 246). ووقع في ط. الفقي: «طريانه فسخه» والمثبت من الأصل و (ش، هـ)، وبضبطه يزول الإشكال المتوهّم.

(1/453)


في الرواية الأخرى: يصح العقد عليها, ولكن لا توطأ حتى تضع. الثالث: وجوب الحدِّ بالحَبَل, وهذا مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين (1). وحُجّتهم: قول عمر - رضي الله عنه -: «والرّجْم حقٌّ على مَن زنى من الرجال والنساء إذا كان محصنًا، إذا قامت البيِّنةُ, أو كان حَمْل أو اعتراف» متفق عليه (2). ولأن وجود الحَمْل أمارة ظاهرة على الزنا أظهر من دلالة البينة, وما يتطرَّق إلى دلالة الحمل يتطرق مثلُه إلى دلالة البينة وأكثر. وحديث بصرة هذا أمره (3) بجَلْدها بمجرَّد الحمل, من غير اعتبار بيِّنةٍ ولا إقرار. ونظير هذا: حدُّ الصحابة في الخمر بالرائحة والقيء. الحكم الرابع: إرقاق ولد الزنا, وهو موضع الإشكال في الحديث, وبعضُ الرواة لم يذكره في حديثه, كذلك رواه سعيد وغيره, وإنما قالوا: «ففرَّق بينهما, وجَعَل لها الصداقَ وجَلَدَها مائة» وعلى هذا فلا إشكال في الحديث. وإن ثبتت هذه اللفظة فقد قيل: إن هذا لعلَّه كان في أول الإسلام, حين كان الرقُّ يثبت على الحُرِّ المدين ثم نُسِخ. وقيل: إن هذا مجاز, والمراد به _________ (1) ينظر: «التمهيد»: (23/ 97)، و «المغني»: (12/ 377)، و «مجموع الفتاوى»: (20/ 383). (2) أخرجه البخاري (6829)، ومسلم (1691) بنحوه. (3) ط. الفقي زيادة: «فيه أنه أمره» ولا لزوم لها!

(1/454)


استخدامه (1).

  18 - باب في حقِّ الزوج على المرأة

159/ 2053 - عن قيس بن سعد قال: أتيت الحِيرَةَ، فرأيتهم يسجدون لِمَرْزُبَانٍ لهم، فقلت: رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أحقُّ أن يُسْجَدَ له! قال: فأتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إني أتيتُ الحِيْرة، فرأيتهم يسجدون لمَرْزُبانٍ لهم، فأنتَ يا رسولَ الله أحقُّ أن نسجد لك! قال: «أرأيتَ لو مَرَرْتَ بقبري أكنتَ تسجدُ له؟»، قال: قلت: لا، قال: «فلا تفعلوا، لو كنتُ آمرًا أحدًا أن يَسْجُدَ لأحدٍ لأمرتُ النساءَ أن يَسْجُدْن لأزواجهنّ لِمَا جعَلَه لهم عليهنّ من الحقّ» (2). في إسناده شَريك بن عبد الله القاضي، وقد تكلّم فيه غيرُ واحد، وأخرج له مسلم في المتابعات. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد أخرج الترمذي (3) من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو كنتُ آمرًا أحدًا أن يسجدَ لأحدٍ لأمرتُ المرأةَ أن تسجدَ لزوجها». قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح (4). قال: وفي الباب عن معاذ بن جبل, وسُرَاقة بن مالك, وعائشة, وابن عباس, _________ (1) وقد أشار لهذين المعنيين الخطابي في «المعالم»: (2/ 599 - 600) وقد نقلناه عنه آنفًا. (2) أخرجه أبو داود (2140)، والدارمي (1463)، والحاكم: (2/ 187) وصححه. وفي سنده شريك القاضي والكلام فيه معروف، وله شواهد من حديث عدد من الصحابة سيذكرها المؤلف في تعليقه. (3) (1159). (4) كذا في المطبوع، وفي «تحفة الأشراف»: (11/ 18): «حسن غريب من هذا الوجه من حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة».

(1/455)


وعبد الله بن أبي أوفى, وطَلْق بن عليّ, وأم سلمة, وأنس، وابن عمر. فهذه أحد عشر حديثًا (1). وحديث ابن أبي أوفى رواه أحمد في «مسنده» (2) قال: لما قَدِم معاذٌ من الشام سَجَد للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ما هذا يا معاذ؟»، قال: أتيتُ الشامَ فوافيتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم, فودِدْتُ (3) في نفسي أن نفعل ذلك بك! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فلا تفعلوا, فلو كنتُ آمرًا أحدًا أن يسجد لغير الله لأمرت المرأةَ أن تسجد لزوجها, والذي نفسُ محمدٍ بيده لا تؤدِّي المرأةُ حقَّ ربها حتى تؤدِّي حقَّ زوجها، ولو سألها نفسَها وهي على قَتَب لم تمنعه» ورواه ابن ماجه (4). وروى النسائيُّ (5) من حديث حفص ابن أخي أنس، عن أنس, رَفَعَه: «لا يصلح لبشرٍ أن يسجدَ لبشرٍ, ولو صلح لبشرٍ أن يسجدَ لبشرٍ لأمرتُ المرأةَ أن تسجدَ لزوجها مِن عِظَم حقِّه عليها». ورواه أحمد (6)، وفيه زيادة: «والذي نفسي بيده لو كان مِن قَدَمِه إلى _________ (1) وروي أيضًا من حديث بُريدة بن الحصيب، وغيلان بن سلمة، وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهم -. (2) (19403، 19404). (3) كذا في الأصل و (ش، هـ) وابن ماجه، وفي «المسند»: «فروَّأتُ». وفي ط. المعارف: «فرددت». (4) (1853). وصححه ابن حبان (4171). (5) في «الكبرى» (9102). (6) (12614) قال المنذري في «الترغيب»: (3/ 35): «إسناده جيد رواته ثقات مشهورون». وقال الهيثمي في «المجمع»: (9/ 4): «رجاله رجال الصحيح غير حفص ابن أخي أنس وهو ثقة»، لكن في هذه الزيادة ضعف حيث تفردّ بها حسين المروّذي وهو مختلط، ينظر: حاشية «المسند» (20/ 65 - 66).

(1/456)


مفرق رأسه قُرْحَة تنبجس بالقيح والصديد، ثم استقبَلَتْه تلحسُه ما أدّتْ حقَّه». وروى النسائي (1) أيضًا من حديث أبي عُتبة، عن عائشة قالت: سألتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الناس أعظم حقًّا على المرأة؟ قال: «زوجها» , قلت: فأيُّ الناس أعظم حقًّا على الرجل؟ قال: «أمه». وروى النسائي وابن حبان (2) من حديث عبد الله بن عَمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها, وهي لا تستغني عنه». وقد روى الترمذي وابن ماجه (3) من حديث أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أيّما امرأة ماتت وزوجُها راضٍ عنها دخلت الجنة» قال الترمذي: [ق 87] حسن غريب. وفي «الصحيحين» (4) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا دعا الرجلُ امرأتَه لفراشه, فأبَتْ أن تجيء فباتَ غضبانًا عليها, لعنتها الملائكةُ حتى تصبح». _________ (1) في «الكبرى» (9103). والحاكم: (4/ 175) وصححه. (2) أخرجه النسائي في «الكبرى» (9086)، ولم أجده عند ابن حبان، وأخرجه الحاكم: (2/ 191) وصححه. ورواه النسائي (9087 و 9088) من طريق أخرى موقوفًا. (3) أخرجه الترمذي (1161)، وابن ماجه (1854)، والحاكم: (4/ 173) وصحح إسناده، وفيه نظر، ينظر «سلسلة الأحاديث الضعيفة» (1426). (4) أخرجه البخاري (3237)، ومسلم (1436).

(1/457)


 19 - بابُ ما يُؤمَر به مِن غضّ البَصَر

160/ 2063 - وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تباشر المرأةُ المرأةَ لتنعتها لزوجها، كأنما ينظر إليها». وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: فيه أن الوصفَ يقوم مقام الرؤية، فتمسَّك به مَن أجاز بيع الغائب بالصفة، والسَّلَم في الحيوان (2).

  20 - بابٌ في وطء السبايا

161/ 2069 - وعن أبي الدرداء: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في غزوةٍ، فرأى امرأة مُجِحًّا، فقال: لعلَّ صاحبها ألَمَّ بها؟ قالوا: نعم، فقال: لقد هَممتُ أن ألعنه لعنةً تدخل معه في قبره، كيف يورِّثه وهو لا يحلّ له؟ وكيف يستخدمه، وهو لا يحلّ له؟». وأخرجه مسلم بنحوه (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: فيه قولان: أحدهما: أن ذلك الحَمْل قد يكون من زوجها المشرك, فلا يحلّ له استلحاقه وتوريثه. وقد يكون إذا وطئها _________ (1) أخرجه أبو داود (2150)، والبخاري (5240)، والترمذي (2792)، والنسائي في «الكبرى» (9186). (2) لم يذكر في ط. الفقي: (3/ 71) تعليق المؤلف على الحديث قال: «لأنه ذكر كلام الخطابي، فحذفناه تفاديًا من التكرار»! وليس في كلام المؤلف تكرار لكلام الخطابي، ولو سلمنا بتكراره فليس مبررًا للحذف والإسقاط من كتاب المؤلف. (3) أخرجه أبو داود (2156)، ومسلم (1441). والمُجِحّ: هي المرأة الحامل التي اقتربت ولادُتها. وألمّ بها: أي وطئها، وكانت ضمن سبايا حنين.

(1/458)


تَنَفَّشَ (1) ما كان في الظاهر حملًا, وتَعْلق منه فيظنّه عبده وهو ولده، فيستخدمه استخدام العبد, وينفيه عنه. وهذان الوجهان ذكر معناهما المنذري (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: وهذا القول ضعيف, فإن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جمعَ بين إنكار الأمرين: استخدامه واستلحاقه، وقد جاء: «كيف يستعبده ويورّثه؟» (3) ومعلوم أن استلحاقه واستعباده جَمْعٌ بين المتناقضَيْن، وكذا إذا تفشَّى الذي هو حَمْل في الظاهر وعَلِقَتْ منه لا يتصوّر فيه الاستلحاق والاستعباد. فالصواب القول الثاني, وهو أنه إذا وطئها حاملًا صار في الحمل جزء منه. فإن الوطء يزيد في تخليقه, وهو قد علم أنه عبدٌ له, فهو باق (4) على أن يستعبده ويجعله كالمال الموروث عنه, فيورثه أي يجعله مالًا موروثًا عنه. وقد صار فيه جزء من الأب. قال الإمام أحمد: الوطء يزيد في سمعه وبصره (5). وقد صرَّح النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - _________ (1) كذا رسمها في الأصل و (ش) لم يعجم من حروفها إلا الفاء. وفي (خ- المختصر): «ينفش». وتنفّش أي: انتشر وتفرَّق. وكان يمكن أن تقرأ «تفشى» كما سيأتي بعد أسطر لولا أنها واضحة الرسم. (2) (خ- المختصر) (ق 185 ب)، وليس في المطبوع من «المختصر» تعليق للمنذري، وقد سقطت من مطبوعته نصوص كثيرة نبهنا عليها فيما مضى. وهذان الوجهان ذكرهما الخطابي في «المعالم»: (2/ 614). (3) أخرجه بنحوه الطحاوي في «بيان المشكل» (1424) من طريق أسد بن وداعة عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: «ويحه أيُوَرِّثه وليس منه أو يستعبده ... ». (4) رسمها في الأصل و (ش): «بان». (5) ينظر «زاد المعاد»: (5/ 141)، و «المبدع»: (6/ 344). وقد جاء ذلك في حديث رجاء بن حيوة عن أبيه عن جده: «كيف يصنع بولدها ... أم يستعبده وهو يغذو في سمعه وبصره ... » أخرجه الطبراني في «الكبير»: (22/ 302)، ونحوه في حديث أسد بن وداعة عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وقد غذاه في سمعه وبصره» أخرجه الطحاوي في «بيان المشكل» (1424) , وفي مرسل عبد الرحمن بن جبير: «وقد غذوت [تصحفت إلى: غَدَرت] في سمعه وبصره» أخرجه أبو داود في «المراسيل» (219).

(1/459)


بهذا المعنى في قوله: «لا يحلّ لرجلٍ أن يسقي ماءَه زرعَ غيرِه» (1). ومعلوم أن الماء الذي يُسْقى به الزرع يزيد فيه, ويتكوّن الزرع منه, وقد شبَّه وطءَ الحامل بساقي الزرع الماءَ, وقد جعل الله تبارك وتعالى محلّ الوطء حرثًا, وشبَّه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الحملَ بالزرع, ووطء الحامل بسَقْي الزرع. وهذا دليلٌ ظاهر جدًّا على أنه لا يجوز نكاح الزانية حتى تُعْلَم براءةُ رَحِمها, إما بثلاث حِيَض, أو بحيضة، والحيضة أقوى؛ لأن الماء الذي مِن الزنا والحمل, وإن لم يكن له حُرْمة, فَلِماء الزوج حُرْمة, وهو لا يحلّ له أن ينفي عنه ما قد يكون مِن مائه ووطئه، وقد صار فيه جزءٌ منه, كما لا يحلّ لواطئ المسبية الحامل ذلك, ولا فرق بينهما. ولهذا قال الإمام أحمد في إحدى الروايات عنه: إنه إذا تزوَّج الأمةَ وأحْبَلَها ثم مَلَكها حاملًا= أنه إن وطئها صارت أمَّ ولدٍ له, تُعْتَق بموته, لأن الولد قد يلحق من مائه الأول والثاني (2) , والله أعلم. _________ (1) أخرجه أبو داود (2158)، والترمذي (1131) وحسّنه، وابن حبان (4850) من حديث رُوَيفع بن ثابت الأنصاري - رضي الله عنه -. (2) ينظر: «المغني»: (14/ 589)، و «المبدع»: (6/ 371).

(1/460)


 21 - باب في جامع النِّكاح

162/ 2076 - وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَلْعُونٌ مَنْ أتى امرأته في دُبُرِهَا». وأخرجه النسائي وابن ماجه (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: هذا الذي أخرجه أبو داود في هذا الباب, وقد بقي في الباب أحاديث أخرجها النسائي, ونحن نذكرها. الأول: عن خُزيمة بن ثابت: أنه سمع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله لا يستحيي من الحقّ, لا تأتوا النساءَ في أدبارهنّ» (2). الثاني: عن عَمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدّه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن رجلًا سأله عن الرجل يأتي امرأةً في دبرها؟ قال: «تلك اللوطية الصغرى» (3). رفَعَه همام، عن قتادة، عن عَمرو. ووقفه سفيانُ، عن حُمَيد الأعرج، عن عَمرو, وتابعه مَطَرٌ الورَّاق، عن عمرو بن شعيب موقوفًا. الثالث: عن كُرَيب، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ينظر الله إلى _________ (1) أخرجه أبو داود (2162)، والنسائي في «الكبرى» (8966)، وأحمد (7684)، ولم أره في ابن ماجه بهذا اللفظ، وإنما بلفظ: «لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دُبُرها» (1923). (2) أخرجه النسائي في «الكبرى» (2933)، وابن ماجه (1924)، وأحمد (21854)، وفي إسناده ضعف يسير، وله شواهد يتقوّى بها. (3) أخرجه النسائي في «الكبرى» (8947) من طريق زائدة بن أبي الرقاد الصيرفي عن عامر الأحول عن عمرو بن شعيب به، والأسانيد التي ذكرها المؤلف عند النسائي (8948 - 8951). وقال عقبه: «زائدة لا أدري من هو، هو مجهول».

(1/461)


رجلٍ أتى رجلًا أو امرأةً في دُبُر» (1). هذا حديث اختلف فيه، فرواه الضحَّاك بن عثمان، عن مَخْرمة (2) بن سليمان، عن كُرَيب، عن ابن عباس. فرواه وكيع، عن الضحَّاك موقوفًا. ورواه أبو خالد عنه مرفوعًا, وصحَّح البُسْتِيُّ رَفْعَه, وأبو خالد هو الأحمر. الرابع: عن ابن الهاد، عن عمر بن الخطاب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تأتوا النساء في أدبارهنّ» (3). الخامس: حديث أبي هريرة, وقد تقدم. وله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينظر الله إلى رجلٍ أتى امرأةً في دُبُرها» (4). السادس: عن علي بن طَلْق قال: جاء أعرابيٌّ, فقال: يا رسول الله, إنّا نكون في البادية فيكون من أحدنا الرُّوَيحة, فقال: «إن الله لا يستحيي من الحقِّ, ولا تأتوا النساء في أعجازهِنّ» (5). _________ (1) أخرجه النسائي في «الكبرى» (8952)، والترمذي (1165) وحسّنه، وابن أبي شيبة (17070)، وابن حبان (4203). (2) في الأصل: «محرمته»! وصوّبها أحد المطالعين في الهامش إلى ما هو مثبت وأحال على «التقريب». (3) أخرجه النسائي في «الكبرى» (8959)، وأبو يعلى كما في «المقصد العلي»: (2/ 344)، ومن طريقه الضياء في «المختارة»: (1/ 269). (4) أخرجه النسائي في «الكبرى» (8966)، والبيهقي: (7/ 198). (5) أخرجه النسائي في «الكبرى» (8974)، والترمذي (1164) وحسَّنَه، وابن حبان (2337 و 4199) وغيرهم، وفي إسناده مسلم الحنفي، مستور، والشاهد من الحديث له شواهد يتقوّى بها، وقد ساقها المؤلف في الباب. ولفظ الحديث هنا مختصر وتمامه: «لا يستحيي من الحق، إذا فسا أحدكم فليتوضأ، ولا تأتوا ... ». وقد زادها في ط. المعارف بين معقوفين، ولا لزوم لها.

(1/462)


السابع: عن ابن عباس قال: جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله, هلَكتُ! قال: «وما الذي أهْلَكك؟»، قال: حوَّلتُ رحلي الليلة, فلم يردّ عليه شيئًا. فأُوحِيَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223]: يقول: «أقْبِل وأدْبِر, واتقِ الدُّبرَ والحيضةَ» (1). قال أبو عبد الله الحاكم (2): وتفسير الصحابي في حكم المرفوع. الثامن: عن أبي تميمة الهُجَيمي، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن أتى حائضًا أو امرأةً في دُبُرها, أو كاهنًا, فقد كفر بما أُنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -» (3). [ق 88] ثم ذكر أبو داود تفسيرَ ابن عباس (4) لقول الله تعالى: {فَأْتُوا _________ (1) أخرجه النسائي في «الكبرى» (8928)، والترمذي (2980)، وأحمد (2703)، وابن حبان (4202)، والبيهقي: (7/ 198) وغيرهم. والحديث قال الترمذي: حسن غريب، وصححه ابن حبان، وقال ابن دقيق العيد: رجاله رجال الصحيح. (2) في «المستدرك»: (1/ 27، 123 و 2/ 259). (3) أخرجه أبو داود (3904)، والنسائي في «الكبرى» (8967)، والترمذي (135)، وابن ماجه (639)، وأحمد (9290). وفي سنده انقطاع فلم يسمع أبو تميمة الهجيمي من أبي هريرة. وضعَّفه البخاري جدًّا كما نقله الترمذي في «العلل»: (1/ 191 - 192). وضعَّفه البزار والذهبي وغيرهم. (4) وقع في الأصل و (ش): «ابن عمر» وإنما ذكر أبو داود (2164) تفسير ابن عباس وتعليقه الآتي عليه. وهذه الجملة من كلام المجرّد.

(1/463)


حَرْثَكُمْ}. ثم قال ابن القيم: وهذا الذي فسَّر به ابنُ عباس فسّرَ به ابنُ عمر، وإنما وهموا عليه لم يهم هو. فروى النسائي (1) عن أبي النضر أنه قال لنافع: «قد أُكثر عليك القول أنك تقول عن ابن عمر: إنه أفتى بأن يُؤتَى النساءُ في أدبارها (2). قال نافع: لقد كذبوا عليَّ, ولكن سأخبرك, كيف كان الأمر: إن ابن عمر عرض المصحفَ يومًا, وأنا عنده, حتى بلغ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] قال: يا نافع, هل تعلم ما أمر هذه الآية؟ إنَّا كُنّا معشر قريش نُجبِّي النساءَ, فلما دخلنا المدينةَ ونكحنا نساءَ الأنصار أردنا منهنَّ مثلَ ما كنا نريدُ مِن نسائنا, فإذا هُنَّ قد كرهنَ ذلك وأَعْظَمْنَه, وكانت نساء الأنصار إنما يؤتَيْن على جنوبهن, فأنزل الله عز وجل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223]». فهذا هو الثابت عن ابن عمر, ولم يَفْهم عنه مَن نقلَ عنه غيرَ ذلك. ويدلُّ عليه أيضًا ما روى النسائي (3) عن عبد الرحمن بن القاسم قال: قلت لمالك: «إن عندنا بمصر الليث بن سعد يحدِّث عن الحارث بن يعقوب، عن سعيد بن يسار قال: قلت لابن عمر. إنّا نشتري الجواري فنحَمِّض لهنّ, قال: وما التحميض؟ قال نأتيهن في أدبارهن, قال: أفّ! _________ (1) في «الكبرى» (8929)، والطحاوي في «بيان المشكل» (6128). (2) كذا في الأصل و (ش، هـ)، وفي المصادر: «أدبارهنّ». (3) في «الكبرى» (8930)، وأخرجه الدارمي (1182)، والطحاوي في «بيان المشكل» (6128) من طرق عن مالك به.

(1/464)


أو يعمل هذا مسلم؟! فقال لي مالك: فأشهد على ربيعة لحدّثني عن سعيد بن يَسار: أنه سأل ابنَ عمر عنه؟ فقال: لا بأس به». فقد صحَّ عن ابن عمر أنه فسَّر الآيةَ بالإتيان في الفَرْج من ناحية الدُّبُر، وهو الذي رواه عنه نافع، وأخطأ مَن أخطأ على نافع، فتوهَّم أن الدبرَ محلٌّ للوطء لا طريق إلى وطء الفرج, فكذَّبهم نافعٌ. وكذلك مسألة الجواري, إن كان قد حُفِظ عن ابن عمر أنه رخَّص في الإحماض لهنّ, فإنما مراده إتيانهنَّ من طريق الدُّبُر, فإنه قد صرَّح في الرواية الأخرى بالإنكار على مَن وطئهنّ في الدبر, وقال «أوَيفعَلُ هذا مسلم»؟! فهذا يبين تصادُقَ الروايات وتوافقَها عنه. فإن قيل: فما تصنعون بما رواه النسائي (1) من حديث سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن عبد الله بن عمر: «أن رجلًا أتى امرأتَه في دُبُرها في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوَجَد من ذلك وَجْدًا شديدًا, فأنزل الله عز وجل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223]»؟ قيل: هذا غلط بلا شك, غلط فيه سليمان بن بلال, أو ابن أبي أويس راويه عنه, وانقلبت عليه لفظة «من» بلفظة «في» وإنما هو «أتى امرأةً مِن دبرها» , ولعل هذه هي قصة عمر بن الخطاب بعينها لما حوَّل رَحْلَه, ووجد من ذلك وجدًا شديدًا, فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هلكتُ» , وقد تقدمت (2). أو يكون بعض الرواة ظنَّ أن ذلك هو الوطء في الدُّبُر فرواه بالمعنى الذي ظنَّه. _________ (1) في «الكبرى» (8932). (2) تقدم تخريجه.

(1/465)


مع أن هشام بن سعد قد خالف سليمانَ في هذا, فرواه عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار مرسلًا (1). والذي يبيِّن هذا ويزيدُه وضوحًا: أن هذا الغلط قد عرضَ مثلُه لبعض الصحابة حين أفتاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بجواز الوطء في قُبُلها مِن دُبرها, حتى بيّن له - صلى الله عليه وسلم - ذلك بيانًا شافيًا. قال الشافعي (2): أخبرني عَمِّي قال: أخبرني عبد الله بن عليّ بن السائب، عن عَمرو بن أُحَيحة بن الجُلَاح, أو عن عَمرو بن فلان بن أُحَيحة ــ قال الشافعي: أنا شككتُ ــ عن خُزيمة بن ثابت: «أن رجلًا سألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن إتيان النساء في أدبارهن, أو إتيان الرجل امرأتَه في دُبُرها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حلال» , فلما ولى الرجل دعاه, أو أَمَر به فدُعِي, فقال: «كيف قلتَ؟ في أيّ الخَرْبتين, أو في أيّ الخَرْزتين, أو في أيّ الخَصْفَتين (3)؟ أمِنْ دُبرها في قُبُلها فنعم, أم مِن دُبُرها في دبرها فلا, إن الله لا يستحيي من الحقّ, لا تأتوا النساءَ في أدبارهنَّ». قال الشافعي (4): عمِّي ثقة, وعبد الله بن عليّ ثقة, وقد أخبرني محمد ــ وهو عمّه محمد بن علي ــ عن الأنصاري المحدِّثُ به أنه أثنى عليه خيرًا, وخزيمة ممن لا يشكّ عالمٌ في ثقته (5). والأنصاريُّ الذي أشار إليه هو _________ (1) ذكره النسائي في «الكبرى» عقب الحديث (8932). (2) في «الأم»: (6/ 245 - 246) ــ وهو في «مسنده» (ص 275) ــ والبيهقي: (7/ 196). (3) أي الثقبين، والثلاثة بمعنى واحد. ينظر «النهاية»: (2/ 18) لابن الأثير. (4) في «الأم»: (6/ 444). (5) سيأتي بقية كلامه (ص 468).

(1/466)


عَمرو بن أُحَيحة. فوقع الاشتباه في كون الدُّبُر طريقًا إلى موضع الوطء, أو هو مأْتَى. واشتبه على من اشتبه عليه معنى «من» بمعنى «في» فوقع الوهم. فإن قيل: فما تقولون فيما رواه البيهقي (1) عن الحاكم: حدثنا الأصم قال: سمعتُ محمد بن عبد الله بن عبد الحكم يقول: سمعت الشافعيَّ يقول: ليس فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التحريم والتحليل حديثٌ ثابت, والقياس أنه حلال, وقد غلط سفيانُ في حديث ابن الهاد ــ يريد حديثَه عن عُمارة بن خزيمة عن أبيه يرفعه: «إن الله لا يستحيي من الحقِّ, لا تأتوا النساءَ في أدبارهنّ» (2) , ويريد بغَلَطِه: أن ابن الهاد قال فيه مرةً: عن عبيد الله بن عبد الله بن حصين، عن هَرَميّ بن عبد الله الواقفي، عن خُزَيمة. ثم اخْتُلف فيه عن عبيد الله. فقيل: عنه عن عبد الملك بن عَمْرو بن قيس الخَطْمي، عن هَرَمي، عن خُزيمة. وقيل: عن عبد الله بن هَرَمي, فمداره على هَرَميّ بن عبد الله، عن خزيمة, وليس لعمارة بن خزيمة فيه أصل إلا من حديث ابن عيينة. وأهلُ العلم بالحديث يروونه خطأ. هذا كلام البيهقي. قيل (3): هذه الحكاية مختصرة من مناظرة حكاها الشافعي, [ق 89] جَرَت بينَه وبينَ محمد بن الحسن, وفي سياقها دلالة على أنه إنما قصد الذبَّ عن أهل المدينة على طريق الجَدَل, فأما هو فقد نصّ في كتاب عِشْرة _________ (1) في «معرفة السنن والآثار»: (5/ 335 - 336). (2) تقدم تخريجه. (3) هذا الجواب للبيهقي في المصدر السالف (5/ 336) كما سيذكر المؤلف في آخره.

(1/467)


النساء على تحريمه. هذا جواب البيهقي. والشافعيُّ - رحمه الله - قد صرَّح في كتبه المصرية بالتحريم، واحتجَّ بحديث خُزيمة, ووثَّق رواتَه, كما ذكرنا. وقال في الجديد: قال الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] , وبيَّن أن موضع الحرث هو موضع الولد, وأن الله تعالى أباح الإتيان فيه إلا في وقت المحيض. «وأنى شئتم» بمعنى مِنْ أين شئتم قال: وإباحة الإتيان في موضع الحَرْث يُشْبه أن يكون (1) تحريم إتيان غيره, فالإتيان في الدُّبُر حتى يبلغ منه مبلغ الإتيان في القبل محرَّم, بدلالة الكتاب ثم السنة, فذَكَر حديث عمِّه, ثم قال: «ولست أُرَخِّص فيه, بل أنهى عنه». فلعلَّ الشافعيَّ - رحمه الله - توقَّف فيه أولًا, ثم لما تبيَّن له التحريم وثبوت الحديث فيه رجع إليه. وهو أولى بجلالته ومنصبه وإمامته من أن يناظر على مسألة يعتقد بطلانها, يذبّ بها عن أهل المدينة جدلًا, ثم يقول: والقياس حِلُّه, ويقول: ليس فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التحريم والتحليل حديثٌ ثابت, على طريق الجدل, بل إن كان ابن عبد الحكم حفظ ذلك عن الشافعي فهو مما قد رجع عنه لمَّا تبين له صريح التحريم. والله أعلم.

  22 - باب إتيان الحائض ومباشرتها

163/ 2081 - وعن ميمونة بنت الحارث: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يُباشر امرأة من نسائه وهي حائض، أمرها أن تَتَّزِرَ ثم يباشرها». _________ (1) من قوله: «وفي سياقها ... » إلى هنا في الأصل و (ش) في غير موضعه، حيث تأخر إلى آخر تعليق المؤلف على الباب بعد قوله: «والله أعلم» فلعله كان معلقًا في طرة الأصل ولم يتفطن الناسخ لمكانه، وهو على الصواب في نسخة (هـ).

(1/468)


وأخرجه البخاري (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد تقدم في «الصحيحين» (2) حديثُ عائشة: «كنتُ أغتسل أنا والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِن إناء واحد, كلانا جُنُب, وكان يأمرني فأتَّزِر, فيباشرني وأنا حائض». قال الشافعيُّ (3): قال بعضُ أهل العلم بالقرآن في قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] يعني: في موضع الحيض. وكانت الآية محتملة لما قال, ومحتملة اعتزال جميع أبدانهنَّ، فدلّت سنةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - على اعتزال ما تحت الإزار منها, وإباحة ما فوقها. وحديثُ أنسٍ المتقدّم (4) ظاهرٌ في أن التحريمَ إنما وقع على موضع الحيض خاصةً, وهو النكاح, وأباح كلَّ ما دونه. وأحاديث الإزار لا تُناقِضُه، لأن ذلك أبلغ في اجتناب الأذى, وهو أولى. وأما حديث معاذ قال: «سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما يحلّ للرجل مِن _________ (1) أخرجه أبو داود (2167)، والبخاري (303). (2) أخرجه البخاري (299، 300)، ومسلم (321) وليس في لفظ مسلم: «وكان يأمرني فأتزر ... ». (3) في «الأم»: (6/ 440 - 441). (4) ط. الفقي: أسقط «المتقدم» وأبدلها «هذا»، وط. المعارف زاد «هذا» ولا وجود لها في الأصل وش. وحديث أنس تقدم عند أبي داود (258)، وهو في مسلم (302) في شأن اليهود مع الحائض وأنهم لم يؤاكلوها ولم يشاربوها فسُئل عن ذلك، فأنزل الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ... }.

(1/469)


امرأته وهي حائض؟ فقال: «ما فوق الإزار, والتعفُّف عن ذلك أفضل» (1) = ففيه بقيّة، عن سعد الأغطش, وهما ضعيفان. قال عبد الحق (2): رواه أبو داود، ثم قال: ورواه أبو داود (3) من طريق حرام بن حكيم ــ وهو ضعيف ــ عن عمِّه: «أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يحلّ لي من امرأتي وهي حائض؟ فقال: «لك ما فوق الإزار». قال: «ويُروى عن عمر بن الخطاب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -». ذكره أبو بكر بن أبي شيبة (4) , وليس بقويّ.

  23 - باب كفَّارة مَن أتى حائضًا

164/ 2083 - وعن ابن عباس قال: «إذا أصابها في الدّمِ فدينارٌ، وإذا أصابها في انقطاع الدّمِ فنصف دينار». وأخرجه النسائي (5). وهذا الحديث قد اضطرب الرواةُ فيه اضطرابًا كثيرًا، في إسناده وفي متنه، فرُوي تارةً مرفوعًا وتارة موقوفًا، وتارة مرسلًا عن مِقْسم عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وتارةً معضلًا عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتارة _________ (1) أخرجه أبو داود (213) قال أبو داود عقبه: «وليس بالقويّ». (2) في «الأحكام الوسطى»: (1/ 209). (3) (212)، وأخرجه الترمذي (133)، وابن ماجه (1378)، وأحمد (19007)، والحديث صحيح. (4) (17103) من طريق عاصم بن عمرو عن عمر بن الخطاب، وروايته عنه مرسلة. ينظر «تحفة التحصيل» (ص 217)، و «جامع التحصيل» (ص 203). (5) أخرجه أبو داود (265، 2169)، والنسائي (289) وفي «الكبرى» (278)، وابن ماجه (640)، وأحمد (2032، 2121، 2201 وغيرها)، والبيهقي: (1/ 314 - 315) واختلف فيه وقفًا ورفعًا كما سيذكر المنذري والمؤلف.

(1/470)


على الشك: «دينار، أو نصف دينار»، وتارة على التفرقة بين أول الدم وآخره. وقال الإمام الشافعي: فإن أتى رجلٌ امرأتَه حائضًا، أو بعد تولية الدم، ولم تغتسل، فليستغفر الله ولا يَعُد، وقد رُوي فيه شيء لو كان ثابتًا أخذنا به، ولكنه لا يثبت مثله. هذا آخر كلامه. وقيل لشعبة: كنت ترفعه؟ قال: إني كنت مجنونًا فصححت، فرجع عن رفعه بعد ما كان يرفعه. قال ابن القيم - رحمه الله -: هذا الحديث قد رواه عفَّانُ وجماعة عن شعبة موقوفًا (1) , وكذلك رواه عبد الرحمن بن مهدي عنه موقوفًا (2) , ثم قال: قيل لشعبة: إنك كنت ترفعُه. فذكر ما تقدم. وقال النسائي (3) بعدما رواه عن شعبة موقوفًا: قال شعبة: أنا حفظي مرفوع, وقال فلان وفلان: إنه كان لا يرفعه, فقال بعضُ القوم: يا أبا بسطام, حدِّثنا بحفظك ودَعْنا من فلان, فقال: والله ما أحبّ أني حدثتُ بهذا وسكتُّ عن هذا, وأني عُمِّرتُ في الدنيا عمر نوح في قومه. وقد روى النسائي (4) من حديث سعيد بن جُبير، عن ابن عباس: «أن رجلًا أخبر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنه أصاب امرأتَه وهي حائض, فأمره أن يعتق نَسَمة». وله علّتان أشار إليهما النسائي: إحداهما: أن هذا الحديث يرويه الوليد بن مسلم، عن ابن جابر، عن _________ (1) أخرجه الدارمي (1006)، وابن الجارود (110)، والبيهقي: (1/ 314 - 315). (2) أخرجه ابن الجارود (110)، والبيهقي: (1/ 315). (3) في «الكبرى» (9051). (4) في «الكبرى» (9068). وأخرجه الطبراني (11/ 443)، والطحاوي في «شرح المشكل» (4233).

(1/471)


عليّ بن بُذَيمة، عن ابن جُبير، عن ابن عباس. واخْتُلِف على الوليد, فرواه عنه موسى بن أيوب كذلك, وخالفه محمود بن خالد, فرواه عن الوليد، عن عبد الرحمن بن يزيد السلمي, قال النسائي: هو عبد الرحمن بن يزيد بن تميم, ضعيف (1). العلة الثانية: الوَقْف على ابن عباس, ذكره النسائي (2). وقال عبد الحق (3): حديث الكفارة في إتيان الحائض لا يُروى بإسناد يحتجّ به, ولا يصحُّ في إتيان الحائض إلا التحريم.

  24 - باب ما جاء في العَزْل

165/ 2085 - وعن رِفاعة، عن أبي سعيد الخدري: أن رجلًا قال: يا رسولَ الله، إن لي جاريةً، وأنا أعزِلُ عنها، وأنا أكره أن تحمِل، وأنا أريد ما يريد الرجال، وإن اليهود تُحَدِّث أن العزلَ مَوؤدةُ الصغرى؟ قال: «كَذَبَتْ يَهُودُ، لو أراد الله أن يخلُقَه ما استطعتَ أن تصرِفَه» (4). اختُلِفَ على يحيى بن أبي كثير فيه، فقيل فيه: عنه عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر بن عبد الله، مختصرًا بمعناه، وأخرجه الترمذي والنسائي من حديثه. وقيل فيه: عن رفاعة، كما ذكرناه. وقيل: عن أبي مُطيع عن _________ (1) الذي في «الضعفاء» له (ص 206): «متروك الحديث» ونقل عن الوليد بن مسلم أنه قال فيه: كذّاب. ونقل الحافظ في «التهذيب»: (6/ 297) عنه قال: «ليس بثقة». (2) في «الكبرى» (9069). (3) في «الأحكام الوسطى» (1/ 210). (4) أخرجه أبو داود (2171)، والنسائي في «الكبرى» (9031)، وأحمد (11288)، وصحح إسناده المؤلف في «زاد المعاد»: (3/ 498).

(1/472)


رفاعة. وقيل فيه: عن أبي رفاعة. قد أخرج مسلم في «صحيحه» من رواية جذامة بنت وهب قالت: ثم سألوه عن العزل؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ذلك الوأد الخفي» قال بعضهم: جعل العزل عن المرأة بمنزلة الوأد إلا أنه خفيّ، لأن مَن يعزل عن امرأته إنما يعزل هربًا من الولد، ولذلك سمّاه الموؤدة الصغرى، لأن وأد الأحياء الموءودة الكبرى. وقد اختلف السلف في العزل، فاختاره جماعة منهم. قال الشافعي - رضي الله عنه -: ونحن نروي عن عدد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم أرخصوا في ذلك ولم يروا به بأسًا. قال البيهقي: وقد روّينا الرُّخصةَ فيه من الصحابة، عن سعد بن أبي وقاص وأبي أيوب الأنصاري وزيد بن ثابت وابن عباس وغيرهم. وذكر غيرُه أنه رُوي عن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - وخباب بن الأرت وجابر بن عبد الله. ومن التابعين: سعيد بن المسيب وطاوس ومالك والشافعي والكوفيون وجمهور العلماء، واحتجوا بالأحاديث التي جاءت في ذلك. وكرهت طائفة العزلَ، رُوي ذلك عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وعن علي رواية أخرى، وعن ابن مسعود وابن عمر. وذكر بعضهم أن حجة القائلين بالكراهة حديث جذامة. وقال غيره: يشبه أن يكون حديث جذامة على طريق التنزيه وضعّف حديث جذامة. وقال: كيف يصح أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - كذبهم في ذلك ثم يخبرهم به كخبرهم، وفيما قاله نظر، فإن الحديث في تكذيبه - صلى الله عليه وسلم - اليهودَ فيه اضطراب، وحديث جذامة في «الصحيح»، ثم من أين يتحقق له تقديم أحد الحديثين على الآخر؟ ويمكن أن يجمع بينهما بأن اليهود كانت تقول: العزل لا يكون معه حمل أصلًا، فكذّبهم - صلى الله عليه وسلم - في ذلك. ويدل

(1/473)


عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - بعد تكذيبهم: «لو أراد الله أن يخلقه ما استطعتَ أن تصرفه» (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: فاليهود ظنّت أن العزلَ بمنزلة الوأد في إعدام ما انعقد سببُ خلقِه, فكذّبهم في ذلك، وأخبر أنه لو أراد الله خَلْقه ما صرفه أحدٌ. وأما تسميته «وأدًا خفيًّا» فلأنّ الرجل إنما يعزل عن امرأته هربًا مِن الولد وحرصًا على أن لا يكون، فجرى قصدُه ونيَّتُه وحرصُه على ذلك مجرى مَن أعدمَ الولدَ بوأده, لكن ذاك وَأْدٌ ظاهر باشره (2) العبدَ فعلًا وقصدًا، وهذا وأْدٌ خفيّ, إنّما أراده ونواه عزمًا ونية, فكان خفيًّا. وقد روى الشافعيُّ (3) [ق 90] تعليقًا، عن سليمان التيمي، عن أبي عَمرو الشيباني، عن ابن مسعود في العَزْل, قال: «هو الوَأْد الخفيّ». وقد اختلف السلف والخلف في العزل، فقال الشافعي: ونحن نروي (4) عن عددٍ من أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنهم رخَّصوا في ذلك، ولم يروا به بأسًا. قال البيهقي (5): ورُوِّينا الرخصةَ فيه من الصحابة عن سعد بن أبي _________ (1) كلام المنذري بطوله من (خ- المختصر) (ق 187 أ) نسخة دار الكتب. ولا وجود لها في مطبوعة المختصر. وقد أعاد المؤلف بعضَ كلام المنذري مع زيادات. (2) ط. الفقي: «من» تصحيف. (3) في «الأم»: (8/ 430 - 431). وجاء تسميته بالوأد الخفي في «صحيح مسلم» (1442) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (4) تصحفت في ط. الفقي إلى: «الشافعي وغيره: يروى ... ». (5) في «معرفة السنن والآثار»: (5/ 366)، والآثار عنهم في «السنن الكبير»: (7/ 230 - 231).

(1/474)


وقاص, وأبي أيوب الأنصاري, وزيد بن ثابت, وابن عباس, وغيرهم. وذَكَر غيره (1): أنه رُوِي عن علي, وخَبّاب بن الأرتّ, وجابر بن عبد الله. والمعروف عن عليٍّ وابن مسعود كراهتُه. قال البيهقي: ورُوِيت عنهما الرُّخْصة. ورويت الرخصةُ من التابعين عن سعيد بن المسيّب، وطاوس, وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه. وألزمهم الشافعيُّ (2) المنعَ منه, فروَى عن عليّ وعبد الله بن مسعود المنعَ منه ثم قال: وليسوا يأخذون بهذا, ولا يرون بالعزل بأسًا. ذَكَر ذلك فيما خالف فيه العراقيون عليًّا وعبدَ الله. وأما قول الإمام أحمد (3) فيه فأكثر نصوصه أن له أن يعزل عن سُرّيته, وأما زوجته فإن كانت حُرّة لم يعزل عنها إلا بإذنها, وإن كانت أمةً لم يعزل إلا بإذن سَيِّدها. ورُوِيَت كراهةُ العَزْل عن عمر بن الخطاب, ورُوِيَت عن أبي بكر الصديق, وعن عليّ وابن مسعود في المشهور عنهما, وعن ابن عمر (4). وقالت طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم: يحرم كلُّ عَزْل، وقال بعض _________ (1) ينظر «التمهيد»: (3/ 147 - 149)، و «المغني»: (10/ 229). (2) في «الأم»: (8/ 432 - 434). (3) ينظر «المغني»: (10/ 230)، و «الفروع»: (8/ 388). (4) ينظر «مصنف عبد الرزاق» (7/ 146 - 147)، و «مصنف ابن أبي شيبة» (16839 - 16871).

(1/475)


أصحابه: يباح مطلقًا (1). وقد روى مسلم في «صحيحه» (2) عن سعد بن أبي وقاص: «أن رجلًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أعْزِل عن امرأتي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لِمَ تفعل ذلك؟»، فقال الرجل: أُشْفِق على ولدها أو على أولادها, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو كان ذلك ضارًّا ضرَّ فارسَ والرومَ». وفي «الصحيحين» (3) من حديث جابر: «كُنّا نعزل والقرآنُ ينزل، فلو كان شيء يُنْهَى عنه لنهى عنه القرآن». وفي «صحيح مسلم» (4) عنه في هذا الحديث: «كُنّا نَعْزِل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبلغ ذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فلم يَنْهنا». وفي «الصحيحين» (5) من حديث أبي سعيد قال: «ذُكِر العَزْل عند النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: «وما ذاكم؟»، قالوا: الرجلُ تكونُ له المرأة تُرْضِع, فيصيبُ منها, ويكرَه أن تحمل منه؟ [والرجل تكون له الأَمة فيصيب منها، ويكره أن تحمل منه]، قال: «فلا عليكم أن لا تفعلوا ذلكم, فإنما هو القَدَر». قال ابن عون: فحدَّثتُ به الحَسَن فقال: والله لكأنَّ هذا زجرٌ. _________ (1) ينظر «الفروع»: (8/ 388). (2) (1443/ 143). (3) أخرجه البخاري (5208)، ومسلم (1440). (4) (1440/ 138). (5) البخاري (5210) وليس فيه قول الحسن، ومسلم (1438/ 131). وما بين المعقوفين مستدرك منه.

(1/476)


وفي لفظ في «الصحيحين» (1): قال محمد بن سيرين: قوله: «لا عليكم» أقرب إلى النهي. ووَجْه ذلك ــ والله أعلم ــ: أنه إنما نَفَى الحرجَ عن عدم الفعل فقال: «لا عليكم أن لا تفعلوا» يعني في أن لا تفعلوا, وهو يدلُّ بمفهومه على ثبوت الحَرَج في الفعل, فإنه لو أراد نفي الحرج عن الفعل لقال: لا عليكم أن تفعلوا. والحكم بزيادة «لا» خلاف الأصل, فلهذا فَهِم الحسنُ وابنُ سيرين من الحديث الزجرَ. والله أعلم. 166/ 2086 - وعن ابن مُحَيْرِيز قال: «دخلتُ المسجدَ، فرأيت أبا سعيد الخدري، فجلست إليه فسألته عن العَزْل؟ فقال أبو سعيد: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بني المُصْطَلِقْ، فأصَبْنا سبايا من سَبْي العرب، فاشتهينا النساءَ، واشتدّتْ علينا العُزْبَةُ، وأحببنا الفِدَاء، فأردنا أن نَعزل، ثم قلنا: نَعزل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظْهُرِنا قبل أن نسأله عن ذلك؟ [فسألناه عن ذلك] فقال: ما عليكم أن لا تفعلوا، ما من نَسَمَة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة». وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: وفيه دليل على جواز استرقاق العرب ووطء سباياهم, وكن كتابيات. وقد تقدم حديث أبي سعيد في سبايا أوطاس (3) وإباحة وطئهنّ, وهُنّ من العرب. وحديثه الآخر: «لا توطأ حاملٌ حتى _________ (1) أخرجه مسلم (1438/ 130) ولم أره في البخاري. (2) أخرجه أبو داود (2172)، والبخاري (4138)، ومسلم (1438)، والنسائي في «الكبرى» (5027)، وابن ماجه أيضًا (1926). (3) يعني في «سنن أبي داود» (2155).

(1/477)


تضع» (1). وكان أكثر سبايا الصحابة في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - من العرب, وكانوا يطؤوهنَّ بإذن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يشترط في الوطء غير استبرائهنّ, لم يشترط إسلامهن, وتأخيرُ البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. وقد دفع أبو بكر إلى سلمة بن الأكوع امرأةً من السبي, نَفّلَها إيّاه من العرب (2). وأخذ عَمْرو بن أمية مِن سَبْي بني حنيفة (3)، وأخذ الصحابةُ من سَبْي المجوس, ولم يُنقَل أنهم اجتنبوهن. قال ابن عبد البر (4): «إباحة وطئهنَّ منسوخٌ بقوله: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221]». وهذا في غاية الضعف, لأنه في النكاح. وسأل محمدُ بن الحكم أحمدَ عن ذلك، فقال: لا أدري, أكانوا أسلموا أم _________ (1) أخرجه أبو داود (2157)، وله شاهد من حديث العرباض بن سارية أخرجه الترمذي (1564) وقال: «حديث غريب، والعمل على هذا عند أهل العلم». (2) أخرجه مسلم (1755). (3) كذا العبارة في الأصل، ولم نجد خبر عَمرو بن أمية في سبي بني حنيفة ولعل في الكلام سقطًا أو تحريفًا، ففي «المغني»: (9/ 553 - 554): «وقد دفع أبو بكر إلى سلمة بن الأكوع امرأة من بعض السبي نفلها إياه، وأخذ عمر وابنه من سبي هوازن، وكذلك غيرهما من الصحابة. والحنفية أم محمد بن الحنفية من سبي بني حنيفة، وقد أخذت الصحابةُ سبايا فارس وهم مجوس، فلم يبلغنا أنهم اجتنبوهن، وهذا ظاهر في إباحتهنّ». فكلام ابن القيم ملخص من هنا، ولا ذِكر فيه لعمرو بن أمية، والله أعلم. (4) في «التمهيد»: (3/ 135).

(1/478)


لا (1)» (2).

  25 - باب ما يُكْرَه مِن ذِكْر الرجل ما يكون بينه وبين أهْله

167/ 2088 - عن أبي نضْرةَ قال: حدّثني شيخ من طُفاوَة قال: «تَثَوَّيْتُ أبا هريرة بالمدينة، فلم أر رجلًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أشَدَّ تَشْمِيرًا، ولا أقْوَمَ على ضيْفٍ منه، فبينا أنا عنده يومًا وهو على سريرٍ له، مع كيس فيه حصًى أو نوًى، وأسفَلُ منه جارية له سَوْدَاء، وهو يُسَبِّحُ بها، حتى إذا أنْفَدَ ما في الكيس ألقاه إليها، فجمعَتْه فأعادته في الكيس، فدفعته إليه، فقال: ألا أحدثك عني وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: قلت: بلى، قال: بينا أنا أُوعَكُ في المسجد، إذ جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى دخل المسجد، فقال: «مَنْ أحَسَّ الفتى الدَّوْسِيَّ؟» ثلاث مرات، فقال رجل: يا رسول الله، هو ذَا يُوعَك في جانب المسجد، فأقبل يمشي حتى انتهى إليَّ، فوضع يده عليَّ، فقال لي معروفًا، فنهضتُ، فانطلق يمشي حتى أتى مقامه الذي يصلي فيه، فأقبل عليهم، ومعه صَفَّانِ من رجال وصفٌّ من نساء، أو صَفَّان من نساء وصَفٌّ من رجال، فقال: «إنْ نَسَّانيَ الشيطان شيئًا من صلاتي فلْيُسبِّح القومُ، ولْيُصَفِّقِ النساءُ»، قال: فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يَنْسَ من صلاته شيئًا، فقال: «مَجالِسَكُم، مَجَالِسَكم». زاد موسى ــ وهو ابن إسماعيل ههنا ــ: ثم حمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد»، ثم اتفقوا ــ: ثم أقبل على الرّجال فقال: «هل منكم الرجلُ إذا أتى أهله فأغلق عليه بابه، وألقى عليه سِتره، واستتر بستر الله؟»، قالوا: نعم، قال: «ثم يجلس بعد ذلك فيقول: فعلت كذا، فعلت كذا؟»، قال: فسكتوا، قال: فأقبل على النساء فقال: «هل منكنّ من تحدِّث؟»، فسكتْنَ، فَجَثَتْ _________ (1) نقله في «المغني»: (9/ 554). (2) في هامش الأصل ما نصه: «قابله على أصله فصح. محمد بن أحمد السعودي».

(1/479)


فتاةٌ على إحدى ركبتيها، وتَطاوَلَت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليراها ويسمع كلامها، فقالت: يا رسول الله، إنهم لَيَتَحَدَّثُون، وإنَّهُنَّ لَيَتَحَدَّثْنَه، فقال: «هل تدرون ما مَثَل ذلك؟»، فقال: «إنما مَثَل ذلك مثل شيطانة لقيت شيطانًا في السِّكَّة فقضى منها حاجته والناسُ ينظرون إليه، ألا إنَّ طِيبَ الرِّجال ما ظهر ريحُهُ ولم يَظْهَر لَوْنه، ألا إن طيبَ النساء ما ظهر لونه ولم يظهر ريحه». قال أبو داود: ومن ههنا حفظته عن مؤمَّل وموسى: «ألَا لا يُفْضِيَنَّ رجلٌ إلى رجل، ولا امرأة إلى امرأة، إلا إلى ولد أو والد، وذكر ثالثةً، فنسيتها». وأخرجه الترمذي والنسائي (1) مختصرًا بقصة الطيب. وقال الترمذي: هذا حديث حسن، إلا أن الطُّفاوي لا نعرفه إلا من هذا الحديث، ولا يعرف اسمه. وقال أبو الفضل محمد بن طاهر: والطفاوي مجهول. هذا آخر كلامه. وذكر أبو موسى الأصبهاني أنه مرسل، وفيما قاله نظر، وإنما هي رواية مجهول. وقد سمى الحاكم أبو عبد الله وغيره رواية المجهول منقطعةً، فيحتمل أن يكون أبو موسى سلك طريقهم، وخالفهم غيرهم في ذلك. وقد أخرج مسلم في «صحيحه» من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من أشرّ الناس عند الله منزلةً يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها»، وسيجيء في كتاب الأدب إن شاء الله. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقوله في الحديث: «وليصفق النساء» دليل على أن قوله في حديث سهل بن سعد المتفق عليه «التصفيق للنساء» (2) أنه إذنٌ _________ (1) أخرجه أبو داود (2174)، والترمذي (2994)، والنسائي في «الكبرى» (9348)، وأحمد (10977). (2) أخرجه البخاري (1204)، ومسلم (421).

(1/480)


وإباحة لهنَّ في التصفيق في الصلاة عند نائبة تنوب, لا أنه عيب وذم. قال الشافعي: حكم النساء التصفيق, وكذا قاله أحمد. وذهب مالكٌ إلى أن المرأةَ لا تصفّق وأنها تسبِّح (1). واحتجّ له الباجيُّ (2) وغيره بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن نابه شيء في صلاته فليسبِّح» (3) قالوا: وهذا عام في الرجال والنساء. قالوا: وقوله «التصفيق للنساء» هو على طريق الذمّ والعيب لهنّ, كما يقال: كفرانُ العشيرِ مِنْ فِعْل النساء. وهذا باطل من ثلاثة أوجه: أحدها: أن في نفس الحديث تقسيم التسبيح بين الرجال والنساء، وإنما ساقه في معرض التقسيم وبيان اختصاص كلّ نوع بما يصلح له, فالمرأة لما كان صوتها عورةً مُنِعَت من التسبيح, وجُعِل لها التصفيق, [ق 91] والرجل لمّا خالفها في ذلك شُرِع له التسبيح. الثاني: أن في «الصحيحين» (4) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «التسبيح للرجال والتصفيق للنساء». فهذا التقسيم والتنويع صريح في أن حكم كلِّ نوعٍ ما خَصَّه به. وخرَّجه مسلم بهذا اللفظ, وقال في آخره: «في الصلاة». _________ (1) ينظر «المغني»: (2/ 409 - 410)، و «التهذيب في اختصار المدونة»: (1/ 269)، و «نهاية المطلب»: (2/ 189 - 190). (2) لم يذكره في «المنتقى». (3) أخرجه البخاري (1218)، ومسلم (421/ 102). (4) أخرجه البخاري (1203)، ومسلم (422).

(1/481)


الثالث: أنه أمر به في قوله: «وليصفّق النساء»، ولو كان قوله: «التصفيق للنساء» على جهة الذمِّ والعَيْب لم يأذن فيه. والله أعلم. * * *

(1/482)


 كتاب الطلاق

  1 - باب كراهية الطلاق

168/ 2091 - عن محارب ــ وهو ابن دِثار ــ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أحلّ الله شيئًا أَبغضَ إليه من الطلاق» (1). هذا مرسل. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى الدارقطنيُّ (2) من حديث معاذ بن جبل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما أحلَّ الله شيئًا أبغضَ إليه من الطلاق» , وفيه حُمَيد بن مالك, وهو ضعيف. وفي «مسند البزار» (3) من حديث أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تُطَلّق النساء إلا مِن رِيبة, إن الله لا يحبُّ الذوَّاقِين ولا الذوَّاقات».

  2 - باب في طلاق السنة

169/ 2098 - وعن أبي الزبير: «أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى _________ (1) أخرجه أبو داود (2177)، وابن ماجه (2018)، والحاكم: (2/ 196) وصحح إسناده، وقال الذهبي: على شرط مسلم. والبيهقي: (7/ 322). وقد روي مرسلًا وموصولًا، ورجح الأئمة المرسل، ينظر: «العلل» (1297) لابن أبي حاتم، و «البدر المنير»: (8/ 66 - 68)، و «المقاصد الحسنة» (ص 12 - 13). (2) (3986). قال الحافظ في «التلخيص»: (3/ 332): «إسناده ضعيف ومنقطع». (3) (8/ 7)، والطبراني في «الأوسط» (7848) قال عبد الحق: ليس لهذا الحديث إسناد قويّ، قال ابن القطان: صدق فيه، وهو حديث مصرح في إسناده بالانقطاع. ينظر «بيان الوهم والإيهام»: (2/ 547 و 3/ 507 - 509).

(1/483)


عروة يسأل ابنَ عمر، وأبو الزبير يسمع، قال: كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضًا؟ قال: طلّقَ عبد الله بن عمر امرأته وهي حائض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأل عمرُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض؟ قال عبد الله: فَرَدَّهَا عليَّ ولم يرها شيئًا، وقال: «إذا طَهُرَتْ فليطلق أو ليُمْسك»، قال ابن عمر: وقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم -: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} [الطلاق: 1] في قُبُلِ عِدَّتهن». وأخرجه النسائي (1). وقال أبو داود: الأحاديث كلها على خلاف ما قال أبو الزبير. وقال الإمام الشافعي (2): ونافع أثبتُ عن ابن عمر من أبي الزبير. والأثبتُ من الحديثين أولى أن يقال به إذا خالفه. وقال أبو سليمان الخطابي (3): حديث يونس بن جبير أثبت من هذا. وقال أهل الحديث: لم يرو أبو الزبير حديثًا أنكر من هذا. وقال أبو عمر النَّمَري (4): ولم يقله عنه أحد غير أبي الزبير. وقد رواه عنه جماعة جِلّة، فلم يقل ذلك واحدٌ منهم. وأبو الزبير ليس بحجة فيما خالفه فيه مثله، فكيف بخلاف من هو أثبت منه؟ وقد يحتمل أن يكون معناه أنه لم يره شيئًا باتًّا يحرُم معه المراجعة، ولا تحل له إلا بعد زوج، أو لم يره شيئًا جائزًا في السنة _________ (1) أخرجه أبو داود (2185)، والنسائي في «الكبرى» (5555)، ومسلم (1471/ 14) ــ دون قوله: «ولم يرها شيئًا» كما سينبه المؤلف ــ وأحمد (5524). (2) ذكره البيهقي في «الكبرى»: (7/ 327). (3) في «معالم السنن»: (2/ 636). (4) في «التمهيد»: (15/ 66).

(1/484)


قاضيًا في حكم الاختيار، وإن كان لازمًا له على سبيل الكراهة، والله أعلم. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد أخرج مسلم في «صحيحه» (1) حديث أبي الزبير هذا بحروفه إلا أنه لم يقل: «ولم يرها شيئًا» بل قال: «فردَّها» , وقال: «إذا طَهُرَت» إلى آخره. وقد دلَّ حديثُ ابن عمر هذا على أمورٍ، منها: تحريم الطلاق في الحيض. ومنها: أنه حُجَّة لمن قال بوقوعه, قالوا: لأن الرجعة إنما تكون بعد الطلاق. ونازعهم في ذلك آخرون وقالوا: لا معنى لوقوع الطلاق والأمر بالمراجعة, فإنه لو لم يعدّ الطلاق لم يكن لأمره بالرجعة معنى, بل أمْرُه بارتجاعها, وهو ردّها إلى حالها الأولى قبل تطليقها, دليلٌ على أن الطلاق لم يقع. قالوا: وقد صرَّح بهذا في حديث أبي الزبير المذكور آنفًا. قالوا: وأبو الزبير ثقة في نفسه صدوق حافظ, إنما تُكُلِّم في بعض ما رواه عن جابر معنعنًا لم يصرح بسماعه منه, وقد صرَّح في هذا الحديث بسماعه من ابن عمر, فلا وجه لرده. قالوا: ولا يناقض حديثُه ما تقدَّم من قول ابن عمر فيه وقولَه: «أرأيتَ إن عَجَز واستحمق»، وقوله: «فحُسِبَت مِن طلاقها» , لأنه ليس في ذلك لفظ مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: «ولم يرها شيئًا» مرفوع صريح في عدم الوقوع. _________ (1) (1471).

(1/485)


قالوا: وهذا مقتضى قواعد الشريعة؛ فإن الطلاق لمّا كان منقسمًا إلى حلال وحرام, كان قياس قواعد الشرع أن حرامه باطل غير معتدٍّ به, كالنكاح وسائر العقود التي تنقسم إلى حلال وحرام, ولا يَرِد على ذلك الظِّهار, فإنه لا يكون قطّ إلا حرامًا, لأنه منكرٌ من القول وزور, فلو قيل: لا يصح, لم يكن للظهار حكم أصلًا. قالوا: وكما أن قواعد الشريعة أن النهي يقتضي التحريم, فكذلك يقتضي الفساد, وليس معنا ما يستدلُّ به على فساد العقد إلا النهي عنه. قالوا: ولأنّ هذا طلاقٌ مَنَع منه صاحبُ الشرع, وحَجَر على العبد في إيقاعه, فكما أفاد منعه وحجره عدم جواز الإيقاع أفاد عدمَ نفوذِه, وإلّا لم يكن للحَجْر فائدة, وإنما فائدة الحَجْر عدم صحة ما حُجِر على المكلَّف فيه. قالوا: ولأن الزوج لو أذن لرجلٍ بطريق الوكالة أن يطلِّق امرأتَه طلاقًا معيَّنًا، فطلَّق غير ما أُذِنَ له فيه, لم ينفذ لعدم إذنه. والله سبحانه إنما أذن للعبد في الطلاق المباح, ولم يأذن له في المحرَّم, فكيف تصححون ما لم يأذن به وتوقعونه, وتجعلونه من صحيح أحكام الشرع؟! قالوا: ولأنه لو كان الطلاق نافذًا في الحيض لكان الأمر بالمراجعة والتطليق بعده تكثيرًا من الطلاق البغيض إلى الله, وتقليلًا لما بقي من عدده الذي يتمكَّن من المراجعة معه. ومعلومٌ أنه لا مصلحة في ذلك. قالوا: وإن مفسدة الطلاق الواقع في الحيض, لو كان واقعًا, لا يرتفع بالرجعة والطلاق بعدها, بل إنما يرتفع بالرجعة المستمرَّة التي تلمُّ شَعَث النكاح, وترقع خرقه. فأما رجعة يَعْقُبها طلاق, فلا تزيل مفسدة الطلاق الأول, لو كان واقعًا.

(1/486)


قالوا: وأيضًا فما حرَّمه الله سبحانه من العقود, فهو مطلوبُ الإعدامِ بكلِّ طريق حتى يُجْعَل وجودُه كعدمه في حكم الشرع, ولهذا كان ممنوعًا مِن فِعْله, باطلًا في حكم الشرع، والباطل شرعًا كالمعدوم. ومعلومٌ أن هذا هو مقصود الشارع مما حرَّمه ونَهَى عنه, فالحكم ببطلان ما حرَّمه ومَنَع منه أدنى إلى تحصيل هذا المطلوب وأقرب, بخلاف ما إذا صحح, فإنه يثبت له حكم الموجود. قالوا: ولأنه إذا صحّح استوى هو والحلال في الحكم الشرعي, وهو الصحة. وإنما يفترقان في موجَب ذلك من الإثم والذمّ، ومعلومٌ أن الحلال المأذون فيه لا يساوي المحرَّم الممنوع منه البتة. قالوا: وأيضًا فإنما حُرِّم لئلا ينفذ ولا يصح, فإذا نفذ وصح وترتَّب عليه حكم الصحيح, كان ذلك عائدًا على مقتضى النهي بالإبطال. قالوا: وأيضًا فالشارع إنما حَرَّمه ونهى عنه لأجل المفسدة التي تنشأ من وقوعه, فإن ما نَهَى عنه الشرعُ وحرَّمه لا يكون قطّ إلا مشتملًا عن مفسدة خالصة أو راجحة, فنهى عنه قصدًا لإعدام تلك المفسدة. فلو حُكِم بصحته ونفوذه لكان ذلك تحصيلًا للمفسدة التي قَصَد الشارعُ إعدامَها, وإثباتًا لها. قالوا: وأيضًا فالعقد الصحيح هو الذي يترتَّب عليه أثره ويحصل منه مقصوده. وهذا إنما يكون في العقود التي أَذِنَ فيها الشارع, وجعلَها أسبابًا لترتُّب آثارها عليها, فما لم يأذن فيه ولم يشرعه كيف يكون سببًا لترتُّب آثاره عليه, ويُجْعَل كالمشروع المأذون في ذلك؟! قالوا: وأيضًا فالشارع إنما جَعَل للمكلف مباشرةَ الأسباب فقط, وأما

(1/487)


أحكامها المُرَتّبة (1) عليها فليس إلى المكلَّف, وإنما هو إلى الشارع, فهو نصبَ الأسبابَ وجعلَها مقتضياتٍ لأحكامها, وجعل السببَ مقدورًا للعبد, فإذا باشره رتَّب عليه الشارعُ أحكامَه. فإذا كان السببُ محرّمًا كان ممنوعًا منه ولم يَنْصبه الشارعُ مقتضيًا لآثار السبب المأذون فيه, والحكمُ ليس إلى المكلَّف حتى يكون إيقاعه إليه والسبب الذي إليه غير مأذون فيه, ولا نَصَبه الشارعُ لترتُّب الآثارِ عليه, فَتَرتُّبها عليه إنما هو بالقياس على السبب المباح المأذون فيه، وهو قياسٌ في غاية الفساد, إذ هو قياس أحد النقيضين على الآخر في التسوية بينهما في الحكم, ولا يخفى فساده. قالوا: وأيضًا فصِحَّة العقد هو عبارة عن ترتُّب أثره المقصود للمكلَّف عليه, وهذا الترتيب نعمة من الشارع أنعم بها على العبد, وجعل له طريقًا إلى حصولها بمباشرة الأسباب التي أذن له فيها, فإذا كان السببُ محرّمًا منهيًّا عنه كان مباشرته معصيةً, فكيف تكون المعصية سببًا لترتُّب النعمة التي قَصَد المكلَّفُ حصولَها؟! قالوا: وقد علَّل مَن أوقع الطلاقَ وأوجبَ الرجعةَ, إيجاب الرجعة بهذه العلة بعينها، وقالوا: أوجَبْنا عليه الرجعةَ معاملةً له بنقيضِ قصدِه, فإنه ارتكبَ أمرًا محرَّمًا يقصد به الخلاص من الزوجة, فعُومِل بنقيض قصده, فأُمِر برجعتها. قالوا: فما جعلتموه أنتم علةً لإيجاب الرجعة, فهو بعينه علة لعدم وقوع الطلاق الذي قَصَده المكلّف بارتكابه ما حَرّم الله عليه. ولا ريب أن دَفْع وقوع الطلاق أسهل من رفعه بالرجعة, فإذا اقتضت هذه العلة رفع أثر _________ (1) في الطبعتين: «المترتبة» خلاف الأصل و (هـ، ش).

(1/488)


الطلاق بالرجعة, فلَأَنْ تقتضي دفعَ وقوعِه أولى وأحْرَى. قالوا: وأيضًا فللّه تعالى في الطلاق المباح حكمان: أحدهما: إباحته والإذن فيه. والثاني: جعله سببًا للتخلُّص من الزوجة. فإذا لم يكن الطلاقُ مأذونًا فيه انتفى الحكم الأول, وهو الإباحة, فما الموجب لبقاء الحكم الثاني, وقد ارتفع سبَبُه؟! ومعلومٌ أن بقاء الحكم بدون سببه ممتنع، ولا تصح دعوى أن الطلاقَ المحرّم سببٌ لما تقدم. قالوا: وأيضًا فليس في لفظ الشارع «يصح كذا، ولا يصح» وإنما يستفاد ذلك من إطلاقه ومنعه, فما أطلقَه وأباحَه، فباشَرَه المكلَّفُ حُكِم بصحّته, بمعنى أنه وافق أمر الشارع فصحّ, وما لم يأذن فيه ولم يطلقه، فباشَرَه المكلَّف حُكِم بعدم صِحَّته, بمعنى أنه خالف أمر الشارع وحكمه. وليس معنا ما يُسَتدلُّ به على الصحة والفساد إلا موافقة الأمر والإذن وعدم موافقتهما. فإن حكمتم بالصحة مع مخالفة أمر الشارع وإباحته, لم يبقَ طريقٌ إلى معرفة الصحيح من الفاسد, إذ لم يأت مِن الشرعِ إخبارٌ بأنَّ هذا صحيح وهذا فاسد غير الإباحة والتحريم, فإذا جَوَّزتم ثبوتَ الصحة مع التحريم, فبأيِّ شيء تستدلون بعد ذلك على فساد العقد وبطلانه؟! قالوا: وأيضًا فإن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «كلُّ عَمَلٍ ليس عليه أَمْرُنا فهو ردّ» (1) , _________ (1) لم أجده بهذا اللفظ، وقد ذكره ابن القيم في عدد من كتبه هكذا، وذكره غيره من المصنفين قبله وبعده كذلك، وكأنهم ذكروه بمعناه.

(1/489)


وفي لفظٍ: «مَن عَمِل عملًا ليس عليه أمرُنا فهو رَدّ» (1). والرّدُّ فَعْل بمعنى المفعول, أي: فهو مردود, وعَبَّر عن المفعول بالمصدر مبالغةً, حتى كأنه نفس الردّ. وهذا تصريح بإبطالِ كلِّ عملٍ على خلاف أمره, وردّه وعدم اعتباره في حكمه المقبول. ومعلومٌ أن المردود هو الباطل بعينه, بل كونه ردًّا أبلغ من كونه باطلًا, إذ الباطل قد يقال لما لا نفع فيه, أو لما منفعتُه قليلة جدًّا، وقد يُقال لما يُنتفَع به ثم يبطل نفعُه, وأما المردود فهو الذي لم يُجْدِ (2) شيئًا ولم يترتَّب عليه مقصودُه أصلًا. قالوا: فالمطلِّق في الحيض قد طلّق طلاقًا ليس عليه أمر الشارع, فيكون مردودًا, فلو صحّ ولزم لكان مقبولًا منه, وهو خلاف النص. قالوا: وأيضًا فالشارع أباح للمكلَّف مِن الطلاق قدرًا معلومًا في زمن مخصوص، ولم يُمَلِّكه أن يتعدَّى القدرَ الذي حُدَّ له, ولا الزمنَ الذي عُيِّن له, فإذا تعدَّى ما حُدَّ له من العدد كان لغوًا باطلًا, فكذلك إذا تعدَّى ما حُدَّ له من الزمان يكون لغوًا باطلًا, وإلّا (3) فكيف يكونُ عدوانه في الوقت صحيحًا معتبرًا لازمًا, وعدوانه في العدد لغوًا باطلًا؟ _________ (1) أخرجه مسلم (1718/ 18) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. وأخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718/ 17) من حديثها أيضًا بلفظ: «مَن أحْدَث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». (2) ط. الفقي: «يجعله». (3) سقطت «وإلا» من الطبعتين، وهي في (هـ، ش)، وملحقه في الأصل فوق «فكيف» مصححًا عليها».

(1/490)


قالوا: وهذا كما أن الشارع حَدَّ له عددًا من النساء معيَّنًا في وقت معيَّن, فلو تعدَّى ما حُدّ له من العدد كان لغوًا وباطلًا. وكذلك لو تعدَّى ما حُدّ له من الوقت, بأن ينكحها قبل انقضاء العدة مثلًا, أو في وقت الإحرام, فإنه يكون لغوًا و (1) باطلًا. فقد شمل البطلانُ نوعَي التعدِّي عددًا و (2) وقتًا. قالوا: وأيضًا فالصحةُ إما أن تُفَسَّر بموافقة أمر الشارع, وإما أن تفسَّر بترتُّب أثر [ق 93] الفعل عليه, فإن فُسِّرت بالأول لم يكن تصحيح هذا الطلاق ممكنًا, وإن فُسِّرت بالثاني وجبَ أيضًا أن لا يكون العقد المحرَّم صحيحًا, لأن ترتُّب الثمرة على العقد إنما هو بجعل الشارع العقد كذلك, ومعلومٌ أنه لم يعتبر العقْدَ المحرَّمَ, ولم يجعله مثمرًا لمقصوده, كما مرَّ تقديره. قالوا: وأيضًا فوَصْف العقد المحرَّم بالصحة, مع كونه مَنْشأ المفسدة، ومشتملًا على الوصف المقتضي لتحريمه وفساده, جَمْعٌ بين النقيضين، فإن الصحة إنما تنشأ عن المصلحة, والعقد المحرَّم لا مصلحة فيه، بل هو مُنشئ لمفسدةٍ خالصة أو راجحة. فكيف تنشأ الصحةُ مِن شيء هو مَنْشأ المفسدة. قالوا: وأيضًا فوصف العقد المحرَّم بالصحة إما أن يُعْلَم من نَصّ الشارع, أو مِن قياسه, أو مِن توارد عُرْفِه في محالّ حكمه بالصحة, أو من إجماع الأمة. ولا يمكن إثبات شيء من ذلك في محلّ النزاع, بل نصوص الشّرْع _________ (1) سقطت الواو من ط. المعارف. (2) في الطبعتين: «أو» خلاف الأصل و (هـ، ش).

(1/491)


تقتضي ردَّه وبطلانه, كما تقدم. وكذلك قياس الشريعة كما ذكرناه, وكذلك استقراء موارد عُرف الشرع في محالّ الحكم بالصحة, إنما يقتضي البطلان في العقد المحرَّم لا الصحة. وكذلك الإجماع, فإن الأمةَ لم تُجْمِع قطّ ــ ولله الحمد ــ على صحة شيء حَرَّمه الله ورسوله, لا في هذه المسألة ولا في غيرها, فالحكم بالصحة فيها إلى أيّ دليلٍ يستند؟ قالوا: وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مُرْه فليراجعها» فهذا حُجَّة لنا على عدم الوقوع, لأنه لَمّا طلَّقها ــ والرجلُ مِن عادته إذا طلقَ امرأتَه أن يخرجها عنه ــ أمَرَه بأن يراجعها ويمسكها, فإنَّ هذا الطلاقَ الذي أوْقَعَه ليس بمعتبر شرعًا, ولا تخرج المرأة عن الزوج بسببه, فهو كقوله - صلى الله عليه وسلم - لبشير بن سعد في قصة نَحْلِه ابنَه النعمانَ غلامًا: «رُدَّه» (1). ولا يدلّ أمْرُه إياه برَدِّه على أن الولد قد مَلَك الغلام, وأن الردَّ إنما يكون بعد الملك, فكذلك أَمْره بردِّ المرأة ورجعتها لا يدلّ على أنه لا يكون إلا بعد نفوذ الطلاق, بل لمّا ظنَّ ابنُ عمر جوازَ هذا الطلاق فأقْدَم عليه قاصدًا لوقوعه, ردَّ إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأتَه, وأمره أن يردَّها. وردُّ الشيء إلى مِلْك مَن أخرجه لا يستلزم خروجَه عن ملكه شرعًا, كما تُرَدُّ العينُ المغصوبة إلى مالكها, ويقال للغاصب: ردَّها إليه، ولا يدلُّ ذلك على زوال مُلك صاحبها عنها. وكذلك إذا قيل: رُدَّ على فلان ضالَّته. ولمّا باع عليٌّ أحدَ الغلامين الأخوين قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «رُدّه, رُدّه» (2). وهذا أمرٌ _________ (1) أخرجه البخاري (2586)، ومسلم (1623/ 12) واللفظ له. (2) أخرجه الترمذي (1284)، وابن ماجه (2249) من طريق الحجاج بن أرطأة عن الحكم عن ميمون بن أبي شبيب عن علي به. والحجاج ضعيف، وميمون صالح الحديث لكنه كثير الإرسال، قال أبو داود: لم يدرك عليًّا. قاله ابن عبد الهادي في «التنقيح»: (4/ 98). ورواه أبو داود (2689)، والدارقطني (3040) من طريق يزيد بن عبد الرحمن الدالاني عن الحكم به: أنه فرق بين جارية وولدها، فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فردّ البيع. قال الذهبي وابن عبد الهادي: ويزيد صدوق، وهو أقوى من الحجاج. وفي أسانيده اختلاف وله طرق أخرى عن علي - رضي الله عنه -، ينظر: «نصب الراية»: (4/ 26)، و «البدر المنير»: (6/ 522)، و «علل الدارقطني» (401).

(1/492)


بالردِّ حقيقةً. قالوا: فقد وفينا اللفظ حقيقتَه التي وُضِع لها. قالوا: وأيضًا فقد صرَّح ابنُ عمر «بأنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ردَّها عليه ولم يَرَها شيئًا» وتعلّقكم على أبي الزبير مما لا مُتَعَلَّق فيه, فإن أبا الزبير إنما يُخَاف مِن تدليسه, وقد صرَّح بالسماع كما تقدم, فدلَّ على أن الأمرَ بمراجعتها لا يستلزمُ نفوذ الطلاق. قالوا: والذي يدل عليه أنَّ ابنَ عمر قال في الرجل يطلِّق امرأتَه وهي حائض: «لا يعتدُّ بذلك» ذكره الإشبيلي في «الأحكام» (1) مِن طريق محمد بن عبد السلام الخُشَني قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، حدثنا عُبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال في الرجل يطلِّق امرأتَه (2) وهي حائض, قال ابن عمر: لا يُعْتَدّ بذلك». _________ (1) «الوسطى»: (3/ 191). (2) في «الأحكام» زيادة: «ثلاثًا».

(1/493)


وذَكَره ابن حزم في كتاب «المحلى» (1) بإسناده من طريق الخُشَني. وهذا إسناد صحيح. قالوا: وقد روى الدارقطني في «سننه» (2) بإسنادٍ شيعي عن أبي الزبير قال: «سألتُ ابنَ عمر عن رجل طلَّق امرأتَه ثلاثًا وهي حائض؟ فقال لي: أتعرف عبدَ الله بن عمر؟ قلت: نعم, قال: طلّقتُ امرأتي ثلاثًا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -[وهي حائض] فردَّها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السنة». قال الدارقطني: كلهم شيعة, ولم يَزِدْ على هذا (3). ولكن هذا الحديث باطل قطعًا, ولا يُحتجّ به, وإنما ذكرناه للتعريف بحاله، ولو كان إسناده ثقاتًا لكان غلطًا, فإن المعروف من رواية الأثبات عن ابن عمر: أنه إنما طلق تطليقةً واحدةً, كما رواه مسلم في «الصحيح» (4) من حديث يونس بن جبير. ولكن لو حاكمنا منازعينا إلى ما يقرّون به من أن رواية أهل البدع مقبولة, فكم في «الصحيح» من رواية الشيعة الغلاة, والقدرية, والخوارج, والمرجئة, وغيرهم= لم يتمكَّنوا من الطعن في هذا الحديث بأن رواتَه شيعة, إذ مجرَّد كونهم شيعة لا يوجبُ ردَّ حديثهم (5). _________ (1) (9/ 375، 381). (2) (3902) وما بين المعقوفين منه. (3) في «السنن» عقبه: «والمحفوظ أن ابن عمر طلّق امرأته واحدةً في الحيض». (4) (1471). (5) قال الحافظ الذهبي في «الميزان»: (1/ 5 - 6): «البدعة على ضربين: فبدعة صغرى كغلو التشيع، أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرّف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق. فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بينة. ثم بدعة كبرى، كالرفض الكامل والغلو فيه، والحط على أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -، والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتجّ بهم ولا كرامة. وأيضًا فما أستحضر الآن في هذا الضرب رجلًا صادقًا ولا مأمونًا، بل الكذب شعارهم، والتقية والنفاق دثارهم، فكيف يقبل نقل من هذا حاله؟! حاشا وكلا. فالشيعي الغالي في زمان السلف وعُرْفِهم هو مَن تكلم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممن حارب عليًّا - رضي الله عنه -، وتعرّض لسبّهم. والغالي في زماننا وعُرْفِنا هو الذي يكفّر هؤلاء السادة، ويتبرأ من الشيخين أيضًا، فهذا ضالّ معثَّرٌ».

(1/494)


وبعدُ، ففي معارضته بحديث يونس بن جبير «أنه طلقها تطليقة» كلامٌ ليس هذا موضعه, فإنّ مَن جعل الثلاثَ واحدةً قال: هي ثلاث في اللفظ, وهي واحدة في الحُكْم, على ما في حديث أبي الصهباء عن ابن عباس (1). والله أعلم. قالوا: وأما قولكم: إن نافعًا أثْبَت في ابن عمر وأولى به من أبي الزبير وأخصّ, فروايته أولى أن نأخذ بها, فهذا إنما يُحْتاج إليه عند التعارض, فكيف ولا تعارض بينهما؟ فإن رواية أبي الزبير صريحة في أنها لم تُحْسَب عليه, وأما نافع فرواياته ليس فيها شيء صريح قطّ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَسَبها عليه, بل مرَّة قال: «فمَهْ» أي فما يكون؟ وهذا ليس بإخبارٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه حسبها. ومرة قال: «أرأيتَ إن عَجَز واسْتَحْمق؟» (2) وهذا رأيٌ محض, ومعناه: أنه _________ (1) أخرجه مسلم (1472/ 16). (2) أخرجه البخاري (5258)، ومسلم (1471/ 7).

(1/495)


رَكِب خُطّةَ عجز واستحمق, [ق 94] أي: ركب أحموقةً وجهالةً, فطلَّق في زمنٍ لم يُؤذَن له في الطلاق فيه. ومعلومٌ أنه لو كان عند ابن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - حَسَبها عليه لم يحتج أن يقول للسائل: «أرأيتَ إن عَجَز واستحمق؟» , فإن هذا ليس بدليل على وقوع الطلاق, فإنّ من عَجَز واستحمق يُرَدّ إلى العلم والسنة التي سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكيف يُظَنّ بابن عمر أنه يكتم نصًّا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الاعتداد بتلك الطلقة, ثم يحتجّ بقوله: «أرأيتَ إن عَجَز واستحمق»؟! وقد سأله مرةً رجلٌ عن شيء فأجابه بالنصّ, فقال السائل: أرأيتَ إن كان كذا وكذا؟ قال: «اجعل أرأيتَ باليمن» (1) , ومرة قال: «تُحْسَب من طلاقها» , وهذا قول نافع ليس قول ابن عمر, كذلك جاء مصرَّحًا به في هذا الحديث في «الصحيحين» (2) قال عبد الله لنافع: «ما فعَلَتِ التطليقةُ؟ قال: واحدة أعتدّ بها». وفي بعض ألفاظه: «فحُسِبَت بتطليقة» , وفي لفظ للبخاري (3) عن سعيد بن جُبير، عن ابن عمر: «فحُسِبت عليَّ بتطليقة». ولكن هذه اللفظة انفرد بها سعيد بن جُبير عنه, وخالفه نافعٌ وأنسُ بن سيرين ويونس بن جُبير وسائر الرواة عن ابن عمر (4) , فلم يذكروا: _________ (1) أخرجه البخاري (1611)، والترمذي (861)، والنسائي (2946)، وأحمد (6396) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. (2) أخرجه مسلم (1471/ 2)، ولم أره في البخاري. (3) (5253). (4) ينظر «صحيح البخاري» (5251، 5252)، ومسلم (1471/ 1 - 13) لرواياتهم على التوالي.

(1/496)


«فحُسِبَت عليَّ». وانفراد (1) ابن جُبير بها, كانفراد أبي الزبير بقوله: «ولم يرها شيئًا» , فإنْ تساقطتِ الروايتان لم يكن في سائر الألفاظ دليل على الوقوع, وإن رُجِّح إحداهما على الأخرى فرواية أبي الزبير صريحة في الرفع, ورواية سعيد بن جُبير غير صريحة في الرفع, فإنه لم يذكر فاعل الحساب, فلعلّ أباه - رضي الله عنه - حَسَبها عليه بعد موتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الوقت الذي ألزمَ الناسَ فيه بالطلاق الثلاث, وحَسَبه عليهم, اجتهادًا منه ومصلحةً رآها للأمة, لئلا يتتايعوا (2) في الطلاق المحرَّم, فإذا علموا أنه يلزمهم وينفذ عليهم أمسكوا عنه. وقد كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يحتسب عليهم به ثلاثًا في لفظ واحد، فلما رأى عمرُ الناسَ قد أكثروا منه رأى إلزامهم به, والاحتساب عليهم به (3). قالوا: وبهذا تتآلفُ الأحاديثُ الواردةُ في هذا الباب ويتبينُ وجهُها, ويزولُ عنها التناقضُ والاضطرابُ, ويُسْتغَنى عن تكلُّف التأويلات المستكرهة لها, ويتبين موافقتُها لقواعد الشرع وأصوله. قالوا: وهذا الظنُّ بعمر - رضي الله عنه - أنه إذا احتسب على الناس بالطلاق الثلاث احتسب على ابنه بتطليقته التي طلقها في الحيض, وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرها شيئًا مثل كون الطلاق الثلاث على عهده كان واحدة. وإلزام عمر _________ (1) في الأصل و (ش): «وانفرد» ومطموسة في (هـ) والصواب ما أثبت. (2) في الطبعتين ــ هنا وفي موضعين آخرين ــ: «يتتابعوا» بالموحدة، وهي غير معجمة في الأصل، والأقرب ما أثبت بدليل ورودها هكذا في رواية ابن عباس لحديث عمر في إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد، وهو عند مسلم وأبي داود كما سيأتي. (3) أخرجه مسلم (1472/ 17)، وأبو داود (2199).

(1/497)


الناسَ بذلك, كإلزامه لهم بهذا, وأدَّاه اجتهادُه - رضي الله عنه - إلى أن ذلك كان تخفيفًا ورفقًا بالأمة, لقلّة إيقاعهم الطلاقَ وعدم تتايُعهم فيه, فلما أكثروا منه وتتايعوا فيه ألزمهم بما التزموه. وهذا كما أدّاه اجتهاده في الجَلْد في الخمر ثمانين (1) , وحَلْق الرأس فيه والنّفْي (2) , والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إنما جَلَد فيه أربعين, ولم يحلق فيه رأسًا, ولم يغرِّب, فلما رأى الناسَ قد أكثروا منه، واستهانوا بالأربعين ضاعفها عليهم, وحَلَق ونَفَى. ولهذا نظائر كثيرة ستذكر في موضع آخر إن شاء الله. قالوا: وتوهُّم مَن توهّم أنا خالفنا الإجماعَ في هذه المسألة غَلَط, فإن الخلاف فيها أشهر من أن يُجْحَد, وأظهر من أن يُسْتَر. وإذا كانت المسألة من موارد النزاع فالواجب فيها امتثال ما أمر الله به ورسوله, مِن ردّ ما تنازع فيه العلماء إلى الله ورسوله, وتحكيم الله ورسوله دون تحكيم أحدٍ مِن الخَلْق, قال تعالى {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]. فهذه بعض كلمات المانعين من الوقوع، ولو استوفينا الكلامَ في المسألة لاحتملَتْ سِفرًا كبيرًا, فلنقتصر على فوائد الحديث. قال المُوقِعُون: وفيه دليل على أن الرجعةَ يستقلُّ بها الزوج دون الوليِّ _________ (1) أخرجه البخاري (6779) من حديث السائب بن يزيد، وأخرجه مسلم (1706/ 35) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (2) حلق الرأس أخرجه عبد الرزاق: (9/ 232 - 233). والنفي أخرجه عبد الرزاق أيضًا (9/ 230 - 231)، والنسائي (5676)، والبيهقي: (8/ 321).

(1/498)


ورضا المرأة, لأنه جَعَل ذلك إليه دون غيره, ودلالة القرآن على هذا أظهر من هذه الدلالة، قال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة:228] فجعل الأزواجَ أحقَّ بالرجعة من المرأة والولي. واختلفوا في قوله: «مُرْه فليراجعها» هل الأمر بالرجعة على الوجوب أو الاستحباب (1)؟ فقال الشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي وابن أبي ليلى وسفيان الثوري وأحمدُ في إحدى الروايتين بل أشهرهما عنه: الأمر بالرجعة استحباب. قال بعضهم: لأن ابتداء النكاح إذا لم يكن واجبًا فاستدامته كذلك. وقال مالك في الأشهر عنه, وداود وأحمد في الرواية الأخرى: الرجعة واجبة للأمر بها, ولأن الطلاقَ لمَّا كان محرّمًا في هذا الزمن كان بقاء النكاح واستدامته فيه واجبًا, وبهذا يبطل قولهم: إذا لم يجب ابتداء النكاح لم تجب استدامته, فإن الاستدامةَ هاهنا واجبة لأجل الوقت, فإنه لا يجوز فيه الطلاق. قالوا: ولأن الرجعةَ إمساكٌ, بدليل قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] فالإمساك مراجعتها في العدة, والتسريح تركها حتى تنقضي عِدّتُها. وإذا كانت الرجعة [ق 95] إمساكًا, فلا ريب في وجوب إمساكها في زمن _________ (1) ينظر للأقوال في المسألة: «التمهيد»: (15/ 67)، و «بدائع الصنائع»: (3/ 91)، و «الهداية»: (2/ 534 - 535)، و «المغني»: (10/ 328)، و «روضة الطالبين»: (8/ 4)، و «فتح الباري»: (9/ 348).

(1/499)


الحيض, وتحريم طلاقها, فتكون واجبةً. ثم اختلف الموجبون للرجعة في علّة ذلك؛ فقالت طائفة: إنما أمَرَه برجعتها ليقعَ الطلاقُ الذي أراده في زمن الإباحة, وهو الطُّهْر الذي لم يمسّها فيه, فلو لم يرتجعها لكان الطلاق الذي ترتّبَتْ عليه الأحكامُ هو الطلاق المحرَّم, والشارعُ لا يرتِّب الأحكامَ على طلاق محرَّمٍ, فأمَر برجعتها, ليطلقها طلاقًا مباحًا يترتَّب عليه أحكام الطلاق. وقالت طائفة: بل أمره برجعتها عقوبةً له على طلاقها في زمن الحيض, فعاقبه بنقيض قصدِه, وأمره بارتجاعها عكس مقصوده. وقالت طائفة: بل العلة في ذلك أن تحريم الطلاق في زمن الحيض معلَّل بتطويل العِدّة، فأَمَر (1) برجعتها ليزول المعنى الذي حُرِّم الطلاقُ في الحيض لأجله. وقال بعضُ الموجِبين: إن أبى رَجْعَتها أُجبِر عليها، فإن امتنع ضُرِب وحُبِس, فإن أصرّ حُكِم عليه برجعتها، وأُشْهِد أنه قد ردَّها عليه, فتكون امرأته, يتوارثان, ويلزمه جميع حقوقها, حتى يفارقها فراقًا ثانيًا. قاله أصبغ وغيره من المالكية (2). ثم اختلفوا. فقال مالك: يُجْبَر على الرجعة وإن طهرت, ما دامت في العدة, لأنه وقت للرجعة. وقال أشهب: إذا طهرت ثم حاضت ثم طهرت لم تجب رجعتها في هذه الحال وإن كانت في العدة, لأنه لا يجب عليه _________ (1) ط. الفقي: «فأمره» وط. المعارف: «وأمر» خلاف الأصل و (هـ، ش). (2) ينظر «النوادر والزيادات»: (5/ 90 - 91)، و «التاج والإكليل»: (4/ 40).

(1/500)


إمساكها في هذه الحال لجواز طلاقها فيه, فلا يجب عليه رجعتها فيه, إذ لو وجبت الرجعةُ في هذا الوقت لَحرُمَ الطلاقُ فيه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «حتى تطهر, ثم تحيض, ثم تطهر, ثم إن شاء أمسك بعد ذلك وإن شاء طلق» قال البيهقي (1): أكثر الروايات عن ابن عمر: «أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يراجعها حتى تطهر, ثم إن شاء طلَّقَ وإن شاء أمْسَك» فإن كانت الروايةُ عن سالم ونافع وابن دينار (2) في أمره بأن يراجعها حتى تطهر, ثم تحيض ثم تطهر, محفوظة, فقد قال الشافعي: يحتمل أن يكون إنما أراد بذلك الاستبراء, أن يكون أن (3) يستبرئها بعد الحيضة التي طلَّقها فيها بطهرٍ تامّ, ثم حيض تامّ, ليكون تطليقها وهي تعلم عِدّتها أبالحمل هي أم بالحيض، أو ليكون تطليقها بعد علمه بالحمل, وهو غير جاهل ما صنع, أو يرغب فيمسك للحمل, أو ليكون إن كانت سألتِ الطلاقَ غيرَ حاملٍ أن تكفَّ عنه حاملًا. آخر كلامه. وأكثر الروايات في حديث ابن عمر مصرِّحة بأنه إنما أذِنَ في طلاقها بعد أن تطهر من تلك الحيضة, ثم تحيض ثم تطهر, هكذا أخرجاه في «الصحيحين» من رواية نافع عنه (4) , ومن رواية ابنه سالم عنه (5). وفي لفظٍ متفق عليه (6): _________ (1) في «معرفة السنن والآثار»: (5/ 459 - 460). (2) رواية سالم ونافع في «الصحيحين»، ورواية ابن دينار في مسلم. (3) «يكون أن» سقطت من ط. الفقي. (4) أخرجه البخاري (5251)، ومسلم (1471/ 1). (5) أخرجه البخاري (4908)، ومسلم (1471/ 4). (6) أخرجه البخاري (5251، 7160)، ومسلم (1471) واللفظ له.

(1/501)


«ثم يمسكها حتى تطهُر, ثم تحيض عنده حيضةً أخرى, ثم يمهلها حتى تطهر من حيضها». وفي لفظ آخر متفق عليه (1): «مُرْه فليراجعها حتى تحيض حيضة مستقبلةً سوى حيضتها التي طلقها فيها». ففي تعدّد الحيض والطُّهْر ثلاثة ألفاظ محفوظة متفق عليها, من رواية ابنه سالم، ومولاه نافع، وعبد الله بن دينار (2) وغيرهم, والذين زادوا فقد (3) حفظوا ما لم يحفظه هؤلاء. ولو قُدِّر التعارض فالزائدون أكثرُ وأثبتُ في ابن عمر وأخصُّ به, فرواياتهم أولى, لأن نافعًا مولاه أعلمُ الناس بحديثه, وسالمٌ ابنه كذلك, وعبد الله بن دينار من أثبت الناس فيه وأرْوَاهم عنه, فكيف يُقدّم اختصار أبي الزبير ويونس بن جُبير على هؤلاء؟! ومن العجب تعليل حديث أبي الزبير في ردِّها عليه من غير احتساب بالطلقة بمخالفة غيره له, ثم تقدَّم روايتُه التي سكت فيها عن تعدّد الحيض والطُّهْر على رواية نافع وابن دينار وسالم؟! فالصواب الذي لا شكّ فيه أن هذه الرواية ثابتة محفوظة, ولذلك أخرجها أصحاب «الصحيحين». واختلف في جواز طلاقها في الطُّهْر المتعقّب للحيضة التي طلَّق فيها على قولين (4) هما روايتان عن أحمد ومالك، أشهرهما عند أصحاب مالك: _________ (1) أخرجه مسلم (1471/ 4) ولم أرها في البخاري. (2) أخرجها مسلم (1471/ 6). (3) في الطبعتين: «قد» خلاف الأصل و (هـ، ش). (4) ينظر للمسألة: «التمهيد»: (15/ 68)، و «المغني»: (10/ 329 - 330)، و «بدائع الصنائع»: (3/ 91)، و «نهاية المطلب»: (14/ 9 - 11)، و «روضة الطالبين»: (8/ 4)، و «فتح الباري»: (9/ 349 - 350).

(1/502)


المنع حتى تحيض حيضةً مستقبلة سوى تلك الحيضة, ثم تَطْهُر كما أمر به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. والثاني: يجوز طلاقُها في الطُّهْر المتعقّب لتلك الحيضة وهو قول الشافعي وأبي حنيفة, وأحمد في الرواية الأخرى. ووجهه: أن التحريم إنما كان لأجل الحيض, فإذا طهرت زال موجِب التحريم, فجاز طلاقها في هذا الطهر كما يجوز في الطهر الذي بعده, وكما يجوز أيضًا طلاقها فيه لو لم يتقدّم طلاقٌ في الحيض, ولأنَّ في بعض طرق حديث ابنِ عمر في الصحيح: «ثم ليطلقها طاهرًا, أو حاملًا» (1)، وفي لفظ: «ثم ليطلقها طاهرًا من غير جماع في قُبُل عدتها» (2). وفي لفظ: «فإذا طَهُرت فليطلِّقْها لِطُهْرها, قال: فراجعها ثم طلقها لطهرها» (3). وفي حديث أبي الزبير: «وقال: إذا طهرت فليطلِّق أو ليمسك» (4). وكلُّ هذه الألفاظ في «الصحيح». وأما أصحاب القول الثاني فاحتجّوا بما تقدّم مِن أمره - صلى الله عليه وسلم - بإمساكها حتى تحيض, ثم تطْهُر ثم تحيض, ثم تطهر. وقد تقدم. قالوا: وحكمة ذلك من وجوه: _________ (1) في «صحيح مسلم» (1471/ 5). (2) في «صحيح مسلم» (1471/ 8). (3) في «صحيح مسلم» (1471/ 11). وفيه: «فراجعتها ثم طلقتها ... ». (4) أخرجه مسلم (1471/ 14).

(1/503)


أحدها: أنه لو طلّقها عَقِبَ تلك الحيضة كان قد راجعها ليطلقها، وهذا عكس مقصود الرجعة, فإن الله سبحانه إنما شَرَع الرجعةَ لإمساك المرأة وإيوائها, ولَمّ شَعَث النكاح, وقَطْع سبب الفُرْقة, ولهذا سماه إمساكًا, فأمره الشارع [ق 96] أن يمسكها في ذلك الطهر, وأن لا يطلِّقَ فيه حتى تحيض حيضةً أخرى, ثم تطهر, لتكون الرجعة للإمساك لا للطلاق. قالوا: وقد أكَّدَ الشارعُ هذا المعنى, حتى إنه أمر في بعض طُرُق هذا الحديث بأن يمسّها في الطهر المتعقّب لتلك الحيضة, فإذا حاضت بعده وطَهُرت, فإن شاء طلّقها قبل أن يمسها, فإنه قال: «مُرْه فليراجعها, فإذا طهرت مسّها, حتى إذا طهرت أخرى, فإن شاء طلقها وإن شاء أمسكها». ذكره ابنُ عبد البر (1) , وقال: الرجعةُ (2) لا تكاد تُعْلَم صحتُها إلا بالوطء, لأنه المبتغَى من النكاح, ولا يحصل الوطء إلا في الطهر, فإذا وطئها حَرُم طلاقها فيه حتى تحيض ثم تطهر, فاعتبرنا مظنة الوطء ومحلّه, ولم يجعله محلًا للطلاق. الثاني: أن الطلاق حُرِّم في الحيض لتطويل العِدّة عليها, فلو طلّقها عقب الرجعة من غير وطء لم تكن قد استفادت بالرجعة فائدة, فإن تلك الحيضة التي طُلِّقت فيها لم تكن تُحْتَسب عليها من العِدّة, وإنما تَسْتقبِلُ العِدّة من الطهر التي (3) يليها, أو من الحيضة الأخرى على الاختلاف في الأقراء, فإذا طلَّقها عقب تلك الحيضة كانت في معنى مَن طُلّقت ثم راجعها _________ (1) في «التمهيد»: (15/ 53 - 54). وينظر «الاستذكار»: (18/ 15). (2) في «التمهيد»: «المراجعة». (3) كذا في الأصل و (هـ، ش).

(1/504)


ولم يمسَّها حتى طلّقها, فإنها تَبْني على عِدّتها في أحد القولين, لأنها لم تنقطع بوطء, فالمعنى المقصود إعدامه من تطويل العدة موجود بعينه هنا, لم يَزُل بطلاقها عقب الحيضة, فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع حكم الطلاق جملةً بالوطء, فاعتبرَ الطهرَ الذي هو موضع الوطء, فإذا وطئ حَرُم طلاقُها حتى تحيض ثم تطهر. ومنها: أنه ربما كانت حاملًا وهو لا يشعر, فإن الحامل قد ترى الدَّمَ بلا ريب ــ وهل حكمه حكم الحيض أو دم فساد؟ على الخلاف فيه ــ فأراد الشارع أن يستبرئها بعد تلك الحيضة بطُهْر تامّ, ثم حيض تامّ, فحينئذ يعلم هل هي حامل أو حائل؟ فإنه ربما يمسكها إذا علم أنها حامل منه, وربما تكفُّ هي عن الرغبة في الطلاق إذا علمت أنها حامل, وربما يزول الشرُّ الموجب للطلاق بظهور الحمل, فأراد الشارع تحقيق علمهما بذلك, نظرًا للزوجين, ومراعاةً لمصلحتهما, وحسمًا لباب الندم. وهذا من أحسن محاسن الشريعة. وقيل: الحكمة فيه أنه عاقبه بأمره بتأخير الطلاق جزاءً له على ما فَعَله من إيقاعه على الوجه المحرَّم. ورُدّ هذا (1) بأن ابن عمر لم يكن يعلم التحريم. وأجيب عنه بأن هذا حكم شامل له ولغيره من الأمة, وكونه - رضي الله عنه - لم يكن عالمًا بالتحريم يفيدُ نفي الإثم لا عدم ترتُّب هذه المصلحة على الطلاق المحرَّم في نفسه. _________ (1) «هذا» سقطت من ط. المعارف.

(1/505)


وقيل: حكمته أن الطهر الذي بعد تلك الحيضة هو من حريم تلك الحيضة, فهما كالقُرْء الواحد, فلو شُرِع الطلاق فيه لصار كموقِعِ طلقتين في قُرْءٍ واحد, وليس هذا بطلاق السنة. وقيل: حكمتُه أنه نهى عن الطلاق في هذا الطُّهْر, ليطول مقامه معها, ولعلَّه تدعوه نفسُه إلى وطئها, وذهاب ما في نفسه من الكراهة لها, فيكون ذلك حرصًا على ارتفاع (1) البغيض إلى الله, المحبوب إلى الشيطان, وحضًّا على بقاء النكاح, ودوام المودّة والرحمة، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ثم ليطلقها طاهرًا»، وفي اللفظ الآخر: «فإذا طهرت فليطلقها إن شاء» هل المراد به انقطاع الدم, أو التطهر بالغسل, وما يقوم مَقامه من التيمم؟ على قولين (2) , هما روايتان عن أحمد. أحدهما (3): أنه انقطاع الدم، وهو قول الشافعي. والثانية: أنه الاغتسال. وقال أبو حنيفة: إن طَهُرت لأكثر الحيض حلّ طلاقُها بانقطاع الدم, وإن طهرت لدون أكثره لم يحل طلاقها حتى تصير في حكم الطاهرات بأحد ثلاثة أشياء: إما أن تغتسل, وإما أن تتيمم عند العجز وتصلي, وإما أن يخرج عنها وقت صلاة, لأنه متى وُجِد أحدُ هذه الأشياء حكمنا بانقطاع حيضها. وسِرّ المسألة: أن الأحكامَ المترتبة على الحيض نوعان: _________ (1) ط. الفقي: «ارتفاع الطلاق» ولا وجود لها في الأصل و (ش)! (2) ينظر للمسألة: «الأم»: (2/ 139)، و «فتح الباري»: (9/ 350)، و «الإنصاف»: (1/ 239). (3) كذا في النسخ، والوجه: «إحداهما» وقد مضى مثلها غير مرة.

(1/506)


منها ما يزول بنفس انقطاعه، كصحة الغسل والصوم, ووجوب الصلاة في ذمتها. ومنها ما لا يزول إلا بالغسل كحِلّ الوطء, وصحة الصلاة, وجواز اللُّبث في المسجد, وصحة الطواف, وقراءة القرآن على أحد الأقوال, فهل يقال: الطلاقُ من النوع الأول, أو من الثاني؟ ولمن رجَّح إباحَتَه قبل الغُسل أن يقول: الحائض إذا انقطع دمها صارت كالجنب, يحرُم عليها ما يحرُم منه, ويصح منها ما يصح منه. ومعلومٌ أن المرأة الجُنُب لا يحرم طلاقها. ولمن رجَّح الثاني أن يجيب عن هذا بأنها لو كانت كالجُنُب لحلَّ وطؤها, ويحتجّ بما رواه النسائي في «سننه» (1) من حديث المعتمر بن سليمان، قال: سمعت عُبيدَ الله، عن نافع، عن عبد الله: «أنه طلّقَ امرأتَه وهي حائض تطليقةً, فانطلق عمرُ فأخبر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك, فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مُرْ عبدَ الله فليراجعها, فإذا [اغتسلت فليتركها حتى تحيض، فإذا] اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسّها حتى يطلقها, فإن شاء أن يمسكها فليمسكها، فإنها العِدّة التي أمَرَ الله أن تُطلَّقَ لها النساء». وهذا على شرط «الصحيحين» , وهو مفسِّر لقوله: «فإذا طهرت»، فيجب حَمْلُه [ق 97] عليه. وتمام هذه المسألة: أن العِدّة هل تنقضي بنفس انقطاع الدم وتنقطع الرجعة, أم لا تنقطع إلا بالغسل؟ وفيه خلاف بين السلف والخلف, يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى (2). _________ (1) (3396)، وفي «الكبرى» (5559). وما بين المعقوفين مستدرك منها. (2) لم نجد هذا الموضع هنا في التجريد، ولعله مما لم يذكره المجرِّد.

(1/507)


وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ثم ليطلقها طاهرًا قبل أن يمسّ» دليلٌ على أن طلاقها في الطُّهْر الذي مَسّ فيه ممنوعٌ منه، وهو طلاق بدعة, وهذا متفق عليه. فلو طلق فيه، قالوا: لم يجب عليه رجعتها, قال ابن عبد البر (1): أجمعوا على أن الرجعةَ لا تجب في هذه الصورة. وليس هذا الإجماع ثابتًا, وإن كان قد حكاه صاحب «المغني» (2) أيضًا, فإنَّ أحدَ الوجهين في مذهب أحمد وجوب الرجعة في هذا الطلاق, حكاه في «الرعاية» (3) , وهو القياس, لأنه طلاق محرَّم, فتجب الرجعةُ فيه, كما تجب في الطلاق في زمن الحيض. ولمن فَرَّق بينهما أن يقول: زمن الطُّهْر وقت للوطء وللطلاق, وزمن الحيض ليس وقتًا لواحد منهما, فظهر الفرق بينهما, فلا يلزم من الأمر بالرجعة في غير زمن الطلاق الأمر بها في زمنه. ولكن هذا الفرق ضعيفٌ جدًّا, فإن زمن الطُّهْر متى اتصل به المَسِيْس صار كزمن الحيض في تحريم الطلاق سواء, ولا فرق بينهما, بل الفرق المؤثِّر بين الناس: أن المعنى الذي وجبت لأجله الرجعة إذا طلقها حائضًا منتفٍ في صورة الطلاق في الطهر الذي مَسَّها فيه, فإنها إنما حَرُم طلاقُها في _________ (1) في «التمهيد»: (15/ 69) بنحوه. (2) (10/ 329). (3) ينظر «الإنصاف»: (8/ 452). والرعاية لابن حمدان الحراني الحنبلي (695) وهي صغرى وكبرى، وذكر ابن رجب وابن مفلح وابن بدران أنهما غير محررتين، وأشار ابن مفلح إلى عدم الاعتماد عليهما. ينظر «المدخل المفصّل»: (2/ 745 - 746) لبكر أبو زيد.

(1/508)


زمن الحيض لتطويل العِدّة عليها, فإنها لا تُحْتَسب ببقية الحيضة قُرْءًا اتفاقًا، فتحتاج إلى استئناف ثلاثة قروء كوامل. وأما الطُّهْر فإنها تعتدّ بما بقي منه قرءًا, ولو كان لحظة, فلا حاجة بها إلى أن يراجعها, فإنّ مَن قال: الأقراء الأطهار كانت أول عدتها عقيب (1) طلاقها, ومَن قال: هي الحيض استأنف بها بعد الطُّهْر, وهو لو راجعها ثم أراد أن يطلِّقها لم يطلّقْها إلا في طُهْر, فلا فائدة في الرجعة. هذا هو الفرق المؤثِّر بين الصورتين. وبعدُ, ففيه إشكال لا يتنبّه له إلا من له خبرة بمآخِذِ الشّرْع وأسرارِه, وجَمْعِه وفَرْقِه؛ وذلك أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يطلِّقها إذا شاء قبل أن يمسّها, وقال: «فتلك العدة التي أمر بها الله أن تُطَلَّق لها النساء». وهذا ظاهرٌ في أن العِدّة إنما يكون استقبالُها مِن طُهْر لم يمسَّها فيه, إن دلّ على أنها بالأطهار, وأما طُهْر قد أصابها فيه فلم يجعله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِن العِدّة التي أمَرَ الله أن تُطَلَّقَ لها النساء، فكما لا تكون عِدّتها متصلةً بالحيضة التي طلَّق فيها ينبغي أن لا تكون متصلةً بالطُّهر الذي مسَّها فيه؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سوّى بينهما في المنع من الطلاق فيهما, وأخبر أن العِدّة التي أمرَ (2) الله أن تُطلَّقَ لها النساءُ هي مِن وقت الطُّهْر الذي لم يمسّها فيه. فمن أين لنا أن الطُّهْرَ الذي مسَّها فيه هو أول العِدّة التي أمر الله أن تُطلَّقَ لها النساء؟! وهذا مذهب أبي عُبيد, وهو في الظهور والحجة كما ترى. وقال الإمام أحمد والشافعي ومالك وأصحابُهم: لو بقي من الطُّهْر لحظة حُسِبَت لها _________ (1) ط. الفقي: «عنده عقب»! (2) ط. الفقي: «أمر بها» خلاف الأصل و (هـ، ش).

(1/509)


قرءًا, وإن كان قد جامَعَ فيه, إذا قلنا: الأقراء الأطهار (1). قال المنتصرون لهذا القول: إنما حَرُم الطلاقُ في زمن الحيض دفعًا لضرر تطويل العِدّة عليها, فلو لم تَحْتَسِب ببقية الطهرِ قُرءًا كان الطلاق في زمن الطُّهْر أضرَّ بها وأطولَ عليها. وهذا ضعيف جدًّا, فإنها إذ طُلِّقت فيه قبل المسيس احتسب به, وأما إذا طُلّقت بعد المسيس كان حكمها حكم المطلَّقة في زمن الحيض, فكما لا تحتسب ببقية الحيضة لا تحتسب ببقية هذا الطهر الممسوسة فيه. قالوا: ولم يُحَرَّم الطلاق في الطُّهْر لأجل التطويل الموجود في الحيض, بل إنما حُرِّم لكونها مرتابة, فلعلها قد حَمَلت من ذلك الوطء, فيشتدّ ندمُه إذا تحقق الحمل, ويكثر الضرر. فإذا أراد أن يطلِّقَها طلَّقهَا طاهرًا من غير جماع, لأنهما قد تيقَّنا عدمَ الرِّيبة, وأما إذا ظَهَر الحملُ فقد دخَلَ على بصيرة، وأقْدَم على فراقها حاملًا. قالوا: فهذا الفرق بين الطلاق في الحيض والطُّهْر المُجَامَع فيه. قالوا: وسِرُّ ذلك أن المرأةَ إن كانت حاملًا من هذا الوطء فعِدَّتها بوضع الحمل, وإن لم تكن قد حَمَلت منه فهو قرء صحيح, فلا ضررَ عليها في طلاقها فيه. ولمن نصر قول أبي عبيد أن يقول: الشارعُ إنما جَعَل استقبال عِدّة المطلّقة مِن طُهرٍ لم يمسّها فيه, ليكون المطلِّق على بصيرة من أمره, والمطلَّقة على بصيرة مِن عِدَّتها أنها بالأقراء. فأما إذا مسَّها في الطُّهْر ثم _________ (1) ينظر: «المغني»: (11/ 203)، و «روضة الطالبين»: (8/ 218)، و «تهذيب المدوّنة»: (2/ 409).

(1/510)


طلّقها, لم يَدْر أحاملًا أم حائلًا, ولم تدرِ المرأةُ أعِدّتها بالحمل أم بالأقراء, فكان الضرر عليهما في هذا الطلاق أشدّ من الضرر في طلاقها وهي حائض, فلا تحتسب ببقية ذلك الطهر قُرءًا, كما لم يحتسب الشارع به في جواز إيقاع الطلاق فيه. وهذا التفريع كلُّه على أقوال الأئمة والجمهور. وأما من لم يوقع الطلاقَ البدعيَّ فلا يحتاج إلى شيء من هذا. وقوله: «ليطلقها طاهرًا أو حاملًا» دليل على أن الحامل طلاقها سُنّي, قال ابن عبد البر (1): «لا خلافَ بين العلماء أن الحامل طلاقها للسنة». قال الإمام أحمد: أذهَبُ إلى حديث سالم، عن أبيه: «ثم ليطلِّقْها طاهرًا أو حاملًا» (2). وعن أحمد رواية أخرى أن طلاق الحامل ليس بسُنّي ولا بدعيّ, وإنما يثبت لها ذلك من جهة العدد, لا من جهة الوقت (3). ولفظة «الحمل» في حديث ابن عمر انفرد بها مسلمٌ وحدَه (4) في بعض طرق الحديث. ولم يذكرها البخاري. فلذلك لم يكن طلاقها سنيًّا ولا بدعيًّا, لأن الشارع لم يمنع منه. فإن قيل: إذا لم يكن سُنيًّا كان طلاقها بدعيًّا, لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنما أباح _________ (1) في «التمهيد»: (15/ 80). وينظر «الاستذكار»: (18/ 12). (2) ينظر «المغني»: (10/ 335). (3) كما في «الفروع»: (9/ 22)، و «الإنصاف»: (8/ 459). (4) (1471/ 5).

(1/511)


طلاقَها في طُهْر لم يمسّها فيه, فإذا مسّها في الطُّهْر وحَمَلت واستمرّ حملُها= استمر المنع من الطلاق, فكيف يبيحه تجدّد ظهور الحمل, فإذا لم يثبتوا هذه اللفظة لم يكن طلاق الحامل جائزًا. فالجواب: أن المعنى الذي لأجله حُرِّم الطلاق بعد المسيس معدومٌ عند ظهور الحمل, لأن المطلِّق عند ظهور الحمل قد دخل على بصيرة, فلا يخاف ظهور أمرٍ يتجدّد به الندمُ, وليست المرأة مرتابة لعدم اشتباه الأمر عليها, بخلاف طلاقها مع الشكِّ في حملها. والله أعلم. وقوله: «طاهرًا أو حاملًا» احتجَّ به من قال: الحامل لا تحيض, لأنه - صلى الله عليه وسلم - حَرَّم الطلاقَ في زمن الحيض, وأباحه في وقت الطُّهر والحمل, فلو كانت الحامل تحيض لم يُبَح طلاقُها حاملًا إذا رأت الدَّمَ, وهو خلاف الحديث. ولأصحاب القول الآخر أن يجيبوا عن ذلك, بأن حيض الحامل لمّا لم يكن له تأثير في العِدّة بحال لا في تطويلها ولا تخفيفها, إذ عِدّتها بوضع الحمل, أباح الشارع طلاقَها حاملًا مطلقًا, وغيرُ الحامل لم يُبِح طلاقَها إلا إذا لم تكن حائضًا, لأن الحيض يؤثِّر في العِدّة, لأن عِدّتها بالأقراء. فالحديثُ دلّ على أن المرأة لها حالتان: إحداهما: أن تكون حائلًا, فلا تطلّق إلا في طُهْر لم يمسَّها فيه. والثانية: أن تكون حاملًا, فيجوز طلاقها. والفرقُ بين الحامل وغيرها في الطلاق إنما هو بسبب الحمل وعدمه, لا بسبب حيضٍ ولا طُهْر، ولهذا يجوز طلاق الحامل بعد المسيس دون الحائل, وهذا جواب سديد والله أعلم. وقد أفردْتُ لمسألة الحامل هل

(1/512)


تحيض أم لا؟ مصنَّفًا مفردًا (1). وقد احتجَّ بالحديث مَن يرى أن السنة تفريق الطلقات على الأقراء, فيطلِّق لكلِّ قُرء طلقة, وهذا قول أبي حنيفة وسائر الكوفيين, وعن أحمد رواية كقولهم (2). قالوا: وذلك لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنما أمره بإمساكها في الطُّهْر المتعقّب للحيض, لأنه لم يفْصِل بينه وبين الطلاق طُهْرٌ كامل, والسُّنةُ أن يفصل بين الطلقة والطلقة قُرءٌ كامل, فإذا طَهُرت ثم حاضت ثم طهرت طلّقها طلقة ثانيةً (3) , لحصول الفصل بين الطلقتين بطهر كامل. قالوا: فلهذا المعنى اعتبر الشارع الفصلَ بين الطلاق الأول والثاني. قالوا: وفي بعض حديث ابن عمر: «السنة أن يُستقبَل الطهر, فيطلِّق لكلِّ قُرء» (4). وروى النسائي في «سننه» (5) عن ابن مسعود قال: «طلاق السنة: أن يطلقها تطليقةً، وهي طاهر في غير جماع, فإذا حاضت فطَهُرت طلَّقها أخرى, فإذا حاضت وطَهُرت طلقها أخرى, ثم تعتدَّ بعد ذلك بحيضة». وهذا الاستدلال ضعيف, فإن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بإمساكها في الطهر الثاني, ليفرّق الطلقات الثلاث على الأقراء, ولا في الحديث ما يدلّ على _________ (1) ولم يُعثر عليه حتى الآن. (2) ينظر «بدائع الصنائع»: (3/ 88)، و «المغني»: (10/ 326). (3) غير معجمة في الأصل، وفي ش كما أثبت وهو المناسب للمعنى، وفي الطبعتين: «بائنة». (4) أخرجه الدارقطني (3974)، والبيهقي: (7/ 330). (5) (3394)، وفي «الكبرى» (5557)، وأخرجه ابن ماجه (2021).

(1/513)


ذلك, وإنما أمَرَه بطلاقها طاهرًا قبل أن يمسَّها, وقد ذكرنا حِكْمة إمساكها في الطهر الأول. وأما قوله: «والسنة أن يستقبلَ الطُّهْرَ فيطلِّق لكلِّ قُرْء» فهو حديث قد تكلَّم الناسُ فيه وأنكروه على عطاء الخراساني, فإنه انفرد بهذه اللفظة دون سائر الرواة. قال البيهقي (1): وأما الحديث الذي رواه عطاء الخراساني، عن ابن عمر في هذه القصة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «السنة أن يستقبل الطُّهْر فيطلِّق لكلِّ قُرْء» , فإنه أتى في هذا الحديث بزيادات لم يُتابَع عليها, وهو ضعيف في الحديث لا يُقْبَل منه ما ينفرد به. وأما حديث ابن مسعود فمع أنه موقوف عليه, فهو حديث يرويه أبو إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله, واختُلِف على أبي إسحاق فيه, فقال الأعمش عنه كما تقدم, وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص عنه: «طلاق السنة أن يطلِّقها طاهرًا من غير جماع» (2). ولعل هذا حديثان؛ والذي يدلّ عليه: أن الأعمش قال: سألتُ إبراهيم, فقال لي مثل ذلك. وبالجملة فهذا غايته أن يكون قول ابن مسعود وقد خالفه عليٌّ (3) وغيرُه. وقد رُوي عن ابن مسعود روايتان: إحداهما: التفريق. والثانية: إفراد _________ (1) في «معرفة السنن»: (11/ 35 - ط قلعجي)، وينظر «الكبرى»: (7/ 330). (2) أخرجه عبد الرزاق (6/ 303)، والنسائي (5558)، وابن ماجه (2020). (3) حديث عليّ أخرجه البيهقي: (7/ 325)، والضياء في «المختارة»: (2/ 248) قال: «ما طلّق رجلٌ طلاقَ السنة فيندم أبدًا».

(1/514)


الطلقة وتركها حتى تنقضي عدتها. قال: «طلاق السُّنّة أن يطلقها وهي طاهر, ثم يدعها حتى تنقضي عدتها, أو يراجعها إن شاء». ذَكَره ابنُ عبد البر عنه (1). ولأن هذا إرداف طلاق لطلاق (2) من غير حاجة إليه, وتعريضٌ لتحريم المرأة عليه إلا بعد زوجٍ وإصابة, والشارعُ لا غَرَض له في ذلك، ولا مصلحة للمطلِّق, فكان بِدْعيًّا. والله أعلم. قوله: «فتلك العِدَّة التي أمر الله أن تطلَّق [ق 99] لها النساء» احتج به من يرى الأقراء هي الأطهار. قالوا: واللام بمعنى الوقت, كقوله تعالى {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78] وقول العرب: كُتِب لثلاثٍ مَضَيْن ولثلاث بقين. وفي الحديث: «فليصلِّها حين يذكرها, ومن الغد للوقت» (3). قالوا: فهذه اللام الوقتية بمعنى (في)». وأجاب الآخرون عن هذا بأن «اللام» في قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] هي اللام المذكورة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أن تُطَلَّق لها النساء» , ولا يصح أن تكون وقتيَّة, ولا ذَكَر أحدٌ من أهل العربية أن اللام تأتي بمعنى «في» أصلًا، ولا يصحّ أن تكون هنا بمعنى «في» ــ ولو صح في غير هذا الموضع ــ لأن الطلاقَ لا يكون في نفس العِدّة, ولا تكون عدّة الطلاق ظرفًا له قط, وإنما اللام هنا على بابها للاختصاص. والمعنى: _________ (1) في «التمهيد»: (15/ 78). (2) ط. الفقي: «هذا أردأ طلاق لأنه طلاق» وهو تصرف بالزيادة وتصحيف! (3) أخرجه أبو داود (437)، وأصله في البخاري (595)، ومسلم (681) من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه -.

(1/515)


طلقوهن مستقبلاتٍ عدّتَهنّ. ويفسِّر هذا قراءة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر: «فطلقوهنّ في قُبُل عِدّتهن» (1) , أي في الوقت الذي تستقبل فيه العدة. وعلى هذا فإذا طلقها في طُهرها استقبلت العِدَّةَ من الحيضة التي تليه, فقد طلقها في قُبُل عِدّتها, بخلاف ما إذا طلقها حائضًا, فإنها لا تعتدّ بتلك الحيضة, وينتظر فراغها وانقضاء الطهر الذي يليها ثم تشرع في العدة, فلا يكون طلاقُها حائضًا طلاقًا في قُبُل عِدّتها. وقد أفردْتُ لهذه المسألة مصنّفًا مستقلًّا ذكرتُ فيه مذاهِبَ الناس ومآخِذَهم, وترجيحَ القول الراجح، والجوابَ عما احتجّ به أصحابُ القول الآخر (2). وقوله: «مُرْه فليراجعها» دليلٌ على أن الأمر بالأمر بالشيء أمرٌ به. وقد اختلف الناس في ذلك (3) , وفَصْل النزاع: أن المأمور الأول إن كان مبلِّغًا محضًا، كأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - آحادَ الصحابة أن يأمر الغائبَ عنه بأمره, فهذا أمرٌ به من جهة الشارع قطعًا, ولا يَقْبل ذلك نزاعًا أصلًا, ومنه قوله: «مُرْها فلتَصْبِر ولتحتسب» (4)، وقوله: «مروهم بصلاة كذا في حين كذا» (5) ونظائره. فهذا _________ (1) أخرجه مسلم (1471/ 14). (2) ولم يُعثر عليه حتى الآن، يسّر الله الوقوفَ عليه. (3) ينظر: «المستصفى»: (2/ 91 - 92)، و «البحر المحيط»: (3/ 345)، و «إرشاد الفحول»: (1/ 273). (4) أخرجه البخاري (7377)، ومسلم (923) من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنهما -. (5) أخرجه البخاري (685) من حديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه -.

(1/516)


الثاني مأمور به من جهة الرسول - صلى الله عليه وسلم -,فإذا عصاه المبلَّغ إليه فقد عصى أمرَ الرسول صلوات الله وسلامه عليه, والمأمور الأول مبلِّغ محض. وإن كان الأمر متوجِّهًا إلى المأمور الأول توجُّه التكليف, والثاني غير مكلَّف, لم يكن أمرًا للثاني من جهة الشارع, كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مروهم بالصلاة لسبع» (1). فهذا الأمر خطاب للأولياء بأمرهم الصبيانَ بالصلاة. فهذا فصل الخطاب في هذا الباب، والله أعلم بالصواب. فهذه كلمات نبَّهنا بها على بعض فوائد حديث ابن عمر, ولا تستطِلْها, فإنها مشتملة على فوائد جمّة, وقواعد مهمة, ومباحث من (2) قَصْده الظَّفَر بالحق, وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه, من غير ميلٍ مع ذي مذهبه, ولا خدمة لإمامه وأصحابه بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل تابعٌ للدليل، حريص على الظَّفَر بالسنة والسبيل, يدور مع الحقِّ أنى توجَّهت ركائبُه, ويستقرّ معه حيث استقرّتْ مضاربُه. ولا يعرف قدرَ هذا السير إلا مَن علَتْ هِمَّتُه, وتطلَّعت نوازعُ قلبه, واستشرفت نفسُه إلى الارتضاع من ثدي الرسالة, والورود من عين حوض النبوة, والخَلاص مِن شِباك الأقوال المتعارضة, والآراء المتناقضة, إلى _________ (1) أخرجه أبو داود (494)، والترمذي (409)، وأحمد (15339)، وابن خزيمة (1002)، والحاكم (1/ 258) من حديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده. قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن خزيمة والحاكم، وحسّنه ابن القطان في «بيان الوهم»: (4/ 138). (2) كذا في الأصول، وفي ط. الفقي: «لمن».

(1/517)


فضاء العلم الموروث عمن لا ينطق عن الهوى, ولا يتجاوز نطقه البيان والرشاد والهدى, وبيداء اليقين التي مَن حلّها حُشِر في زمرة العلماء, وعُدّ مِن ورثة الأنبياء, وما هي إلا أوقاتٌ محدودة, وأنفاسٌ على العبد معدودة, فلينفِقْها فيما شاء (1). أنتَ القتيلُ بكلّ مَن أحببتَه ... فانظر لنفسكَ في الهوى مَن تصطفي (2)

  3 - بابٌ في نسخ المراجعة (3)

ذكر أبو داود حديثين فقال ابن القيم - رحمه الله -: لم يذكر أبو داود في النَّسْخ غيرَ هذين. وفيه أحاديث أصح وأصرح منهما: منها: حديث مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: «كان الرجل إذا طلَّق امرأتَه, ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عِدّتُها, كان ذلك له, وإن طلَّقها ألف مرّة, فعَمَد رجلٌ إلى امرأةٍ له فطلقها، ثم أمهلها حتى إذا شارفت انقضاء عِدّتها ارتجعها, ثم طلقها, وقال: والله لا آويك إليَّ ولا تحلّين أبدًا, فأنزل الله عز وجل: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229]. فاستقبلَ الناسُ الطلاقَ _________ (1) «وما هي إلا ... » إلى هنا ليس في (هـ). (2) البيت لابن الفارض من فائيته المشهورة، ينظر «ديوانه» (1/ 195 - مع شرحه). (3) ليس في «السنن» ولا «المختصر» باب بهذه الترجمة، وإنما فيهما: «باب الرجل يراجع ولا يشهد» وساق تحته حديث عمران بن حصين فقط: «سئل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها، ولم يُشهد على طلاقها ولا رجعتها ... » الحديث. أخرجه أبو داود (2186)، وابن ماجه (2025). ثم بعد أربعة أبواب ــ كما سيأتي ــ ساق ترجمة (باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث) وساق تحته عدة أحاديث.

(1/518)


جديدًا مِن يومئذ مَن كان منهم طلَّق أو لم يطلِّق (1). ورواه الترمذي (2) متصلًا عن عائشة, ثم قال: والمرسل أصح. وفيه حديث عائشة في قصة امرأة رفاعة, وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا, حتى تذوقي عُسَيلتَه ويذوقَ عُسَيلتك». وهو في «الصحيحين» (3) , وهو صريح في تحريمها عليه بعد الطلقة الثالثة.

  4 - بابٌ في سُنّة طلاق العبد

170/ 2101 - أن أبا الحسن مولى بني نوفل أخبره أنه استفتى ابنَ عباس في مملوك كانت تحته مملوكة فطلقها تطليقتين، ثم عَتَقا بعد ذلك، هل يصح له أن يخطبها؟ قال: نعم، قضى بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 171/ 2101 - وفي رواية: قال ابن عباس: «بقيَتْ لك واحدة، قضى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». وأخرجه النسائي وابن ماجه (4). قال الخطّابي: لم يذهب إلى هذا أحدٌ من العلماء فيما أعلم، وفي إسناده مقال. وقد ذكر أبو داود عن أحمد بن حنبل عن عبد الرزاق: أن ابن المبارك قال _________ (1) أخرجه البيهقي في «الكبرى»: (7/ 333) وقال: هذا مرسل، وهو الصحيح قاله البخاريّ وغيره. (2) (1192). (3) أخرجه البخاري (2639)، ومسلم (1433). (4) أخرجه أبو داود (2187)، والنسائي في «الكبرى» (5591 و 5592)، وابن ماجه (2082)، وأحمد (2031 و 3088).

(1/519)


لمعمر: مَنْ أبو الحسن هذا؟ قال: لقد تحمَّل صَخْرَةً عظيمة! قال الشيخ: يريد بذلك إنكار ما جاء به الحديث. هذا آخر كلامه. وأبو الحسن هذا قد ذُكِر بخير وصلاح، وقد وثَّقه أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان، غير أن الراوي عنه عمر بن مُعَتِّب، وقد قال علي بن المديني: عمر بن مُعتِّب منكر الحديث، وسئل أيضًا عنه؟ فقال: مجهول، لم يرو عنه غير يحيى ــ يعني ابن أبي كثير ــ وقال أبو عبد الرحمن النسائي: عُمر بن مُعَتِّب ليس بالقوي. وقال الأمير أبو نصر بن ماكولا: منكر الحديث، هذا آخر كلامه. قال ابن القيم - رحمه الله -: وليس في المسألة إجماع, فإنَّ إحدى الروايتين عن الإمام أحمد القولُ بهذا الحديث, قال: ولا أرى شيئًا يدفعُه، وغيرُ واحدٍ يقول به: أبو سلمة وجابر وسعيد بن المسيب, هذا كلامه (1). وقال مرة: حديث عثمان وزيد في تحريمها عليه جيِّد, وحديث ابن عباس يرويه عُمر (2) بن مُعَتِّب, ولا أعرفه, ثم ذكر كلام ابن المبارك. قال أحمد: أما أبو حسن فهو عندي معروف, ولكن لا أعرف عمر بن مُعَتِّب (3). وقال الإمام أحمد في رواية ابن منصور (4) , في عبدٍ تحتَه مملوكة, وطلقها تطليقتين، ثم عَتَقا: يتزوجها وتكون على واحدة, على حديث عمر بن مُعَتِّب. وقال في رواية أبي طالب في هذه المسألة: يتزوجها, ولا _________ (1) ذكره في «المغني»: (10/ 536). (2) الأصل و (هـ، ش): «عَمرو» والتصويب من المصادر، وترجمته في «التهذيب»: (7/ 498). (3) ذكر ابنُ قدامة هذه الرواية في «المغني»: (10/ 536). (4) (4/ 1849).

(1/520)


يبالي عَتَقا أو بعد العِدة. وهو قول ابن عباس وجابر بن عبد الله وأبي سلمة وقَتادة. قال أبو بكر عبد العزيز: إن صحَّ الحديثُ فالعَمَل عليه, وإن لم يصح فالعمل على حديث عثمان وزيد. وحديث عثمان وزيد الذي أشار إليه: هو ما رواه الأثرم في «سننه» عن سليمان بن يسار: أن نُفَيعًا مُكاتَب أم سلمة طلَّق امرأتَه حرّةً تطليقتين, فسأل عثمان وزيد بن ثابت عن ذلك؟ فقالا: حَرُمت عليك (1). 172/ 2102 - وعن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «طلاقُ الأمَةِ تطليقتان، وقُرْؤُها حَيْضَتان». وفي رواية: «وعِدَّتُها حيضتان». وأخرجه الترمذي وابن ماجه (2). وقال أبو داود: هو حديث مجهول. وقال الترمذي: «حديث غريب، لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث مُظاهر بن أسلم، ومظاهر لا يعرف له في العلم غير هذا الحديث». هذا آخر كلامه. وقد ذكر له أبو أحمد بن عدي حديثًا آخر، رواه عن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ عشر آيات من آخر آل عمران كل ليلة». قلت: ومظاهر هذا، مخزومي مكي، ضعَّفه أبو عاصم النَّبيل، وقال يحيى بن معين: ليس بشيء مع أنه لا يُعرف. وقال أبو حاتم الرازي: منكر الحديث. _________ (1) أخرجه مالك (2127)، وعبد الرزاق (7/ 235)، والبيهقي: (7/ 360) وغيرهم. (2) أخرجه أبو داود (2189)، والترمذي (1218)، وابن ماجه (2080) من طريق مظاهر بن أسلم المخزومي عن القاسم بن محمد عن عائشة به، ومظاهر ضعيف كما سيذكر المنذري في تعليقه، والمؤلف في تعقيبه.

(1/521)


وقال الخطابي: والحديث حجة لأهل العراق إن ثبت، ولكن أهل الحديث ضعَّفوه، ومنهم من تأوله على أن يكون الزوج عبدًا. وقال البيهقي: ولو كان ثابتًا قلنا به، إلا أنَّا لا نثبت حديثًا يرويه من نجهلُ عدالتَه. هذا آخر كلامه. قال ابن القيم - رحمه الله -: وللحديث بعدُ عِلّةٌ عجيبة, ذكرها البخاريُّ في «تاريخه الكبير» (1) قال: مُظاهِر بن أسلم، عن القاسم، عن عائشة رَفَعَه: «طلاقُ الأمة تطليقتان وعِدّتها حيضتان» قال أبو عاصم: حدثنا ابن جريج، عن مُظاهر, ثم لقيتُ مظاهرًا فحدثنا به، وكان أبو عاصم يُضعِّفُ مُظاهرًا. وقال يحيى بن سليمان: حدثنا ابن وهب، قال: حدثني أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبيه: أنه كان جالسًا عند أبيه, فأتاه رسولُ الأمير, فقال: إن الأمير يقول لك: كم عِدّة الأَمَة؟ قال: عِدّة الأَمَة حيضتان, وطلاق الحُرّ الأَمَةَ ثلاث, وطلاق العبد الحُرَّةَ تطليقتان, وعِدّة الحُرّة ثلاث حِيَض»، ثم قال للرسول: أين تذهب؟ قال: أمرني أن أسأل القاسمَ بنَ محمد, وسالمَ بن عبد الله, قال: فأقسمُ عليك إلا رجعتَ إليَّ فأخبرتني ما يقولان, فذهب ورجع إلى أبي, فأخبره أنهما قالا كما قال, وقالا له: قل: إن هذا ليس في _________ (1) في «التاريخ الكبير»: (8/ 73) مختصرًا بدون حديث يحيى بن سليمان ولا إسناد الحديث. والنص بنحوه مع بعض الاختلاف في «التاريخ الأوسط»: (3/ 558). وعلق الشيخ أحمد شاكر في هامش ط. الفقي (3/ 114) بأنه لم يجد النص في «التاريخ الكبير» وأنه في «التاريخ الصغير» بنحوه، والأمر كما ذكرتُ أنه في «الأوسط» مع بعض الاختصار والاختلاف. فلعله في نسخة من «الكبير» أو وهل في العزو إليه وإنما هو في «الأوسط».

(1/522)


كتاب الله, ولا في سنة رسول الله, ولكن عمل به المسلمون (1). وذكر الدارقطني (2) حديثَ مُظاهر هذا, ثم قال: والصحيح عن القاسم خلاف هذا. وذَكَر عن القاسم أنه قيل له: بلغك في هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا. وذَكَره الدارقطني (3) أيضًا من حديث ابن عمر مرفوعًا, وقال: تفرَّد به عُمر بن شَبيب، والصحيح أنه من قول ابن عمر.

  5 - باب في الطلاق على غلط

173/ 2107 - عن عائشة قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا طلاقَ ولا عَتَاقَ في غِلاق». قال أبو داود: الغلاق أظنه في الغضب. وأخرجه ابن ماجه (4). وفي إسناده محمد بن عُبيد بن أبي صالح المكي، وهو ضعيف. والمحفوظ فيه «إغلاق»، وفسروه بالإكراه، لأن المكره يُغلق عليه أمرُه وتصرّفه. وقيل: كأن يغلق عليه الباب ويحبس ويضيق عليه حتى يطلق. وقيل: الإغلاق ههنا: الغضب، كما ذكره أبو داود. وقيل: معناه: النهي عن إيقاع الطلاق الثلاث كلّه في دفعة واحدة حتى لا يبقى منه شيء، ولكن ليطلِّق للسنة كما أُمِر. _________ (1) هنا ينتهي كلام البخاري. (2) (4002 - 4004). (3) (3994 - 3995). (4) أخرجه أبو داود (2193)، وابن ماجه (2046)، وأحمد (26360) من طريق ابن إسحاق عن ثور بن يزيد عن محمد بن عبيد بن أبي صالح عن صفية بنت شيبة عن عائشة به.

(1/523)


قال ابن القيم - رحمه الله -: قال شيخنا (1): والإغلاق انسدادُ باب العلم والقَصْدِ عليه. فيدخل فيه طلاق المعتوه والمجنون والسكران والمُكْرَه والغضبان الذي لا يَعْقِل ما يقول, لأن كلًّا من هؤلاء قد أُغْلِق عليه باب العلم والقَصْد, والطلاقُ إنما يقع مِن قاصدٍ له عالمٍ به. والله أعلم.

  6 - باب في الطلاق على الهَزْل

174/ 2108 - عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثٌ جِدُّهُنَّ جِدُّ وهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النكاح، والطلاق، والرَّجْعة». وأخرجه الترمذي وابن ماجه (2). وقال الترمذي: حديث حسن غريب. هذا آخر كلامه. وقال أبو بكر المعافري: روي «والعتق» ولم يصح شيء منه. فإن كان أراد ليس منه شيء على شرط الصحيح، فلا كلام. وإن أراد أنه ضعيف، ففيه نظر، فإنه حسن كما قال الترمذي. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد احتجَّ به من يرى طلاقَ المكره لازمًا، قال: لأنه أكثر ما فيه أنه لم يقصده, والقصد لا يعتبر في الصريح, بدليل وقوعه من الهازل واللاعب. _________ (1) يعني شيخ الإسلام ابن تيمية، ولم أجده بنصه في كتبه المطبوعة. وانظر رسالة المؤلف «إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان» (ص 16 - 24)، و «زاد المعاد»: (5/ 215)، و «إعلام الموقعين»: (4/ 50). (2) أخرجه أبو داود (2194)، والترمذي (1220)، وابن ماجه (2039) من طريق عبد الرحمن بن حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن ابن ماهَك عن أبي هريرة به، وعبد الرحمن بن حبيب متكلم فيه، قال الذهبي: صدوق له ما يُنكر. وله شواهد يُحسّن بها، ينظر «نصب الراية»: (3/ 293)، و «التلخيص الحبير»: (3/ 236).

(1/524)


وهذا قياس فاسد، فإن المُكْرَه غيرُ قاصدٍ للقول, ولا لموجَبه, وإنما حُمِل عليه وأُكْرِه على التكلُّم به, ولم يُكرَه على القصد. وأما الهازل فإنه تكلّم باللفظ اختيارًا وقَصَد به غيرَ موجَبه, وهذا ليس إليه, بل إلى الشارع, فهو أراد اللفظ الذي إليه, وأراد أن لا يكون موجَبه, وليس إليه, فإنَّ مَن باشر سببَ الحكم باختياره لزمه مسبّبه ومقتضاه وإن لم يرده. وأما المكره فإنه لم يُرِد لا هذا ولا هذا, فقياسه على الهازل غير صحيح (1).

  7 - باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث (2)

175/ 2110 - وعن ابن عباس قال: «طَلَّقَ عبدُ يزيد ــ أبو ركانة وإخْوَتِهِ ــ أمَّ ركانة، ونكح امرأةً من مُزَيْنَةَ، فجاءت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالت: ما يُغْنِي عَنِّي إلا كما تغني هذه الشعرة، لشعرةٍ أخذتها من رأسها، ففَرِّق بيني وبينه، فأخذت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَميَّةٌ، فدعا برُكَانَةَ وإخوته، ثم قال لجلسائه: أَتَرَوْنَ فلانًا يشبه منه كذا وكذا، من عبد يزيد، وفلانًا منه كذا وكذا؟ قالوا: نعم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد يزيد: طلِّقها، ففعل، ثم قال: راجع امرأتك أمَّ ركانة وإخوته، فقال: إني طلقتها ثلاثًا يا رسول الله، قال: قَدْ عَلِمْتُ، رَاجِعْها» وتلا: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (3) [الطلاق: 1]. _________ (1) ينظر «إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان» (ص 30، 38 - 39، 50 - 51) للمؤلف. (2) ينظر ما سبق التعليق عليه عند (باب نسخ المراجعة). (3) أخرجه أبو داود (2196)، وعبد الرزاق (6/ 390)، ومن طريقه أبو داود والبيهقي: (7/ 339)، من طريق ابن جُريج حدثني بعض بني رافع عن عكرمة عن ابن عباس به.

(1/525)


قال أبو داود: وحديث نافع بن عُجير، وعبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده: «أن ركانة طلق امرأتَه، فردّها إليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -» أصحُّ، لأنهم ولدُ الرجل، وأهله أعلم (1) به، أن ركانة إنما طلَّق امرأتَه البتةَ، فجعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدة. وقال الخطابي (2): في إسناد هذا الحديث مقال، لأن ابن جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع، ولم يسمِّه، والمجهول لا تقومُ به الحجة. وحكى أيضًا أن الإمام أحمد بن حنبل كان يضعِّف طرقَ هذا الحديث كلها. قال ابن القيم - رحمه الله -: والحديث الذي رجَّحه أبو داود هو حديث نافع بن عُجَير: «أنّ رُكانة بن عبد يزيد طلَّق امرأتَه سُهَيمة البتة, فأخبر بذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وقال: والله ما أردتُ إلا واحدة, فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «والله ما أردْتَ إلا واحدة؟»، فقال ركانة: والله ما أردْتُ إلا واحدة, فردَّها إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, فطلَّقها الثانية في زمن عمر, والثالثة في زمن عثمان». قال [ق 101] أبو داود: وهذا أصحُّ مِن حديث ابن جُرَيج، يعني الحديث الذي قبل هذا. تم كلامه. وهذا هو الحديث الذي ضعَّفه الإمامُ أحمد والناسُ، فإنه من رواية عبد الله بن علي بن السائب، عن نافع بن عُجير، عن رُكانة, ومن رواية الزبير بن سعيد، عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة، عن أبيه، عن جده, وكلُّهم ضعيف, والزبير أضعفهم. وضعَّف البخاريُّ (3) أيضًا هذا الحديثَ, قال: عليُّ بن يزيد بن ركانة، عن أبيه، لم يصح حديثه. _________ (1) في «السنن»: «لأنّ ولد الرجل وأهله .. ». (2) في «معالم السنن»: (2/ 646). (3) في «التاريخ الكبير»: (6/ 301)، وقال في (1/ 250) عنه: مرسل.

(1/526)


وأما قول أبي داود: إنه أصحّ من حديث ابن جُرَيج, فلأنّ ابنَ جُريج رواه عن بعض بني رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن عكرمة، عن ابن عباس, ولأبي رافع بنون ليس فيهم من يحتجُّ به إلا عبيد الله بن رافع, ولا نعلم هل هو هذا أو غيره؟ فلهذا ــ والله أعلم ــ رجَّح أبو داود حديثَ نافع بن عُجَير عليه. ولكن قد رواه الإمام أحمد في «مسنده» (1) من حديث ابن إسحاق، حدثني داود بن الحُصَين، عن عكرمة، عن ابن عباس. وهذا أصح من حديث نافع بن عُجَير, ومن حديث ابن جُريج. وقد صحح الإمام أحمد هذا السند في قصة ردِّ زينب ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي العاص بن الربيع (2) , وقال: الصحيح حديث ابن عباس: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ردَّها على أبي العاص بالنكاح الأول». وهو بهذا الإسناد بعينه من رواية ابن إسحاق، عن داود بن الحُصَين، عن عكرمة، عن ابن عباس. وهكذا ذكر الترمذيُّ والدارقطني (3) أن رواية ابن (4) إسحاق هي الصواب. وحكموا له على رواية حجاج بن أرطاة، عن عَمرو بن شُعيب، _________ (1) (2387). (2) أخرجه أبو داود (2240)، وأحمد (1876)، والترمذي (1143) وغيرهم لكن رواية داود بن حصين عن عكرمة مضطربة، قال ابن المديني: ما روي عن عكرمة فمنكر الحديث، وقال أبو داود: أحاديثه عن عكرمة مناكير. ينظر «تهذيب الكمال»: (8/ 380 - 381). (3) أخرجه الترمذي (1143)، والدارقطني (3625، 3626). (4) تصحف في الأصل و (هـ، ش) هنا وفي الموضع قبله إلى «أبي»!

(1/527)


عن أبيه، عن جده: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ردَّها عليه بنكاح جديد». وحجاجُ بن أرطاة أعرف من نافع بن عُجَير ومَن معه. وبالجملة فأبو داود لم يتعرَّض لحديث محمد بن إسحاق ولا ذَكَره. والله أعلم. 176/ 2114 - وعن طاوس: «أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم إنما كانت الثلاث تُجعل واحدة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، وثلاثًا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: نعم». وأخرجه مسلم والنسائي (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: قال البيهقي (2): هذا الحديث أحد ما اختلف فيه البخاري ومسلم, فأخرجه مسلم وتركه البخاري, وأظنه إنما تركه لمخالفته سائر الروايات عن ابن عباس ــ وساق الروايات عنه ــ ثم قال: فهذه رواية سعيد بن جُبَير وعطاء بن أبي رَباح ومجاهد وعكرمة وعَمرو بن دينار ومالك بن الحارث ومحمد بن إياس بن البكير, ورُوِّيناه عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري, كلهم عن ابن عباس: أنه أجاز الثلاثَ وأمضاهنّ. قال ابنُ المنذر: فغيرُ جائزٍ أن نظنّ بابن عباس أنه يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا, ثم يفتي بخلافه. وقال الشافعي (3): فإن كان معنى (4) قول ابن عباس: «إن الثلاث كانت _________ (1) أخرجه أبو داود (2200)، ومسلم (1472/ 16)، والنسائي في «الكبرى» (5569)، وأحمد (2875). (2) في «الكبرى»: (7/ 337)، وينظر «معرفة السنن والآثار»: (5/ 463). (3) في «اختلاف الحديث ــ آخر الأم»: (10/ 257). ونقله البيهقي في كتابيه «السنن» و «المعرفة». (4) في الأصل: «يعني» والمثبت من كتاب الشافعي وما نقله البيهقي.

(1/528)


تُحْتَسب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدة» يعني أنه بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالذي يشبه ــ والله أعلم ــ أن يكون ابن عباس قد علم أن كان شيء فنُسِخ. قال البيهقي (1): ورواية عكرمة، عن ابن عباس فيها تأكيد لصحَّة هذا التأويل. يريد البيهقيُّ الحديثَ الذي ذكره أبو داود في باب نسخ المراجعة وقد تقدم. وقال أبو العباس بن سُرَيج (2): يمكن أن يكون ذلك إنما جاء في نوعٍ خاصّ من الطلاق الثلاث, وهو أن يفرّق بين اللفظ كأنْ يقول: أنتِ طالق, أنت طالق, أنت طالق. وكان في عهد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -,وعهد أبي بكر والناسُ على صِدْقهم وسلامتهم, لم يكن ظهر فيهم الخِبّ والخداع, فكانوا يُصَدَّقون أنهم أرادوا به التوكيد, ولا يريدون الثلاث. ولما رأى عمر - رضي الله عنه - في زمانه أمورًا ظهرت وأحوالًا تغيَّرت، منع مِن حَمْل اللفظ على التكرار, فألزمَهم الثلاثَ. وقال بعضهم: إن ذلك إنما جاء في غير المدخول بها. وذهب إلى هذا جماعة من أصحاب ابن عباس, ورأوا أن الثلاث لا تقع على غير المدخول بها, لأنها بالواحدة تَبِيْن, فإذا قال: أنتِ طالق بانت, وقوله: «ثلاثًا» وقع بعد البينونة فلا يعتدّ به، وهذا مذهب إسحاق بن راهويه (3). _________ (1) «الكبرى»: (7/ 338). (2) ينظر لكلام ابن سُريج: «معالم السنن»: (2/ 650) للخطابي. وتصحف فيه إلى «ابن شريح». (3) ينظر «مسائل الكوسج»: (4/ 1774 - 1775).

(1/529)


وقال بعضهم: قد ثبتَ عن فاطمة بنت قيس أن أبا حفص بن المغيرة طلقها ثلاثًا، فأبانها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ولم يجعل لها نفقةً ولا سُكْنى (1). وفي حديث ابن عمر: أنه قال: يا رسول الله, أرأيتَ لو طلقتها ثلاثًا؟ قال: «إذن عصيتَ ربَّك وبانت منك امرأتُك». رواه الدارقطني (2). وعن عليٍّ قال: سمع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رجلًا طلَّق امرأتَه البتة، فغضب وقال: «يتخذون آيات الله هزوًا؟ مَن طلَّق البتة ألزمناه ثلاثًا لا تحلّ له حتى تنكح زوجًا غيره». رواه الدارقطني (3) أيضًا. قالوا: وهذه الأحاديث أكثر وأشهر من حديث أبي الصهباء, وقد عمل بها الأئمة, فالأَخْذ بها أولى. وقال بعضهم: المراد أنه كان المعتاد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - تطليقة واحدة, وقد اعتاد الناسُ الآن التطليق الثلاث, والمعنى: كان الطلاق المُوقَع الآن ثلاثًا يوقَع في عهد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر واحدة. وقال بعضهم: ليس في هذا الحديث أن ذلك كان يبلغ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -,فيُقِرُّ عليه, والحجة إنما هي في إقراره بعد بلوغه. ولمَّا بلغه طلاقُ رُكَانة امرأتَه البتة استحلفه: ما أردْتَ بها إلا واحدةً؟ (4) ولو كانت الثلاثُ واحدةً [ق 102] لم يكن لاستحلافه معنى، فإنها واحدة, سواء أراد بها الثلاث أو الواحدة. _________ (1) أخرجه مسلم (1480)، وأبو داود (2288)، والترمذي (1215) وغيرهم من حديث فاطمة بنت قيس - رضي الله عنها -. (2) (3967). وضعَّفه البيهقي: (7/ 330). (3) (3945) وضعَّفه، وفيه زيادة «أو دين الله هزوًا ولعبًا». (4) تقدم تخريجه.

(1/530)


وقال بعضهم: الإجماع منعقدٌ على خلاف هذا الحديث, والإجماعُ معصومٌ من الغلط والخطأ, دون خبر الواحد. وقال بعضهم: إنما هذا في طلاق البتة. فإنها كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يراد بها الواحدة, كما أراد بها رُكَانة, ثم تتايع (1) الناسُ فيها، فأرادوا بها الثلاث، فألزمهم عُمر إيّاها. فهذه عشرة مسالك للناس في ردِّ هذا الحديث (2). وقال أبو بكر بن عربي (3) المُعَافري في كتابه «الناسخ والمنسوخ» (4): «(غائلة) قال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229]: زلَّ قومٌ في آخر الزمان فقالوا: إن الطلاق الثلاث في كلمة لا يلزم، وجعلوه واحدة, ونسبوه إلى السلف الأول, فحكوه عن عليٍّ والزبير وعبدالرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عباس, وعزوه إلى الحجَّاج بن أرطاة الضعيف المنزلة, المغموز (5) المرتبة, ورووا في ذلك حديثًا ليس له أصل. وغوى قومٌ مِن أهل المسائل، فتتبعوا الأهواءَ المبتدعةَ فيه, وقالوا: إن _________ (1) الأصل والمطبوعات: «تتابع» والظاهر ما أثبت، وقد مضى التعليق على مثل هذه الكلمة فيما سلف فلا نعيده. (2) وانظر في نقد هذه المسالك «زاد المعاد»: (5/ 242 - 248) ووصفها بأنها مسالك وعرة لا يصح منها شيء. (3) كذا في الأصل و (ش)، وغيّرت في الطبعتين إلى «العربي». (4) (2/ 77 - 91) والنص إلى آخر هذا المبحث منه. (5) في الأصل غير معجمة، وفي ط. المعارف: «المغمور» وما أثبته مناسب للسياق، والمعنى أنه متكلّم فيه من قبل حفظه، ومرتبته في الثقة مغموزة.

(1/531)


قوله: «أنت طالق ثلاثًا» كذب, لأنه لم يُطلّق ثلاثًا, كما لو قال: «طلقت ثلاثًا» , ولم يطلِّق إلا واحدة, وكما لو قال: «أحلف ثلاثًا» , كانت يمينًا واحدة. (منبهة): لقد طوَّفتُ في الآفاق, ولقيتُ من علماء الإسلام وأرباب المذاهب كلَّ صفّاق (1)، فما سمعتُ لهذه المقالة بخبر, ولا حَسِسْتُ لها بأثر (2) , إلا الشيعة الذين يرون نكاح المتعة جائزًا ولا يرون الطلاق واقعًا. ولذلك قال فيهم ابن سُكّرة الهاشمي (3): يا مَن يرى المتعةَ في دينه ... حلًّا (4) , وإن كانَتْ بلا مهر ولا يرى سبعين تطليقة ... تَبِينُ منه رَبَّةُ الخِدْر من ها هنا طابت مواليدُكم ... فاغتنموها يا بني النظر (5) وقد اتفق علماء الإسلام, وأرباب الحلِّ والعقد في الأحكام, على أن الطلاق الثلاث في كلمة ــ وإن كان حرامًا في قول بعضهم, وبدعةً في قول الآخرين ــ لازمٌ, وأين هؤلاء البؤساء من عالم الدين, وعَلَم الإسلام _________ (1) ط. الفقي: «صادق» تصحيف، وفي «الناسخ»: «صفّاق آفاق». (2) كذا قال ابن العربي, مع أنه حكى قبل قليل عددًا ممن قال بها, وقد جمع د. سليمان العمير من قال بها في جزء مفرد بعنوان «تسمية المفتين بأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة»، فبلغوا إلى عصر ابن العربي اثنين وعشرين عالمًا. (3) هو أبو الحسن محمد بن عبد الله بن سكّرة الهاشمي (ت 385)، ترجمته في «تاريخ بغداد»: (5/ 465 - 466) و «تاريخ الإسلام»: (16/ 583). وله ديوان شعر كبير. (4) في «الناسخ»: «حلالًا». (5) كذا في الأصل و (ش)، وفي «الناسخ»: «صخر».

(1/532)


محمد بن إسماعيل البخاري, وقد قال في «صحيحه» (1): باب جواز الثلاث لقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}، وذَكَر حديث اللعان: «فطلَّقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (2). ولم يغيِّر عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا يُقَرُّ على الباطل, ولأنه جَمَع ما فُسِح له في تفريقه فألزمته الشريعةُ حكمَه. وما نسبوه إلى الصحابة كذبٌ بحت لا أصل له في كتاب, ولا رواية له عن أحد. وقد أدخل مالكٌ في «موطئه» (3) عن علي: «أن الحرام ثلاث لازمة في كلمة» فهذا في معناها، فكيف إذا صرَّح بها؟! وأما حديث الحجاج بن أرطاة فغير مقبول في المِلّة, ولا عند أحدٍ من الأئمة. فإن قيل: ففي «صحيح مسلم» (4) عن ابن عباس ــ وذكر حديث أبي الصهباء هذا. قلنا: هذا لا متعلَّق فيه من خمسة أوجه: الأول: أنه حديث مختلَفٌ في صحته, فكيف يقدَّم على إجماع الأمة؟ ولم يُعرَف في هذه المسألة خلافٌ إلا عن قوم انحطُّوا عن رتبة التابعين, وقد _________ (1) (7/ 42) والباب فيه: «باب من أجاز طلاق الثلاث». (2) (5259)، وأخرجه مسلم (1492). (3) (1586). وينظر «الاستذكار» (6/ 17). (4) (1472/ 16).

(1/533)


سبق العصران الكريمان والاتفاق (1) على لزوم الثلاث, فإن رووا ذلك عن أحدٍ منهم فلا تقبلوا منهم إلا ما يقبلون منكم, فِعْل (2) العَدْل عن العَدْل, ولا تجد هذه المسألة منسوبةً إلى أحدٍ من السلف أبدًا. الثاني: أن هذا الحديث لم يُرْو إلا عن ابن عباس, ولم يُرو عنه إلا من طريق طاوس. فكيف يُقبل ما لم يروه من الصحابة إلا واحد, وما لم يروه عن ذلك الصحابي إلا واحد؟ وكيف خفي هذا عن جميع الصحابة وسكتوا عنه إلا ابن عباس؟ وكيف خفي على جميع أصحاب ابن عباس إلا طاوس؟! الثالث: يحتمل أن يُرَاد به قبل الدخول. وكذلك تأوَّله النسائيُّ, فقال (3): باب طلاق الثلاث المتفرِّقة قبل الدخول بالزوجة. وذَكَر هذا الحديث بنصِّه (4). الرابع: أنه يعارضه حديث محمود بن لَبِيد, قال: أُخْبِر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجلٍ طلَّق امرأتَه ثلاث تطليقات جميعًا, فقام غضبان, ثم قال: «أيُلْعَب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟» حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله؟ رواه النسائي (5). فلم يردّه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بل أمضاه, وكما في حديث عُوَيمر في اللعان حيث _________ (1) في «الناسخ»: «والإصفاق». (2) ط. الفقي: «نقل»، وفي الأصل محررة كما أثبتنا. (3) (6/ 145). (4) (3406). (5) (3401).

(1/534)


أمضى طلاقَه الثلاث ولم يردّه (1). الخامس: وهو قويٌّ في النظر والتأويل, أنه قال: «كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدة» , يحتمل أن يريد به: كان حكم الثلاث إذا وقعَتْ أن تُجْعَل واحدة، وأن يريد به: كانت عبارة الثلاث على عهده أن تُذْكَر واحدة، فلما تتايع الناسُ في الطلاق وذكروا الثلاثَ بدل الواحدةَ، أمضى ذلك عمر كما أمضاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على عويمر حين طلَّق ثلاثًا. فلا يبقى في المسألة إشكال. فهذا أقصى ما يُرَدُّ به هذا الحديث (2).

  8 - باب في أمرك بِيَدِك

177/ 2118 - عن حماد بن زيد قال: «قلت لأيوب: هل تعلم أحدًا قال بقول الحسن في «أَمْرُكِ بِيَدِكِ»؟ قال: لا، إلا شيء حدثناه قَتادة، عن كثير مولى ابن سَمُرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوه، قال أيوب: فقدم علينا كثير، فسألته؟ فقال: ما حدثتُ بهذا قط، فذكرته لقتادة؟ فقال: بلى، ولكنه نَسي». وأخرجه الترمذي والنسائي (3). وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث سليمان بن حرب، وذكر [عن] البخاري أنه قال: إنما هو عن أبي هريرة موقوف، ولم يعرف حديث أبي هريرة مرفوعًا. وقال النسائي (4): هذا حديث منكر. _________ (1) تقدم تخريجه. (2) والأجوبة عن هذه الاعتراضات ذكرها المؤلف في «زاد المعاد»: (5/ 241 - 271)، و «أعلام الموقعين»: (3/ 469، 4/ 212)، و «إغاثة اللهفان»: (1/ 512 - 541). (3) أخرجه أبو داود (2204)، والترمذي (1178)، والنسائي في «المجتبى» (3410) وفي «الكبرى» (5573) من طريق سليمان بن حرب عن حماد بن زيد به. (4) في «المجتبى».

(1/535)


قال ابن القيم - رحمه الله -: هكذا وقع في «السنن» (1) لأبي داود, ولم يفسَّر قول الحسن في حديثه. ورواه الترمذي (2) [ق 103] مفسَّرًا عن حماد بن زيد قال: قلت لأيوب: هل علمتَ أحدًا قال: أمرك بيدك ثلاثًا (3) إلا الحسن؟ قال: لا, ثم قال: اللهم غَفْرًا, إلا ما حدثني قَتادةُ، عن كثير مولى بني سمرة، عن أبي سَلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاث». ثم ذكر الترمذيُّ عن البخاري إنما هو موقوف. قال أبو محمد بن حزم (4): وكثير مولى بني سلمة مجهول، وعن الحسن في «أمرك بيدك» قال: «ثلاث» (5).

  9 - باب في البتة

178/ 2121 - وعن عبد الله بن علي بن يزيد بن رُكانة، عن أبيه، عن جده: أنه طلَّقَ امرأتَه البتةَ، فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما أردتُ إلا واحدة، قال: «آللهِ؟»، قال: آلله، قال: «هو على ما أردْتَ». وأخرجه الترمذي وابن ماجه (6). وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وسألت محمدًا ــ يعني البخاري ــ عن هذا الحديث؟ فقال: فيه اضطراب. وذكر الترمذي أيضًا عن البخاري أنه مضطرب فيه: تارة قيل فيه: ثلاثًا، وتارة قيل فيه: _________ (1) (2204). (2) (1178). (3) الأصل و (ش): «ثلاث» والوجه ما أثبت. (4) في «المحلى»: (10/ 119). (5) أخرجه أبو داود (2205). (6) أخرجه أبو داود (2208)، والترمذي (1177)، وابن ماجه (2051).

(1/536)


واحدة. وأصحه: أنه طلقها البتة، وأن الثلاث ذُكرت فيه على المعنى. وقال أبو داود: حديث نافع بن عجير حديث صحيح. وفيما قاله نظر، فقد تقدم عن الإمام أحمد أن طرقه ضعيفة، وضعَّفه أيضًا البخاري وقد وقع الاضطراب في إسناده ومتنه. قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي «تاريخ البخاري» (1): عليّ بن يزيد بن رُكانة القرشي عن أبيه, لم يصح حديثه. هذا لفظه. وقال عبد الحق (2) في سنده: كُلُّهم ضعيف, والزبير أضعفهم. وذكر الترمذيُّ في «كتاب العلل» (3) عن البخاري أنه مضطرب فيه؛ تارةً قيل فيه: «ثلاثًا» وتارة قيل فيه: «واحدة». ثم ذكر الشيخُ (4) كلامَ الحافظ المنذري (5) واعتراضَه على أبي داود في تصحيحه. ثم قال الشيخ: وفيما قاله المنذري نظر, فإن أبا داود (6) لم يحكم بصحته, وإنما قال بعد روايته: «هذا أصحُّ من حديث ابن جريج أنه طلّق امرأتَه ثلاثًا, لأنهم أهل بيته وهم أعلم بقصتهم وحديثهم». وهذا لا يدل على أن الحديثَ عنده صحيح، فإن حديث ابنِ جُرَيج ضعيف، وهذا ضعيف _________ (1) (6/ 301). (2) في «الأحكام الوسطى»: (3/ 196). (3) (1/ 461). (4) أي ابن القيم، والكلام هنا للمجرّد. (5) سقنا كلام المنذري كاملًا بعد حديث الباب. (6) في «السنن»: (3/ 531 - ط. الرسالة).

(1/537)


أيضًا, فهو أصح الضعيفين عنده, وكثيرًا ما يُطْلِق أهلُ الحديث هذه العبارة على أرجح الحديثين الضعيفين، وهو كثير في كلام المتقدمين. ولو لم يكن اصطلاحًا لهم لم تدلّ اللغةُ على إطلاق الصحة عليه, فإنك تقول لأحد المريضين: «هذا أصح من هذا» , ولا يدل على أنه صحيح مطلقًا. والله أعلم.

  10 - باب الرجل يقول لامرأته: يا أُختي

179/ 2125 - وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أن إبراهيم عليه السلام لم يكذب قطُّ إلا ثلاث كذبات: ثنتان في ذاتِ الله تعالى: قوله {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 98]، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، وبينما هو يسير في أرض جبَّار من الجبابرة، إذ نزل منزلًا، فأُتيَ الجبار، فقيل له: إنه نزل ههنا رجل معه امرأةٌ هي أحسنُ الناس، قال: فأرسل إليه، فسأله عنها؟ فقال: إنها أختي، فلما رجع إليها قال: إن هذا سألني عنكِ، فأنبأته أنكِ أختي، وإنه ليس اليومَ مسلمٌ غيري وغيرك، وإنكِ أختي في كتاب الله، فلا تُكذِّبيني عنده ــ وساق الحديث». وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وفيه دليلٌ على أنّ مَن قال لامرأته: إنها أختي أو أمِّي على سبيل الكرامة والتوقير لا يكون مُظاهِرًا. وعلى هذا فإذا قال لعبده: «هو حرّ»، يعني أنه ليس بفاجر لم يُعْتَق، وهذا هو الصواب الذي لا ينبغي أن يُفْتَى بخلافه, فإن السيد إذا قيل له: «عبدك فاجر زان»، فقال: «ما هو إلا _________ (1) أخرجه أبو داود (2212)، والبخاري (3358)، ومسلم (2371)، والترمذي (3166)، والنسائي في «الكبرى» (8315).

(1/538)


حرٌّ» , قطَعَ سامعُه أنه إنما أراد العفّة لا العتق (1). وكذلك إذا قيل له: «جاريتك تبغي» , فقال: «إنما هي حُرّة». وسَمَّى هذه كذبات (2) لأنها تورية. وقد أشكل على الناس تسميتها كذبًا, لكون المتكلِّم إنما أراد بلفظه المعنى الذي قصدَه, فكيف يكون كذبًا؟ والتحقيقُ في ذلك: أنها كذب بالنسبة إلى إفهام المخاطَب، لا بالنسبة إلى عناية المتكلم, فإن الكلامَ له نسبتان: نسبة إلى المتكلِّم ونسبة إلى المخاطَب, فلما أراد الموَرِّي أن يُفْهِم المخاطَبَ خلافَ ما قصدَه بلفظِه, أُطْلِق الكذبُ عليه بهذا الاعتبار, وإن كان المتكلِّم صادقًا باعتبار قصده ومراده.

  11 - باب في عِدّة المختلعة (3)

180/ 2137 - وعن ابن عباس: «أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عِدَّتها حَيْضَةً» (4). وذكر أنه رُوي مرسلًا. وأخرجه الترمذي مسندًا. وقال: هذا حديث حسن _________ (1) ط. الفقي: «الصفة لا العين» بدلًا من «العفة لا العتق»! (2) ط. الفقي: «وسمّي قول إبراهيم هذا كذبًا ... » وفيه تصرّف وإضافة بلا داعٍ، وبدون إشارة! (3) في «المختصر» و «السنن»: «باب في الخلع». وهذا الباب مكانه في مطبوعة «المختصر» و «السنن» (2/ 667): بعد (باب الظهار). فأبقيناه كما في الأصل و (هـ، ش). (4) أخرجه أبو داود (2229)، والترمذي (1222).

(1/539)


غريب. وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم: عدة المختلعة حيضة، قال إسحاق: وإن ذهب ذاهب إلى هذا فهو مذهب قويّ. وذكر غيره: أنه أدلُّ شيء على أن الخلع فسخ وليس بطلاق، وذلك أن الله سبحانه قال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فلو كانت هذه مطلّقة لم يقتصر لها على حيضة واحدة. قال ابن القيم - رحمه الله -: وروى النسائيُّ (1) حديثَ امرأة ثابت بن قيس موصولًا مطوَّلًا عن الرُّبَيّع بنت معوِّذ: «أن ثابت بن قيس بن شمَّاس ضربَ امرأتَه, فكسر يدَها, وهي جميلة بنت عبد الله بن أُبيّ, فأتى أخوها يشتكيه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأرسلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ثابت, فقال له: «خذ الذي لها عليك, وخلِّ سبيلَها»، قال: نعم, فأمرها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن تتربَّصَ حيضةً واحدة, وتلحق بأهلها. قال الترمذي في «جامعه» (2): «الصحيح في حديث الرُّبَيّع: أنها أُمِرَت أن تعتدّ بحيضة. وهذا مرفوع, وقد صرَّح في الرواية الأخرى: أن الذي أمرها بذلك هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم ذكر الترمذيُّ (3) حديثَ ابن عباس: «أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تعتدَّ بحيضة» وقال: هذا حديث حسن غريب. _________ (1) (3497)، وفي «الكبرى» (5661)، وأخرجه الترمذي (1185) وسنده صحيح. (2) (3/ 483) عقب حديث رقم (1185). (3) (1185).

(1/540)


والمعروف عن إسحاق (1): أن عدتها حيضة, وهي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد, نقلها عنه [ابن] (2) القاسم, وهو قول عثمان بن عفان، وعبد الله بن عباس. وعن ابن عمر روايتان: إحداهما: أن عدتها عدة المطلقة, ذكره مالك في «الموطأ» (3) عن نافع عنه. والثانية: حيضة, نقلها ابن المنذر (4) عنه، وهي رواية القعنبي عنه. قال أبو داود (5): حدثنا القعنبي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: «عدة المختلعة حيضة». واختار ابن المنذر أن عدتها حيضة. وقد ذكر الله تعالى في آية الطلاق له ثلاثة أحكام: أحدها: أن التربص فيه ثلاثة قروء. الثاني: أنه مرّتان. الثالث: أن الزوج أحقّ بردِّ امرأتِه في المرّتين. فالخُلْع ليس بداخل في الحكم الثالث اتفاقًا, وقد دلت السنةُ أنه ليس _________ (1) الذي في «مسائل الكوسج» (4/ 1602 - 1603) أن عدتها عدة المطلّقة، لكنه قال: إن الذين قالوا تعتد بحيضة على ما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة ثابت بن قيس مذهب قوي، وحكاه عنه الترمذي في «جامعه»: (3/ 483). (2) رسمها في الأصل: «أبو»، والتصويب من «المغني»: (11/ 195). ومن أصحاب الإمام ممن يكنى أبا القاسم: إسماعيل بن عبد الله بن ميمون أبو القاسم العجلي، نقل عنه أشياء. ينظر «طبقات الحنابلة»: (1/ 275 - 276)، ومنهم جعفر بن محمد أبو القاسم الوراق المؤدّب (ت 283). ينظر «الطبقات»: (1/ 340 - 341). (3) (1638). (4) في «الإشراف»: (4/ 288). (5) (2230).

(1/541)


داخلًا في الحكم الأول, وذلك يدلُّ على عدم دخوله في حكم العدد, فيكون فسخًا. وهذا من أحسن ما يُحتجُّ به على ذلك.

  12 - بابٌ في الظِّهار

181/ 1126 - عن سليمان بن يسار، عن سَلَمة بن صَخْر البَياضي، قال: «كنتُ امرأً أصيبُ من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل شهر رمضان خِفْتُ أن أصيب من امرأتي شيئًا يَتَّايَعُ بي حتى أصبح، فظاهَرْتُ منها حتى ينسلخَ شهر رمضان، فبينا هي تخدِمُني ذات ليلة، إذ تكشَّفَ لي منها شيء، فلم ألْبَثْ أن نَزَوْتُ عليها، فلما أصبحتُ خرجت إلى قومي، فأخبرتهم الخبر، وقلت: امشوا معي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: لا والله، فانطلقتُ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فقال: أنتَ بذاكَ يا سلمة؟ قلت: أنا بذاك يا رسول الله، مرتين، وأنا صابر لأمر الله عز وجل، فاحكم فيَّ ما أراك الله، قال: «حَرِّرْ رقبةً»، قلت: والذي بعثك بالحقّ ما أملك رقبةً غيرها، وضربتُ صُفْحَةَ رقبتي، قال: «فصُمْ شَهرين مُتَتَابعين»، قال: وهل أصبتُ الذي أصبتُ إلا من الصيام؟ قال: «فأطْعِمْ وَسْقًا من تَمْرٍ بين ستين مسكينًا»، قلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا وَحْشَيْن ما لنا طعام، قال: «فَانْطَلِق إلى صاحب صدقةِ بني زُرَيق، فليدفعها إليك، فأطعم ستين مسكينًا وَسْقًا من تمر، وكُلْ أنتَ وعيالُك بقيَّتها». فرجعتُ إلى قومي، فقلت: وجدتُ عندكم الضيقَ وسُوء الرأي، ووجدتُ عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - السَّعَةَ وحُسنَ الرأي، وقد أمرني، أو أمر لي بصدقتكم». وأخرجه الترمذي وابن ماجه (1). وقال الترمذي: وهذا حديث حسن. وقال _________ (1) أخرجه أبو داود (2213)، والترمذي (1198، 3299)، وابن ماجه (2062)، وأحمد (16421)، وابن خزيمة (2378)، والحاكم: (2/ 204) وغيرهم من طرق عن محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سليمان بن يسار. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وفيه نظر، وانظر «البدر المنير»: (8/ 153 - 155).

(1/542)


محمد ــ يعني البخاري ــ: سليمانُ بن يَسار لم يسمع عندي من سلمة بن صَخْر. وقال البخاري أيضًا: هو مرسل، سليمانُ بن يَسار لم يدرك سلمةَ بن صخر. هذا آخر كلامه. وفي إسناده محمد بن إسحاق، وقد تقدم الكلام عليه. قال ابن القيم - رحمه الله -: [ق 104] قد ورد في هذه الكفارة «أنه أمره بإطعام وَسْق, والوَسْق ستون صاعًا»، وهو أكثر ما قيل فيه, وذهب إليه سفيانُ الثوريُّ وأصحابُ الرأي, مع قولهم: إن الصاع ثمانية أرطال بالعراقي. وورد فيها: أنه أمر امرأة أوس بن الصامت أن تكفر عنه بالعَرَق الذي دفعه إليها, والعَرَق الذي أعانَتْه به (1). واخْتُلِف في مقدار ذلك العَرَق: فقيل: ستون صاعًا, وهو وهم, وقيل: ثلاثون, هو الذي رجَّحه أبو داود, على حديث يحيى بن آدم, وقيل: خمسة عشر, فيكون العرقان ثلاثين صاعًا, لكلّ مسكين نصف صاع, وإلى هذا ذهبَ الإمام أحمد ومالك. وفي الرواية الأخرى: أن التمر الذي أمره أن يتصدق به كان زنبيلًا (2) مِن خمسة عشر صاعًا, وإلى هذا ذهب الشافعيُّ وعطاء والأوزاعي، ورُوي عن أبي هريرة، فيكون لكلِّ مسكين مُدّ, وهو مقدار سُدُس (3) ما يوجبه أهلُ الرأي, فإنهم يوجبون صاعًا, وهو ثمانية أرطال, فيوجبون زيادةً على ما يُوجبه هؤلاء ستّ مرات. _________ (1) أخرجه أبو داود (2214، 2215). (2) ط. الفقي: «قريبًا» تصحيف. (3) ط. الفقي بدل قوله «سدس»: «لا شيء بالنسبة إلى»! وهو تصرّف لا معنى له، ودون إشارة.

(1/543)


وأخذ الشافعيُّ ذلك من حديث المجامع في رمضان, فإن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتي بعَرَق فيه خمسة عشر صاعًا, فقال: «خذه وتصدَّق به» , وسيأتي إن شاء الله (1). ثم اختلفوا في البُرِّ: هل هو على النصف من ذلك أم هو وغيره سواء؟ فقال الشافعيُّ: مُدّ من الجميع, وقال مالك: مُدّان من الجميع, وقال أحمد وأبو حنيفة: البرّ على النصف من غيره, على أصلهما, فعند أحمد مُدّ مِن بُرّ أو نصف صاع من غيره, وعند أبي حنيفة مُدّان مِن بُرّ, أو نصف صاع من غيره على اختلافهما في الصاع.

  13 - باب في المملوكة تحت الحرّ أو العبد (2)

182/ 2140 - وعن ابن عباس: «أن زوج بَريرة كان عبدًا أسود، يسمى مُغيثًا، فَخَيَّرَها ــ يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - ــ وأمرها أن تَعْتَدَّ». وأخرجه البخاري مختصرًا. وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه بمعناه (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: هكذا الرواية فيه (4): «وأمَرَها أن تعتدّ»، وزاد الدارقطني (5): «عدّة الحُرّة». ولعله مدرج من تفسير بعض الرواة. _________ (1) يعني عند أبي داود (2392) وعنده: «خذ هذا فتصدق به». (2) في «المختصر» و «السنن»: «باب في المملوكة تعتق وهي تحت حُرّ أو عبد». (3) أخرجه أبو داود (2232)، والبخاري (5282)، والترمذي (1155)، والنسائي (5417)، وابن ماجه (2075). (4) أي عند أبي داود (2232). (5) (3777).

(1/544)


وقد روى ابن ماجه في «سننه» (1): أخبرنا عليّ بن محمد، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: «أُمِرَت بريرةُ أن تعتدّ بثلاث حِيَض». وهذا مع أنه إسناد «الصحيحين» , فلم يروه أحدٌ من أهل الكتب الستة إلا ابن ماجه, ويبعد أن تكون الثلاث حِيَض محفوظة فيه. فإن مذهب عائشة: أن الأقراءَ الأطهارُ (2) , وقد أمرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المختلعةَ أن تستبرئ بحيضة كما تقدم, فهذه أولى, ولأن الأقراء الثلاثة إنما جُعِلَت في حقِّ المطلَّقة ليطول زمنُ الرجعة, فيتمكّن زوجُها مِن رَجْعتها متى شاء, ثم أُجْرِي الطلاقُ كلُّه مجرًى واحدًا. وطَرْد هذا: أن المَزْنيّ بها تُسْتبرأ بحيضة, وقد نصّ عليه أحمد (3). وبالجملة: فالأمر بالتربُّص ثلاثة قروء إنما هو للمطلَّقة. والمُعْتَقَةُ إذا فَسَخت فهي بالمختلعة والأمةِ المستبرأةِ أَشْبَه, إذ المقصود براءة رحمها, فالاستدلال على تعدُّد الأقراء في حقِّها بالآية غير صحيح, لأنها ليست مطلَّقة, ولو كانت مطلَّقةً لثبت لزوجها عليها الرجعة. وأما الأحاديث في هذه اللفظة ففي صحتها نظر. وحديثُ الدارقطني المعروفُ أن الحسن رواه مرسلًا: «أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بريرة أن تعتدّ عِدّة الحُرّة» (4) _________ (1) (2077). (2) أخرجه ابن جرير: (4/ 95 - 97)، وينظر «تفسير القرطبي»: (3/ 113)، و «زاد المعاد»: (5/ 611 - 612). (3) ينظر «المغني»: (11/ 196). (4) رواه ابن أبي شيبة (19113).

(1/545)


ورواه البيهقي في «سننه» (1) من حديث عكرمة عن ابن عباس. وفيه وجه رابع: وهو أنه جعل عدَّتها عدةَ المطلَّقة, رواه البيهقي (2) من حديث أبي مَعْشَر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. ورواه أبو يعلى الموصلي (3)، عن محمد بن بكّار، عن أبي مَعْشَر. فهذه أربعة أوجه: أحدها: أن تعتدّ. الثاني: عِدّة الحُرّة. الثالث: عِدّة المطلقة. الرابع: بثلاث حِيَض.

  14 - باب في المملوكين يُعْتَقان معًا (4)

183/ 2145 - عن عائشة: أنها أرادت أن تعتق مملوكين لها، زوجٌ، قال: فسألتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك؟ فأمرها أن تبدأ بالرجل قبل المرأة. وأخرجه النسائي وابن ماجه (5). وفي إسناده عبد الله بن عبد الرحمن بن مَوْهَب، وقد ضعّفه يحيى بن معين، وقال مرة: ثقة. وقال النسائي: ليس بذاك القوي. قال ابن القيم - رحمه الله -: واستدلَّ به من يقول: إن التخيير إنما يكون للمعتَقَة تحت عبدٍ, ولو كان لها خيار إذا كانت تحت حرٍّ لم يكن لتقديم عتق الزوج عليها معنى ولا فائدة. وفيه نظر. _________ (1) (7/ 451). (2) (7/ 451). (3) (8/ 319). (4) في «المختصر» و «السنن» زيادة: «هل تُخيّر امرأته». (5) أخرجه أبو داود (2237)، والنسائي في «الكبرى» (4915)، وابن ماجه (2532)، وصححه ابن حبان (4311).

(1/546)


 15 - بابٌ إلى متى تُرَدّ عليه امرأتُه إذا أسلم (1)

184/ 2148 - عن ابن عباس قال: رَدَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنَتَهُ زينبَ على أبي العاص بالنكاح الأول، لم يُحدِث شيئًا ــ قال محمد بن عمرو في حديثه: بعد ستّ سنين، وقال الحسن بن علي: بعد سنتين. وأخرجه الترمذي وابن ماجه (2). وفي حديث الترمذي: «بعد ست سنين». وفي حديث ابن ماجه: «بعد سنتين». وقال الترمذي: ليس بإسناده بأس، ولكن لا يُعرف وجه هذا الحديث، ولعله قد جاء هذا من قِبَل داود بن الحصين، مِن قِبَل حفظه. وحكي عن يزيد بن هارون أنه ذكر حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ردَّ ابنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد»، وقال (3): حديث ابن عباس أجود إسنادًا، والعمل على حديث عمرو بن شعيب. وقال الخطابي: وهذا إن صح فإنه يحتمل أن يكون عدتها قد تطاولت، لاعتراض سبب، حتى بلغت المدة المذكورة في الحديث، إما الطولى منها وإما القصرى، إلا أن حديث داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس نسخه، وقد ضعف أمره عليُّ بن المديني وغيره من علماء الحديث. وقال بعضهم: معناه ردَّها عليه على النكاح الأول، أي على مثل النكاح الأول في الصداق والحباء. لم يحدث زيادة على ذلك من شرط ولا غيره. وقال البخاري: حديث ابن عباس أصح في هذا الباب من حديث عمرو بن شعيب. وقال الدارقطني في حديث عمرو بن شعيب هذا: لا يثبت، والصواب حديث ابن عباس. _________ (1) في «المختصر» و «السنن» زيادة: «بعدها». (2) أخرجه أبو داود (2240)، والترمذي (1143)، وابن ماجه (2008)، وأحمد (2972). (3) يعني يزيد بن هارون.

(1/547)


وقال الخطابي (1): وإنما ضعَّفوا حديث عمرو بن شعيب من قبل الحجاج بن أرطاة، لأنه معروف بالتدليس، وحُكي عن محمد بن عقيل أن يحيى بن سعيد قال: لم يسمعه حجاجٌ من عَمرو. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال الإمام أحمد (2): حديث ابن عباس في هذا أصحّ, قيل له: أليس يروى «أنه ردَّها بنكاحٍ مستأنف (3)»؟ قال: ليس لذلك أصل. وقال ابن عبد البر (4): قصة أبي العاص مع امرأته لا تخلو مِن أن تكون قبل نزول تحريم المسلمات على الكفار, فتكون منسوخةً بما جاء بعدها, أو تكون حاملًا واستمرّ حملُها حتى أسلم زوجها, أو مريضةً لم تحض ثلاث حيضات حتى أسلم, أو تكون رُدّت إليه بنكاح جديد ــ ثم ذكر حديث عمرو بن شعيب ــ تم كلامه. وللناس في حديث ابن عباس عدة طرق: أحدها: ردّه باستمرار العمل على خلافه, قال الترمذي (5): سمعت _________ (1) في «معالم السنن»: (2/ 676). (2) في «العلل»: (1/ 313) لأحمد ذكر هذا الحديث من رواية حجاج عن عمرو بن شعيب، ثم ذكر أنه قرأ في بعض الكتب: عن حجاج عن العرزمي عن عمرو بن شعيب، قال: والعرزمي تركه الناس. (3) رسمها في الأصل و (ش، هـ): «يستأنف» ولعل المثبت أصح، وينظر «المغني»: (10/ 10). (4) في «التمهيد»: (12/ 23 - 24). (5) «الجامع»: (3/ 441).

(1/548)


عَبْدَ بن حُميد يقول: سمعت يزيد بن هارون يقول: حديث ابن عباس أجود إسنادًا, والعملُ على حديث عَمرو بن شعيب. وقال ابن عبد البر (1): لم يختلف العلماء أن بانقضاء العدة ينفسخ النكاح إلا شيء رُوي عن النخعي شَذَّ فيه عن جماعةِ العلماء, فلم يتبعه عليه أحد, زعم أنها تُرَدُّ إلى زوجها, وإن طالت المدة. الثاني: معارضته بحديث عَمرو بن شعيب. الثالث: تضعيف داود بن الحصين عن عكرمة. الرابع: حمله على رَدِّها بنكاح مثل الأول, لم يحدث فيه شيئًا. الخامس: حمله على تطاول زمن العِدّة. السادس: القول بموجَبه, ويُروى عن علي بن أبي طالب، وإبراهيم النخعي وغيرهما (2). السابع: [ق 105] أن تحريم نكاح الكفار إنما كان في سورة الممتحنة: وهي قد نزلت بعد الحديبية, ولم يكن نكاحُ الكافرِ المسلمةَ قبل ذلك حرامًا, ولهذا في قصة الممتحنة لما نزلت: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10] عَمَد عمر إلى امرأتين له فطلقهما. ذكره البخاري (3). فدلّ على _________ (1) في «التمهيد»: (12/ 23). (2) ينظر «التمهيد»: (12/ 23)، و «المغني»: (10/ 10). (3) (2733).

(1/549)


أن التحريم كان من يومئذ. وإذا ثبت هذا فأبو العاص بن الربيع إنما أسلم في زمن الهدنة بعد ما أخذت سرية زيد بن حارثة ما معه, فأتى المدينةَ فأجارته زينب, فأنفذ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جوارها, ودخل عليها فقال: «أي بنيَّة, أكرمي مثواه, ولا يخلُصُ إليك, فإنك لا تحلين له» (1). وكان هذا بعد نزول آية التحريم في الممتحنة. ثم إن أبا العاص رجع إلى مكة, فأدَّى ما كان عنده من بضائع أهل مكة, ثم أسلم, وخرج إلى المدينة، فلم يطل الزمان بين إسلامه ونزول آية التحريم، فردَّها عليه بالنكاح الأول. الثامن: أن حديث ابن عباس في قصته منسوخ, وسلك ذلك الطحاوي (2) , وادَّعى أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -[ردَّها إليه] (3) بعد رجوعه من بدر حين أسِر, وروى في ذلك عن الزهري: «أنه أُخِذ أسيرًا يوم بدر، فأُتيَ به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فردَّ عليه ابنته» , ثم إن الله سبحانه حرم نكاح الكفار في قصة الممتحنة. التاسع: ما حكاه (4) عن بعض أصحابهم في الجمع بين الحديثين، بأن عبد الله بن عَمرو علمَ تحريم نكاح الكافر, فلم يكن ذلك عنده إلا بنكاح جديد، فقال: «ردَّها عليه بنكاح جديد» , ولم يعلم ابنُ عباس بالتحريم, فقال: «ردَّها بالنكاح الأول» , لأنه لم يكن عنده بينهما فسخ نكاح. _________ (1) أخرجه الحاكم: (3/ 236 - 237)، والطبراني في «الكبير»: (22/ 426). (2) في «شرح معاني الآثار»: (3/ 260). (3) زيادة يتم بها السياق. (4) يعني الطحاوي في كتابه السالف: (3/ 256)، وقد حكاه عن محمد بن الحسن الشيباني.

(1/550)


فهذه مجامع طرق الناس في هذا الحديث، أفْسَدُها هذان الأخيران, فإنهما غلط محض, و النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يردَّها على أبي العاص يومَ بدرٍ قطّ، وإنما الحديث في قصة بدر أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أطلقَه وشَرَط عليه أن يردّ عليه ابنته, لأنها كانت بمكة, فلما أُسِر أبو العاص أطلقه بشرط أن يرسلها إلى أبيها, ففعل, ثم أسلم بعد ذلك بزمان في الهدنة. هذا هو المعروف الذي لا يشكُّ فيه من له علم بالمغازي والسير, وما ذكره (1) عن الزهريِّ وقَتادة فمنقطع لا يثبت. وأما المسلك التاسع, فمعاذ الله أن يُظَنّ بالصحابة أنهم يروون أخبارًا عن الشيء الواقع والأمر بخلافه, لظنهم واعتقادهم, وهذا لا يدخله إلا الصدق والكذب, فإنه إخبار عن أمر واقع مشاهَد, هذا يقول: «ردَّها بنكاحٍ جديد» , فهل يسوغ أن يخبر بذلك بناءً على اعتقاده من غير أن يشهدَ القصةَ أو تُروى له؟ وكذا مَن قال: «ردَّها بالنكاح الأول»؟ وكيف يُظنّ بعبد الله بن عَمرو أنه يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عقدَ نكاحٍ لم يثبته ولم يشهده ولا حُكِي له؟! وكيف يُظنّ بابن عباس أن يقول: «ردّها بالنكاح الأول، ولم يُحْدِث شيئًا» , وهو لا يحيط علمًا بذلك؟! ثم كيف يشتبه على مثله نزول آية الممتحنة, وما تضمَّنته من التحريم قبل ردّ زينب على أبي العاص, ولو قُدِّر اشتباهه عليه في زمن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لحداثة سنه, أفترى دام هذا الاشتباه عليه واستمرّ حتى يرويه كبيرًا, وهو شيخ الإسلام؟! ومثل هذه الطرق لا يسلكها الأئمة, ولا يرضَى بها الحُذَّاق. وأما تضعيف حديث داود بن الحُصين عن عكرمة, فمما لا يُلْتَفَتُ إليه. _________ (1) أي الطحاوي.

(1/551)


فإن هذه الترجمة صحيحة عند أئمة الحديث لا مطعَن فيها (1) , وقد صحَّح الإمامُ أحمد والبخاريُّ والناسُ حديثَ ابن عباس, وحكموا له على حديث عَمرو بن شعيب. وأما حَمْلها على تطاول العِدّة فلا يخفى بعدُه. وأما حمله على أنه ردَّها بنكاحٍ جديد مثل الأول, ففي غاية البعد, واللفظُ ينبو عنه. وأما ردّه بكونه خلاف الإجماع ففاسد, إذ ليس في المسألة إجماع, والخلاف فيها أشهر, والحجةُ تفصِلُ بين الناس. فليس القول في الحديث إلا أحد قولين: إما قول إبراهيم النخعي, وإما قول من يقول: إن التحريم لم يكن ثابتًا إلى حين نزول الممتحنة, فكانت الزوجية مستمرة قبل ذلك. فهذان المسلكان أجود ما سُلِك في الحديث. والله أعلم.

  16 - باب فيمن أسلم وعنده نساء أكثر من أربع

185/ 2149 - عن الحارث بن قيس الأسدي - رضي الله عنه - قال: أسلمتُ وعندي ثمانُ نسوة، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اختَرْ منهُنَّ أربعًا». وفي رواية (2): «قيس بن الحارث»، وصوّبه بعضهم. _________ (1) سبق نقل كلام من ضعّفها من الأئمة كعليّ بن المديني وغيره. (2) رواها أبو داود عقب الرواية السابقة (2241) من طريق شيخه أحمد بن إبراهيم الدَّورقي، وذكر أن أحمد بن إبراهيم قال: «هذا الصواب».

(1/552)


وأخرجه ابن ماجه (1). وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقد ضعَّفه غير واحد من الأئمة. وقال أبو القاسم البغوي (2): ولا أعلم للحارث بن قيس حديثًا غير هذا. وقال أبو عمر النمري (3): ليس له إلا حديث واحد، ولم يأت مِن وجه صحيح. وقد أخرج الترمذي وابن ماجه (4) من حديث عبد الله بن عمر: «أن غَيلان بن سلَمة الثقفي أسلم وله عشرُ نسوة في الجاهلية فأسلمن معه، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتخيَّر أربعًا منهن». قال البخاري (5): هذا حديث غير محفوظ. يعني أن الصحيح إرساله، وقد ذكر ذلك وبيَّنه. وقال مسلم بن الحجاج (6): أهل اليمن أعرف بحديث معمر (7)، فإن حدّث به ثقة من غير أهل البصرة صار الحديث حديثًا، وإلا فالإرسال أولى. يعني أن أهل البصرة تفردوا بإسناده، وقد روي الحديث عن غير أهل البصرة موصولًا (8). _________ (1) برقم (1952) من طريق أحمد بن إبراهيم الدورقي. (2) انظر: «معجم الصحابة» له (4/ 198) ط. مبرة الآل والأصحاب. (3) «الاستيعاب» (1/ 300). (4) الترمذي (1128)، وابن ماجه (1953) من طريقين عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر. (5) نقله عنه الترمذي في «الجامع» عقب الحديث وفي «العلل الكبير» (ص 164). (6) أسنده عنه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 182). (7) وذلك أن عبد الرزاق الصنعاني رواه عن معمر عن الزهري مرسلًا، وسيأتي. (8) روي من طريق بعض أهل الكوفة وأهل خراسان وأهل اليمامة عن معمر موصولًا، أخرجه ابن حبان (4157، 4158)، والحاكم (2/ 192 - 193)، والبيهقي (7/ 182). ولا يفيد ذلك شيئًا لأنهم سمعوه منه بالبصرة، لا باليمن حيث كان يحدّث من كتبه على الصحة. انظر: «التلخيص الحبير» (3/ 168).

(1/553)


وأخرجه الدارقطني (1) من حديث عبد الله بن عباس، وإسناده ضعيف. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد اختصر كلامَ البخاري، ونحن نذكره لكمال الفائدة: قال البخاري: حديث غيلان بن سلمة ــ يعني من حديث عبد الله بن عمر ــ غير محفوظ، والصحيح ما رواه شعيب وغيره، عن الزهري: حُدِّثتُ (2) عن محمد بن سويد الثقفي: أن غيلان أسلم. قال البخاري: وإنما (3) حديث الزهري عن سالم عن أبيه: أن رجلًا من ثقيف طلق نساءه، فقال عمر - رضي الله عنه -: لتراجعَنّ نساءك، أو لأرجمنّ قبرك كما رُجم قبر أبي رِغال. وقال ابن عبد البر (4): الأحاديث في تحريم ما زاد على الأربعة كلها معلولة. وقال ابن القطان (5): هذا حديث يُختلف فيه على الزهري، فمالك ومعمر يقولان عنه: بلغَنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال [ق 106] لرجل من ثقيف (6). ويونس في روايةٍ عنه يقول: عن الزهري عن عثمان بن محمد بن أبي _________ (1) في «سننه» (3683)، وفي إسناده الواقدي، وهو متروك. (2) ساقطة من ط. الفقي. (3) في الأصل والطبعتين: «وأما» ولا يأتي لها جواب. والمثبت من «الجامع» و «العلل». (4) «التمهيد» (12/ 58)، والمؤلف صادر عن «بيان الوهم والإيهام» (3/ 496). (5) «بيان الوهم» (3/ 496 - 497) بتصرف واختصار وتحرير. (6) رواية مالك في «الموطأ» (1717)، ورواية معمر عند عبد الرزاق (12621).

(1/554)


سويد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لغيلان حين أسلم. ذكره ابن وهب عن يونس. وروى الليث عن يونس عن ابن شهاب: بلغني عن عثمان بن أبي سويد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... الحديث (1). وروى شعيب بن أبي حمزة وغير واحد عن الزهري: حُدِّثت عن محمد بن سويد الثقفي: أن غيلان أسلم. ذكره البخاري والناس. وقال معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه: أن غيلان أسلم. ذكره الإمام أحمد بن حنبل (2) وغيره. فهذه خمس وجوه. آخر كلامه. وقد رواه الدارقطني (3) من حديث سيف بن عبيد الله (4) الجَرْمي، أخبرنا سَرَّار بن مُجَشِّر (5)، عن أيوب، عن نافع وسالم، عن ابن عمر: أن غيلان بن سلمة أسلم وعنده عشر نسوة، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يمسك منهن أربعًا، فلما كان زمن عمر طلقهن، فقال له عمر: راجِعْهن، وإلا ورثتهن مالَك، وأمرتُ بقبرك (6). _________ (1) روايتا يونس أخرجهما الدارقطني (3686، 3687). (2) في «المسند» (4609)، وأخرج أيضًا الترمذي وابن ماجه كما سبق. (3) «السنن» (3694) من طريقين عن سيف به. (4) في الأصل وط. الفقي: «عبد الله»، تصحيف، وسيأتي على الصواب قريبًا. (5) في الأصل: «سوار بن محسر» فأصلحه بعضهم في الهامش من «تقريب». (6) كُتب فوقه في الأصل بخط صغير: «كذا»، ولعله يعني أن ليس بعده: «يُرجم»، وهو موجود في لفظ الحديث، إلا أن الدارقطني أسند الحديث من طريقين عن سيف، فساق اللفظ بتمامه من الطريق الأولى، واقتصر في الثانية على هذا القدر لبيان موضع الخلاف في اللفظ مع الطريق الأولى.

(1/555)


ولكن سيف وسرّار ليسا بمعروفين بحمل الحديث وحفظه، وقال الدارقطني في كتاب «العلل» (1) ــ وقد ذكر هذا الحديث ــ: تَفرّد به سيف بن عبيد الله الجرمي عن سرّار، وسرّار ثقة من أهل البصرة. ومعلوم أن تفرد سيف بهذا مانع من الحكم بصحته، بل لو تفرد به من هو أجل من سيف لكان تفرّده علة. والله أعلم. 186/ 2150 - وعن الضحاك بن فيروز عن أبيه - رضي الله عنهما - قال: قلت: يا رسول الله، إني أسلمت وتحتي أختان؟ قال: «طَلِّق أيَّتهما شئت». وأخرجه الترمذي وابن ماجه (2)، وقال الترمذي: حديث حسن. وفي لفظ الترمذي: «اختر أيتهما شئت»، ولفظ ابن ماجه: «طلِّق» كما ذكره أبو داود. قال ابن القيم - رحمه الله -: هذا الحديث يرويه أبو وهب الجَيْشاني، عن الضحّاك بن فَيْروز، عن أبيه. قال البخاري (3): في إسناد هذا الحديث نظر. ووجه قوله أن أبا وهب والضحاك مجهولٌ حالُهما، وفيه يحيى بن أيوب، ضعيف (4). وقوله: «طلق أيتهما شئت» دليل على أنه إذا طلق واحدة لم يكن اختيارًا _________ (1) رقم (2997). (2) أبو داود (2243)، والترمذي (1130)، وابن ماجه (1951). (3) في «التاريخ الكبير» (3/ 248 - 249). (4) هو يحيى بن أيوب الغافقي المصري، من رجال الجماعة، وهو صدوق سيئ الحفظ، قال أبو حاتم: محله الصدق، يكتب حديثه ولا يحتجّ به. وعدّ الذهبي هذا الحديث من مناكيره. انظر: «الرد على ابن القطان» (ص 39).

(1/556)


لها كما قال أصحابنا (1) وأصحاب الشافعي (2)، قالوا: لأن الطلاق إنما يكون للزوجة لا للأجنبية، فإذا طلّقها كان دليلًا على استبقاء نكاحها. وهذا ضعيف جدًّا، فإن طلاقه لها إنما هو رغبة عنها وقطع لنكاحها، فكيف يكون اختيارًا؟! وهو لو قال: طلّقتُ هذه، وأمسكت أو اخترت هذه، جعلتم التي اختار إمساكها مفارقةً والتي اختار طلاقها مختارةً! وهذا معلوم أنه ضد مقصوده. وأقصى ما في الباب أنه استعمل لفظ الطلاق في مفارقتها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «فارق سائرهن»، والفراق أيضًا من صرائح الطلاق عندكم، فإذا قال: فارقت هذه، كان اختيارًا لها! وهذا أحد الوجهين لهم. وإنما يكون مفارقًا لها إذا قال: فسخت نكاح هؤلاء، أو اخترت هؤلاء، ونحوه. وصاحب الشرع قد أمره بالفراق والطلاق، فإذا أتى باللفظ الذي أمره به كان ذلك فراقًا لا اختيارًا. وأما قولهم: إن الطلاق لا يكون إلا في زوجة، قلنا: هذا ينتقض بالفسخ، وإنكم قد قلتم: لو فسخ نكاح إحداهن كان اختيارًا للباقية، ومعلوم أن الفسخ لا يكون إلا في زوجة، فما هو جوابكم في الفسخ هو الجواب في الطلاق. وأيضًا، فالطلاق جُعِل عبارةً عن الفسخ، وإخراج المطلقة، واستبقاء الأخرى؛ فكأنه قال: أرسلت هذه وسَيَّبتها ونحوه، وأمسكت هذه. _________ (1) انظر: «المغني» (10/ 17)، و «الفروع» (8/ 306). (2) انظر: «نهاية المطلب» (12/ 343 - 344)، و «روضة الطالبين» (7/ 166).

(1/557)


وأيضًا، فإن النكاح لم تَزُل أحكامُه كلها بالإسلام، ولهذا قلتم: إن عدة المفارقات من حين الاختيار، لا من حين الإسلام على الصحيح، وعللتم ذلك [بأنهن] (1) إنما بِنَّ منه بالاختيار لا بالإسلام، فالطلاق أَثَّر في قطعِ أحكام النكاح وإزالتها. وأيضًا، فإن العبرة بالقصد والنية، وهو لم يرد قط بقوله «طلقت هذه» اختيارها، بل هذا قلب للحقائق!! وأيضًا، فإن لفظ الطلاق لم يوضع للاختيار لغةً ولا شرعًا ولا عرفًا، ولا هو اصطلاح خاص له يريده بكلامه، فحمله على الاختيار ممتنع.

  17 - باب في ادّعاء ولد الزنا

187/ 2171 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَضَى أنَّ كل مُسْتَلْحَق استُلحِق بعد أبيه الذي يُدْعَى له ادَّعاه ورثته، فقضى أن كل من كان من أَمَةٍ يَملكها يومَ أصابها، فقد لَحِق بمن استلحقه، وليس له مما قُسم قبله من الميراث، وما أدرك من ميراث لم يُقسَم فله نصيبه، ولا يَلحَق إذا كان أبوه الذي يُدعَى له أنكره، وإن كان من أمَةٍ لم يملكها أو مِن حُرَّة عاهَر بها، فإنه لا يَلحق ولا يرث، وإن كان الذي يُدعَى له هو ادّعاه فهو ولد زِنْيةٍ، من حُرَّة كان أو أمة». وفي رواية: «هو ولد زنا لأَهل أُمِّه مَن كانوا، حُرَّةً كانت أو أمَةً، وذلك فيما استُلحق في أول الإسلام، فما اقتُسم من مالٍ قبل الإسلام فقد مضى» (2). _________ (1) في هامش الأصل: «لعله بأنهن» استظهارًا، فظنّه ناسخ (ش) لحقا فأقحمه كلّه في النص هكذا: «ذلك لعله بأنهن إنما»! (2) رواه أبو داود (2265، 2266) من طرق عن محمد بن راشد، عن سليمان بن موسى الأشدق، عن عمرو بن شعيب، به.

(1/558)


وقد تقدم الكلام على عمرو بن شعيب. وروى عن عمرٍو هذا الحديث محمد بن راشد المكحولي، وفيه مقال (1). قال بعضهم (2): هذه أحكام وقعت في أول زمان الشريعة، وكان حدوثها ما بين الجاهلية وبين قيام الإسلام، كان لأهل الجاهلية إماء وهن البغايا اللواتي ذكرهن الله عز وجل في قوله: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور: 33]، إذ كانت السادة يلمُّون بهن، فإذا جاءت بولدٍ وكان سيِّدُها يطؤها وقد وطئها غيره بالزنا، فربما ادَّعاه الزاني وربّما ادّعاه السيد، فحكم - صلى الله عليه وسلم - بالولد لسيِّدها، لأن الأمة فراش له، ونفاه عن الزاني ــ ثم ذكر الاستلحاق (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: وليس كما قال، فإن هذا القضاء إنما وقع بالمدينة بعد قيام الإسلام ومصيرها دارَ هجرة. وقد جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - على صور: الصورة الأولى: أن يكون الولد من أَمَته التي في ملكه وقت الإصابة، فإذا استلحقه لحق به من حين استلحقه، وما قسم من ميراث قبل استلحاقه لم يُنقَض ويورَثْ منه المستلحِق، وما كان بعد استلحاقه من ميراثٍ لم يُقسَم ورث منه نصيبه، فإنه إنما تثبت بُنُوَّته من حين استلحقه، فلا تنعطف على ما _________ (1) كذا، ولم يروِه محمد بن راشد عن عمرٍو مباشرة، وإنما بينهما سليمان بن موسى الأشدق. ومحمد بن راشد ثقة صدوق في روايته، وإنما تكلِّم فيه لأنه كان يرى القدر. وسليمان في حديثه بعض اضطراب، وقد سبق الكلام فيه بالتفصيل في «باب لا نكاح إلا بولي». (2) هو الخطابي في «معالم السنن» (3/ 173). (3) هذه الفقرة من كلام المنذري أثبتناه من مخ «المختصر» (النسخة البريطانية)، وهي ساقطة من المطبوع، وذكرها بذكر طرفيها فقال: «قال المنذري: هذه أحكام وقعت في أول زمان الشريعة، إلى أن قال: ثم ذكر الاستلحاق».

(1/559)


تقدم من قسمة المواريث. وإن أنكره لم يَلحق به، وسمّاه «أباه» على كونه يدعى له ويقال إنه منه، [لا] (1) لأنه أبوه في حكم الشرع، إذ لو كان أباه حكمًا لم يُقبَل إنكارُه ولَحِق به. الصورة الثانية: أن يكون الولد من أَمَة لم تكن في ملكه وقت الإصابة، فهذا ولد زنًا لا يلحق به ولا يرثه، بل نسبه منقطع منه. وكذلك إذا كان من حرة قد زنى بها، فالولد غير لاحق به ولا يرث منه. وإن كان هذا الزاني الذي يُدعى الولد له ــ يعني أنه منه ــ قد ادّعاه= لم تُفِد دعواه شيئًا، بل الولد ولد زنا، وهو لأهل أمه؛ إن كانت أمةً فمملوك لمالكها، وإن كانت حرة فنسبه إلى أمه وأهلها، دون هذا الزاني الذي هو منه. وقوله في أول الحديث: [ق 107] «استُلحق بعد أبيه الذي يدعى له، ادَّعاه ورثته»، الأب هاهنا هو الزاني الذي منه الولد، وسمّاه أبًا تسميةً مُقيدةً بكون الولد منه، ولهذا قال: «الذي يدعى له»، يعني يقال: إنه منه، ويُدعى له في الجاهلية أنه أبوه. فإذا ادّعاه ورثة هذا الزاني فالحكم ما ذكر. ونظير هذا القضاء: قصة سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في ابن أَمَة زمعة، فإن ورثة عتبة ــ وهو سعد ــ ادَّعَى الولد أنه من أخيه، وادعى عبد أنه أخوه وُلِد على فراش أبيه، فألحقه النبي - صلى الله عليه وسلم - بمالك الأَمَة، دون عتبة. وهو تفسير قوله: «وإن كان من أَمَة لم يملكها أو من حرّةٍ عاهر بها فإنه لا يَلحق _________ (1) زيادة لازمة ليستقيم المعنى، وقد يكون «لأنه» مصحفًا عن «لا أنه» كما أُثبت في ط. الفقي.

(1/560)


ولا يرث». وسيأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى. وقد يتمسك به من يقول: إن الأَمَة لا تكون فراشًا، وإنما يُلحق الولد للسيد بالدِّعْوة (1)، لا بالفراش، كقول أبي حنيفة، لقوله: «من كان من أَمَة يملكها يوم أصابها فقد لحق بمن استلحقه»؛ فإنما جعله لاحقًا به بالاستلحاق، لا بالإصابة. ولكن قصة عبد بن زمعة أصح من هذا وأصرح في كون الأمة تصير فراشًا، كما تكون الحرة، يَلحق الولد بسيِّدها بحكم الفراش، كما يلحق بالحرة، كما سيأتي. وليس في حديث عمرو بن شعيب أنه لا يَلحق ولدُه من أمته إلا بالاستلحاق، وإنما فيه أنه عند تنازع سيّدها والزاني في ولدها يلحق بسيدها الذي استلحقه دون الزاني، وهذا مما لا نزاع فيه؛ فالحديثان متفقان. والله أعلم.

  18 - باب من قال بالقرعة إذا تنازعوا في الولد

188/ 2175 - عن عبد الله بن الخليل، عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: كنت جالسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء رجل من أهل اليمن، فقال: إن ثلاثةَ نَفَرٍ من أهل اليمن أتوا عليًّا يختصمون إليه في ولد، وقد وقعوا على امرأة في طهر واحد، فقال لاثنين: طِيْبا بالولد لهذا، فغَلَيا، فقال: أنتم شركاء مُتَشاكِسون، إني مُقرِعٌ بينكم، فمن قَرَع فله الولد وعليه لصاحبَيه ثُلُثا الدية، فأقرع بينهم فجعله لمن قرع؛ فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أضراسه أو نواجذه. وأخرجه النسائي (2). وفي إسناده الأجلح، واسمه يحيى بن عبد الله الكندي، _________ (1) ط. الفقي: «الدعوى» خلافًا للأصل. والدِّعوة» بكسر الدال: الادعاء في النسب. (2) أبو داود (2269)، والنسائي (3490).

(1/561)


ولا يحتجّ بحديثه (1). 189/ 2176 - وعن عبد خيرٍ عن زيد بن أرقم قال: أُتِيَ علي - رضي الله عنه - بثلاثة، وهو باليمن، وقعوا على امرأة في طُهر واحد، فسأل اثنين: أتُقِرَّان لهذا؟ قالا: لا، حتى سألهم جميعًا، فجعل كلما سأل اثنين قالا: لا، فأقرع بينهم، فألحق الولد بالذي صارت عليه القُرعة، وجعل عليه ثلثي الدية، قال: فذُكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فضحك حتى بدت نواجذه. وأخرجه النسائي وابن ماجه (2). ورواه بعضهم مرسلًا. وقال النسائي: هذا صواب. وقال الخطابي (3): وقد تكلم بعضهم في إسناد حديث زيد بن أرقم. هذا آخر كلامه. ويشبه أن يكون المراد بذلك الحديث المتقدم، فأما حديث عبد خير فرجال إسناده ثقات، غير أن الصواب فيه الإرسال. والله عز وجل أعلم. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال أبو محمد بن حزم (4): هذا الحديث إسناده صحيح، كلهم ثقات. قال: فإن قيل: إنه خبر قد اضطرب فيه، فأرسله شعبة، عن سلمة بن _________ (1) وثَّقه ابن معين، والأكثر على تضعيفه، قال أبو حاتم: ليس بالقوي يُكتب حديثه ولا يُحتج به. انظر «تهذيب التهذيب» (1/ 189). (2) أبو داود (2270)، والنسائي (3488)، وابن ماجه (2348) من طريق الشعبي، عن عبد خيرٍ، به. ورواه أبو داود (2271)، والنسائي في «الكبرى» (5656) عن الشعبي، عن أبي الخليل ــ أو ابن الخليل ــ، أن ثلاثة نفر ... فذكر نحوه, ولم يذكر زيد بن أرقم، ولم يرفعه. قال النسائي: هو أولى بالصواب. وكذا استصوبه أبو حاتم كما في «العلل» لابنه (1204). (3) «معالم السنن» (3/ 177). (4) في «المحلَّى» (10/ 150).

(1/562)


كهيل، عن الشعبي، عن مجهول؛ ورواه أبو إسحاق الشيباني، عن رجل من حضرموت، عن زيد بن أرقم= قلنا: قد وصله سفيان، وليس هو بدون شعبة، عن صالح بن حي (وهو ثقة)، عن عبد خير (وهو ثقة)، عن زيد بن أرقم. آخر كلامه. وهذا الحديث قد اشتمل على أمرين: أحدهما: إلحاق الولد عند التنازع (1) بالقرعة، وهو مذهب إسحاق بن راهويه، قال: هو السنة في دعوى الولد (2). وكان الشافعي يقول به في القديم (3). وذهب أحمد ومالك إلى تقديم حديث القافة عليه (4). قيل لأحمد في حديث زيد هذا، فقال: حديث القافة أحب إلي (5). ولم يقل أبو حنيفة بواحد من الحديثين، لا بالقرعة ولا بالقافة (6). _________ (1) ط. الفقي: «إلحاق المتنازع فيه» خلافًا للأصل. (2) «مسائل أحمد وإسحاق» برواية الكوسج (1/ 410 - 411). (3) انظر: «الأم» (8/ 449 - 450)، و «السنن الكبرى» للبيهقي (10/ 267)، و «معرفة السنن والآثار» له (14/ 373). (4) انظر: «مسائل أحمد» برواية الكوسج (1/ 410 - 411) وبرواية عبد الله (ص 355)، و «المدونة الكبرى» (5/ 445)، (6/ 146)، (8/ 334، 339). (5) «مسائل أحمد» برواية الكوسج، ولفظه: «حديث عمر في القافة أعجب إليَّ». وحديث عمر في القضاء بالقافة مروي في عدة وقائع عند عبد الرزاق (12864، 12884، 13475، 13480)، وابن أبي شيبة (17784)، والبيهقي (10/ 263 - 264). (6) عند أبي حنيفة إذا ادّعاه رجلان ــ وليس لأحدهما بينة ــ يثبت نسبه منهما جميعًا، وتكون الجارية أم ولد لهما تخدم هذا يومًا وذاك يومًا. انظر: «الأصل» لمحمد بن الحسن الشيباني (6/ 464)، و «بدائع الصنائع» (4/ 126).

(1/563)


الأمر الثاني: جَعْلُه ثلثي الدية على من وقعت له القرعة، وهذا مما أشكل على الناس، ولم يُعرف به قائل (1). وسألت عنه شيخنا، فقال: له وجه، ولم يزد. ولكن قد رواه الحميدي في «مسنده» (2) بلفظ آخر يرفع (3) الإشكال جملةً؛ قال: «وأُغرّمه ثلثي قيمة الجارية لصاحبيه». وهذا لأن الولد لمّا لحق به صارت أم ولد له، وله فيها ثلثها، فغرّمه قيمة ثلثيها اللذين أفسدهما على الشريكين بالاستيلاد. فلعل هذا هو المحفوظ، وذكرُ ثلثي دية الولد وهم، أو يكون عبّر عن قيمة الجارية بالدية، لأنها هي التي تُودَى بها، فلا يكون بينهما تناقض. والله أعلم.

  19 - باب الولد للفراش

190/ 2178 - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زَمْعَةَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ابن أمَةِ زمعة، فقال سعد: أوصاني أخي عُتبة إذا قدمتُ مكة أن أنظر إلى ابن أمةِ زمعةَ فأقبضَه، فإنه ابنه. وقال عبد بن زمعة: أخي، ابنُ أمة أبي، وُلدَ على فراش أبي، فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شَبَهًا بَيِّنًا بعُتبة، فقال: الوَلَدُ للفراش (4)، واحتجبي منه يا سودة». _________ (1) في الطبعتين: «ولم يُعرف له وجه» خلافًا للأصل. (2) برقم (803)، وفي إسناده الأجلح الكندي، وقد سبق بيان ضعفه. (3) في الطبعتين: «يدفع»، والمثبت أقرب إلى رسم الأصل وموافق لـ (ش). (4) أثبت في ط. الفقي بعده: «وللعاهر الحجر» بين حاصرتين، وزعم في الحاشية أن هذه الزيادة ثابتة في كلّ نسخ «سنن أبي داود». وليس الأمر كما زعم، فهي لا توجد في النسخ الخطية، بل إن سفيان بن عيينة ــ ورواية أبي داود من طريقه ــ أنكر أن يكون سمع هذه اللفظة من الزهري، كما في مراجعة الحميدي له في «مسنده» (240). وإنما صحّت الزيادة من رواية الليث عن الزهري في «الصحيحين»، ومن رواية مالك عنه في البخاري.

(1/564)


وفي رواية قال: «هُوَ أخوك يا عبدُ». وأخرجه البخاري والنسائي ومسلم وابن ماجه (1) قيل في خصومتهما (2): إن أهل الجاهلية كان يكون لهم إماء يبغين، وفيه نزل قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33]، وكانت السادة تأتي الإماء في خلال ذلك. فإذا أتت إحداهن بولد فربما يدّعيه السيّد وربما يدّعيه الزاني. فإن مات السيد ولم يكن ادّعاه ولا أنكره، فادّعاه ورثته= لحق به، إلا أنه لا يشارك مستلحقه في ميراثه إلا أن يستلحقه قبل القِسمة، وإن كان السيد قد أنكره لم يلحق به بحال. وكان لزمعةَ بنِ قيس (والدِ سودة زوجِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أمةٌ على ما وُصِف، مِن أنّ عليها ضريبةً وهو يلم بها، فظهر بها حملٌ كان يظن أنه من عتبةَ أخي سعد بن أبي وقاص، وهلك كافرًا، فعهِد إلى أخيه سعدٍ قبل موته فقال: استلحِق الحملَ الذي بأمة زمعة. فلما استلحقه سعد خاصمه عبدُ بن زمعة، فقال سعد: هو ابن أخي، يشير إلى ما كانوا عليه في الجاهلية، وقال عبد: بل هو أخي، ولِد على فراش أبي، يشير إلى ما استقرّ عليه الحكم في الإسلام، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد بن زمعة إبطالًا لحكم الجاهلية (3). _________ (1) أبو داود (2273)، والبخاري (2053، ومواضع)، والنسائي (3484)، ومسلم (1457)، وابن ماجه (2004). (2) قاله ابن الجوزي في «كشف المشكل» (4/ 290 - 291). (3) ذكر المجرّد في أن المؤلف ساق كلامَ المنذري إلى قوله: «إبطالًا لحكم الجاهلية»، وأكثره لا يوجد في مطبوعة «المختصر»، فاستدركناه من أصله الخطي (ق 2/ 152 - النسخة البريطانية).

(1/565)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد أشكل هذا الحديث على كثير من الناس، مِن حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر سودة بالاحتجاب منه، وقد ألحقه بزمعة فهو أخوها، ولهذا قال: «الولد للفراش»؛ قالوا: فكيف يكون أخاها في الحكم وتؤمر بالاحتجاب منه؟ فقال بعضهم: هذا على سبيل الورع لأجل الشبه الذي رآه بِعُتبة (1). وقال بعضهم: إنما جعله عبدًا لزمعة. قال: والرواية: «هو لك عبد» (2)، فإنما جعله عبدًا لعبد بن زمعة لكونه رأى شبَهَه بعتبة، فيكون منه غير لاحق بواحدٍ منهما، فيكون عبدًا لعبد بن زمعة، إذ هو ولد زنا من جارية زمعة. وهذا تصحيف منه وغلط في الرواية والمعنى، فإن الرواية الصحيحة: «هو لك يا عبدُ بنَ زمعة»، ولو صحّت رواية «هو لك عبد» فإنما هي على إسقاط حرف النداء، كقوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29]. ولا يتصور أن يجعله عبدًا له وقد أخبره أنه وُلد على فراش أبيه، ويحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الولد للفراش. وهذه الزيادة التي ذكرها أبو داود وهي قوله: «هو أخوك يا عبد» ترفع الإشكال، ورجال إسنادها ثقات (3). ولو لم تأتِ فالحديث إنما يدل على إلحاقه بعبد أخًا له. _________ (1) ط. الفقي: «بعينه»، وط. المعارف: «بعينيه»، كلاهما تصحيف. (2) لم أعثر عليها. (3) وقد وردت من طريقٍ آخر أيضًا في «صحيح البخاري» (4303).

(1/566)


وأما أمره سودةَ ــ وهي أخته ــ بالاحتجاب منه، فهذا يدل على أصلٍ وهو تبعيض أحكام النسب، فيكون أخاها في التحريم والميراث وغيره، ولا يكون أخًا في المحرمية والخلوة والنظر إليها؛ لمعارضة الشبه للفراش، فأعطى الفراشَ حكمه من ثبوت الحرمة وغيرها، وأعطى الشَّبَه حكمَه من عدم ثبوت المحرمية لسودة. وهذا باب من دقيق العلم وسرّه لا يلحظه إلا الأئمة المطَّلِعون على أغواره، المَعنيّون بالنظر في مآخذ (1) الشرع وأسراره. ومَن نبا فهمُه عن هذا وغلُظ عنه طبعه [ق 108] فلينظر إلى الولد من الرضاعة كيف هو ابن في التحريم، لا في الميراث ولا في النفقة ولا في الولاية. وهذا ينفع في مسألة البنت المخلوقة من ماء الزاني، فإنها بنته في تحريم النكاح عليه عند الجمهور، وليست بنتًا في الميراث ولا في النفقة ولا في المحرمية. وبالجملة: فهذا من أسرار الفقه، ومراعاة الأوصاف التي تترتب عليها الأحكام، وترتيب مقتضى كلِ وصفٍ عليه. ومن تأمل الشريعة أَطلعتْه من ذلك على أسرار وحِكَم تَبهَر الناظرَ فيها. ونظير هذا: ما لو أقام شاهدًا واحدًا وحلف معه على سارق أنه سرق متاعه ثبت حكم السرقة في ضمان المال على الصحيح، ولم يثبت حكمها في وجوب القطع اتفاقًا. فهذا سارق من وجه دون وجهٍ، ونظائره كثيرة. فإن قيل: فكيف تصنعون في الرواية التي جاءت في هذا الحديث: «واحتجبي منه يا سودة فإنه ليس لكِ بأخ» (2)؟ قيل: هذه الزيادة لا يُعلم _________ (1) قراءة الطبعتين: «مأخذ»، ولعل الأولى ما أثبت. (2) أخرجه أحمد (16127)، والنسائي (3485)، والحاكم (4/ 97)، والبيهقي (6/ 87) من طريق مجاهد، عن يوسف بن الزبير (ولم يُذكر في رواية أحمد)، عن عبد الله بن الزبير. إسناده ضعيف، فيه يوسف بن الزبير، مجهول الحال. قال البيهقي: «إسناد هذا الحديث لا يقاوِم إسناد الحديث الأول؛ لأن الحديث الأول رواته مشهورون بالحفظ والفقه والأمانة، وعائشة - رضي الله عنها - تخبر عن تلك القصة كأنها شهدتها، والحديث الآخر فيه من لا يُعرف بسببٍ يثبت به حديثه ــ وهو يوسف بن الزبير ــ، وعبد الله بن الزبير كأنه لم يشهد القصة لصغره» باختصار.

(1/567)


ثبوتها وصحتها، فلا يعارَض بها ما قد عُلمت صحته، ولو صحت لكان وجهها ما ذكرناه: أنه ليس لها بأخ في الخَلْوة والنظر، وتكون مفسرة لقوله: «واحتجبي منه»، والله أعلم. وهذا الولد الذي وقع فيه الاختصام هو عبد الرحمن بن زمعة مذكور في كتاب الصحابة (1). وهو حجة على من يقول: إن الأَمَة لا تكون فراشًا ويَحمِل قوله: «الولد للفراش» على الحرة؛ فإن سبب الحديث في الأمة فلا يتطرق إليه تخصيص، لأن محل السبب فيه كالنص، وما عداه في حكم الظاهر. والله أعلم.

  20 - باب من أنكر ذلك على فاطمة (2)

_________ (1) انظر: «الاستيعاب» (2/ 833)، و «أسد الغابة» (3/ 344)، و «الإصابة» (8/ 50). (2) أي أنكر عليها حديثها الذي في الباب الذي قبله «باب في نفقة المبتوتة»، ولفظه: أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتّة وهو غائب، فأرسل إليها وكيلُه بشعير فسخطته، فقال: واللهِ ما لك علينا من شيء، فجاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فقال لها: «ليس لكِ عليه نفقة»، وأمرها أن تعتدّ في بيت أم شريك، ثم قال: «إن تلك المرأة يغشاها أصحابي، اعتدّي في بيت ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك ... » الحديث. أخرجه مسلم (1480) وأصحاب «السنن»، مختصرًا ومطوّلًا.

(1/568)


191/ 2196 - عن أبي إسحق ــ وهو السَّبيعي ــ قال: كنتُ في المسجد الجامع مع الأسود، فقال: أتت فاطمةُ بنت قيس عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه -، فقال: ما كُنَّا لِندَع كتاب ربنا وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - لقول امرأةٍ لا ندري أحفظت أم لا؟ وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي (1)، مختصرًا ومطولًا. قال ابن القيم - رحمه الله -: قال أبو داود في «المسائل»: سمعت أحمد بن حنبل وذُكر له قول عمر: «لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا»، فلم يصحح هذا عن عمر. وقال الدارقطني: هذا الكلام لا يثبت عن عمر، يعني قوله: «وسنة نبينا» (2). 192/ 2197 - وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: لقد عابت ذلك عائشة - رضي الله عنها - أشدَّ العيب ــ يعني حديثَ فاطمة بنت قيس ــ وقالت: إن فاطمة كانت في مكانٍ وَحْشٍ فخِيفَ على ناحيتها، فلذلك أرخص لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه ابن ماجه، وأخرجه البخاري تعليقًا (3). 193/ 2198 - وعن عروة بن الزبير أنه قيل لعائشة: ألم تَرَي إلى قول فاطمة؟ قالت: أما إنه لا خير لها في ذكر ذلك. وأخرجه البخاري ومسلم بنحوه (4). 194/ 2199 - وعن سليمان بن يَسَار، في خروج فاطمة قال: إنما كان من _________ (1) أبو داود (2291)، ومسلم (1480/ 46)، والترمذي (1180)، والنسائي (3549). (2) سيأتي الكلام على زيادة «وسنة نبينا» بالتفصيل في تعليق ابن القيم الآتي، وكذا توثيق النقل عن أحمد والدارقطني. (3) أبو داود (2292)، وابن ماجه (2032)، والبخاري عقب الحديث (5325). (4) أبو داود (2293)، والبخاري (5325)، ومسلم (1481).

(1/569)


سوء الخلق (1). هذا مرسل. واختلف في سبب انتقالها، فقالت عائشة: «كانت فاطمة في مكان وَحْش، فخيف عليها، فرخص لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الانتقال». وقال سعيد بن المسيب: «إنما نقلت عن بيت أحمائها لطول لسانها». وروي عنه أيضًا: «تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها، فأمرها ــ عليه الصلاة والسلام ــ أن تنتقل». 195/ 2200 - وعن القاسم بن محمد وسليمان بن يسار: أن يحيى بن سعيد بن العاص طلق بنتَ عبد الرحمن بن الحكم البتة، فانتقلها عبد الرحمن، فأرسلت عائشة - رضي الله عنها - إلى مروان بن الحكم وهو أمير المدينة، فقالت له: اتق الله، واردد المرأة إلى بيتها، فقال مروان ــ في حديث سليمان ــ: إن عبد الرحمن غلبني، وقال مروان ــ في حديث القاسم ــ: أوَ ما بلغكِ شأنُ فاطمة بنت قيس؟ فقالت عائشة: لا يضرُّك أن لا تذكر حديث فاطمة، فقال مروان: إن كان بكِ الشرُّ فحسبُكِ ما كان بين هذين من الشر». وأخرجه مسلم (2) بمعناه مختصرًا. 196/ 2201 - وعن ميمون بن مِهران قال: قدمتُ المدينة، فدَفَعْت إلى سعيد بن المسيب، فقلت: فاطمةُ بنت قيس طُلِّقت فخرجت من بيتها، فقال سعيد: تلك امرأة فتنت الناس، إنها كانت لَسِنَةً، فوُضعت على يدي ابن أمّ مكتوم الأعمى. قال ابن القيم - رحمه الله -: اختلف الناس في المبتوتة هل لها نفقة أو سكنى؟ على ثلاثة مذاهب، وهي (3) ثلاث روايات عن أحمد (4): _________ (1) «سنن أبي داود» (2294). (2) أبو داود (2295)، ومسلم (1480/ 40). وأخرجه البخاري (5321) أيضًا. (3) في الأصل والمطبوع: «وعلى» والظاهر أنه تصحيف ما أثبت على جادّة المؤلف، وسيأتي (2/ 423) قوله: « ... على أربعة أقوال، وهي أربع روايات عن أحمد». (4) انظر: «الإنصاف» (24/ 308 - 313).

(1/570)


أحدها: أنه لا سكنى لها ولا نفقة، وهي ظاهر مذهبه. وهذا قول علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وجابر، وعطاء، وطاوس، والحسن، وعكرمة، وميمون بن مهران (1)، وإسحاق بن راهويه (2)، وأبي ثور، وداود بن علي (3)، وأكثر فقهاء الحديث. وهو مذهب صاحبة القصة فاطمة بنت قيس، وكانت تناظر عليه. [والثاني] (4): ويروى عن عمر وعبد الله بن مسعود: أن لها السكنى والنفقة (5). وهو قول أكثر أهل العراق وقول ابن شُبْرُمة، وابن أبي ليلى، وسفيان الثوري، والحسن بن صالح، وأبي حنيفة وأصحابه (6)، وعثمان البَتِّي، والعنبري (7). _________ (1) أخرج هذه الآثار عبد الرزاق (12029 - 12035)، وابن أبي شيبة (18980، 18992)، وسعيد بن منصور (1/ 321)، والبيهقي (7/ 474 - 475). (2) «مسائل أحمد وإسحاق» برواية الكوسج (1/ 379 - 422). (3) نسبه إليهما ابن عبد البر في «الاستذكار» (6/ 158، 167). (4) ساقط من الأصل، وسيأتي «والثالث:» بعد قليل. وزاده الفقي بلا تنبيه. (5) قول عمر أخرجه مسلم (1480/ 46). وقول ابن مسعود أخرجه ابن أبي شيبة (18977)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 68). (6) انظر: «الأصل» للشيباني (4/ 406)، و «بدائع الصنائع» (3/ 209). (7) العنبري هو عبيد الله بن الحسن العنبري البصري القاضي (ت 168). وقول جميع المذكورين في «التمهيد» (19/ 141)، و «المغني» (11/ 403). وفي نسبته إلى ابن أبي ليلى خلاف، فإن الشافعي حكى عنه أن لها السكنى وليس لها النفقة. انظر: «كتاب اختلاف العراقيين» (8/ 375 - ضمن الأم).

(1/571)


وحكاه أبو يعلى ابن القاضي في «مفرداته» روايةً عن أحمد، وهي غريبة جدًا. والثالث: أن لها السكنى دون النفقة. وهذا قول مالك (1) والشافعي (2)، وفقهاء المدينة السبعة (3)، وهو مذهب عائشة أم المؤمنين (4). وأسعد الناس بهذا الخبر من قال به، وأنه لا نفقة لها ولا سكنى. وليس مع من ردّه حجة تقاومه ولا تقاربه. قال ابن عبد البر (5): أما مِن طريق الحجة وما يلزم منها فقول أحمد بن حنبل ومن تابعه أصح وأرجح، لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نصًّا صريحًا؛ فأي شيء يعارِض هذا إلا مِثلُه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي هو المبين عن الله مرادَه؟ ولا شيء يدفع ذلك، ومعلوم أنه أعلمُ بتأويل قول الله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6]. وأما قول عمر ومن وافقه، فقد خالفه علي وابن عباس ومن وافقهما، والحجة معهم. ولو لم يخالفهم أحد منهم لَما قُبِل قول المخالف لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة على عمر وعلى غيره. _________ (1) «الموطأ» (2/ 581)، و «المدونة» (5/ 471). (2) «الأم» (6/ 602 - 603). وانظر: «نهاية المطلب في دراية المذهب» (15/ 485). (3) انظر: «التمهيد» (19/ 148). (4) أخرج البخاري (5321 - 5325) ومسلم (1480/ 40) أنها أنكرت على فاطمة بنت قيس حديثها. قال البيهقي: الأشبه أنها إنما أنكرت عليها النُقْلة من غير سبب، دون النفقة. «السنن الكبرى» (7/ 476) باختصار. يؤيّد ذلك قول فاطمة بنت قيس: «فكيف تقولون: لا نفقة لها إذا لم تكن حاملًا، فعلامَ تحبسونها؟» رواه مسلم (1480/ 41). (5) «التمهيد» (19/ 151)، والمؤلف صادر عن «المغني» لابن قدامة (11/ 403 - 404).

(1/572)


ولم يصح عن عمر أنه قال: «لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة»، فإن أحمد أنكره وقال: أمّا هذا فلا، ولكن قال: «لا نقبل في ديننا قول امرأة» (1). وهذا أمر يرده الإجماع على قبول قول المرأة في الرواية، فأي حجة في شيء يخالفه الإجماع، وترده السنة ويخالفه فيه علماءُ الصحابة؟ وقال إسماعيل بن إسحاق (2): نحن نعلم أن عمر لا يقول: «لا ندع كتاب ربنا» إلا لما هو موجود في كتاب الله تعالى، والذي في الكتاب أن لها النفقة إذا كانت حاملًا لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]. وأما غير ذوات الحمل فلا يدل الكتاب إلا على أنهن لا نفقة لهن لاشتراطه الحمل في الأمر بالإنفاق. آخر كلامه. والذين ردوا خبر فاطمة هذا ظنوه معارضًا للقرآن، فإن الله تعالى قال: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6]، وقال: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1]. وهذا لو كان كما ظنوه لكان في السكنى خاصة، وأما إيجاب النفقة لها فليس في القرآن إلا ما يدل على أنه لا نفقة لهن، كما قال القاضي إسماعيل، لأن الله سبحانه شرط في وجوب الإنفاق أن يكنّ من أولات الحمل، وهو يدل على أنها إذا كانت حائلًا (3) فلا نفقة لها، كيف وإن القرآن لا يدل على وجوب السكنى للمبتوتة بوجه ما! _________ (1) نقله في «المغني» (11/ 404)، وسيأتي قريبًا نص أحمد من «مسائل أبي داود». (2) ابن إسماعيل بن حمّاد بن زيد بن درهم الجهضمي، قاضي بغداد، وشيخ المالكية بالعراق (ت 282). وقوله في «التمهيد» (19/ 142)، والنقل ما زال من «المغني». (3) طبعة الفقي: «حاملًا»، خطأ.

(1/573)


فإن السياق كله إنما هو في الرجعية. يبين ذلك [ق 109] قولُه (1): {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، وقولُه: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وهذا في البائن مستحيل. ثم قال: {أَسْكِنُوهُنَّ} [الطلاق: 6]، فاللاتي قال فيهن: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} قال فيهن {أَسْكِنُوهُنَّ} و {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ}، وهذا ظاهر جدًّا. وشبهة من ظن أن الآية في البائن قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]، قالوا: ومعلوم أن الرجعية لها النفقة حاملًا كانت أو حائلًا. وهذا لا حجة فيه، فإنه إذا أوجب نفقتها حاملًا لم يدل ذلك على أنه لا نفقة لها إذا كانت حائلًا، بل فائدة التقييد بالحمل التنبيه على اختلاف جهة الإنفاق بسبب الحمل قبل الوضع وبعده، فقبل الوضع لها النفقة حتى تضعه، فإذا وضعته صارت النفقة بحكم الإجارة ورضاعة الولد، وهذه قد يقوم غيرُها مقامها فيه فلا تستحقها لقوله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6]، وأما النفقة حال الحمل فلا يقوم غيرها مقامها فيه، بل هي مستمرة حتى تضعه، فجهة الإنفاق مختلفة. وأما الحائل فنفقتها معلومة من نفقة الزوجات، فإنها زوجة ما دامت في العدة فلا حاجة إلى بيان وجوب نفقتها. وأما الحامل فلما اختلفت جهة النفقة عليها قبل الوضع وبعده، ذكر سبحانه الجِهَتين والسببين. وهذا من أسرار القرآن ومعانيه التي يختص الله بفهمها من يشاء. _________ (1) طبعة المعارف: «في قوله»، خطأ.

(1/574)


وأيضًا فلو كان قوله: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} في البوائن لكان دليلًا ظاهرًا على أن الحائل البائن لا نفقة لها لاشتراط الحمل في وجوب الإنفاق، والحكم المعلق بالشرط عدمٌ عند عدمه. وأما آية السكنى فلا يقول أحد إنها مختصة بالبائن، لأن السياق يخالفه ويبين أن الرجعية مرادة منها. فإما أن يقال: هي مختصة بالرجعية كما يدل عليه سياق الكلام وتتحد الضمائر ولا تختلف مفسّراتها، بل يكون مفسّر قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ} [الطلاق: 2] هو مفسر قوله {أَسْكِنُوهُنَّ}، وعلى هذا فلا حجة في سكنى البائن. وإما أن يقال: هي عامة للبائن والرجعية، وعلى هذا فلا يكون حديث فاطمة منافيًا للقرآن، بل غايته أن يكون مخصّصًا لعمومه، وتخصيص القرآن بالسنة جائز واقع؛ هذا لو كان قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ} عامًّا، فكيف ولا يصح فيه العموم لما ذكرناه. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا نفقة لك ولا سكنى» (1). وقوله في اللفظ الآخر: «إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة» رواه الإمام أحمد والنسائي (2)، وإسناده صحيح. _________ (1) رواه مسلم (1480/ 37). (2) أحمد (27344) من طريق مجالد بن سعيد، والنسائي (3403) من طريق سعيد بن يزيد الأحمسي، كلاهما عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس. ومجالد فيه لين، وقد تابعه سعيد الأحمسي، قال عنه أبو نعيم الفضل بن دُكين ــ كما في «المعرفة والتأريخ» (3/ 237) ــ وابن معين: كوفي ثقة. وله طريق ثالث عند البيهقي (7/ 473) من رواية فراس بن يحيى ــ وهو ثقة أيضًا ــ عن الشعبي. على أن هذا اللفظ لم يرد في أكثر طرق الحديث ورواياته، ولذا ضعّفه البيهقي وابن القطان. انظر: «بيان الوهم» (4/ 472 - 477).

(1/575)


وفي لفظ لأحمد (1): «إنما النفقة والسكنى للمرأة على زوجها ما كانت له عليها الرجعة، فإذا لم يكن له عليها رجعة فلا نفقة ولا سكنى». وهذا يبطل كل ما تأولوا به حديث فاطمة، فإن هذا فتوى عامّة وقضاءٌ عام في حقّ كل مطلقة. فلو لم يكن لشأن فاطمة ذكر في المتن (2)، لكان هذا اللفظ العام مستقلًّا بالحكم لا معارض له بوجه من الوجوه. فقد تبيّن أن القرآن لا يدل على خلاف هذا الحديث، بل إنما يدل على موافقته، كما قالت فاطمة: «بيني وبينكم القرآن» (3). ولمّا ذُكر لأحمد قول عمر: «لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة» تبسم أحمد وقال: أي شيء في القرآن خلاف هذا (4)؟ وأما قوله في الحديث: «وسنة نبينا»، فإن هذه اللفظة وإن كان مسلم رواها (5)، فقد طعن فيها الأئمة كالإمام أحمد وغيره. قال أبو داود في كتاب «المسائل» (6): سمعتُ أحمد بن حنبل، وذُكر له قول عمر: «لا ندع كتاب _________ (1) رقم (27100) من طريق مجالد. (2) رسمه في الأصل يشبه: «البين»، وكذا أثبت في ط. المعارف، وفي ط. الفقي: «المبين»، ولعل ما أثبت أوفق بالسياق. (3) رواه أحمد (27337) ومسلم (1480/ 41). (4) بنحوه في «مسائل أبي داود» (ص 252). (5) برقم (1480/ 46). (6) (ص 252 - 253).

(1/576)


ربنا وسنة نبينا لقول امرأة»، قلتُ: يصح هذا عن عمر؟ قال: لا. وروى هذه الحكايةَ البيهقيُّ في «السنن والآثار» (1) عن الحاكم، عن ابن بطة، عن أبي حامد الأشعري، عن أبي داود. وقال الدارقطني (2): هذا اللفظ لا يثبت ــ يعني قوله: «وسنة نبينا» ــ، ويحيى بن آدم أحفظ من أبي أحمد الزبيري وأثبت منه، وقد تابعه قَبِيصة بن عقبة، فرواه عن عمّار بن رُزَيق مثل قول يحيى بن آدم سواء. والحسن بن عمارة متروك. وأشعث بن سَوَّار ضعيف. ورواه الأعمش عن إبراهيم دون قوله: «وسنة نبينا»، والأعمش أثبت مِن أشعثَ وأحفظ. وقال البيهقي (3): هذه اللفظة أخرجها مسلم في «صحيحه»، وذهب غيره من الحفاظ (4) إلى أن قوله «وسنة نبينا» غير محفوظ في هذا الحديث، فقد رواه يحيى بن آدم وغيره عن عمار بن رزيق في السكنى دون هذه اللفظة، وكذلك رواه الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عمر دون قوله: «وسنة نبينا». وإنما ذكره أبو أحمد عن عمار، وأشعثُ عن الحكم وحماد عن إبراهيم عن الأسود عن عمر، والحسنُ بن عُمارة عن سلمة بن كُهَيل عن عبد الله بن الخليل الحضرمي عن عمر. ثم ذكر كلام الدارقطني أنها لا تثبت. _________ (1) (11/ 290). (2) في «السنن»، وكلامه مفرَّق خلال الأحاديث (3961 - 3965)، والمؤلف صادر عن «معرفة السنن والآثار» (11/ 289 - 290). وانظر: «العلل» له (164). (3) «معرفة السنن» الموضع السابق. (4) منهم غير من سبق: أبو حاتم الرازي، كما في «العلل» لابنه (1317).

(1/577)


فقد تبين أنه ليس في السنة ما يعارض حديث فاطمة، كما أنه ليس في [ق 110] الكتاب ما يعارضه. وفاطمة امرأة جليلة من فقهاء الصحابة غير متّهمَة في الرواية. وما يرويه بعض الأصوليين: «لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت؟» غلط، ليس في الحديث (1)، وإنما الذي في الحديث: «حفظت أو (2) نسيت؟» هذا لفظ مسلم. قال هشيم عن إسماعيل بن أبي خالد أنه ذكر عند الشعبي قول عمر هذا: «حفظت أم نسيت؟»، فقال الشعبي: امرأة من قريش ذات عقل ورأي _________ (1) من أوائل مَن ذكره من الأصوليين: أبو زيد الدَّبوسي الحنفي (ت 430) في «تقويم الأدلة» (ص 183)، وأبو الحسين البصري المعتزلي (ت 436) في «المعتمد» (2/ 594)، ثم تتابع الأصوليون بعدهما، كأبي إسحاق الشيرازي والبزدوي والسرخسي والغزالي والرازي والآمدي في آخرين، على ذكره في مؤلفاتهم الأصولية، في مبحث نسخ المتواتر بالآحاد، أو في مبحث قبول خبر الواحد. ولهذا الغلط أصل في بعض كتب الرواية: - رواه أبو يوسف في كتاب «الآثار» (608) من طريق أبي حنيفة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن عمر باللفظ المذكور. ولا يصحّ، فإن من دون إبراهيم فيهم لين، ولفظه منكر مخالف لرواية مغيرة الضبّي ــ وهو ثقة متقن ــ عن إبراهيم بلفظ: «لا ندري أحفظت أم نسيت»، أخرجه الترمذي (1180). - رواه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 67) من طريق آخر بلفظ: «لا ندري لعلها كذبت»، وهو عند مسلم من نفس الطريق بلفظ: «لعلها حفظت أو نسيت»، فالغلط إما من الطحاوي أو شيخه أبي بكرة بكّار بن قتيبة القاضي. (2) في الأصل: «أم»، ولعله تصحيف ما أثبته من «صحيح مسلم» (1480/ 46).

(1/578)


تنسى قضاء قضي به عليها؟ قال: وكان الشعبي يأخذ بقولها (1). وقال ميمون بن مهران ــ لسعيد بن المسيب لمّا قال (2): تلك امرأة فتنت الناس ــ: لئن كانت إنما أخذت بما أفتاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما فتنت الناس، وإن لنا في رسول الله أسوة حسنة (3). ثم ردُّ خبرها بأنها امرأة مما لا يقول به أحد، وقد أخذ الناس برواية من هو دون فاطمة، وبخبر الفُرَيعة (4) وهي امرأة، وبحديث النساء كأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهن من الصحابة. بل قد احتج العلماء بحديث فاطمة هذا بعينه في أحكام كثيرة: منها: نظر المرأة إلى الرجل، ووضعها ثيابها في الخلوة، وجواز الخطبة على خطبة الغير إذا لم تُجبه المرأة ولم تسكن إليه، وجواز نكاح القرشية لغير القرشي، ونصيحة الرجل لمن استشاره في أمرٍ يعيب من استشاره فيه وأن ذلك ليس بغِيبة. ومنها: الإرسال بالطلاق في الغَيبة. ومنها: التعريض بخطبة المعتدة البائن بقوله: لا تفوّتيني بنفسك. _________ (1) علّقه البيهقي في «معرفة السنن» (11/ 290) بتمامه، ورواه سعيد بن منصور في «السنن» (1/ 321) وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (6/ 9) دون قوله: «قال: وكان الشعبي يأخذ بقولها». (2) «لمّا قال» ساقط من ط. الفقي، فاختل المعنى. (3) رواه ابن عبد البر في «التمهيد» (19/ 147). (4) سيأتي في الباب القادم.

(1/579)


ومنها: احتجاج الأكثرين به على سقوط النفقة للمبتوتة التي ليست بحامل. فما بال حديثها محتجًّا به في هذه الأحكام دون سقوط السكنى؟! فإن كانت حفظته فهو حجة في الجميع، وإن لم يكن محفوظًا لم يَجُز أن يحتج به في شيء. والله أعلم. وقال الشافعي في القديم (1): فإن قال قائل: فإن عمر بن الخطاب اتهم حديث فاطمة بنت قيس وقال: «لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة». قلنا: لا نعرف أن عمر اتهمها، وما كان في حديثها ما تُتَّهم له، ما حدَّثتْ إلا بما يجب، وهي امرأة من المهاجرين لها شرف وعقل وفضل. ولو رُدَّ شيء من حديثها كان إنما يرد منه أنه أمرَها بالخروج من بيت زوجها، فلم تذكر هي: لِمَ أُمرتْ بذلك؟ وإنما أمرت به لأنها استطالت على أحمائها، فأُمرت بالتحول عنهم للشر بينها وبينهم، فكأنهم أحبّوا لها ذكر السبب الذي له أُخرجت، لئلا يذهب ذاهب إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى أن تعتد المبتوتة حيث شاءت في غير بيت زوجها. وهذا الذي ذكره الشافعي هو تأويل عائشة بعينه، وبه أجابت مروان لما احتج عليها بالحديث، كما تقدم. ولكن هذا التأويل مما لا يصلح دفعُ الحديث به من وجوه: أحدها: أنه ليس بمذكور في القصة، ولا عُلِّق عليه الحكم قط، لا باللفظ ولا بالمفهوم، وإن كان واقعًا فتعليق الحكم به تعليقٌ على وصفٍ لم _________ (1) نقله البيهقي في «معرفة السنن» (11/ 290 - 291).

(1/580)


يعتبره النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا في لفظه قط ما يدل على إسقاط السكنى به؛ وتركٌ لتعليق الحكم بالوصف الذي اعتبره وعَلَّق به الحكمَ، وهو عدم ثبوت الرجعة. الثاني: أنكم لا تقولون به، فإن المرأة ولو استطالت، ولو عصت بما عسى أن تعصي به، لم يسقط حقها من السكنى، كما لو كانت حاملًا، بل كان يُستكرَى لها من حقها في مال زوجها وتسكن ناحية. وقد أعاذ الله فاطمة بنت قيس من ظلمها وتعديها إلى هذا الحد. كيف والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعنّفها بذلك، ولا نهاها عنه، ولا قال لها: إنما أُخرِجتِ من بيتك بظلمك لأحمائك، بل قال لها: «إنما السكنى والنفقة للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة»، وهذا هو: الوجه الثالث: وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر لها السبب الذي من أجله سقط حقها من السكنى، وهو سقوط حق الزوج من الرجعة؛ وجعَل هذا قضاء عامًّا لها ولغيرها. فكيف يُعدل عن هذا الوصف إلى وصفٍ لو كان واقعًا لم يكن له تأثير في الحكم أصلًا؟ وقد روى الحميدي في «مسنده» (1) هذا الحديث وقال فيه: «يا ابنة قيس إنما السكنى والنفقة ما كان لزوجك عليك الرجعة»، ورواه الأثرم. فأين التعليل بسلاطة اللسان مع هذا البيان؟ ثم لو كان ذلك صحيحًا لما احتاج عمر في رده إلى قوله: «لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة»، بل كان يقول: لم يُخرِجها من السكنى إلا لبذائها وسَلَطِها، _________ (1) برقم (367) من طريق مجالد عن الشعبي عن فاطمة بنحوه، ولعل اللفظ المذكور لأثرم، وقريب منه لفظ الطبراني في «المعجم الكبير» (24/ 379) من طريق مجالد به. والمؤلف صادر عن «المغني» (11/ 302).

(1/581)


ولم يعللها بانفراد المرأة به، وقد كان عمر - رضي الله عنه - يقف أحيانًا في انفراد بعض الصحابة، كما طلب من أبي موسى شاهدًا على روايته (1)، وغيره. وقد أنكرت فاطمة على من أنكر عليها، وردت على من رد عليها، وانتصرت لروايتها ومذهبها، رضي الله عنهم أجمعين. وقد قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المتلاعنين: «أن لا بيت لها عليه ولا قوت» (2). ولو لم يكن في المسألة نص لكان القياس يقتضي سقوط النفقة والسكنى، لأنها إنما تجب في مقابلة التمكين من الاستمتاع، والبائن قد فُقِد في حقها ذلك، ولهذا وجبت للرجعية لتمكّنه من الاستمتاع بها. وأما البائن فلا سبيل له إلى الاستمتاع بها إلا بما يصل به إلى الأجنبية، وحَبْسها لعِدَّته لا يوجب نفقةً كما لو وطئها بشبهة، وكالملاعنة، والمتوفى عنها زوجها. والله أعلم.

  21 - باب من رأى التحول

197/ 2206 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: نسخت هذه الآيةُ عدَّتَها عند أهلها، فتعتدّ حيث شاءت، وهو قول الله عز وجل: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240]، قال عطاء: إن شاءت اعتدّت عند أهله وسكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت لقول الله عز وجل: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ} [البقرة: 240]، قال عطاء: ثم جاء الميراث فنسخ السكنى، تعتدُّ حيث شاءت». _________ (1) في قصة الاستئذان ثلاثًا، رواها البخاري (6245) ومسلم (2153). (2) أخرجه أحمد (2131) وأبو داود (2256) من حديث ابن عباس. في إسناده عبّاد بن منصور، متكلم فيه، وبه أعل الحديث المنذري في «المختصر» (3/ 169) والزيلعي في «نصب الراية» (3/ 251).

(1/582)


وأخرجه البخاري والنسائي (1). وعطاء هذا هو عطاء بن أبي رباح. قال ابن القيم - رحمه الله -: [ق 111] اختلف السلف في وجوب اعتداد المتوفى عنها في منزلها، فأوجبه عمر وعثمان، وروي عن ابن مسعود وابن عمر وأم سلمة (2). وبه يقول الثوري والأوزاعي وإسحاق والأئمة الأربعة (3). قال ابن عبد البر (4): وهو قول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق ومصر. وروي عن علي وابن عباس وجابر وعائشة: تعتدّ حيث شاءت، وقال به جابر بن زيد والحسن وعطاء (5). ثم اختلف الموجبون لملازمة المنزل فيما إذا جاءها خبر وفاته في غير منزلها، فقال الأكثرون: تعتدّ في منزلها. وقال إبراهيم النخعي وسعيد بن المسيب: لا تبرح من مكانها الذي أتاها فيه نعي زوجها (6). _________ (1) أبو داود (2301)، والبخاري (4531)، والنسائي (3531). (2) أخرجه عنهم عبد الرزاق (7/ 31 - 33)، وسعيد بن منصور (1/ 316، 317)، وابن أبي شيبة (19189 - 19203)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 79، 80). وقضاء عثمان ذُكر أيضًا في حديث فُرَيعة، وسيأتي تخريجه. (3) انظر: «الاستذكار» (6/ 214)، و «المغني» (11/ 290). (4) «التمهيد» (21/ 31). (5) أخرجه عن هؤلاء الصحابة والتابعين: عبد الرزاق (7/ 29، 30)، وسعيد بن منصور (1/ 321)، وابن أبي شيبة (19204 - 19209)، والبيهقي (7/ 435 - 436). (6) «المغني» (11/ 291).

(1/583)


وحديث الفريعة حجة ظاهرة لا معارض لها (1). وأما قوله تعالى: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 240]، وأنها (2) نسخت الاعتداد في منزل الزوج= فالمنسوخ حكم آخر غير الاعتداد في المنزل، وهو استحقاقها للسكنى في بيت الزوج الذي صار للورثة سنةً، وصيةً أوصى الله بها الأزواج تُقدَّم به على الورثة، ثم نسخ ذلك بالميراث ولم يبق لها استحقاق في السكنى المذكورة، فإن كان المنزل الذي توفي فيه الزوج لها أو بَذل الورثة لها السكنى لزمها الاعتداد فيه، وهذا ليس بمنسوخ، فالواجب عليها فعل السكنى لا تحصيل المسكن، فالذي نسخ إنما هو اختصاصها بسكنى السنة دون الورثة، والذي أمرت به أن تمكث في بيتها حتى تنقضي عدتها، ولا تنافي بين الحكمين. والله أعلم. _________ (1) حديث فريعة هو أن زوجها خرج في طلب أعلاج له أَبَقُوا، فقُتل بطرف القَدُوم ــ وهو موضع ماءٍ ــ قالت: فأتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له من حالي، وذكرت له النُّقْلة إلى إخوتي، فرخّص لي، فلمّا جاوزتُ ناداني فقال: «امكُثي في بيتكِ حتى يبلغ الكتاب أجله». أخرجه مالك (1729)، وأحمد (27087)، وأبو داود (2300)، والترمذي (1204)، والنسائي (3528 - 3530)، وابن حبان (4292)، والحاكم (2/ 208)، كلهم من طريق سعد بن إسحاق بن كعب، عن عمّته زينب بنت كعب بن عُجرة، عن الفُرَيعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد الخدري، مختصرًا ومطوّلًا. قال الترمذي: «حسن صحيح»، وصححه ابن حبان، وقال الحاكم: «صحيح الإسناد» ونقل عن محمد بن يحيى الذُّهلي تصحيحه. وضعَّفه ابن حزم في «المحلَّى» (10/ 302) بجهالة زينب بنت كعب. (2) في الأصل والطبعتين: «فإنها»، تصحيف يفسد المعنى.

(1/584)


 22 - باب في عدة الحامل

198/ 2211 - وعن عبد الله ــ وهو ابن مسعود ــ - رضي الله عنه - قال: «من شاء لاعَنْتُه، لَأُنزِلَتْ سورة النساءِ القُصْرَى بعد الأربعة الأشهرِ وعشرًا». وأخرجه النسائي وابن ماجه (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وهذا يدل على أن ابن مسعود يرى نسخ الآية في البقرة بهذه الآية التي في الطلاق وهي قوله: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]. وهذا على عرف السلف في النسخ، فإنهم يسمّون التخصيص والتقييد نسخًا. وفي القرآن ما يدل على تقديم آية الطلاق في العمل بها، وهو أن قوله تعالى: {أَجَلُهُنَّ} مضاف ومضاف إليه، وهو يفيد العموم، أي هذا مجموع أجَلِهن، لا أجل لهن غيره. وأما قوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 234] فهو فِعل مُطلَق لا عموم له، فإذا عُمل به في غير الحامل كان تقييدًا لمطلقه بآية الطلاق؛ فالحديث مطابق للمفهوم من دلالة القرآن. والله أعلم.

  23 - باب في عدة أم الولد

199/ 2212 - عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: «لا تَلبِسوا علينا سنَّة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، عدَّة المتوفَّى عنها: أربعة أشهرٍ وعشرًا ــ يعني أمَّ الولد ــ». وأخرجه ابن ماجه (2). وفي إسناده مطر بن طَهْمان أبو رَجاء الورّاق، وقد _________ (1) أبو داود (2307)، والنسائي (3522)، وابن ماجه (2030). (2) أبو داود (2308)، وابن ماجه (2083)، من طريق مطر الوراق، عن رجاء بن حَيْوَة، عن قَبيصة بن ذُؤيب، عن عمرو بن العاص.

(1/585)


ضعّفه غير واحد (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: هذا الحديث يرويه قبيصة بن ذؤيب عن عمرو. وقال الدارقطني (2): قبيصة لم يسمع من عمرو، والصواب: «لا تلبسوا علينا [دينَنا] (3)» موقوف ــ يعني لم يذكر فيه «سنة نبينا» ــ، وقال الإمام أحمد (4): هذا حديث منكر. آخر كلامه. وقد رواه سليمان بن موسى، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة، عن عمرو قوله: «عدة أم الولد عدة الحرة» (5). وهذا الذي أشار إليه الدارقطني أنه الصواب. وقال ابن المنذر (6): ضعّف أحمد وأبو عبيد حديث عمرو بن العاص. وقال محمد بن موسى: سألت أبا عبد الله عن حديث عمرو بن العاص _________ (1) أورده النسائي في كتاب «الضعفاء» وقال: ليس بالقوي. ولكن قال أبو زرعة وأبو حاتم: صالح. وفصَّل يحيى القطان وأحمد وابن معين فضعَّفوا حديثه عن عطاء بن أبي رباح خاصة. انظر: «تهذيب التهذيب» (10/ 167). (2) «السنن» (3836، 3838، 3843). وأسنده عنه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 448) وفي «معرفة السنن» (11/ 239). (3) ساقط من الأصل، واستدركته من المصادر السابقة. (4) أسنده الدارقطني من طريق عبد الله، وهو عنده في «العلل» لأبيه بروايته (2656). وانظر: «مسائل صالح» (2/ 77). (5) رواه الدارقطني (3841 - 3843) من طريق سليمان بن موسى بألفاظ متقاربة. (6) «الإشراف على مذاهب العلماء» (5/ 401). والمؤلف صادر عن «المغني» (11/ 263).

(1/586)


فقال: لا يصح. وقال الميموني: رأيت أبا عبد الله يعجب من حديث عمرو بن العاص هذا، ثم قال: أين سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا؟ وقال: أربعة أشهر وعشرًا إنما هي عدة الحرة من النكاح، وإنما هذه أَمَة خرجت من الرق إلى الحرية (1). وقد روى مالك في «الموطأ» (2) عن نافع عن ابن عمر أنه قال في أم الولد يتوفى عنها سيّدها: «تعتد بحيضة». واختلف الفقهاء في عدتها، فالصحيح أنه حيضة، وهو المشهور عن أحمد (3)، وقول ابن عمر وعثمان وعائشة (4). وإليه ذهب مالك، والشافعي، وأبو عبيد، وأبو ثور وغيرهم (5). وعن أحمد رواية أخرى: تعتد أربعة أشهر وعشرا. وهو قول سعيد بن المسيب، وابن سيرين، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وخِلاس، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، والأوزاعي، وإسحاق (6). _________ (1) الروايتان عن أحمد نقلهما ابن قدامة في «المغني» (11/ 263 - 264). (2) برقم (1753). (3) انظر: «المغني» (11/ 262) للروايات عن أحمد. (4) سبق قول ابن عمر، ولم أجده مسندًا عن عائشة وعثمان، عزاه إليهما ابن قدامة في «المغني» (11/ 262). (5) انظر: «الموطأ» عقب الحديث (1736)، و «الأم» (6/ 554)، و «الإشراف» لابن المنذر (5/ 362)، و «الاستذكار» (6/ 217)، و «المغني» (11/ 262). (6) انظر: «الإشراف» (5/ 361)، و «الاستذكار» (6/ 218)، و «المغني» (11/ 262).

(1/587)


وعن أحمد رواية ثالثة: تعتد بشهرين (1) وخمسة أيام، حكاها أبو الخطاب، وهي رواية منكرة عنه، قال أبو محمد المقدسي (2): ولا أظنها صحيحة عنه. وروي ذلك عن عطاء وطاوس وقتادة (3). وقال أبو حنيفة وأصحابه (4): عدتها ثلاث حِيَض. ويروى ذلك عن علي وابن مسعود (5). وهو قول عطاء، وإبراهيم النخعي، والثوري (6). * * * _________ (1) في الطبعتين: «شهرين» خلافًا للأصل. (2) في «المغني» (11/ 263)، وذكر أنه لم يجدها في «الجامع» للخلال. (3) انظر: «الإشراف» (5/ 362)، و «الاستذكار» (6/ 218)، و «المغني» (11/ 263). (4) انظر: «الأصل» للشيباني (4/ 424)، و «بدائع الصنائع» (3/ 193). (5) أخرجه عنهما ابن أبي شيبة (19070 - 19072). (6) انظر: «الإشراف» (5/ 362)، و «الاستذكار» (6/ 218)، و «المغني» (11/ 263).

(1/588)


تهذيبُ سننِ أبي داود وإيضاحُ علله ومشكلاته تأليف الإمام العلامة محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (691 - 751) رحمه الله تعالى المجلد الثاني تحقيق نبيل بن نصار السِّنْدي

(2/1)


 كتاب الصيام

  1 - باب نسخ قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ}

200/ 2218 - عن سَلَمَة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: «لما نزلت هذه الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] كان من أراد منَّا أن يُفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسخَتْها». وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: اختلف السلف في هذه الآية على أربعة أقوال (2): أحدها: أنها ليست بمنسوخة، قاله ابن عباس (3). الثاني: أنها منسوخة، كما قاله سلمة والجمهور. الثالث (4): أنها مخصوصة، خُصّ منها القادر الذي لا عذر له، وبقيت متناولةً للمرضع والحامل. الرابع: أن بعضها منسوخ وبعضها محكم. _________ (1). أبو داود (2315)، والبخاري (4507)، ومسلم (1145)، والترمذي (798)، والنسائي (2316). (2). انظرها مسندةً إلى قائليها في «تفسير الطبري» (3/ 161 - 178). (3). هذا على قراءة ابن عباس: «يطوَّقونه» أي يكلَّفونه فلا يُطيقونه. أخرجه البخاري (4505). (4). في الطبعتين: «والثالث» خلافًا للأصل.

(2/3)


 2 - باب الشهر يكون تسعًا وعشرين

201/ 2226 - وعن عبد الرحمن بن أبي بَكْرَة عن أبيه - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «شَهْرَا عيدٍ لا ينقصان: رمضانُ، وذُو الحجة». وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه (1). [ق 112] قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي معناه أقوال: أحدها: لا يجتمع نقصُهما معًا في سنة واحدة، وهذا منصوص الإمام أحمد (2). الثاني: أن هذا خرج على الغالب، والغالب أنهما لا يجتمعان في النقص، وإن وقع نادرًا. والثالث: أن المراد بهذا تلك السنة وحدها، ذكره جماعة. الرابع: أنهما لا ينقصان في الأجر والثواب، وإن كان رمضان تسعًا وعشرين فهو كامل في الأجر. الخامس: أن المراد بهذا تفضيل العمل في عشر ذي الحجة، وأنه لا ينقص أجره وثوابه عن ثواب شهر رمضان (3). وقد اختلف في أيام العشر من ذي الحجة والعشر الأخير من رمضان أيهما أفضل؟ قال شيخنا (4): وفصل الخطاب: أن ليالي العشر الأخير من _________ (1). أبو داود (2323)، والبخاري (1912)، ومسلم (1089)، والترمذي (692)، وابن ماجه (1659). (2). «مسائل أحمد» برواية عبد الله (ص 180)، وبرواية الكوسج (2/ 541). (3). ذكره ابن حبان في «صحيحه» عقب الحديث (3448). (4). لم نجده في كتبه المطبوعة، نقله المؤلف أيضًا في «بدائع الفوائد» (3/ 1102)، وعنه نُقل في «مجموع الفتاوى» (25/ 287).

(2/4)


رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة، فإن فيها ليلة القدر، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في تلك الليالي ما لا يجتهد في غيرها من الليالي، وأيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر الآخر من رمضان؛ لحديث ابن عباس (1)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أعظم الأيام عند الله يوم النحر» (2)، وما جاء في يوم عرفة. السادس: أن الناس كان يكثر اختلافهم في هذين الشهرين لأجل صومهم وحجهم، فأعلَمَهم - صلى الله عليه وسلم - أن الشهرين وإن نقصت أعدادُهما فحكم عبادتهما على التمام والكمال (3). ولما كان هذان الشهران هما أفضل شهور العام، وكان العمل فيهما أحب إلى الله من سائر الشهور= رغّب النبي - صلى الله عليه وسلم - في العمل، وأخبر أنه لا ينقص ثوابه وإن نقص الشهران. والله أعلم. قالوا: ويشهد لهذا التفسير ما رواه الطبراني في «معجمه» (4) من حديث _________ (1). وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من أيامٍ العملُ الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر». رواه البخاري (969) وأبو داود (2438) والترمذي (757) واللفظ له. (2). أخرجه أحمد (19075)، وأبو داود (1765)، وابن خزيمة (2866)، وابن حبان (2811)، والحاكم (4/ 221) من حديث عبد الله بن قُرْط - رضي الله عنه -. (3). بنحوه فسّره إسحاق بن راهويه، كما في «مسائل الكوسج» (2/ 541)، و «جامع الترمذي» عقب الحديث (692). (4). من طريق هشيم عن خالد الحذّاء، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه. هكذا ذكر إسناده في «الفتح» (4/ 126)، وليس في القدر المطبوع من «المعجم الكبير»، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (3/ 150 - 151): «رجاله رجال الصحيح»، وقال المؤلف: رجال إسناده ثقات، وهو كما قالا، إلا أن لفظه منكر، فإن الحديث في «الصحيحين» وغيرهما من طرق عن خالد الحذّاء به بلفظ حديث الباب، والظاهر ــ كما قال الحافظ ابن حجر ــ أن هشيمًا دخل عليه الحديث في حديث آخر، فإن اللفظ الذي ذكره إنما هو لفظ حديث عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي ــ وهو ضعيف منكر الحديث ــ عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه. أخرجه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (502) وابن عدي في «الكامل» (4/ 305) وابن عبد البرّ في «التمهيد» (2/ 46 - 47)، وضعّفوه بعبد الرحمن بن إسحاق.

(2/5)


عبد الله (1) بن أبي بكرة عن أبيه يرفعه: «كل شهر حرام لا ينقص، ثلاثين يومًا وثلاثين ليلة». ورجال إسناده ثقات. وهذا لا يمكن حمله إلا على الثواب، أي للعامل فيها ثواب ثلاثين يومًا وليلة، وإن نقص عدده. والله أعلم.

  3 - باب إذا أخطأ القومُ الهلالَ

202/ 2227 - عن محمد بن المنكَدِر عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، ذَكَر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فيه، قال: «وفِطْرُكُم يوم تُفطرون، وأضْحاكم يوم تُضَحُّون، وكلُّ عرفة مَوقِفٌ، وكل مِنًى مَنْحَر، وكل فِجاج مَكَّةَ مَنْحَر، وكل جَمْعٍ موقفٌ». وأخرجه الترمذي (2) من حديث سعيد بن أبي سعيد المقبُري عن أبي هريرة، وقال: حسن غريب. قال ابن القيم - رحمه الله -: وأما حديث أبي داود، فقال يحيى بن معين (3): _________ (1). كذا في الأصل، والصواب: «عبد الرحمن» فإن الحديث من طريقه، على أن لأبي بكرة ولدًا بهذا الاسم، وقيل في اسمه: «عبيد الله»، وهو أشهر. انظر: «تعجيل المنفعة» (1/ 722). (2). أبو داود (2324)، والترمذي (697). (3). «تاريخ ابن معين» برواية الدوري (3/ 201)، و «المراسيل» لابن أبي حاتم (ص 189).

(2/6)


محمد بن المنكدر لم يسمع من أبي هريرة. وقال أبو زرعة الرازي: لم يلقَ أبا هريرة (1). قال الترمذي: وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إن معنى هذا الصومُ والفطر مع الجماعة وعُظْم الناس. وقال الخطابي (2) في معنى الحديث: إن الخطأ مرفوع عن الناس فيما كان سبيله الاجتهاد، فلو أن قومًا اجتهدوا، فلم يروا الهلال إلا بعد الثلاثين، فلم يفطروا حتى استوفوا العدد، ثم ثبت عندهم أن الشهر كان تسعًا وعشرين، فإن صومهم وفطرهم ماض، لا شيء عليهم من وِزرٍ أو عَنَت (3)، وكذلك في الحج إذا أخطأوا يوم عرفة، ليس عليهم إعادة. وقال غيره: فيه الإشارة إلى أن يوم الشك لا يصام احتياطًا، وإنما يصام يوم يصوم الناس. وقيل: فيه الرد على من يقول: إن من عرف طلوع القمر بتقدير حساب المنازل جاز له أن يصوم به ويفطر، دون من لم يعلم. وقيل: إن الشاهد الواحد إذا رأى الهلال ولم يحكم القاضي بشهادته أنه لا يكون هذا له صومًا، كما لم يكن للناس. آخر كلامه (4). _________ (1). نقله ابن أبي حاتم في «المراسيل» (ص 189)، وهذه الفقرة ساقطة من ط. الفقي. (2). «معالم السنن» (3/ 213). (3). كذا في مطبوعة «المعالم»، وفي مخطوطة «المختصر»: «عَتَب»، وفي الأصل محتمل. (4). أي المنذري، ويبدأ كلامه من: «قال الترمذي»، وليس في مطبوعة «المختصر»، وهو ثابت في المخطوط (النسخة البريطانية)، وكأن المجرد ظنَّه من زيادات ابن القيم على كلام المنذري فأثبته.

(2/7)


وفيه دليل على أن المنفرد بالرؤية لا يلزمه حكمها، لا في الصوم ولا في الفطر ولا في التعريف.

  4 - باب إذا أُغْمِي الشهرُ

203/ 2229 - وعن حذيفة ــ وهو ابن اليَمَان ــ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَقدَّمُوا الشهرَ حتى تَرَوُا الهلال، أو تكملوا العدة، ثم صوموا حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة». وأخرجه النسائي (1) مسندًا ومرسلًا، وقال (2): لا أعلم أحدًا من أصحاب منصور قال في هذا الحديث «عن حذيفة» غيرَ جرير ــ يعني ابن عبد الحميد ــ. وقال البيهقي (3): وصله جرير عن منصور، فذكر حذيفة فيه، وهو ثقة حجة. ورواه الثوري وجماعة عن منصور، عن رِبْعِيٍّ، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن القيم - رحمه الله -: هذا الحديث وَصْلُه صحيح، فإن الذين وصلوه أوثق وأكثر من الذين أرسلوه، والذي أرسله هو الحجاج بن أرطاة عن منصور. وقول النسائي: لا أعلم أحدًا قال في هذا الحديث «عن حذيفة» غير جرير، إنما عَنَى تسميةَ الصحابي، وإلا فقد رواه الثوري وغيره [عن _________ (1). أبو داود (2326)، والنسائي (2126) مسندًا و (2128) مُرسلًا. (2). ليس في مطبوعة «الكبرى»، وقد ذكره المزِّي في «التحفة» (3/ 28)، وللبزار كلام بنحوه في «مسنده» عقب الحديث (2856). (3). «السنن الكبرى» (4/ 208).

(2/8)


منصور] (1) عن رِبْعي عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (2). وهذا موصول، ولا يضره عدم تسمية الصحابي ولا يُعلَّل بذلك.

  5 - باب من قال: إذا غُمَّ عليكم فصوموا ثلاثين

204/ 2230 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَقدَّموا الشهرَ بصيام يوم ولا يومين، إلا أن يكون شيء يصومه أحدُكم، لا تصوموا حتى تروه، ثم صوموا حتى تروْه، فإن حالَ دونه غَمامة فأتمُّوا العِدَّة ثلاثين، ثم أفطروا، والشهر تسع وعشرون». وأخرجه الترمذي والنسائي (3) بنحوه. وقال الترمذي: حسن صحيح. قال ابن القيم - رحمه الله -: ولفظ النسائي فيه: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن حال بينكم وبينه سحاب فكمِّلوا العدة، ولا تستقبلوا الشهر استقبالا». وفي لفظ للنسائي (4) أيضًا: «فأكملوا العدة عدة شعبان». رواه من حديث أبي يونس عن سماك عن عكرمة عنه. قال الدارقطني (5): ولم يقل في حديث ابن عباس: «فأكملوا عدة شعبان» غير آدم، قال: ثنا شعبة: حدثني عمرو بن مرة قال: سمعت أبا البَخْتَري الطائي يقول: أهل هلال رمضان ونحن بذات الشقوق، فشككنا في _________ (1). ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل. (2). أخرجه أحمد (18825)، والنسائي (2127) وغيرهما من طريق الثوري، عن منصور به. وأخرجه ابن أبي شيبة (9113) عن أبي الأحوص، عن منصور به. وأخرجه الدارقطني (2169) من طريق عبيدة بن حميد، عن منصور به. (3). أبو داود (2327)، والترمذي (688)، والنسائي (2129). (4). برقم (2189). (5). انظر: «السنن» (2172).

(2/9)


الهلال، فبعثنا رجلًا إلى ابن عباس فسأله؟ فقال ابن عباس [عن النبي - صلى الله عليه وسلم -] (1): «إن الله أمدّه لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين». قال الدارقطني: صحيح عن شعبة، ورواه حصين وأبو خالد الدالاني عن عمرو بن مرة، ولم يقل فيه «عدة شعبان» غير آدم، وهو ثقة. قال المنذري: وقد أخرج مسلم في «صحيحه»، والنسائي، وابن ماجه (2) من حديث سعيد بن المسيِّب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا (3) رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فصوموا ثلاثين يومًا». قال ابن القيم - رحمه الله -: حديث أبي هريرة هذا قد روي في «الصحيح» بثلاثة ألفاظ، [ق 113] أحدها: هذا. اللفظ الثاني: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة» (4). وفي رواية: «فعدّوا ثلاثين» (5). اللفظ الثالث: «فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين». وهذا اللفظ الآخر للبخاري وحده (6)، وقد عُلِّل بعلّتين: _________ (1). ما بين الحاصرتين من «سنن الدارقطني». (2). مسلم (1081/ 17)، والنسائي (2119)، وابن ماجه (1655). (3). في أصل المجرّد: «وإن»، والتصويب من مصادر الحديث و «المختصر». (4). أخرجه مسلم (1081/ 18) من طريق الربيع بن مسلم، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، ولفظه: «فأكملوا العَدَد». (5). مسلم (1081/ 19) من طريق معاذ بن معاذ، عن شعبة، عن محمد بن زياد به. (6). برقم (1909) من طريق آدم، عن شعبة به.

(2/10)


إحداهما (1): أنه من رواية محمد بن زياد عنه، وقد خالفه فيه سعيد بن المسيب فقال فيه: «فصوموا ثلاثين». قالوا: وروايته أولى لإمامته، واشتهار عدالته وثقته، ولاختصاصه بأبي هريرة وصهره منه، ولموافقة روايته لرأي أبي هريرة ومذهبه، فإن مذهب أبي هريرة، وعمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وعمرو بن العاص، وأنس، ومعاوية، وعائشة، وأسماء: صيام يوم الغيم (2). قالوا: فكيف يكون عند أبي هريرة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فأكملوا عدة شعبان» ثم يخالفه؟ العلة الثانية: ما ذكرها الإسماعيلي (3) قال: وقد روينا هذا الحديث عن غندر وابن مهدي وابن عُليّة وعيسى بن يونس وشبابة وعاصم بن علي والنضر بن شميل ويزيد بن هارون وأبي داود كلهم عن شعبة، لم يذكر أحد منهم: «فأكملوا عدة شعبان ثلاثين»، فيجوز أن يكون آدم قال ذلك من عنده على وجه التفسير للخبر، وإلا فليس لانفراد البخاري عنه بهذا مِن بين مَن رواه عنه وجه. هذا آخر كلامه. وقد رواه الدارقطني (4) فقال فيه: «فعُدُّوا ثلاثين، يعني عدوا شعبان ثلاثين»، ثم قال: أخرجه البخاري عن آدم فقال فيه: «فعدوا شعبان ثلاثين» ولم يقل «يعني». _________ (1). انظر: «المغني» (4/ 333). (2). انظر آثار هؤلاء بأسانيدها في «درء اللوم والضيم في صوم يوم الغيم» لابن الجوزي (ص 52 - 59)، و «زاد المعاد» للمؤلف (2/ 41 - 43). (3). في «المستخرج»، كما في «التحقيق في أحاديث الخلاف» لابن الجوزي (2/ 74). (4). برقم (2173) من طريق آدم بن أبي إياس به.

(2/11)


وهذا يدل على أن قوله «يعني» من بعض الرواة، والظاهر أنه آدم وأنه قولُه. وقد تقدم حديث ابن عباس في ذلك، وتفرَّد آدمُ أيضًا فيه بقوله: «فأكملوا عدة شعبان ثلاثين»، وسائر الرواة إنما قالوا: «فأكملوا العدة» كما رواه: حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس (1). وسفيان عن عمرو عن محمد بن حُنَين عن ابن عباس (2). وحاتم بن أبي صغيرة عن سِماك عن عكرمة عن ابن عباس (3). وأبو الأحوص عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس (4). وحُصَين عن عمرو بن مُرَّة عن أبي البَخْتَري (5). _________ (1). أخرجه النسائي (2124) بلفظ: «فأكملوا العدّة ثلاثين». (2). أخرجه النسائي (2125) باللفظ السابق. وأخرجه عبد الرزاق (7302) من طريق ابن جريج، عن عمرو به، بلفظ: «فأكملوا ثلاثين يومًا». (3). أخرجه النسائي (2129) من طريق إسماعيل ابن علية عن حاتم به، بلفظ: «فأكملوا العدّة». (4). أخرجه الترمذي (688) وقال: حسن صحيح، والنسائي (2130)، وابن حبّان (3594)، بلفظ: «فأكملوا ثلاثين»، زاد الترمذي: «يومًا». ورواه أيضًا: شعبة عن سماك به بلفظ: «فأكملوا العدّة ثلاثين» أخرجه ابن خزيمة (1912) والحاكم (1/ 425)، وزائدةُ بن قدامة عن سماك به بلفظ: «فأكملوا العدّة» أخرجه أحمد (2335). (5). أخرجه مسلم (1088/ 29) وليس فيه موضع الشاهد. وقد رواه شعبة عن عمرو بن مُرّة به بلفظ: «فأكملوا العدّة». أخرجه أحمد (3021)، ومسلم (1088/ 30).

(2/12)


وأبو خالد الدالاني عن عمرو عن أبي البختري (1). =كلهم قال في حديثه: «فأكملوا العدة»، ومنهم من قال: «فأكملوا ثلاثين»، وقال آدم من بينهم: «عدة شعبان»، فهذه الزيادة من آدم في حديث ابن عباس كهي في حديث أبي هريرة، وسائر الرواة على خلافه فيه (2). قال بعض الحفاظ (3): وهذا يدل على أن هذا تفسير منه في الحديثين. ومدار هذا الباب على حديث ابن عباس، وأبي هريرة، وابن عمر، وعائشة، وحذيفة، ورافع بن خديج، وطلق بن علي، وسعد بن أبي وقاص، وعمار بن ياسر؛ فهذه عشرة أحاديث. فأما حديث ابن عباس وأبى هريرة فقد ذكرناهما. وأما حديث ابن عمر وعائشة وحذيفة فقد تقدمت (4). _________ (1). أخرجه الدارقطني (2208) وليس فيه موضع الشاهد. (2). وردت هذه الزيادة أيضًا عند أبي داود الطيالسي (2793) والنسائي (2189) من طريقين عن سماك به، ولعلّها مدرجة من تفسير بعض الرواة، إذ ليست في أكثر الطرق عن سماك على ما سبق ذكرها. (3). لعل المقصود ابن الجوزي، فإنه قال ذلك في «درء اللوم» (ص 109). (4). ولم يتقدّم معنا في «التجريد» سوى حديث حذيفة. أما حديث ابن عمر فأخرجه أبو داود (2320) بلفظ: «الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين». وهو عند مسلم (1080/ 4) بنحوه، وعند البخاري (1906) بدون قوله: «ثلاثين». وأما حديث عائشة فأخرجه أبو داود (2325) وابن خزيمة (1910) وابن حبان (3444) والحاكم (1/ 423) بلفظ: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحفّظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غمّ عليه عدّ ثلاثين يومًا ثم صام».

(2/13)


وأما حديث رافع بن خديج، فرواه الدارقطني (1) من حديث الزهري، عن حنظلة بن علي الأسلمي، عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أحصوا عدة شعبان لرمضان، ولا تقدموا الشهر بصوم، فإذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يوما ثم أفطروا. فإن الشهر هكذا وهكذا وهكذا (وخنس إبهامه في الثالثة)». وفيه الواقدي، وهو وإن كان ضعيفًا، فليس العمدة على مجرد حديثه. وأما حديث طلق، فرواه الدارقطني (2) أيضًا من حديث لُوَين (3) عن محمد بن جابر، عن قيس بن طلق، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «جعل الله الأهلة مواقيت للناس، فإذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأتموا العدة ثلاثين»، قال محمد بن جابر: سمعت هذا منه وحديثين آخرين. ومحمد بن جابر وإن كان ليس بالقوي، فالعمدة على ما تقدم. وأما حديث سعد، فرواه النسائي (4) عن محمد بن سعد، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا ــ يعني تسعة وعشرين ــ». وفي رواية: «ثم قبض في الثالثة الإبهام في اليسرى». وأما حديث عمّار بن ياسر، فسيأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى. _________ (1). رقم (2176). (2). رقم (2175)، وأخرجه أيضًا أحمد في «مسنده» (16294). في إسناده محمد بن جابر بن سيّار، قال عنه الدارقطني عقب الحديث: «ليس بالقوي، ضعيف». (3). ط. الفقي: «حديث أبي يونس»، تحريف. (4). رقم (2135 - 2137). وهو في «صحيح مسلم» (1086).

(2/14)


 6 - باب في التقدُّم

205/ 2231 - عن عِمران بن حُصين: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: «هل صُمتَ من سَرَرِ شعبان شيئًا؟» قال: لا، قال: «فإذا أفطرتَ فَصُمْ يومًا». وفي رواية: «يومين». وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد أشكل هذا على الناس، فحمله طائفة على الاحتياط لدخول رمضان، قالوا: وسَرَر الشهر، وسراره (بكسر السين وفتحها) ثلاث لغات، وهو آخرُه وقتَ استِسْرارِ هلاله، فأمره إذا أفطر أن يصوم يومًا أو يومين، عوض ما فاته من صيام سرره احتياطًا. وقالت طائفة منهم الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز: سِرُّه أوله، وسراره أيضًا، فأخبره أنه لم يَصُم من أوله فأمره بقضاء ما أفطر منه. ذكره أبو داود (2) عن الأوزاعي وسعيد. وأنكر جماعة (3) هذا التفسير فرأوه غلطًا، قالوا: فإن سرار الشهر آخره، سمي بذلك لاستسرار القمر فيه (4). _________ (1). أبو داود (2328)، والبخاري (1983)، ومسلم (1161)، والنسائي في «الكبرى» (2881). (2). برقم (2330، 2331). (3). منهم الخطابي في «غريب الحديث» (1/ 130) و «المعالم» (3/ 218). (4). هذا الذي حكاه أبو عبيد بن سلّام في «غريب الحديث» (2/ 79) عن الكسائي وغيره من أهل اللغة، وهو الذي ذكره ابن دريد، والأزهري، والجوهري، وابن فارس في معاجمهم، لم يذكروا غيره.

(2/15)


وقالت طائفة: سرره هنا وسطه، وسِرُّ كل شيء جوفه. قال البيهقي (1): فعلى هذا أراد أيام البيض. هذا آخر كلامه. ورُجِّحَ هذا بأن في بعض الروايات فيه: «أصمت من سُرّة هذا الشهر؟» (2)، وسُرَّته: وسطه، كسرة [ق 114] الآدمي. وقالت طائفة: هذا على سبيل استفهام الإنكار، والمقصود منه الزجر. قال ابن حبان في «صحيحه» (3): وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أصمت من سرر هذا الشهر؟» لفظةُ استخبارٍ عن فعلٍ، مرادُها الإعلام بنفي جواز استعمال ذلك الفعل [المستخبَر] عنه، كالمنكِر عليه لو فعله. وهذا كقوله لعائشة: «أتسترين الجدار؟» (4) وأراد به الإنكار عليها بلفظ الاستخبار. وأَمْرُه - صلى الله عليه وسلم - بصوم يومين من شوال أراد به انتهاء (5) السِّرار، وذلك أن الشهر إذا كان تسعًا وعشرين يَستَسِرُّ القمر يومًا واحدًا، وإذا كان الشهر ثلاثين يستسرّ القمر _________ (1). في «الكبرى» (4/ 211). (2). أخرجها مسلم (1161/ 195) عن عبد الله بن محمد الضبعي، عن مهدي بن ميمون، عن غيلان، عن مطرف، عن عمران بن حصين. وعبد الله الضبعي قد تفرد بهذا اللفظ، فالحديث عند أحمد (20006) والبخاري (1983) من ثلاثة طرق عن مهدي به بلفظ: «سرر»، فضلًا عن الطرق الأخرى عن مطرف به. (3). عقب الحديث (3588)، وما بين الحاصرتين منه. (4). أخرجه أحمد (26103) وابن حبان (5843)، وأصله في البخاري (6109) ومسلم (2107) دون موضع الشاهد. (5). في ط. المعارف و «الإحسان» (ط. الرسالة): «أنّها»، تصحيف، والمثبت من الأصل موافق «للتقاسيم والأنواع» (3/ 273) وللنقل عنه في «سير أعلام النبلاء» (16/ 99).

(2/16)


يومين، والوقت الذي خاطب به - صلى الله عليه وسلم - (1) هذا الخطاب يشبه أن يكون عدد شعبان كان ثلاثين، فمن أجله أمر بصوم يومين من شوال. آخر كلامه (2). وقالت طائفة: لعل صوم سرر الشهر كان الرجلُ قد أوجَبَه على نفسه بنذر، فأمره بالوفاء (3). وقالت طائفة: لعل ذلك الرجل كان قد اعتاد صيام أواخر الشهور، فترك آخر شعبان لظنه أن صومه يكون استقبالًا لرمضان، فيكون منهيًّا عنه، فاستحب له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقضيه، ورُجِّح هذا بقوله: «إلا صوم كان يصومه أحدكم فليَصُمْه». والنهيُ عن التقدّم لمن لا عادة [له] (4)، فيتفق الحديثان. والله أعلم.

  7 - باب كراهية صوم يوم الشك

206/ 2234 - عن صِلَة ــ وهو ابن زُفَر ــ قال: «كُنَّا عند عَمَّار في اليوم الذي يُشَكُّ فيه، فأتي بشاةٍ، فَتَنَحَّى بعضُ القوم، فقال عمار: من صام هذا اليوم فقد عصَى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -». _________ (1). في الطبعتين: «النبي - صلى الله عليه وسلم -» خلافًا للأصل و «صحيح ابن حبان». (2). تعقّبه الحافظ الضياء المقدسي في جزءٍ جمع فيه المآخذ على «صحيحه» فقال: «لو كان مُنكِرًا عليه لما أمره بالقضاء». انظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 98 - 99). (3). هذا التوجيه والذي بعده ذكرهما أبو عبيد بن سلّام في «غريبه» (2/ 80) وقال: «لا أعرف للحديث وجهًا غيره». (4). زيادة مني. والحديث أخرجه البخاري (1914) ومسلم (1082) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وتقدم نحوه من حديث ابن عبّاس قريبًا.

(2/17)


وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (1). وقال الترمذي: حسن صحيح. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال الدارقطني (2): إسناده حسن صحيح، و [رواته] كلهم ثقات. قال المنذري: قال: ابن عبد البر (3): هذا مُسنَد عندهم ولا يختلفون، يعني في ذلك. قال ابن القيم - رحمه الله -: وذكر جماعة (4) أنه موقوف، ونظير هذا قول أبي هريرة: «من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله» (5). والحكم على الحديث بأنه مرفوع بمجرد هذا اللفظ لا يصح، وإنما هو لفظ الصحابي قطعًا، ولعله فهم من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَقَدَّموا رمضانَ بيوم ولا يومين» أن صيام يوم الشك تقدُّم، فهو معصية، كما فهم أبو هريرة من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا دعا أحدُكم أخاه فليُجِبْه» (6) أن ترْكَ الإجابة معصيةٌ لله _________ (1). أبو داود (2334)، والترمذي (686)، والنسائي (2188)، وابن ماجه (1645). (2). عقب الحديث (2150)، وما بين الحاصرتين منه. وقد صححه أيضًا ابنُ خزيمة (1914) وابن حبان (3585)، وعلّقه البخاري عن صِلَة بن زُفَر مجزومًا به في «باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا رأيتم الهلال فصوموا ... ». (3). في «التمهيد» (10/ 175) عند الكلام على أثر أبي هريرة في إجابة الدعوة، وسيأتي لفظه قريبًا. (4). كأبي القاسم الجوهري في «مسند الموطأ» (ص 193)، وكان المنذري قد صرّح به في «المختصر» فأبهمه المؤلف وأدرجه في جماعة ممن قال به. (5). أخرجه مالك (1573) والبخاري (5177) ومسلم (1432). (6). أخرجه أحمد (6337) ومسلم (1429) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -.

(2/18)


ورسوله. ولا يجوز أن يُقَوَّل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقله، والصحابي إنما يقول ذلك استنادًا منه إلى دليل فَهِم منه أن مخالفة مقتضاه معصية، ولعله لو ذكر ذلك الدليل لكان له محمل غيرَ ما ظنّه، فقد كان الصحابة يخالف بعضهم بعضًا في كثير من وجوه دلالة النصوص.

  8 - باب في كراهية ذلك (1)

207/ 2237 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا انتَصَفَ شعبانُ فلا تصوموا». وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (2). وقال الترمذي: حسن صحيح، ومعنى هذا الحديث عند بعض أهل العلم: أن يكون الرجل مُفطرًا، فإذا بقي من شعبان شيء أخذ في الصوم لحال شهر رمضان. آخر كلامه (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: الذين رَدُّوا هذا الحديث لهم مأخذان: أحدهما: أنه لم يتابِع العلاءَ عليه أحد، بل انفرد به عن الناس (4). _________ (1). بعده في الأصل: «يعني وصل شعبان برمضان»، والظاهر أنه من توضيح المجرّد، فالباب الذي سبقه في «السنن» و «المختصر» هو «باب فيمن يصل شعبان برمضان»، ولم يَرِد في «التجريد». (2). أبو داود (2337)، والترمذي (738)، والنسائي في «الكبرى» (2923)، وابن ماجه (1651). (3). كلام الترمذي من قوله: «ومعنى هذا الحديث ... » إلخ ذكره المجرِّد ونسبه إلى «مختصر المنذري»، مع أنه ليس في مطبوعته ولا مخطوطه، والظاهر أن إتمام النقل لكلام الترمذي من زيادة المؤلف. (4). قال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه على هذا اللفظ. وقال النسائي: لا نعلم أحدًا روى هذا الحديث غير العلاء بن عبد الرحمن.

(2/19)


وكيف لا يكون هذا معروفًا عند أصحاب أبي هريرة مع أنه أمر تعمّ به البلوى ويتّصل به العمل؟! والمأخذ الثاني: أنهم ظنوه معارضًا لحديث عائشة (1) وأم سلمة (2) في صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - شعبان كله، أو إلا قليلًا منه، وقوله «إلا أن يكون لأحدكم صوم فليصمه»، وسؤاله للرجل عن صوم سرر شعبان. قالوا: وهذه الأحاديث أصح منه. وربما ظن بعضهم أن هذا الحديث لم يسمعه العلاء من أبيه. وأما المصححون له فأجابوا عن هذا بأنه ليس فيه ما يقدح في صحته، وهو حديث على شرط مسلم، أخرج في «صحيحه» عدة أحاديث عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة. وتفرُّدُه به تفرد ثقةٍ بحديث مستقل، وله عدة نظائر في «الصحيح». قالوا: والتفرد الذي يعلل به: تفرُّدُ الرجل عن الناس بوَصْلِ ما أرسلوه، أو رفعِ ما وقفوه، أو زيادةِ لفظةٍ لم يذكروها. وأما الثقة العدل إذا روى حديثًا وتفرد به لم يكن تفرُّدُه علةً، فكم قد تفرد الثقات بسننٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عملت بها الأمة؟ قالوا: وأما ظن معارضته بالأحاديث الدالة على صيام شعبان، فلا _________ (1). أخرجه البخاري (1970) ومسلم (1156). (2). أخرجه أحمد (26562، 26653)، وأبو داود (2336)، والترمذي (736) والنسائي (2175)، قال الترمذي: حديث حسن، وقال في «الشمائل» (301): هذا إسناد صحيح.

(2/20)


معارضة بينهما، فإن تلك الأحاديث تدل على صوم نصفه مع ما قبله، وعلى الصوم المعتاد في النصف الثاني، وحديثُ العلاء يدل على المنع من تعمد الصوم بعد النصف لا لعادةٍ ولا مضافًا إلى ما قبله، ويشهد له حديث التقدُّم (1). وأما كون العلاء لم يسمعه من أبيه، فهذا لم نعلم أن أحدًا علّل به الحديث، فإن العلاء قد ثبت سماعه من أبيه، وفي «صحيح مسلم» عن العلاء عن أبيه بالعنعنة غير حديث (2). وقد قال ..... (3): لقيت العلاء بن عبد الرحمن وهو يطوف، فقلت له: بِرَبِّ هذا البيت، حدّثك أبوك عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إذا انتصف شعبان فلا تصوموا؟ فقال: ورب هذا البيت سمعتُ أبي يحدث عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ــ فذكره ــ (4).

  9 - باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان

208/ 2240 - عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني رأيتُ الهلال ــ قال الحسن (وهو الحُلواني) في حديثه: يعني رمضان ــ فقال: «أتشهد أن لا إله إلا الله؟» قال: نعم، قال: «أتشهد أن محمدًا _________ (1). أي حديث: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين» المتفق عليه. (2). انظر على سبيل المثال الأحاديث برقم (46، 102، 125، 249، 1380، 1631، 2589، 2994). (3). بياض في الأصل قدر ثلاث كلمات. (4). لم أقف على هذه القصة، ولكن هناك ما يشابهها، وهو ما ورد في رواية أبي داود (337) أن عبّاد بن كثير قدم المدينة، فمال إلى مجلس العلاء فأخذ بيده فأقامه ثم قال: اللهم إن هذا يحدّث عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ... (فذكره)، فقال العلاء: اللهم إن أبي حدثني عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك.

(2/21)


رسول الله؟» قال: نعم، قال: «يا بلالُ أَذِّنْ في الناسِ فليصوموا غدًا». 209/ 2241 - وعن عكرمة: أنهم شَكُّوا في هلال رمضان مَرَّةً، فأرادوا أن لا يقوموا ولا يصوموا، فجاء أعرابي من الحَرَّةِ فشهد أنه رأى الهلال، فأُتي به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أتشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟» قال: نعم، وشهد أنه رأى الهلال، فأمر بلالًا فنادى في الناس أن يقوموا وأن يصوموا». قال أبو داود: رواه جماعة عن سماك عن عكرمة مرسلًا، ولم يذكر القيام أحد إلا حماد بن سلمة. وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (1) مسندًا ومرسلًا. وقال الترمذي: فيه اختلاف. وذكر النسائي (2) أن المرسل أولى بالصواب وأن سِماكًا إذا انفرد بأصل لم يكن حجّةً، لأنه كان يُلَقَّن فيتلقَّن. 210/ 2242 - وعن ابن عمر قال: تَرَاءى الناسُ الهلالَ، فأخبرتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني رأيته، فصامه وأمر الناس بصيامه (3). قال الدارقطني: تفرّد به مروان بن محمد عن ابن وهب، وهو ثقة (4). _________ (1). أبو داود (2340، 2341)، والترمذي (691)، والنسائي (2112 - 2115)، وابن ماجه (1652) من طرق عن سماك عن عكرمة على اختلاف في إسناده وإرساله. (2). لم أجده في مطبوعة «السنن الكبرى»، وقد نقله المزِّي في «التحفة» (5/ 137 - 138). (3). «سنن أبي داود» (2342)، وأخرجه أيضًا الدارمي (1733)، وابن حبّان (3447)، والدارقطني (2146)، كلهم من طريق مروان بن محمد الدمشقي، عن ابن وهب، عن يحيى بن عبد الله بن سالم, عن أبي بكر بن نافع, عن أبيه, عن ابن عمر. (4). كذا قال الدارقطني، وقد توبع مروان، تابعه هارون بن سعيد الأيلي ــ وهو ثقة ــ عن ابن وهب به، أخرجه الحاكم (1/ 423) والبيهقي (4/ 212).

(2/22)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى البيهقي في «سننه» (1) من حديث محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن أمه فاطمة بنت حسين: أن رجلًا شهد عند علي على رؤية هلال شهر رمضان فصام، وأحسبه قال: وأمر الناس أن يصوموا، [وقال: «أصومُ] يومًا من شعبان أحب إلي من [أن] أفطر (2) يومًا من رمضان». وفي «سنن الدارقطني» (3) من حديث أبي إسماعيل حفص بن عمر الأُبُلِّي، عن مسعر [ق 115] بن كدام وأبي عوانة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن طاوس، عن ابن عمر وابن عباس قالا: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجاز شهادة رجل واحد على رؤية هلال شهر رمضان»، وقالا: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يجيز شهادة الإفطار إلا برجلين». وأبو إسماعيل هذا ضعيف جدًّا، وأبو حاتم يرميه بالكذب (4).

  10 - باب الرجل يسمع النداء والإناء على يده

211/ 2249 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سمع أحدُكم النداء والإناءُ على يده فلا يَضَعْهُ حتى يَقضيَ حاجتَه منه» (5). _________ (1). (4/ 212)، وفي «معرفة السنن» (6/ 244). وما بين المعكوفات مستدرك منهما. (2). كتب في الأصل فوقه بخط صغير: «كذا» إشارةً إلى عدم وجود «أن» قبله. (3). رقم (2148) وقال: تفرّد به حفص بن عمر الأُبلّي أبو إسماعيل، وهو ضعيف الحديث. (4). «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (3/ 183). (5). «سنن أبي داود» (2350).

(2/23)


قال ابن القيم - رحمه الله -: هذا الحديث أعلّه ابن القطان (1) بأنه مشكوك في اتصاله، قال: لأن أبا داود قال: حدثنا عبدُ الأعلى بن حمّاد، أظنه عن حماد (2)، عن محمد بن عمرو، عن [أبي سلمة، عن] أبي هريرة، فذكره. وقد روى النسائي (3) عن زِرّ قال: «قلنا لحذيفة: أيَّ ساعة تسحّرتَ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: هو النهار، إلا أن الشمس لم تطلع». وقد اختُلف في هذه المسألة، فروى إسحاق بن راهويه (4) عن وكيع أنه سمع الأعمش يقول: «لو لا الشُّهْرة لصليت الغداة ثم تسحرت». ثم ذكر إسحاق عن أبي بكر الصديق وعلي وحذيفة نحو هذا (5)، ثم قال: وهؤلاء لم يَرَوا فرقًا بين الأكل وبين الصلاة المكتوبة. آخر كلام إسحاق. وقد حكي ذلك عن ابن مسعود أيضًا (6). _________ (1). «بيان الوهم والإيهام» (2/ 282). (2). ذكر ابن القطان أنه هكذا في رواية ابن الأعرابي. أما نسخ رواية اللؤلؤي ففيها: «حدثنا حماد». وعلى كل حال، فشك عبد الأعلى بن حماد ليس بضائر، فإنه قد تابعه في الرواية عن حماد بن سلمة: رَوح بن عبادة عند أحمد (10629)، وعفّان بن مسلم وعبد الواحد بن غياث عند الحاكم (1/ 203). وإنما علّته غير هذا، فقد أعلّه أبو حاتم بالوقف. انظر: «العلل» لابنه (340). (3). رقم (2152) من طريق عاصم بن بهدلة، عن زر، عن حذيفة. وسيأتي الكلام عليه. (4). ورواه أيضًا أحمد في «العلل» لابنه (294) و «مسائله» برواية صالح (2/ 445)، ورواه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 389) من طريق آخر عن وكيع. (5). وأخرج آثارهم أيضًا عبد الرزاق (7618، 7609، 7606)، وابن أبي شيبة (9022، 9023، 9028)، والطبري في «تفسيره» (3/ 254 - 256). (6). أخرجه عبد الرزاق (7619)، وابن أبي شيبة (9024)، والطبري (3/ 255).

(2/24)


وذهب الجمهور إلى امتناع السحور بطلوع الفجر، وهو قول الأئمة الأربعة وعامَّةِ فقهاء الأمصار (1)، وروي معناه عن عمر وابن عباس (2). واحتج الأولون بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فكلوا واشربوا حتى يؤذّن ابنُ أم مكتوم» ولم يكن يؤذن إلا بعد طلوع الفجر. كذا في البخاري (3). وفي بعض الروايات (4): «وكان رجلا أعمى لا يؤذن حتى يقال: أصبحتَ أصبحتَ!». قالوا: وإن النهار إنما هو من طلوع الشمس. واحتج الجمهور بقوله تعالى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم»، وبقوله: «الفجر فجران، فأما الأول فإنه لا يُحرِّم الطعامَ ولا يُحِل الصلاة، وأما الثاني فإنه يُحرِّم الطعام ويحل الصلاة» رواه البيهقي في «سننه» (5). قالوا: وأما حديث حذيفة فمعلول، وعلته الوقف، وأن زِرًّا هو الذي _________ (1). وحكاه ابن عبد البر في «التمهيد» (10/ 62) إجماعًا. (2). انظر: «المغني» (4/ 325). (3). برقم (1918) من حديث عائشة، ولفظه: «فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر». ولم أجد هذا اللفظ: «إلا بعد طلوع الفجر» في شيء من الروايات. (4). برقم (617، 2656) من حديث ابن عمر. (5). (1/ 377، 4/ 216)، وأخرجه أيضًا ابن خزيمة (356، 1927)، والدارقطني (2185)، والحاكم (1/ 191) من حديث ابن عباس، وقد اختلف في رفعه ووقفه، ورجّح الدارقطني والبيهقي الوقف. وروي أيضًا من حديث عبد الرحمن بن عائش موقوفًا عليه. أخرجه الدارقطني (2183) وقال: إسناده صحيح.

(2/25)


تسحر مع حذيفة، ذكره النسائي (1).

  11 - باب الفطر قبل غروب الشمس

212/ 2258 - عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها - قالت: أفطرنا يومًا في رمضان في غَيْم، في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم طلعت الشمس. قال أبو أسامة ــ وهو حماد بن أسامة ــ: قلت لهشام ــ وهو ابن عروة ــ: أُمِرُوا بالقضاء؟ قال: وبُدٌّ من ذلك؟! وأخرجه البخاري والترمذي وابن ماجه (2). قال البخاري: قال معمر: سمعتُ هشامًا يقول: لا أدري، أقضَوا أم لا. قال ابن القيم - رحمه الله -: واختلف الناس، هل يجب القضاء في هذه الصورة؟ فقال الأكثرون: يجب. وذهب إسحاق بن راهويه وأهل الظاهر إلى أنه لا قضاء عليهم، وحكمهم حكم من أكل ناسيًا (3). وحكي ذلك عن الحسن (4) ومجاهد (5). _________ (1). أعلَّ النسائي الرواية المرفوعة بقوله ــ كما في «تحفة الأشراف» (3/ 32) ــ: «لا نعلم أحدًا رفعه غير عاصم». وعاصم صدوق في حفظه لين. وقد خالفه عدي بن ثابت فرواه عن زرٍّ عن حذيفة موقوفًا، أخرجه النسائي (2153). ويؤيده ما أخرجه عبد الرزاق (7606) عن شقيق بن سلمة قال: انطلقت أنا وزرّ بن حبيش إلى حذيفة ... فذكره بنحوه موقوفًا. (2). أبو داود (2359)، والبخاري (1959)، وابن ماجه (1674)، ولم أجده في «جامع الترمذي» ولا عزاه إليه في «تحفة الأشراف» (15749). (3). انظر: «الاستذكار» (3/ 344)، و «المغني» (4/ 389)، و «مسائل إسحاق» للكوسج (1/ 293)، و «المحلَّى» (6/ 222 - 223). (4). أخرجه عنه ابن أبي شيبة (9144). (5). كذا نسب هذا القول إليه في «المغني»، والمؤلف صادر عنه. والذي أخرجه عبد الرزاق (7389) بإسناد صحيح عنه أنه قال: «إذا أفطر الرجل في رمضان ثم بدت الشمس فعليه أن يقضيه، وإن أكل في الصبح وهو يُرى أنه الليل لم يقضه». وأخرج ابن أبي شيبة (9142) أوّله مختصرًا.

(2/26)


واختلف فيه على عمر، فروى زيد بن وهب قال: كنت جالسًا في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان في زمن عمر، فأُتِينا بِعِساسٍ (1) فيها شراب من بيت حفصة، فشربنا ونحن نرى أنه من الليل، ثم انكشف السحاب فإذا الشمس طالعة، قال: فجعل الناس يقولون: نقضي يومًا مكانه، فسمع بذلك عمر فقال: والله لا نقضيه! وما تجانفنا لإثم» رواه البيهقي وغيره (2). وقد روى مالك في «الموطأ» (3) عن زيد بن أسلم: أن عمر بن الخطاب أفطر ذات يوم في رمضان في يوم ذي غيم، ورأى أنه قد أمسى وغابت الشمس، فجاءه رجل فقال له: يا أمير المؤمنين، قد طلعت الشمس، فقال عمر: «الخَطْب يسير، وقد اجتهدنا». قال مالك: يريد بقوله: «الخطب يسير» القضاءَ فيما نُرى. والله أعلم. وكذلك قال الشافعي (4). وهذا لا يناقض الأثر المتقدم. وقوله: «وقد اجتهدنا» مُؤذِن بعدم القضاء، وقوله «الخطب يسير» إنما هو تهوين لما فعلوه وتيسير لأمره. ولكن قد رواه الأثرم والبيهقي (5) عن عمر، وفيه: «من كان أفطر فليصم يومًا _________ (1). في الأصل والطبعتين: «بكأس» تصحيف، والتصحيح من مصادر التخريج. والعِساس: جمع العُسّ، وهو القَدَح الكبير. (2). رواه عبد الرزاق (7395)، وابن أبي شيبة (9145)، والبيهقي (4/ 217). (3). برقم (837). (4). «الأم» (3/ 238)، ونقله البيهقي في «السنن الكبرى» (4/ 217). (5). (4/ 217)، وأخرجه أيضًا عبد الرزاق (7393)، وابن أبي شيبة (9045)، كلهم من طريق علي بن حنظلة عن أبيه عن عمر.

(2/27)


مكانه»، وقدم البيهقي هذه الرواية على رواية زيد بن وهب وجعلها خطأً، وقال: تظاهرت الروايات بالقضاء. قال: وكان يعقوب بن سفيان الفارسي (1) يَحمِل على زيد بن وهب بهذه الرواية المخالفة للروايات المتقدمة. قال: وزيد ثقة إلا أن الخطأ غير مأمون. وفيما قاله نظر، فإن الرواية لم تتظاهر عن عمر بالقضاء، وإنما جاءت من رواية علي بن حنظلة عن أبيه، وكان أبوه صديقًا لعمر، فذكر القصة وقال فيها: «من كان أفطر فليصم يومًا مكانه». ولم أر الأمر بالقضاء صريحًا إلا في هذه الرواية (2). وأما رواية مالك فليس فيها ذكر للقضاء ولا لعدمه، فتعارضت رواية حنظلة و [رواية] زيد بن وهب، وتَفْضُلُها رواية زيد بن وهب بقدرِ ما بين _________ (1). هو الفسوي الحافظ (ت 277)، وقد أخرج البيهقي أكثر روايات قصة عمر من طريقه، وهي في «المعرفة والتأريخ» له (2/ 765 - 768)، ثم ذكر الفسوي عقبها حديثَين آخرين لزيد مستنكرًا لهما وقال: «حديث زيد فيه خلل كثير». وتعقّبه الذهبي بأنه لم يُصِب في الحَمْل على زيد بن وهب واستنكار أحاديثه، فإنه ثقة مخضرم من جلّة التابعين، من رجال الجماعة، متفق على الاحتجاج به، حتى إن الأعمش قال: إذا حدّثك زيد بن وهب عن أحد، فكأنك سمعته من الذي حدّثك عنه. انظر: «ميزان الاعتدال» (2/ 107). (2). ورد الأمر بالقضاء في رواية أخرى أيضًا: رواية زياد بن علاقة، عن بِشر بن قيس، عن عمر. أخرجها عبد الرزاق (7394) والفسوي في «المعرفة والتأريخ» (2/ 766، 767) من طُرق عن زياد به. رجالها ثقات، لكنها معلّة، فإن زيادًا لم يسمع من بشر، وبينهما رجل مبهم كما في رواية ابن أبي شيبة (9047). وانظر «العلل» لابن أبي حاتم (669).

(2/28)


حنظلة وبينه من الفضل (1). وقد روى البيهقي (2) بإسناد فيه نظر عن صهيب أنه أمر أصحابه بالقضاء في قصة جرت لهم مثل هذه. فلو قُدّر تعارض الآثار عن عمر لكان القياس يقتضي سقوط القضاء، لأن الجهل ببقاء اليوم كنسيان نفس الصوم، ولو أكل ناسيًا لصومه لم يجب عليه قضاؤه. والشريعة لم تُفرّق بين الجاهل والناسي، فإنّ كل واحدٍ منهما قد فعل ما يعتقد جوازَه وأخطأ في فعله، وقد استويا في أكثر الأحكام وفي رفع الآثام، فما الموجب للفرق بينهما في هذا الموضع؟ وقد جعل أصحاب الشافعي وغيرهم الجاهل المخطئ أولى بالعذر من الناسي في مواضع متعددة. [ق 116] وقد يقال: إنه في صورة الصوم أعذر منه، فإنه مأمور بتعجيل الفطر استحبابًا، فقد بادر إلى أداء ما أمر به واستحبه له الشارع، فكيف يفسد _________ (1). حنظلة لا يُعرف عنه شيء، إلا أنه سمع عمر وروى عنه ابنه، كما في «التاريخ الكبير» (3/ 41) للبخاري، و «الثقات» لابن حبان (4/ 166). وأما زيد بن وهب فتابعي ثقة جليل القدر كما سبق. وانظر لترجمته: «سير النبلاء» (4/ 196)، و «الإصابة» (4/ 154) ط. دار هجر. (2). (4/ 217) من طريق يوسف بن محمد بن يزيد الصُّهَيبي، عن شعيب بن عمرو بن سليم الأنصاري، عن صهيب. يوسف بن محمد، قال عنه البخاري: فيه نظر، وقال أبو حاتم: لا بأس به. وشعيب بن عمرو ذكره البخاري وابن أبي حاتم، ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا. انظر «التاريخ الكبير» (8/ 379، 4/ 219) و «الجرح والتعديل» (9/ 228، 4/ 350).

(2/29)


صومه؟ وفساد صوم الناسي أولى منه، لأن فعله غير مأذون له فيه، بل غايته أنه عفو، فهو دون المخطئ الجاهل في العذر. وبالجملة: فلم يُفرَّق بينهما في الحج، ولا في مفسدات الصلاة، كحمل النجاسة وغير ذلك. وما قيل من الفرق بينهما بأن الناسي غير مكلف والجاهل مكلف؛ إن أريد به التكليف بالقضاء فغير صحيح، لأن هذا هو المتنازع فيه. وإن أريد به أن فعل الناسي لا ينتهض سببًا للإثم ولا يتناوله الخطاب الشرعي، فكذلك فعل المخطئ. وإن أريد أن المخطئ ذاكر لصومه مُقْدِم على قطعه، ففِعله داخل تحت التكليف بخلاف الناسي= فلا يصحّ أيضًا لأنه يعتقد خروج زمن الصوم، وأنه مأمور بالفطر، فهو مُقْدِم على فعل ما يعتقده جائزًا، وخطؤه في بقاء اليوم كنسيان الآكل في اليوم، فالفعلان سواء، فكيف يتعلق التكليف بأحدهما دون الآخر؟! وأجود ما فرق به بين المسألتين: أن المخطئ كان متمكّنًا من إتمام صومه بأن يؤخر الفطر حتى يتيقّن الغروب، بخلاف الناسي فإنه لا يضاف إليه الفعل، ولم يكن يمكنه الاحتراز. وهذا، وإن كان فرقًا في الظاهر، فهو غير مؤثر في وجوب القضاء، كما لم يؤثر في الإثم اتفاقًا. ولو كان منسوبًا إلى تفريط لَلَحِقَه الإثم، فلما اتفقوا على أن الإثم موضوع عنه دل على أن فعله غير منسوب فيه إلى تفريط، لا سيما وهو مأمور بالمبادرة إلى الفطر. والسبب الذي دعاه إلى الفطر غير منسوب إليه في الصورتين، وهو النسيان في مسألة الناسي، وظهورُ الظلمة وخفاءُ النهار في صورة المخطئ؛ فهذا أطعمه الله وسقاه بالنسيان، وهذا

(2/30)


أطعمه الله بإخفاء النهار، ولهذا قال صهيب: «هي طُعْمَة الله» (1)، ولكن هذا أولى، فإنها طعمة الله إذنًا وإباحةً، وإطعام الناسي طعمته عفوًا ورفعَ حرجٍ، فهذا مقتضى الدليل.

  12 - باب السواك للصائم

213/ 2263 - عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه - رضي الله عنهما - قال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَاك وهو صائم، ما لا أعُدُّ ولا أُحصِي». وأخرجه الترمذي (2)، وقال: حسن. هذا آخر كلامه. وفي إسناده عاصم بن عبيد الله، وقد تكلم فيه غير واحد (3). وذكر البخاري هذا الحديث في «صحيحه» (4) معلقًا في الترجمة فقال: ويُذكر عن عامر بن ربيعة. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى ابن ماجه (5) من حديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من خير خصال الصائم السواك». قال البخاري (6): وقال ابن عمر: «يستاك أول النهار وآخره». وقال زياد بن حُدَير: «ما رأيت أحدًا أَدْأَبَ سواكًا وهو صائم مِن عمر _________ (1). في الأثر الذي تقدّم ذكره قريبًا من «سنن البيهقي». (2). أبو داود (2364)، والترمذي (725). (3). ضعَّفه يحيى القطان وأحمد وابن معين، وقال أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان: منكر الحديث، مضطرب الحديث. انظر: «الجرح والتعديل» (6/ 347). (4). باب السواك الرطب واليابس للصائم. (5). برقم (1677) من طريق مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عائشة. قال البوصيري في «الزوائد» (2/ 66): هذا إسناد ضعيف لضعف مجالد. (6). باب اغتسال الصائم. ووصله ابن أبي شيبة (9241، 9249، 9264) بأسانيد صحيحة عن ابن عمر من قوله وفِعله. وانظر: «تغليق التعليق» (3/ 154)

(2/31)


- رضي الله عنه -، أراه قال: بعُودٍ قد ذَوِي» رواه البيهقي (1). ولو احتُجَّ عليه بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» (2)، لكانت حجةً، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: «السواك مطهرة للفم مرضاة للرب» (3)، وسائرِ الأحاديث المُرغِّبة في السواك من غير تفصيل. ولم يجئ في منع الصائم منه حديث صحيح. قال البيهقي (4): وقد روي عن علي بإسناد ضعيف: «إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشيّ، فإنه ليس من صائم تَيْبَس شفتاه بالعشي إلا كانتا نورًا بين عينيه يوم القيامة». وروى عمر بن قيس (5) عن عطاء عن أبي هريرة قال: لك السواك إلى العصر، فإذا صليتَ العصر فألْقِه، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: _________ (1). «السنن الكبرى» (4/ 272). وأخرجه أيضًا عبد الرزاق (7485)، وابن أبي شيبة (9242). وإسناده صحيح. (2). أخرجه البخاري (887) ومسلم (252) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (3). أخرجه أحمد (24203)، والنسائي (5)، وابن خزيمة (135)، وابن حبان (1067) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. وعلّقه البخاري في «باب السواك الرطب واليابس للصائم» مجزومًا به. (4) في «معرفة السنن» (6/ 333) و «الكبرى» (4/ 274)، وأخرج فيهما الحديث من طريق الدارقطني (2372) من حديث كيسان أبي عمر، عن يزيد بن بلال، عن علي موقوفًا. قال الدارقطني: كيسان أبو عمر ليس بالقوي، ومَن بينه وبين عليّ غير معروف. (5). هو المكي المعروف بسَنْدل، متروك منكر الحديث، متفق على ضعفه. وقد تفرّد بهذا عن أبي هريرة، ومن طريقه أخرجه الدارقطني (2370) والبيهقي (4/ 274). وأما القدر المرفوع فمتفق عليه مشهور من حديث أبي هريرة.

(2/32)


«لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك». وهذا لو صح عن أبي هريرة، فالثابت عن عمر وابن عمر يخالفه، والذين يكرهونه يخالفونه أيضًا، فإنهم يكرهونه من بعد الزوال، وأكثر أهل العلم لا يكرهونه. والله أعلم.

  13 - باب في الصائم يحتجم

214/ 2266 - عن ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أفطر الحاجم والمحجوم». وأخرجه النسائي وابن ماجه (1). 215/ 2267 - وعن شداد بن أوس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى على رجل بالبَقِيع وهو يحتجم، وهو آخذ بيدي، لِثَمَانِ عَشْرةَ خلتْ من رمضان، فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم». وأخرجه النسائي وابن ماجه (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: ولفظ النسائي فيه عن شداد بن أوس قال: كنت أمشي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام فتح مكة، لثمانِ عشْرَةَ أو سبعَ (3) عشرةَ مضت من رمضان، فمر برجل يحتجم فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم». قال: وروى ابن ماجه (4) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أفطر _________ (1). أبو داود (2367)، والنسائي في «الكبرى» (3125)، وابن ماجه (1680). (2). أبو داود (2369)، والنسائي في «الكبرى» (3126)، وابن ماجه (1681). (3). ط. المعارف: «تسع» وقال في الهامش: «في المطبوع: سبع، وهو تحريف». قلتُ: بل هو الصواب الموافق للأصل وللسنن الكبرى. (4). رقم (1679) من طريق عبد الله بن بِشر، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. إسناده منقطع، فإن عبد الله بن بشر لم يثبت له سماع من الأعمش، كما قال أبو حاتم في «المراسيل» لابنه (ص 115). وروي من طريق آخر عن الأعمش موقوفًا على أبي هريرة. قال الدارقطني في «العلل» (1963): هو أشبههما بالصواب.

(2/33)


الحاجم والمحجوم». ورواه أحمد في «مسنده» (1). وروى أحمد (2) أيضًا عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أفطر الحاجم والمحجوم». وروى أحمد (3) أيضًا عن أسامة بن زيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أفطر الحاجم والمحجوم». وروى الحسن عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أفطر الحاجم والمحجوم» رواه النسائي (4). وعن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أفطر الحاجم والمحجوم» رواه النسائي (5)، وأعله بالوقف. _________ (1). رقم (8768) من طريق الحسن، عن أبي هريرة. والحسن لم يسمع من أبي هريرة، كما في «المراسيل» لابن أبي حاتم (ص 34 - 36). وله طريق أخرى: عن عطاء عن أبي هريرة، ولكن رجّح أبو حاتم والدارقطني فيها الوقف. انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (738)، وللدارقطني (2151). (2). «المسند» (25242، 26217)، وسنده ضعيف، فيه ليث بن أبي سليم، مضطرب الحديث، وقد اختُلف عليه فيه. انظر: «العلل» للدارقطني (3876). (3). «المسند» (21826) من رواية الحسن، عن أسامة. وهو مُرسل، فالحسن لم يسمع من أسامة بن زيد شيئًا. انظر: «المراسيل» لابن أبي حاتم (ص 41). (4). «السنن الكبرى» (3149 - 3152) من رواية الحسن عن علي مرفوعًا وموقوفًا. وهو مُرسل، فإن الحسن لم يثبت سماعه من عليّ. انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (657) و «المراسيل» له (ص 31 - 32). (5). «الكبرى» (3195 - 3199) مرفوعًا وموقوفًا، واستصوب الموقوف وقال عن المرفوع: «هذا خطأ». وانظر: «العلل» لابن أبي حاتم (682)، وللدارقطني (1323).

(2/34)


وعن مَعْقِل بن سِنان الأشجعي أنه قال: مر عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أحتجم في ثمان عشرة ليلة خلت من رمضان، فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم»، رواه أحمد والنسائي (1) عن الحسن عن (2) معقل. ورواه النسائي (3) أيضًا عن الحسن عن معقل بن يسار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعن الحسن عن غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أفطر الحاجم والمحجوم» رواه النسائي (4). وعن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفطر الحاجم _________ (1). أحمد (15901، 15944)، والنسائي في «الكبرى» (3155) من رواية عطاء بن السائب، عن الحسن، عن معقل بن سنان. (2). في الأصل هنا وفي الموضع الآتي: «بن» خطأ. (3). «الكبرى» (3154) من رواية عطاء بن السائب أيضًا عن الحسن به. وعدَّ النسائي هذا الخلاف في الصحابي (معقل بن سنان /معقل بن يسار) من عطاء، فإنه كان قد اختلط. ورجّح البخاري وأبو زرعة أن الصواب: الحسن عن معقل بن يسار، على أنه أيضًا مرسل، فإن أبا حاتم يقول: لا يصح له سماع منه. انظر: «العلل الكبير» للترمذي (ص 124)، و «المراسيل» لابن أبي حاتم (ص 42)، و «العلل» للدارقطني (3413). (4). «الكبرى» (3156 - 3159)، وعلّقه البخاري عنه في «باب الحجامة والقيء للصائم». وهذه الرواية تفسر الاختلاف على الحسن في الروايات السابقة: عنه عن أبي هريرة، أو أسامة، أو علي، ... إلخ. قال الدارقطني في «العلل» (355): «إن كان هذا القول محفوظًا عن الحسن، فيشبه أن تكون الأقاويل كلها تصح عنه». وقال البخاري ــ كما في «العلل الكبير» للترمذي (ص 124) ــ: «ويحتمل أن يكون سمع من غير واحد». قلتُ: وأيضًا أرسلها عن غير واحد، كما سبق بيانه. والله أعلم.

(2/35)


والمحجوم» رواه النسائي (1). قال المنذري: قال أحمد (2): أحاديث «أفطر الحاجم [ق 117] والمحجوم» و «لا نكاح إلا بولي» يَشُدُّ بعضُها بعضًا، وأنا أذهب إليها. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال أبو زرعة: حديث عطاء عن أبي هريرة مرفوعًا: «أفطر الحاجم والمحجوم» (3) حديث حسن، ذكره الترمذي (4) عنه. وقال علي ابن المديني أيضًا في رواية عنه (5): لا أعلم في: «أفطر الحاجم» حديثًا أصح من حديث رافع بن خديج (6). _________ (1). «الكبرى» (3182)، وفيه إسناده لين. وقد اختلف على عطاء فيه، فروي عنه عن أبي هريرة، وعنه عن عائشة، وروي عنه مرسلًا. انظر: «الكبرى» (3167 - 3183)، و «العلل» للدارقطني (2151). (2). أسند قولَه ابن عدي في «الكامل» (3/ 266)، ومن طريقه البيهقي (4/ 267). (3). أخرجه النسائي في «الكبرى» (3167 - 3176) على خلاف في رفعه ووقفه، وفي بعض طرقه التصريح بأن عطاء لم يسمعه من أبي هريرة. وقد سبق أن أبا حاتم والدارقطني رجحا فيه الوقف. (4). عزاه إليه البيهقي (4/ 267) بقوله: «وبلغني عن أبي عيسى الترمذي قال سألت أبا زرعة ... » إلخ. وهذه عادة البيهقي فيما ينقله من «العلل الكبير» للترمذي، ولكن لا يوجد هذا النقل فيما وصلنا من ترتيبه لأبي طالب القاضي. (5). أسندها عنه ابن خزيمة في «صحيحه» (1964)، ومن طريقه الحاكم في «المستدرك» (1/ 428)، والبيهقي (4/ 267). (6). حديث رافع أخرجه أحمد (15828)، والترمذي (774) وقال: حسن صحيح، وابن خزيمة (1964)، وابن حبان (3535)، والحاكم (1/ 427). والحديث قد اختلف فيه الحفاظ، فصححه من سبق، ورأى إسحاق بن منصور والبخاري وأبو حاتم أنه خطأ، وأن الصحيح في حديث رافع بهذا الإسناد هو: «كسب الحجام خبيث»، فأخطأ بعض الرواة فركّب عليه متن حديث ثوبان: «أفطر الحاجم ... ». انظر: «العلل الكبير» للترمذي (صص 121 - 122)، و «العلل» لابن أبي حاتم (732).

(2/36)


وقال (1) في حديث شدّاد: لا أرى الحديثين إلا صحيحين، وقد يمكن أن يكون أبو أسماء سمعه منهما (2). وقال عثمان بن سعيد الدارمي (3): صح عندي حديث: «أفطر الحاجم والمحجوم» ــ لحديث ثوبان وشداد بن أوس ــ وأقول به، وسمعتُ أحمد بن حنبل يقول به، وذكر أنه صح عنده حديث ثوبان وشداد. وقال إبراهيم الحربي (4) في حديث شداد: هذا إسناد صحيح تقوم به الحجة، قال: وهذا الحديث صحيح بأسانيد، وبه نقول. وعن قتادة عن شهر عن بلال قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفطر الحاجم والمحجوم» رواه النسائي (5). _________ (1). أي علي ابن المديني. نقله الترمذي عنه في «العلل الكبير» (ص 123)، وأسنده الحاكم (1/ 428)، وعنه البيهقي (4/ 266، 267). (2). المراد بالحديثين: حديث ثوبان، وحديث شداد؛ فالأول من طريق أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان؛ والثاني من طريق أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن شداد، وفي بعض رواياته: عن أبي الأشعث، عن أبي أسماء، عن شداد، أخرجها أحمد (17119) والنسائي في «الكبرى» (3133، 3134). (3). أسنده عنه الحاكم (1/ 429) ثم عنه البيهقي (4/ 267). (4). كذا في الأصل، والظاهر أنه وهم، والصواب إسحاق بن إبراهيم ــ وهو ابن راهويه ــ فعنه أسند الحاكم (1/ 428) والبيهقي (4/ 267) هذا القول بحروفه. (5). «الكبرى» (3144). وإسناده ضعيف، شهر بن حوشب متكلم فيه من جهة حفظه، ولم يسمع من بلال. انظر «المراسيل» لابن أبي حاتم (ص 89).

(2/37)


وقال الترمذي في كتاب «العلل» (1): سألت البخاري، فقال: ليس في هذا الباب شيء أصح من حديث شداد بن أوس [وثوبان]، فقلتُ: وما فيه من الاضطراب؟ فقال: كلاهما عندي صحيح، لأن يحيى بن أبي كثير (2) روى عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان، وعن أبي الأشعث عن شدّاد، الحديثين جميعًا. فقد حكم البخاري بصحة حديث ثوبان وشداد.

  14 - الرخصة في ذلك

216/ 2268 - عن عكرمة عن ابن عباس: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم». وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي (3). ولفظ الترمذي: «احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم صائم». 217/ 2269 - وعن مِقْسَم عن ابن عباس: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم محرم». وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (4)، وقال الترمذي: حسن صحيح. _________ (1). (ص 122) وما بين الحاصرتين مُستدرَك منه. (2). في الأصل والطبعتين: «يحيى بن سعيد» تحريف. (3). أبو داود (2372)، والبخاري (1938، 1939)، والترمذي (775) وصحّحه، والنسائي في «الكبرى» (3202 - 3205). (4). أبو داود (2373)، والترمذي (777) وصحّحه، والنسائي في «الكبرى» (3211 - 3215) وأعلّها، وابن ماجه (1682). وسيأتي الكلام عليه.

(2/38)


218/ 2270 - وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدّثني رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الحجامة والمواصَلة ــ ولم يُحَرِّمْهما ــ إبقاءً على أصحابه، فقيل له: يا رسول الله، إنك تواصل إلى السَّحَر؟ فقال: «إنّي أُوَاصِلُ إلى السَّحَر، وربِي يُطعمني ويسقيني» (1). 219/ 2271 - وعن ثابت قال: قال أنس: «ما كنا نَدَع الحجامة للصائم إلَّا كراهية الجَهْد». وأخرجه البخاري (2)، وقال: وزاد شَبابة قال: حدثنا شعبة: «على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -». قال ابن القيم - رحمه الله -: وروى الدارقطني في «سننه» (3) عن أنس قال: أول ما كُرِهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «أفطر هذان»، ثم رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدُ في الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم. قال الدارقطني: كلهم ثقات، ولا أعلم له علة. وعن أبي سعيد الخدري قال: «رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبلة للصائم، ورخص في الحجامة» رواه النسائي (4). فذهب إلى هذه الأحاديث جماعة من العلماء، ويُروى ذلك عن سعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وابن عباس، وعبد الله بن عمر، _________ (1). «سنن» أبي داود (2374)، وإسناده صحيح. (2). برقم (1940)، ولفظه: «إلا من أجل الضعف». (3). رقم (2260) ومن طريقه البيهقي (4/ 268). (4). «الكبرى» (3224)، وسيأتي الكلام عليه مفصّلًا.

(2/39)


والحسين بن علي، وزيد بن أرقم، وعائشة، وأم سلمة، وأبى سعيد الخدري، وأبي هريرة (1). وهو مذهب عروة بن الزبير، وسعيد بن جبير (2)، وغيرهما. وقال به مالك والشافعي وأبو حنيفة (3). وذهب إلى أحاديث الفطر بها جماعة، منهم علي بن أبي طالب، وأبو موسى الأشعري (4). وروى المعتمر عن أبيه عن الحسن عن غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: «أفطر الحاجم _________ (1). انظر آثارهم في «مصنف عبد الرزاق» (7527 - 7544) و «مصنف ابن أبي شيبة» (9409 - 9427). والذي روي عن ابن عمر: أنه كان يحتجم وهو صائم، ثم تركها بعدُ، فكان يحتجم ليلًا. (2). أخرجه عنهما ابن أبي شيبة (9426، 9423) ولاءً. (3). انظر: «الموطأ» (1/ 298)، و «الأم» (3/ 239 - 242)، و «الأصل» للشيباني (2/ 146). (4). سبق تخريجه.

(2/40)


والمحجوم» ذكره النسائي (1). وأما أبو هريرة، فروى عنه أبو صالح: «أفطر الحاجم والمحجوم» ذكره النسائي (2). وروى عنه شقيق بن ثور عن أبيه أنه قال: «لو أحتجم ما بالَيتُ» ذكره عبد الرزاق والنسائي (3) أيضًا. وأما عائشة فروى عطاء وعِياض بن عروة عنها: «أفطر الحاجم والمحجوم» ذكره النسائي (4). وقال البيهقي (5): رويت الرخصة عنها. وذهب إلى الفطر بها من التابعين: عطاء بن أبي رباح، والحسن، وابن سيرين (6). وذهب إلى ذلك عبد الرحمن بن مهدي، والأوزاعي، والإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، وأبو بكر بن المنذر، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة (7). وأجاب المرخّصون عن أحاديث الفطر بأجوبة: أحدهما: القدح فيها وتعليلها. الثاني: دعوى النسخ فيها. الثالث: أن الفطر فيها لم يكن لأجل الحجامة، بل لأجل الغيبة، وذكر الحاجم والمحجوم للتعريف لا للتعليل. الرابع: تأويلها على معنى أنه قد تَعرَّض لأن يُفطِر، لِما يلحقه من الضعف، فـ «أفطَرَ» بمعنى يُفطر. الخامس: أنه على حقيقته، وأنهما أفطرا حقيقةً، ومرور النبي - صلى الله عليه وسلم - بهما _________ (1). «الكبرى» (3159)، وقد سبق. (2). «الكبرى» (3165) موقوفًا. (3). عبد الرزاق (7527)، والنسائي في «الكبرى» (3166). (4). «الكبرى» (3180) من طريقين، وفي إسناده ليث بن أبي سليم، فيه لين. (5). (4/ 264). وأسند الرخصة عنها عبد الرزاق في «المصنف» (7540). (6). قول عطاء عند عبد الرزاق (7534)، وقول ابن سيرين عند ابن أبي شيبة (9398)، والحسن هو راوي حديث «أفطر الحاجم والمحجوم» عن غير واحد من الصحابة. (7). انظر: «مسائل أحمد وإسحاق» للكوسج (1/ 294)، و «صحيح ابن خزيمة» (باب ذكر البيان أن الحجامة تفطّر)، و «الإشراف» لابن المنذر (3/ 130)، و «الاستذكار» (3/ 362)، و «المغني» (4/ 350).

(2/41)


كان مساءً في وقت الفطر، فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنهما قد أفطرا، ودخلا في وقت الفطر، يعني فليصنعا ما أحبّا. السادس: أن هذا تغليظ ودعاء عليهما، لا أنه أخبر عن حكمٍ شرعي بفطرهما. السابع: أن إفطارهما بمعنى إبطال ثواب صومهما، كما جاء: «خمس يفطرن الصائم: الكذب، والغيبة، والنميمة، والنظرة السوء، واليمين الكاذبة» (1)، وكما جاء: «الحدث حدثان: [حدث الفَرْج، و] حدث اللسان، وهو أشدهما» (2). الثامن: أنه لو قُدِّر تعارض الأخبار جملةً لكان الأخذ بأحاديث الرخصة أولى لتأيُّدها بالقياس، وشواهد أصول الشريعة لها، إذ الفطر إنما قياسه أن يكون بما يدخل الجوف لا بالخارج منه، كالفِصاد والتشريط ونحوه. قال المفطرون: ليس في هذه الأجوبة شيء يصح. أما جواب المعللين فباطل، فإن الأئمة العارفين بهذا الشأن قد تظاهرت أقوالهم بتصحيح بعضها كما تقدم. والباقي: إما حسن يصلح للاحتجاج به _________ (1). روي من حديث أنس مرفوعًا. وهو موضوع مكذوب على النبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (766)، و «الأباطيل» للجَوْرقاني (1/ 528 - 529)، و «الموضوعات» لابن الجوزي (1131). (2). أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (1/ 185، 231، 232)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (6298) عن ابن عباس موقوفًا عليه، من طرق يشد بعضها بعضًا. وقد روي مرفوعًا ولا يصحّ. انظر: «الأباطيل والمناكير» للجَوْرقاني (1/ 530)، و «العلل المتناهية» (1/ 365).

(2/42)


وحده، وإما ضعيف، فهو يصلح للشواهد والمتابعات، وليس العمدة عليه، وممن صحح ذلك: أحمد، وإسحاق، وعلي ابن المديني، وإبراهيم الحربي (1)، وعثمان بن سعيد الدارمي، والبخاري، وابن المنذر (2). وكل من له علم بالحديث يشهد بأن هذا الأصل محفوظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لتعدد طرقه، وثقة رواته واشتهارهم بالعدالة. قالوا: والعجب ممن يذهب إلى أحاديث الجهر بالبسملة، وهي دون هذه الأحاديث في الشهرة والصحة، ويترك هذه الأحاديث، وكذلك أحاديث الفطر [ق 118] بالقيء مع ضعفها وقلّتها! وأين تقع من أحاديث الفطر بالحجامة؟! وكذلك أحاديث الإتمام في السفر، وأحاديث أقل الحيض وأكثره، وأحاديث تقدير المهر بعشرة دراهم، وأحاديث الوضوء بنبيذ التمر، وأحاديث الشهادة في النكاح، وأحاديث التيمم ضربتان، وأحاديث المنع من فسخ الحج إلى التمتع، وأحاديث تحريم القراءة على الجنب والحائض، وأحاديث تقدير الماء الذي يحمل النجاسة بالقلتين؛ قالوا: وأحاديث الفطر بالحجامة أقوى وأشهر وأعرف من هذه، بل ليست دون أحاديث نقض الوضوء بمس الذكر. وأما قول بعض أهل الحديث (3): لا يصح في الفطر بالحجامة حديث، فمجازفة باطلة أنكرها أئمة الحديث، كالإمام أحمد، لما حكي له قول ابن _________ (1). سبق أن صوابه: «إسحاق بن إبراهيم» وهو ابن راهويه. (2). سبق النقل عن هؤلاء غير ابن المنذر، فانظر له «الإشراف» (3/ 130). (3). كابن معين (كما سيأتي)، وأبي حفص الموصلي في «المغني عن الحفظ والكتاب بقولهم لم يصح شيء في هذا الباب» (2/ 373 مع جنة المرتاب).

(2/43)


معين أنكره عليه (1). ثم في هذه الحكاية عنه أنه لا يصح في مس الذكر حديث، ولا في النكاح بلا ولي (2)، ولم يلتفت القائلون بذلك إلى قوله. وأما تطرُّق التعليل إليها، فمَن نظر في عللها واختلاف طرقها، أفاده ذلك علمًا لا يشك فيه بأن الحديث محفوظ. وعلى قول جمهور الفقهاء والأصوليين لا يُلتفَت إلى شيء من تلك العلل، فإنها (3) بين تعليل بوقف بعض الرواة وقد رفعها آخرون، أو إرسالِها وقد وصلها آخرون، وهم ثقات، والزيادة من الثقة مقبولة. قالوا: فعلى قول منازعينا هذه العلل باطلة، لا يلتفت إلى شيء منها. وقد ذكرت عللها والأجوبة عنها في مصنّف مفرد في المسألة (4). _________ (1). انظر: «تنقيح التحقيق» (3/ 253). (2). لعله يشير إلى ما حكاه الحنفية في كتبهم عن ابن معين أنه قال: ثلاثة أحاديث لا تصح: حديث مس الذكر، ولا نكاح إلا بولي، وكل مسكر حرام. هكذا ذكروا الحكاية محتجين بها، وكذا ذكرها الشافعية في معرض ذكر أدلة الخصم، ولم أجد من ذكر حديث الفطر بالحجامة في هذه الحكاية. انظر: «شرح مختصر الطحاوي» للجصاص (4/ 268)، و «المبسوط» للسرخسي (1/ 118، 24/ 29)، و «تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق» (1/ 12)، و «الحاوي الكبير» للماوردي (1/ 192، 13/ 391)، و «المجموع» للنووي (2/ 47). وفي صحة هذه الحكاية عن ابن معين نظر، لاسيما وقد رُوي عنه ما يدل على ثبوت هذه الأحاديث عنده. انظر: «السنن الكبرى» للبيهقي (1/ 136، 7/ 106)، و «التحقيق» (1/ 181 - 182)، و «تنقيح التحقيق» (1/ 270 - 271)، و «نصب الراية» (4/ 295)، و «التلخيص الحبير» (1/ 123). (3). في الطبعتين: «وأنها»، والرسم في الأصل محتمل، والمثبت أوفق بالسياق. (4). لم يزل في عداد المفقود، وقد فات الشيخ بكرًا ذكرُه في كتابه عن ابن القيم.

(2/44)


قالوا: وأما دعوى النسخ فلا سبيل إلى صحتها، ونحن نذكر ما احتجوا به على النسخ ثم نبين ما فيه. قالوا: قد صح عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم محرم. قال الشافعي (1): وسماع ابن عباس (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح، ولم يكن يومئذ مُحْرِمًا، ولم يَصْحبه محرمًا قبل حجة الإسلام. فذكر ابن عباس حجامة النبي - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الإسلام سنة عشر، وحديث «أفطر الحاجم والمحجوم» سنة ثمان، فإن كانا ثابتين فحديث ابن عباس ناسخ. قالوا: ويدل على النسخ حديثُ أنس في قصة جعفر، وقد تقدم. قالوا: ويدل عليه حديث أبي سعيد في الرخصة فيها، والرخصة لا تكون إلا بعد تقدم المنع. قال المفطرون: الثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم، وأما قوله: «وهو صائم» فإن الإمام أحمد قال: لا تصح هذه اللفظة، وبيّن أنها وهم، ووافقه غيره (3) على ذلك، وقالوا: الصواب «احتجم وهو محرم»، وممن ذكر ذلك عنه الخلال في كتاب «العلل» (4). _________ (1). «اختلاف الحديث» (10/ 192 - ضمن «الأم»)، ونقله البيهقي في «السنن» (4/ 268)، و «المعرفة» (6/ 318). (2). كذا في الأصل وكتابي البيهقي، وعليه بنى المؤلف تعقبه لكلام الشافعي. وفي «اختلاف الحديث»: «ابن أوس» أي: شدّاد راوي حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أفطر الحاجم والمحجوم» عامَ الفتح. (3). كالحافظين الرازيّين في «العلل» (663). (4). لم يذكره ابن قدامة في «المنتخب». وانظر: «مجموع الفتاوى» (25/ 253)، و «زاد المعاد» (2/ 61 - 62).

(2/45)


وقد روي هذا الحديث على أربعة أوجه: أحدها: «احتجم وهو محرم» فقط. وهذا في «الصحيحين» (1). الثاني: «احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم». انفرد به البخاري (2). الثالث: «احتجم وهو محرم صائم». ذكره الترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه. الرابع: «احتجم وهو صائم» فقط. ذكره أبو داود (3). وأما حديث: «احتجم وهو صائم» فهو مختصر من حديث ابن عباس في البخاري: «احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم، واحتجم وهو صائم». وأما حديث «احتجم وهو محرم صائم» فهذا هو الذي تمسك به من ادّعى النسخ. وأما لفظ: «احتجم وهو صائم» فلا يدل على النسخ ولا تصح المعارضة به لوجوه: أحدها: أنه لا يُعلم تاريخه، ودعوى النسخ لا تثبت بمجرد الاحتمال. الثاني: أنه ليس فيه أن الصوم كان فرضًا، ولعله كان صوم نفل خرج منه. الثالث: حتى لو ثبت أنه صوم فرضٍ، فالظاهر أن الحجامة إنما تكون _________ (1). البخاري (1835، 5695، 5700) ومسلم (1202). (2). رقم (1938). (3). سبق تخريج الحديثين في أحاديث الباب.

(2/46)


للعذر، ويجوز الخروج من صوم الفرض بعذر المرض. والواقعة حكاية فعل، لا عموم لها. ولا يقال: قوله «وهو صائم» جملةُ حالٍ مقارنةٍ للعامل فيها، فدل على مقارنة الصوم للحجامة؛ لأن الراوي لم يذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إني باقٍ على صومي، وإنما رآه يحتجم وهو صائم، فأخبر بما شاهده ورآه، ولا علم له بِنيَّة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا بما فعل بعد الحجامة، مع أن قوله: «وهو صائم» حال من الشروع في الحجامة وابتدائها، فكان ابتداؤها مع الصوم، وكأنه قال: احتجم في اليوم الذي كان صائمًا فيه، ولا يدل ذلك على استمرار الصوم أصلا. ولهذا نظائر منها: حديث الذي وقع على امرأته وهو صائم، وقوله في «الصحيحين» (1): وقعت على امرأتي وأنا صائم. والفقهاء وغيرهم يقولون: وإن جامع وهو محرم، وإن جامع وهو صائم، ولا يكون ذلك فاسدًا من الكلام، فلا تُعطَّل نصوص الفطر بالحجامة بهذا اللفظ المُحتمِل. وأما قوله: «احتجم وهو محرم صائم»، فلو ثبتت هذه اللفظة لم يكن فيها حجة لما ذكرناه، ولا دليل فيها أيضًا على أن ذلك كان بعد قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم»، فإن هذا القول منه كان في رمضان سنة ثمان من الهجرة عام الفتح، كما جاء في حديث شداد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم بعمرة الحديبية سنة ست، وأحرم من العام القابل بعمرة القضية، وكلا العمرتين (2) قبل ذلك، ثم دخل مكة عام الفتح ولم يكن محرمًا، ثم حج حجة الوداع، _________ (1). البخاري (1936) ومسلم (1111) من حديث أبي هريرة، وليس عند مسلم موضع الشاهد. (2). الوجه: «وكلتا العمرتين»، وتذكير «كلا» في مثله شائع في كتب المؤلف.

(2/47)


فاحتجامه وهو صائم محرم لم يبيَّن [ق 119] في أي إحراماته كان؟ وإنما تمكن دعوى النسخ إذا كان ذلك قد وقع في حجة الوداع أو في عمرة الجعرانة حتى يتأخر ذلك عن عام الفتح الذي قال فيه: «أفطر الحاجم والمحجوم»، ولا سبيل إلى بيان ذلك. وأما رواية ابن عباس له، وهو ممن صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الفتح، فلا تُثير ظنًّا، فضلًا عن النسخ به، فإن ابن عباس لم يقل: شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا: رأيته فعل ذلك، وإنما روى ذلك روايةً مطلقة، ومن المعلوم أن أكثر روايات ابن عباس إنما أخذها من الصحابة، والذي فيه سماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يبلغ عشرين قصة، كما قاله غير واحد من الحفاظ، فمن أين لكم أن ابن عباس لم يروِ هذا عن صحابي آخر، كأكثر رواياته؟ وقد روى ابن عباس أحاديث كثيرةً مقطوع بأنه لم يسمعها من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا شهدها، ونحن نقول إنها حجة، لكن لا يثبت (1) بذلك تأخُّرُها ونسخها لغيرها، ما لم يُعلم التاريخ. وبالجملة، فدعوى النسخ إنما تثبت بشرطين: أحدهما: تعارض المَتْنين (2)، والثاني: العلم بتأخر أحدهما. وقد تبين أنه لا سبيل إلى واحد منهما في مسألتنا، بل من المقطوع به أن هذه القصة لم تكن في رمضان، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحرم في رمضان، فإن عُمَرَه كانت في ذي القعدة، وفتح مكة كان في رمضان، ولم يكن مُحرِمًا، فغايتها أنها في صوم تطوع في السفر، وقد كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفطر في السفر. ولما خرج في (3) _________ (1). في الطبعتين: «لا نُثبت»، والكلمة مهملة غير منقوطة في الأصل. (2). ط. الفقي: «المفسّر»، تحريف. (3). في الأصل وط. المعارف: «مِن»، ولعله تصحيف ما أثبت، أو كان أصله: «زمن» فسقطت الزاء. وفي ط. الفقي: «من المدينة عام الفتح» زاد فيه دون تنبيه.

(2/48)


الفتح صام حتى بلغ الكَدِيد، ثم أفطر، والناس ينظرون إليه (1). ثم لم يُحفظ عنه أنه صام بعد هذا في سفر قط. ولما شك الصحابة في صيامه يوم عرفة أرسلوا أمَّ الفضل إليه بقَدَح فشربه (2)، فعلموا أنه لم يكن صائمًا. فقصة الاحتجام وهو صائم محرم إما غلط، كما قال الإمام أحمد وغيره، وإما قبل الفتح قطعًا، وعلى التقديرين فلا يُعارَض بها قوله عام الفتح: «أفطر الحاجم والمحجوم». وعلى هذا فحديث ابن عباس إما أن (3) يدل على أنّ الحجامة لا تفطّر أو لا يدل. فإن لم يدل لم يَصلح للنسخ. وإن دل فهو منسوخ بما ذكرنا من حديث شدّاد، فإنه مؤرَّخ بعام الفتح، فهو متأخر عن إحرام النبي - صلى الله عليه وسلم - صائمًا، وتقريره ما تقدم. وهذا القلب في دعوى كونه منسوخًا أظهر من ثبوت النسخ به. وعياذًا بالله من شر مقلّدٍ عصبيٍّ يرى العلم جهلًا، والإنصاف ظلمًا، وترجيح الراجح على المرجوح عدوانًا! وهذه المضايق لا يصحب السالك فيها إلا من صَدَقت في العلم نيتُه وعَلَت همَّتُه. وأما من أخلد إلى أرض التقليد، واستوعر طريق الترجيح، فيقال له: ما ذا عُشَّكِ فادرُجي (4)! _________ (1). أخرجه البخاري (1944، 2953، 4275، 4276)، ومسلم (1113). (2). كذا، والرواية أن الصحابة لمّا تماروا عندها أرسلتْ هي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدح، لا أنهم أرسلوها إليه به. هكذا أخرجه البخاري (1658) ومسلم (1123). (3). «أن» ساقط من الطبعتين. (4). أي: ليس هذا مجالك، ولستَ من أهله، فدعْه وامْضِ! انظر: «مجمع الأمثال» (2/ 181) و «تاج العروس» (عشش).

(2/49)


قالوا: وأما حديث أنس في قصة جعفر (1)، فجوابنا عنه من وجوه: أحدها: أنه من رواية خالد بن مَخْلَد، عن ابن المُثنّى. قال الإمام أحمد (2): خالد بن مخلد له مناكير. قالوا: ومما يدل على أن هذا الحديث من مناكيره أنه لم يروه أحد من أهل الكتب المعتمدة، لا أصحاب الصحيح ولا أحد من أهل السنن، مع شهرة إسناده، وكونه في الظاهر على شرط البخاري، ولا احتج به الشافعي، مع حاجته إلى إثبات النسخ، حتى سلك ذلك المسلك في حديث ابن عباس، فلو كان هذا صحيحًا لكان أظهرَ دلالة وأبينَ في حصول النسخ. قالوا: وأيضًا فجعفر إنما قدم من الحبشة عام خيبر، أو آخر سنة ست وأول سنة سبع، وقُتل (3) عام مؤتة قبل الفتح ولم يشهد الفتح، فصام مع النبي - صلى الله عليه وسلم - رمضانًا واحدًا سنة سبع، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أفطر الحاجم والمحجوم» بعد ذلك في الفتح سنة ثمان. فإن كان حديث أنس محفوظًا، فليس فيه أن الترخيص وقع بعد عام الفتح، وإنما فيه أن الترخيص وقع بعد قصة جعفر. وعلى هذا فقد وقع الشك في الترخيص وقولِه في الفتح: «أفطر الحاجم والمحجوم»، أيهما هو المتأخر؟ ولو كان حديث أنس قد ذُكر فيه الترخيص بعد الفتح لكان حجةً، ومع وقوع الشك في التاريخ لا يثبت النسخ. قالوا: وأيضًا فالذي يبين أن هذا لا يصح عن أنس: ما رواه البخاري في _________ (1). سبق لفظه (ص 39). (2). أسنده عنه ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (3/ 354). (3). ط. الفقي: «وقيل»، تحريف.

(2/50)


«صحيحه» (1) عن ثابت قال: «سئل أنس: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا، إلا من أجل الضعف»، وفي رواية: «على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -». فهذا يدل على أن أنسًا لم يكن عنده رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فطّر بها، ولا أنه رخص فيها، بل الذي عنده كراهتها من أجل الضعف. ولو عَلِم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخّص فيها بعد الفطر بها، لم يَحتج أن يجيب بهذا مِن رأيه، ولم يَكره شيئًا رخّص فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأيضًا فمن المعلوم أن أهل البصرة أشد الناس في التفطير بها. وذكر الإمام أحمد (2) وغيره أن البصرة كانت إذا دخل شهر رمضان يُغلقون حوانيت الحجّامين. وقد تقدم مذهب الحسن وابن سيرين إمامَي البصرة أنهما كانا يفطّران بالحجامة، مع أن فتاوى أنس نُصْب أعينهم، وأنس آخر من مات بالبصرة من الصحابة، فكيف يكون عند أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخّص في الحجامة [ق 120] للصائم بعد نهيه عنها، والبصريون يأخذون عنه، وهم على خلاف ذلك؟! وعلى القول بالفطر بها، لا سيما وحديث أنس فيه أن ثابتًا سمعه منه، وثابت من أكبر مشايخ أهل البصرة ومن أخصّ أصحاب الحسن= فكيف تشتهر بين أهل البصرة السنّة المنسوخة، ولا يعلمون الناسخة ولا يعملون بها، ولا تُعرف بينهم ولا يتناقلونها، بل هم على خلافها؟! هذا محال. قالوا: وأيضًا فأبو قلابة من أخص أصحاب أنس، وهو الذي يروي قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم» من طريق أبي أسماء عن ثوبان، ومن _________ (1). رقم (1940). (2). انظر: «شرح العمدة» لشيخ الإسلام (3/ 345).

(2/51)


طريق أبي الأشعث عن شداد (1). وعلى حديثه اعتمد أئمة الحديث وصححوه، وشهدوا أنه أصح أحاديث الباب. فلو كان عند أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة تنسخ ذلك، لكان أصحابه أعلمَ بها، وأحرصَ على روايتها من أحاديث الفطر بها. والله أعلم. قالوا: وأما حديث أبي سعيد (2) فجوابه من وجوه: أحدها: أنه حديث قد اختلف فيه عليه، فرواه أبو المتوكل عنه، واختلف عليه، فرفعه المعتمر عن حميد عن أبي المتوكل (3)، ووقفه بِشر وإسماعيل وابن أبي عَدي عن حُمَيد (4). ووقفه أبو نضرةَ عن أبي سعيد (5)، وأبو نضرة من أروى الناس عنه وأعلمهم بحديثه. ووقفه قتادة عن أبي المتوكل (6)، فالواقفون له أكثر وأشهر، فالحكم لهم عند المحدِّثين (7). _________ (1). قد سبق تخريج الحديثين. (2). سبق لفظه (ص 39). (3). أخرجه النسائي في «الكبرى» (3224)، وابن خزيمة (1967)، والدارقطني (2268) وقال: كلهم ثقات، وغير معتمر يرويه موقوفًا. (4). أخرجها النسائي في «الكبرى» (3225 - 3227). وتابعهم حماد بن سلمة وأبو خالد الأحمر، كلاهما عن حميد موقوفًا. انظر «مصنف بن أبي شيبة» (9414)، و «صحيح ابن خزيمة» (1980). (5). أخرجه النسائي في «الكبرى» (3230). (6). أخرجه ابن أبي شيبة (9415)، والنسائي (3231)، وابن خزيمة (1971)، كلهم من طرق عن شعبة عن قتادة به. (7). هو الذي رجحه البخاري، والرازيّان، والترمذي، وجعلوا الرفع وهمًا، ولكن خالفهم الدارقطني فقال: الذين رفعوه ثقات، وقد زادوا، وزيادة الثقة مقبولة! انظر: «العلل الكبير» للترمذي (ص 125 - 126)، و «العلل» لابن أبي حاتم (676)، وللدارقطني (2330).

(2/52)


الثاني: أن ذكر الحجامة فيه ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن خزيمة (1): الصحيح أن ذكر الحجامة فيه من كلام أبي سعيد، ولكن بعض الرواة أدرجه فيه. الثالث: أنه ليس فيه بيان للتاريخ، ولا يدل على أن هذا الترخيص كان بعد الفتح، وقولكم: «إن الرخصة لا تكون إلا بعد النهي» باطل بنفس الحديث، فإن فيه: «رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبلة للصائم»، ولم يتقدّم منه نهي عنها، ولا قال أحد: إن هذا الترخيص فيها ناسخ لمَنْعٍ تقدَّم. وفي الحديث: «إن الماء من الماء كانت رخصة في أول الإسلام» (2)، فسمى الحكم المنسوخ رخصة، مع أنه لم يتقدم حظره، بل المنع منه متأخر. وبالجملة، فهذه المآخذ لا تفيد مقاومةً لأحاديث الفطر، ولا تأخُّرًا عنها، فكيف تُنسخ بها؟! قالوا: وأما جوابكم الثالث بأن الفطر فيها لم يكن للحجامة، وذكر الحاجم للتعريف المحض، كزيد وعمرٍو= ففي (3) غاية البطلان من وجوه: أحدها: أن ذلك يتضمن الإيهام (4) والتلبيس، بأن يَذكر وصفًا يُرتِّب _________ (1). عقب الحديث (1967). (2). أخرجه أحمد (21100)، وأبو داود (215)، والترمذي (110)، وابن خزيمة (225)، وابن حبان (1173) من حديث سهل بن سعد، عن أُبي بن كعب - رضي الله عنهما - موقوفًا عليه. (3). في الطبعتين: «في» خلافًا للأصل. (4). في الطبعتين: «الإبهام»، تصحيف.

(2/53)


عليه الحكم ولا يكون له فيه تأثير البتة. الثاني: أن هذا يُبطل عامة أحكام الشرع التي (1) رتّبها على الأوصاف، إذا تطرَّق إليها هذا الخيال والوهم الفاسد، كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} [النور: 2]، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} [النساء: 18]. ومعلوم أنه ليس بأيدينا إلا أوصاف رُتِّبت عليها الأحكام، فإن جاز أن تكون تلك الأوصاف للتعريف لا للتعليل بطلت الأحكام. الثالث: أنه لا يَفهم قط (2) أحدٌ من الخاصة والعامة مِن قول القائل: «القاتل لا يرث» و «العبد لا يرث» و «الكافر لا يرث» و «القاذف لا تُقبل شهادته» و «المُحْدِث لا تصحّ صلاته» وأمثال ذلك= إلا تَعلُّقَ الأحكام بتلك الأوصاف. ولهذا لا يَحسُن ذكر وصفٍ لا تأثير له في الحكم، كما لو قال: أفطر الخيّاط والمخيط له، وأفطر الحامل والمحمول له، وأفطر الشاهد والمشهود له!! ومن قال هذا عُدَّ كلامه سُخْفًا، وتعجَّب الناس من قوله، فكيف يضاف ذلك إلى الشارع؟! سبحانك هذا بهتان عظيم! الرابع: أن هذا قدح في أفهام الصحابة الذين هم أعرف الناس وأفهم الناس بمراد نبيهم، وبمقصوده من كلامه، وقد قال أبو موسى لرجل قال له: _________ (1). في الأصل: «الذي»، وهو سهو. (2). «قط» أوقعه المؤلف هنا وفي مواضع أخرى من كتبه موقع «أبدًا»، والصواب أنه ظرف مختص بالمُضيّ. انظر: «درّة الغوّاص في أوهام الخواص» (الوهم التاسع).

(2/54)


ألا تحتجم نهارًا؟ أتأمرني أن أُهَرِيقَ دمي وأنا صائم وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أفطر الحاجم والمحجوم»؟ (1). والذين فطَّروا بذلك من الصحابة كعلي وأبي موسى وغيرهم إنما يحتجون بالحديث. وكان جماعة من الصحابة لا يحتجمون في الصيام إلا ليلًا، منهم عبد الله بن عمر وابن عباس وأبو موسى وأنس، ويحتجّون بالحديث (2). الخامس: أن هذا يتضمن تعليق الحكم ــ وهو الفطر ــ بوصفٍ لا ذِكر له في الحديث أصلًا، وإبطالَ تعليقه بالوصف الذي علقه به الشارع، وهذا من أبطل الباطل. السادس: أنه لو صح ذلك ــ وحاشا لله ــ في قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم»، فكيف يصح ذلك في حديث أنس الذي جعلتموه عمدتكم في الباب، وهو قوله لجعفر ــ وقد مرّ به وهو يحتجم ــ: «أفطَرَ هذان» ثم رخّص _________ (1). سبق تخريجه. (2). أثر ابن عمر أخرجه مالك (818)، وعبد الرزاق (7531 - 7533)، وابن أبي شيبة (9412، 9413) بأسانيد صحيحة، ولكن ليس فيها أنه احتج بالحديث. وقد روي الحديث عنه، ولكن بإسناد واهٍ، وسيأتي. وأثر ابن عباس عزاه في «المغني» (4/ 351 - 352) إلى الجُوزجاني، ولم يذكر أنه احتجّ بالحديث، وقد روي الحديث عنه، وقد سبق. وحديث أبي موسى الأشعري سبق تخريجه. وأثر أنس أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (5/ 338) بإسناد صحيح، وليس فيه أنه احتج بالحديث، بل الظاهر أنه كان يؤخره من أجل الضعف، بدليل ما سبق من قوله في البخاري: «لا، إلا من أجل الضعف».

(2/55)


في الحجامة بعدُ؟ وفي قوله: نهى عن الحجامة ولم يحرّمها؟ السابع: أنه كيف يتفق بضعةَ عشر صحابيًّا على رواية أحاديثَ كلُّها متفقة بلفظ واحد، ويكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ذكر الحجامة فيها ولا تأثير لها في الفطر، وكلهم يقول: «أفطر الحاجم والمحجوم»؟! الثامن: أنه كيف يجوز للصحابة أن يُفتوا بذلك، [ق 121] ويقولوا: أفطر الحاجم والمحجوم؟ أفترى استمر التعريف بذلك دائمًا؟! ودَفْع الأحاديث متى وصل إلى هذا الحد ساء وقبُح جدًّا! التاسع: أنّا نقول: نعم، وهو للتعريف بلا شك، فإن أحكام الشارع إنما تُعرَّف بالأوصاف وتُرْبَط بها، وتعمّ الأمة لأجلها، فالوصف في الحديث المذكور لتعريف حكمه، وأنه مرتبط بهذا الوصفِ منوط به. العاشر: أن صاحب القصة التي جرت له قال: مر عليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أحتجم، فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم»، فلو كان فطره بغير ذلك لبينه له الشارعُ لحاجته إليه، ولم يَخْفَ على الصحابي ذلك، ولم يكن لذكره الحجامةَ معنًى. وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فكيف يترك الشارع بيان الوصف المفطِّر فلا يبينه للمكلَّف، ويذكر له وصفًا لا يفطّر بحال؟! وأما قولهم: إن الفطر بالغيبة، فهذا باطل من وجوه: أحدها: أن ذلك لا يثبت، وإنما جاء في حديث واحد من تلك الأحاديث: «وهما يغتابان الناس» (1)، مع أنها زيادة باطلة. _________ (1). أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (6318) من طريق غياث بن كلُّوب، عن مطرّف بن سمرة بن جندب، عن أبيه مرفوعًا. قال البيهقي: غياث هذا مجهول. وذكره الدارقطني في «الضعفاء» (428) وقال: له نسخة عن مطرّف بن سمرة بن جندب، لا يُعرف إلا به. وأخرجه ابن شاهين في «ناسخ الحديث ومنسوخه» (ص 338) من حديث ابن عباس بنحوه، وفي إسناده إبراهيم بن البراء بن النضر، متروك الحديث، حدّث عن الثقات بالبواطيل. وأخرجه العقيلي في «الضعفاء» (6/ 5) من حديث ابن مسعود، وفي إسناده معاوية بن عطاء، في حديثه مناكير، وهذا منها.

(2/56)


الثاني: أنه لو ثبت لكان الأخذ بعموم اللفظ الذي عَلَّق به الحكم، دون الغِيبة التي لم يُعلِّق بها الحكم. الثالث: أنه لو كان ما ذكروه صحيحًا لكان موجَب البيان أن يقول: أفطر المغتابان، على عادته وعُرْفه مِن ذكر الأوصاف المُؤثِّرة دون غيرها، فكيف يَعدِل عن الغيبة المؤثّرة إلى الحجامة المُهدَرة؟! الرابع: أن هذا يتضمن حمل الحديث على خلاف الإجماع وتعطيله، فإن المنازع لا يقول بأن الغيبة تفطِّر، فكيف يَحمل الحديثَ على ما يعتقد بطلانه؟! الخامس: أن سياق الأحاديث يُبطل هذا التأويل، كما تقدم. السادس: أن معقل بن سنان قال: مرَّ بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أحتجم، فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم»، ولم يكن يغتاب أحدًا، ولا جرى للغيبة ذكر أصلًا. قالوا: وأما الجواب الرابع (1) بأن «أفطر» بمعنى سيفطر، ففاسد أيضًا _________ (1). ط. الفقي: «الواقع» تصحيف.

(2/57)


لتضمنه الإيهام بخلاف المراد، ولفهم الصحابة خلافه، ولاطِّراد (1) هذا اللفظ دون مجيئه بالمعنى الذي ذكروه، ولشدَّة مخالفته للوضع، ولذكر [الحاجم مع] (2) المحجوم، فإنه وإن تعرَّض المحجوم للفطر بالضعف، فأي ضَعْف يلحق الحاجم؟ وكون الحاجم متعرِّضًا لابتلاع الدم، والمحجوم متعرضًا للضعف، هذا التعليل لا يُبطل الفطرَ بالحجامة، بل هو مقرِّر للفطر بها، وإلا فلا يجوز استنباط وصف من النص يعود عليه بالإبطال. بل هذا الوصف إن كان له تأثير في الفطر، وإلا فالتعليل به باطل. قالوا: وأما الجواب الخامس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بهما مساءً فقال ذلك، فمما لا يجوز أن يحمل الحديث عليه، وأي تأثير للحجامة؟ بل كل الناس قد أفطر. وأيضًا فهذا كذب، فإنه ليس في الحديث ما يدل على ذلك أصلًا، فقائله مُخبِر بالكذب. وأيضًا فأي حاجة إلى قول أنس: «ثم رخص بعدُ في الحجامة»؟! وأيضًا: فأي حاجة بالصحابة أن يؤخروا احتجامهم إلى الليل، وكيف يفتون الأمة بفطرهم بأمرٍ قد فُعِل مساءً لا تأثير له في الفطر؟! والحمد لله على المعافاة من رد الأحاديث بمثل هذه الخيالات! وأما جوابكم السادس: أن هذا تغليظ ودعاء عليهما، لا أنه حكم _________ (1). في الطبعتين: «ولاضطراد» خطأ. (2). زيادة يقتضيها السياق.

(2/58)


شرعي، فالمجيب به كالمستجير من الرمضاء بالنار! فإنهما لم يفعلا محرَّمًا عندكم ولا مفطِّرًا، بل فعلا ما أباحه لهما الشارع عندكم، فكيف يُغلَّظ (1) عليهما ويُدعَى عليهما؟! ومتى عُهِد في عرف الشارع الدعاء على المكلف بالفطر وفساد العبادة؟! وسائر الوجوه المتقدمة تبطل هذا أيضًا. وأما جوابكم السابع بأن المراد إبطال أجر صومهما، فكذلك أيضًا، فإنكم لا تبطلون أجرهما بذلك، ولا تحرِّمون الحجامة، ثم لو كان المراد إبطال الأجر لكان ذلك مقرِّرًا لفساد الصوم لا لصحته، فإنه قد أَخبَر عن أمرٍ يتضمن بطلانَ أجرهما لزومًا واستنباطًا، وبطلانَ صومهما صريحًا ونصًّا، فكيف يُعطَّل ما دل عليه صريحُه ويُعتبر ما استُنبِط منه، مع أنه لا منافاة بينه وبين الصريح؟! بل المعنَيان حق، قد بطل صومهما وأجرهما إذا كانت الحجامة لغير مرض. وأما جوابكم الثامن أن الأحاديث لو قُدِّر تعارضها لكان الأخذ بأحاديث الرخصة أولى لموافقتها القياس، فجوابه: أولًا: أن الأحاديث ــ بحمد الله ــ ليست متعارضة، وقد بيّنا أنه لا معارِض لأحاديث المنع. ويقال ثانيًا: لو قُدِّر تعارضها فالأخذ بأحاديث الفطر متعيِّن، لأنها ناقلة عن الأصل، وأحاديث الإباحة موافِقة لما كان الأمر عليه قبل جعلها مُفطِّرةً، والناقل مقدَّم على المُبْقي. _________ (1). ط. المعارف: «يُفطّر»، ورسمه في الأصل يُشبه: «يغطـ»، والظاهر أن الصواب ما أثبتّه وأن اللام سقطت من الناسخ سهوًا، ويؤيده ذكر مصدره (تغليظ) في أول الفقرة.

(2/59)


ويقال ثالثًا: ليس في أحاديث الرخصة لفظ صريح، وإنما غايتها أن تكون فعلًا محتمِلًا للوجوه التي تقدمت، فكيف تُقدَّم على القول الصريح؟! ويقال رابعًا: أحاديث الفطر صريحة متعددة الطرق، رواها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة عشر نفسًا، وساق الإمام أحمد أحاديثهم كلها (1). وهُم: رافع بن خديج، وثوبان، وشداد بن أوس، وأبو هريرة، وعائشة، وبلال، وأسامة بن زيد، ومعقل بن سنان، وعلي بن أبي طالب (2)، وسعد بن أبي وقاص، وأبو زيد الأنصاري (3)، وأبو [ق 122] موسى، وابن عباس، وابن عمر (4)؛ فكيف تُقدَّم عليها أحاديث هي بين أمرين: صحيح لا دلالة فيه، أو ما فيه دلالة ولكن هو غير صحيح؟! وقد تقدم ذكر ذلك في الكلام على الأحاديث وبينَّا أنه ليس فيها حديث واحد يصلح للمعارضة. وعلى هذا، فالقياس الذي أشرتم إليه فاسد الاعتبار. ثم نقول: بل القياس من جانبنا، لأن الشارع علّق الفطر بإدخال ما فيه قِوام البدن من الطعام والشراب، وبإخراجه من القيء واستفراغ المني، وجَعَل الحيض مانعًا من الصوم لِما فيه من خروج الدم المُضْعِف للبدن. _________ (1). في «مسائله» برواية عبد الله ــ كما ذكر شيخ الإسلام في «شرح العمدة» (3/ 334) ــ، ولكن ليس في القدر المطبوع إلا حديث شداد وأثر ابن عمر وأبي هريرة. (2). سبق تخريج أحاديث هؤلاء الصحابة. (3). أخرج الحديث من روايتهما ابن عدي في «الكامل» (3/ 97، 98). وكلا الإسنادين واهٍ، فيه داود بن الزبرقان، متروك الحديث. (4). سبق تخريج حديث أبي موسى وابن عبّاس، وأما حديث ابن عمرفأخرجه الطبراني في «الأوسط» (6139) وابن عدي في «الكامل» (2/ 306) بإسناد ضعيف جدًّا.

(2/60)


قالوا: فالشارع قد نهى الصائم عن أخذ ما يُقِيته (1)، وعن إخراج ما يُضعفه، وكلاهما مقصود له؛ لأن الشارع أمر بالاقتصاد في العبادات، ولا سيما في الصوم، ولهذا أمر بتعجيل الفطور وتأخير السحور، فله قصدٌ في حفظ قوة الصائم عليه كما له قصدٌ في منعه من إدخال المفطّرات. وشاهده الفطر بالقيء والحيض والاستمناء، فالحجامة كذلك أو أولى، وليس معنا في القيء ما يماثل أحاديث الحجامة، فكيف يفطر به دون الحجامة، مع أن الفطر بها أولى منه نصًّا وقياسًا واعتبارًا. قالوا: ولهذا سوّى (2) بين الغالب منهما والمُستَدْعَى، فلا يُفطِر إذا ذرعه القيء، كما لا يفطر بالرُّعاف وخروج الدم من الدمل والجرح؛ وكما يفطر بالاستقاء عمدًا، كذلك يفطر بإخراج الدم عمدًا بالحجامة. قالوا: وشاهده أن دم الحيض لمّا كان يجري في وقت وينقطع في وقت جعل الشارع صومها في وقت الطهر مغنيًا عن صومها وقت الدم، ولمّا كان دم الاستحاضة لا ضابط له، ولعله أن يستمر، جوَّز لها الصوم مع جرَيانه، كصاحب الرعاف ونحوه. فليس القياس إلا مع النصوص، يدور معها حيث دارت. وأما قياسكم ذلك على الفِصاد ونحوه، فنقول: القائلون بأن الحجامة تفطِّر لهم فيها أربعة أقوال: أحدها: أن المحتجم يُفْطِر وحده دون الحاجم، وهذا ظاهر كلام _________ (1). في الطبعتين: «يعينه»، تحريف. ومعنى «يُقيته»: يعطيه قوتًا ويغذّيه. انظر: «تاج العروس» (قوت). (2). ط. الفقي: «فرَّق» خلافًا للأصل، ويفسد المعنى المقصود.

(2/61)


الخرقي (1)، فإنه قال في المفطِّرات: «أو احتجم»، ولم يقل: أو حجم. الثاني، وهو منصوص الإمام أحمد: أنه يُفطِر كل منهما، وهذا قول جمهور أصحابه المتقدمين والمتأخرين (2). ثم اختلف هؤلاء في التشريط والفِصاد على ثلاثة أقوال، أحدها: أنه لا يُفْطِر بهما، والثاني: يفطر بهما، والثالث: يفطر بالتشريط دون الفصاد، لأن التشريط عندهم حجامة. واختلفوا في التشريط والفصاد: أيهما أولى بالفطر؟ والصواب: الفطر بالحجامة والفصاد والتشريط، وهو اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية (3)، واختيار صاحب «الإفصاح»، لأن المعنى الموجود في الحجامة موجود في الفِصاد طبعًا وشرعًا، وكذلك في التشريط، وقد بينّا أن الفطر بالحجامة هو مقتضى القياس، ولا فرق في ذلك بين الفصاد والتشريط؛ فبأيِّ وجهٍ أخرج الدم أفطر به، كما يفطر بالاستقاء بأي وجهٍ استَقاء: إما بإدخال يده في فيه، أو بشمّه ما يُقيئه، أو بوضع يده على بطنه وتَطامُنه، وغير ذلك؛ فالعبرة بخروج الدم عمدًا لا بكيفية الإخراج، كما استوى خروج الدم بذلك في إفساد الصلاة ونقض الطهارة عند القائلين به. وبهذا يتبين توافقُ النصوص والقياس، وشهادة أصول الشرع وقواعده، _________ (1). في «مختصره» (4/ 349 - مع المغني). (2). انظر: «الإنصاف» (7/ 419 - 420). (3). انظر: «مجموع الفتاوى» (25/ 256 - 258)، و «الاختيارات» للبعلي (ص 160). وما سيأتي من كلام ابن القيم إلى آخر المسألة، فهو مأخوذ من كلام شيخه من الموضع المذكور بتصرف واختصار.

(2/62)


وتصديقُ بعضها بعضًا. فإن قيل: فهب أن هذا يتأتّى لكم في المحجوم، فما الموجِب لفطر الحاجم؟ قلنا: لمّا كان الحاجم يجتذب الهواء الذي في القارورة بامتصاصه، والهواء يجتذب ما فيها من الدم، فربما صعد مع الهواء شيء من الدم، ودخل في حلقه وهو لا يشعر، والحكمة إذا كانت خفيَّةً عُلِّق الحكم بمظِنَّتها، كما أن النائم لما كان قد يخرج منه الريح ولا يشعر بها عُلِّق الحكم بالمظنة، وهو النوم وإن لم يخرج منه ريح. فإن قيل: فطرد هذا أن لا يُفْطِرَ الشارط. قلنا: نعم، ولا الحاجم الذي يشرط ولا يَمُصّ، أو يمصّه مفطر غيره، وليس في هذا مخالفة للنص، فإن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج على الحاجم المعتاد، وهو الذي يمصّ الدم، وكلامه إنما يعم المعتاد، فاستعمال اللفظ فيه فقَصْرُه (1) على الحاجم المعتاد لا يكون تعطيلًا للنص، والله أعلم.

  15 - باب الصائم يحتلم نهارًا في رمضان

220/ 2272 - عن زيد بن أسلم عن رجل من أصحابه عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُفْطِرُ من قاء، ولا مَن احتلم، ولا من احتجم» (2). (3) _________ (1). كذا في الأصل، وفي ط. الفقي: «بقصره»، ولعل الصواب: «وقصره». (2). «سنن أبي داود» (2376) من طريق سفيان الثوري عن زيد بن أسلم به. (3). للمنذري تعليق على الحديث أشار إليه المجرّد ولكنه لم يصرّح أن المؤلف ساقه، ولذا لم نثبته، فإن ابن القيم قد ضمّنه في كلامه الآتي مع الزيادة والتحرير والترتيب والتهذيب. قارن بـ «المختصر» (3/ 258 - 259).

(2/63)


قال ابن القيم - رحمه الله -: هذا الحديث قد اختُلف في إسناده ووصله وإرساله، واختلف في متنه، فرواه هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء عن ابن عباس، وقال: «القيء والرُّعاف والاحتلام»، ذكره ابن عدي (1). ورواه الدارقطني (2) من حديث هشام عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد، وذكر فيه «الاحتجام» بدل «الرعاف». ورواه الترمذي (3) من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد فقال: «الحجامة والقيء والاحتلام». قال الترمذي: حديث أبي سعيد غير محفوظ، وقد روى عبد الله بن زيد بن أسلم، وعبدُ العزيز بن محمد، وغيرُ واحد (4) هذا الحديثَ [ق 123] عن زيد بن أسلم مرسلًا، لم يذكروا فيه: «عن أبي سعيد» (5). _________ (1). «الكامل» (3/ 282، 7/ 109) من طريق أبي خالد الأحمر، عن هشام به. وأبو خالد الأحمر صدوق وليس بحجة، كما قال ابن معين. (2). رقم (2269) من طريق شعيب بن حرب عن هشام بن سعد به. رجاله ثقات، إلا هشام بن سعد ففيه لين، وقد خالفه الثقات فرووه عن زيد بن أسلم مرسلًا، كما سيأتي. (3). برقم (719). (4). رواية عبد الله بن زيد بن أسلم عند الإمام أحمد في «العلل» رواية ابنه (1795)، ورواية عبد العزيز بن محمد ــ وهو الدَّراوَرْدي ــ ذكرها الدارقطني في «العلل» (2278)، وممن رواه أيضًا: سفيان الثوري كما في حديث الباب، ومعمر كما عند عبد الرزاق (7538) وابن خزيمة (1974). (5). والمرسل هو الذي استصوبه الذُّهلي، والرازيّان،، وابن خزيمة، والدارقطني. انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (698)، و «صحيح ابن خزيمة» (1978، 1973)، و «العلل» للدارقطني (2278).

(2/64)


وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم يُضعَّف في الحديث، سمعتُ أبا داود السِّجْزي يقول: سألت أحمد بن حنبل عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فقال: أخوه عبد الله بن زيد لا بأس به. قال: وسمعتُ محمدًا (1) يذكر عن علي بن عبد الله قال: عبد الله بن زيد بن أسلم ثقة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف. قال محمد: ولا أروي عنه شيئًا.

  16 - باب الصائم يستقيء عامدًا

221/ 2275 - عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من ذَرَعه قيءٌ وهو صائم فليس عليه قضاء، وإن استقاء فليقض». وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (2). وقال الترمذي: حديث حسن غريب، لا نعرفه من حديث هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا من حديث عيسى بن يونس. وقال محمد ــ يعني البخاري ــ: لا أراه محفوظًا. قال أبو عيسى: وقد رُوي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يصح إسناده. وقال أبو داود (3): سمعت أحمد بن حنبل قال: ليس مِن ذا شيء. قال _________ (1). هو الإمام البخاري، وعلي بن عبد الله الآتي هو شيخه ابن المديني. (2). أبو داود (2380)، والترمذي (720)، والنسائي في «الكبرى» (3117)، وابن ماجه (1676). (3). في رواية ابن داسة للسنن. انظر: هامش تحقيق طبعتَي دار الصدّيق ودار التأصيل للسنن.

(2/65)


الخطابي (1): يريد أن الحديث غير محفوظ. قال ابن القيم - رحمه الله -: هذا الحديث له علة، ولعِلّته علة! أما علته فوَقْفه على أبي هريرة، وقَفَه عطاء (2) وغيره. وأما علة هذه العلة، فقد روى البخاري في «صحيحه» (3) بإسناده عن أبي هريرة أنه قال: «إذا قاء فلا يُفطِر، إنما يُخرِج ولا يُولج» قال: ويُذكر عن أبي هريرة أنه يُفطر، والأول أصح. 222/ 2276 - وعن مَعْدَان بن طلحة أن أبا الدرداء حدثه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفْطَر، فلقيت ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجد دمشق، فقلت: إنَّ أبا الدرداء حدثني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر؟ قال: صَدَقَ، وأنا صببتُ له وَضُوءَهُ. وأخرجه الترمذي والنسائي (4). وقال الترمذي: وقد جَوَّد حسين المعلم هذا الحديث، وحديث حسين أصح شيء في هذا الباب. وقال الإمام أحمد بن حنبل (5): حسين المعلم يُجوِّده. _________ (1). «معالم السنن» (3/ 260). (2). رواية عطاء أخرجها النسائي في «الكبرى» (3131). (3). باب الحجامة والقيء للصائم. (4). أبو داود (2381)، والترمذي (87)، والنسائي في «الكبرى» (3107)، من طريق حسين المعلّم, عن يحيى بن أبي كثير, عن الأوزاعي, عن يعيش بن الوليد بن هشام، عن أبيه، عن معدان. (5). نقل عنه الأثرم في «سننه» (ص 261 - 262) أنه احتجّ بالحديث على إيجاب الوضوء من القيء، قال الأثرم: قلت له: هو يثبت عندك؟ قال: نعم. قلت له: إنهم يضطربون في هذا الحديث، فقال: حسين المعلِّم يجوّده.

(2/66)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى البيهقي (1) من حديث فَضالة بن عُبَيد قال: أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صائمًا فقاء فأفطر، فسئل عن ذلك فقال: «إني (2) قِئت». وروى أيضًا (3) عن ابن عمر موقوفًا عليه: «من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء». قال: وعن أبي هريرة مثله (4)، وروي مرفوعًا، والحفاظ لا يرونه محفوظًا (5).

  17 - باب القُبلة للصائم

223/ 2277 - عن الأسود وعلقمة عن عائشة قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ وهو صائم، ويُباشِر وهو صائم، ولكنه كان أمْلَكَ لإِرْبه». وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (6) جمعًا وإفرادًا. وأخرجه ابن ماجه (7) من حديث القاسم بن محمد عن عائشة. 224/ 2278 - وعنها قالت: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ في شهر الصوم». _________ (1). «السنن الكبرى» (4/ 220). وأخرجه أحمد (23963) من طرق عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرزوق التُّجيبي، عن حَنَش الصنعاني، عن فضالة بن عبيد. وهذا إسناد جيّد، رجاله ثقات. (2). في الأصل: «بأني»، ولعله تصحيف ما أثبت من «السنن الكبرى». (3). (4/ 219). وهو في «الموطأ» (840) عن نافع، عن ابن عمر. (4). سبق الكلام عليه. (5). لفظ البيهقي بعد أن رواه بسنده: «وبعض الحفاظ لا يراه محفوظًا». (6). أبو داود (2382)، والبخاري (1927)، ومسلم (1106/ 65، 66)، والنسائي في «الكبرى» (3072 - 3096). (7). برقم (1684).

(2/67)


وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (1). 225/ 2279 - وعنها قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقَبلني وهو صائم، وأنا صائمة». وأخرجه النسائي (2). 226/ 2280 - وعن جابر بن عبد الله قال: قال عمر بن الخطاب: هَشَشْتُ فقبَّلت وأنا صائم، فقلت: يا رسول الله، صنعتُ اليوم أمرًا عظيمًا، قبلتُ وأنا صائم، قال: «أرأيتَ لو مَضمَضتَ من الماء وأنت صائم؟»، قلت: لا بأس به»، قال: «فمَهْ؟!». وأخرجه النسائي (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد أخرجا في «الصحيحين» من حديث أم سلمة (4) وحفصة (5): «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُقبِّل وهو صائم». _________ (1). أبو داود (2383)، ومسلم (1106/ 70)، والترمذي (727)، والنسائي في «الكبرى» (3077)، وابن ماجه (1683). (2). أبو داود (2384)، والنسائي في «الكبرى» (3038). (3). أبو داود (2385)، والنسائي في «الكبرى» (3036) واستنكر متنه. وإسناده كلّهم ثقات، وقد صححه ابن خزيمة (1999) وابن حبان (3544) والحاكم (1/ 431) والضياء (1/ 195 - 196)، وحسّن إسناده ابن كثير في «مسند الفاروق» (1/ 417). وانظر: «تنقيح التحقيق» (3/ 234 - 237). (4). البخاري (1929). (5). مسلم (1107/ 73).

(2/68)


وفي «صحيح مسلم» (1) عن عمر (2) بن أبي سلمة أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيقبل الصائم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سل هذه» لأم سلمة، فأخبرته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك، فقال: يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إني لأتقاكم لله وأخشاكم له».

  18 - كراهية ذلك للشَّاب (3)

227/ 2282 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: «أن رجلًا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المباشرة للصائم؟ فرَخَّصَ له، وأتاه آخر فنهاه، فإذا الذي رخَّصَ له شيخ، والذي نهاه شابٌّ» (4). قال ابن القيم - رحمه الله -: قال ابن حزم (5): فيه أبو العَنْبَس عن الأَغَرّ، وأبو العنبس هذا مجهول. قال عبد الحق: ولم أجد أحدًا ذكره ولا سمّاه (6). وروى البيهقي (7) عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخّص في القُبلة للشيخ وهو _________ (1). رقم (1108). (2). في الأصل: «عمرو»، خطأ. (3). هنا ورد هذا الباب في أصل المجرد، وموضعه في «السنن» و «مختصره» بعد الباب التالي، ولعل المؤلف كان قد قدّمه إلى هنا لعلاقته الوثيقة بالباب السابق. (4). أبو داود (2387) من طريق أبي العنبس، عن الأغرّ، عن أبي هريرة. (5). «المحلَّى» (6/ 208)، والمؤلف صادر عن «الأحكام الوسطى» لعبد الحق (2/ 217). (6). بل قد سمّي ووُثِّق. أما اسمه فقال يونس بن بُكير: هو جدّي أبو أمّي واسمه: الحارث بن عبيد بن كعب، من بني عدي. وأما توثيقه فنقله الدارمي عن ابن معين. انظر: «تهذيب الكمال» (8/ 387)، «تاريخ ابن معين» رواية الدارمي (ص 236). (7). «السنن الكبرى» (4/ 232) من طريق أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد بن أبي وقاص، عن عائشة، وروايته عنها مرسلة، فإنه لم يسمع منها كما نصّ عليه أبو حاتم في «المراسيل» (ص 257).

(2/69)


صائم، ونهى عنها الشاب، وقال: «الشيخ يملك إربه، والشاب يُفسد صومَه». وأرخص فيها ابن عباس للشيخ وكرهها للشاب (1). وسأل فتًى عبدَ الله بن عمر عن القبلة وهو صائم؟ فقال: لا، فقال شيخ عنده: لِمَ تُحْرِج الناس وتُضيِّق عليهم؟ والله ما بذلك بأس. فقال ابن عمر: أما أنت فقبِّل، فليس عند استك خير! (2). وروي إباحة القُبلة عن سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود (3)، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس. وأما ما روي عن ابن مسعود أنه كان يقول في القُبلة قولًا شديدًا ــ يعني يصوم مكانه (4) ــ فقال البيهقي: هذا محمول على ما إذا أنزل. وهذا _________ (1). أخرجه مالك في «الموطأ» (804)، وعنه الشافعي في «الأم» (3/ 247)، ومن طريقه البيهقي (4/ 232). وقد رُويت الرخصة عنه من وجوه أخرى مطلقة ومقيدة. انظر: «مصنف عبد الرزاق» (7413 - 7418). (2). أخرجه البيهقي (4/ 232)، بإسناد فيه لين. وقد صحّ عنه من طرق أخرى أنه كان يكره القبلة للصائم وينهى عنها. أخرجها عبد الرزاق (7423 - 7425)، وابن أبي شيبة (9505، 9506، 9515). (3). أثر سعد بن أبي وقاص أخرجه مالك (801) وابن أبي شيبة (9486)، وأثر ابن مسعود عند ابن أبي شيبة (9523) بلفظ المباشرة. (4). أخرجه عبد الرزاق (7426)، وابن أبي شيبة (9504)، والبيهقي (4/ 234) واللفظ له.

(2/70)


التفسير (1) من بعض الرواة لا من ابن مسعود. والله أعلم.

  19 - باب الصائم يبتلع الريق

228/ 2281 - عن عائشة - رضي الله عنها -: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُقَبِّلها وهو صائم ويَمُصُّ لسانها» (2). في إسناده محمد بن دينار الطاحي البصري، قال يحيى بن معين: ضعيف، وفي رواية: ليس به بأس، ولم يكن له كتاب. وقال غيره: صدوق (3). وقال ابن عدي الجرجاني (4): قوله: «ويمص لسانها» في المتن لا يقوله إلا محمد بن دينار، وهو الذي رواه. وفي إسناده أيضًا سعد بن أوس، قال ابن معين (5): بصري ضعيف. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال عبد الحق (6): «لا تصح هذه الزيادة في مص اللسان، لأنها من حديث محمد بن دينار عن سعد بن أوس، ولا يحتج بهما. وقد قال ابن الأعرابي (7): بلغني عن أبي داود أنه قال: هذا الحديث _________ (1). وهو قوله: «يعني: يصوم مكانه»، ولكنه جاء بمعناه مصرَّحًا من لفظ ابن مسعود في رواية عبد الرزاق وابن أبي شيبة. (2). أبو داود (2386) من طريق محمد بن دينار، عن سعد بن أوس العَبْدي، عن مِصْدَع أبي يحيى، عن عائشة. (3). انظر: «تهذيب التهذيب» (9/ 155). (4). في «الكامل» (6/ 198)، وذكر الحديث مرّة أخرى (6/ 468) وجعل الحمل فيه على مِصَدع أبي يحيى الأنصاري. (5). أسنده ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (4/ 80). (6). «الأحكام الوسطى» (2/ 219)، وانظر: «بيان الوهم والإيهام» (3/ 110). (7). في «السنن» بروايته، عقب الحديث. انظر: «تحفة الأشراف» (12/ 328).

(2/71)


ليس بصحيح».

  20 - من أصبح جنبًا في شهر رمضان

229/ 2283 - عن عائشة وأم سلمة زَوْجَي النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهما قالتا: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبح جُنبًا في رمضان من جِماع غير احتلام، ثم يصوم». وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (1) مختصرًا ومطولًا. وقال أبو داود: ما أقل من يقول هذه الكلمة، يعني: «يصبح جنبًا في رمضان»، وإنما الحديث: «كان يصبح جنبًا وهو صائم». هذا آخر كلامه. وقد وقعت هذه الكلمة في «صحيح مسلم» وفي كتاب النسائي (2). 230/ 2284 - وعن أبي يونس مولى عائشة، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن رجلًا قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف على الباب: يا رسول الله، إني أصبح جُنبًا وأنا أريد الصيام؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وأنا أصبح جنبًا وأنا أريد الصيام، فأغتسلُ وأصوم»، فقال الرجل: يا رسول الله، إنك لستَ مثلنا، قد غَفَر الله لك ما تَقدم من ذنبك وما تأخَّر، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: «والله إني لأرجو أن أكونَ أخشاكم لله وأعلمَكم بما أَتَّبع». وأخرجه مسلم والنسائي (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: اختلف السلف في هذه المسألة: فذهب بعضهم _________ (1). أبو داود (2388)، والبخاري (1925)، ومسلم (1109)، والنسائي في «الكبرى» (2944 - 3001). (2). مسلم (1109/ 78)، والنسائي (2971). (3). أبو داود (2389)، ومسلم (1110)، والنسائي في «الكبرى» (3013).

(2/72)


إلى إبطال صومه إذا أصبح جنبًا واحتجوا بما في «صحيح مسلم» (1) عن أبي هريرة أنه كان يقول في قصصه: «من أدركه الفجر جنبًا فلا يصوم». واختلفت الرواية عن أبي هريرة، فالمشهور عنه أنه لا يصح صومه. وعنه رواية ثانية (2): أنه إن علم بجنابته ثم نام حتى يُصبح فهو مفطر، وإن لم يعلم حتى أصبح فهو صائم. وروي هذا المذهب عن طاوس وعروة بن الزبير (3). وذهبت طائفة إلى أن الصوم إن كان فرضًا لم يصح، وإن كان نفلًا صح، وروي هذا عن إبراهيم النخعي والحسن البصري (4). وعن أبي هريرة رواية ثالثة: أنه رجع عن فتياه إلى قول الجماعة (5). وذهب الجمهور إلى صحة صومه مطلقًا في الفرض والنفل، وقالوا: حديث أبي هريرة منسوخ. واستشكل طائفة ثبوتَ النسخ، وقالت: شرط النسخ أن يعلم تأخُّره بنقلٍ، أو تُجمِعَ الأمةُ على ترك الخبر المعارض له فيعلم أنه منسوخ، وكلا الأمرين منتفٍ هاهنا، فمِن أين لكم أن خبر أبي هريرة متقدّم على خبر عائشة؟! _________ (1). (1109/ 75). (2). أخرجها النسائي في «الكبرى» (2944). وانظر: «الإشراف» لابن المنذر (3/ 136)، و «التمهيد» (17/ 424). (3). أخرجه ابن أبي شيبة (9675) عن طاوس، وعبد الرزاق (7405) عن عروة. (4). أخرجه ابن أبي شيبة (9672) عنهما. (5). صحّ رجوعه عند مسلم (1109/ 75)، وابن أبي شيبة (9668، 9674) من طرق عنه.

(2/73)


والجواب عن هذا: أنه لا يصح أن يكون آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إبطالَ الصوم بذلك، لأن أزواجه أعلم الأمة بهذا الحكم، وقد أخبرْنَ بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يُصبح جنبًا ثم يصوم. [ق 124] ولو كان هذا هو المتقدم لكان المعروفُ عند أزواجه مثلَ حديث أبي هريرة، ولم يحتجَّ أزواجه بفعله الذي كان يفعله ثم نُسِخ، ومُحال أن يخفى هذا عليهن، فإنه كان يَقْسِم لهن إلى أن مات في الصوم والفطر. هذا مع أن الحديث في مسلم غير مرفوع، وإنما فيه: «كان أبو هريرة يقول في قصصه» حسب، وفي الحديث أن أبا هريرة لما حُوقِق على ذلك ردَّه إلى الفضل بن عباس، فقال: «سمعت ذلك من الفضل، ولم أسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -»، هذا الذي في مسلم (1)، وفي لفظ: «حدثني الفضل بن عباس» (2). قال البخاري (3): وقال همام وابن عبد الله بن عمر عن أبي هريرة: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالفطر»، والأول أسند. ولكن رفعه صحيح، رواه سفيان عن عمرو عن (4) يحيى بن جَعْدة قال: سمعتُ عبد الله بن عمرٍو القاريَّ قال: سمعت أبا هريرة يقول: «لا، وربِّ هذا البيت ما أنا قلته: من أدركه الصبح وهو جنب فلا يصم، محمد - صلى الله عليه وسلم - _________ (1). (1109/ 75). (2). أخرجه البخاري (1926). (3). عقب الحديث السابق. وانظر: «تغليق التعليق» (3/ 147 - 148). (4). في الأصل وط. الفقي: «بن»، والتصحيح من مصادر الحديث، وعمرو هو ابن دينار.

(2/74)


قاله» (1). ومع هذا فقد روى النسائي (2) من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: كنت مع عبد الرحمن عند مروان فذكروا أن أبا هريرة يقول: من احتلم وعلم باحتلامه ولم يغتسل حتى يصبح، فلا يصم ذلك اليوم، قال: اذهبْ فسَلْ أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. فذهب، وذهبت معه ــ فذكر الحديث ــ وقال: فأتيتُ مروان فأخبرتُه قولَهما ــ يعني أم سلمة وعائشة ــ فاشتد عليه اختلافهم تخوّفًا أن يكون أبو هريرة يُحدّث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3)، فقال مروان لعبد الرحمن: عزمتُ عليك لمَّا أتيتَه فحدّثته: أعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تروي هذا؟ قال: لا، إنما حدّثني فلان وفلان. ولا ريب أن أبا هريرة لم يسمع ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال مرة: «أخبرنيه الفضل بن عباس»، ومرة قال: «أخبرنيه أسامة بن زيد» (4)، وفي رواية عنه: «أخبرنيه فلان وفلان»، وفي رواية: «أخبرني رجل» (5)، وفي رواية: «أخبرنيه مخبر» (6)، وفي رواية «هكذا كنت أحسب» (7). _________ (1). أخرجه أحمد (7388)، والنسائي في «الكبرى» (2936)، وإسناده صحيح كما قال المؤلف. (2). في «الكبرى» (2944). (3). في الطبعتين: «النبي - صلى الله عليه وسلم -» خلافًا للأصل. (4). أخرجه النسائي في «الكبرى» (2943). (5). لم أقف عليها. (6). أخرجها مالك في «الموطأ» (795)، والنسائي في «الكبرى» (2945، 2946). (7). أخرجها أحمد (25509)، والنسائي (2947).

(2/75)


قال المنذري (1): قال الخطابي (2): وأحسن ما سمعت في تأويل ما رواه أبو هريرة في هذا أن يكون ذلك محمولًا على النسخ، وذلك أن الجماع كان في أول الإسلام محرَّمًا على الصائم في الليل بعد النوم كالطعام والشراب. فلما أباح الله الجماع إلى طلوع الفجر جاز للجنب إذا أصبح قبل أن يغتسل أن يصوم ذلك اليوم لارتفاع الحظر المتقدم، فيكون تأويل قوله: «من أصبح جنبًا فلا صومَ له» أي مَن جامع في الصوم بعد النوم فلا يجزئه صومُ غدِه، لأنه لا يصبح جنبًا إلا وله أن يطأ قبل الفجر بطرفة [عين]، فكان أبو هريرة يفتي بما سمعه من الفضل بن العباس على الأمر الأول ولم يعلم بالنسخ، فلما سمع خبر عائشة وأم سلمة [صار إليه. وقال الشافعي (3): أخذنا بحديث عائشة وأم سلمة] (4) زوجَي النبي - صلى الله عليه وسلم - دون ما روى أبو هريرة [عن رجل] عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعانٍ: منها: أنهما زوجتاه، وزوجتاه أعلم بهذا من رجل إنما يعرفه سماعًا أو خبرًا. ومنها: أن عائشة مقدَّمة في الحفظ، وأن أم سلمة حافظة، ورواية اثنين أكثر من واحد. _________ (1). كلام المنذري أشار إليه المجرّد في حاشية الأصل بقوله: «ثم بعد أن كتب الشيخ هذا بخطّه، ذكره بعد [كذا، والصواب: ذكر بعده] كلام الحافظ المنذري، وهو مطوّل في حاشية المنذري، حكى فيه كلام الشافعي والخطابي». قلتُ: ليس في مطبوعة «المختصر» ما أشار إليه من كلام المنذري، وإنما هو في حاشية أصله الخطّي (ق 2/ 172 - النسخة البريطانية)، فأثبتُّ منه ما حكاه من كلام الخطابي والشافعي، وما عداه فالمؤلف قد ضمّنه في ثنايا تعليقه. (2). في «المعالم» (3/ 265 - 267)، وما بين الحاصرتين منه. (3). في «اختلاف الحديث» (10/ 187 - 189)، وما يأتي بين الحاصرتين فمنه. (4). ما بين الحاصرتين سقط من مخطوطة «المختصر» لانتقال النظر.

(2/76)


ومنها: أن الذي روتا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - المعروفُ في المعقول والأشبه [بالسنة]ــ وبسط الكلامَ في شرح هذا ــ، ومعناه: أن الغسل شيء وجب بالجماع وليس في فعله شيء محرَّم على من صام، فقد يحتلم بالنهار فيجب عليه الغسل ويُتم صومَه لأنه لم يجامع في نهار؛ وجَعَله شبيهًا بالمُحْرِم يُنهى عن الطيب، ثم يتطيب حلالًا ثم يُحْرِم وعليه لونُه وريحه، لأن نفس التطيُّب كان وهو مباح.

  21 - باب كفارة من أتى أهله في نهار رمضان

231/ 2285 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتى رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هلكتُ، قال: ما شأنك؟ قال: وقعتُ على امرأتي في رمضان. قال: «فهل تجدُ ما تُعتِق رقبةً؟» قال: لا. قال: «فهل تستطيع أن تصومَ شهرين متتابعين؟» قال: لا. قال: «فهل تستطيع أن تُطعم ستّين مسكينًا؟» قال: لا. قال: «اجلسْ»، فأُتيَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعَرَق فيه تمر، فقال: «تَصَدَّقْ به». فقال: يا رسول الله، ما بين لَابَتَيها أهلُ بيتٍ أفقرَ منّا، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت ثناياه، قال: «فأطْعِمْه إيَّاهم». وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (1)، بنحوه. وفي رواية (2) زاد الزهري: وإنما كان هذا رخصة له خاصّة، فلو أن رجلًا فعل ذلك اليوم لم يكن له بُدّ من التكفير. وذكر أبو داود أن الأوزاعي زاد فيه: «واسْتَغفِر الله». 232/ 2286 - وعنه: أن رجلًا أفطر في رمضان، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُعتق رقبةً، أو يصوم شهرين متتابعين، أو يُطعم ستين مسكينًا، قال: لا أجد، فقال _________ (1). أبو داود (2390)، والبخاري (1936)، ومسلم (1111)، والترمذي (724)، والنسائي في «الكبرى» (3104)، وابن ماجه (1671). (2). أبو داود (2391).

(2/77)


له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اجلسْ»، فأُتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعَرَق تمرٍ، فقال: «خذ هذا فتصدق به»، فقال: يا رسول الله ما أحدٌ أحوجَ مني، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أنيابه، وقال له: «كُلْه» (1). 233/ 2287 - وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أفطر في رمضان ــ بهذا الحديث ــ قال: فأُتي بِعَرَقٍ فيه تمر قَدْرُ خمسةَ عشرَ صاعًا، وقال فيه: «كُلْه أنت وأهلُ بيتك، وصم يومًا واسْتَغفِر الله» (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: هذه الزيادة، وهي الأمر بالصوم، قد طعن فيها غير واحد من الحفاظ، قال عبد الحق (3): وطريق حديث مسلم أصح وأشهر، وليس فيها «صم يومًا» ولا مكيلةُ (4) التمر، ولا الاستغفار، وإنما يصح حديث القضاء مرسلًا، وكذلك ذكره مالك في «الموطأ» (5)، وهو من مراسيل سعيد بن المسيب. رواه مالك عن عطاء بن عبد الله الخراساني عن سعيد بالقصة، وقال: «كُلْه، وصُم يومًا مكان ما أصبت». والذي أنكره الحفاظ ذكر هذه اللفظة في حديث الزهري، فإن أصحابه الأثبات الثقات، كيُونُس، وعُقَيل، ومالك، واللَّيث بن سعد، وشعيب، _________ (1). أبو داود (2392). (2). أبو داود (2393) من طريق هشام بن سعد، عن الزهري، عن أبي سلمة. (3). «الأحكام الوسطى» (2/ 231). (4). غير محرّر في الأصل، وفي ط. الفقي: «تكميله»، والمثبت من «الأحكام الوسطى». (5). برقم (816).

(2/78)


ومعمر، وعبد الرحمن بن خالد= لم يذكر أحد منهم هذه اللفظة (1). وإنما ذكرها (2) الضعفاء عنه، كهشام بن سعد (3) وصالح بن أبي الأخضر (4) وأضرابهما. وقال الدارقطني (5): رواتها ثقات، رواه ابن أبي أويس [عن أبيه] (6) عن الزهري، وتابعه عبد الجبار بن عمر عنه، وتابعه أيضًا هشام بن سعد عنه، قال (7): وكلهم ثقات. وهذا لا يفيد صحة هذه اللفظة، فإن هؤلاء إنما هم أربعة، وقد خالفهم _________ (1). انظر روايات هؤلاء وغيرهم من الأثبات كابن عيينة والأوزاعي ومنصور بن المعتمر في البخاري (1936، 1937، 2600، 6164، 6709، 6821)، ومسلم (1111)، وابن خزيمة (1949). (2). في الأصل: «ذكره»، والمثبت من ط. الفقي. (3). هو ضعيف بالنسبة إلى من تقدَّم، وإلا فهو صدوق، ولكن لم يكن بالحافظ، وحديث الباب من طريقه. (4). كذا ذكر المؤلف، وابن أبي الأخضر وإن كان لين الحديث، لكنه وافق الثقات في رواية الحديث عن الزهري فلم يذكر هذه اللفظة. أخرجه الدارقطني في «العلل» (1988)، ونصّ أبو عوانة في «المستخرج» (2/ 206) أن روايته شبيهة برواية الجماعة ليس فيها هذه اللفظة. (5). لم أجد كلامه في «السنن» و «العلل»، وإنما أخرج الحديث في «السنن» (2399) من طريق ابن أبي أويس، عن ابن شهاب الزهري، وفيه زيادة: «وصم يومًا». ثم قال: «تابعه عبد الجبار بن عمر، عن ابن شهاب». (6). ساقط من الأصل، واستدركته من مصدر التخريج. (7). لم أجد قول الدارقطني هذا أيضًا، ولا إخاله يصحّ عنه، فإنه هو نفسه قد قال في عبد الجبّار: متروك، كما في «سؤالات البرقاني» (ص 74).

(2/79)


من هو أوثق منهم وأكثر عددًا، وهم أربعون نفسًا، لم يذكر أحد منهم هذه اللفظة، ولا ريب أن التعليل بدون هذا يؤثر (1) في صحتها. ولو انفرد بهذه اللفظة من هو أحفظ منهم وأوثق، وخالفهم هذا العدد الكثير، لوجب التوقف فيها، وثقة الراوي شرط في صحة الحديث لا مُوجِبةٌ، بل لا بد من انتفاء العلة والشذوذ، وهما غير مُنتفِيَين في هذه اللفظة. وقد اختلف الفقهاء في وجوب القضاء عليه، فمذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة والشافعي في أظهر أقواله: يجب عليه القضاء (2). وللشافعي قول آخر: إنه لا يجب عليه القضاء إذا كفّر. وله قول ثالث: إنه إن كفّر بالصيام فلا قضاء عليه، وإن كفر بالعتق أو بالإطعام قضى، وهذا قول الأوزاعي (3). قال المنذري (4): روي في بعض طرقه: «هلكتُ وأهلكت» (5)، واستدل به _________ (1). في الطبعتين: «مؤثر»، والمثبت أقرب إلى رسم الأصل. (2). انظر: «المدونة» (1/ 218)، و «مسائل أحمد» برواية أبي داود (ص 133) وبرواية عبد الله (ص 190)، و «الأصل» للشيباني (2/ 203)، و «الأم» للشافعي (2/ 249)، وانظر لأقواله الأخرى: «المجموع» للنووي (6/ 362). (3). انظر: «الإشراف» لابن المنذر (3/ 121). (4). كلامه الآتي ليس في مطبوعة «المختصر»، واستدركته من هامش مخطوطته، وقد أشار إليه المجرّد بذكر طرفَيه، وذكر أن تعليق المؤلف الآتي وقع عقبه. (5). أخرجه الدارقطني (2398) من طريق أبي ثور، عن معلَّى بن منصور، عن سفيان، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة. قال الدارقطني: تفرد به أبو ثور عن معلى بن منصور عن ابن عيينة بقوله: «وأهلكت»، وكلهم ثقات. وأخرجه البيهقي (4/ 227) من طريق محمَّد بن المسيَّب الأَرْغِيانى بأسانيده إلى الأوزاعي عن الزهري به. وسيأتي الكلام عليها.

(2/80)


بعضهم على مشاركة المرأة إياه في الجناية. قال الخطابي (1): وهذه اللفظة غير موجودة في شيء من رواية هذا الحديث، وأصحاب سفيان لم يرووها عنه، وإنما ذكروا قوله: «هلكتُ» حسب، غير أن بعض أصحابنا حدثني أن المُعلّى بن منصور روى هذا الحديث عن سفيان فذكر هذا الحرف فيه، وهو غير محفوظ، والمعلّى ليس بذاك في الحفظ والإتقان. قال ابن القيم - رحمه الله -: قال البيهقي (2): قوله «وأهلكت» ليس بمحفوظ، وضعّفها شيخُنا أبو عبد الله الحافظ، وحملها على أنها أُدخلت على محمد بن المسيب الأَرْغِياني (3)، قال: فإن أبا علي الحافظ رواه عن محمد بن المسيب فلم يذكرها، والعباس بن الوليد رواه عن عُقبة بن علقمة دونها، ودُحَيم وغيره رووه عن الوليد بن مسلم دونها، وكافة أصحاب الأوزاعي رووه عنه دونها، ولم يذكرها أحد من أصحاب الزهري عن الزهري، إلا ما روي عن أبي ثور عن معلى بن منصور عن سفيان بن عيينة عن الزهري. قال: وكان أبو عبد الله أيضًا يستدل على كونها في تلك الرواية خطأً بأنه _________ (1). «معالم السنن» (3/ 271)، والنقل ما زال من «مختصر المنذري». (2). في «معرفة السنن والآثار» (6/ 266) الجملة الأولى منه، وسائره في «السنن الكبرى» (4/ 227). (3). إلى هنا كان المنذري قد ذكر كلام البيهقي ثم قال: «وساق الشاهد على ضعفها»، فأورده ابن القيم بتمامه.

(2/81)


نظر في كتاب الصوم تصنيف مُعلّى بن منصور بخط [ق 125] مشهور، فوجد فيه هذا الحديث دون هذه اللفظة، وبأن كافة أصحاب سفيان رووه عنه دونها. ثم قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى مالك هذا الحديث في «الموطأ» (1) عن الزهري عن حُميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة: «أن رجلا أفطر في رمضان، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكفّر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا» ثم ذكر الحديث. وحسبك بهذا الإسناد. وفيه أمران، أحدهما: وجوب الكفارة بأي مُفطِّر كان، والثاني: أنها على التخيير. وهو مذهب مالك في المسألتين (2). قال البيهقي (3): ورواية الجماعة عن الزهري مقيدة بالوطء، ناقلة للفظ صاحب الشرع، فهي أولى بالقبول، لزيادة حفظهم وأدائهم الحديثَ على وجهه. واتفقت رواياتهم على أن فطره كان بجماع، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالكفارة على اللفظ الذي يقتضي الترتيب. وقال أبو الحسن الدارقطني (4): الذين رووا الكفارة في جماع رمضان على التخيير: مالك في «الموطأ»، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وابن جريج، وعبد الله بن أبي بكر، وأبو أويس، وفُلَيح بن سليمان، وعمر بن عثمان _________ (1). برقم (815). (2). انظر: «النوادر والزيادات» لابن أبي زيد (2/ 51، 52)، و «الذخيرة» للقرافي (2/ 517، 526). (3). «السنن الكبرى» (4/ 225) إلى قوله: «على وجهه»، وما بعده في (4/ 224). (4). عقب الحديث (2397).

(2/82)


المخزومي، ويزيد (1) بن عِياض، وشِبْل بن عبّاد، والليث بن سعد من رواية أشهَب بن عبد العزيز عنه، [وابن عيينة من رواية نعيم بن حمّاد عنه، وإبراهيم بن سعد من رواية عمّار بن مطر عنه] (2)، وعبيد الله بن أبي زياد، إلا أنه أرسله عن الزهري؛ كل هؤلاء رووه عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة: «أن رجلا أفطر في رمضان»، وجعلوا كفارته على التخيير. قال: وخالفهم أكثر عددًا منهم، فرووه عن الزهري بهذا الإسناد: أن إفطار الرجل كان بجماع، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يكفّر بعتق رقبةٍ، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا؛ منهم: عِراك بن مالك، وعبيد الله بن عمر، وإسماعيل بن أميَّة، ومحمد بن أبي عَتِيق، وموسى بن عُقبة، ومعمر، ويونس، وعُقَيل، وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر، والأوزاعي، وشعيب (3) بن أبي حمزة، ومنصور بن المعتمر، وسفيان بن عيينة، وإبراهيم بن سعد، والليث بن سعد، وعبد الله بن عيسى، ومحمد بن إسحاق، والنعمان بن راشد، وحجاج بن أرطاة، وصالح بن أبي الأخضر، ومحمد بن أبي حفصة، وعبد الجبار بن عمر، وإسحاق بن يحيى العَوْصي، وهبَّار (4) بن عقيل، وثابت بن ثوبان، _________ (1). تحرف في ط. الفقي إلى «نذير»، فعلّق عليه الشيخ أحمد محمد شاكر بقوله: «هذا اسم محرّف، لم أصل إلى تحقيق صوابه». (2). مستدرك من «السنن»، ولعله سقط من الأصل لانتقال النظر. (3). في الطبعتين: «سعيد»، تحريف. (4). في ط. الفقي: «همار» خطأ، وعلّق عليه الشيخ أحمد محمد شاكر بقوله: «وكذلك هذا محرف لم أَصِل إلى صحّته».

(2/83)


وقُرّة (1) بن عبد الرحمن، وزمعة بن صالح، وبحر السقّاء، والوليد بن محمد، وشعيب بن خالد، ونوح بن أبي مريم، وغيرهم. آخر كلامه. ولا ريب أن الزهري حدث به هكذا وهكذا على الوجهين، وكلاهما محفوظ عنه بلا ريب، وإذا كان هكذا فرواية الترتيب المصرِّحة بذكر الجماع أولى أن يؤخذ بها لوجوه: أحدها: أن رُواتَها أكثر، وإذا قُدِّر التعارض رُجّح برواية الأكثر اتفاقًا، وفي الشهادة بخلاف (2) معروف. الثاني: أن رواتها حكوا القصة، وساقوا ذكر المفطّر وأنه الجماع، وحكوا لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما رواة التخيير فلم يفسروا بماذا أفطر؟ ولا حكوا أن ذلك من لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا من لفظ صاحب القصة، ولا حكوا أيضًا لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - (3) في الكفارة. فكيف تُقدَّم روايتهم على رواية من ذكر لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الترتيب ولفظَ الراوي في خبره عن نفسه بقوله: «وقعت على أهلي في رمضان»؟! الثالث: أن هذا صريح، وقوله: «أفطر» مجمل لم يذكر فيه بماذا أفطر، وقد فسّرتْه الرواية الأخرى بأن فِطره كان بجماع، فتعين الأخذ به. الرابع: أن حرف «أو» وإن كان ظاهرًا في التخيير، فليس بنص فيه، وقوله: «هل تستطيع كذا؟ هل تستطيع كذا؟» صريح في الترتيب، فإنه لم _________ (1). ط. الفقي: «مرّة» تحريف. (2). كذا في الأصل والطبعتين، ولعل الصواب: «خلاف». (3). ط. المعارف: «الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -» خطأ.

(2/84)


يجوِّزْ له الانتقال إلى الثاني إلا بعد إخباره بعجزه عما قبله، مع أنه صريح لفظ صاحب الشرع، وقوله: «فأمره أن يعتق رقبة أو يصوم» لم يحك فيه لفظه. الخامس: أن الأخذ بحديث الترتيب متضمن (1) العملَ بالحديث الآخر، لأنه يفسره ويبين المراد منه، والعمل بحديث التخيير لا يتضمن حديثَ الترتيب، ولا ريب أن العمل بالنصَّين أولى. السادس: أنا قد رأينا صاحب الشرع جعل نظير هذه الكفارة سواءً على الترتيب، وهي كفارة الظهار، وحكمُ النظيرِ حكم نظيره. ولا ريب أن إلحاق كفارة الجماع في رمضان بكفارة الظهار وكفارة القتل أولى وأشبه من إلحاقها بكفارة اليمين.

  22 - باب التغليظ فيمن أفطر عمدًا

234/ 2290 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أفطر يومًا من رمضان في غير رُخْصة رخَّصها الله له، لم يقض عنه صيامُ الدهر». وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (2). وذكره البخاري تعليقًا (3) فقال: ويُذكر عن أبي هريرة رفعه: «من أفطر يومًا من رمضان من غير عذر ولا مرض، لم يقضه صيام الدهر، وإن صامه». وقال الترمذي (4): لا نعرفه إلا من هذا الوجه، _________ (1). ط. المعارف: «يتضمّن» والمثبت موافق لطبعة الفقي، ورسم الأصل محتمل. (2). أبو داود (2396)، والترمذي (723)، والنسائي في «الكبرى» (3265 - 3270)، وابن ماجه (1672). (3). في «باب إذا جامع في رمضان». (4). في «الجامع» عقب الحديث.

(2/85)


وسمعت محمدًا ــ يعني البخاري ــ يقول: أبو المطوِّس اسمه يزيد بن المطوِّس، ولا أعرف له غير هذا الحديث. هذا آخر كلامه (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال الدارقطني (2): «ليس في رُواته مجروح»، وهذه العبارة لا تنفي أن يكون فيهم مجهول لا يُعرف بجرح ولا عدالة. ويقال في هذا ثلاثة (3) أقوال: أبو المطوس، وابن المطوس، والمطوس؛ تفرد بهذا الحديث، وتفرَّد به الحديث! قال ابن حبان (4): لا يجوز الاحتجاج بما انفرد من الروايات.

  23 - باب من أكل ناسيًا

235/ 2291 - عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إني أكلتُ وشربتُ ناسيًا وأنا صائم؟ فقال: «اللهُ أطعمك وسقاك». وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (5). قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي «الصحيحين» (6) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليُتمَّ صومه، فإنما _________ (1). ذكر المجرّد أن المؤلف ذكر الحديث ثم قال كلامه الآتي، ورأينا إثبات هذا القدر من كلام المنذري الطويل لفائدته في تخريج الحديث والكلام عليه. (2). لم أجد كلامه، لا في «السنن» عقب الحديث (2404)، ولا في «العلل» (1562). (3). «ثلاثة» غير محرّرة في الأصل، والمثبت من نسخة (ش) والمطبوع. (4). في «المجروحين» (2/ 512، 513). (5). أبو داود (2398) وقد تفرّد به بهذا اللفظ، والبخاري (1933)، ومسلم (1155)، والترمذي (721)، والنسائي في «الكبرى» (3262)، وابن ماجه (1673). (6). البخاري (1933)، ومسلم (1155).

(2/86)


أطعمه الله وسقاه»، وعند البخاري «فأكل وشرب». وروى الدارقطني (1) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أكل الصائم ناسيًا أو شرب ناسيًا، فإنما هو رزق ساقه الله إليه، ولا قضاء عليه». قال: هذا إسناد صحيح وكلهم ثقات. وفي طريق أخرى (2): «لا قضاء عليه ولا كفارة». قال: وهو صحيح أيضًا.

  24 - باب تأخير قضاء رمضان

236/ 2292 - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع عائشة - رضي الله عنها - قالت: «إن كان ليكون عليَّ الصومُ من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه حتى يأتي شعبان». وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (3). وأخرجه الترمذي (4) من حديث عبد الله البَهِيّ عن عائشة، وقال: حسن صحيح. _________ (1). برقم (2242). (2). برقم (2243)، وليس فيه قوله: «هو صحيح»، وإنما قال عقبه: «تفرّد به محمد بن مرزوق وهو ثقة عن الأنصاري». قلتُ: لم يتفرّد به محمد بن مرزوق، بل تابعه أخوه إبراهيم عند ابن خزيمة (1990) وابن حبان (3521)، وأبو حاتم الرازي عند الحاكم (1/ 430)، كلاهما عن محمد بن عبد الله الأنصاري، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. (3). أبو داود (2399)، والبخاري (1950)، ومسلم (1146/ 151)، والنسائي (2338)، وابن ماجه (1669)، كلهم من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، عن أبي سلمة عن عائشة. (4). برقم (783).

(2/87)


واختلف فيما لو أخّره عن رمضان آخر: فقال جماعة من الصحابة والتابعين: يقضي ويطعم لكل يوم مسكينًا (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وهذا قول ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة (2)، ومجاهد وسعيد بن جبير والثوري والأوزاعي والإمام أحمد والشافعي ومالك وإسحاق (3). وقال جماعة: يقضي ولا فدية عليه، وهذا يروى عن الحسن وإبراهيم النخعي، وهو مذهب أبي حنيفة (4). وقالت طائفة، منهم قتادة: يطعم ولا يقضي (5). ووقع في «الصحيحين» في هذا الحديث: «الشغل برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -»، ولكن هذه اللفظة مدرجة في الحديث من كلام _________ (1). هذه الفقرة نسبها المجرّد إلى المنذري، وليست في النسخة الخطية التي طبع عنها «المختصر» كما نصّ عليه الشيخ أحمد محمد شاكر في هامش (3/ 278)، وفي النسخة البريطانية من «المختصر» كلام للمنذري في هذه المسألة مع ذكر الخلاف فيها فأعاد المؤلف صياغته وزاد في تعليقه الآتي ذكر أسماء القائلين بالقول الأول. (2). أخرجه عنهم عبد الرزاق (7620 - 7624)، والدارقطني (2343 - 2347)، والبيهقي (4/ 253)، وفي بعض الروايات عن ابن عمر أنه يطعم «ولا قضاء عليه». (3). انظر: «الأم» (3/ 261)، و «الإشراف» (3/ 147)، و «الاستذكار» (3/ 266)، و «المغني» (4/ 400). (4). انظر: «المبسوط» (3/ 77)، والمصادر السابقة عدا «الأم». (5). أخرجه عنه عبد الرزاق (7625).

(2/88)


يحيى بن سعيد، بيَّن ذلك البخاري في «صحيحه» (1) قال: وقال يحيى: «الشغل من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بالنبي - صلى الله عليه وسلم -». وفي لفظ (2): «قال يحيى: فظننت أن ذلك لمكانها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». وفي «الصحيحين» (3) عن عائشة أيضًا قالت: «إن كانت إحدانا لَتُفطر في رمضان في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما تقدر أن تقضيه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يأتي شعبان».

  25 - باب من مات وعليه صيام

237/ 2293 - عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من مات وعليه صيامٌ صامَ عنه وليُّهُ». وأخرجه البخاري ومسلم (4). 238/ 2294 - (5) وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «إذا مرض الرجل في _________ (1). برقم (1950). (2). أخرجه مسلم (1146/ 151). (3). أخرجه مسلم (1146/ 152)، ولم يخرجه البخاري. (4). أبو داود (2400)، والبخاري (1952)، ومسلم (1147). (5). كتب المجرّد هنا: «قال الحافظ شمس الدين» ــ يعني ابن القيم ــ، وهو وهم فالحديث من أحاديث الباب في «السنن» و «المختصر»، وليس من زيادات المؤلف. وحتى الفقرة الآتية إلى قوله: «ولفظ البخاري نحوه» موجودة بنحوها في مخطوط «المختصر» ضمن تعليق المنذري على الحديث، ولعل نسخة «المختصر» التي كانت عند المجرّد فقابل بها «تهذيب السنن» ليجرّد زياداته كان فيها سقط في هذا الموضع، فظن أن ذلك كلّه من زيادات ابن القيم.

(2/89)


رمضان ثم مات ولم يَصِحّ أُطْعِمَ عنه ولم يكن عليه قضاء. وإن نذر قضى عنه وليه» (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي «الصحيحين» (2) عن ابن عباس قال: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ فقال: «أرأيتِ لو كان على أمك دين فقضيته، أكان يؤدي ذلك عنها؟». قالت: نعم. قال: «فصومي عن أمك» هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري نحوه. وفي «الصحيحين» (3) عنه أيضًا أن أمرأة جاءت فقالت: يا رسول الله، إن أختي ماتت وعليها صيام شهرين متتابعين» وذكر الحديث بنحوه. وفي «صحيح مسلم» (4) عن بريدة قال: كنت جالسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أتته امرأة فقالت: إني تصدَّقتُ على أمّي بجارية، وإنها ماتت قال: «وجب أجركِ، وردّها عليك الميراث». قالت: يا رسول الله، إنه كان عليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ قال: «صومي عنها». قالت: يا رسول الله، إنها لم تحج، _________ (1). أبو داود (2401). (2). البخاري (1953)، ومسلم (1148/ 156) من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس. (3). علقه البخاري عقب الحديث السابق بصيغة التمريض عن أبي خالد الأحمر بإسناده إلى ابن عباس. ثم علق الحديث من طرق أخرى عن ابن عباس كلها بلفظ: «إن أمّي ماتت»، مما يدلّ على مخالفة أبي خالد ــ وهو صدوق يخطئ ــ لجميع الرواة في قوله: «أختي». وأما مسلم، فساق (1148) إسناده من طريق أبي خالد في المتابعات، ولم يسُق لفظه. (4). برقم (1149).

(2/90)


أفأحج عنها؟ قال: «حُجّي عنها». قال البيهقي (1): فثبت بهذه الأحاديث جواز الصوم عن الميت. وقال الشافعي في القديم: وقد ورد في الصوم عن الميت شيء، فإن كان ثابتًا صِيمَ عنه، كما يُحَج عنه. وقال في الجديد: فإن قيل: فهل روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أحدًا أن يصوم عن أحد؟ قيل: نعم، روي عن ابن عباس. فإن قيل: لم لا تأخذ به؟ قيل: حدّث (2) الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نذر نذرًا» ولم يسمّه، مع حفظ الزهري، وطول مجالسة (3) عبيد الله لابن عباس، فلما جاء غيره: عن رجل عن ابن عباس بغير ما في حديث عبيد الله= أشبَهَ أن لا يكون محفوظًا. وأراد الشافعي ما روى مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله [عن ابن عبّاس] أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أمي ماتت وعليها نذر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اقضه عنها». وهذا حديث متفق عليه (4) من حديث مالك وغيره عن الزهري، إلا أن في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس: «أن امرأة سألت». وكذلك رواه الحكَم بن عُتَيبة وسلَمة بن كُهَيل عن مجاهد عن ابن عباس. وفي روايةٍ عن مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير _________ (1). «السنن الكبرى» (4/ 256 - 257) باختصار، وما بين الحاصرتين مستدرك منه. (2). رسمه في الأصل يشبه «حديث» كما في الطبعتين، والمثبت من «السنن الكبرى». (3). في الأصل وط. المعارف: «مجالسته»، خطأ. والمثبت من «السنن الكبرى». (4). البخاري (2761) ومسلم (1638).

(2/91)


عن ابن عباس: «أن امرأة سألت». ورواه عكرمة عن ابن عباس (1). ثم رواه بريدة بن حصيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فالأشبه أن تكون هذه القصة التي وقع فيها السؤال [عن الصوم] نصًّا غير قصة سعد بن عبادة التي وقع السؤال فيها عن النذر مطلقًا. كيف، وقد روي عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد صحيح النصُّ على جواز الصوم عن الميت (2). قال: وقد رأيت بعض أصحابنا يضعّف حديث ابن عباس بما روي عن يزيد بن زريع عن حجاج الأحول عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس أنه قال: «لا يصوم أحد عن أحد، ويطعم عنه» (3)، وبما روي عنه في الإطعام عمن مات وعليه صيام شهر رمضان وصيام شهر النذر (4). وضعَّف حديث عائشة بما روي عنها في امرأة ماتت وعليها الصوم، قالت: «يُطعَم عنها» (5). وفي رواية عنها: «لا تصوموا عن موتاكم وأطعموا _________ (1). هذه الطرق علّقها البخاري (1953)، ووصلها مسلم (1148) إلا طريق عكرمة فوصلها ابن خزيمة (2053). (2). كما في حديث الباب. (3). أخرجه النسائي في «الكبرى» (2930) بإسناد كلهم ثقات. (4). أخرجه عبد الرزاق (7650) ومن طريقه البيهقي (4/ 254) بلفظ: «يُطعم ستين مسكينا». وروي عنه التفريق بين رمضان والنذر، وسيأتي. (5). أخرجه الطحاوي في «شرح المشكل» (6/ 178 - 179)، وفي إسناده جهالة الراوية عن عائشة. وأخرج أيضًا نحوه من طريق آخر جيد، وفيه تصريح أن عليها صوم رمضان.

(2/92)


عنهم» (1). قال: وليس فيما ذكروا ما يوجب للحديث ضعفًا، فمن يجوّز الصيام عن الميت يجوّز الإطعام عنه. وفيما روي عنها في النهي عن الصوم عن الميت نظر، والأحاديث المرفوعة أصح إسنادًا وأشهر رجالًا، وقد أودعها صاحبا الصحيح كتابيهما، ولو وقف الشافعي على جميع طرقها وتَظاهُرِها، لم يخالفها إن شاء الله. [ق 127] وممن رأى جواز الصيام عن الميت: طاوس والحسن البصري والزهري وقتادة. آخر كلام البيهقي. اختلف أهل العلم فيمن مات وعليه صوم هل يُقضى عنه؟ على ثلاثة أقوال (2): أحدها: لا يُقضى عنه بحال، لا في النذر ولا في الواجب الأصلي. وهذا ظاهر مذهب الشافعي، ومذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابه. الثاني: أنه يصام عنه فيهما. وهذا قول أبي ثور وأحد قولَي الشافعي. والثالث: أنه يصام عنه النذر دون الفرض الأصلي. وهذا مذهب أحمد المنصوص عنه (3)، وقول أبي عبيد والليث بن سعد، وهو المنصوص عن _________ (1). لم أجد من أخرجه، وقال عنه الحافظ في «الفتح» (4/ 194): ضعيف جدًّا. (2). انظر: «الإشراف» (3/ 149)، و «التمهيد» (9/ 27، 28)، و «المغني» (4/ 398، 399)، و «المجموع» (6/ 415). (3). انظر: «مسائل أحمد» برواية عبد الله (ص 186)، وبرواية الكوسج (1/ 621)، وبرواية أبي داود (ص 137).

(2/93)


ابن عباس. روى الأثرم عنه (1) أنه سئل عن رجل مات وعليه نذر صوم شهر، وعليه صوم رمضان؟ قال: «أما رمضان فليُطعَم عنه، وأما النذر فيصام». وهذا أعدل الأقوال، وعليه يدل كلام الصحابة. وبهذا يزول الإشكال وتعليلُ حديث ابن عباس بأنه قال: «لا يصوم أحد عن أحد، ويطعم عنه»، فإن هذا إنما هو في الفرض الأصلي، وأما النذر فيصام عنه، كما صرح به ابن عباس، ولا معارضة بين فتواه وروايته. وهذا هو المروي عنه في قصة من مات وعليه صوم رمضان وصوم النذر، فرق بينهما، فأفتى بالإطعام في رمضان، وبالصوم عنه في النذر، فأي شيء في هذا ما يوجب تعليل حديثه؟ وكذلك ما روي عن عائشة من إفتائها في التي ماتت وعليها الصوم: أنه يطعم عنها، إنما هو في الفرض لا في النذر، لأن الثابت عن عائشة فيمن مات وعليه صيام رمضان أنه يطعم عنه في قضاء رمضان، ولا يصام، فالمنقول عنها كالمنقول عن ابن عباس سواء، فلا تعارض بين رأيها وروايتها. وبهذا يظهر اتفاق الروايات في هذا الباب، وموافقة فتاوى الصحابة لها، وهو مقتضى الدليل والقياس، لأن النذر ليس واجبًا بأصل الشرع، وإنما أوجبه العبد على نفسه، فصار بمنزلة الدَّين الذي استدانه، ولهذا شبهه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدين في حديث ابن عباس. والمسؤول عنه فيه أنه كان صوم نذر، والدَّين تدخله النيابة. وأما الصوم الذي فرضه الله عليه ابتداء فهو أحد أركان الإسلام، فلا _________ (1). أي عن ابن عباس، لا كما توَّهمه محقق ط. المعارف أن المراد: عن الإمام أحمد. والأثر ذكره ابن قدامة في «المغني» (4/ 399) وعزاه إلى «السنن» للأثرم. وأخرجه أيضًا عبد الرزاق (7651)، وابن حزم في «المحلى» (7/ 7)، والبيهقي (4/ 254).

(2/94)


تدخله النيابة بحال، كما لا تدخل الصلاةَ والشهادتين. فإن المقصود منها طاعة العبد بنفسه وقيامُه بحق العبودية التي خلق لها وأمر بها، وهذا أمر لا يؤدّيه عنه غيره، كما لا يُسْلِم عنه غيره، ولا يصلي عنه غيره. وهكذا من ترك الحجّ عمدًا مع القدرة عليه حتى مات، أو ترك الزكاة فلم يخرجها حتى مات، فإن مقتضى الدليل وقواعد الشرع: أن فعلهما عنه بعد الموت (1) لا يبرئ ذمته، ولا يقبل منه. والحق أحق أن يتبع. وسرّ الفرق: أن النذر التزام من المكلف لِما شغل به ذمته، لا أن الشارع ألزمه به ابتداء، فهو أخفّ حكمًا مما جعله الشارع حقًّا له عليه، شاء أم أبى. والذمة تسع المقدور عليه والمعجوز عنه، ولهذا تقبل أن يَشْغَلها المكلَّفُ بما لا قدرة له عليه، بخلاف واجبات الشرع، فإنها على قدر طاقة البدن، لا تجب على عاجز. فواجب الذمة أوسع من واجب الشرع الأصلي، لأن المكلف متمكّن من إيجاب واجبات كثيرة عليه لم يوجبها عليه الشارع، والذمة واسعة، وطريق أداء واجبها أوسع من طريق أداء واجب الشرع، فلا يلزم من دخول النيابة في واجبها بعد الموت دخولُها في واجب الشرع. وهذا يبين أن الصحابة أفقه الخلق، وأعمقهم علمًا، وأعرفهم بأسرار الشرع ومقاصده وحكمه. وبالله التوفيق.

  26 - باب اختيار الفطر (2)

239/ 2300 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا _________ (1). في الأصل وط. المعارف: «الموات»، خطأ. (2). أي في السفر، فإن الباب الذي قبله في «السنن»: «باب الصوم في السفر».

(2/95)


يُظَلَّلُ عليه، والزحام عليه. فقال: «ليس من البِرِّ الصيامُ في السفر». وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (1). (2) قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد احتج به من يوجب الفطر في السفر. واحتجوا بأن الفطر كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - (3). واحتجوا أيضًا بحديث دَِحْية بن خليفة الكلبي أنه لما سافر من قريته في رمضان وذلك ثلاثة أميال أفطَر، فأفطر معه الناس، وكره ذلك آخرون، فلما رجع إلى قريته قال: «والله لقد رأيت أمرًا ما كنت أظن أني أراه، إنّ قومًا رغبوا عن هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه»، يقول ذلك للذين صاموا. ثم قال عند ذلك: «اللهم اقبضني إليك». رواه أبو داود وغيره (4). واحتجوا أيضًا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقبول رخصة الفطر. فروى النسائي (5) _________ (1). أبو داود (2407)، والبخاري (1946)، ومسلم (1115)، والنسائي في «المجتبى» (2257)، وفي «الكبرى» (2577). (2). للمنذري بعده كلام على معنى الحديث، لم يُشر إليه المجرّد، وإنما ذكر أن تعليق ابن القيم على نفس الحديث، ولذا اقتصرت على ذكر التخريج دون ما بعده، لاسيما أن كلام ابن القيم قد تضمّن ما ذكره المنذري مع الزيادة والتحرير. (3). انظر: «صحيح البخاري» (2953، 4276)، و «صحيح مسلم» (1113/ 88). (4). أبو داود (2413)، وأحمد (27231)، وابن خزيمة (2041)، من طريق أبي الخير اليَزَني، عن منصور الكلبي، عن دحية. ومنصور الكلبي فيه جهالة، لم يوثّقه غير العجلي، وقال ابن خزيمة في «صحيحه»: «لا أعرفه بعدالةٍ ولا جرح»، وسيأتي مزيد الكلام عليه في «باب مسيرة ما يفطر فيه». (5). «المجتبى» (2258 - 2260)، و «الكبرى» (2578 - 2580)، وأخرجه أيضًا ابن حبان (355). وأصل الحديث متفق عليه دون قوله: «وعليكم برخصة الله ... »، وهذه الزيادة في ثبوتها نظر. وانظر: «صحيح مسلم» (1115).

(2/96)


من حديث جابر يرفعه: «ليس من البر أن تصوموا في السفر، وعليكم برخصة الله التي رخّص لكم فاقبلوها». واحتجوا أيضًا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الذين صاموا: «أولئك العصاة». رواه النسائي (1) في قصة فطره عام الفتح. واحتجوا أيضًا بقول عبد الرحمن بن عوف: «الصائم في السفر كالمفطر في الحضر». رواه النسائي (2). ولا يصح رفعه، وإنما هو موقوف. واحتجوا أيضًا بأن الله تعالى إنما أمر المسافر بالعدة من أيام أخر، فهي فرضه الذي أمر به، فلا يجوز غيره. وحكي ذلك عن غير واحد من الصحابة (3). وأجاب الأكثرون عن هذا بأنه ليس فيه ما يدل على تحريم الصوم في _________ (1). «المجتبى» (2263) و «الكبرى» (2583). والحديث في «صحيح مسلم» (1114). (2). «المجتبى» (2285، 2286) و «الكبرى» (2606، 2607) من طريق حميد وأبي سلمة ابنَي عبد الرحمن بن عوف، عن أبيهما موقوفًا. والمحفوظ طريق أبي سلمة عن أبيه، وهو مرسل فإن أبا سلمة لم يسمع من أبيه. انظر: «المراسيل» لابن أبي حاتم (ص 255). ورواه ابن ماجه (1666) مرفوعًا، ولا يصحّ. انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (694)، وللدارقطني (564)، و «السنن الكبرى» للبيهقي (4/ 244). (3). حكي عن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة أنهم رأوا أن الصوم في السفر لا يجزئ، وأمروا الصائم فيه بالقضاء. أخرج آثارهم ابن أبي شيبة (9088 - 9091)، والطبري في «تفسيره» (3/ 206 - 207)، وفي أسانيدها ضعف.

(2/97)


السفر على الإطلاق، وقد أخبر أبو سعيد أنه صام مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الفتح [ق 128] في السفر (1). قالوا: وأما قوله: «ليس من البر الصيام في السفر»، فهذا خرج على شخص معين، رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ظُلِّل عليه وجهده الصوم، فقال هذا القول، أي ليس البر أن يَجهد الإنسان نفسه حتى يبلغ فيها (2) هذا المبلغ، وقد فسح الله له في الفطر. فالأخذ بعموم اللفظ الذي يدل سياق الكلام على إرادته، فليس من البر هذا النوع من الصيام المشار إليه في السفر. وأيضًا فقوله: «ليس من البر» أي ليس هو أبر البر، لأنه قد يكون الإفطار أبرَّ منه إذا كان في حج أو جهاد يتقوَّى عليه. وقد يكون الفطر في السفر المباح برًّا، لأن الله تعالى أباحه ورخص فيه، وهو سبحانه يحب أن يؤخذ برُخَصه، وما يحبه الله فهو بر، فلم ينحصر البر في الصيام في السفر. وتكون «مِن» على هذا زائدةً، ويكون كقوله تعالى {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} الآية [البقرة: 177]، وكقولك: ما جاءني من أحد. وفي هذا نظر، وأحسن منه أن يقال: إنها ليست بزائدة، بل هي على بابها. والمعنى: أن الصوم في السفر ليس من البر الذي تظنونه وتنافسون عليه؛ فإنهم ظنّوا أن الصوم هو الذي يحبه الله ولا يحب سواه، وأنه وحدَه البر الذي لا أبرَّ منه، فأخبرهم أن الصوم في السفر ليس من هذا النوع الذي تظنونه، فإنه قد يكون الفطر أحبَّ إلى الله منه، فيكون هو البر. قالوا: وأما كون الفطر كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالمراد به _________ (1). رواه مسلم (1120). (2). كذا في الأصل، ولعل الصواب: «بها» كما في ط. الفقي.

(2/98)


واقعة معيَّنة، وهي غزاة الفتح، فإنه صام حتى بلغ الكديد، ثم أفطر، فكان فطره آخر أمريه، لا أنه حرَّم الصوم. ونظير هذا قول جابر: «كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مسّت النار» (1)، إنما هو في واقعة معينة دعي لطعامٍ فأكل منه، ثم توضأ وقام إلى الصلاة، ثم أكل منه وصلَّى ولم يتوضأ (2)، فكان آخر الأمرين منه: ترك الوضوء مما مست النار. وجابر هو الذي روى هذا وهذا، فاختصره بعض الرواة، واقتصر منه على آخره، ولم يذكر جابر لفظًا من النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن هذا آخر الأمرين مني. وكذلك قصة الصيام، وإنما حكوا ما شاهدوه أنه فعل هذا وهذا، وآخرهما منه الفطر وترك الوضوء. وإعطاء الأدلة حقها يزيل الاشتباه والاختلاف عنها. وأما قصة دحية بن خليفة الكلبي، فإنما أنكر فيها على من صام رغبةً عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وظنًّا أنه لا يسوغ الفطر، ولا ريب أن مثل هذا قد ارتكب منكرًا، وهو عاصٍ بصومه. والذين أمروهم (3) الصحابة بالقضاء وأخبروا أن صومهم لا يُجزئهم _________ (1). أخرجه أبو داود (192)، والنسائي (185) وابن خزيمة (43)، وابن حبان (1134)، من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن ابن المنكدر، عن جابر. وشعيب تفردّ به بهذا اللفظ دون الرواة الآخرين عن ابن المنكدر. قال أبو داود وابن حبان: إن شعيبًا اختصره من حديث طويل. وانظر: «العلل» لابن أبي حاتم (168). (2). هكذا رواها ابن عيينة، وابن جريج، ومعمر، وأيوب، ورَوح بن القاسم، جرير بن حازم؛ ستّتهم عن ابن المنكدر عن جابر. أخرج رواياتهم أحمد (14299، 14453)، وأبو داود (191)، والترمذي (80)، وابن حبان (1130، 1132، 1137، 1139، 1145). (3). كذا في الأصل. وفي «الطبعتين»: «أمرهم».

(2/99)


هم هؤلاء، فإنهم صاموا صومًا لم يشرعه الله، وهو أنهم ظنوا أنه حَتْم عليهم كالمقيم، ولا ريب أن هذا حكم لم يشرعه الله، فلم يمتثلوا ما أمروا به من الصوم، فأمرهم الصحابة بالقضاء. هذا أحسن ما حُمِل عليه قول من أفتى بذلك من الصحابة، وعليه يحمل قول من قال منهم: «الصائم في السفر كالمفطر في الحضر». وهذا من كمال فقههم، ودقة نظرهم - رضي الله عنهم -. قالوا: وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها»، فهذا يدل على أن قبول المكلف لرخصة الله واجب، وهذا حق، فإنه متى لم يَقبل الرخصة ردّها ولم يرَها رخصة، وهذا عدوان منه ومعصية، ولكن إذا قبلها، فإن شاء أخذ بها، وإن شاء أخذ بالعزيمة. هذا مع أن سياق الحديث يدل على أن الأمر بالرخصة لمن جهده الصوم وخاف على نفسه، ومثل هذا يؤمر بالفطر. فعن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر برجل في ظل شجرة يُرَشُّ عليه الماء، قال: «ما بال صاحبكم هذا؟» قالوا: يا رسول الله صائم. قال: «إنه ليس من البر أن تصوموا في السفر وعليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها» رواه النسائي (1). قالوا: وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أولئك العصاة» فذاك في واقعة معيَّنة، أراد منهم الفطر فخالفه بعضهم فقال هذا. ففي النسائي (2) عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ كُراع الغَمِيم، فصام الناس معه، فبلغه أن الناس شقَّ عليهم الصيام، فدعا بقَدَح من ماءٍ بعد العصر فشرب، والناس ينظرون، فأفطر بعض _________ (1). برقم (2258)، وقد سبق. (2). برقم (2263)، وقد سبق أيضًا.

(2/100)


الناس وصام بعض، فبلغه أن ناسًا صاموا فقال: «أولئك العصاة». فالنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أفطر بعد العصر ليقتدوا به، فلمّا لم يقتدِ به بعضهم قال: «أولئك العصاة» ولم يُرِد بذلك تحريم الصيام مطلقًا على المسافر. والدليل عليه ما روى النسائي (1) أيضًا عن أبي هريرة قال: أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم -[بطعام] (2) بمَرِّ الظَّهْران، فقال لأبي بكر وعمر: «أَدْنِيا (3)، فكلا»، فقالا: إنا صائمان، فقال: «ارْحَلُوا لصاحبَيكم (4)،اعملوا لصاحبَيكم!»، وأعله بالإرسال. ومر الظهران أدنى إلى مكة من كُراع الغميم، فإن كراع الغميم بين يدي عُسفان بنحو ثمانية أميال، وبين عسفان ومكة (5) ستة وثلاثون ميلًا. قالوا: وأما احتجاجكم بالآية، وأن الله أمر المسافر بالعدّة، فهي فرضه الذي لا يجوز غيره= فاستدلال باطل قطعًا، فإن الذي أنزلت عليه هذه الآية، وهو أعلم الخلق بمعناها والمراد منها، قد صام بعد نزولها بأعوام في السفر، ومحال أن يكون المراد منها ما ذكرتم، ولا يعتقده مسلم، فعلم أن المراد بها _________ (1). «المجتبى» (2264)، و «الكبرى» (2584) وقال فيه: «هذا خطأ، لا نعلم أحدًا تابع أبا داود [الحَفَري] على هذه الرواية، والصواب مُرسل». ثم أخرجه (2585 - 2587) من عدّة طرق مرسلًا. ومع ذلك فالموصول صححه ابن خزيمة (2031)، وابن حبان (3557)، والحاكم (1/ 433). (2). ساقط من الأصل. (3). كذا في الأصل و «المجتبى» من «الإدناء» بهمزة التعدية، أي قرِّبا أنفسكما. وفي «الكبرى» وبقية المصادر: «ادْنُوَا»، وهو واضح. (4). في الأصل هنا والموضع الآتي: «لصاحبكم»، والتصحيح من مصادر التخريج. (5). في الطبعتين: «مكة وعسفان»، وهكذا كتبه ناسخ الأصل أولًا، ثم وضع عليهما علامة التقديم والتأخير، فلم ينتبه لها محققو الطبعتين.

(2/101)


غير [ق 129] ما ذكرتم. فإما أن يكون المعنى: فأفطَرَ فعدة من أيام أخر، كما قال الأكثرون؛ أو يكون المعنى: فعدة من أيام أخر تجزئ عنه وتُقبَل منه، ونحو ذلك. فما الذي أوجب تعيين التقدير بأنَّ عليه عدة من أيام أخر، أو ففَرْضُه، ونحو ذلك؟ وبالجملة فَفِعْل من أنزلت عليه يفسِّرها ويبيّن (1) المراد منها، وبالله التوفيق. وهذا موضع يَغْلَط فيه كثير من قاصري العلم، يحتجّون بعموم نص على حكم، ويغفُلون عن عمل صاحب الشريعة وعمل أصحابه الذي يبين مراده، ومن تدبر هذا علم به مراد النصوص وفهم معانيها. وكان يدور بيني وبين المكيين كلام في الاعتمار من مكة في رمضان وغيره، فأقول لهم: كثرة الطواف أفضل منها، فيذكرون قوله - صلى الله عليه وسلم -: «عمرة في رمضان تعدل حجة» (2)، فقلت لهم في أثناء ذلك: محال أن يكون مراد صاحب الشرع العمرة التي يُخرَج لها (3) من مكة إلى أدنى الحل، وأنها تعدل حجة، ثم لا يفعلها هو مدة مقامه بمكة أصلًا، لا قبل الفتح ولا بعده، ولا أحد من أصحابه، مع أنهم أحرص الأمة على الخير، وأعلمهم بمراد _________ (1). ط. الفقي: «تفسيرها وتبيين»، تصحيف. (2). رواه البخاري (1782) ومسلم (1256) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. ورواه أحمد (17839)، وأبو داود (1988، 1989)، والترمذي (939) من حديث أم معقل - رضي الله عنها -، وهي صاحبة القصة التي قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك. (3). في الأصل والطبعتين: «إليها»، ولعل الصواب ما أثبت.

(2/102)


الرسول، وأقدرهم على العمل به. ثم مع ذلك يرغبون عن هذا العمل اليسير والأجر العظيم؟ يقدر أن يحج أحدهم في رمضان ثلاثين حجة أو أكثر، ثم لا يأتي منها بحجة واحدة، وتختصون أنتم عنهم بهذا الفضل والثواب، حتى يحصل لأحدكم ستون حجة أو أكثر؟! هذا مما لا يظنّه من له مُسْكة عقل. وإنما خرج كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - على العمرة المعتادة التي فعلها هو وأصحابه، وهي التي أنشؤوا لها السفر من أوطانهم، وبها أمر أُمَّ معقل، وقال لها: «عمرة في رمضان تعدل حجة»، ولم يقل لأهل مكة: اخرجوا إلى أدنى الحلّ فأكثروا من الاعتمار، فإن عمرة في رمضان تعدل حجة، ولا فهم هذا أحد منهم. وبالله التوفيق.

  27 - باب فيمن اختار الصيام

240/ 2302 - عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: «خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض غزواته في حَرٍّ شديد، حتى إنَّ أحدنا ليضَعُ يده على رأسه ــ أو كَفَّهُ على رأسه ــ من شدَّة الحر، ما فينا صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله بن رواحة». وأخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه (1). 241/ 2303 - وعن سِنان بن سلَمة بن المحبَّق الهُذَلي عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كانت له حَمُولةٌ يأوِي إلى شِبَعٍ فَلْيَصُمْ رمضانَ حيث أدركه» (2). في إسناده عبد الصمد بن حبيب الأزدي العَوذي البصري. قال ابن معين: _________ (1). أبو داود (2409)، والبخاري (1945)، ومسلم (1122)، وابن ماجه (1663). (2). أبو داود (2410)، والحديث ضعفه البخاري والعقيلي وابن عبد الهادي في آخرين. انظر: «الضعيفة» للألباني (981).

(2/103)


ليس به بأس. وقال أبو حاتم الرازي: يُكتب حديثه وليس بالمتروك، وقال: يُحَوَّل من كتاب الضعفاء (1). وقال البخاري (2): ليِّن الحديث ضعَّفه أحمد. وقال البخاري أيضًا (3): عبد الصمد بن حبيب منكر الحديث، ذاهب الحديث. ولم يَعُدَّ البخاري هذا الحديث شيئًا. وقال أبو حاتم الرازي: ليِّن الحديث، ضعَّفه أحمد بن حنبل. وذكر له أبو جعفر العُقَيلي هذا الحديث (4)، وقال: لا يتابَع عليه، ولا يُعرَف إلا به. قال ابن القيم - رحمه الله -: واختلف أهل العلم في الأفضل من الصوم والفطر؛ فذهب عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وسعيد بن المسيب، والشعبي، والأوزاعي، وإسحاق، وأحمد إلى أن الفطر أفضل (5). وذهب أنس وعثمان بن أبي العاص إلى أن الصوم أفضل (6). وهو قول الشافعي وأبي حنيفة ومالك (7). وذهب عمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة إلى أن أفضل الأمرين _________ (1). انظر «الجرح والتعديل» (6/ 51). (2). في «التاريخ الكبير» (6/ 106). (3). كما في «السنن الكبرى» للبيهقي (4/ 245). (4). في «الضعفاء» (4/ 7). (5). أثر ابن عمر وابن المسيب أخرجه عبد الرزاق (4475، 4476، 4480)، وأثر ابن عباس والشعبي أخرجه ابن أبي شيبة (9056، 9059، 9065). وانظر: «الإشراف» (3/ 143)، و «المغني» (4/ 407 - 408)، و «مسائل أحمد وإسحاق» للكوسج (1/ 287). (6). أخرجه ابن أبي شيبة (9067، 9074، 9076)، والبيهقي (4/ 245). (7). انظر: «الأم» (3/ 258)، و «المدونة» (1/ 201)، و «الأصل» للشيباني (2/ 167).

(2/104)


أيسرهما، لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] (1). وذهبت طائفة إلى أنهما سواء، لا يُرجَّح أحدهما على الآخر. وذهبت طائفة إلى تحريم الصوم في السفر، وأنه لا يجزئ. وقد علمتَ أدلة كل فريق مما تقدم.

  28 - باب متى يفطر المسافر إذا خرج؟

242/ 2304 - عن عبيد بن جَبْر قال: كنت مع أبي بَصْرة الغِفاري صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفينة من الفُسطاط في رمضان، فرُفِع، ثم قَرَّب غَداءَه ــ قال جعفر (وهو ابن مُسافر) في حديثه: فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسُّفْرة ــ، قال: اقترب، قلت: ألستَ ترى البيوت؟ قال أبو بَصْرة: أترغبُ عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال جعفر في حديثه: فأكل (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى الترمذي (3) عن محة مد بن كعب قال: _________ (1). قال ابن المنذر في «الإشراف» (3/ 143): «وبه نقول ... روِّينا هذا القول عن عمر بن عبد العزيز، ومجاهد، وقتادة». قلتُ: أثر عمر بن عبد العزيز ومجاهد أخرجه عبد الرزاق (4489، 4499)، ولم أجد أثر قتادة. وقد صحَّ هذا القول عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أيضًا. أخرجه عبد الرزاق (4492) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/ 67). (2). «سنن أبي داود» (2412). وإسناده لا بأس به في الشواهد، وانظر: «صحيح سنن أبي داود - الأم» للألباني (7/ 173). (3). برقم (799، 800). وأخرجه أيضًا الدارقطني (2291)، والبيهقي (4/ 247)، والضياء في «المختارة» (7/ 172). وانظر: «رسالة «تصحيح حديث إفطار الصائم قبل سفره بعد الفجر» للألباني.

(2/105)


أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفرًا، وقد رُحِلَت له راحلته، ولبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل. فقلت له: سنة؟ فقال: «سنة»، ثم ركب. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وفيه حجة لمن جوز للمسافر الفطر في يومٍ سافر في أثنائه. وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد (1)، وقول عمرو بن شرحبيل والشعبي (2) وإسحاق، وحكاه عن أنس (3). وهو قول داود وابن المنذر (4). وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: لا يفطر (5). وهو قول الزهري والأوزاعي ومكحول (6). وفي المسألة قول شاذ جدًّا لا يلتفت إليه، وهو أنه إن دخل عليه الشهر وهو مقيم، ثم سافر في أثنائه، لم يجز له الفطر، ولا يفطر حتى يدخل عليه رمضان مسافرًا. وهذا قول عَبِيدة السَّلْماني وأبي مِجْلَز (7) وسُوَيد بن غَفَلة (8). _________ (1). انظر «مسائل أحمد» برواية أبي داود (ص 136)، وبرواية الكوسج (1/ 289، 318)، و «المغني» (4/ 346). (2). أخرجه عنهما عبد الرزاق (4507، 4504). (3). انظر: «مسائل إسحاق» برواية الكوسج (1/ 289). (4). انظر: «المغني» (4/ 346)، و «الإشراف» (3/ 144). (5). انظر: «المدونة» (1/ 201)، و «النوادر والزيادات» (2/ 24)، و «الأم» (3/ 256)، و «الأصل» للشيباني (2/ 151). (6). انظر: «الإشراف» (3/ 144)، و «المغني» (4/ 347). (7). أخرجه عنهما ابن أبي شيبة (9092، 9093). (8). في الأصل: «علقمة» تحريف. انظر: «الإشراف» (3/ 145)، و «المغني» (4/ 346).

(2/106)


وقد صح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الفتح في رمضان فصام وأفطر (1).

  29 - باب مسيرة ما يفطر فيه

243/ 2305 - عن منصور الكلبي، أن دِحْيَة بن خليفة خرج من قرية [من] دمشق مرَّة إلى قدر قرية عُقْبةَ من الفسطاط ــ وذلك ثلاثة أميال ــ في رمضان، ثم إنه أفطر وأفطر معه ناس، وكره آخرون أن يفطروا، فلما رجع إلى قريته قال: «والله لقد رأيت اليوم أمرًا ما كنت أظنُّ أنِّي أراه، إن قومًا رغبوا عن هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه»، يقول ذلك للذين صاموا، ثم قال عند ذلك: اللهم اقبضني إليك» (2). قال الخطابي (3): وليس الحديث بالقوي، وفي إسناده رجل ليس بالمشهور. وهو يشير إلى منصور الكلبي، فإن رجال الإسناد جميعهم ثقات محتجّ بهم في الصحيح سواه. وهو مصري، روى عنه أبو الخير مرثد بن عبد الله اليَزَني. ولم أجد من روى عنه سواه، فيكون مجهولًا، كما ذكره الخطابي. ولم يَزِدْ فيه البخاري (4) على: «منصور الكلبي». وقال ابن يونس في «تاريخ المصريين» (5): منصور بن سعيد بن الأصبغ الكلبي. وقال البيهقي (6): والذي رُوينا عن دحية الكلبي ــ إن صح ذلك ــ فكأنه ذهب فيه إلى ظاهر الآية في الرخصة في السفر، وأراد بقوله: «رغبوا عن هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه» في قبول الرخصة، لا في تقدير السفر الذي أفطر فيه. والله أعلم. _________ (1). سبق تخريجه. (2). «سنن أبي داود» (2413). (3). «معالم السنن» (3/ 292 - 293). (4). «التاريخ الكبير» (7/ 343). (5). نقله عنه المزّي في «تهذيب الكمال» (7/ 230). (6). «السنن الكبرى» (4/ 241).

(2/107)


قال ابن القيم - رحمه الله -: قال المجوزون للفطر في مطلق السفر: هب أن حديث دحية لم يثبت. فقد أطلق الله تعالى السفر، ولم يقيِّده بحد، كما أطلقه في آية التيمم، فلا يجوز حدّه إلا بنص من الشارع أو إجماع من الأمة، وكلاهما مما لا سبيل إليه. كيف وقد قصر أهل مكة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة ومزدلفة (1)، ولا تأثير للنسك في القصر بحال، فإن الشارع إنما علّق القصر بالسفر، فهو الوصف المؤثر فيه، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمى مسيرة البريد سفرًا في قوله: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر بريدًا إلا مع ذي محرم» (2). وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]، وهذا يدخل فيه كل سفر طويل أو قصير. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سافرتم في الخِصْب فأعطُوا الإبل حقَّها (3) من الأرض، _________ (1). كما في حديث حارثة بن وهب الخُزاعي أنّه صلّى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنًى ركعتين. أخرجه البخاري (1083)، ومسلم (696)، وأبو داود (1965) في «باب القصر لأهل مكة» وقال: «حارثة من خزاعة، ودارهم بمكة». (2). أخرجه أبو داود (1725)، والبزار (8520)، وابن خزيمة (2526)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/ 112 - 114) من طرق عن سهيل بن أبي صالح، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة مرفوعًا. وقد تفرّد سهيل ــ وهو صدوق وليس بالحافظ ــ بذكر البريد، على اختلاف عليه في سنده ومتنه، والحفاظ يروونه عن أبي هريرة بلفظ: «مسيرة يوم وليلة» ونحوه. هكذا في «الصحيحين» وغيرهما. انظر: «التمهيد» (21/ 53 - 55)، و «الضعيفة» (5727). (3). كذا في الأصل، وهو لفظ أبي داود ورواية عند أحمد، ولفظ مسلم وغيره: «حظّها».

(2/108)


وإذا سافرتم [ق 130] في الجَدْب فبادِرُوا بها نِقْيَها» (1)، وهذا يعمّ كل سفر، ولم يفهم منه أحد اختصاصه باليومين فما زاد. ونهى أن يُسافر بالقرآن إلى أرض العدو (2)، ونهى أن يسافر الرجل وحده (3)، وأخبر أن دعوة المسافر مستجابة (4)، وكان يتعوذ مِن وَعثاء السفر (5)، وكان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه (6). ومعلوم أن شيئًا من هذه الأسفار لا يختص بالطويل. ولو سافر دون اليومين أقرع بين نسائه (7)، ولم _________ (1). أخرجه أحمد (8442، 8918)، ومسلم (1926)، وأبو داود (2569)، والترمذي (2858) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. والنِقْي: مخّ العظام وشَحْمها، كني به عن القوة، أي أسرِعوا قبل أن تنفد قوّتها. (2). أخرجه البخاري (2990)، ومسلم (1869). (3). أخرجه أحمد (5650) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. وأصله في البخاري (2998) وغيره بلفظ: «لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم، ما سار راكب بليل وحده». (4). أخرجه أحمد (7510)، وأبو داود (1536)، والترمذي (1905)، والبخاري في «الأدب المفرد» (32)، وابن حبان (2699)، من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي جعفر، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا. قال الترمذي: هذا حديث حسن ... وأبو جعفر الذي روى عن أبي هريرة يقال له: أبو جعفر المؤذن، ولا نعرف اسمه، وقد روى عنه يحيى بن أبي كثير غيرَ حديث. وله شاهد من حديث عقبة بن عامر عند أحمد (17399) وابن خزيمة (2478) بإسناد فيه ضعف لجهالة حال التابعي الراوي عن عقبة. (5). أخرجه مسلم (1342، 1343) من حديث ابن عمر، وعبد الله بن سَرْجِس - رضي الله عنهم -. (6). أخرجه البخاري (2593)، ومسلم (2445) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (7). وردت هذه الجملة في ط. الفقي هكذا: «ولا أنه لو سافر دون اليومين لم يُقرع بين نسائه» غيّرها عمّا في الأصل دون تنبيه.

(2/109)


يقضِ للمقيمات. فما الذي أوجب تخصيص اسم السفر بالطويل بالنسبة إلى القصر والفطر دون غيرهما؟ قالوا: وأين معنا في الشريعة تقسيم الشارع السفر إلى طويل وقصير، واختصاص أحدهما بأحكام لا يشاركه فيها الآخر. ومعلوم أن إطلاق السفر لا يدل على اختصاصه بالطويل، ولم يبين النبي - صلى الله عليه وسلم - مقداره. وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع، فسكوته عن تحديده من أظهر الأدلة على أنه غير محدود شرعًا. قالوا: والذين حددوه ــ مع كثرة اختلافهم وانتشار أقوالهم ــ ليس معهم نص بذلك، وليس حدٌّ بأولى من حد، ولا إجماعَ في المسألة، فلا وجه للتحديد. وبالله التوفيق.

  30 - النهي أن يخص يوم الجمعة بصوم

244/ 2312 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَصُم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله بيوم، أو بعده». وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (1). (2) _________ (1). أبو داود (2420)، والبخاري (1985)، ومسلم (1144)، والترمذي (743)، والنسائي في «الكبرى» (2769، 2770)، وابن ماجه (1723). (2). بعده كلام للمنذري في فقه الحديث والخلاف فيه، ولم يُشر المجرّد إلى إثباته، وقد تضمّن تعليقُ المؤلف أكثرَه مع التحرير والتهذيب، ولذا اكتفينا بإثبات كلام المنذري في تخريج الحديث فقط.

(2/110)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد أخرجا في «الصحيحين» (1) عن محمد بن عباد بن جعفر قال: سألت جابرا: أنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم. وروى البخاري في «صحيحه» (2) عن جويرية بنت الحارث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: «أصمت أمس؟» قالت: لا. قال: «تريدين أن تصومي غدا؟» قالت: لا. قال: «فأفطري». وفي «صحيح مسلم» (3) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم». وروى الإمام أحمد في «مسنده» (4) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يوم الجمعة يوم عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم، إلا أن تصوموا قبله أو بعده». _________ (1). البخاري (1984)، ومسلم (1143). (2). برقم (1986). (3). برقم (1144/ 148). (4). برقم (8025)، وأخرجه أيضًا ابن خزيمة (2161)، والحاكم (1/ 437) من طريق معاوية بن صالح، عن أبي بِشر المؤذن، عن عامر بن لُدَين، عن أبي هريرة. قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، إلا أن أبا بشر هذا لم أقف على اسمه. تعقبه الذهبي بقوله: «أبو بشر مجهول». قلتُ: قد وثَّقه العجلي، كما في «تهذيب التهذيب». فالإسناد محتمل للتحسين، إلا أن الألباني حكم عليه بالنكارة لأنه تفرّد بهذه الزيادة (كون الجمعة عيدًا) في حديث أبي هريرة. انظر: «الضعيفة» (5344).

(2/111)


وعند النسائي (1) عن عبد الله بن عمرو القاري قال: سمعت أبا هريرة يقول: «ما أنا نهيت عن صيام يوم الجمعة، محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - ــ ورَبّ البيت ــ نهى عنه». وروى النسائي (2) أيضًا عن محمد بن سيرين عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أبا الدرداء، لا تخص يوم الجمعة بصيام دون الأيام، ولا تخص ليلة الجمعة بقيام دون الليالي». فذهب طائفة من أهل العلم إلى القول بهذه الأحاديث، منهم: أبو هريرة وسلمان (3)، وقال به أحمد والشافعي (4). وقال مالك وأبو حنيفة (5): لا يكره. وفي «الموطأ» (6) قال مالك: لم أسمع أحدًا من أهل العلم والفقه ومن يُقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامُه حسن، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأراه كان يتحراه. _________ (1). «الكبرى» (2757). وأخرجه أيضًا عبد الرزاق (1504)، وأحمد (7388، 9097)، وابن خزيمة (2157)، وابن حبان (3609) بأسانيد جياد. (2). «الكبرى» (2765)، وفيه إرسال، فإن ابن سيرين لم يسمع من أبي الدرداء. انظر: «المراسيل» لابن أبي حاتم (ص 187). (3). أخرجه عبد الرزاق (7807، 7803) عنهما. وأخرجه ابن أبي شيبة (9338) عن أبي هريرة. (4). انظر: «مسائل أحمد» برواية الكوسج (1/ 293) وأبي داود (ص 137)، و «المجموع شرح المهذب» (6/ 479). (5). انظر: «شرح معاني الآثار» (2/ 79)، و «بدائع الصنائع» (2/ 79). (6). برقم (865). وانظر: «الاستذكار» (3/ 381).

(2/112)


قال الداودي (1): لم يبلغ مالكًا هذا الحديث، ولو بلغه لم يخالفه. وقد روى النسائي (2) عن زِرّ بن حُبَيش عن ابن مسعود: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وقلّما رأيته يفطر يوم الجمعة». وإسناده صحيح. ولا معارضة بينه وبين أحاديث النهي، إذ ليس فيه: أنه كان يفرده بالصوم، والنهي إنما هو عن الإفراد، فمتى وصله زال النهي.

  31 - النهي أن يُخصّ يوم السبت [بصوم]

245/ 2313 - عن عبد الله بن بُسْر السلمي، عن أخته الصَّمَّاء، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تصوموا يوم السبت، إلا فيما افتُرض عليكم، وإن لم يجد أحدُكم إلَّا لِحاءَ عِنَب أو عُودَ شجرة فَلْيَمضَغْه». قال أبو داود: وهذا الحديث منسوخ. وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (3). وقال الترمذي: حديث حسن. هذا آخر كلامه. وقيل: إن الصماء أخت بُسر. وروي هذا الحديث من حديث عبد الله بن بُسر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4)، ومن _________ (1). كما في «إكمال المعلم» لعياض (4/ 97)، و «المختصر» للمنذري (3/ 297). (2). «المجتبى» (2368) و «الكبرى» (2771). وأخرجه أيضًا الترمذي (742) وقال: حسن غريب، وابن خزيمة (2129)، وابن حبان (3645). (3). أبو داود (2421)، والترمذي (744)، والنسائي في «الكبرى» (2775)، وابن ماجه (1726). (4). أخرجه أحمد (17676)، والنسائي في «الكبرى» (2772، 2774، 2779، 2783)، وابن حبان (3615).

(2/113)


حديث أبيه بُسر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1)، ومن حديث الصماء عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2). وقال النسائي (3): هذه أحاديث مضطربة. قال ابن القيم - رحمه الله -: حديث عبد الله بن بسر هذا رواه جماعة عن خالد بن مَعدان عن عبد الله بن بُسر عن أخته الصماء. ورواه النسائي عن عبد الله بن بُسر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورواه أيضًا عن الصماء عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذه ثلاثة أوجه. وقد أشكل هذا الحديث على الناس قديمًا وحديثًا. فقال أبو بكر الأثرم (4): سمعت أبا عبد الله يُسأل عن صيام يوم السبت يفترد به؟ فقال: أما صيام يوم السبت يفترد به فقد جاء فيه ذلك الحديث، حديث الصماء، يعني حديث ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم». قال أبو عبد الله: يحيى بن سعيد يَنْفِيه (5)، أبى أن يحدثني به. وقد كان سمعه من _________ (1). أخرجه النسائي في «الكبرى» (2781)، وفي إسناده أبو تقي الحمصي، قال النسائي: «أبو تقي هذا ضعيف، ليس بشيء، وإنما أخرجته لعلة الاختلاف». (2). أخرجه النسائي (2784)، وفي إسناده داود بن عبيد الله، مجهول، وقد خالف جميع الرواة عن خالد بن مَعدان في جعله عنه، عن عبد الله بن بسر، عن أخته الصماء، عن عائشة. (3). لم أجد قوله في «السنن»، وقد نقله أيضًا الحافظ في «التلخيص الحبير» (2/ 216). (4). نقله من «مسائله» ابنُ قدامة في «المغني» (4/ 428) مختصرًا، وشيخ الإسلام في «الاقتضاء» (2/ 72) بطوله، والمؤلف صادر عنه في نقله هذا وفي الكلام على المسألة إلى آخرها. انظر: «الاقتضاء» (2/ 71 - 81). (5). كذا في الأصل مضبوطًا بالشكل، وفي «المغني» و «الاقتضاء»: «يتّقيه».

(2/114)


ثور. قال: فسمعتُه من أبي عاصم (1). قال الأثرم (2): حجة أبي عبد الله في الرخصة في صوم يوم السبت أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بسر، منها: حديث أم سلمة حين سُئلت: أي الأيام كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر صيامًا لها؟ فقالت: السبت والأحد (3). ومنها حديث جويرية: [ق 131] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها يوم الجمعة: «أصُمتِ أمس؟» قالت: لا. قال: «أتريدين أن تصومي غدًا؟» (4)، فالغد: هو يوم السبت. وحديث أبي هريرة: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم الجمعة، إلا بيوم قبله أو يوم بعده (5). فاليوم الذي بعده: هو يوم السبت. _________ (1). كما في «المسند» (27075). (2). ما زال الكلام له من «مسائله»، وله بنحوه مختصرًا في «ناسخ الحديث ومنسوخه» (ص 201 - 203). (3). أخرجه أحمد (26750)، والنسائي في «الكبرى» (2789)، وابن خزيمة (2167)، وابن حبان (3616)، والحاكم (1/ 436) من طريق عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، عن أبيه، عن كريب، عن أم سلمة. إسناده مقارب، عبد الله بن محمد بن عمر وأبوه وثّقهما ابن حبّان والدارقطني، إلا أن ابن حبان قال عن عبد الله: «يخطئ ويخالف». انظر: «الثقات» (7/ 2، 5/ 353) و «سؤالات البرقاني» (ص 22). (4). أخرجه البخاري (1986). (5). سبق تخريجه.

(2/115)


وقال: «من صام رمضان وأتبعه بست من شوال» (1)، وقد يكون فيها السبت. وأمر بصيام البيض (2)، وقد يكون فيها السبت. ومثل هذا كثير. فقد فهم الأثرم من كلام أبي عبد الله أنه توقف عن الأخذ بالحديث، وأنه رخص في صومه، حيث ذكر الحديث الذي يُحتج به في الكراهة، وذكر أن الإمام في علل الحديث يحيى بنَ سعيد كان ينفيه (3)، وأبى أن يحدث به، فهذا تضعيف للحديث. واحتج الأثرم بما ذكر من النصوص المتواترة على صوم يوم السبت. يبقى أن يقال: يمكن حمل النصوص الدالة على صومه على ما إذا صامه مع غيره، وحديثِ النهي على صومه وحده، وعلى هذا تتفق النصوص. وهذه طريقة جيدة، لو لا أن قوله في الحديث: «لا تصوموا يوم السبت إلا _________ (1). أخرجه مسلم (1164) من حديث أبي أيوب - رضي الله عنه -. (2). في «الاقتضاء»: «بصيام أيام البيض»، فما هنا من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مُقامه. وفي ط. الفقي: «الأيام البيض» خلافًا للأصل، ويُعدُّ لحنًا، إذ البيض وصف لِلَّيالي، وإلَّا فكل أيام الشهر بِيض. انظر «القاموس» (بيض) و «شرح عمدة الفقه» لابن تيمية (3/ 492). وقد صحّ الترغيب في صيام أيام البيض في حديث جرير بن عبد الله البجلي مرفوعًا عند النسائي (2420). وفي الباب حديث أبي ذر عند أحمد (21437) والترمذي (761) والنسائي (2422) وابن خزيمة (2128)، وحديث قتادة بن ملحان عند أبي داود وغيره (وسيأتي ص 270)، وفي إسناديهما ضعف يُحتَمَل. (3). في الأصل والطبعتين: «أن الإمام علل حديث يحيى بن سعيد وكان ينفيه» خطأ، والتصحيح من «الاقتضاء»، إلا أن فيه: «يتقيه» بدل «ينفيه» كما سبق.

(2/116)


فيما افترض عليكم» دليل على المنع من صومه في غير الفرض مفردًا أو مضافًا، لأن الاستثناء دليل التناول، وهو يقتضي أن النهي عنه يتناول كل صور صومه، إلا صورة الفرض. ولو كان إنما يتناول صورة الإفراد، لقال: لا تصوموا يوم السبت إلا أن تصوموا يومًا قبله أو يومًا بعده، كما قال في الجمعة. فلما خص الصورة المأذون في صومها بالفرضية عُلم تناول النهي لما قابلها. وقد ثبت صوم يوم السبت مع غيره بما تقدم من الأحاديث وغيرها، كقوله في يوم الجمعة: «إلا أن تصوموا يومًا قبله أو يومًا بعده»، فدل على أن الحديث غير محفوظ وأنه شاذ. وقد قال أبو داود (1): قال مالك: هذا كذب. وذكر (2) بإسناده عن الزهري أنه كان إذا ذكر له النهي عن صيام يوم السبت، يقول: هذا حديث حِمصي، وعن الأوزاعي قال: ما زلت كاتمًا له حتى رأيته انتشر، يعني حديث ابن بسر هذا. وقالت طائفة، منهم أبو داود: هذا حديث منسوخ. وقالت طائفة، وهم أكثر أصحاب أحمد: الحديث محكم، وأخذوا به في كراهة إفراده بالصوم، وأخذوا بسائر الأحاديث في صومه مع ما يليه. قالوا: وجواب أحمد يدل على هذا التفصيل، فإنه سئل في رواية الأثرم عنه: فأجاب بالحديث. وقاعدة مذهبه: أنه إذا سئل عن حكم فأجاب فيه بنصّ يدل عليه، أن جوابه بالنص دليل على أنه قائل به، لأنه ذكره في معرض الجواب، فهو متضمن للجواب والاستدلال معًا. _________ (1). «السنن» عقب الحديث (2424). (2). برقم (2423، 2424).

(2/117)


قالوا: وأما ما ذكره عن يحيى بن سعيد، فإنما هو بيان لما وقع من الشبهة في الحديث. قالوا: وإسناده صحيح، ورواته غير مجروحين ولا متّهمين، وذلك يوجب العمل به، وسائرُ الأحاديث ليس فيها ما يعارضه، لأنها تدل على صومه مضافًا، فيحمل النهي على صومه مفردًا، كما ثبت في يوم الجمعة. ونظير هذا الحكمِ أيضًا كراهة إفراد رجب بالصوم، وعدم كراهته موصولًا بما قبله أو بعده. ونظيره أيضًا: ما حمل الإمام أحمد عليه حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة في النهي عن الصوم بعد انتصاف شعبان= أنه النهي عن ابتداء الصوم فيه، وأما صومه مع ما قبله من نصفه الأول، فلا يكره (1). قالوا: وقد جاء هذا مصرّحًا به في صوم يوم السبت، ففي «مسند الإمام أحمد» (2)، من حديث ابن لَهِيعة: نا موسى بن وَرْدان، عن عُبيد الأعرج: حدثتني جدتي ــ يعني الصمّاء ــ أنها دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم السبت، وهو يتغدى. فقال: «تعالي تغدَّي». فقالت: إني صائمة. فقال لها: «أصُمتِ أمس؟» قالت: لا. قال: «كُلِي، فإن صيام يوم السبت لا لك، ولا عليك». وهذا، وإن كان في إسناده من لا يحتج به إذا انفرد، لكن يدل عليه ما _________ (1). الذي نقله أبو داود عن الإمام أحمد في «المسائل» (ص 434) أنه قال في حديث العلاء: إنه منكر. وبنحوه في «المغني» (4/ 327)، والحمل المذكور ذكره الترمذي عن بعض أهل العلم كما سبق (ص 19). (2). برقم (27076)، وهو ضعيف لتفرد ابن لهيعة به.

(2/118)


تقدم من الأحاديث. وعلى هذا، فيكون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تصوموا يوم السبت» أي لا تقصدوا صومه بعينه إلا في الفرض، فإن الرجل يقصد صومه بعينه بحيث لو لم يجب عليه إلا صوم يوم السبت، كمن أسلم ولم يبق من الشهر إلا يوم السبت، فإنه يصومه وحده. وأيضًا فقصده بعينه في الفرض لا يكره، بخلاف قصده بعينه في النفل، فإنه يكره. ولا تزول الكراهة إلا بضم غيره إليه، أو موافقته عادة. فالمزيل للكراهة في الفرض مجرد كونه فرضًا، لا المقارنة بينه وبين غيره. وأما في النفل فالمزيل للكراهة ضم غيره إليه، أو موافقته عادة، ونحو ذلك. قالوا: وأما قولكم: إن الاستثناء دليل التناول ... إلى آخره، فلا ريب أن الاستثناء أخرج صورة الفرض من عموم النهي، وصورةُ الاقتران بما قبله أو بما بعده أُخرِجت بالدليل الذي تقدم. فكلا الصورتين (1) مُخرَج، أما الفرض فبالمُخرِج المتصل، وأما صومه مضافًا فبالمُخرِج المنفصل، فبقيت صورة الإفراد، واللفظ متناول لها، ولا مُخرِجَ لها من عمومه، فيتعين حمله عليها. ثم اختلف [ق 132] هؤلاء في تعليل الكراهة، فعلّلها ابنُ عَقيل بأنه يوم يُمسك فيه اليهود ويخصونه بالإمساك، وهو ترك العمل فيه، والصائم في مظنة ترك العمل فيصير صومه تشبُّهًا بهم، وهذه العلة منتفية في الأحد. ولا يقال: فهذه العلة موجودة إذا صامه مع غيره، ومع هذا فإنه لا يكره؛ لأنه إذا صامه مع غيره لم يكن قاصدًا إلى تخصيصه المقتضي للتشبّه، وشاهدُه استحباب ضمّ (2) يومٍ قبلَ عاشوراء وبعده إليه لتنتفي صورة الموافقة. _________ (1). كذا في الأصل بتذكير «كلا»، وانظر ما سبق (ص 47). (2). في الأصل والطبعتين: «صوم»، وهو تصحيف يدّل عليه قوله: «إليه» بعده. وانظر نحو هذه العبارة على الصواب في «زاد المعاد» (1/ 406).

(2/119)


وعلّله طائفة أخرى بأنه يوم عيد لأهل الكتاب يعظّمونه، فقَصْده بالصوم دون غيره يكون تعظيمًا له فكُرِه ذلك، كما كره إفراد عاشوراء (1) بالتعظيم لمّا عظّمه أهل الكتاب، وإفراد رجب أيضًا لما عظمه المشركون. وهذا التعليل قد يعارَض بيوم الأحد، فإنه يوم عيدٍ للنصارى، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اليوم لنا وغدًا لليهود وبعد غدٍ للنصارى» (2)، ومع ذلك فلا يكره صومه. وأيضًا فإذا كان يوم عيدٍ فقد يقال: مخالفتهم فيه يكون بالصوم لا بالفطر، فالصوم فيه تحقيق للمخالفة. ويدل على ذلك ما رواه الإمام أحمد والنسائي وغيرهما من حديث كُرَيب مولى ابن عباس قال: أرسلني ابن عباس وناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أم سلمة أسألها أي الأيام كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثرها صيامًا؟ قالت كان يصوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام، ويقول: «إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم». وصححه بعض الحفاظ (3). فهذا نص في استحباب صوم يوم عيدهم لأجل مخالفتهم، فكيف تُعلَّل كراهة صومه بكونه عيدًا لهم؟! وفي «جامع الترمذي» (4) عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم _________ (1). في الطبعتين: «يوم عاشوراء» خلافًا للأصل. (2). أخرجه البخاري (876)، ومسلم (855/ 20) واللفظ له. (3). كابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وقد سبق تخريجه قريبًا. (4). برقم (746) من طريق أبي أحمد الزبيري ومعاوية بن هشام، كلاهما عن سفيان الثوري، عن منصور، عن خيثمة، عن عائشة. وهو ضعيف مرفوعًا، فإن معاوية بن هشام صدوق وليس بحجة، وإن أبا أحمد ثقة لكنه يخطئ في حديث الثوري، وقد خالفهما الإمام الثبت الحجة أوثق الناس في الثوري: عبد الرحمن بن مهدي، فرواه عن الثوري موقوفًا على عائشة مِن فِعلها. أخرجه الطبري في «تهذيب الآثار- مسند عمر» (1220).

(2/120)


من الشهر السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس. قال الترمذي: حديث حسن، وقد روى ابنُ مهدي هذا الحديث عن سفيان ولم يرفعه. وهذان الحديثان ليسا بحجة على من كره إفراد السبت بالصوم وعلَّله (1) بأنهم يتركون العمل فيه والصومُ مظنَّةُ ذلك، فإنه إذا ضم إليه الأحد زال الإفراد المكروه وحصلت المخالفة بصوم يوم فطرهم وزال صورة التعظيم المكروه بعدم التخصيص المُؤْذِن بالتعظيم، فاتفقت بحمد الله الأحاديث، وزال عنها الاضطراب والاختلاف، وتبيّن تصديق بعضها بعضًا. فإن قيل: فما تقولون في صوم يوم النَّيرُوز والمِهْرَجان ونحوهما من أعياد المشركين؟ قيل: قد كرهه كثير من العلماء، وأكثرُ أصحاب أحمد على الكراهة (2). قال أحمد في رواية ابنه عبد الله (3): نا وكيع عن سفيان عن رجل عن أنس والحسن كرها صوم يوم النيروز والمهرجان (4). قال عبد الله: _________ (1). ط. الفقي: «إفراد يوم السبت. وعلّله طائفة»، قطع الكلام المتصل بما قبله، وأقحم فيه كلمة «طائفة» فاختلّ السياق وفسد المعنى. (2). انظر: «المغني» (4/ 428 - 429). (3). ليس في المطبوع من مسائله، والمؤلف صادر عن «الاقتضاء» كما سبق. (4). وأخرج ابن وضّاح القرطبي في «البدع والنهي عنها» (ص 21) من طريق الربيع بن صَبيح، عن أبان بن أبي عياش أنه سأل أنسًا عن قوم يجتمعون يوم النيروز والمهرجان ويصومونهما، فأنكره أنس ووصفه بالبدعة. وأبان صالح في نفسه، لكنه متروك الحديث، كان يسمع من أنس ومن الحسن البصري، فلا يميزّ بينهما فربّما إذا حدّث جعل كلام الحسن عن أنس مرفوعًا وهو لا يعلم، إلا أن هذا الأثر جاء في قصّة هو السائل فيها، فمثله ــ إن شاء الله ــ مظنّة الضبط. وقد صحّ عن الحسن كراهة صوم النيروز من وجهٍ آخر عند ابن أبي شيبة (9832، 9833).

(2/121)


قال أبي: الرجل أبان بن أبي عياش (1). فلما أجاب أحمد بهذا الجواب لمن سأله عن صيام هذين اليومين، دل ذلك على أنه اختاره. وهذه إحدى الطريقتين لأصحابه في مثل ذلك. وقيل: لا يكون هذا اختيارًا له، ولا يُنسب إليه القول الذي حكاه. وأكثرُ الأصحاب على الكراهة، وعللوا ذلك بأنهما يومان يعظمهما الكفار، فيكون تخصيصهما بالصيام دون غيرهما موافقةً لهم في تعظيمهما، فكُره كيوم السبت. قال صاحب «المغني» (2): وعلى قياس هذا: كل عيدٍ للكفار، أو يوم يفردونه بالتعظيم. قال شيخنا أبو العباس بن تيمية ــ قدس الله روحه ــ (3): وقد يقال: يكره صوم النيروز والمهرجان ونحوهما من الأيام التي لا تعرف بحساب العرب، بخلاف ما جاء في الحديث من يوم السبت والأحد، لأنه إذا قصد صوم مثل هذه الأيام العجمية أو الجاهلية كان ذريعةً إلى إقامةِ شعار هذه الأيام وإحياءِ _________ (1). إبهام أبان في الإسناد من صنيع وكيع، فإنه كان إذا أتى على حديث أبان بن أبي عيّاش يقول: «رجل»، لا يسمّيه استضعافًا له. «العلل» للإمام أحمد (3467). (2). (4/ 429). (3). «اقتضاء الصراط المستقيم» (2/ 81).

(2/122)


أمرها وإظهارِ حالها، بخلاف السبت والأحد فإنهما من حساب المسلمين، فليس في صومهما مفسدة، فيكون استحباب صوم أعيادهم المعروفة بالحساب العربي الإسلامي، مع كراهة الأعياد المعروفة بالحساب الجاهلي العجمي، توفيقًا بين الآثار. والله أعلم.

  32 - الرخصة في ذلك

246/ 2314 - عن جويرية بنت الحارث - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة، فقال: «صُمْتِ أمس؟» قالت: لا، قال: «تريدين أن تصومي غدًا؟» قالت: لا، قال: «فأفطري». وأخرجه البخاري والنسائي (1). وأخرجه مسلم (2) من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تخصُّوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصُّوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم». وأخرجه أيضًا النسائي (3). وعن ابن شهاب أنه كان إذا ذكر له أنه نُهي عن صيام يوم السبت، يقول ابن شهاب: هذا حديث حِمْصي. وقال الأوزاعي: ما زلت له كاتمًا حتى رأيته انتشر ــ يعني حديثَ ابن بسر هذا في صوم يوم السبت. قال أبو داود: قال مالك: هذا كذب (4). _________ (1). أبو داود (2422)، والبخاري (1986)، والنسائي في «الكبرى» (2767). (2). برقم (1144/ 148). (3). برقم (2768). (4). قول ابن شهاب والأوزاعي أسندهما أبو داود (2423، 2424)، وعقبهما علَّق عن مالك قوله.

(2/123)


قال ابن القيم - رحمه الله -: قال عبد الحق (1): ولعل مالكًا إنما جعله كذبًا من أجل رواية ثور بن يزيد (2) الكلاعي، فإنه كان يُرمى بالقدر، ولكنه كان ثقة فيما يروي، قاله يحيى وغيره. وروى عنه الجِلَّة، مثل يحيى بن سعيد القطان وابن المبارك والثوري وغيرهم. وقيل في هذا الحديث: عن عبد الله بن بسر عن عمته الصماء (3)، وهو أصح (4)، واسمها بُهيّة، وقيل: بُهَيمة (5). آخر كلامه.

  33 - باب في صوم الدهر

247/ 2315 - عن أبي قتادة - رضي الله عنه - أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، كيف تصوم؟ فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله، فلما رأى ذلك عمر قال: رضينا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا، نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، فلم يزل عمر يُردّدها حتى سكن من غضب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله كيف بمن يصوم الدهر كله؟ قال: «لا صام ولا أفطر» ــ قال مسدد: لم يصم ولم يفطر، أو ما صام ولا أفطر، شك غَيلان ــ قال: يا رسول الله كيف بمن يصوم يومين _________ (1). «الأحكام الوسطى» (2/ 225). (2). في الأصل: «زيد»، خطأ. وانظر ترجمته في «تهذيب التهذيب (2/ 33). (3). أخرجه ابن خزيمة (2164)، والنسائي في «الكبرى» (2773)، وفي إسناده معاوية بن صالح، وهو ثقة، لكنه خالف مَن هو أوثق وأثبت منه، وهو ثور بن يزيد الكلاعي، فإنه يرويه بلفظ: «عن عبد الله بن بسر، عن أخته». قال الدارقطني: هو الصحيح. «العلل» (4059). (4). كذا قال عبد الحق، وانظر التعليق السابق. (5). في الأصل: «بهمة» والمثبت من «الأحكام الوسطى»، وانظر: «الإصابة» (13/ 210).

(2/124)


ويفطر يومًا؟ قال: «أوَ يُطِيقُ ذلك أحدٌ؟» قال: يا رسول الله، فكيف بمن يصوم يومًا ويفطر يومًا؟ قال: «ذلك صوم داود»، قال: يا رسول الله، فكيف بمن يصوم يومًا ويفطر يومين؟ قال: «وددتُ أني طُوِّقْتُ ذلك»، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثٌ من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله، وصيامُ عرفةَ إني أحتسِبُ على الله أن يكفِّر السنةَ التي قبله والسنةَ التي بعده، وصَوْمُ يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله». 248/ 2316 - وفي رواية قال: يا رسول الله، أرأيتَ صوم يوم الاثنين والخميس؟ قال: «فيه وُلدتُ، وفيه أُنزل عليَّ القرآن». وأخرجه مسلم (1)، وقال: وفي هذا الحديث من رواية شعبة: «وسئل عن صوم يوم الاثنين والخميس؟» فسكتنا عن ذكر الخميس لما نُراه وهمًا. وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (2) مختصرًا مفرقًا. 249/ 2317 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ألم أُحَدَّث أنك تقول: لأقُومَنَّ الليل، ولأصُومَنَّ النهار؟» قال: أحسبه قال: نعم يا رسول الله، قد قلت ذلك، قال: «قُم ونَمْ، وصُمْ وأَفْطِر، وصم من كل شهر ثلاثة أيام، وذاك مثل صيام الدهر»، قال: قلت: يا رسول الله إني أُطيق أفضلَ من ذلك، قال: «فصُمْ يومًا وأفطر يومين»، قال: فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: «فصم يومًا وأفطر يومًا، وهو أعدلُ الصيام، وهو صيام داود»، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا أفضل من ذلك». _________ (1). أبو داود (2425، 2426)، ومسلم (1162). (2). الترمذي (749، 752، 767)، والنسائي (2383، 2387)، وابن ماجه (1730، 1738).

(2/125)


وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وهو نص في أنّ صومَ يومٍ وفطرَ يومٍ أفضل من سرد الصيام. ولو كان سرد الصيام مشروعًا أو مستحبًّا لكان أكثر عملًا، فيكون أفضل، إذ العبادة لا تكون إلا راجحة، فلو كان عبادةً لم يكن مرجوحًا. [ق 133] وقد تأول قوم هذا على أن المعنى: لا أفضل من ذلك للمخاطَب وحدَه لِما علم من حاله ومنتهى قوّته، وأن ما هو أكثر من ذلك يُضعفه عن فرائضه ويقطعه عن القيام بما عليه من الحقوق. وهذا تأويل باطل من وجوه. أحدها: أن سياق الحديث يردّه، فإنه إنما كان عن المطيق، فإنه قال: «فإني أطيق أفضل من ذلك» فسبب الحديث في المطيق، فأخبره أنه لا أفضل من ذلك للمطيق الذي سأل. ولو أن رجلًا سأل من يُفضِّل السرد وقال: إني أطيق أفضل من صوم يومٍ وفطر يومٍ، لقال له: السرد أفضل! الثاني: أنه أخبر عنه بثلاث جمل إحداها (2): أنه أعدل الصيام، والثانية: أنه صوم داود، والثالثة: أنه لا أفضل منه. وهذه الأخبار تمنع تخصيصه بالسائل. الثالث: أن في بعض ألفاظ مسلم (3) فيه: فإني أقوى، قال: فلم يزل _________ (1). أبو داود (2427)، والبخاري (1976)، ومسلم (1159)، والنسائي (2392). (2). في الأصل وط. المعارف: «أحدها». (3). ليس عند مسلم، وإنما أخرجه أحمد (6477) بنحوه.

(2/126)


يرفعني حتى قال: «صُم يومًا وأفطر يومًا، فإنه أفضل الصيام، وهو صوم أخي داود»، فعلّل ذلك بكونه أفضلَ الصيام وأنه صوم داود، مع إخباره له بقوته، ولم يقل له: فإن قَوِيتَ فالسَّرْد أفضل. الرابع: أن هذا موافق لقوله فيمن صام الأبد: «لا صام ولا أفطر»، ومعلوم أن السائل لم يسأله عن الصوم المحرم الذي قد استقر تحريمه عندهم، ولو قُدّر أنه سأله عنه لم يكن ليجيب عنه بقوله: «لا صام ولا أفطر»، بل كان يجيب عنه بصريح النهي. والسياق يدل على أنه إنما سأله عن الصوم المأذون فيه، لا الممنوع منه، ولا يعبَّر عن صيام الأيام الخمسة، وعن المنع منها بقوله: «لا صام من صام الأبد»، ولا هذه العبارة مطابقة للمقصود، بل بعيدة منه جدًّا. الخامس: أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن أحبَّ الصيام إلى الله: صيام داود، وأحب القيام إلى الله قيام داود، وأخبر بهما معًا، ثم فسره بقوله: «كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان يصوم يومًا، ويفطر يومًا» رواه البخاري ومسلم (1). وهذا صريح في أنه إنما كان أحبَّ إلى الله لأجل هذا الوصف، وهو ما يتخلل الصيام والقيام من الراحة التي تُجِمّ لها (2) نفسُه وتستعين بها على القيام بالحقوق. وبالله التوفيق.

  34 - باب في صوم المحرَّم

250/ 2319 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفضلُ الصيام بعدَ شهر رمضانَ: شهر الله المحرم، وإن أفضل الصلاة بعد المفروضة: _________ (1). البخاري (1131)، ومسلم (1159). (2). كذا في الأصل، وفي ط. الفقي: «تجم بها».

(2/127)


صلاة من الليل». لم يقل قتيبة: «شهر» قال: «رمضان». وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد رواه شعبة عن أبي بشر عن حميد بن عبد الرحمن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا (2). فاختلف فيه شعبة وأبو عوانة، فقال أبو عوانة: عن أبي بشر عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة (3). وقال شعبة: عن أبي بشر عن حميد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورجح الدارقطني إرساله (4).

  35 - صوم ستة أيام من شوال

251/ 2323 - عن أبي أيوب ــ صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ــ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صام رمضان ثم أتبعه بستٍّ من شوال فكأنما صام الدهر». وأخرجه الباقون إلا البخاري (5). _________ (1). أبو داود (2429)، ومسلم (1163)، والترمذي (438)، والنسائي (1613)، وابن ماجه (1742). (2). رواه النسائي في «المجتبى» (1614) و «الكبرى» (1315). (3). وهي رواية أبي داود ومسلم (1163/ 202) وغيرهما. وقد تابع أبا عوانة على الوصل: زائدة بن قدامة وجرير بن عبد الحميد، كلاهما عن عبد الملك بن عمير، عن محمد بن المنتشر، عن حميد، عن أبي هريرة مرفوعًا. أخرجه مسلم (1163/ 203)، والنسائي في «الكبرى» (2917، 2918). (4). هذا ظاهر صنيعه في كتابه «التتبع» (ص 151) حيث ذكر حديث مسلم من طريق أبي عوانة ثم ذكر مخالفة شعبة إياه. وأما في «العلل» (1656) فقد رجَّح الموصول حيث قال بعد ذكر الطرق: «ورفعه صحيح». وممّن صحّح المُسنَد المتصل أبو حاتم الرازي، كما في «العلل» لابنه (751). (5). هكذا في أصل المجرّد، وهو من تهذيب ابن القيم لعبارة المنذري المعتادة بسرد أسمائهم. والحديث أخرجه أبو داود (2433)، ومسلم (1164)، والترمذي (759)، والنسائي في «الكبرى» (2875 - 2877)، وابن ماجه (1716)، كلهم من طريق سعد بن سعيد الأنصاري، عن عمر بن ثابت الأنصاري، عن أبي أيوب.

(2/128)


قال ابن القيم - رحمه الله - (1): هذا الحديث قد اختلف فيه، فأورده مسلم في «صحيحه»، وضعَّفه غيره وقال: هو من رواية سعد بن سعيد أخي يحيى بن سعيد، قال النسائي في «سننه» (2): سعد بن سعيد ضعيف، كذلك قال أحمد بن حنبل: يحيى بن سعيد الثقة المأمون أحد الأئمة، وعبد ربه بن سعيد لا بأس به، وسعد بن سعيد ثالثهم ضعيف. وذكر عبد الله بن الزبير الحُمَيدي هذا الحديث في «مسنده» (3): وقال الصحيح موقوف. وقد روى الإخوة الثلاثة هذا الحديث عن عمر (4) بن ثابت. فمسلم أورده من رواية سعد بن سعيد. ورواه النسائي (5) من حديثه مرفوعًا، ومن حديث عبد ربه بن سعيد موقوفًا. ورواه (6) أيضًا من حديث يحيى بن سعيد مرفوعًا. _________ (1). من مصادر المؤلف في الكلام على المسألة كتاب «رفع الإشكال عن صيام ستة أيام من شوال» للعلائي، فإنه ألَّفه سنة (720)، أي قبل تأليف المؤلف لـ «تهذيب السنن» باثني عشر عامًا. (2). «الكبرى» عقب الحديث (2877). (3). برقم (384) من طريق ابن عيينة، عن سعد بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب موقوفًا عليه. قال الحميدي: فقلت لسفيان ــ أو قيل له ــ: إنهم يرفعونه، قال: اسكتْ عنه قد عرفتُ ذلك. (4). في الأصل «عمرو» هنا وفي عدة مواضع آتية، والتصحيح من مصادر التخريج. (5). «الكبرى» (2878). (6). «الكبرى» (2879) وأشار إلى عدم ثبوته من هذا الطريق، وسيأتي نص كلامه.

(2/129)


وقد رواه أيضًا ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صيام شهر رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام [من شوّال] بشهرين، فذاك صيام سنة». رواه النسائي (1). وفي لفظ له (2) أيضًا: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «جعل الله الحسنة بعشرة، فشهر بعشرة أشهر، وستة أيام بعد الفطر تمام السنة». قال الترمذي (3): وفي الباب عن جابر وأبي هريرة وثوبان. وقد أُعِلَّ حديث أبي أيوب من جهة طرقه كلها: أما رواية مسلم فبسعد بن سعيد. وأما رواية أخيه يحيى (4)، فقال النسائي: فيه عُتْبة، ليس بالقوي. يعني راويه عن عبد الملك بن أبي بكر عن يحيى. وأما حديث عبد ربه، فإنما رواه موقوفًا. وهذه العلل، وإن منعته أن يكون في أعلى درجات الصحيح، فإنها لا توجب وهنه، وقد تابع سعدًا ويحيى وعبد ربه عن عمر بن ثابت: عثمان بن عمرو الحرّاني (5) عن عمر، لكن قال: عن عمر عن محمد بن المنكدر عن أبي أيوب (6). _________ (1). «الكبرى» (2873) وما بين الحاصرتين منه. (2). «الكبرى» (2874). (3). عقب الحديث (759). (4). في الأصل وط. الفقي: «عبد ربّه»، وهو سبق قلم. (5). في الأصل والطبعتين: «الخزاعي» هنا وفي الموضع الآتي، وهو خطأ، والتصحيح من «سنن النسائي» ومصادر ترجمته. (6). أخرجه النسائي في «الكبرى» (2880) وطعن في عثمان بن عمرو وفي روايته للحديث على هذا الوجه، وسيأتي نصّ كلامه.

(2/130)


ورواه أيضًا صفوان بن سليم عن عمر بن ثابت، ذكره ابن حبان في «صحيحه» وأبو داود والنسائي (1). فهؤلاء خمسة: يحيى، وسعد، وعبد ربه بنو سعيد، وصفوان بن سليم، وعثمان بن عمرو الحرّاني، كلهم رووه عن عمر. فالحديث صحيح. وأما حديث ثوبان، فقد رواه ابن حبان في «صحيحه» (2)، ولفظه: [ق 134] «من صام رمضان وستًّا من شوال فقد صام السنة». ورواه ابن ماجه (3) ولفظه: «من صام رمضان وستة أيام (4) بعد الفطر كان تمامَ السنة، من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها». وأما حديث جابر، فرواه أحمد في «مسنده» (5) عن أبي عبد الرحمن المقرئ، عن سعيد بن أبي أيوب، عن عمرو بن جابر الحضرمي، عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعمرو بن جابر ضعيف، ولكن قال أبو حاتم الرازي (6): هو _________ (1). ابن حبان (3634)، وأبو داود (2433)، والنسائي في «الكبرى» (2876)، وأخرجه أيضًا ابن خزيمة (2114)؛ كلهم من طريق الدراوردي، عن صفوان بن سليم وسعد بن سعيد، عن عمر بن ثابت به. (2). برقم (3635). (3). برقم (1715). (4). كذا في الأصل، ولفظه في «السنن»: «من صام ستة أيام ... » دون ذكر رمضان. وكذا في «تحفة الأشراف» (2107). (5). برقم (14302، 14477، 14710). (6). «الجرح والتعديل» (6/ 223 - 224)، والمؤلف صادر عن «رفع الإشكال» (ص 75).

(2/131)


صالح، له نحو عشرين حديثًا. وقال أبو نعيم الأصبهاني (1): روي عن عمرو بن دينار ومجاهد عن جابر مثله. وأما حديث أبي هريرة، فرواه أبو نعيم (2) من حديث لَيث بن أبي سُلَيم عن مجاهد عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورواه (3) من حديث عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي سعيد، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو نعيم: «ورواه عمرو بن دينار عن عبد الرحمن بن أبي هريرة عن أبيه (4)، ورواه إسماعيل بن رافع عن أبي صالح عن أبي هريرة (5)». وهذه الطرق تصلح للاعتبار والاعتضاد. وقد احتج أصحاب السنن الأربعة بليث. وقد روي من حديث شداد بن أوس. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم في _________ (1). في «مجلس من أماليه» (ص 34). وانظر: «رفع الإشكال» (ص 75 - 76). (2). «الأمالي» (ص 36) من طريق رَوَّاد بن الجرّاح، عن أبي النعمان الأنصاري، عن ليث به. ورَوَّاد وأبو النعمان وليث كلهم فيهم لين. (3). «الأمالي» (ص 42)، فيه عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد، وهو متروك ذاهب الحديث. (4). أخرجه ابن عدي في «الكامل» (1/ 227) من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي، عن عمرو به. وإبراهيم هذا ضعيف متروك الحديث، ولم يُتابَع عليه. وانظر: «العلل» للدارقطني (1957). (5). إسماعيل بن رافع ضعيف، والحديث من رواية أبي صالح عن أبي هريرة غير محفوظ. انظر: «العلل» للدارقطني (1957).

(2/132)


«كتاب العلل» (1): سمعت أبي، وذكر حديثًا رواه سُوَيد بن عبد العزيز عن يحيى بن الحارث عن أبي الأشعث الصنعاني عن أبي أسماء عن ثوبان مرفوعًا: «من صام رمضان وأتبعه بستٍّ من شوال»، قال أبي: هذا وهم مِن سويد (2)، قد سمع يحيى بن الحارث هذا الحديث من أبي أسماء، إنما أراد سويد ما حدثنا صفوانُ بن صالح، نا مروان الطاطَري، عن يحيى بن حمزة، عن يحيى بن الحارث، عن أبي الأشعث الصنعاني عن شداد بن أوس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صام رمضان ... » الحديث. وهذا إسناد ثقات كلهم. ثم قال ابن أبي حاتم بعد ذلك (3): سئل أبي عن حديث رواه مروان الطاطَري عن يحيى بن حمزة ــ وذكر هذا الحديث حديث شداد بن أوس ــ قال: سمعت أبي يقول: الناس يروون عن يحيى بن الحارث عن أبي أسماء عن ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلت لأبي: أيهما الصحيح؟ قال: جميعًا صحيحين (4). وقال الدارقطني (5): ثنا إبراهيم بن محمد الرقّي، نا أبو همّام، نا يحيى بن حمزة، عن إسحاق بن عبد الله قال: حدثني سعد بن سعيد عن _________ (1). رقم (744)، والمؤلف صادر عن «رفع الإشكال» (ص 68 - 69). (2). كذا في الأصل و «رفع الإشكال»، وهو الصواب، وفي «العلل» المطبوع: «هذا وهم شديد»، وهو تحريف مخالف لسَنَن كلام الحافظين الرازيَّين في «العلل». (3). برقم (745). (4). كذا في الأصل وجميع النسخ الخطية «للعلل» كما ذكر محققو الطبعة. (5). ليس في «السنن» ولا «العلل»، وقد رواه عنه الحافظ أبو محمد الخلّال (ت 439) في المجلس السابع من «أماليه» (ص 64).

(2/133)


عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من صام ستة أيام بعد الفطر فكأنما صام الدهر كله». ويحيى بن حمزة قاضي دمشق صدوق، وأبو همام الوليد بن شجاع السُّكوني أخرج له مسلم. وهذا غريب (1)، لعله اشتبه على بعض رواته عمر بن ثابت بعَديّ بن ثابت وتأكد الوهم بجعله عن البراء بن عازب، لكثرة رواية عدي بن ثابت عنه. فاختلف أهل العلم في القول بموجب هذه الأحاديث، فذهب أكثرهم إلى القول باستحباب صومها، منهم: الشافعي وأحمد وابن المبارك (2) وغيرهم. وكرهها آخرون، منهم: مالك (3). وقال مطرف (4): كان مالك يصومها في خاصة نفسه. قال: وإنما كره صومها لئلا يلحق أهلُ الجهالة (5) ذلك برمضان. فأما من رغب في ذلك لِما جاء فيه فلم ينهه. وقد اعترض بعض الناس (6) على هذه الأحاديث باعتراضات، نذكرها _________ (1). الحمل فيه على إسحاق بن عبد الله، وهو ابن أبي فروة، ضعيف متروك الحديث. انظر: «العلل» للدارقطني (1009). (2). انظر: «المجموع» (6/ 426)، و «المغني» (4/ 438)، و «سنن الترمذي» عقب الحديث (759). (3). «الموطأ» (864). (4). هو مطرّف بن عبد الله بن مطرف الهلالي المدني (ت 220)، ابن أخت مالك، وقوله في «النوادر والزيادات» لابن أبي زيد (2/ 82 - 83)، و «المفهم» لأبي العباس القرطبي (3/ 238). (5). في الأصل: «الجاهلية»، والتصحيح من «المفهم»، وسيأتي على الصواب (ص 144، 146). (6). هو أبو الخطاب ابن دحية الكلبي (ت 633) في كتابه: «العلَم المشهور في فضائل الأيام والشهور». انظر: «رفع الإشكال» (ص 17، 20 - 21).

(2/134)


ونذكر الجواب عنها إن شاء الله: الاعتراض الأول: تضعيفها. قالوا: وأشهرها حديث أبي أيوب، ومداره على سعد بن سعيد، وهو ضعيف جدًّا، تركه مالك وأنكر عليه هذا الحديث، وقد ضعَّفه أحمد، وقال الترمذي: تكلموا فيه من قبل حفظه، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج بحديث سعد بن سعيد. وجواب هذا الاعتراض: أن الحديث قد صححه مسلم وغيره. وأما قولكم: يدور على سعد بن سعيد، فليس كذلك، بل قد رواه صفوان بن سليم، ويحيى بن سعيد أخو سعد المذكور، وعبد ربه بن سعيد، وعثمان بن عمرو الحرّاني (1). أما حديث صفوان، فأخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان (2). وأما حديث يحيى بن سعيد، فرواه النسائي (3) عن هشام بن عمار، عن صَدَقة بن خالد (متفق عليهما)، عن عتبة بن أبي حكيم (وثقه الرازيان وابن معين وابن حبان)، عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام؛ وعبدُ الملك بن محمد بن أبي بكر بن [محمد بن] عمرو بن حزم (4)، _________ (1). في الأصل والمطبوع: «الخزاعي»، خطأ، وقد سبق التنبيه عليه. (2). سبق تخريجه. (3). «الكبرى» (2879). والمؤلف صادر عن «رفع الإشكال» (ص 32 - 33). (4). كذا تبعًا لـ «رفع الإشكال» (ص 32) وما بين الحاصرتين منه، والذي ذكره الدارقطني في «العلل» (1009) ــ وإليه عزا العلائي هذا الطريق ــ أنه: «عبد الملك بن أبي بكر الحَزْمي» دون ذكر «محمد» بين عبد الملك وأبي بكر. والذي يظهر ــ والله أعلم ــ أن «عبد الملك بن أبي بكر» هذا والذي قبله راوٍ واحد، لا اثنان كما حسبه العلائي وتبعه عليه المؤلف، وذلك أنه ورد غير منسوب في سند الحديث، فاختلف في نسبه وتعيينه؛ فسمّاه المزي في «تهذيب الكمال» (5/ 94) ضمن شيوخ عتبة بن أبي حكيم: «عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام»، وسمّاه الدارقطني: «عبد الملك بن أبي بكر الحَزْمي» أي ابن محمد بن عمرو بن حزم، فتوهّم العلائي أنهما شخصان اثنان. والله أعلم.

(2/135)


وإسماعيلُ بن إبراهيم الصائغ (1) = ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد عن عمر به. فإن قيل (2): فقد رواه حفص بن غياث ــ وهو أثبت ممن ذكرتَ ــ، عن يحيى بن سعيد عن أخيه سعد بن سعيد عن عمر بن ثابت (3)، فدل على أن يحيى بن سعيد لم يروه عن عمر بن ثابت وإلّا لَما رواه عن أخيه عنه، ورواه إسحاق بن أبي فروة عن يحيى بن سعيد عن عدي بن ثابت عن البراء، فقد اختلف فيه. قيل: رواية عبد الملك و [من] معه (4) عن يحيى بن سعيد أرجح من رواية حفص بن غِياث، لأنهم أتقن وأكثر وأبعد عن الغلط، ويحتمل أن يكون يحيى سمعه من أخيه فرواه كذلك، ثم سمعه من عمر، ولهذا نظائر كثيرة. وقد رواه عبد الله بن لهيعة عن عبد ربه بن سعيد، عن أخيه يحيى بن سعيد، عن عمر (5)، فإن كان يحيى إنما سمعه من أخيه سعد فقد اتفق فيه رواية الإخوة الثلاثة له بعضُهم عن بعض. _________ (1). أخرجه الحميدي (386) عنه، وذكره الدارقطني في «العلل» (1009). (2). انظر: «رفع الإشكال» (ص 34 - 36). (3). أخرجه الطبراني في «الكبير» (4/ 136)، و «الأوسط» (4979). (4). في الأصل فوقه: «كذا» إشارة إلى أن «مَن» ساقطة من النسخة المنقول عنها. (5). أخرجه الطبراني في «الكبير» (4/ 136).

(2/136)


وأما حديث عبد ربه بن سعيد فذكره البيهقي (1)، وكذلك حديث عثمان بن عمرو الحرّاني (2). وبالجملة: فلم ينفرد به سعد، سلّمنا انفراده به، لكنه ثقة صدوق، روى له مسلم، وروى عنه شعبة وسفيان [ق 135] الثوري وابن عيينة وابن جريج وسليمان بن بلال، وهؤلاء أئمة هذا الشأن. وقال أحمد (3): كان شعبة أمة وحدة في هذا الشأن، قال عبد الله: يعني في الرجال وبصره بالحديث وتثبّته وتنقيته للرجال. وقال محمد بن سعد (4): شعبة أول من فتش عن أمر المحدثين وجانب الضعفاء والمتروكين، وصار عَلَمًا يُقتدى به، وتبعه عليه بعده أهل العراق. وأما ما ذكرتم من تضعيف أحمد والترمذي والنسائي فصحيح. وأما ما نقلتم عن ابن حبان، فإنما قاله في سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري (5)، وليس في كتابه غيره، وأما سعد بن سعيد الأنصاري المدني، _________ (1). لم أجده عند البيهقي، ولا الحديث الآتي، وقد سبق تخريجهما. (2). في الأصل والمطبوع: «الخزاعي»، خطأ، وقد سبق. (3). «العلل ومعرفة الرجال» برواية عبد الله (2/ 539). (4). كذا تبعًا لـ «رفع الإشكال» (ص 41)، وهو وهم، لأن هذا نصّ كلام ابن حبان (ت 354) في «الثقات» (6/ 446)، ثم أورده بنصّه أبو بكر ابن منجويه (ت 428) في كتابه «رجال مسلم» (1/ 299)، وإليه عزاه المزّي في «تهذيب الكمال» (3/ 391). ولعل منشأ الوهم أن قول ابن منجويه ورد في «تهذيب الكمال» عقب قول محمد بن سعد مباشرة، فلعله لانتقال النظر أو سقط في النسخة اتّصل به. (5). «المجروحين» (1/ 454).

(2/137)


فإنه ذكره في «كتاب الثقات» (1). وقد قال أبو حاتم الرازي (2) عن ابن معين: سعد بن سعيد صالح. وقال محمد بن سعد (3): ثقة قليل الحديث. وقال ابن أبي حاتم (4): سمعت أبي يقول: كان سعد بن سعيد مؤديًا، يعني أنه كان لا يحفظ ويؤدي ما سمع. وقال ابن عدي (5): له أحاديث صالحة، تقرب من الاستقامة، ولا أرى بحديثه بأسًا مقدارَ ما يرويه. ومثل هذا إنما يُتَّقَى (6) ما ينفرد به أو يخالِف به الثقات، فأما إذا لم ينفرد وروى ما رواه الناس لَمْ (7) يُطرَح حديثه. سلَّمنا ضعفه، لكن مسلم إنما احتج بحديثه لأنه ظهر له أنه لم يخطئ فيه بقرائنَ ومتابعاتٍ وشواهدَ (8) دلَّته على ذلك، وإن كان قد عُرِف خطؤه في غيره. فكون الرجل يخطئ في شيء لا يمنع الاحتجاج به فيما ظهر أنه لم يخطئ فيه، وهكذا حُكْم كثير من الأحاديث التي خرَّجاها وفي إسنادها من تُكلّم فيه من جهة حفظه، فإنهما لم يخرجاها إلا وقد وُجِد لها متابع. وهاهنا دقيقة ينبغي التفطّن لها، وهي أن الحديث الذي رَوَياه أو _________ (1). (4/ 298). (2). «الجرح والتعديل» (4/ 84). (3). «الطبقات الكبير» (7/ 519). (4). «الجرح والتعديل» (4/ 84). (5). «الكامل» (3/ 353). (6). ط. الفقي: «ينفى»، وط. المعارف: «ينفي»، كلاهما تصحيف. (7). ط. الفقي: «فلا»، وط. المعارف: «فَلِمَ»، كلاهما مخالف للأصل. (8). قراءة الطبعتين: «ولشواهد»، والرسم محتمل.

(2/138)


أحدهما واحتجا برجاله أقوى من حديثٍ احتجا برجاله ولم يخرّجاه، فتصحيح الحديث أقوى من تصحيح السند. فإن قيل: فلم لا أخرجه البخاري؟ (1). قيل: هذا لا يلزم، لأنه - رحمه الله - لم يستوعب الصحيح، وليس سعد بن سعيد من شرطه، على أنه قد استشهد به في «صحيحه» فقال في كتاب الزكاة (2): وقال سليمان عن سعد بن سعيد عن عُمارة بن غَزِيَّة عن عباس (3) عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أُحُد جبل يحبّنا ونحبه». الاعتراض الثاني (4): أن هذا الحديث قد اختلف في سنده على عمر بن ثابت، فرواه أبو عبد الرحمن المقرئ عن شعبة (5) عن عبد ربه بن سعيد عن عمر بن ثابت عن أبي أيوب موقوفًا، ذكره النسائي (6). وأخرجه أيضًا (7) من حديث عثمان بن عمرو بن ساج عن عمر بن _________ (1). انظر: «رفع الإشكال» (ص 49). (2). برقم (1482). (3). في الأصل: «ابن عباس» والتصحيح من «الصحيح»، وهو عبّاس بن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنهما -، لأبيه وجدّه صحبة. (4). هذا من الاعتراضات التي لم يذكرها ابن دحية، وإنما افترضها العلائي ثم أجاب عنها. انظر: «رفع الإشكال» (ص 54 - 60). (5). في الطبعتين: «سعيد»، خطأ. (6). في «الكبرى» (2878). (7). «الكبرى» (2880).

(2/139)


ثابت عن محمد بن المنكدر عن أبي أيوب. وهذا يدل على أن طريق سعد بن سعيد غير متصلة، حيث لم يذكر محمد بن المنكدر بين عمر بن ثابت وأبي أيوب. وقد رواه إسماعيل بن عيّاش عن محمد بن أبي حميد عن محمد بن المنكدر عن أبي أيوب (1). فدل على أن لرواية محمد بن المنكدر له عن أبي أيوب أصلًا. ورواه أبو داود الطيالسي (2) عن وَرْقاء بن عمر اليَشْكُري عن سعد بن سعيد عن يحيى بن سعيد عن عمر بن ثابت عن أبي أيوب. وهذا الاختلاف يوجب ضعفه. والجواب: أن هذا لا يسقط الاحتجاج به، أما رواية عبد ربه بن سعيد له موقوفًا، فإما أن يقال: الرفع زيادة، وإما أن يقال: هو مخالفة، وعلى التقديرين فالترجيح حاصل بالكثرة والحفظ، فإن صفوان بن سليم ويحيى بن سعيد (وهما إمامان جليلان) وسعد بن سعيد (وهو ثقة محتج به في الصحيح) اتفقوا على رفعه، وهم أكثر وأحفظ. على أن المقرئ (3) لم يُتَّفق عنه على وقفه، بل قد رواه أحمد بن يوسف السلمي (4) شيخ مسلم، وعَقِيل بن يحيى جميعًا عنه عن شعبة عن _________ (1). لم أجد من أخرج هذه الرواية، وقد ذكرها في «تحفة الأشراف» (3487). (2). أخرجه الطبراني في «الكبير» (4/ 137) من طريق عبد الرحمن بن سلم الرازي، عن عبد الله بن عمران الأصبهاني، عنه. (3). في الأصل وط. الفقي: «المقبري»، خطأ، وقد سبق على الصواب في الاعتراض. (4). رسمه في الأصل: «البلي» ووضع الناسخ عليه ضبّة ليُبحث في صوابه ويحرَّر.

(2/140)


عبد ربه بن سعيد عن عمر بن ثابت عن أبي أيوب مرفوعًا، ذكره ابن منده (1)، وهو إسناد صحيح موافق لرواية الجماعة، ومُقَوٍّ لحديث صفوان بن سليم وسعد بن سعيد. وأيضًا فقد رواه محمد بن جعفر غندر عن شعبة عن ورقاء عن سعد بن سعيد مرفوعًا (2) كرواية الجماعة، وغندر أصح الناس حديثًا في شعبة حتى قال علي ابن المديني (3): هو أحب إلي من عبد الرحمن بن مهدي في شعبة، فمن يكون مقدَّمًا على عبد الرحمن بن مهدي في حديث شعبة يكون قوله أولى من المقرئ (4). وأما حديث عثمان بن ساج، فقال أبو القاسم بن عساكر في «أطرافه» عقب روايتها: هذا خطأ، والصواب: عن عمر بن ثابت عن أبي أيوب، من غير ذكر محمد بن المنكدر. وقد قال أبو حاتم الرازي (5): عثمان والوليد اب‍نا عمرو بن ساج يُكتَب حديثهما ولا يحتج به. وقال النسائي (6): رأيت عنده كتبًا في غير هذا، فإذا أحاديث تشبه (7) أحاديث محمد بن أبي حميد، فلا أدري أكان سماعه من _________ (1). في «غرائب السنن»، كما في «رفع الإشكال» (ص 57). (2). أخرجه أحمد (23556)، والنسائي في «الكبرى» (2877). (3). نقله عنه البخاري في «التاريخ الكبير» (1/ 57). (4). في الأصل وط. الفقي: «المقبري» خطأ، وقد سبق مثله. (5). «الجرح والتعديل» (6/ 162، 9/ 11). (6). «الكبرى» عقب الحديث (2880). (7). ط. الفقي: «شبه»، وهو غير محرّر في الأصل، والمثبت من «السنن الكبرى».

(2/141)


محمد أم من أولئك المشيخة؟ فإن كان تلك الأحاديثُ أحاديثَه عن أولئك المشيخة ولم يكن سمعه من محمد فهو ضعيف. وأما رواية إسماعيل بن عياش له عن محمد بن أبي حميد، فإسماعيل بن عياش ضعيف في الحجازيين، ومحمد بن أبي حميد متفق على ضعفه ونكارة حديثه، وكأن ابن ساج سرق هذه الرواية عن محمد بن أبي حميد، والغلط في زيادة محمد بن المنكدر منه. والله أعلم. وأما رواية أبي داود الطيالسي، فمِن رواية عبد الله بن عمران الأصبهاني عنه، قال ابن حبان (1): كان يُغرب. وخالفه يونس بن حبيب (2)، فرواه عن أبي داود عن ورقاء بن عمر (3) عن سعد بن سعيد عن عمر بن ثابت، موافقة لرواية الجماعة. فإن قيل (4): فالحديث بعد هذا كله مداره على عمر بن [ق 136] ثابت الأنصاري، لم يروه عن أبي أيوب غيره، فهو شاذ، فلا يحتج به! قيل: ليس هذا من الشاذ الذي لا يحتج به، وكثير من أحاديث الصحيحين بهذه المثابة، كحديث: «الأعمال بالنيات» وتفرُّدِ علقمة بن _________ (1). في «الثقات» كما في «تهذيب الكمال» (4/ 228)، وليس في مطبوعته (8/ 359) قوله هذا بسبب بياض في نسخته الخطية المعتمدة. (2). هو راوي «مسند الطيالسي»، والحديث فيه برقم (595)، وأخرجه من طريقه أيضًا أبو نعيم في «مجلس من أماليه» (ص 24). وتابع يونس محمدُ بن يحيى الذهلي عند الخطيب في «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (2/ 93). (3). في الأصل: «عمرو»، وقد سبق على الصواب في الاعتراض. (4). انظر: «رفع الإشكال» (ص 60 - 65).

(2/142)


وقاص به، وتفردِ محمد بن إبراهيم التيمي به عنه، وتفردِ يحيى بن سعيد به عن التيمي. وقال يونس بن عبد الأعلى (1): قال لي الشافعي: ليس الشاذ أن يروي الثقة ما لا يروي غيره، إنما الشاذ: أن يروي الثقة حديثًا يخالف ما روى الناس. وأيضًا فليس هذا الأصل مما تفرد به عمر بن ثابت، لرواية ثوبان وغيره له عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد ترجم ابن حبان على ذلك في «صحيحه» فقال بعد إخراجه حديث عمر بن ثابت (2): «ذكر الخبر المُدحِض قول من زعم أن هذا الخبر تفرد به عمر بن ثابت عن أبي أيوب»، وذَكَر حديث ثوبان من رواية هشام بن عمار عن الوليد بن مسلم عن يحيى بن الحارث الذِّماري عن أبي أسماء الرَّحَبي عن ثوبان. ورواه ابن ماجه (3). ولكن لهذا الحديث علة، وهي أن أسد بن موسى رواه عن الوليد بن مسلم عن ثور بن يزيد عن يحيى بن الحارث به (4). والوليد مدلس، وقد عنعنه، فلعله وصله مرةً، ودلَّسه أخرى. _________ (1). رواه عنه ابن أبي حاتم في «آداب الشافعي ومناقبه» (ص 178 - 179) ــ ومن طريقه الخطيب في «الكفاية» (1/ 339) ــ، والحاكم في «معرفة علوم الحديث» (ص 375). (2). برقم (3634). (3). برقم (1715). (4). أخرجه الطبراني في «الكبير» (2/ 102)، وثور بن يزيد ثقة ثبت، فالحديث صحيح على كل حال، وله طرق أخرى عن يحيى بن الحارث، سيأتي ذكرها.

(2/143)


وقد رواه النسائي (1) من حديث يحيى بن حمزة ومحمد بن شعيب بن شابور، كلاهما عن يحيى بن الحارث الذماري به. ورواه أحمد في «المسند» (2) عن أبي اليمان عن إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن الحارث به، وقد صحح الحديث أبو حاتم الرازي، وإسماعيل إذا روى عن الشاميين فحديثه صحيح، وهذا إسناد شامي. الاعتراض الثالث: أن هذا الحديث غير معمول به عند أهل العلم. قال مالك في «الموطأ» (3): ولم أر أحدًا من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحدٍ من السلف. وإن أهل العلم يكرهون ذلك، ويخافون بدعته، وأن يُلحِق برمضان ما ليس منه أهلُ الجهالة والجفاء، لو رأوا في ذلك رخصةً عند أهل العلم ورأوهم يعملون ذلك. تم كلامه. قال الحافظ أبو محمد المنذري (4): والذي خشي منه مالك قد وقع بالعجم، فصاروا يتركون المسحِّرين على عادتهم والفوانيس (5) وشعائر رمضان إلى آخر الستة أيامٍ (6)، فحينئذ يُظهرون شعائر العيد. ويؤيد هذا ما رواه أبو داود في قصة الرجل الذي دخل المسجد وصلى _________ (1). برقم (2873، 2874). (2). برقم (22412). (3). برقم (864)، وقد سبق. (4). نقله القرافي في «الفروق»، الفرق الخامس والمائة (2/ 342) عن المنذري مشافهةً. (5). في الطبعتين: «النواقيس»، وهي غير محرّرة في الأصل، والمثبت من «الفروق» ط. الرسالة. (6). كذا في الأصل، وذكر أبو حيان في «ارتشاف الضرَب» (2/ 763) أن بعض الكُتّاب يجيز مثلَه. ولفظ «الفروق»: «الستة الأيام».

(2/144)


الفرض ثم قام ليتنفل، فقام إليه عمر وقال له: اجلس حتى تفصل (1) بين فرضك ونفلك، فبهذا هلك من كان قبلنا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أصاب الله بك يا ابن الخطاب» (2). قالوا: فمقصود عمر: أن اتصال الفرض بالنفل إذا حصل معه التمادي وطال الأمد ظنَّ الجهال أن ذلك من الفرض، كما قد شاع عند كثير من العامة أنّ صبحَ يومِ الجمعة خمسَ سجَداتٍ ولا بد، فإذا تركوا قراءة {الم (1) تَنْزِيلُ} [السجدة] قرؤوا غيرها من سور السجدات. بل نُهِي عن الصوم بعد انتصاف شعبان حمايةً لرمضان أن يخلط به صوم غيره، فكيف بما يضاف إليه بعده؟! فيقال: الكلام هنا في مقامين: أحدهما: في صوم ستة من شوال من حيث الجملة. والثاني: في وصلها به. أما الأول فقولكم: إن الحديث غير معمول به، باطل. وكون أهل المدينة في زمن مالك لم يعملوا به لا يوجب ترك الأمة كلهم له، وقد عمل به أحمد والشافعي وابن المبارك وغيرهم. _________ (1). في الأصل وط. المعارف: «تجلس»، والتصحيح من «الفروق». (2). أخرجه أبو داود (1007)، والطبراني في «الكبير» (22/ 284) و «الأوسط» (2088)، والحاكم (1/ 270). وفي إسناده المنهال بن خليفة، ضعيف الحديث، ولكن تابعه شعبة عند أحمد (23121) بلفظ: «أحسنَ ابنُ الخطّاب». وانظر: «الصحيحة» للألباني (3173).

(2/145)


قال ابن عبد البر (1): لم يبلغ مالكًا حديث أبي أيوب، على أنه حديث مدني، والإحاطة بعلم الخاصة لا سبيل إليه، والذي كرهه مالك قد بينه وأوضحه: خشية أن يضاف إلى فرض رمضان، وأن يسبق ذلك إلى العامة، وكان متحفّظًا كثير الاحتياط للدين. وأما صوم الستة الأيام على طلب الفضل، وعلى التأويل الذي جاء به ثوبان، فإن مالكًا لا يكره ذلك إن شاء الله، لأن الصوم جُنّة وفضله معلوم: يدع طعامه وشرابه لله، وهو عمل برٍّ وخير، وقد قال تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]. ومالك لا يجهل شيئًا من هذا، ولم يكره من ذلك إلا ما خافه على أهل الجهالة والجفاء إذا استمر ذلك، وخشي أن يُعَدَّ من فرائض الصيام مضافًا إلى رمضان. وما أظن مالكًا جهل الحديث، لأنه حديث مدني انفرد به عمر بن ثابت. وأظن عمر بن ثابت لم يكن عنده ممن يعتمد عليه، وقد ترك مالك الاحتجاج ببعض ما رواه عمر بن ثابت. وقيل: إنه روى عنه، ولو لا علمه به ما أنكر بعض شيوخه إذا لم يثق بحفظه لبعض ما يرويه (2). وقد يمكن أن يكون جهل الحديث، ولو عَلِمه لقال به. هذا كلامه. _________ (1). «الاستذكار» (3/ 380)، والمؤلف صادر عن «رفع الإشكال» (ص 77 - 79)، وقد حصل للعلائي اضطراب وتقديم وتأخير في نقل الفقرة الأخيرة من كلام ابن عبد البر، مما اختل به السياق والمعنى، وسيأتي التنبيه عليه. (2). من قوله: «وأظن عمر بن ثابت ... » إلى هنا وقع الاضطراب في النقل، وإليك نص العبارة من «الاستذكار»: «وقد قيل: إنه روى عنه مالك، ولولا علمه به ما أنكره، وأظن الشيخ عمر بن ثابت لم يكن عنده ممن يُعتمد عليه، وقد ترك مالك الاحتجاج ببعض ما رواه عن بعض شيوخه إذا لم يثق بحفظه لبعض ما رواه».

(2/146)


وقال عياض (1): أخذ بهذا الحديث جماعة من العلماء، وروي عن مالك وغيره كراهية ذلك، ولعل مالكًا إنما كره صومها على ما قال في «الموطأ» أن (2) يعتقد من يصومه أنه فرض، وأما على الوجه الذي أراده النبي - صلى الله عليه وسلم - فجائز. وأما المقام الثاني، فلا ريب أنه متى كان في وصلها برمضان مثل هذا المحذور كُرِه أشدَّ الكراهة، وحمي الفرض أن يُخلَط به ما ليس منه، ويصومها في وسط الشهر أو آخره. وما ذكروه من المحذور فدفعه والتحرُّز منه واجب، وهو من قواعد الإسلام. فإن قيل: الزيادة في الصوم إنما يخاف منها لو لم يفصل بين ذلك بفطر يوم العيد، فأما وقد تخلل فطر العيد فلا محذور. وهذا جواب أبي حامد [ق 137] الإسفراييني (3) وغيره. قيل: فطر العيد لا يؤثر عند الجهلة في دفع هذه المفسدة، لأنه لما كان واجبًا فقد يرونه كفطر يوم الحيض لا يقطع التتابع واتصال الصوم، فبكل حال ينبغي تجنب صومها عقب رمضان إذا لم تؤمن هذه المفسدة. والله أعلم. فصل (4) فإن قيل: لم قال: «ست» والأيام مذكرة؟ فالأصل أن يقال: «ستة» كما _________ (1). «إكمال المعلم» (4/ 139). (2). في الأصل وط. المعارف: «أو»، والتصويب من «إكمال المعلم» و «رفع الإشكال». (3). نقله العلائي عنه في «رفع الإشكال» (ص 82). (4). اعتمد المؤلف على «الفروق» للقرافي (2/ 339 وما بعده) في خمسة الأسئلة الأولى من الستة التي ذكرها في هذا الفصل، مع اختصار وتحرير وإضافة.

(2/147)


قال [تعالى]: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [الحاقة: 7]. وهل لشوال بخصوصه مزية على غيره في ذلك، أم لا؟ وهل للست خصوصية على ما دونها وأكثر منها، أم لا؟ وكيف يُشَبَّه من فعل ذلك بصيام الدهر، فيكون العمل اليسير مُشْبِهًا للعمل الكثير من جنسه؟ ومعلوم أن من عمل عملًا وعمل الآخر بقدره مرّتين لا يستويان، فكيف إذا عمل بقدره عشر مرات؟ وهل فَرْقٌ بين قوله: «فكأنما صام الدهر» وبين أن يقال: فكأنه قد صام الدهر؟ وهل يدل الحديث على استحباب صيام الدهر، لأجل التشبيه، أم لا؟ فالجواب: أما قوله «ست» ولم يقل «ستة»، فالعرب إذا عَدَّت الليالي والأيام فإنها تغلِّب الليالي إذا لم تُضِف العدد إلى الأيام، فمتى أرادوا عدّ الأيام عدّوا الليالي ومرادهم الأيام. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]. قال الزمخشري (1): ولو قيل «وعشرةً» لكان لحنًا. وقال تعالى: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} [طه: 103]، فهذه أيام بدليل قوله: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه: 104]، فدل الكلام الأخير على أن المعدود الأول أيام. _________ (1). «الكشاف» (1/ 282)، والمؤلف صادر عن «الفروق» (2/ 341).

(2/148)


وأما قوله تعالى: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [الحاقة: 7] فلا تغليب هناك، لذكر النوعين وإضافة كل عدد إلى نوعه. وأما السؤال الثاني، وهو اختصاص شوال، ففيه طريقان: أحدهما: أن المراد به الرفق بالمكلَّف، لأنه حديث عهد بالصوم فيكون أسهلَ عليه. ففي ذكر شوال تنبيه على أن صومها في غيره أفضل، هذا الذي حكاه القرافي (1) عن المالكية، وهو غريب عجيب. الطريق الثاني: أن المقصود به المبادرة بالعمل وانتهاز الفرصة خشيةَ الفوات. قال تعالى {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133]. وهذا تعليل طائفة من الشافعية وغيرهم، قالوا: ولا يلزم أن يُعطى هذا الفضل لمن صامها في غيره، لفوات مصلحة المبادرة والمسارعةِ المحبوبة لله. قالوا: وظاهر الحديث مع هذا القول، ومن ساعده الظاهرُ فقوله أولى. ولا ريب أنه لا يمكن إلغاء خصوصية شوال، وإلا لم يكن لذكره فائدة. وقال آخرون: لمّا كان صوم رمضان لا بدّ أن يقع فيه نوع تقصير وتفريط وهضمٍ من حقه وواجبه= ندب إلى صوم ستة أيام من شوال جابرةً له ومسدّدةً لخللٍ عساه أن يقع فيه. فجرت هذه الأيام مجرى سنن الصلوات التي تُفعل (2) بعدها جابرةً ومكملة. وعلى هذا فتظهر فائدة اختصاصها بشوال. والله أعلم. _________ (1). «الفروق» (2/ 341)، وأيضًا «الذخيرة» (2/ 530). (2). ط. الفقي: «يتنفّل بها»، وط. المعارف: «تنفّل»، والمثبت أشبه برسم الأصل.

(2/149)


فهذه ثلاث (1) مآخذ، ويقوّي هذا الجوابَ (2) السؤالُ الثالث: وهو اختصاصها بهذا العدد، دون ما هو أقل وأكثر، فقد أشار في الحديث إلى حكمته، فقال في حديث أبي هريرة: «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها؛ فثلاثين بثلاثمائة وستة بستِّين، وقد صام السنة» (3). وكذلك في حديث ثوبان ولفظه: «من صام ستة أيام بعد الفطر كان تمام السنة، من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها» لفظ ابن ماجه (4). وأخرجه صاحب «المختارة» (5). ولفظ النسائي (6) فيه: «صيام رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بشهرين. فذلك صيام سنة»، يعني صيام رمضان وستة أيام بعده. فهذه هي الحكمة في كونها ستة. وأما ما ذكره بعضهم (7) من أن الستة عدد تام، فإنها إذا جُمِعت أجزاؤها قام منها عددُ الستة (8)، فإن أجزاءها النصف والثلث والسدس ويَكْمُل بها، بخلاف الأربعة والاثني عشر وغيرهما= فهذا لا يَحْسُن ولا يليق أن يُذكر في أحكام الله ورسوله، و [ينبغي] (9) أن يُصان الدين _________ (1). كذا في الأصل، والوجه: «ثلاثة». (2). في الطبعتين: «جواب» دون التعريف، خلافًا للأصل. (3). سبق تخريجه، وقوله: «فثلاثين بثلاثمائة ... » إلخ من قول أبي هريرة. (4). برقم (1715). (5). ليس في القدر المطبوع منه. (6). «الكبرى» (2873)، وقد سبق. (7). حكاه القرافي في «الفروق» (2/ 346) عن «بعض الفضلاء» أنه قال ذلك في توجيه خلق السماوات والأرض في ستة أيام. (8). في الطبعتين: «السنة»، خطأ. (9). زيادة من ط. الفقي ليستقيم السياق.

(2/150)


عن التعليل بأمثاله. وأما السؤال الرابع، وهو تشبيه هذا الصيام بصيام الدهر، مع كونه عُشْرَه (1)، فقد أشكل هذا على كثير من الناس. وقيل في جوابه: المعنى أن من صام رمصان وستة من شوال من هذه الأمة فهو كمن صام السنة من الأمم المتقدمة. قالوا: لأن تضعيف الحسنات إلى عشر أمثالها من خصائص هذه الأمة. وأحسن من هذا أن يقال: العمل له بالنسبة إلى الجزاء اعتباران: اعتبار المقابلة والمساواة وهو الواحد بمثله، واعتبار الزيادة والفضل وهو المضاعفة إلى العشر، فالتشبيه وقع بين العمل المضاعَف ثوابُه، وبين العمل الذي يستحق به مثلَه. ونظير هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى عشاء الآخرة في جماعة فكأنما قام نصف ليلة، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة فكأنما قام [ق 138] ليلة» (2). أما السؤال الخامس، وهو الفرق بين أن يقول: «فكأنه قد صام الدهر» وبين قوله: «فكأنما صام الدهر»، هو أن المقصود تشبيه الصيام بالصيام. ولو قال: «فكأنه قد صام الدهر»، لكان بعيدًا عن المقصود، فإنه حينئذ يكون تشبيها للصائم بالصائم. فمحل التشبيه هو الصوم لا الصائم، ويجيء الفاعل لزومًا. ولو شبه الصائم لكان هو محل التشبيه، ويكون مجيء الصوم لزومًا، وإنما كان قصدُ تشبيه الصوم أبلغَ وأحسن لتضمُّنه تنبيهَ السامع على قدر _________ (1). ط. الفقي: «مع كونه بقدره عشرة مرّات» خلافًا للأصل. (2). حديث عثمان - رضي الله عنه -، أخرجه مسلم (656)، وأبو داود (555)، والترمذي (221)، واللفظ بروايتهما أشبه.

(2/151)


الفعل وعِظَمه وكثرةِ ثوابه، فتتوفر رغبته فيه. وأما السؤال السادس، وهو الاستدلال به على استحباب صيام الدهر، فقد استدل به طائفة ممن يرى ذلك. قالوا: ولو كان صوم الدهر مكروهًا لما وقع التشبيه به، بل هذا يدل على أنه أفضل الصيام. وهذا الاستدلال فاسد جدًّا من وجوه: أحدها: أن في الحديث نفسه أن وجه التشبيه هو أن الحسنة بعشر أمثالها، فستة وثلاثون يومًا بسنة كاملة، ومعلوم قطعًا أن صوم السنة الكاملة حرام بلا ريب، والتشبيه لا يتم إلا بدخول العيدين وأيام التشريق في السنة، وصومُها حرام، فعلم أن التشبيه المذكور لا يدل على جواز وقوع المشبَّه به فضلًا عن استحبابه، فضلًا أن (1) يكون أفضل من غيره. ونظير هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عن عمل يعدل الجهاد؟ فقال: «لا تستطيعه. هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تقوم فلا تَفتُر، وتصوم فلا تُفطِر؟» قال: لا. قال: «فذلك مَثَل المجاهد» (2). ومعلوم أن هذا المشبه به غير مقدور ولا مشروع. فإن قيل: يُحمل قوله: «فكأنما صام الدهر» على ما عدا الأيام المنهيَّ عن صومها. قيل: تعليلُه - صلى الله عليه وسلم - حكمةَ هذه المقابلة، وذِكرُه الحسنة بعشر أمثالها، وتوزيعُ الستة والثلاثين يومًا على أيام السنة= يُبطل هذا الحمل. _________ (1). في الطبعتين: «عن أن» خلافًا للأصل. (2). أخرجه البخاري (2785) ومسلم (1878) بنحوه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

(2/152)


الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عمن صام الدهر، فقال: «لا صام ولا أفطر» (1)، وفي لفظ: «لا صام من صام الأبد» (2). فإذا كان هذا حال صيام الدهر فكيف يكون أفضلَ الصيام؟ الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه في «الصحيحين» (3) أنه قال: «أفضل الصيام صيام داود». وفي لفظ: «لا أفضل من صوم داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا» (4). فهذا النص الصحيح الصريح الرافع لكل إشكال يُبَيِّن أن صوم يوم وفطر يوم أفضلُ من سرد الصوم، مع أنه أكثر عملًا. وهذا يدل على أنه مكروه، لأنه إذا كان الفطر أفضل منه لم يمكن أن يقال بإباحته واستواء طرفيه، فإن العبادة لا تكون مستوية (5) الطرفين، ولا يمكن أن يقال: هو أفضل من الفطر، لشهادة النص له بالإبطال، فتعين أن يكون مرجوحًا، وهذا بيِّن لكل منصف. ولله الحمد.

  36 - كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم – يصوم

252/ 2324 - عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم حتى نقول: لا يُفطِر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - _________ (1). أخرجه مسلم (1162) من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه -. (2). أخرجه البخاري (1977) ومسلم (1159/ 186) من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -. (3). البخاري (1976، 5052)، ومسلم (1159/ 192). (4). أخرجه البخاري (1976)، ومسلم (1159/ 181) بلفظ: «لا أفضل من ذلك». (5). في الأصل: «مستوفية»، والمثبت من الطبعتين.

(2/153)


استكمل صيام شهر قطُّ إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثرَ صيامًا منه في شعبان». وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي صومه شعبان أكثر من غيره ثلاث معان (2): أحدها: أنه كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فربما شغل عن الصيام أشهرًا، فجمع ذلك في شعبان، ليدركه قبل صيام الفرض. الثاني: أنه فعل ذلك تعظيمًا لرمضان، وهذا الصوم يشبه [سنة] (3) فرض الصلاة قبلها تعظيمًا لحقها. الثالث: أنه شهر تُرفَع فيه الأعمال، فأحبَّ - صلى الله عليه وسلم - أن يرفع عمله وهو صائم (4).

  37 - في صوم الاثنين والخميس

253/ 2326 - عن مولى قدامة بن مَظعون، عن مولى أسامة بن زيد أنه انطلق مع أسامة إلى وادي القُرى في طلب مالٍ له، فكان يصوم الاثنين والخميس، فقال له مولاه: لِمَ تصوم يوم الاثنين ويوم الخميس، وأنت شيخ كبير؟ فقال: إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس، وسُئل عن ذلك؟ فقال: «إنَّ _________ (1). أبو داود (2434)، والبخاري (1969)، ومسلم (1156)، والنسائي (2177). (2). كذا في الأصل، والوجه: «ثلاثة معان»، وهذه المعاني قد ذكرها المنذري باختصار، فهذّبها المؤلف على طريقته في التحرير والترتيب. انظر: «المختصر» (3/ 318). (3). ضبّب ناسخ الأصل على كلمة «فرض» وكتب في الهامش: «لعله: سنة». (4). روي ذلك من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنهما -. أخرجه أحمد (21753)، والنسائي (2357)، وحسَّنه المنذري (كما سيأتي)، واختاره الضياء (4/ 108، 109). وانظر: «الصحيحة» للألباني (1898).

(2/154)


أعمال العباد تُعرض يوم الاثنين ويوم الخميس». وأخرجه النسائي (1). وفي إسناده رجلان مجهولان (2). وقد أخرج النسائي (3) من حديث أبي سعيد كَيْسان المقبري. قال: حدثني أسامة بن زيد قال: قلت: يا رسول الله، إنك تصوم حتى لا تكاد تُفطر، وتفطر حتى لا تكاد تصوم، إلا يومين إن دخلا في صيامك، وإلا صمتهما؟ قال: «وأي يومين؟» قلت: يوم الاثنين ويوم الخميس. قال: «ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، فأحبُّ أن يُعرَض عملي وأنا صائم». وهو حديث حسن. وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه (4) من حديث ربيعة الجُرَشي عن عائشة قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحرى صوم الاثنين والخميس». وقال الترمذي: حديث عائشة حديث حسن غريب من هذا الوجه. قال ابن القيم - رحمه الله -: وأخرج النسائي (5) من حديث المسيب بن رافع _________ (1). أبو داود (2436)، والنسائي في «الكبرى» (2794). (2). هما: مولى قدامة، ومولى أسامة. (3). (2358)، وهو جزءٌ من الحديث الذي فيه ذكر الصيام ورفع الأعمال في شهر شعبان وقد تقدم تخريجه آنفًا. (4). الترمذي (745)، والنسائي (2187)، وابن ماجه (1739). وصححه ابن حبان (3643)، والذهبي في «سير أعلام النبلاء» (13/ 563). (5). (2364)، وأيضًا ابن خزيمة (2116)، من طريق يحيى بن يمان، عن سفيان الثوري، عن عاصم بن بهدلة، عن المسيب به. ويحيى بن يمان يضعّف في حديث سفيان، وغيرُه يرويه عن عاصم فيجعله من مسند حفصة. قال الدارقطني: «وهو أشبه بالصواب». انظر: «العلل» (3854).

(2/155)


عن سَوَاءٍ الخزاعي عن عائشة قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم الاثنين والخميس». وأخرج (1) عن المسيب عن حفصة قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم الاثنين والخميس». وفي «صحيح مسلم» (2) من حديث أبي قتادة قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيام الاثنين؟ فقال: «ذاك يوم ولدتُ فيه، ويوم بعثتُ، أو أنزل علي فيه». وفيه (3) من رواية شعبة: «وسئل عن صوم الاثنين والخميس؟»، قال مسلم: فسكتنا عن ذكر الخميس لِما نراه وَهمًا.

  38 - صوم العشر

254/ 2327 - عن هُنيدة بن خالد، عن امرأته، عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم تِسعَ ذي الحجَّة، ويومَ عاشوراء، وثلاثةَ أيام من كل شهر: أولَ اثنين من الشهر والخميس (4)». _________ (1). أي النسائي (2367) من طريق عاصم، عن المسيب عن حفصة. وأخرجه هو (2366) وأبو داود (2451) من طريق عاصم، عن سواء الخزاعي عن حفصة، زاد فيه: «والاثنين من الجمعة الأخرى». وقيل في إسناده: عن عاصم، عن المسيب، عن سواء، عن حفصة، ولعله أشبه. انظر: «العلل» للدارقطني (3946). (2). برقم (1162/ 198). (3). برقم (1162/ 197). (4). كذا في «المختصر» و «السنن» برواية اللؤلؤي، وعلَّم عليه الحافظ ابن حجر: «صح» في نسخته من «السنن» (ق 162 ب)، وذكر في الهامش أن في رواية ابن داسة وابن الأعرابي: «أول اثنين من الشهر والخميس والخميس». قلتُ: وفي بعض الروايات عند أحمد والنسائي: «أول اثنين من الشهر وخميسَين».

(2/156)


وأخرجه النسائي (1). واختلف على هنيدة بن خالد في إسناده، فروي عنه كما أوردناه. وروي عنه عن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - (2). وروي عنه عن أمه عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - مختصرًا (3). 255/ 2328 - وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما مِنْ أيامٍ العملُ الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام»، يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء». وأخرجه البخاري والترمذي وابن ماجه (4). قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي «مسند أحمد» و «سنن النسائي» (5) عن حفصة _________ (1). أبو داود (2437)، والنسائي (2418) من طريق أبي عوانة، عن الحرّ بن الصيّاح، عن هُنيدة به. وهذا إسناد صحيح. (2). أخرجه أحمد (26459)، والنسائي (2416)، وإسناده ضعيف، فيه أبو إسحاق الأشجعي، مجهول. (3). أخرجه أحمد (26480)، وأبو داود (2452)، والنسائي (2419)، من طريق الحسن بن عبيد الله النخعي، عن هنيدة به. والحسن موثّق لكن نُقل عن البخاري أنه قال: «عامة حديثه مضطرب»، وقال الدارقطني: ليس بالقوي. انظر: «تهذيب التهذيب» (2/ 292 - 293). وقد اختلف عليه في إسناده، فروي عنه هكذا، وروي عنه عن الحرّ بن الصيّاح، عن هُنيدة، عن امرأته، عن أم سلمة. أخرجه أبو يعلى (6898) والطبراني في «الكبير» (23/ 216، 421). وهو الصواب الموافق لرواية حديث الباب من طريق أبي عوانة عن الحُرّ به. والله أعلم. (4). أبو داود (2438)، والبخاري (969)، والترمذي (757)، وابن ماجه (1727). (5). أحمد (26459)، والنسائي (2416)، وهو ضعيف كما سبق آنفًا.

(2/157)


قالت: «أربع لم يكن يدعهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر والركعتين قبل الغداة». وفي «مسند أحمد» (1) أيضًا: عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما مِن أيام أعظمَ عند الله، ولا أحبَّ إليه العملُ فيهن، من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد».

  39 - في صوم عرفة بعرفة

256/ 2330 - عن عكرمة ــ وهو مولى عبد الله بن عباس ــ قال: كنا عند أبي هريرة في بيته فحدَّثَنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة. وأخرجه النسائي وابن ماجه (2). وفي إسناده مهدي الهجَري، قال يحيى بن معين: لا أعرفه (3). وقال الخطابي (4): هذا نهي استحباب، لا نهي إيجاب. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد ورد في النهي عن صيام يوم عرفة بعرفة آثار. منها: ما رواه النسائي (5) عن عمرو بن دينار عن عطاء عن عبيد بن عمير قال: كان عُمَر ينهى عن صوم يوم عرفة. _________ (1). رقم (6154) من طريق يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عمر. ويزيد فيه لين، وقد اختلف عنه في إسناده اختلافًا كثيرًا. انظر «العلل» للدارقطني (2803). (2). أبو داود (2440)، والنسائي في «الكبرى» (2843)، وابن ماجه (1732). (3). وكذا قال الإمام أحمد. انظر: «الجرح والتعديل» (8/ 337)، و «سؤالات أبي داود» (ص 331). (4). «معالم السنن» (3/ 321). (5). في «الكبرى» (2837) بإسناد صحيح.

(2/158)


[ق 139] ومنها ما رواه أيضًا (1) عن أبي السوداء (2) قال: سألت ابن عمر عن صوم يوم عرفة؟ فنهاني. والمراد بذلك بعرفة، بدليل ما روى نافع قال: سئل ابن عمر عن صوم يوم عرفة بعرفة؟ فقال: لم يصمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان (3). وعن عطاء قال: دعا عبد الله بن عباس الفضلَ بن عباس يوم عرفة إلى الطعام، فقال: إني صائم. فقال عبد الله: لا تصم، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قُرِّب إليه حِلاب فيه لبن يوم عرفة فشرب منه. فلا تصم، فإن الناس يستنّون بكم (4). رواهما النسائي. 257/ 2331 - وعن أم الفضل بنت الحارث: أن ناسًا تمَارَوْا عندها يوم عرفة في صوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدَح لَبَنٍ وهو واقف على بعيره بعرفه، فشرب». وأخرجه البخاري ومسلم (5). _________ (1). في «الكبرى» (2836)، وفيه أبو السوداء لم يُوثّق. (2). في الأصل والطبعتين: «أبي السوار»، تحريف. وأبو السوداء تابعي حجازي، لا يُعرف اسمه. انظر: «تهذيب التهذيب» (12/ 123). (3). أخرجه أحمد (5411)، والنسائي في «الكبرى» (2838)، وفي إسناده مُؤمَّل بن إسماعيل، صدوق كثير الخطأ، ولكنه توبع، تابعه أبو حذيفة النهدي عند الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/ 72) بنحوه. وله طريق آخر عن ابن عمر، أخرجه الترمذي (751) وحسّنه. وانظر: «العلل» للدارقطني (2744). (4). أخرجه أحمد (2946)، والنسائي في «الكبرى» (2835). وهو مرسل، فإن عطاء لم يُدرك الفضل بن عباس، فإنه توفي قديمًا في طاعون عَمْواس (سنة 18). (5). أبو داود (2441)، والبخاري (1988)، ومسلم (1123).

(2/159)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد أخرجا في «الصحيحين» (1) من حديث كُرَيب عن ميمونة بنت الحارث أنها قالت: إن الناس شَكُّوا في صيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة، فأرسلَتْ إليه ــ يعني ميمونة ــ بحِلاب اللبن، وهو واقف في الموقف فشرب منه، والناس ينظرون. فقيل: يَحتمِل أن تكون ميمونة أرسلت وأم الفضل أرسلت، كل منهما بقدح، ويحتمل أن تكونا مجتمعتين، فإنها أختها، فاتفقتا على الإرسال بقدح واحد، فينسب إلى هذه وإلى هذه. فقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أفطر بعرفة، وصح عنه أن صيامه يكفر سنتين، فالصواب أن الأفضل لأهل الآفاق صومه، ولأهل عرفة فِطْرُه لاختياره - صلى الله عليه وسلم - ذلك لنفسه، وعمل خلفائه بعده بالفطر، وفيه قوة على الدعاء الذي هو أفضل دعاء العبد، وفيه أن يوم عرفة عيد لأهل عرفة، فلا يستحب لهم صيامه. وبعض الناس يختار الصوم، وبعضهم الفطر، وبعضهم يفرق بين من يضعفه ومن لا يضعفه، وهو اختيار قتادة (2). والصيام اختيار ابن الزبير وعائشة (3). وقال عطاء: أصومه في الشتاء، ولا أصومه في الصيف (4). وكان _________ (1). البخاري (1989)، ومسلم (1124). (2). ولفظه: لا بأس به إذا لم يَضْعُف عن الدعاء. نقله ابن المنذر في «الإشراف» (3/ 156)، وابن عبد البر في «التمهيد» (21/ 158) و «الاستذكار» (4/ 235). (3). أخرجه ابن أبي شيبة (13568، 13570) عنهما. وأخرجه الطبري في «تهذيب الآثار» (1/ 367 - مسند عمر) عنها وعن الزبير - رضي الله عنهما -. (4). أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (7822).

(2/160)


بعض السلف لا يأمر به ولا ينهى عنه، ويقول: من شاء صام ومن شاء أفطر.

  40 - ما روي أن عاشوراء اليومُ التاسع

258/ 2335 - عن ابن عباس قال: حين صام النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء وأمرَنا بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يومٌ تُعَظِّمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا كان العامُ المقبِل صُمنا يوم التاسع»، فلم يأتِ العامُ المقبل حتى تُوفِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه مسلم (1). اختُلف في معناه، وهو يحتمل معنيين، أحدهما: نقل صيام عاشوراء إلى التاسع لأجل مخالفة أهل الكتاب، وهذا مقتضى المنقول عن ابن عباس، وقيل معناه: أن يصوم التاسع معه لتحصل المخالفة؛ فتوفي عليه السلام ولم يبيّن مراده، فكان الاحتياط صومَ التاسع والعاشر (2). 259/ 2336 - وعن الحكَم بن الأعرج قال: أتيت ابنَ عباس وهو متوسِّد رداءَه في المسجد الحرام، فسألته عن صوم يوم عاشوراء، فقال: إذا رأيت هلال المحرَّم فاعْدُد، فإذا كان يومُ التاسع فأَصبِحْ صائمًا، فقلت: كذا كان محمد - صلى الله عليه وسلم - يصوم؟ قال: كذلك كان محمد - صلى الله عليه وسلم - يصوم. وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي (3). _________ (1). أبو داود (2445)، ومسلم (1134). (2). هذه الفقرة من كلام المنذري ذكرها المجرّد عنه، ولم ترد في مخ «المختصر» ولا مطبوعته. (3). أبو داود (2446)، ومسلم (1133)، والترمذي (754)، والنسائي في «الكبرى» (2872).

(2/161)


قال ابن القيم - رحمه الله -: والصحيح أن المراد صومُ التاسع مع العاشر لا نَقْلُ اليوم، لما روى أحمد في «مسنده» (1) من حديث ابن عباس، يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خالفوا اليهود، صوموا يوما قبله ويومًا (2) بعده». وقال عطاء عن ابن عباس: «صوموا التاسع والعاشر، وخالفوا اليهود» ذكره البيهقي (3). وهذا يبين أن قول ابن عباس: «إذا رأيت هلال المحرَّم فاعدد، فإذا كان يوم التاسع فأَصْبِح صائمًا» أنه ليس المراد به: أن عاشوراء هو التاسع، بل أمَره أن يصوم اليوم التاسع قبل عاشوراء. فإن قيل: ففي آخر الحديث: «قيل: كذلك كان يصومه محمد [- صلى الله عليه وسلم -]؟ قال: نعم»، فدل على أن المراد به نقلُ الصوم، لا صومُ يوم قبله. قيل: قد صرح ابن عباس بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع»، فدل على أن الذي كان يصومه هو العاشر، وابن عباس راوي الحديثين معًا، فقوله: «هكذا كان يصومه محمد [- صلى الله عليه وسلم -]» أراد به ــ والله أعلم ــ قولَه: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع»، فلما عزم عليه وأخبر أنه يصومه إن بقي قال ابن عباس: «هكذا كان يصومه»، وصدق - رضي الله عنه -، هكذا _________ (1). برقم (2154)، ورواه أيضًا ابن خزيمة (2095)، من طريق ابن أبي ليلى، عن داود بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جدّه. والإسناد ضعيف، ابن أبي ليلى سيئ الحفظ، وداود بن علي لا يُعرف بالحفظ والضبط. والصواب عن ابن عباس موقوفًا عليه، وسيأتي. (2). كذا في الأصل وبعض الأصول الخطية «للمسند» وفي بعضها: «أو يومًا». انظر «المسند» ط. المَكنِز (2/ 535). (3). «السنن الكبرى» (4/ 287) من طريق عبد الرزاق في «المصنف» (7839)، عن ابن جريج، عن عطاء. وهو إسناد صحيح.

(2/162)


كان يصومه لو بقي. فتوافقت الروايات عن ابن عباس وعُلِم أن المخالفة المشار إليها تركُ إفراده، بل يُصام يومٌ قبله ويوم بعده، ويدل عليه أن في رواية الإمام أحمد (1) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع ـ يعني لصوم عاشوراء ــ وخالفوا اليهود فصوموا قبله يومًا وبعده يومًا»، فذِكْر هذا عقب قوله: «لأصومن التاسع» يبين مراده. وبالله التوفيق.

  41 - باب في فضل صومه

260/ 2337 - عن عبد الرحمن بن مَسْلَمة، عن عمه: أن أسْلَمَ أتت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: صُمْتُم يومكم هذا؟ قالوا: لا، قال: «فأتموا بقية يومكم، واقضوه». وأخرجه النسائي (2)، وذكر البيهقي (3) عبد الرحمن هذا فقال: وهو مجهول ومختلَف في اسم أبيه، ولا يُدرى من عمّه. هذا آخر كلامه. قال ابن القيم - رحمه الله -: قال عبد الحق (4): ولا يصح هذا الحديث في القضاء. قال (5): ولفظة «اقضوه» تفرد بها أبو داود، ولم يذكرها النسائي. _________ (1). هي عنده حديثان برقم (3213) و (2154)، وقد دمجهما المؤلف، ولعله صادر عن «السنن والأحكام عن المصطفى» للضياء (3/ 498) حيث ورد الحديثان على التوالي، فأخشى أن يكون حصل التداخل لسقط في النسخة أو انتقال النظر. (2). أبو داود (2447)، والنسائي في «الكبرى» (2863 - 2865). (3). في «معرفة السنن» (6/ 360 - 361). (4). في «الأحكام الوسطى» (2/ 245). (5). أي ابن القيم - رحمه الله -.

(2/163)


قال: واختلف الناس في يوم عاشوراء، هل كان صومه واجبًا أو تطوعًا؟ فقالت طائفة، كان واجبًا. وهذا قول أصحاب أبي حنيفة (1)، وروي عن أحمد (2). وقال أصحاب الشافعي (3): لم يكن واجبًا، وإنما كان تطوعًا، واختاره القاضي أبو يعلى، وقال (4): هو قياس المذهب. واحتج هؤلاء بثلاث حجج: إحداها: ما أخرجا في «الصحيحين» (5) عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية بن أبي سفيان خطيبًا بالمدينة ــ يعني في قَدْمَةٍ قَدِمها ــ خطبهم يوم عاشوراء، فقال: أين علماؤكم، يا أهل المدينة؟ سمعت [ق 140] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لهذا اليوم: «هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامَه وأنا صائم، فمن أحبّ منكم أن يصومَ فليَصُم، ومن أحب منكم أن يُفطِرَ فليفطِرْ». الحجة الثانية: ما في «الصحيحين» (6) أيضًا عن سلمة بن الأكوع قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا من أسلم يوم عاشوراء فأمره أن يؤذن في الناس: _________ (1). انظر: «شرح معاني الآثار» (2/ 73 - 74)، و «بدائع الصنائع» (2/ 103). (2). انظر: «الفروع» (5/ 91 - 92)، وفيه أنه اختيار شيخ الإسلام. (3). انظر: «المجموع» (6/ 433 - 434)، وسيأتي نصّ الشافعي في المسألة من كتابه «اختلاف الحديث». (4). نقله في «المغني» (4/ 441 - 442). (5). البخاري (2003)، ومسلم (1129). (6). البخاري (2007)، ومسلم (1135).

(2/164)


«من كان لم يَصُم فَلْيَصُم». قالوا: فهذا أمرٌ بإنشاء الصيام من النهار، وهذا لا يجوز إلا في التطوع. وأما الصيام الواجب فلا يصح إلا بنية قبل الفجر. الحجة الثالثة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر المفطرين فيه إذ ذاك بالقضاء. واحتج الأولون بحجج: إحداها: ما خرّجا في «الصحيحين» (1) عن عائشة قالت: كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصومه. فلما هاجر إلى المدينة صامه، وأمر بصيامه. فلما فرض شهر رمضان قال: «من شاء صامه، ومن شاء تركه». وفي «صحيح البخاري» (2) عن ابن عمر قال: صام النبي - صلى الله عليه وسلم - عاشوراء وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان تُرِك. قالوا: ومعلوم أن الذي تُرِك هو وجوب صومه لا استحبابه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرغّب فيه، ويخبر أن صيامه كفارة سنة. وقد أخبر ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصومه إلى حين وفاته وأنه عزم قبل وفاته بعام على صيام التاسع، فلو كان المتروك مشروعيته لم يكن لقصد المخالفة بضم التاسع إليه معنى، فعلم أن المتروك هو وجوبه. الحجة الثانية: أن في «الصحيحين» (3) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من كان أكل بأن _________ (1). البخاري (2002)، ومسلم (1125). (2). البخاري (1892). (3). كما في حديث سلمة بن الأكوع المتقدم، وأيضًا في حديث الرُّبَيِّع بنت معوِّذ - رضي الله عنهما - عند البخاري (1960) ومسلم (1136).

(2/165)


يمسك بقية يومه. وهذا صريح في الوجوب، فإن صوم التطوع لا يُتصوّر فيه إمساك بعد الفطر. الثالثة: ما في «الصحيحين» أيضًا عن عائشة قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية ــ فذكرت الحديث إلى أن قالت ــ: «فلما فرض رمضان كان هو الفريضة» الحديث، وهذه اللفظة في سياق البيهقي (1). فقولها: «كان هو الفريضة» دل على أن عاشوراء كان قبله واجبًا، وأن رمضان صار هو الفرض لا عاشوراء، وإلا لم يكن لقولها: «كان هو الفريضة» معنى. قال الموجبون: وأما حديث معاوية فمعناه: ليس مكتوبًا عليكم الآن، أو لم يكتبه بعد نزول رمضان، أو إنما نفى فيه الكَتْب، وهو الفرض المؤكد الثابت بالقرآن، ووجوبُ عاشوراء إنما كان بالسنة، ولا يلزم من نفي كَتْبه وفرضه نفيُ كونه واجبًا، فإن المكتوب أخص من مطلق الواجب. وهذا جارٍ على أصل من يفرق بين الفرض والواجب. وقد نص أحمد في إحدى الروايتين عنه (2) على أنه لا يقال: «فرض» إلا لما ثبت بالقرآن، وأما ما ثبت بالسنة فإنه يسميه واجبًا. _________ (1). «السنن الكبرى» (4/ 288). وهذه اللفظة رواها مالك في «الموطأ» (822) عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة. ومن طريق مالك رواها أبو داود (2442)، ثم من طريقه البيهقي. وروى البخاري (4504) نحوها من طريق آخر عن هشام به، ولفظه: «فلما نزل رمضان كان رمضانُ الفريضةَ». (2). انظر: «العدّة في أصول الفقه» للقاضي (2/ 376 - 377)، و «المسودة» لآل تيمية (1/ 164).

(2/166)


قالوا: وأما تصحيحه بنية من النهار، فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن هذا حجة لمن يقول بجواز صوم الفرض بنية من النهار. قالوا: وهو عمدتنا في المسألة. فليس لكم أن تنفوا وجوبه بناءً على بطلان هذا القول، فإنه دور ممتنع ومصادرة باطلة. وهذا جواب أصحاب أبي حنيفة. قال منازعوهم: إذا قلتم: إنه كان واجبًا، فقد ثبت نسخه اتفاقًا، وأنتم إنما جوزتم الصوم المفروض بنية من النهار بطريق الاستنباط منه، وأن ذلك من متعلقاته ولوازمه، والحكم إذا نُسِخ نسخت لوازمه ومتعلقاته ومفهومه وما ثبت بالقياس عليه، لأنها فرع في الثبوت على ثبوت الأصل، فإذا ارتفع الأصل امتنع بقاء الفرع بعده. قال الحنفية: الحديث دل على شيئين: أحدهما: إجزاء الصوم الواجب بنية من النهار، والثاني: تعيين الصوم الواجب بأنه يوم عاشوراء، فنُسِخ تعيين الواجب برمضان، وبقي الحكم الآخر لا معارض له، فلا يصح دعوى نسخه، إذ الناسخ إنما هو لتعيين الصوم وإبداله بغيره، لا لإجزائه بنية من النهار. الجواب الثاني: أن ذلك الصوم إنما صح بنية من النهار، لأن الوجوب إنما ثبت في حق المكلفين من النهار حين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المنادي أن ينادي بالأمر بصومه، فحينئذ تجدّد (1) الوجوب فقارنت النيةُ وقتَ وجوبه، وقبل هذا لم يكن واجبًا، فلم تكن نية التبييت واجبة. _________ (1). في الطبعتين: «تحدد» بالحاء، خطأ.

(2/167)


قالوا: وهذا نظيره: الكافر يسلم في أثناء النهار أو الصبيُّ يبلغ، فإنه يمسك من حين ثبت (1) الوجوب في ذمته ولا قضاءَ عليه، كما قاله مالك وأبو ثور وابن المنذر وأحمد في إحدى الروايتين عنه (2). ونظيره أيضًا: إذا أنشأ الصوم تطوعًا بنية من النهار ثم نذر إتمامه، فإنه تجزئه نيّتُه (3) عند مقارنة الوجوب. قالوا: ولا يَرِد علينا: إذا قامت البينة برؤية هلال رمضان في أثناء النهار، حيث يلزم القضاء لمن لم يكن قد بيّت الصوم، لأن الوجوب هنا كان ثابتًا، وإنما خفي على بعض الناس، وتساوي المكلفين في العلم بالوجوب لا يُشترط، بخلاف ابتداء الأمر بصيام عاشوراء، فإنه حينئذ ابتُدِئ وجوبه. فالفرق إنما هو بين ابتداء الوجوب والشروع [ق 141] في الإمساك عقبه، وبين خفاء ما تقدّم وجوبُه ثم تجدّد سبب العلم بوجوبه. فإن صح هذا الفرق، وإلا فالصواب التسوية بين الصورتين، وعدم وجوب القضاء. والله أعلم. وذكر الشافعي هذه الأحاديث في كتاب «مختلف الحديث» (4)، ثم قال: وليس من هذه الأحاديث شيء مختلف عندنا ــ والله أعلم ــ إلا شيئًا ذكره في حديث عائشة، وهو مما وصفتُ من الأحاديث التي يأتي بها _________ (1). في الطبعتين: «يثبت»، والمثبت أقرب إلى رسم الأصل. (2). انظر: «المدونة الكبرى» (1/ 213)، و «الإشراف» (3/ 138)، و «المغني» (4/ 415). (3). ط. الفقي: «يجزئه بنيته»، وط. المعارف: «يجزئه بنيةٍ»، والمثبت أشبه. (4). (10/ 78 وما بعدها) ضمن «الأم» ط. دار الوفاء.

(2/168)


المحدِّث ببعض دون بعض، فحديث ابن أبي ذئب عن عائشة: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم عاشوراء، ويأمرنا بصيامه» لو انفرد كان ظاهره أن عاشوراء كان فرضًا. فذكر هشام عن أبيه عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صامه في الجاهلية، وأمر بصيامه، فلما نزل رمضان كان الفريضةَ، وترك عاشوراء. قال الشافعي: لا يحتمل قول عائشة «ترك عاشوراء» معنًى يصحّ إلا تَرْكَ إيجاب صومه، إذ علمنا أن كتاب الله بيَّن لهم أن شهر رمضان المفروضُ صومه، وأبان لهم ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أو تَرْكَ استحباب صومه (1)، وهو أولى الأمور عندنا، لأن حديث ابن عمر ومعاوية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لم يكتب صوم يوم عاشوراء على الناس». ولعل عائشة ــ إن كانت ذهبت إليه: أنه كان واجبًا ثم نسخ ــ قالته لأنه يحتمل أن تكون رأت النبي - صلى الله عليه وسلم - لمّا صامه وأمر بصومه كان صومه فرضًا، ثم نسَخَه تَرْكُ أمرِه من شاء أن يدع صومه. ولا أحسبها ذهبت إلى هذا، ولا ذهبت إلا إلى المذهب الأول، لأن الأول هو الموافق للقرآن: أن الله فرض الصوم فأبان أنه شهر رمضان، ودل حديث ابن عمر ومعاوية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[على] مثل معنى القرآن، بأن لا فرض في الصوم إلا رمضان، وكذلك قول ابن عباس: «ما علمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام يوما يتحرَّى فضله على الأيام إلا هذا اليوم، يعني يوم عاشوراء»، كأنه يذهب بتحرِّي فضله: في التطوع بصومه. آخر كلامه. _________ (1). كذا في الأصل وبعض الأصول الخطية لـ «مختلف الحديث» (10/ 81 - الهامش)، وفي طبعة بولاق: «وترَك إيجابَ صومه»، وهو أوفق للسياق، فليحرّر.

(2/169)


قالوا: وأما حجتكم الثالثة بأنه لم يأمرهم بالقضاء، فجوابه من وجهين: أحدهما: أنا قد ذكرنا حديث أبي داود: «أنهم أُمِروا بالقضاء»، وقد اختلف في هذا الحديث، فإن كان ثابتًا فهو دليل على الوجوب. وإن لم يكن ثابتًا، فإنما لم يؤمروا بالقضاء لعدم تقدُّم الوجوب (1)، إذ الوجوب إنما ثبت عند أمره، فاكتفى منهم بإمساك ما بقي، كالصبي يبلغ، والكافر يسلم، والله أعلم.

  42 - باب صوم الثلاث من كل شهر

261/ 2339 - عن ابن مِلْحان القَيسيِّ عن أبيه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نصومَ البِيضَ: ثلاثَ عَشْرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة، قال: وقال: «هُنَّ كهيئة الدَّهْر». وأخرجه النسائي وابن ماجه (2). واختلف في ابن ملحان هذا، فقيل: هو قتادة بن ملحان القيسي، وله صحبة، والحديث في مسنده. وقيل: هو ملحان بن شِبل، والد عبد الملك بن ملحان، والحديث من _________ (1). هذا وما يأتي من تعليله هو الوجه الثاني في الجواب عن الحجة الثالثة. (2). أبو داود (2449)، والنسائي (2432)، وابن ماجه (1707) من رواية همّام بن يحيى العَوذي، عن أنس بن سيرين، عن عبد الملك بن قتادة بن ملحان (ولم يُسمّه أبو داود) عن أبيه. وأخرجه أحمد (17513)، وابن ماجه (1707)، وابن حبّان (3651) من رواية شعبة، عن أنس، عن عبد الملك بن المنهال عن أبيه. قال ابن ماجه: أخطأ شعبة وأصاب همّام.

(2/170)


مسنده. وقال يحيى بن معين: وهو الصواب. وقيل: إنه منهال بن ملحان القيسي، والد عبد الملك، قال ابن معين: وهو خطأ. وقال أبو عمر النمري (1): وحديث همّام أيضًا خطأ، والصواب: ما قال شعبة، وليس همام ممن يعارَض به شعبة. وذكر خلاف هذا في موضع آخر فقال (2): يقال: إن شعبة أخطأ في اسمه، إذ قال فيه: منهال بن ملحان. قال: وقال البخاري (3): حديث همام أصح من حديث شعبة. قال: ومنهال بن ملحان لا يُعرف في الصحابة، والصواب: قتادة بن ملحان القيسي، تفرد بالرواية عنه ابنه عبد الملك بن قتادة، يُعَدُّ في أهل البصرة. وقال أبو القاسم البغوي في «معجم الصحابة» (4): المنهال، أبو عبد الملك بن المنهال: رجل من بني قيس بن ثعلبة، نزل البصرة ــ وذكر عنه هذا الحديث. وقال في حرف القاف (5): قتادة بن ملحان القيسي، سكن البصرة، وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا ــ وذكر له هذا الحديث. فظاهر هذا أنهما عنده اثنان، غير أنه ذكر بعد هذا أن شعبة خالف همامًا، فقال فيه: عبد الملك بن منهال القيسي عن أبيه. وقال بعضهم: لعل أبا داود أسقط اسمه لأجل هذا الاضطراب. _________ (1). «الاستيعاب» (4/ 1483 - 1484)، وفيه كلام ابن معين أيضًا. (2). «الاستيعاب» (3/ 1274). (3). انظر: «التاريخ الكبير» (5/ 429). (4). ليس في القدر المطبوع، إذ آخر اسم فيه «مرثد بن ربيعة»، وما بعده إلى آخر الكتاب لا يزال مفقودًا. (5). (4/ 206).

(2/171)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي (1) عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أبا ذر، إذا صمت من الشهر ثلاثةً، فَصُمْ ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة». وفي «صحيح مسلم» (2) عن أبي قتادة يرفعه: «ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان فهذا صيام الدهر كله». وروى النسائي (3) عن جرير بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيامُ الدهر: أيام البيض صبيحةَ ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة». وروي أيضًا عن أبي هريرة قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأرنب قد شواها فوضعها بين يديه، فأمسك فلم يأكل وأمر القوم أن يأكلوا، وأمسك الأعرابي، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما منعك أن تأكل؟» قال: إني أصوم ثلاثة أيام _________ (1). أحمد (21437)، والترمذي (761)، والنسائي (2424) من طريق موسى بن طلحة بن عبيد الله، عن أبي ذر. والحديث حسَّنه الترمذي، وصححه ابن خزيمة (2128) وابن حبان (3655، 3656). وقد وقع في هذا الحديث اختلاف عن موسى بن طلحة، فروي عنه عن أبي ذر كما سبق، وعنه عن ابن الحَوتكية عن أبي ذر، وعنه عن أبي هريرة، وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا. انظر: «سنن النسائي» (2421 - 2429)، و «صحيح ابن خزيمة» (2127)، و «علل الدارقطني» (239). (2). برقم (1162). (3). برقم (2420) من طريق أبي إسحاق السبيعي، عن جرير. إسناده صحيح إن سَلِم من تدليس أبي إسحاق وإرساله.

(2/172)


من كل شهر، قال: «إن كنت صائمًا فصم الغُرَّ» (1).

  43 - من قال: لا يُبالي مِن أيِّ الشهر (2)

262/ 2341 - عن حفصة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم ثلاثة أيام من الشهر: الاثنين، والخميس، والاثنين من الجمعة الأخرى. وأخرجه النسائي (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روي صيامها على صفة أخرى، فعن عائشة قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر: الثلاثاء والأربعاء والخميس» رواه الترمذي (4) وقال: حديث _________ (1). أخرجه أحمد (8434)، والنسائي (2421)، وابن حبان (3650)، من طريق عبد الملك بن عمير، عن موسى بن طلحة، عن أبي هريرة. عبد الملك بن عمير مضطرب الحديث كما قال الإمام أحمد، وقد خالفه غيره فرواه عن موسى بن طلحة، عن ابن الحَوتكية، عن أبي ذر؛ كما عند النسائي (4311) وابن خزيمة (2127)، وهو أصح، على أن ابن حبان يقول: «والطريقان جميعان محفوظان». (2). كذا الترجمة في الأصل، وفي «السنن» و «المختصر» وردت هذه الترجمة في الباب التالي، وفيه حديث عائشة: «ما كان يُبالي من أي الشهر كان يصوم» تعني: صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - للأيام الثلاثة، وكانت الترجمة فيهما هاهنا: «باب من قال: الاثنين والخميس»، فلعل المؤلف هذّب ذلك بدمج أحاديث البابين تحت ترجمة ثانيهما. والله أعلم. (3). أبو داود (2451)، والنسائي (2366)، من طريق عاصم بن أبي النجود، عن سواء الخزاعي، عن حفصة. وسواء فيه جهالة حال، وقد اختُلف على عاصم في إسناده كما سبق (ص 156). (4). برقم (746) من طريق أبي أحمد الزبيري ومعاوية بن هشام، كلاهما عن سفيان الثوري، عن منصور، عن خيثمة، عن عائشة - رضي الله عنها - مرفوعًا. قال الترمذي: «حديث حسن، وروى عبد الرحمن بن مهدي هذا الحديث عن سفيان ولم يرفعه»، أي رواه موقوفًا من فعل عائشة - رضي الله عنها -، وهو الصواب، فإن أبا أحمد الزبيري يخطئ في حديث الثوري، ومعاوية بن هشام صدوق كثير الخطأ، وقد خالفهما الإمام الحافظ الثبت الحجة عبد الرحمن بن مهدي فوقفه ولم يرفعه.

(2/173)


حسن. وقد روي فيها صفة أخرى: فعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر: يوم الاثنين من أول الشهر، ثم الخميس الذي يليه، ثم الخميس الذي يليه» رواه النسائي (1). وقد جاءت (2) على صفة أخرى، فعن هنيدة الخزاعي [عن أمه] عن أم سلمة قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بصيام ثلاثة أيام: أول خميس، والاثنين، والاثنين» رواه النسائي (3). _________ (1). برقم (2414) من طريق شريك القاضي، عن الحرّ بن الصيّاح، عن ابن عمر. شريك بن عبد الله القاضي صدوق سيئ الحفظ، وقد أخطأ في إسناده كما نصّ عليه الحافظان الرازيّان، والصواب: عن الحرّ، عن هُنيدة بن خالد، عن امرأته، عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -. هكذا رواه أبو عوانة وغيره عن الحرّ، وقد سبق (ص 156 - 157). وانظر: «العلل» لابن أبي حاتم (671). (2). في الطبعتين: «جاء» خلافًا للأصل. (3). رقم (2419) من طريق الحسن بن عبيد الله النخعي، عن هُنيدة به. والحسن قد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث ــ وقد سبق بيانه (ص 157) ــ، واختلف عليه أيضًا في لفظه، ففي رواية أبي داود (2452) من الطريق نفسه: «الاثنين، والخميس، والخميس»، وفي رواية أحمد (26480) من الطريق نفسه: «الاثنين والجمعة والخميس». والصواب في إسناده ومتنه: رواية أبي يعلى (6898) والطبراني (23/ 421) من طريق الحسن، عن الحرّ بن الصيّاح، عن هنيدة، عن امرأته، عن أم سلمة بلفظ: «الاثنين، والخميس، والخميس الذي يليه».

(2/174)


 44 - باب النية في الصيام

263/ 2344 - عن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن لم يُجْمِع الصيامَ قبل الفجر فلا صيام له». وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (1). وقال أبو داود: رواه الليث وإسحاق بن حازم أيضًا، جميعًا عن عبد الله بن أبي بكر مثله ــ يعني مرفوعًا ــ. ووقفه على حَفْصة: مَعْمَرٌ والزُّبَيدي وابن عُيينة ويونس الأيْلي، كلهم عن الزهري. وقال الترمذي: لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، وقد روي عن نافع عن ابن عمر قولَه (2)، وهو أصح (3). وقال الدارقطني (4): رفعه عبد الله بن أبي بكر عن الزهري، وهو من الثقات الرفعاء. _________ (1). أبو داود (2454)، والترمذي (730)، والنسائي (2332)، كلهم من طريق يحيى بن أيوب الغافقي، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن حفصة مرفوعًا. وأخرجه ابن ماجه (1700) من طريق إسحاق بن حازم، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن سالم به. (2). أخرجه النسائي (2342، 2343) من طريق مالك ــ وهو في «الموطأ» (788) ــ وعبيد الله العمري، كلاهما عن نافع به. (3). وهو قول البخاري، نقله عنه الترمذي في «العلل الكبير» (ص 118). (4). في «السنن» (2216). وأما في «العلل» (3939) فقال: «ورفعه غير ثابت».

(2/175)


وقال الخطابي (1): عبد الله بن أبي بكر بن عمرو قد أسنده، وزيادات الثقات مقبولة. قال ابن القيم - رحمه الله -: قال النسائي (2): الصواب عندنا موقوف، ولم يصح رفعه. ومدار رفعه على ابن جريج وعبد الله بن أبي بكر. فأما حديث عبد الله بن أبي بكر، فمِن رواية يحيى بن أيوب عنه. قال النسائي: «ويحيى بن أيوب ليس بالقوي (3)، وحديث ابن جريج عن الزهري غير محفوظ (4)». وقال البيهقي (5): عبد الله بن أبي بكر أقام إسناده ورفعه، وهو من الثقات الأثبات. آخر كلامه. وقد روي من حديث عمرة عن عائشة، واختلف عليها في وقفه ورفعه، فرواه الدارقطني (6) عنها مرفوعًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من لم يُبيِّت الصيامَ قبل طلوع الفجر [ق 142] فلا صيام له». قال الدارقطني: «تفرد به عبد الله بن عباد عن المفضل ــ يعني ابن _________ (1). «المعالم» (3/ 333). (2). في «الكبرى» عقب الحديث (2661). (3). لكنه لم ينفرد به عن عبد الله بن أبي بكر، بل تابعه إسحاق بن حازم عنه، وهو ثقة. (4). وقد قال ابن معين: ابن جريج ليس بشيء في الزهري، كما في «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (5/ 356). (5). «السنن الكبرى» (4/ 202). (6). برقم (2213).

(2/176)


فضالة ــ بهذا الإسناد، وكلهم ثقات» (1)، وغيره يرويه موقوفًا على عائشة، قاله عبد الحق (2).

  45 - باب في الرخصة فيه

264/ 2345 - عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل عليَّ قال: «هل عندكم طعام؟» فإذا قلنا: لا، قال: «إني صائم». زاد وكيع: فدخل علينا يومًا آخر، فقلنا: يا رسول الله، أُهْدِيَ لنا حَيْسٌ، فحبسناه لك، فقال: «أدْنيه» فأصبح صائمًا، وأفطر. وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي (3). وفي رواية لمسلم (4): «فإني إذًا صائم»، ولفظ البيهقي (5): «فإني إذًا أصوم». قال ابن القيم - رحمه الله -: زاد النسائي (6): فأكل وقال: «ولكن أصوم يومًا _________ (1). قال ابن عبد الهادي متعقبًا كلامه: «وفي قوله نظر، فإن عبد الله بن عبّاد غير مشهور، ويحيى بن أيوب ليس بالقوي، وقد اختلف عليه فيه ... قال أبو حاتم بن حبان: عبد الله بن عباد البصري، شيخ سكن مصر، يقلب الأخبار، روى عن المفضل بن فضالة، عن يحيى بن أيوب، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة ... وهذا مقلوب، إنما هو عند يحيى بن أيوب عن عبد الله بن أبي بكر، عن الزهري ... ». انظر: «تنقيح التحقيق» (3/ 178). (2). «الأحكام الوسطى» (2/ 214). (3). أبو داود (2455)، ومسلم (1154/ 169)، والترمذي (734)، والنسائي (2325 - 2328)، من طرق عن طلحة بن يحيى، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة. (4). (1154/ 170). (5). «السنن الكبرى» (4/ 203) دون قوله: «فإني». (6). في «الكبرى» (3286).

(2/177)


مكانه»، ثم قال: هذا خطأ. قال عبد الحق (1): قد روى الحديث جماعة عن طلحة فلم يذكر أحد منهم: «ولكن أصوم يومًا مكانه»، وهذه الزيادة هي من رواية سفيان بن عيينة عن طلحة (2). ولفظ النسائي (3) فيه: عن مجاهد عن عائشة قالت: دخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فقال: «هل عندكم شيء؟» فقلت: لا. فقال: «فإني صائم». ثم مرّ بي بعد ذلك اليوم، وقد أهدي لنا حيس فخَبَأْت له منه، وكان يحبّ الحيس، قالت: يا رسول الله، إنه أهدي لنا حيس، فخبأت لك منه، قال: «أَدْنيه، أما إني قد أصبحتُ وأنا صائم»، فأكل منه، ثم قال: «إنما مَثَل صوم المتطوّع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة، فإن شاء أمضاها، وإن شاء حبسها». وفي لفظ للنسائي (4): «يا عائشة إنما منزلة من صام في غير رمضان، أو في غير قضاء رمضان، أو في التطوع، بمنزلة رجل أخرج صدقة ماله فجاد _________ (1). «الأحكام الوسطى» (2/ 228). (2). لم يكن ابن عيينة يذكرها عامّة دهره، ثم حدّث بها في آخر عمره. انظر: «سنن البيهقي» (4/ 275). (3). «المجتبى» (2322) و «الكبرى» (2643)، وإسناده صحيح إلا أن قوله: «إنما مثل صوم المتطوع ... » إلخ مدرَج من قول مجاهد، كما هو مبيَّن في رواية مسلم (1154/ 169). (4). «المجتبى» (2324) و «الكبرى» (2644)، وفي إسناده شريك بن عبد الله القاضي، صدوق يخطئ، والظاهر أن الوهم منه حيث جعل قول مجاهد المدرَج مِن صريح لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد اختُلف عليه فيه، فقد أخرج ابن ماجه (1701) الحديث من طريقه فجعل فيه التمثيل من قول عائشة - رضي الله عنها -.

(2/178)


منها بما شاء فأمضاه، وبخل بما بقي فأمسكه». وفي لفظ له (1) عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا فقال: «هل عندكم من طعام؟» قلت: لا. قال: «إني إذًا أصوم». قالت: ثم دخل مرة أخرى، فقلت: قد أهدي لنا حَيس، فقال: «إذًا أُفطِر، وقد فرضتُ الصوم». وفيه حجة على المسألتين: جواز إنشاء صوم التطوع بنية من النهار، وجواز الخروج منه بعد الدخول فيه. وأما زيادة النسائي ــ تمثيله بالصدقة يخرجها الرجل ــ فهذا اللفظ قد رواه مسلم في «صحيحه» (2) من قول مجاهد، قال طلحة بن يحيى: فحدَّثتُ مجاهدًا بهذا الحديث، فقال: «ذلك بمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله، فإن شاء أمضاها، وإن شاء أمسكها».

  46 - باب من رأى عليه القضاء

265/ 2347 - عن عائشة قالت: أُهْدِيَ لي ولحفصةَ طعامٌ، وكنا صائمتين، فأفطرنا، ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلنا له: يا رسول الله، إنا أُهديت لنا هدية فاشتهيناها فأفطرنا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا عليكما، صُومَا مَكانَهُ يومًا آخر». وأخرجه النسائي (3). _________ (1). «المجتبى» (2330) و «الكبرى» (2651)، وإسناده حسن. (2). (1154/ 169). (3). أبو داود (2457)، والنسائي في «الكبرى» (3277) من طريق زُمَيل مولى عروة، عن عروة، عن عائشة.

(2/179)


وقال البخاري (1): لا نعرف لزُميل سماعًا من عروة، ولا ليزيد من زُميل، ولا تقوم به الحجة. (2) وقال الخطابي (3): إسناده ضعيف وزُميل مجهول. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى النسائي (4) حديث الأمر بالقضاء من حديث جرير بن حازم، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وتابعه الفَرَج بن فضالة عن يحيى (5)، قال الدارقطني (6): وَهِم فيه جرير وفرج، وخالفهما حماد بن زيد، وعباد بن العوام، ويحيى بن أيوب، فرووه عن يحيى بن سعيد عن الزهري مرسلًا. وقد رواه النسائي (7) أيضًا من حديث جعفر بن بُرقان، حدثنا الزهري عن عروة، عن عائشة به، وقال: «اقضيا يومًا آخر». _________ (1). «التاريخ الكبير» (3/ 450). (2). هنا في مطبوعة «المختصر» ومخطوطته: «وأخرجه مسلم». ولا وجه له، ولعله كان لحقًا في الهامش على حديث آخر، فنُقِل هنا سهوًا. (3). «معالم السنن» (3/ 335). (4). في «الكبرى» (3282). (5). رواه أبو إسحاق المُزكِّي (ت 362) في «المزكّيات» انتقاء وتخريج الدارقطني (ص 131)، والفَرَج ضعيف لاسيما في روايته عن يحيى بن سعيد. (6). في «العلل» (3818)، وانظر كلامه أيضًا في «المزكيّات» (ص 131 - 133). (7). في «الكبرى» (3278)، وجعفر بن برقان ضعَّفه الأئمة في روايته عن الزهري. انظر: «تهذيب الكمال» (1/ 455 - 457).

(2/180)


ومن حديث سفيان (1)، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة به، وفيه: «فأمرها (2) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تصوم يومًا مكانه» (3). وذكر النسائي (4) أنه أيضًا من رواية إسماعيل بن عقبة وصالح بن كيسان. فقد برئ زميل من عهدة التفرد به، وتابعهم أيضًا يحيى بن سعيد عن ابن شهاب. فهؤلاء: سفيان، وجعفر بن برقان، وصالح بن كيسان، وإسماعيل بن عقبة، ويحيى بن سعيد (على اختلاف عنه عن ابن شهاب الزهري وصلًا وإرسالًا) = كلهم يذكر الأمر بالقضاء زيادةً على رواية زميل، وجرير بن حازم وفَرَج بن فضالة عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة. فالذي يغلب على الظن أن اللفظة محفوظة في الحديث، وتعليلها بما ذُكر قد تبيّن ضعفُه. ولكن قد يقال: الأمر بالقضاء أمرُ ندبٍ، لا أمر إيجاب. وبالله التوفيق. _________ (1). أي: ورواه النسائي في «السنن الكبرى» (3279) من حديث سفيان. وهو سفيان بن حسين الواسطي، وهو ثقة إلا في حديث الزهري. قال النسائي عقب الحديث (3820): «وسفيان بن حسين وجعفر بن برقان ليسا بالقويَّين في الزهري». (2). في الأصل وط. المعارف: «فأمره»، وفي ط. الفقي: «فأمرهما ... يصوما»، والمثبت من «السنن الكبرى». (3). هذا لفظ رواية إسماعيل بن عقبة عن الزهري به، وهي الآتي ذِكرها، وأما رواية سفيان بن حسين فلفظها: «أَبْدلا يومًا مكانَه». (4). «السنن الكبرى» (3281)، وهو من طريق يحيى بن أيوب الغافقي، عن كلا المذكورَين، ويحيى في حفظه لين. وقال النسائي عن حديثه هذا: «وهذا أيضًا خطأ».

(2/181)


 47 - باب المرأة تصوم بغير إذن زوجها

266/ 2349 - وعن أبي سعيد ــ وهو الخدري ــ قال: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن عنده، فقالت: يا رسول الله، إن زوجي صَفْوان بن المعطَّل السُّلَمي يضربني إذا صليتُ، ويُفطِّرني إذا صمت، ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلُع الشمس، قال: وصفوانُ عنده، قال: فسأله عما قالت، فقال: يا رسول الله، أمَّا قولها: يضربني إذا صليت، فإنها تقرأ بسورتَين (1)، وقد نهيتُها، قال: فقال: «لو كانت سورة واحدة لكفت الناسَ». وأمَّا قولها: يفطرني، فإنها تنطلق فتصوم، وأنا رجلٌ شاب فلا أصبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ: «لا تصوم امرأة إلا بإذن زوجها». وأمَّا قولها: إني لا أصلي حتى تطلُعَ الشمس، فإنَّا أهلُ بيتٍ قد عُرف لنا ذاك، لا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس، قال: «فإذا استيقظت فصلِّ» (2). قال أبو بكر البزار (3): هذا الحديث كلام منكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان صفوان من خيار الصحابة، وإنما أتى نُكرة هذا الحديث أن الأعمش لم يقُل: حدثنا أبو صالح، فأحتسب أخذه عن غير ثقةٍ وأمسك عن ذكر الرجل، فصار الحديث ظاهرُ _________ (1). كذا في «المختصر» المطبوع والمخطوط و (هـ). وفي «السنن»: «بسورتي» بحذف النون، وقد ضُبط بفتح التاء في بعض الأصول الخطية، منها النسخة المقروءة على المنذري بإسناده إلى اللؤلؤي، ويؤيده لفظ «المختصر» و «مسند أحمد» (11759): «بسورتين»، فيكون ذلك على نيّة الإضافة: أي سورتَي كذا وكذا من السُور الطوال. ويحتمل كسر التاء على الإضافة إلى ياء المتكلم، ويؤيده لفظ الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (2044): «فإنها تقوم بسورتِي التي أقرأ بها فتقرأ بها»، ولينظر توجيهه ثَم. (2). «سنن أبي داود» (2459)، وأخرجه أيضًا أحمد (11759)، وابن حبان (1488)، والحاكم (1/ 436)؛ كلهم من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد. (3). ليس في القدر المطبوع من «المسند».

(2/182)


إسناده حَسَن، وكلامه منكر لما فيه، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمدح هذا الرجل ويذكره بخير. وليس للحديث عندي أصل (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال غيره (2): ويدل على أن الحديث وهم لا أصل له أن في حديث الإفك (3) المتفق على صحته (4) قالت عائشة: «وإن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول: سبحان الله! فوالذي نفسي بيده ما كشفت عن كَنَف أنثى قط! قالت: ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله شهيدًا». وفي هذا نظر، فلعله تزوج بعد ذلك. والله أعلم.

  48 – الاعتكاف

267/ 2353 - وعن أُبَيِّ بن كعب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكفُ العشر الأواخر من رمضان حتى قبضه الله، فلم يعتكف عامًا، فلما كان في العام المقبل اعتكفَ عشرين ليلة. وأخرجه النسائي وابن ماجه (5). قال ابن القيم - رحمه الله -: [قيل يحتمل أن يكون اعتكافه في ذلك العام عشرين لما عارضه جبريل بالقرآن في سنةٍ مرّتين، قال: «إني لا أرى الأجلَ _________ (1). هذه الفقرة من كلام المنذري في نقله عن البزار أشار إليها المجرّد، وليست في متن «المختصر» المطبوع، وإنما استدركت في هامشه من «عون المعبود»، وهي ثابتة في مخطوطة «المختصر» (النسخة البريطانية)، وأيضًا في (هـ)، واللفظ المثبت منه. (2). انظر: «التاريخ الأوسط» للبخاري (1/ 386)، ففيه إشارة إلى نحو هذا التعليل. (3). (هـ): «الأول»، تصحيف. (4). البخاري (4141) ومسلم (2770/ 58). (5). أبو داود (2463)، والنسائي في «الكبرى» (3330، 3375)، وابن ماجه (1770).

(2/183)


إلا قد اقترب» (1)، فاعتكف في ذلك العام عشرين يومًا اقتداء بما فعله جبريل من المعارضة ... (2) عند قرب الأجل. وقد روى ابن ماجه في «سننه» (3) عن أنس بن مالك: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان مقيمًا اعتكف العشر الأواخر، وإذا سافر اعتكف من العام المقبل عشرين»] (4)، وإسناده حسن. وروى النسائي في «سننه» (5) عن أُبيّ بن كعب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فسافر عامًا فلم يعتكف، فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين. وفي رواية (6): «ليلة». وهذا أولى من الاحتمال المذكور. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون هذان العشران المذكورةُ (7) في حديث أبي داود هي العشرَ الذي كان يعتكفه، والعشرَ الذي تركه من أجل _________ (1). أخرجه البخاري (6285) من حديث عائشة. (2) قدر ثلاث كلمات أتى عليها الشريط اللاصق فلم تتضح. (3). ليس فيه، وإنما أخرجه أحمد (12017)، والترمذي (803) وقال: حسن صحيح غريب، وابن خزيمة (2226)، وابن حبان (3662)، والحاكم (1/ 439). (4). ما بين الحاصرتين مثبت من (هـ) وليس في الأصل، وإنما فيه: «قال [أي ابن القيم] تتمةً لكلام المنذري: أخرجه ابن ماجه وإسناده حسن». أخشى أن يكون وهم المجرّد فظنّ أن تحسين ابن القيم يتعلّق بحديث الباب الذي قال عنه المنذري: «وأخرجه النسائي وابن ماجه». (5). «السنن الكبرى» (3330). (6). «السنن الكبرى» (3375). (7). كذا في الأصل، وفي ط. الفقي: «المذكوران».

(2/184)


أزواجه (1)، ثم اعتكف من شوال عشرين ليلة. وهذا فاسد، فإن الحديث حديث أبي بن كعب، وقد أخبر أنه إنما تركه لسفره. وبالله التوفيق. 268/ 2354 - وعن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يعتكفَ صلى الفجر ثم دخل مُعْتكَفَه، قالت: وإنه أراد مَرَّة أن يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، قالت: فأمرَ بِبنائِه فضُربَ، فلما رأيتُ ذلك أمرتُ ببنائي فضُرب، قالت: وأمر غيري من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ببنائه (2) فضُرب، فلما صلّى الفجرَ نظر إلى الأبنية، فقال: ما هذه؟ آلْبِرَّ تُرِدن؟ قالت: فأمر ببنائه فَقُوِّض، وأمر أزواجُه بأبنيتهن فقوضت، ثم أخَّر الاعتكاف إلى العشر الأُوَل ــ تعني من شوال ــ (3). وفي رواية: «عشرين من شوّال» (4). وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (5). قال ابن القيم - رحمه الله -: [واحتجّ به من يرى أن النوافل لا تلزم بالشروع، وإلا لما قطعه. واحتج به من يقول بلزومها، قال: لأنه قضاه. ولا يدل على هذا لأنه ليس في الحديث أنه كان قد دخل معتكفه، وإنما فيه أنه لمّا صلّى _________ (1). كما سيأتي في الحديث الآتي. (2). كذا لفظ الحديث، وتذكير الضمير باعتبار لفظ «غير». (3). «سنن أبي داود» (2464)، وهو في «الصحيحين»، كما سيأتي. (4). ذكرها أبو داود عقب الحديث وعزاها لمالك، والذي في «الموطأ» (880): «عشرًا من شوّال». (5). أبو داود (2464)، والبخاري (2034)، ومسلم (1172)، والترمذي (791)، والنسائي (709)، وابن ماجه (1771).

(2/185)


الفجر نظر إلى تلك الأبنية. قيل: إنه دخل معتكفه، فلمّا رآها ترك الدخول في الاعتكاف، لا أنه قطعه بعد الشروع. والله أعلم] (1). [ق 143] وقد احتج به من لا يرى الصوم شرطًا في الاعتكاف لدخول يوم العيد في اعتكافه. وهذا لا يدل، فإن الحديث رواه البخاري (2) فقال (3): «حتى اعتكف عشرًا من شوال» لم يذكر غيره. وفي «صحيح مسلم» (4): «اعتكف في العشر الأول من شوال». وهذا لا يقتضي دخول يوم العيد فيه، كما يصح أن يقال: «صام في العشر الأول من شوال». وفي لفظ له (5): «حتى اعتكف في آخر العشر من شوال»، وعدم الدلالة في هذا ظاهر (6). _________ (1). هذه الفقرة ليست في الأصل، وإنما استدركت من (هـ)، وأخشى أن يكون ظنّها المجرد من كلام المنذري فلم ينقلها، لأنه قال: «قال ابن القيم بعد كلام المنذري: وقد احتج ... ». وكلام المنذري في «المختصر» (ق 2/ 187 - النسخة البريطانية) إنما هو عن قضاء النوافل المعتادة، وليس عن لزومها بالشروع وعدمه، ولكن لعله لمّا كان في آخره نوع اشبتاه بما ذكره المؤلف هنا، ظن المجرد أن الكلام للمنذري وليس من زيادات المؤلف. (2). برقم (2034)، وبنحوه (2033، 2045). (3). في الأصل: «وقال»، والمثبت من (هـ). (4). برقم (1172). (5). الظاهر أن الضمير يرجع إلى مسلم، ولكن هذا اللفظ إنما هو عند البخاري (2041). (6). في الأصل: «ظاهرة»، والصواب ما أثبت.

(2/186)


وقولها: «اعتكف العشر الأول من شوال»، ليس بنص في دخول يوم العيد في اعتكافه، بل الظاهر أنه لم يُدخله في اعتكافه، لاشتغاله فيه بالخروج إلى المصلى، وصلاةِ العيد وخطبته، ورجوعه إلى منزله لفطره. وفي ذلك ذهاب بعض اليوم، فلا يقوم بقية اليوم مقامَ جميعه.

  49 - المعتكف يعود المريض

269/ 2363 - وعنها أنها قالت: «السُّنة على المعتكف أن لا يعود مريضًا، ولا يشهد جنازة، ولا يَمَسَّ امرأة، ولا يُباشرها، ولا يخرج لحاجة إلّا لما لابدَّ منه، ولا اعتكافَ إلا بصوم، ولا اعتكافَ إلّا في مسجد جامع» (1). قال أبو داود: غيرُ عبد الرحمن بن إسحاق لا يقول فيه: «قالت: السنَّة». وأخرجه النسائي (2) من حديث يونس بن يزيد، وليس فيه «قالت: السنة». وأخرجه (3) من حديث مالك، وليس فيه ذلك. وعبد الرحمن هذا هو القرشي المديني، يقال له: عَبَّاد. قد أخرج له مسلم في «صحيحه»، ووثقه يحيى بن معين، وأثنى عليه غيره، وتكلم فيه بعضهم (4). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال الدارقطني (5): يقال: إن قوله «والسنة على المعتكف» إلى آخره، من كلام الزهري، ومن أدرجه في الحديث فقد _________ (1). أبو داود (2473)، من طريق عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها -. (2). في «الكبرى» (3356). (3). في «الكبرى» (3357)، وهو في «الموطأ» (867). (4). انظر: «تهذيب الكمال» (4/ 369). (5). «السنن» عقب الحديث (2363).

(2/187)


وهم. [وقال البيهقي (1): وقد ذهب كثير من الحفّاظ إلى أن هذا الكلام مِن قول مَن دون عائشة، ومن أدرجه في الحديث فقد وهم] (2) فيه. قلت: عبد الرحمن هذا قال فيه أبو حاتم: لا يحتج به (3). وقال البخاري: ليس ممن يعتمد على حفظه (4). وقال الدارقطني: ضعيف يُرمى بالقدر. وأيضًا فإن الحديث مختصر، وسياقه يدل على أنه ليس مجزومًا برفعه. وقال الليث: حدثني عقيل عن الزهري [عن عروة] (5) عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده، والسنة في المعتِكف أن لا يخرج إلا لحاجته التي لا بد منها، ولا يعود مريضًا، ولا يمَس امرأته ولا يباشرها، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع، والسنة فيمن اعتكف أن يصوم (6). _________ (1). في «السنن الكبرى» (4/ 321). (2). ما بين الحاصرتين من (هـ)، ولعله سقط من الأصل لانتقال النظر، ثم إن كلام الدارقطني وقع في الأصل في آخر المبحث، وفي (هـ) وقع في هذا الموضع مع كلام البيهقي، وهو أنسب، ولعلّه كان في اللحق فلم يهتد المجرّد إلى موضعه فأثبته في آخره. (3). كلامه بتمامه: «يكتب حديثه ولا يحتج به». «الجرح والتعديل» (5/ 213). (4). تتمة كلامه في «تهذيب الكمال»: « ... إذا خالف من ليس بدونه، وإن كان ممن يُحتمَل في بعضٍ». (5). لعله سقط من الأصل لانتقال النظر، وهو ثابت في (هـ). (6). أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (4/ 315 - 316، 320) وفي «معرفة السنن» (9094)، من طريق الليث به. وهو في البخاري (2026) ومسلم (1172/ 5) من طريق الليث به، دون قوله: «والسنة في المعتكِف ... » إلخ.

(2/188)


قال الدارقطني (1): قوله: «والسنة في المعتكف» إلى آخره ليس من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو من قول الزهري، ومن أدرجه في الحديث فقد وهم. ولهذا ــ والله أعلم ــ ذكر صاحبا «الصحيح» أوله، وأعرضا عن هذه الزيادة. وقد رواه سويد بن عبد العزيز، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة ترفعه: «لا اعتكاف إلا بصيام» (2). وسويد قال فيه أحمد: متروك، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال النسائي وغيره: ضعيف (3). وسفيان بن حسين في الزهري ضعيف. 270/ 2364 - وعن ابن عمر: أن عمر - رضي الله عنه - جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلةً أو يومًا عند الكعبة، فسأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «اعتكف وصُمْ». وأخرجه النسائي (4). 271/ 2365 - وفي رواية لأبي داود (5): قال: فبينما هو معتكف إذ كبَّر _________ (1). عقب الحديث (2363). (2). أخرجه الدارقطني (2356)، والحاكم (1/ 440)، والبيهقي (4/ 317). قال الدارقطني: «تفرد به سويد، عن سفيان بن حسين»، وأشار الحاكم (1/ 439) إلى ضعفه، وقال البيهقي: «وهذا وهم من سفيان بن حسين أو من سويد بن عبد العزيز، وسويد بن عبد العزيز الدمشقي ضعيف بمرة لا يقبل منه ما تفرد به». (3). انظر: «تهذيب الكمال» (3/ 339). (4). أبو داود (2474)، والنسائي في «الكبرى» (3341). وأخرجه الدارقطني (2360، 2361)، والحاكم (1/ 439) وأشارا إلى ضعفه. (5). أبو داود (2475).

(2/189)


الناس، فقال: ما هذا يا عبد الله؟ قال: سَبْيُ هوازن أعتقهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: وتلك الجاريةُ فأَرسِلْها معهم. فيه عبد الله بن بُديل بن وَرْقاء الخزاعي المكي، وهو ضعيف. وقال ابن عدي (1): ولا أعلم ذُكر في هذا الإسناد ذِكر الصوم مع الاعتكاف، إلا من رواية عبد الله بن بُديل عن عمرو بن دينار. وقال الدارقطني (2): تفرد به ابن بُديل عن عمرو، وهو ضعيف الحديث. وقال أيضًا (3): سمعت أبا بكر النيسابوري يقول: هذا حديث منكر، لأن الثقات من أصحاب عمرو لم يذكروه ــ يعني الصوم ــ منهم ابن جريج وابن عيينة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وغيرهم، وابن بُديل ضعيف الحديث، تمَّ كلامه. وقد أخرجاه في «الصحيحين» (4)، وليس فيه ذكر الصوم. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى الدارقطني هذا الحديث في «سننه» (5) عن نافع عن ابن عمر، أن عمر نذر أن يعتكف في الشرك ويصوم، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك بعد إسلامه، فقال: «أوف بنذرك». قال: هذا إسناد حسن، تفرد بهذا اللفظ سعيد بن بشير (6). _________ (1). في «الكامل» (4/ 214). (2). عقب الحديث (2360). (3). عقب الحديث (2361). (4). البخاري (2032) ومسلم (1656). (5). برقم (2365). وأخرجه أيضًا البيهقي (4/ 317)، كلاهما من طريق سعيد بن بشير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع به. (6). كذا قال الدارقطني، وقال البيهقي: «ذكر نذر الصوم مع الاعتكاف غريب، تفرد به سعيد بن بشير». قلتُ: وهو ليس ممن يُحتَمل تفرّده، لاسيما وقد خالف الأئمةَ الأثبات كشعبة والثوري ويحيى القطان وابن المبارك وغيرهم ممن روى هذا الحديث عن عبيد الله دون ذكر نذر الصوم، فهي ــ بلا شك ــ زيادة منكرة من سعيد بن بشير.

(2/190)


وروى الدارقطني (1) أيضًا عن عائشة ترفعه: «لا اعتكاف إلا بصيام». قال: تفرد به سويد بن عبد العزيز، عن سفيان بن حسين، عن الزهري عن عروة عنها (2). (3) واختلف أهل العلم في اشتراط الصوم في الاعتكاف، فأوجبه أكثر أهل العلم، منهم عائشة أم المؤمنين وابن عباس وابن عمر (4). وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد (5) في إحدى الروايتين عنه (6). _________ (1). برقم (2356)، وقد سبق قريبًا (2). «عن عروة عنها» من (هـ). (3). حديث ابن عمر بروايتيه مع كلام المنذري وتعليق المؤلف عليه إلى هنا= ورد في (هـ) في هذا الموضع كما أثبتناه، وأخرّه المجرّد إلى آخر المبحث منبّهًا عليه بقوله: «ثم قال المنذري في أثناء الباب بعد ذكر: (اعتكف وصم) إلى قوله: ليس فيه ذكر الصوم. قال ابن القيم ... ». (4). انظر أقوالهم في: «مصنف عبد الرزاق» (8033 - 8037)، وابن أبي شيبة (9711 - 9715)، والبيهقي (4/ 317 - 318). وقد صحّ عن ابن عباس خلافه أيضًا، وسيأتي. (5). «وأحمد» ساقط من الأصل، واستدرك من (هـ). (6). انظر: «الموطأ» (877)، و «المدونة» (1/ 225)، و «الأصل» للشيباني (2/ 188)، و «بدائع الصنائع» (2/ 109)، و «التعليقة الكبيرة» لأبي يعلى (1/ 15).

(2/191)


وذهب الشافعي وأحمد في الرواية المشهورة عنه (1) أن الصوم فيه مستحب غير واجب. قال ابن المنذر (2): وهو مروي عن علي وابن مسعود. واحتج هؤلاء بما في «الصحيحين» (3) عن عمر أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَوفِ بنذرك». قالوا: والليل ليس بمحل الصيام، وقد جوّز الاعتكاف فيه. واحتجوا أيضًا بما رواه الحاكم في «مستدركه» (4) من حديث أبي سهيل عن طاوس عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه»، وقال: صحيح الإسناد. واحتجوا أيضًا بما رواه مسلم في «صحيحه» (5) عن عائشة قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر، ثم دخل معتكفه، وإنه أمر بخبائه فضُرِب ــ أراد الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان ــ فأمرت _________ (1). انظر: «الأم» (3/ 267)، و «مسائل أحمد» برواية الكوسج (1/ 298)، و «الإنصاف» (7/ 566). (2). «الإشراف» (3/ 159). وقول علي وابن مسعود أخرجه ابن أبي شيبة (9713)، وفي سنده لين. (3). البخاري (2032)، ومسلم (1656). (4). (1/ 439) ــ وعنه البيهقي (4/ 318) ــ، ورواه أيضًا الدارقطني (2355) وأعله بالوقف. وقال البيهقي وابن عبد الهادي في «التنقيح» (3/ 368)، و «المحرر»: الصحيح أنه موقوف على ابن عباس، ورفعه وهم. (5). رقم (1172).

(2/192)


زينب بخبائها فضرب، وأمر غيرُها من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بخبائه فضرب، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفجر نظر فإذا الأخبية، فقال: «آلبرَّ تُرِدْن؟» فأمر بخبائه فقوِّض، وترك الاعتكاف في شهر رمضان، حتى اعتكف في (1) العشر الأول من شوال»، ويوم العيد داخل في جملة العشر، وليس محلًّا للصوم. واحتجوا أيضًا بأن الاعتكاف عبادة مستقلة بنفسها، فلم يكن الصوم شرطًا فيها كسائر العبادات من الحج والصلاة والجهاد والرباط؛ وبأنه لزوم مكان معيَّن لطاعة الله تعالى، فلم يكن الصوم شرطًا فيه كالرباط؛ وبأنه قربة بنفسه، فلا يشترط فيه الصوم كالحج. قال الموجبون: الكلام معكم في مقامين، أحدهما: ذكر ضعف أدلتكم، والثاني: ذكر الأدلة على اشتراط الصوم. فأما المقام الأول، فنقول: لا دلالة في شيء مما ذكرتم. أما حديث ابن عمر عن أبيه فقد اتُّفِق على صحته، لكن اختُلِف في لفظه كثيرًا، فرواه مسدد وزهير ويعقوب الدَّورَقي (2) عن يحيى القطان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، فقالوا: «ليلة». وكذلك رواه ابن المبارك وسليمان بن _________ (1). «في» ساقط من الأصل، واستدرك من (هـ). (2). رواية مسدد عند البخاري (2032)، ورواية زُهَير عند مسلم (1656/ 27)، ورواية يعقوب عند النسائي في «الكبرى» (3336). وتابع هؤلاء عن يحيى القطان بذكر «ليلة»: أحمد بن حنبل في «المسند» (4705)، وإسحاق بن منصور عند الترمذي (1539)، ومحمد بن بشار عند ابن خزيمة (2239).

(2/193)


بلال (1) عن عبيد الله. وهكذا رواه إسحاق بن راهويه (2) عن حفص بن غياث عن عبيد الله. ورواه أبو بكر بن أبي شيبة (3) عن حفص بن غياث فأبهم النذر، فقال: إني نذرت أن أعتكف عند المسجد الحرام؟ فقال: «أوف بنذرك». وكذلك رواه أبو أسامة [ق 144] عن عبيد الله مُبهمًا (4). ورواه شعبة (5) عن عبيد الله بن عمر فقال: «إني نذرت أن أعتكف يومًا». وكذلك اختُلف فيه على أيوب السَّخْتياني، فرواه حماد بن زيد عنه عن نافع قال: «ذُكِر عند ابن عمر عمرةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الجِعْرانة، فقال: لم يعتمر منها، وكان على عمر نذر اعتكاف ليلة في الجاهلية، فسأل رسول الله _________ (1). روايتهما عند البخاري (6697، 2042) تباعًا. وتابعهما عن عبيد الله بذكر «ليلة»: أبو أسامة وعبد الوهاب الثقفي عند مسلم (1656/ 27)، وعَبْدة بن سليمان عند ابن حبان (4379)، والثوري وعبد الله بن نُمَير عند البزار (140، 143)، ومحمد بن فُلَيح بن سليمان عند الدارقطني (2354). (2). كما عند النسائي في «الكبرى» (3335). وأما مسلم (1656/ 27) فأسنده من طريق ابن أبي شيبة ومحمد بن العلاء وابن راهويه، جميعًا عن حفص به، ثم ذكر أنه ليس فيه ذكر يوم ولا ليلة. (3). كما عند مسلم (1656/ 27) وابن ماجه (2129) وعبد بن حميد (40 - المنتخب)، ولم يسُق مسلم لفظَه وإنما قال: «ليس في حديث حفص ذكر يومٍ ولا ليلة». ولفظه عند ابن ماجه وعبد بن حميد: «نذرتُ نذرًا في الجاهلية». (4). كلّا، بل مقيّدًا بـ «ليلة»؛ هكذا عند البخاري (2043) ومسلم (1656/ 27). (5). أخرجه عنه أحمد (5539) ومسلم (1656/ 27) والنسائي (3822).

(2/194)


- صلى الله عليه وسلم -، فأمره أن يفي به، فدخل المسجد تلك الليلة، فلما أصبح إذا السَّبْي يَسْعَون ويقولون: أعتقَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -» متفق عليه (1). وكذلك رواه ابن عيينة عن أيوب (2). وخالفهما معمر وجرير فقالا: «يومًا»، وكلاهما في «الصحيحين» (3) بهذين اللفظين. قال النفاة: يجوز أن يكون عمر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اعتكاف ليلة وحدها فأمره به، وسأله مرة أخرى عن اعتكاف يوم فأمره به. قال الموجبون: هذا مما لا يَشكُّ عالم في بطلانه، فإن القصة واحدة، وعمر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح سؤالًا واحدًا. وهذه الطريقة يسلكها كثير ممن لا تحقيق عنده، وهي احتمال التكرار في كل حديث اختلفت ألفاظه بحسب اختلافها، وهو مما يُقطع ببطلانه في أكثر المواضع؛ كالقَطْع ببطلان التعدد في اشتراء البعير من جابر مرارًا في أسفار (4)؛ _________ (1). أخرجه البخاري (3144) بلفظ: «اعتكاف يوم» من طريق أبي النعمان «عارم» عن حماد به. وأخرجه مسلم (1656/ 28) بلفظ: «اعتكاف ليلة» من طريق أحمد بن عبدة الضبّي عن حماد به. (2). أخرجه الحميدي (708)، والنسائي (3821)، وابن خزيمة (2229). (3). أخرجه مسلم (1656/ 28) عنهما بذكر «اليوم». وأما البخاري فأخرجه معلقًا (3144) من طريق جرير، ومعلّقًا وموصولًا (3144، 4320) من طريق معمر، كلّها دون ذكر يومٍ ولا ليلة. (4). يشير المؤلف إلى ما وقع في روايات حديث جابر من الاختلاف في الثمن الذي اشترى به النبي - صلى الله عليه وسلم - جَمَلَه، فروي: «بأوقية»، و «بأربعة دنانير»، و «بوُقِيَّتَين ودرهم»، و «بمائتَي درهم»، وغير ذلك. انظر «صحيح البخاري» (2097، 2309، 2718) ومسلم (715).

(2/195)


والقطع ببطلان التعدد في إنكاح (1) الواهبة نفسَها، بلفظ الإنكاح مرة، والتزويج مرة، والإملاك مرة (2)؛ والقطع ببطلان الإسراء مرارًا (3)، كل مرة تُفرض عليه خمسون صلاة، ثم يرجع إلى موسى فيرده إلى ربه، حتى تصير خمسًا، فيقول تعالى: «لا يبدل القول لدي، هي خمس، وهي خمسون في الأجر»، ثم يفرضها في الإسراء الثاني خمسين، فهذا مما يُجزم ببطلانه. ونظائره كثيرة، كقول بعضهم في حديث عمران بن حصين: «كان الله ولا شيء قبله» (4)، و «كان ولا شيء غيره» (5)، و «كان ولا شيء معه» (6): إنه _________ (1). في الأصل: «نكاح»، والمثبت من (هـ). (2). أخرجه بلفظ الإنكاح البخاري (5149)، وبلفظ التزويج البخاري (5029) ومسلم (1425/ 77)، وبلفظ الإملاك البخاري (5030) ومسلم (1425/ 76). (3). يشير المؤلف إلى ما وقع في بعض روايات حديث الإسراء من الاختلاف مما جعل بعض العلماء يقول بتعدد المعاريج. انظر «صحيح البخاري» (349، 3207، 7517)، و «صحيح مسلم» (162/ 259، 262)، و «فتح الباري» (7/ 197). (4). أخرجه البخاري (7418). ورجّح شيخ الإسلام هذا اللفظ على الآخَرَين، وأيّده بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة: «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء». انظر: «شرح حديث عمران» (18/ 216 - مجموع الفتاوى). (5). أخرجه البخاري (3191). (6). هذا اللفظ عزاه شيخ الإسلام في «فتاواه» (6/ 551) وابن حجر في «الفتح» (6/ 289) إلى غير البخاري، ولم أجده في شيء من الكتب المسندة، وإنما ذكره المتكلمون في كتبهم كالرازي في «تأسيس التقديس» (ص 46) محتجين به على نفي العلو والاستواء، وذكر شيخ الإسلام في «الصفدية» (2/ 223) أن بعض المتجهّمة يزيدون فيه: «وهو الآن على ما عليه كان» وهي زيادة مختلَقة لم تُروَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قط، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف.

(2/196)


يجوز أن تكون وقائع متعددة. وهذا القائل لو تأمل سياق الحديث لاستحيا من هذا القول، فإن سياقه: أنه أناخ راحلته بباب المسجد، ثم تفلَّتت فذهب يطلبها، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث، فقال بعد ذلك: «وايم الله! وددت لو أني قعدت وتركتُها»، فيا سبحان الله! أفي كل مرة من المرار يتفق له هذا؟! وبالجملة، فهذه طريقة من لا تحقيق له. وإذا كان عمر إنما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة واحدة، فإن كان «يومًا» فلا دلالة فيه، وإن كان «ليلةً»، فالليالي قد تطلق ويراد بها الأيام استعمالًا فاشيًا في اللغة لا ينكر، كيف وقد روى سعيد بن بشير عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أن عمر نذر أن يعتكف في الشرك ويصوم، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «أوف بنذرك» (1). وسعيد بن بشير هذا، وإن كان قد ضعفه ابن المديني ويحيى بن معين والنسائي، فقد قال فيه شعبة: كان صدوق اللسان، وقال سفيان بن عيينة: كان حافظًا، وقال دُحَيم: هو ثقة، وقال: كان مشيختنا يوثقونه، وقال البخاري: يتكلمون في حفظه وهو يُحْتَمَل، وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبي ينكر على من أدخله في كتاب الضعفاء وقال: محله الصدق، وقال ابن عدي: الغالب على حديثه الاستقامة (2). وقد روى عبد الله بن بُديَل (3)، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر، عن _________ (1). أخرجه الدارقطني (2365)، والبيهقي (4/ 317)، وقد سبق الكلام عليه. (2). انظر للأقوال السابقة وغيرها: «الجرح والتعديل» (4/ 6)، و «ميزان الاعتدال» (2/ 128)، و «تهذيب الكمال» (3/ 139). (3). في الأصل وط. الفقي: «يزيد» تحريف، وسيأتي على الصواب قريبًا.

(2/197)


عمر هذا الحديث وفيه: «فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعتكف ويصوم» (1). ولكن تفرّد به ابن بُدَيل، وضعَّفه الدارقطني. وقال ابن عدي (2): له أحاديث مما ينكر عليه الزيادة في متنه أو إسناده. وقال أبو بكر النيسابوري (3): هذا حديث منكر، لأن الثقات من أصحاب عمرو بن دينار لم يذكروه، منهم: ابن جريج وابن عيينة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة، وابنُ بُدَيل ضعيف الحديث. فهذا مما لا حاجة بنا إلى الاستدلال به. وحديث سعيد بن بشير أجود منه. وأما حديث ابن عباس الذي رواه الحاكم (4)، فله علتان: إحداهما: أنه من رواية عبدالله بن محمد الرَّمْلي، وليس بالحافظ (5) حتى يُقبَل منه تفرده بمثل هذا. العلة الثانية: أن الحُمَيدي وعمرو بن زُرارة روياه عن الدَّراوَرْدي عن أبى سهيل عن طاوس عن ابن عباس موقوفًا عليه (6)، وهذا هو الصواب، _________ (1). سبق الحديث والكلام عليه. (2). «الكامل» (4/ 213 - 214) وذكر زيادته هذه التي تفرد بها في مناكيره. (3). نقله عنه الدارقطني عقب الحديث (2361)، وقد سبق. (4). وهو: «ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه»، وقد سبق. (5). لعله يقصد: ليس بذاك الحافظ نسبةً إلى غيره ــ كالحميدي ــ ممن روى الحديث فوقفه، وإلا فقد وصفه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (32/ 371) والذهبي في «تاريخ الإسلام» (7/ 184) بـ «الحافظ». (6). رواية الحميدي أخرجها الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (10/ 350) و «أحكام القرآن» (1072)، وابن حزم في «المحلّى» (5/ 181). ورواية عمرو بن زرارة أخرجها البيهقي (4/ 319).

(2/198)


وهو الثابت عن ابن عباس. وأما حديث عائشة وقصة اعتكاف النبي - صلى الله عليه وسلم - العشر الأول من شوال، فهذا قد اختلف فيه لفظ «الصحيح». وفيه ثلاثة ألفاظ: أحدها: «عشرًا من شوال» (1). والثاني: «في العشر الأول من شوال» (2). والثالث: «العشر الأول» (3). ولا ريب أن هذا ليس بصريح في اعتكاف يوم العيد ولو كان الثابت قوله: «العشر الأول من شوال»، لأنه يصح أن يقال: اعتكف العشر الأول، وإن كان قد أخلَّ بيوم منه، كما يقال: قام ليالي العشر الأخير، وإن كان أخل بالقيام في جزء من الليل، ويقال: قام ليلة القدر، وإن أخل بقيامه في بعضها. وأما الأقيسة التي ذكرتموها، [ق 145] فمعارَضةٌ بأمثالها، أو بما هو من جنسها، فلا حاجة إلى التطويل بذكرها. وأما المقام الثاني: وهو الاستدلال على اشتراط الصوم فأمور: أحدها: أنه لم تُعرف مشروعية الاعتكاف إلا بصوم، ولم يثبت عن النبي _________ (1). البخاري (2033، 2034، 2045). (2). مسلم (1172). (3). لم أجد هذا اللفظ في «الصحيح»، وإنما هو عند أبي داود (2464). وهناك لفظ رابع، وهو: «في آخر العشر من شوال». أخرجه البخاري (2041).

(2/199)


- صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من أصحابه أنهم اعتكفوا بغير صوم، ولو كان هذا معروفًا عندهم لكانت شهرته تغني عن تكلفكم الاستدلال باعتكافه - صلى الله عليه وسلم - العشر الأول من شوال. الثاني: حديث عائشة الذي ذكره أبو داود في الباب، وقولها: «السنة كذا ... ولا اعتكاف إلا بصوم». قال النفاة: الجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن راويه عبد الرحمن بن إسحاق قال فيه أبو حاتم: لا يحتج به، وقال البخاري: ليس ممن يعتمد على حفظه، وقال الدارقطني: ضعيف (1) يرمى بالقدر. الثاني: أن هذا الكلام من قول الزهري، لا من قول عائشة، كما ذكره أبو داود وغيره، قال الليث عن عُقَيل عن الزهري عن عروة عن عائشة: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده، فالسنة في المعتكف أن لا يخرج إلا للحاجة التى لا بد منها، ولا يعودَ مريضًا، ولا يمَسَّ امرأته ولا يباشرها، ولا اعتكاف إلا فى مسجدِ جماعةٍ، والسنة فيمن اعتكف أن [يصوم] (2)». قال الدارقطني: قوله: «والسنة في المعتكف» (3) إلى آخره، ليس من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو من قول الزهري، ومن أدرجه في الحديث فقد وهم. _________ (1). «ضعيف» ساقط من الأصل، واستدرك من (هـ). (2). «يصوم» ساقط من (هـ)، واستدرك من لفظ الحديث، وقد سبق تخريجه. (3). من قوله: «أن لا يخرج» إلى هنا ساقط من الأصل لانتقال النظر، واستدرك من (هـ).

(2/200)


الثالث: أن غايته الدلالة على استحباب الصوم في الاعتكاف، فإن قوله: «السنة» إنما يفيد الاستحباب، وقوله: «لا اعتكاف إلا بصوم» نفي للكمال. قال الموجبون: الجواب عما ذكرتم: أما تضعيف عبد الرحمن بن إسحاق، فقد روى له مسلم في «صحيحه»، ووثقه يحيى بن معين وغيره. وأما قولكم: إنه من قول الزهري، ومن أدرجه فقد وهم، فجوابه من وجهين: أحدهما: أنّا لو تُرِكنا وهذا، لكان ما ذكرتم قادحًا، ولكن قد روى الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن عائشة قالت: «من اعتكف فعليه الصوم» (1)، فهذا يقوِّي حديث الزهري. الثاني: أنه ولو ثبت أنه من كلام الزهري، فهو يدل على أن السنة المعروفة التي استمر عليها العمل أنه لا اعتكاف إلا بصوم، فهل عارض هذا سنةٌ غيرها حتى تُقابَل به؟ وأما قولكم: إن هذا إنما يدل على الاستحباب، فليس المراد بالسنة هاهنا مجرد الاستحباب، وإنما المراد طريقةُ الاعتكاف وسنةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المستمرة فيه. وقوله: «ولا اعتكاف إلا بصوم» يبين ذلك. وقولكم: «إنه لنفي الكمال» صحيح، ولكن لنفي الكمال (2) الواجب، أو المستحب؟ الأول مسلَّم، والثاني ممنوع، والحمل عليه بعيد جدًّا، إذ لا _________ (1). أخرجه عبد الرزاق (8037)، وابن أبي شيبة (9715). (2). في الأصل و (هـ) والطبعتين: «كمال»، ولعل الصواب ما أثبت.

(2/201)


يصلح النفي المطلق عند نفي بعض المستحبات، وإلا لصحّ النفيُ عن كل عبادةٍ تُرِك بعض مستحباتها، ولا يصح ذلك لغةً ولا عرفًا ولا شرعًا، ولا يعهد في الشريعة نفيٌ لِعبادة إلا لِترك واجبٍ فيها. (1) * * * _________ (1). في الأصل بعده: «وقال الدارقطني: يقال: إن قوله «والسنة على المعتكف» إلى آخره من كلام الزهري ... »، وقد سبق أن أثبتناه في أول تعليق المؤلف وفاقًا لنسخة (هـ).

(2/202)


 كتاب الجهاد

1 - سُكنى الشام 272/ 2372 - عن شَهر بن حَوْشَب عن عبد الله بن عمرو قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ستكون هجرةٌ بعد هجرة، فخيارُ أهل الأرض ألزَمُهم مُهاجَرَ إبراهيم، ويبقى في الأرض شِرارُ أهلها تَلْفِظُهم أرَضوهم، تَقْذَرُهم نَفْسُ الله، وتحشرهم النارُ مع القِرَدة والخنازير» (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: [وروي من حديث ابن عمرٍو (2) بإسنادٍ أمثلَ من هذا] (3). 273/ 2373 - وعن ابن حَوَالة ــ وهو عبد الله ــ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سيصير الأمرُ أن تكونوا أجنادًا مُجنَّدةً: جندٌ بالشام، وجند باليمن، وجند بالعراق»، قال ابن حوالة: خِرْ لي يا رسول الله إن أدركتُ ذلك، فقال: «عليك بالشام، فإنها خِيَرَةُ الله من أرضه، يَجْتبي إليها خِيَرَتَه من عباده، فأما إذ أبيتم فعليكم _________ (1) «سنن أبي داود» (2482)، وأخرجه معمر في «جامعه» (20790)، وأحمد (6952)، من طريق قتادة عن شهر بن حوشب. وشهر وإن كان فيه لين، إلا أن في أول حديثه هذا قصة حضرها وفيها سمع من عبد الله بن عمرو ــ كما في روايتَي معمر وأحمد ــ، فمثله عادةً يكون مظنةَ الضبط، وقد قال الإمام أحمد ــ كما في «هُدى الساري» (ص 363) ــ: «إذا كان في الحديث قصة دلَّ على أن راويه حفظه». وأخرجه الحاكم (4/ 510 - 511) من طريق آخر لا بأس به في المتابعات، ولعله هو الذي أشار إليه المؤلف. (2) في (هـ): «ابن عمر»، ولعل الصواب ما أثبت. (3) ما بين الحاصرتين من (هـ).

(2/203)


بيَمَنِكم، واسْقُوا من غُدُرِكم، فإن الله توكَّلَ لي بالشام وأهله» (1). هذا الحديث قد روي من حديث واثلة بن الأسقع وأبي الدرداء والعِرباض بن سارية وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عبّاس (2) وغيرهم، والمحفوظ من حديث ابن حوالة. وقال سعيد بن عبد العزيز (3): وكان ابن حَوالة رجلًا من الأزد، وكان مسكنه الأردن، وكان إذا حدث بهذا الحديث قال: وما تكفل الله به، فلا ضيعة عليه (4). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد رواه أبو حاتم (5) ابن حبان في «صحيحه» (6). _________ (1) «سنن أبي داود» (2483)، أخرجه أحمد (17005)، وابن حبان (7306)، والحاكم (4/ 510)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/ 56 - 81)، والضياء في «المختارة» (9/ 271 - 275) من طرق صحاح وحسان عن ابن حوالة - رضي الله عنه -. قل أبو حاتم عن بعض طرقه: «صحيح حسن غريب»، وقال ابن عبد الهادي: «هذا حديث مشهور، وإسناده إسناد صحيح، وقد رواه غير واحد عن عبد الله بن حوالة». انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (1001)، و «فضائل الشام» لابن عبد الهادي (ص 40). (2) أخرجها ابن عساكر في «فضائل الشام» (1/ 66 - 67)، (1/ 71 - 72)، (1/ 77 - 78)، (1/ 82)، (1/ 96 - 97) ولاءً. (3) قوله وقع عقب الحديث من روايته عن مكحول، عن أبي إدريس، عن ابن حوالة. أخرجه ابن عساكر في «تاريخه» (1/ 56 - 57) وابن البخاري المقدسي في «مشيخته» (1/ 222 - 224). (4) هذه الفقرة أشار إليها المجرّد بذكر طرفه الأخير، وليست في «المختصر» المطبوع، وفي المخطوط (النسخة البريطانية) إلى قوله: «رجلًا من الأزد» ثم بعده كلام آخر، والمثبت بتمامه من (هـ). (5) «أبو حاتم» من (هـ)، وليس في الأصل. (6) رقم (7306).

(2/204)


وروى الوليد بن مسلم عن عُفَير بن مَعْدان (1) أنه سمع سُلَيم بن عامر يحدث عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «رأيت عَمود الكتاب انتُزِع من تحت وسادتي، فأتبعته بصري فإذا هو نور ساطع حتى ظننت أنه قد هوى به، فعُمِد به إلى الشام، وإني أوَّلت أن الفتن إذا وقعت أن الإيمان بالشام». رواه أحمد في «مسنده» (2). وروى شعبة عن معاوية بن قُرّة عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرّهم من خذلهم حتى تقوم الساعة». رواه الترمذي (3). وقال: قال محمد بن إسماعيل: قال علي ابن المديني: هم أصحاب الحديث، وهذا حديث حسن صحيح. وروى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله، أين تأمرني؟ قال: «ههنا ــ ونحا بيده نحو الشام ــ». قال الترمذي (4): هذا حديث حسن صحيح. _________ (1) في الأصل: «عثمان» خطأ، والتصويب من (هـ) ومصادر التخريج. (2) لم أجده في «المسند»، وإنما أخرجه الطبراني في «الكبير» (8/ 170) بهذا اللفظ سواء. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 61): «فيه عُفير بن معدان، وهو مجمع على ضعفه». وكذا ضعّف إسنادَه الحافظُ في «الفتح» (12/ 403). وفي الباب عن عبد الله بن عمرو، وأبي الدرداء، وعبد الله بن حوالة، وغيرهم. وأمثلها حديث أبي الدرداء عند أحمد في «مسنده» (21733) بإسناد صحيح. انظر: «الفتح» (12/ 402 - 403). (3) رقم (2192)، وأخرجه أحمد (15596)، وابن ماجه (6)، وابن حبان في «صحيحه» (61، 7302)، من طرق عن شعبة به. (4) عقب روايته له تحت الحديث السابق. وأخرجه أحمد (20031)، والحاكم (4/ 564) وقال: «صحيح الإسناد، ولم يخرجاه».

(2/205)


وقال الإمام أحمد (1): حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شِماسة، عن زيد بن ثابت قال: بينا (2) نحن عند [ق 146] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: «طوبى للشام، طوبى للشام، طوبى للشام» (3). قلت: ما بال الشام؟ قال: «الملائكة باسطُو أجنحتِها على الشام». ورواه أحمد (4) أيضًا عن يحيى بن إسحاق السَّيْلَحِيني (5)، حدثنا (6) يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب. ورواه ابن وهب: أخبرني عمرو، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شِماسة حدثه أنه سمع زيد بن ثابت ــ فذكره (7). قال أبو عبد الله المقدسي (8): وهذا الإسناد عندي على شرط مسلم. _________ (1) في «المسند» (21606). في إسناده ابن لهيعة، لكنه قد توبع، تابعه اثنان كما سيأتي، فالحديث صحيح. (2) في الطبعتين: «بينما» خلافًا للأصل. (3) كذا تكرر في الأصل و (هـ) ثلاث مرات، وهو في «المسند» وغيره مرتين. (4) برقم (21607). (5) مهمل غير منقوط في الأصل، فضبطه بعضهم في هامشه هكذا: «السفلحيني ــ تقريب»، أراد أن يكحلها فأعماها! (6) في الأصل: «نا»، وهو اختصار ما أثبتناه. وفي الطبعتين هنا وفي مواضع عديدة من الأسانيد الآتية: «أخبرنا»، وفي مواضع أخرى: «أنبأنا»؛ كل ذلك خطأ وغفلة عن اصطلاح أهل الحديث. (7) أخرجه ابن حبان في «صحيحه» (7304). (8) هو الحافظ ضياء الدين، فإن له «فضائل الشام» في ثلاثة أجزاء كما ذكره ابن رجب في «ذيل طبقات الحنابلة» (3/ 519)، ولم يُطبع منه إلا الجزء الثاني باسم «فضائل بيت المقدس». وظن محقق ط. المعارف أن المراد ابنُ عبد الهادي فإنه قال في «فضائل الشام» (ص 31) له: «وإسناده على شرط الصحيح»، وهو ظن بعيد والله أعلم.

(2/206)


وفي «صحيح البخاري» (1): عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا» فقالها مرارًا، فلما كان في الثالثة أو الرابعة قالوا: يا رسول الله، وفي عراقنا؟ قال: «بها الزلازلُ والفتن، وبها يَطْلُع قرن الشيطان». وفي «مسند الإمام أحمد» (2) من حديث محمد بن عُبَيد، عن الأعمش، عن عبد الله بن ضِرار الأسدي، عن أبيه، عن عبد الله قال: «قَسَم الله الخير فجعله عشرة [أعشار]، فجعل تسعة أعشاره في الشام، وبقيتَه في سائر الأرض، وقسم الشرَّ فجعل عشرة أَعْشُرًا فجعل جزءًا منه في الشام وبقيَّته في سائر الأرض (3)». وروى الإمام أحمد في «مسنده» (4) من حديث الوليد بن عبد الرحمن، _________ (1) رقم (1037، 7094) بلفظ قريب، وفيه: «وفي نجدنا؟» بدل: «وفي عراقنا». واللفظ المذكور هنا هو لفظ الطبراني في «الكبير» (13422) سواء، وإسناده جيد. وكذا روي الحديث بلفظ العراق في «مسند البزار» (5880، 5881) و «حلية الأولياء» (6/ 133) بأسانيد جياد. (2) ليس فيه، وإنما رواه أحمد في «فضائل الصحابة» (1709). ورواه أيضًا الطبراني في «الكبير» (9/ 177/ 8881) من طريق أبي نُعيم الفضل بن دُكين، عن الأعمش به. قال الهيثمي: «عبد الله بن ضِرار ضعيف». «مجمع الزوائد» (10/ 63). وقد صح نحوه عن ابن مسعود من طريق آخر عند الحاكم في «المستدرك» (4/ 505)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/ 156). (3) من قوله: «وقسم الشر» إلى هنا ساقط من الأصل لانتقال النظر، واستُدرك من (هـ). (4) برقم (16965) وما بين الحاصرتين منه. وأخرجه أيضًا النسائي (3561)، وابن حبان (7307)، والطبراني (6357 - 6359)، من طرق عن الوليد بن عبد الرحمن به، وهو إسناد صحيح، إلا أنه وقع عند ابن حبان: «النواس بن سمعان» بدل سلمة بن نفيل، وهو وهم من بعض الرواة حيث سلك الجادة، فإن جبير بن نفير كثير الرواية عن النواس ومشهور به.

(2/207)


عن جُبير بن نُفير، عن سلَمة بن نُفيل، أنه أخبرهم أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني سَيَّمتُ (1) الخيل، وألقيتُ السلاحَ، ووضعتِ الحربُ أوزارها، [قلت: لا قتال،] قال: فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الآن جاء القتال، لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الناس، يرفع (2) الله قلوبَ أقوامٍ فيقاتلونهم، ويرزقهم الله منهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، ألا إن عُقْر دار المؤمنين الشام، والخيلُ معقود في نواصيها الخيرُ إلى يوم القيامة». ورواه النسائي. وفي «المسند» والترمذي (3) من حديث أبي قلابة، عن سالم، عن أبيه _________ (1) في الأصل و (هـ): «سمت»، وفي «المسند» طبعة الرسالة: «أَسَمْت»، والمثبت من طبعة جمعية المَكْنِز (17239) وفاقًا لنسخةٍ بخط الحافظ عبد الغني المقدسي المرموز لها في هامش طبعتَي المسند بـ (ظ 13). وأفاد محققو طبعة المَكنِز أن معنى «سيَّمت»: سَيَّبت، بقلب الباء ميمًا، وهو قلب شائع في لغة العرب. قلتُ: ويؤيده أن الحديث روي بلفظ: «سُيِّبَت الخيلُ» في «الطبقات» لابن سعد (9/ 431) و «الآحاد والمثاني» (2460، 2625) و «صحيح ابن حبان» وغيرها. (2) كذا في جميع نسخ «المسند» الخطية، وشرحه السندي بقوله: «رفع الله قلوب أقوام عن الإيمان إلى الكفر». وفي بقية المصادر: «يزيغ»، وهو الصواب كما قال الحافظ ابن عساكر بعد أن ساق الحديث من طريق الإمام أحمد. «تاريخ دمشق» (1/ 117). (3) أحمد (4536، 5146)، والترمذي (2217) وصححه. ورواه أيضًا ابن حبان في «صحيحه» (7305). وقد اختلف على ابن عمر في هذا الحديث، فروي عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما هنا، وروي من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن كعب الأحبار من قوله، وهو الأرجح، كما في «العلل» للدارقطني (2726).

(2/208)


قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ستخرج نار من حضرموت ــ أو بحضرموت ــ قبل يوم القيامة تحشر الناس»، قلنا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: «عليكم بالشام». قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر. وفي «المسند» والترمذي والنسائي (1) من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله، أين تأمرني؟ قال: «هاهنا ــ ونحا بيده نحو الشام ــ». قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ومن حديث المُخلِّص (2): «حدثنا يحيى بن صاعد، حدثنا محمد بن إسماعيل السُّلَمي، حدثنا أبو أيوب سليمان بن عبد الرحمن، حدثنا بِشر بن عَون القرشي أبو عون، حدثنا بكار بن تميم، عن مكحول، عن واثلة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لحذيفة بن اليمان ومعاذ بن جبل، وهما يستشيرانه في المنزل؟ فأومأ إلى الشام، ثم سألاه؟ فأومأ إلى الشام، ثم سألاه؟ فأومأ إلى الشام، ثم قال: «عليكم بالشام، فإنها صفوة بلاد الله، _________ (1) أحمد (20031)، والترمذي (2192) وصححه، وأما النسائي فذكر في «تحفة الأشراف» (8/ 433) أنه أخرج الحديث من طريق سُوَيد بن حُجَير الباهلي، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه، ولم أجده في «السنن الكبرى» المطبوعة. وأخرج الحديث أيضًا الحاكم (4/ 564) وقال: «صحيح الإسناد». (2) «المخلِّصيّات» بانتقاء ابن أبي الفوارس (2/ 268 - 269)، ومن طريق المخلص أخرجه ابن عساكر في «تاريخه» (1/ 68) وقال: إنه غير محفوظ. قال ابن حبان في «المجروحين» (1/ 216) في ترجمة بشر بن عون: «روى عن بكّار بن تميم عن مكحول عن واثلة نسخة فيها ستمائة حديث كلها موضوعة، لا يجوز الاحتجاج به بحال».

(2/209)


يسكنها خِيَرَتُه من عباده، فمن أبى فليلحق بيمنه، ويَسْتَقِ (1) من غُدُره، فإن الله عز وجل تكفل لي بالشام وأهله». ورواه الطبراني في «المعجم» (2) عن سليمان به. وذكر الطبراني (3) من حديث الوليد بن مسلم، عن محمد بن أيوب بن مَيسرة بن حَلْبَس، عن أبيه، عن خُرَيم بن فاتِك الأسدي، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أهل الشام سوط الله في أرضه ينتقم بهم ممن يشاء من عباده، وحرام على منافقيهم أن يَظهروا على مؤمنيهم، ولا يموتوا (4) إلا غمًّا وهمًّا». ورواه الإمام أحمد في «مسنده» (5) موقوفًا، وكذلك أبو يعلى المَوصِلي (6). وقال أحمد في «مسنده» (7): حدثنا عبد الصمد، حدثنا (8) حماد، عن الجُرَيري، عن أبي المشَّاء ــ وهو لَقِيطُ ابن المشاء ــ عن أبي أمامة قال: لا _________ (1) في الطبعتين: «ويستقي» خلافًا للأصل. (2) «المعجم الكبير» (22/ 58). (3) «المعجم الكبير» (4/ 209/4163). وفي إسناده أيوب بن ميسرة بن حلبس، قال الحافظ في «لسان الميزان» (2/ 255): «رأيت له ما يُنكَر، وقد ذكره ابن حبان في الثقات». ثم إن في رفعه نظرًا؛ فإن أكثر الناس يروونه موقوفًا على خريم من قوله. انظر: «تاريخ دمشق» (1/ 285 - 286). (4) في الأصل: «يموتون»، والمثبت من (هـ) موافق لـ «معجم الطبراني». (5) برقم (16065). (6) ليس في «مسنده» المطبوع، وقد أخرجه من طريقه ابن حبان في «الثقات» (4/ 28)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/ 285). (7) برقم (22145)، وإسناده ضعيف، إلا أن القدر المرفوع ثابت من غير وجه، وقد سبق بعضها. انظر: «السلسلة الضعيفة» (6712). (8) في الطبعتين: «أنبأنا»، خلافًا للأصل و «المسند»، وقد سبق التنبيه على مثله.

(2/210)


تقوم الساعة حتى يتحوّل خيار أهل العراق إلى الشام، ويتحوّل شرار أهل الشام إلى العراق، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بالشام»، كذا رواه أحمد أوَّلَه موقوفًا وآخرَه مرفوعًا. وروى الطبراني في «معجمه» من حديث [ ..... ] (1). 2 - باب تضعيف الذكر في سبيل الله 274/ 2388 - عن سهل بن معاذ عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الصلاة والصيام والذكرَ يُضاعَف على النَّفَقة في سبيل الله بسبعمائة ضِعْف» (2). وفيه زبَّان بن فائد عن سهل بن معاذ؛ ضعيف عن ضعيف (3). (4) قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى الترمذي (5) عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي العباد (6) أفضل درجةً عند الله يوم القيامة؟ قال: «الذاكرين (7) الله كثيرًا»، قال: قلت: يا رسول الله، ومِن الغازين في سبيل _________ (1) بياض في الأصل قدر ثلاث كلمات، ومكتوب فوقه بخط صغير: «كذا في الأصل». (2) «سنن أبي داود» (2498). (3) لا سيما زبّان، فإنه يتفرد عن سهل بن معاذ بنسخة كلها مناكير. انظر: «تهذيب التهذيب» (3/ 308)، و «ضعيف أبي داود ــ الأم» (2/ 300). (4) كلام المنذري من (هـ)، وفيه تصرّف للمؤلف، فإن لفظ المنذري في «المختصر» (3/ 364): «في إسناده زبّان بن فائد وسهل بن معاذ، وهما ضعيفان». (5) برقم (3376)، وأيضًا أحمد (11720)، من طريق درَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد. قال الترمذي: «هذا حديث غريب، إنما نعرفه من حديث درَّاج». وهو صدوق، إلا فيما يرويه عن أبي الهيثم، ففيه ضعف ونكارة. (6) في الأصل و (هـ): «العبادة»، تصحيف. (7) كذا في الأصل و (هـ)، والوجه الرفع كما في الترمذي.

(2/211)


الله؟ قال: «لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختَضِب دمًا، لكان الذاكرون الله أفضلَ منه درجة». ولكن هو من حديث درَّاج، وقد ضُعِّف، وقال الإمام أحمد (1): الشأن في دراج. ولكن روى الترمذي والحاكم في «المستدرك» (2) عن أبي الدرداء قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعِها في درجاتكم، وخيرٍ لكم من إنفاق الذهب والوَرِق، وخيرٍ لكم من أن تلقَوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟» قالوا: بلى، قال: «ذكر الله». وقد رواه مالك في «الموطأ» (3) موقوفًا على أبي الدرداء قولَه. قال الترمذي: ورواه بعضهم فأرسله. والتحقيق في ذلك أن المراتب ثلاثة: ذكر وجهاد، وهي أعلى المراتب، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]. المرتبة الثانية: ذكرٌ بلا جهاد، فهذه دون الأولى. الثالثة: جهاد بلا ذكر، فهي دونهما، والذاكر أفضل من هذا. _________ (1) كما في «سؤالات أبي داود له» (ص 247)، و «سؤالات الآجري لأبي داود» (2/ 166). (2) الترمذي (3377)، والحاكم (1/ 496) وقال: «صحيح الإسناد». وقد اختلف في رفعه ووقفه، وفي إرساله ووصله على ما فصّله محققو «المسند» طبعة الرسالة في تخريج الحديث (21702). والأشبه ــ والله أعلم ــ وقفه على أبي الدرداء. (3) رقم (564).

(2/212)


وإنما وُضِع الجهاد لأجل ذكر الله، فالمقصود من الجهاد أن يُذكر الله ويُعبد وحدَه، فتوحيده وذكره وعبادته هو غاية الخلق التي خلقوا لها. [ق 147] وتبويب أبي داود إنما هو على المرتبة الأولى، والحديث إنما يدل على أن الذكر أفضل من الإنفاق في سبيل الله، فهو كحديث أبي الدرداء. وقد يحتمل الحديث أن يكون معناه أن الذكر والصلاة في سبيل الله تضاعف على النفقة في سبيل الله، فيكون الظرف متعلقًا بالجميع (1). والله أعلم. 3 - باب في فضل الشهادة 275/ 2409 - عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما أُصِيبَ إخوانُكم بأُحُد جعل الله أرواحهم في جوف طَير خُضْرٍ، تَرِد أنهارَ الجنة، تأكلُ من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب مُعلَّقةٍ في ظل العرش، فلما وجدوا طِيبَ مأكلهم ومشربهم ومَقِيلهم قالوا: مَن يُبلِّغ إخواننا عنَّا أنا أحياء في الجنة نُرزَق، لئلَّا يزهدوا في الجهاد، ولا يَنكُلُوا عند الحرب؟ فقال الله سبحانه: أنا أبلغهم عنكم، قال: فأنزل الله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} إلى آخر الآية» (2). وأخرجه الحاكم في «صحيحه» (3). وذكر الدارقطني أن عبد الله بن إدريس _________ (1) ويؤيده لفظ أحمد في «المسند» (15613): «إن الذكر في سبيل الله تعالى يضعَّف فوق النفقة بسبعمائة ضعف». (2) «سنن أبي داود» (2520) من طريق عبد الله بن إدريس، عن ابن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. (3) «المستدرك» (2/ 88).

(2/213)


تفرد به عن محمد بن إسحاق، وغيره يرويه عن ابن إسحاق لا يذكر فيه سعيد بن جبير (1). وقد أخرج مسلم في «صحيحه» (2) معناه عن عبد الله بن مسعود. قال ابن القيم - رحمه الله -: فروى (3) عن مسروق قال: سألنا عبدَ الله عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك، فقال: «إن أرواحهم في جوف طيرٍ خُضْرٍ، لها قناديلُ معلَّقة بالعرش، تَسْرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطَّلع إليهم ربكم اطِّلاعة، فقال: هل تشتهون شيئًا؟ فقالوا: أيَّ شيء نشتهي ونحن نسرح في الجنة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لم يُتركوا مِن أن يُسألوا، قالوا: يا رب، نريد أن تَرُدَّ أرواحنا في أجسادنا حتى نُقتلَ في سبيلك مرّة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُرِكوا». _________ (1) هكذا رواه إبراهيم بن سعد عند أحمد (2388)، وابن المبارك في «الجهاد» (62)، وسلمة بن الفضل وإسماعيل بن عياش عند الطبري (6/ 228)، كلهم عن ابن إسحاق لا يذكرون سعيد بن جبير بين أبي الزبير وابن عباس. وعلى هذا تكون الرواية منقطعة، فإن أبا الزبير لم يسمع من ابن عباس. ولكن صحّت رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس للحديث من طريق آخر، أخرجه البيهقي في «إثبات عذاب القبر» (214) من طريق سفيان الثوري، عن سالم الأفطَس، عن سعيد به. وانظر: «تفسير ابن كثير» (آل عمران: 169). (2) برقم (1887). (3) أي مسلم، وهو متصل بما سبق من كلام المنذري، و «عن» الآتية ساقطة من الأصل واستدركت من (هـ).

(2/214)


والظاهر ــ والله أعلم ــ أن المسؤول عن هذه الآية الذي أشار إليه ابن مسعود هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحذفه لظهور العلم به، وأن الوهم لا يذهب إلى سواه. وقد كان ابن مسعود يشتد عليه أن يقول: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -»، وكان إذا سمّاه أُرعِد وتغيّر لونُه، وكان كثيرًا ما يقول ألفاظ الحديث موقوفةً، وإذا رفع منها شيئًا تحرّى فيه، وقال: «أو شِبه هذا، أو قريبًا من هذا» (1). فكأنه ــ والله أعلم ــ جرى على عادته في هذا الحديث، وخاف أن لا يؤدِّيه بلفظه، فلم يذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ والصحابة إنما كانوا يسألون عن معاني القرآن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -. والله أعلم (2). 4 - باب في الرجل يغزو وأبواه كارهان 276/ 2419 - وعن أبي سعيد الخدري: أن رجلًا هاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اليمن، فقال: «هل لك أحدٌ باليمن؟» فقال: أبوايَ، فقال: «أذِنَا لَكَ؟» قال: لا، قال: «ارجع إليهما فاستأذِنْهما، فإن أذِنا لك فجاهِدْ، وإلا فبِرَّهما» (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: أخرجه الحاكم في «المستدرك» (4)، وليس مما يستدرك مثله، فإن فيه درّاجًا، وهو ضعيف. _________ (1) انظر: «مصنف ابن أبي شيبة» (26746)، وابن ماجه (23)، و «العلل» للدارقطني (3159). (2) «والله أعلم» من (هـ). (3) «سنن أبي داود» (2530) من طريق درَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد. وهذا إسناد ضعيف، وقد سبق الكلام عليه. وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - عند البخاري (3004) ومسلم (2549). (4) (2/ 103 - 104).

(2/215)


5 - باب النهي عن لعن البهيمة 277/ 2451 - عن عمران بن حصين: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في سفرٍ، فسمع لَعْنَةً، فقال: «ما هذه؟» قالوا: هذه فلانةُ لعنت راحلتَها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ضَعُوا عنها فإنها ملعونة»، فوضعوا عنها، قال عمران: فكأني أنظر إليها ناقة وَرْقاء. وأخرجه مسلم والنسائي (1). قيل: هذا مختصٌّ بتلك الناقة، لأنّا لا نعلم لحوق اللعنة لمن لعن ناقته أو غيرها، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم ذلك فأمر بالحطّ عنها وأن لا تصحبه. وقيل: اللعن: البُعد والترك، فلمّا دعت عليها باللعنة وكانت غيرَ مكلَّفةٍ استُعمل فيها معنى اللعنة من الإبعاد والترك. والصواب أنه فعل ذلك عقوبةً لها، لئلا تعود إلى مثل قولها وتلعنَ ما لا يستحق اللعن (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: والعقوبة في المال لمصلحةٍ مشروعةٌ بالاتفاق، ولكن اختلفوا: هل نُسِخت بعد مشروعيتها؟ ولم يأت على نسخها حجة (3). وقد حكى أبو عبد الله بن حامد (4) عن بعض أصحاب أحمد أنه مَن لعن شيئًا من متاعه زال ملكه عنه. والله تعالى أعلم. _________ (1) أبو داود (2561)، ومسلم (2595)، والنسائي في «الكبرى» (8765). (2) هذه الفقرة نقل المجرّد آخرها من قوله: «والصواب ... » ونسبها إلى المنذري، وأثبتناها بتمامها من (هـ)، وفيها تصرّف وزيادة من المؤلف على كلام المنذري الذي في «المختصر» المخطوط (النسخة البريطانية)، وهو ساقط من المطبوع. وأهم زيادة للمؤلف قوله: «والصواب»، وكان في «المختصر»: «وقد يحتمل». (3) وقد سبق الكلام على المسألة في كتاب الزكاة (1/ 264 وما بعدها). (4) انظر: «الإنصاف» (19/ 38).

(2/216)


6 - باب الوقوف على الدابة 278/ 2457 - عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إيَّايَ أن تتخذوا ظهور دوابِّكم مَنابِرَ، فإن الله إنما سخَّرها لكم لِتُبَلِّغَكم إلى بلدٍ لم تكونوا بالغيه إلا بشِقِّ الأنفس، وجعل لكم الأرض فعليها فاقضوا حاجاتِكم» (1). فيه إسماعيل بن عيّاش. قال ابن القيم - رحمه الله -: وأما وقوف النبي - صلى الله عليه وسلم - على راحلته وخطبته عليها، فذاك غير ما نهى عنه، فإن هذا عارِضٌ لمصلحةٍ عامة في وقتٍ ما، لا يكون دائمًا، ولا يلحق الدابةَ منه من التعب والكلال ما يلحقها من اعتياد ذلك لا لمصلحة، بل يستوطنها ويتخذها مقعدًا يناجي عليها الرجل، ولا ينزل إلى الأرض، فإن ذلك يتكرر ويطول، بخلاف خطبته - صلى الله عليه وسلم - على راحلته ليُسمِع الناسَ، ويعلِّمَهم أمور الإسلام وأحكام النسك، فإن هذا لا يتكرر ولا يطول، ومصلحتُه عامة. 7 - باب في المحلِّل 279/ 2469 - عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أدخل فرسًا بين فَرَسَين ــ يعني ــ وهو لا يؤمَن أن يَسبِق فليس بقمار، ومن أدخل فرسًا بين فرسين وقد أَمِنَ أن يَسبِق فهو قمار». وأخرجه ابن ماجه (2). _________ (1) «سنن أبي داود» (2567)، وفي إسناده إسماعيل بن عيّاش، وهو وإن كان فيه مقال، لكنه مستقيم الحديث إذا روى عن الشاميين، وهذا الحديث منها. (2) أبو داود (2579) وابن ماجه (2876) من طريق سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. وسيأتي كلام المؤلف عليه.

(2/217)


قال ابن القيم - رحمه الله -: قال أبو داود (1): ورواه معمر وشعيب وعُقَيل (2) عن الزهري عن رجال من أهل العلم، قال أبو داود: وهذا أصح عندنا. وهذا الحديث معروف بسفيان بن حسين عن الزهري، وهو ثقة، لكن جمهور أئمة الحديث والحفاظ (3) يضعّفونه في الزهري ولا يرونه فيه حجة. وقد تابعه مِثْلُه عن الزهري، وهو سعيد بن بشير (4)، ضعيف أيضًا. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب «العلل» (5) له: سألت أبي عن حديث سفيان بن حسين؟ فقال: خطأ، لم يعمل سفيان شيئًا، لا يُشبه أن يكون عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحسن أحواله أن يكون قول سعيدٍ، فقد رواه يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قولَه. وفي «تاريخ ابن أبي خيثمة» (6) قال: سألت يحيى بن معين عن حديث سفيان هذا؟ فخطَّ على أبي هريرة. وقال الدارقطني في كتاب «العلل» (7): يرويه سعيد بن بشير، واختلف عنه، فرواه عبيد بن شريك، عن هشام بن عمار، عن الوليد عنه، عن قتادة، عن سعيد، عن أبي هريرة، ووهم في قوله: قتادة، فغيره يرويه عن هشام _________ (1) عقب الحديث (2580). (2) وهؤلاء من أوثق الناس في الزهري. (3) كأحمد وابن معين والنسائي وابن حبان. انظر: «تهذيب الكمال» (3/ 214). (4) روايته عند أبي داود (2580)، والحاكم (2/ 114). (5) رقم (2249). (6) ليس في القدر المطبوع منه، وانظر: «التلخيص الحبير» (2025). (7) رقم (1692).

(2/218)


فيقول: عن الزهري، بدل قتادة. وكذلك رواه محمود بن خالد وغيره عن الوليد. وكذلك رواه سفيان بن حسين عن الزهري، وهو المحفوظ. قيل له: فإن الحسين بن السَّمَيدَع رواه عن موسى بن أيوب، عن الوليد، عن سعيد بن عبد العزيز، عن الزهري؟ فقال: غلط، بل هو ابن بشير. وقال ابن معين (1): حديث سفيان في الزهري ليس بذاك، إنما سمع منه بالموسم. وقال ابن حبان (2): «لا يحتج به عن الزهري، وهو مثل ابن إسحاق [ق 148] وسليمان بن كثير». فلا تُقدَّم رواية سفيان بن حسين على رواية الأئمة الأثبات من أصحاب الزهري، وهم أعلم بحديثه. وقد روى أبو حاتم بن حبان في «صحيحه» (3) من حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سابق بين الخيل، وجعل بينهما سَبَقًا، وجعل بينهما محلِّلًا، وقال: «لا سبَقَ إلا في نصلٍ أو خُفٍّ أو حافر». ولكن أنكر عليه إدخالُه هذا الحديث في «صحيحه»، فإنه من رواية عاصم بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر، وهو ضعيف لا يحتج به، ضعّفه غير واحد من الأئمة (4). _________ (1) أسنده عنه ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (4/ 228). (2) كذا في الأصل، ولا يوجد هذا الكلام في ترجمته في «المجروحين» (1/ 454) ولا في «الثقات» (6/ 404)، ولكن يوجد نحوه لأبي حاتم الرازي في «الجرح والتعديل» (4/ 228)، وقد نقله المؤلف بحروفه في «الفروسية» (ص 178)، فلعل ما هنا سبق قلم أو سهو منشؤه اتفاق كنيتهما. (3) رقم (4689)، وليس فيه: «أو خُفٍّ». (4) ضعَّفه أحمد ويحيى بن معين والبخاري وأبو حاتم والترمذي والنسائي وغيرهم. انظر: «تهذيب الكمال» (4/ 14 - 15).

(2/219)


وذكره هو في كتابه «الضعفاء» (1). وقد ذكر أبو أحمد بن عدي هذا الحديث في كتابه (2) مما أنكر على عاصم بن عمر. وضعفه عبد الحق (3) وغيره. 8 - باب السيف يُحلَّى 280/ 2471 - عن أنس قال: كانت قَبِيعة سيفِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فِضَّة. وأخرجه الترمذي والنسائي (4). وقال الترمذي: حديث حسن غريب، وهكذا روي عن همام عن قتادة عن أنس، وقد رَوى بعضهم عن قتادة عن سعيد بن أبي الحسن قال: كانت قبيعةُ سيف رسول الله من فضة. وقال النسائي (5): هذا حديث منكر، والصواب: قتادة عن سعيد. 281/ 2472 - وعن قتادة عن سعيد بن أبي الحسن قال: كانت قَبيعةُ سيفِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضة. قال قتادة: وما علمت أحدًا تابعه على ذلك. وأخرجه النسائي (6). وقد أشار إليه الترمذي. _________ (1) أي «كتاب المجروحين» (2/ 109)، وقال: «منكر الحديث جدًّا، يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات، لا يجوز الاحتجاج به إلا فيما وافق الثقات». (2) «الكامل» (5/ 228). (3) «الأحكام الوسطى» (3/ 16) (4) أخرجه أبو داود (2583)، والترمذي (1691) من رواية جرير بن حازم، عن قتادة عن أنس. وأخرجه النسائي في «المجتبى» (5374) و «الكبرى» (9727) من طريق جرير بن حازم وهمّام بن يحيى، كلاهما عن قتادة عن أنس. (5) قوله ساقط من مطبوعة «الكبرى»، وقد ذُكر في «تحفة الأشراف» (1/ 301). (6) «المجتبى» (5375) و «الكبرى» (9728). وسعيد بن أبي الحسن تابعي ثقة، وهو أخو الحسن البصري.

(2/220)


282/ 2473 - وعن عثمان بن سعد عن أنس بن مالك قال: «كانت ... »، فذكر مثله (1). عثمان هو: أبو بكر التَّميمي البصري الكاتب، تكلم فيه غير واحد. قال ابن القيم - رحمه الله -: هذا الحديث قد أسنده عمرو بن عاصم، عن همام وجرير، عن قتادة، عن أنس، ذكره النسائي (2). وقال الدارقطني (3): الصواب عن قتادة عن سعيد بن أبي الحسن مرسلًا. وروى النسائي في «سننه» (4) عن أبي أمامة بن سهل بن حُنَيف قال: كانت قبيعة سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فضة. وفي الترمذي (5) عن مَزِيدة العَصَري قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح وعلى سيفه ذهب وفضة. قال: هذا حديث حسن غريب (6). _________ (1) «سنن أبي داود» (2585). (2) في «المجتبى» (5374) و «الكبرى» (9727). (3) «العلل» (2554). (4) «المجتبى» (5373) و «الكبرى» (9729)، وإسناده صحيح إلى أبي أمامة بن سهل، وهو من أبناء الصحابة، ولد في آخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمع منه شيئًا، ولا يبعد أن يكون رأى قبيعة سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته. (5) رقم (1690) وقال: «غريب»، وضعَّفه ابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (3/ 481)، وقال الذهبي في ترجمة طالب بن حُجَير من «الميزان» (2/ 333): تفرّد به طالب، وهو صالح الأمر إن شاء الله، وهذا منكر، فما علمنا في حلية سيفه - صلى الله عليه وسلم - ذهبًا. (6) كذا في الأصل، والتحسين لا يوجد في النسخ الخطية التي وقفت عليها، ولا في «تحفة الأشراف» (8/ 375). وقد ذكره ــ أي التحسين ــ ابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (3/ 481)، وتبعه الذهبي في «ميزان الاعتدال» (2/ 333)، والزيلعي في «نصب الراية» (4/ 233).

(2/221)


والصواب أن حديث قتادة عن أنس محفوظ [من رواية] الثقتَين (1) الضابِطَين الثَبْتَين (2): جرير بن حازم وهمام، عن (3) قتادة عن أنس. والذي رواه عن قتادة عن سعيد بن أبي الحسن مرسلًا هو هشام الدَّسْتُوائي؛ وهشام وإن كان مقدّمًا في أصحاب قتادة، فليس همام وجرير إذا اتفقا بدونه. والله أعلم. 9 - باب ابن السبيل يأكل من الثمرة ويشرب من اللبن إذا مرَّ به 283/ 2506 - عن الحسن، عن سَمُرة بن جُندَب، أن نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أتى أحدُكم على ماشية، فإن كان فيها صاحبُها فليستأذنْه، فإن أذن له فليحتَلِبْ وليشرب، وإن لم يكن فيها فَلْيُصَوِّت ثلاثًا، فإن أجابه فليستأذِنْه، وإلا فليحتَلِبْ وليشربْ، ولا يَحمِلْ». وأخرجه الترمذي (4)، وقال: حسن صحيح غريب. وذكر أن علي ابن المديني قال: سماع الحسن من سَمُرة صحيح، وقال: وقد تكلم بعض أهل الحديث في رواية الحسن عن سَمُرة وقالوا: إنما يحدِّث عن صحيفة سمرة (5). _________ (1) في الأصل: «الثقات» ولعل الصواب ما أثبت، وما بين الحاصرتين زيادة من ط. الفقي ليستقيم السياق. (2) ط. الفقي: «المتثبتين»، وط. المعارف: «المتقنين»، والمثبت أقرب إلى رسم الأصل. (3) في الأصل وط. المعارف: «على»، خطأ. (4) أبو داود (2619)، والترمذي (1296)، وكلامه عقِبَ الحديث. (5) قوله: «وقال: إنما ... » إلخ كلام الترمذي ساقط من مطبوعة «المختصر»، وهو في مخطوطته (النسخة البريطانية) و (هـ).

(2/222)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى البيهقي (1) من حديث يزيد بن هارون، عن سعيد الجُرَيري، عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أتى أحدُكم على راعٍ فلينادِ: يا راعيَ الإبل ثلاثًا، فإن أجابه وإلا فلْيَحلبْ (2) وليشرب ولا يحملنَّ. وإذا أتى أحدكم على حائطٍ فلينادِ ثلاثًا: يا صاحب الحائط، فإن أجابه وإلا فليأكلْ ولا يحملنّ». وهذا الإسناد على شرط مسلم. وإنما أعله البيهقي بأن سعيدًا الجُريري تفرد به، وكان قد اختلط في آخر عمره، وسماع يزيد بن هارون منه في حال اختلاطه. وأَعلَّ حديث سمرة بالاختلاف في سماع الحسن منه. وهاتان العلتان ــ بعد صحتهما ــ لا تُخرج (3) الحديثين عن درجة الحسن المحتجِّ به في الأحكام عند جمهور الأمة. وقد ذهب إلى القول بهذين الحديثين الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه (4). وقال الشافعي (5): وقد قيل: مَن مرّ بحائط فليأكل ولا يتخذْ خُبْنة، _________ (1) «السنن الكبرى» (9/ 359 - 360). وقد أخرجه أيضًا من طريق يزيد بن هارون: أحمد (11159)، وابن حبان (5281)، والحاكم (4/ 132) وصححه على شرط مسلم. ويزيد بن هارون روى عن الجريري بعد الاختلاط، ولكن تابعه من روى عنه قبل الاختلاط، كما سيأتي. (2) (هـ): «فليحتلب»، وهو كذلك في بعض نسخ «السنن البيهقي» كما في هامشه. (3) كذا في الأصل و (هـ)، وفي ط. الفقي: «يخرجان»، والوجه: «تُخرجان». (4) انظر: «مسائل أحمد» برواية صالح (1/ 321، 2/ 136) وبرواية أبي داود (ص 325)، و «الإنصاف» (27/ 254 - 257). (5) «الأم» (3/ 638).

(2/223)


وروي فيه حديث لو كان ثبت عندنا لم نخالفه، والكتاب والحديث الثابت: أنه لا يجوز أكلُ مال أحدٍ إلا بإذنه. والحديث الذي أشار إليه الشافعي (1): رواه الترمذي (2) من حديث يحيى بن سليم، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من دخل حائطًا فليأكل ولا يتخذ خُبْنة». قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سليم. حدثنا (3) قتيبة، حدثنا الليث، عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الثمر المعلق؟ فقال: «من أصاب منه من ذي حاجةٍ غيرَ متَّخذٍ خُبنةً فلا شيء عليه». قال: هذا حديث حسن. فاختلف الفقهاء في القول بموجَب هذه الأحاديث. فذهبت طائفة إلى أنها محكمة، وأنه يسوغ الأكلُ من الثمار، وشربُ اللبن لضرورةٍ وغيرِها، _________ (1) بقوله المتقدم: «فيه حديث لو كان ثبت عندنا»، وأما «الحديث الثابت» الذي أشار إليه الشافعي فهو حديث ابن عمر: «لا يحلبنَّ أحدكم ماشية أخيه بغير إذنه» وسيأتي قريبًا. وقد ذكر الشافعي الحديثين بلفظهما في «الأم» (3/ 635). واختلط الأمر على محقق ط. المعارف فخطّأ ابن القيم في جعل الحديث الآتي هو مراد الشافعي. (2) رقم (1287)، ولا يصحّ، فيه يحيى بن سليم وهو ضعيف إذا روى عن عبيد الله بن عمر، وقد تفرد بهذا الحديث عنه. وقال أبو زرعة: «هذا حديث منكر». «العلل» لابن أبي حاتم (2495). وأنكره أيضًا ابن معين والبخاري، كما سيأتي في كلام المؤلف لاحقًا. (3) القائل هو الترمذي في «جامعه» (1289)، وإسناده «حسن» كما قال عَقِبة. وابن عجلان فيه لين، لكنه توبع، تابعه ابن إسحاق وعبد الرحمن بن الحارث بن عياش عند أحمد (6683، 6746)، والوليد بن كثير عند البيهقي (9/ 359).

(2/224)


ولا ضمان عليه. وهذا [المشهور عن أحمد] (1). وقالت طائفة: لا يجوز له شيء من ذلك إلا لضرورة مع ثبوت العوض في ذمته. وهذا المنقول عن مالك والشافعي وأبي حنيفة (2). واحتج لهذا القول بحجج: أحدها: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، والتراضي منتفٍ في هذه الصورة. الثاني: أن الحائط والماشية لو كانا ليتيم فأكل منه، كان قد أكل مال اليتيم ظلمًا، فيدخل تحت الوعيد. الثالث: ما خرَّجا في «الصحيحين» (3) من حديث أبي بكرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم (4)، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا». ومثله في «صحيح مسلم» (5) عن جابر. _________ (1) بياض في الأصل قدر ثلاث كلمات، والمثبت من ط. الفقي. (2) سبق قول الشافعي من «الأم»، وانظر قول مالك في «الموطأ» (1440)، و «الذخيرة» (13/ 342)، وقول أبي حنيفة في «الموطأ» برواية الشيباني (872). (3) البخاري (67، 105، 1741، ومواضع أخرى)، ومسلم (1679). (4) في «الطبعتين»: «عليكم حرام» خلافًا للأصل، والمثبت من الأصل موافق لرواية مسلم (1679/ 29). (5) رقم (1218/ 147).

(2/225)


الرابع: ما في «الصحيح» (1) عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه». الخامس: ما رواه البيهقي (2) بإسناد صحيح من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب في حجة الوداع، فذكر الحديث وفيه: «ولا يحل لامرئٍ من مال أخيه إلا ما أعطاه من طيبِ نفسٍ». السادس: ما رواه مسلم في «صحيحه» (3): عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قام فقال: «لا يحلبنَّ أحدكم ماشية أخيه بغير إذنه، أَيحبُّ [ق 149] أحدكم أن تُؤتى مَشْرُبَتُه، فيكسر باب خزانته؟» الحديث. السابع: أن هذا مال من أمواله، فكان محترمًا كسائر أمواله. قال الأولون: ليس في شيء مما ذكرتم ما يعارِض أحاديث الجواز، إلا حديث ابن عمر، فإنه في الظاهر مخالف لحديث سمرة. وسيأتي بيان الجمع بينهما إن شاء الله. أما قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29]، فلا يتناول محل النزاع، فإن هذا أكل بإباحة الشارع، فكيف يكون باطلًا؟! وليس هذا من باب تخصيص العام في شيء، بل هذه الصورة لم تدخل في _________ (1) «صحيح مسلم» (2564/ 32). (2) «السنن الكبرى» (6/ 96 - 97) عن الحاكم في «مستدركه» (1/ 93). وفي إسناده إسماعيل بن أبي أويس وأبوه، وفيهما لين، ولكن له شواهد يصحّ به. انظر: «إرواء الغليل» (1459). (3) رقم (1726) بلفظ قريب، وأخرجه البخاري (2435) أيضًا.

(2/226)


الآية، كما لم يدخل فيها أكلُ الوالد مالَ ولده. وأيضًا: فالآية إنما تدل على تحريم الأكل بالباطل الذي لم يأذن فيه الشارع ولا المالك، فإذا وُجد الإذن الشرعي أو الإذن من المالك لم يكن باطلًا. ومعلوم أن إذن الشرع أقوى من إذن المالك، فما أذِن فيه الشرعُ أَحَلُّ مما أذن فيه المالك، ولهذا كانت الغنائم من أحل المكاسب وأطيبها (1)، ومالُ الولد بالنسبة إلى الأب من أطيب المكاسب، وإن لم يأذن الولد (2). وأيضًا: فإنه من المستحيل أن يأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما حرَّمه الله ومنع منه، فعُلم أن الآية لا تتناول محل النزاع أصلًا. وبهذا خرج الجواب عن الدليل الثاني، وهو كونه مالَ يتيمٍ، مع أن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء:10] يدل على أنه إنما يستحق الوعيد مَن أكلها أكلًا غيرَ مأذونٍ فيه شرعًا، فأما ما أذن فيه الشارع منها فلا يتناوله الوعيد. ولهذا كان للفقير أن يأكل منها أقل الأمرين مِن حاجته أو قَدْرِ عمله، لمَّا لم يكن ذلك ظلمًا لإذن الشارع فيه. وهذا هو بعينه الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن دماءكم وأموالكم عليكم _________ (1) كما في الحديث المشهور المتفق عليه: «أحلت لي الغنائم». وفي حديث آخر مُرسل بإسناد ضعيف: «أطيب كسب المسلم سهمه في سبيل الله ... ». أخرجه سعيد بن منصور (2886). (2) كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن لي مالًا وولدًا، وإن والدي يجتاح مالي. قال: «أنت ومالك لوالدك، إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم». أخرجه أحمد (6678)، وأبو داود (3530) واللفظ له، وابن ماجه (2292) من طرق عن عمرو به.

(2/227)


حرام»، فإن التحريم إنما يتناول (1) ما لم يقع فيه الإذن من الشارع ولا المالك، وأما ما أَذِن فيه منه فليس بحرام. ولهذا يُنتزع منه الشِّقْص المشفوع بغير رضاه، لإذن الشارع. ويُنتزع منه ما تدعو إليه ضرورة من طعام أو شراب، إما مجّانًا على أحد القولين، أو بالمعاوضة على القول الآخر. ويُكرَه على إخراج ماله لأداء ما عليه من الحقوق، وغير ذلك. وهذه الصور وأمثالها ليست مستثناةً من هذه النصوص، بل النصوص لم تتناولها، ولا أريدت بها قطعًا. وأما حديث ابن عمر: «لا يحلبنَّ أحدكم ماشية أخيه بغير إذنه»، فحديث صحيح متفق على صحته. وقد اختلفت الرواية عن الإمام أحمد في جواز احتلاب الماشية للشرب ــ ولا خلاف في مذهبه أنه لا يجوز احتلابها لغيره وهو كالخبنة في الثمار ــ فمنعه في إحدى الروايتين أخذًا بحديث ابن عمر، وجوّزه في الأخرى أخذًا بحديث سمرة (2). ومن رجّح المنع قال: حديث ابن عمر أصح، فإن حديث سمرة من رواية الحسن عنه، وهو مختلف في سماعه منه. وأما حديث ابن عمر، فمِن رواية الليث وغيره عن نافع عنه، ولا ريب في صحته. قالوا: والفرق بينه وبين الثمرة أن اللَّبَن مخزون في الضرع، كخَزْن الأموال في خزائنها، ولهذا شبَّهها النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وأخبر أن استخراجها _________ (1) في الأصل: «تناول»، والمثبت من (هـ). (2) انظر: «المغني» (13/ 336)، و «الإنصاف» (27/ 259 - 261).

(2/228)


من الضروع كاستخراج الأموال من الخزائن بكسرها. وهذا بخلاف الثمرة، فإنها ظاهرة بادية في الشجرة غير مخزونة، فإذا صارت إلى الخِزانة حَرُم الأكل منها إلا بإذن المالك. قالوا: وأيضًا، فالشهوة تشتد إلى الثمار عند طِيبها، لأن العيون تراها والنفوس شديدة الميل إليها. ولهذا جوز النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها المُزابنة في خمسة أوسقٍ أو دونها في العَرايا لمَّا شَكَوا إليه شهوتهم لها، وأنه لا ثمن بأيديهم (1)، بخلاف اللبن فإنه لا يُرى ولا تشتد الشهوة له، كاشتدادها إلى الثمار. قالوا: وأيضًا، فالثمار لا صنع فيها للآدمي بحال، بل هي خلق الله سبحانه، لم تتولد من كسب آدميٍّ ولا فِعله، بخلاف اللبن فإنه يتولد من عين مال المالك، وهو العَلَف. وإن كانت سائمة، فلا بد من قيامه عليها ورَعْيه إياها، ومراعاته لها كل وقت. وهذا وإن كان في الثمار، إلا أنه بالنسبة إلى الماشية قليل جدًّا، فإنه لا يحتاج أن يقوم على الشجر كل يوم، فمؤنتها أقل من مؤنة الماشية بكثير. فهي بالمباحات أشبه من ألبان المواشي، إلا أن اختصاص أربابها بأرضها وشجرها أخرجها عن حكم المباحات المشتركة التي يسوغ أكلُها ونقلها، فعَمِلَ الشَّبَهُ في الأكل الذي لا يُجحِف بالمالك دون النقل المضرِّ له. فهذه الفروق إن صحت، بطل إلحاق الثمار بها في المنع، وكان المصير _________ (1) ترخيص النبي - صلى الله عليه وسلم - في العرايا ثابت في البخاري (2189 - 2191) ومسلم (1539 - 1542) من حديث جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -، ولكن اختلف في تفسير العرايا وعلة ترخيصها، وما ذكره المؤلف هنا هو أرجح القولين في ذلك. انظر كلام الترمذي عقب الحديث (1302)، و «الأموال» لأبي عبيد (2/ 153 وما بعدها).

(2/229)


إلى حديث المنع في اللبن أولى. وإن كانت غير مؤَثِّرة ولا فرق بين البابين، كانت الإباحة شاملةً لهما. وحينئذ فيكون حديث النهي متناولًا للمُحتَلِب غير الشارب، بل محتلبه كالمتخذ خبنةً من الثمار، وحديث الإباحة متناول للمحتلب الشارب فقط دون غيره. ويدل على هذا التفريق قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث سمرة: «فليحتلب وليشرب ولا يحمل»، فلو احتلب للحمل كان حرامًا عليه. فهذا هو الاحتلاب المنهي عنه في حديث ابن عمر. والله أعلم. ويدل عليه أيضًا: أن في حديث المنع ما يشعر بأن النهي إنما هو عن نقل اللبن دون شربه، [ق 150] فإنه قال: «أيحب أحدكم أن تؤتى مَشْرُبَتُه فيُكسر باب خِزانته فينتقل طعامه؟». ومما يدل على الجواز: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الثمر المعلَّق؟ فقال: «من أصاب منه من ذي حاجةٍ غيرِ متخذ خبنة، فلا شيء عليه» (1). وهو من رواية محمد بن عجلان عن عمرو، ومحمد بن عجلان احتج به مسلم. والحديث حسن، خرجه أهل السنن. فإن قيل: فهذا دليل على جواز أكل المحتاج، ونحن نقول: له أن يأكل عند الضرورة وعليه القيمة، وقوله: «لا شيء عليه» هو نفي للعقوبة لا للغُرْم. فالجواب: أن هذا الحديث روي بوجهين: أحدهما: «وإن أكل بفيه ولم يأخذ فيتخذ خبنة، فليس عليه شيء» (2). _________ (1) سبق تخريجه. (2) هذا لفظ البيهقي (9/ 359)، وبنحوه عند ابن أبي شيبة (20678) وأحمد (6936).

(2/230)


وهذا صريح في أن الآكل لا شيء عليه، وإنما يجب الضمان على من اتخذ خبنة. ولهذا جعلهما قسمين. واللفظ الثاني قوله: «ومن أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيءٍ منه فعليه غرامة مِثلَيه والعقوبة» (1). وهذا صريح في أن الآكل منه لحاجة لا شيء عليه، وأن الضمان إنما يجب على المُخْرِج منه غيرَ ما أكله. والمنازعون لا يفرِّقون، بل يوجبون الضمان على الآكل والمُخْرج معًا، ولا يفرّقون فيه بين المحتاج وغيره. وهذا جمع بين ما فرق الرسول بينه، والنص صريح في إبطاله. فالحديث حجة على اللفظين معًا. فإن قيل: فالمجوزون لا يخصّون الإباحة بحال الحاجة، بل يجوزون الأكل للمحتاج وغيره، فقد جمعوا بين ما فرَّق الشارع بينه. قيل: الحاجة المسوِّغة للأكل أعمُّ من الضرورة، والحكم معلَّق بها، ولا ذكر للضرورة فيه، وإنما الجواز دائر مع الحاجة، وهو نظير تعليق بيع العرايا بالحاجة، فإنها الحاجة إلى أكل الرطب، ولا تُعتبَر الضرورة اتفاقًا، فكذلك هنا. وعلى هذا، فاللفظ قد خرج مخرج الغالب، وما كان كذلك فلا مفهوم له اتفاقًا. ومما يدل على الجواز أيضًا: حديث رافع بن عمرو الذي ذكره أبو داود في الباب (2)، وقد صححه الترمذي. ولا يصح حمله على المضطر لثلاثة _________ (1) هذا لفظ أبي داود. (2) في الأصل: «الكتاب»، والتصحيح من (هـ)، والحديث برقم (2622) عن رافع بن عمرٍو الغفاري قال: كنتُ غلامًا أرمي نخل الأنصار فأتي بي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا غلامُ، لم ترمي النخل؟» قال: آكل. قال: «فلا ترمِ النخلَ، وكُلْ مما يسقط في أسفلها» ثم مسح رأسه فقال: «اللهم أشبِع بَطْنه». ورواه الترمذي (1288) من طريق آخر وقال: «حسن صحيح غريب». وفي كلا الإسنادين راويان غفاريان تُجهل حالهما، ولكن وروده من طريقين مختلفين رواة كليهما من عشيرة صاحب القصة يدل على أن للقصة أصلًا. والله أعلم.

(2/231)


أوجه: أحدها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلق له الأكل، ولم يقل: كُلْ إذا اضطُرِرتَ، واتْرُك عند زوال الضرورة، كما قال تعالى في الميتة، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للذي سأله عن ركوب هَدْيه: «ارْكَبْها بالمعروف إذا أُلْجِئتَ إليها حتى تجد ظَهرًا» (1). الثاني: أنه لو كانت الإباحة إنما هي لأجل الضرورة فقط لثبت البدل في ذمته، كسائر الأموال، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره ببدل، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع. الثالث: أن لفظ الحديث في كتاب أبي داود ليس فيه للضرورة ذكر، فإنه قال: «يا غلام لِمَ ترمي النخلَ؟» قال: آكل، فقال: «لا ترم النخل، وكل ما يسقط». فأخبره أنه يرميها للأكل لا للحمل، فأباح له أكلَ المتساقط، ومنعه من الرمي لما فيه من كثرة الأذى. ورواه الترمذي، ولفظه: قال: «يا رافع لِمَ ترمي نخلهم؟» قال: قلت: يا رسول الله الجوع، قال: «لا ترمِ، وكل ما وقع، أشبعك الله». فهذا اللفظ ليس معارِضًا للأول. وكلاهما يدل على إباحة الأكل، وأن الإباحة عند الجوع أولى. ومما يدل على الجواز أيضًا: حديث عبّاد بن شُرَحبِيل، وقد ذكره _________ (1) أخرجه مسلم (1324) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -.

(2/232)


أبو داود في الباب (1)، وهو صحيح الإسناد، والاستدلال به في غاية الظهور. وقد تكلف بعض الناس رَدَّه بأنه لم يحدِّث به غيرُ (2) أبي بِشر جعفر بن إياس. وهذا تكلّف بارد، فإن أبا بشر هذا من الحفاظ الثقات الذين لم تُغْمَز قناتهم. وتكلَّف آخرون ما هو أبعد من هذا فقالوا: الحديث رواه ابن ماجه والنسائي ولفظه: «فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم -،فرد إليه ثوبه، وأمر له بوَسْقٍ من طعام» (3). قالوا: فالمأمور له بالوَسْق هو الأنصاري صاحب الحائط، وكان هذا تعويضًا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سنبله. وهذا تَناكُدٌ بيِّن، فإن المأمور له بالوسق إنما هو آكل السنبل عبّاد بن شرحبيل، والسياق لا يدل إلا عليه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - رد إليه ثوبه وأطعمه وسقًا. ولفظ أبي داود صريح في ذلك، فإنه قال: «فرد عليَّ ثوبي وأعطاني وَسْقًا». _________ (1) برقم (2620) عن أبي بِشر (جعفر بن إياس) عن عبّاد بن شرحبيل قال: أصابتني سنة فدخلتُ حائطًا من حيطان المدينة ففركتُ سنبلًا فأكلتُ وحملتُ في ثوبي، فجاء صاحبه فضربني وأخذ ثوبي، فأتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: «ما علَّمتَ إذ كان جاهلًا، ولا أطعمتَ إذ كان جائعًا ــ أو قال: ساغِبًا ــ»، وأمره فردّ عليَّ ثوبي وأعطاني وَسْقًا أو نصف وسقٍ من طعام. وأخرجه أحمد (17521)، والنسائي (5409)، وابن ماجه (2298)، والحاكم (4/ 133) وقال: صحيح الإسناد. (2) في الأصل: «عن» تصحيف ما أثبته، ثم وجدته على الصواب في (هـ) ولله الحمد، وفي هامش الأصل بخط مغاير: «إلا»، وأشير إليه بخط منعطف بعد «أبي بشر»، فصارت العبارة كما ط. الفقي: «عن أبي بشر إلا جعفر بن إياس»، وهو خطأ محض فإن أبا بشر هو جعفر. وفي ط. المعارف: «إلا عن أبي بشر جعفر بن إياس». (3) هذا لفظ ابن ماجه، ولفظ النسائي: «وأمر لي».

(2/233)


ومما يدل على الجواز أيضًا: ما رواه الترمذي (1): حدثنا ابن أبي الشوارب، حدثنا يحيى بن سُلَيم، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من دخل حائطًا فليأكل، ولا يتخذ خبنة». وهذا الحديث وإن كان معلولًا، كما (2) قال الترمذي في كتاب «العلل الكبير» (3) له: سألتُ محمدًا عن هذا الحديث؟ فقال: يحيى بن سليم يروي أحاديث عن عبيد الله يَهِم فيها. تم كلامه، وقال يحيى بن معين (4): هذا الحديث غلط، وقال أبو حاتم الرازي (5) في (6) يحيى بن سليم هذا: محله الصدق وليس بالحافظ ولا يحتج به، وقال النسائي (7): ليس به بأس وهو منكر الحديث عن عبيد الله بن عمر (8) = ولكن لو حاكَمْنا منازعينا من الفقهاء إلى أصولهم، لكان هذا الحديث حجّةً على قولهم، لأن يحيى بن سليم من رجال «الصحيحين»، وهو لو انفرد بلفظةٍ أو رفعٍ أو اتصالٍ خالفه غيرُه فيه لحكموا له ولم يلتفتوا إلى من خالفه، [ق 151] ولو كانوا (9) أوثق وأكثر، فكيف إذا روى ما لم يخالَف فيه، بل له أصول ونظائر؟ _________ (1) برقم (1287)، وقد سبق تخريجه. (2) «كما» سقطت من الأصل، واستدركت من (هـ). (3) (ص 192). (4) أسنده عنه البيهقي (9/ 359). (5) «الجرح والتعديل» (9/ 156). (6) «في» سقطت من الأصل، واستدركت من (هـ). (7) انظر: «تهذيب الكمال» (8/ 48). (8) في الأصل وطبعة الفقي: «عمرو»، خطأ. (9) في الطبعتين: «كان» خلافًا للأصل.

(2/234)


ولكنا لا نرضى بهذه الطريقة، فالحديث عندنا معلول، وإنما سقناه اعتبارًا لا اعتمادًا. والله أعلم. فإن قيل: فما تصنعون بالحديث الذي رواه أبو عبيد القاسم في «الغريب» (1) عن ابن جريج عن عطاء قال: «رخّص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للجائع المضطر إذا مرّ بالحائط أن يأكل منه ولا يتخذ خبنة»، وهذا التقييد يبين المراد من سائر الأحاديث؟ قيل: هذا من المراسيل التي لا يحتج بها، فضلًا عن أن يعارَض بها المسندات الصحيحة، ثم ولو كان حجة فهو لا يخالف ما ذكرنا من الأحاديث، بل منطوقه يوافقها (2)، ومفهومه يدل على أن غير المضطر يخالف المضطر في ذلك، وهذا حق، والمفهوم لا عموم له، بل فيه تفصيل. ومما يدل على الجواز: حديث أبي سعيد وقد تقدّم، وإسناده على شرط مسلم، ورواه ابن حبان في «صحيحه». وأما تعليل البيهقي له بأن سعيدًا الجُرَيري تفرد به، وكان قد اختلط في آخر عمره، والذي رواه عنه يزيد بن هارون، وإنما روى عنه بعد (3) الاختلاط= فجوابه من وجهين. أحدهما: أن حماد بن سلمة قد تابع يزيد بن هارون على روايته (4). ذكره البيهقي (5) أيضًا. وسماع حماد منه قديم. _________ (1) (4/ 160)، ومن طريقه البيهقي (9/ 360). (2) في الطبعتين: «يوافقنا» خلافًا للأصل. (3) ط. المعارف: «بعض» تحريف سماعي. (4) أخرجه أحمد (11045). (5) «السنن الكبرى» (9/ 360).

(2/235)


الثاني: أن هذا إنما يكون علة إذا كان الراوي ممن لا يميز حديثَ الشيخ صحيحَه مِن سقيمِه. وأما يزيد بن هارون وأمثاله إذا رَوَوا عن رجل قد وقع في حديثه بعض الاختلاط فإنهم يميزون حديثه وينتقونه. هذا مع أن حديثه موافق لأحاديث الباب، كحديث سمرة، ورافع بن عمرٍو، وعبد الله بن عمرو، وعباد بن شرحبيل. وهذا يدل على أنه محفوظ، فإن (1) له أصلًا، ولهذا صححه ابن حبان وغيره. 10 - باب في الطاعة 284/ 2511 - وعن علي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث جيشًا، وأمَّرَ عليهم رجلًا وأمرهم أن يسمعوا له ويُطيعوا، فأجَّجَ نارًا وأمرهم أن يَقْتَحِموا فيها، فأبى قومٌ أن يدخلوها، فبلغ ذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: لو دَخَلُوها ــ أو دَخلَوا فيها ــ لم يزالوا فيها، وقال: لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف». وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (2). قال ابن جرير (3): «الأخبار الواردة بالسمع والطاعة للأمراء ما لم يكن خلافًا لأمر الله ورسوله، فإذا كانت خلافًا لذلك فغير جائز أن يُطيع أحدًا في معصية الله ورسوله، وبنحو ذلك قال عامّة السلف»، وأشار إلى أن الأحاديث المجملة يفسرها الأحاديث المفسَّرة دفعًا للتضاد في الأحاديث (4). _________ (1) في الطبعتين: «وأن» خلافًا للأصل. (2) أبو داود (2625)، والبخاري (4340، 7145، 7257)، ومسلم (1840)، والنسائي (4205). (3) لم أجده في القدر المطبوع من «تهذيب الآثار». (4) هذه الفقرة من كلام المنذري أثبتناها من (هـ)، وهي ساقطة من «المختصر» المطبوع، وثابتة في المخطوط (النسخة البريطانية) ضمن كلام طويل للمنذري.

(2/236)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد استُشكل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما خرجوا منها أبدًا» (1)، و «لم يزالوا فيها» مع كونهم لو فعلوا ذلك لم يفعلوه إلا ظنًّا منهم أنه من الطاعة الواجبة عليهم، وكانوا متأولين. والجواب عن هذا: أن دخولهم إياها معصية في نفس الأمر، وكان الواجب عليهم أن لا يبادروا، ويتثبَّتوا حتى يعلموا: هل ذلك طاعةٌ لله ورسوله أم لا؟ فأقدموا على الهجوم والاقتحام من غير تثبت ولا نظر، فكان عقوبتهم أنهم لم يزالوا فيها. وقوله: «أبدًا» لا يعطي خلودهم في نار جهنم، فإن الإخبار إنما هو عن نار الدنيا (2)، و «الأبد» كثيرًا ما يُراد به أبد الدنيا؛ قال تعالى في حق اليهود: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة:95]، وقد أخبر عن الكفار أنهم يتمنون الموت في النار ويسألون ربهم أن يقضي عليهم (3). وقد جاء في بعض الروايات: أن هذا الرجل كان مازحًا، وكان معروفًا بكثرة المزاح (4)، والمعروف أنهم أغضبوه حتى فعل ذلك. _________ (1) هذا لفظ إحدى روايات البخاري (7145). (2) يؤيد ذلك أن لفظه في الروايات الأخرى في «الصحيح» وغيره: «ما خرجوا منها إلى يوم القيامة»، وفي بعضها: «لم يزالوا فيها إلى يوم القيامة». ومعلوم أن القصة واحدة، فيكون من قال: «أبدًا» رواه بالمعنى يقصد به أبد الدنيا. (3) وذلك في قوله تعالى: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]. (4) جاء ذلك في حديث أبي سعيد الخدري، ولفظه: «كانت فيه دعابة ... فلمّا ظن أنهم واثبون قال: أمسكوا على أنفسكم، فإنما كنت أمزح معكم»، وسمَّى أبو سعيد الأمير: عبد الله بن حُذافة السهمي، وذكر أنه كان في بعثٍ عليه علقمةُ بن مجزِّز المُدلجيُّ، فأمَّره علقمة على طائفةٍ من الجيش في بعض الطريق. أخرجه أحمد (11639)، وابن ماجه (2863)، وابن حبان (4558)، وفي إسناده محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، وهو صدوق لا بأس به، فظاهر الإسناد أنه حسن، لكنه مخالف لما ورد في روايات «الصحيحين» لحديث الباب أن الأمير كان من الأنصار، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أمَّره، وأنه قد غضب عليهم فأمرهم بذلك. قال المؤلف في «زاد المعاد» (3/ 451 - 452): فإما أن يكونا واقعتين، أو يكون حديث عليٍّ ــ أي: المتفق عليه ــ هو المحفوظ.

(2/237)


وفي الحديث دليل على عقوبة من أطاع ولاة الأمر في معصية الله (1)، وأن ذلك لا يُمهِّد له عذرًا عند الله، بل إثم المعصية لاحِق له، وإن كان لولا الأمرُ لم يرتكبها. وعلى هذا يدل هذا الحديث، وهو وجهه. وبالله التوفيق. 11 - باب علامَ يقاتل؟ 285/ 2530 - وعن جرير بن عبد الله قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سَرِيَّة إلى خَثْعَمَ، فاعتصم ناسٌ منهم بالسجود، فأسرعَ فيهم القتل، قال: فبلغ ذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فأمر لهم بنصف العَقْل، وقال: «أنا بريء من كلِّ مسلم يُقيم بين أظهر المشركين»، قالوا: يا رسول الله، لم؟ قال: «لا تَرايا نَارَاهُما». وأخرجه الترمذي والنسائي (2). وذكر أبو داود أن جماعة رووه مرسلًا. _________ (1) ط. الفقي: «دليل أن على من أطاع ولاة الأمر في معصية الله كان عاصيًا»، خلاف الأصل زيادةً ونقصًا. (2) أخرجه أبو داود (2645)، والترمذي (1604) من طريق أبي معاوية عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير موصولًا. وأخرجه الترمذي (1605) والنسائي (4780) من طريقين عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم مرسلًا.

(2/238)


وأخرجه الترمذي أيضًا مرسلًا، وقال: هذا أصح، وذكر أن أكثر أصحاب إسماعيل بن أبي خالد لم يذكروا فيه جريرًا، وذكر عن البخاري أنه قال: الصحيح مرسل. ولم يخرجه النسائي إلا مرسلًا. قال ابن القيم - رحمه الله -: قال بعض أهل العلم (1): إنما أمر لهم بنصف العقل بعد علمه بإسلامهم، لأنهم قد أعانوا على أنفسهم بمقامهم بين ظهرانَي الكفار، فكانوا كمن هلك بجناية نفسه وجناية غيره. وهذا حسن جدًّا. [وفيه دليل على أنه إذا كان أسيرًا في أيديهم فأمكنه الخلاص بالانفلات منهم لم يحلَّ له المقام معهم. وقوله: «لا تترايا (2) ناراهما» قيل: لا يستوي حُكماهما. وقيل: إن الله تعالى قد فرق بين دار الإسلام ودار الكفر، فلا يجوز للمسلم أن يُساكن الكفار حتى إذا أوقدوا نارًا كان منهم بحيث يراها (3). وقيل: لا يتَّسِم المسلم بسِمَة المشرك ولا يتشبه به في هديه وشكله. وقيل: لا يجتمعان في الآخرة. وفيه دليل على كراهية دخول المسلم دار الحرب للتجارة والمقام بها أكثرَ من ثلاثة أيام] (4). _________ (1) هو الخطابي في «المعالم» (3/ 436)، وقد نقله المنذري أيضًا في «المختصر» كما في مخطوطته (النسخة البريطانية). (2) كذا في الأصل بالتاءين، وفي لفظ الحديث في «السنن»: «ترايا» بحذف تاء المضارعة تخفيفًا، نحو قوله تعالى: {نَارًا تَلَظَّى} أي تتلظّى. (3) في (هـ): «إذا أوقد نارًا كانوا منها بحيث يراها»، وفي «المختصر» (النسخة البريطانية): «إذا أوقدوا نارًا كانوا منهم بحيث يراها»، ولعل الصواب ما أثبت. (4) ما بين الحاصرتين ليس في الأصل، ولكن المجرّد أشار إليه فذكر أن للمنذري أقوالًا في معنى الحديث، والمثبت من (هـ)، وهو اختصار للمؤلف لما في «مختصر المنذري» (ق 2/ 221 - النسخة البريطانية).

(2/239)


قال ابن القيم - رحمه الله -: والذي يظهر من معنى الحديث: أن النار هي شعار القوم النزول (1) وعلامتهم، وهي تدعو إليهم، والطارق يأنس بها، فإذا ألمّ بها جاور أهلَها وسالمهم، فنار المشركين تدعو إلى الشيطان وإلى نار الآخرة، فإنها إنما توقد في معصية الله، ونار المؤمنين تدعو إلى الله وإلى طاعته وإعزاز دينه، فكيف تتفق الناران، وهذان (2) شأنهما؟ وهذا من أفصح الكلام وأجزله، المشتملِ على المعنى الكثير الجليل بأوجز عبارة. وقد روى النسائي (3) من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله ما أتيتك حتى حلفت أكثر من عددهن ــ لأصابع يديه ــ أن لا آتيك، ولا آتي دينَك، وإني كنت امرأً لا أعقل شيئًا إلا ما علمني الله ورسوله، وإني أسألك بوجه الله: بم بعثك ربنا إلينا؟ قال: «بالإسلام». قلت: وما آيات الإسلام؟ قال: «أن تقول: أسلمت وجهي إلى الله وتخلَّيتُ (4)، وتقيمَ الصلاة، وتؤتيَ الزكاة. كل مسلم على (5) مسلم محرَّم، أخَوان نصيران، لا يقبل الله من مشركٍ بعد ما يسلم عملًا، أو يفارقَ المشركين إلى _________ (1) أي: القوم النازلين، فـ «النزول» جمع نازل، كشاهد وشهود. وفي ط. الفقي: «عند النزول» خلافًا للأصل. (2) كذا في الأصل، وله وجه. وغيَّره في ط. الفقي إلى: «وهذا». (3) «المجتبى» (2568)، و «الكبرى» (2360). وأخرجه أيضًا أحمد (20037)، وابن ماجه (2536)، والحاكم (4/ 600) من طرق عن بهز بن حكيم به. (4) أي: وتخلّيت عن عبادة غير الله. (5) في الأصل و (هـ): «عن»، تصحيف.

(2/240)


المسلمين». وقد ذكر أبو داود (1) من حديث سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله». وفي «المراسيل» (2) لأبي داود عن مكحول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تتركوا الذرية بإزاء العدو». 12 - [ق 152] باب في التفريق بين السبي 286/ 2581 - عن ميمون بن أبي شَبِيب عن علي أنه فرَّق بين جارية وولدها، فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، ورَدّ البيع (3). قال أبو داود: ميمون لم يدرك عليًّا. وذكر الخطابي (4) أن إسناده غير متّصل كما ذكره أبو داود. قال ابن القيم - رحمه الله -: وروى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي قال: قَدِم على النبي - صلى الله عليه وسلم - سَبْيٌ فأمرني ببيع أخوين فبعتهما وفرَّقتُ بينهما، ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبرته، فقال: «أدرِكْهما وارتَجِعهما، وبِعْهما جميعًا، ولا تفرق _________ (1) برقم (2787) بإسناد ضعيف فيه ثلاثة مجاهيل، غير أن ابن حبان أوردهم في «الثقات» على قاعدته في توثيق المجاهيل. وله طريق آخر عند الحاكم (2/ 141)، لكنه واهٍ لا يُفرَح به. وأخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (6/ 405) بإسناد صحيح عن الحسن البصري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا. (2) برقم (344) عن مكحول، وعن القاسم أبي عبد الرحمن الدمشقي الأموي، كلاهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا. والإسناد إليهما فيه لين. (3) «سنن أبي داود» (2696)، من طريق الحَكَم بن عتيبة، عن ميمون به. (4) «معالم السنن» (5/ 31).

(2/241)


بينهما». أخرجه الحاكم (1) وقال: هو صحيح على شرطهما ولم يخرجاه. وفي «جامع الترمذي» (2) من حديث أبي أيوب الأنصاري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من فرَّق بين الجارية وولدها فرَّق الله بينه وبين أحبَّته يوم القيامة». قال الترمذي: حسن غريب. وأخرجه الحاكم وقال: «صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه»، وليس كما قاله، فإن في إسناده حُيَي (3) بن عبد الله، ولم يخرَّج له في «الصحيحين» شيء (4). وقال الإمام (5) أحمد: في حديثه مناكير. وقال _________ (1) «المستدرك» (2/ 54) من طريق عبد الوهاب بن عطاء الخفّاف عن شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى به. وهذا الإسناد رجاله ثقات، لكنه ــ كما قال الدارقطني في «العلل» (401) ــ ليس بمحفوظ هكذا، وإنما المحفوظ: عن الخفاف، عن سعيد بن أبي عروبة، عن رجل، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى به. هكذا أخرجه أحمد في «المسند» (1045)، وهو ضعيف لإبهام الرجل، لكنه توبع من طريق آخر، تابعه زيد بن أبي أُنَيسة عن الحكم به، كما عند ابن الجارود في «المنتقى» (575)، والضياء في «المختارة» (2/ 273). وهذا إسناد جيّد في الظاهر، وأبو حاتم يعلّه ــ كما في «العلل» (1154) ــ بإسناد حديث الباب: عن الحكم، عن ميمون بن أبي شبيب، عن علي؛ غير أن الدارقطني يرى أنه «لا يمتنع أن يكون الحكَم سمعه منهما جميعًا، فرواه مرّة عن هذا ومرة عن هذا، والله أعلم». (2) برقم (1283، 1566)، وأخرجه أيضًا أحمد (23499)، والحاكم (2/ 55)، من طريق حُيَي بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن أبي أيوب الأنصاري. (3) في الأصل: «حسين» تصحيف، والتصحيح من مصادر التخريج. (4) «شيء» من (هـ). (5) «الإمام» من (هـ).

(2/242)


البخاري: فيه نظر (1). ولفظ الترمذي فيه: «من فرق بين والدة وولدها». 13 - باب الرخصة في البالغين (2) 287/ 2582 - عن إياس بن سلمة، قال: حدثني أبي، قال: خرجنا مع أبي بكر ــ وأمَّرَه علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ــ فغزونا فَزارة، فَشَنَنَّا الغارة، ثم نظرتُ إلى عُنْقٍ من الناس فيه الذُّرية والنساء، فرميت بسهمٍ فوقع بينهم وبين الجبل، فقاموا، فجئتُ بهم إلى أبي بكر، فيهم امرأة من فَزارة عليها قِشْعٌ من أَدَمٍ، معها بنت لها من أحسن العرب، فنفَّلني أبو بكر ابنتها، فقدمتُ المدينة فلقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: «يا سلمة هَبْ لي المرأة»، فقلت: والله لقد أعجَبْتني، وما كشفت لها ثوبًا، فسكت، حتى إذا كان من الغد لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السوق فقال: «يا سلمة، هَبْ لي المرأة، للهِ أبوك». فقلت: يا رسول الله، والله ما كشفت لها ثوبًا وهي لك، فبعث بها إلى أهل مكة وفي أيديهم أسرى، ففداهم بتلك المرأة. _________ (1) انظر: «تهذيب الكمال» (2/ 329). وقال ابن عدي في «الكامل» (2/ 451): «أرجو أنه لا بأس به إذا روى عنه ثقة»، وهذا الحديث رواه عنه عبد الله بن وهب المصري. ثم إن حُيَيًّا قد توبع، تابعه عبد الله بن جُنادة المَعافري المصري ــ وقد ذكره ابن حبان في «الثقات» (7/ 23) ــ عند الدارمي (2522)، وتابعه ثقة آخر: العلاء بن كثير المصري عند البيهقي (9/ 126)، إلا أنه أرسله عن أبي أيوب الأنصاري، ولم يذكر أبا عبد الرحمن الحبلي بينهما، ولعله أخذه من طريقه وإن لم يذكره، فإنه من جملة شيوخه. فالحديث حسن إن شاء الله بمجموع هذه الطرق. (2) أي في التفريق بينهم، والترجمة في «السنن» و «المختصر»: «باب الرخصة في المدرِكين يُفرَّق بينهم».

(2/243)


وأخرجه مسلم (1) (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي «صحيح الحاكم» (3) من حديث عُبادة بن الصامت قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُفرَّق بين الأم وولدها، فقيل يا رسول الله إلى متى؟ قال: «حتى يبلغ الغلام وتحيضَ الجارية». وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه. 14 - باب في عقوبة الغالِّ 288/ 2598 - عن صالح بن محمد بن زائدة قال: دخلت مع مَسْلَمة أرضَ الروم، فأتي برجل قد غَلَّ، فسأل سالمًا عنه، فقال: سمعت أبي يحدّث عن عمر بن الخطاب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا وجدتم الرجل قد غَلَّ فأَحْرِقوا متاعَه، واضربوه». قال: فوجدنا في متاعه مصحفًا، فسأل سالمًا عنه، فقال: بِعْهُ وتصدَّقْ بثمنه. وأخرجه الترمذي (4)، وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقال (5): _________ (1) أبو داود (2697)، ومسلم (1755). (2) سقط هذا الباب والحديث من (هـ) فاتصل تعليق المؤلف الآتي بتعليقه على الباب السابق. (3) (2/ 55)، وأيضًا الدارقطني (3049)، وفي إسناده: عبد الله بن عمرو بن حسّان، قال الدارقطني: هو الواقعي، وهو ضعيف الحديث، رماه علي ابن المديني بالكذب، ولم يروه عن سعيد غيرُه. وقال الذهبي متعقبًا تصحيح الحاكم: موضوع، وابن حسّان كذاب. (4) أبو داود (2713)، والترمذي (1461). (5) في «الجامع» عقب الحديث، وبنحوه في «العلل الكبير» (ص 238).

(2/244)


سألتُ محمدًا عن هذا الحديث، فقال: إنما روى هذا صالح بن محمد بن زائدة، وهو أبو واقدٍ اللَّيثي، وهو منكر الحديث. قال محمد: وقد رُوي في غير حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغالِّ، فلم يأمر فيه بحرق متاعه. آخر كلامه. وصالح بن محمد بن زائدة: تكلم فيه غير واحد من الأئمة (1). وقد قيل: إنه تفرد به. وقال البخاري (2): وعامة أصحابنا يحتجون بهذا في الغلول، وهو باطل ليس بشيء. وقال الدارقطني (3): أنكروا هذا الحديث على صالح بن محمد. قال: وهذا حديث لم يتابَع عليه، ولا أصل لهذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر (5) هذا الحديث وزاد فيه: «واضربوا عنقه» بدل «واضربوه». _________ (1) ضعَّفه ابن معين، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وأبو داود، وغيرهم. انظر: «تهذيب الكمال» (3/ 435). (2) أسنده عنه البيهقي (9/ 103)، وعزاه مُغَلْطاي في «إكمال تهذيب الكمال» (6/ 343) إلى «التاريخ الكبير» بخط أبي ذر الهروي، وابن الأبار، وأبي العباس بن ياميت، ولا يوجد في النسخة المطبوعة منه. (3) في «تعليقاته على المجروحين لابن حبان» (ص 131). وانظر: «العلل» له (103). (4) لفظ تعليق المنذري من (هـ)، وفيه تصرّف يسير من المؤلف. (5) في «التمهيد» (2/ 22). وأخرجه بهذه الزيادة: «فاضربوا عنقه» الطحاويُّ في «شرح مشكل الآثار» (4240).

(2/245)


قال عبد الحق (1): هذا حديث يدور على صالح بن محمد، وهو منكر الحديث ضعيفُه لا يحتج به، ضعفه البخاري وغيره. انتهى. 289/ 2600 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر حرَّقوا متاع الغالِّ وضربوه (2). قال أبو داود: وزاد فيه علي بن بَحْر عن الوليد ــ ولم أسمعه منه ــ: «ومنعوه سهمه». قال ابن القيم - رحمه الله -: وعلة هذا الحديث أنه من رواية زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب، وزهير هذا ضعيف. قال البيهقي (3): وزهير هذا يقال: هو مجهول، وليس بالمكي (4). وقد رواه (5) أيضًا مرسلًا. 15 - باب في المرأة والعبد يُحْذَيان من الغنيمة 290/ 2613 - وعن حَشْرَج بن زياد، عن جَدَّته أمِّ أبيه، أنها خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة خيبر سادسَ سِتِّ نِسْوَةٍ، فبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فبعث إلينا، _________ (1) «الأحكام الوسطى» (3/ 80). (2) «سنن أبي داود» (2715). (3) «السنن الكبرى» (9/ 102). (4) بل الظاهر أنه هو المكي، وهو صدوق جائز الحديث لكن روايات أهل الشام عنه ــ كما هو الحال في هذا الحديث ــ غير مستقيمة، فضُعّف بسببها حتى قال الإمام أحمد: «كأن الذي روى عنه أهل الشام زهير آخر فقُلب اسمه!». انظر: «تهذيب الكمال» (3/ 37)، و «ميزان الاعتدال» (2/ 84). (5) أي أبو داود عقب الحديث السابق. ورواه أيضًا ابن أبي شيبة (29279) من طريق آخر موقوفًا على عمرو من قوله، ثم قال: «وبلغني أن أبا بكر وعمر كانا يفعلانه».

(2/246)


فجئنا فرأينا فيه الغضبَ، فقال: «مع مَن خَرَجْتُنَّ؟ وبِإِذنِ مَن خَرَجْتُنَّ؟» فقلنا: يا رسول الله، خرجنا نَغْزِلُ الشَّعَرَ، ونُعِين في سبيل الله، ومعنا دواء للجرحى، ونُناولُ السهامَ، ونَسْقِي السَّويق، فقال: «قُمْنَ»، حتى إذا فتح الله عليه خيبر أسهمَ لنا كما أسهم للرجال، قال: فقلتُ لها: يا جَدَّةُ، وما كان ذلك؟ قالت: تمرًا. وأخرجه النسائي (1). وجدة حشرج: هي أم زياد الأشجعية، وليس لها في كتابيهما سوى هذا الحديث. وذكر الخطابي (2): أن الأوزاعي قال: يُسهم لهن. قال: وأحسبه ذهب إلى هذا الحديث (3). وإسناده ضعيف، لا تقوم به الحجة (4). آخر كلامه (5). قال ابن القيم - رحمه الله -: ويَحتمِل قولُها: «أسهم لنا كما أسهم للرجال» أن (6) تعني به أنه أشرك بينهم في أصل العطاء لا في قَدْره، فأرادت أنه أعطانا مثل ما أعطى الرجال، لا أنه أعطاهن بقدره سواء. والله أعلم. _________ (1) أبو داود (2729)، والنسائي في «الكبرى» (8828)، من طريق رافع بن سلمة، عن حشرج به. (2) «معالم السنن» (4/ 49). (3) وهو كما حسبه الخطابي، فإن ابن المنذر نقل في «الأوسط» (6/ 193) عن الأوزاعي أنه قال: أسهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للنساء بخيبر، وأخذ المسلمون بذلك. (4) وذلك لجهالة رافع وحشرج. والحديث ضعَّفه ابن حزم، وابن القطان، وابن الملقن، وغيرهم. انظر: «المحلى» (7/ 334)، و «بيان الوهم» (3/ 260 - 261)، و «البدر المنير» (7/ 336)، و «إرواء الغليل» (1238). (5) لفظ تعليق المنذري من (هـ)، وفيه تصرّف يسير من المؤلف. (6) في الطبعتين: «أنها» خلافًا للأصل.

(2/247)


291/ 2615 - وعن جابر ــ وهو ابن عبد الله ــ قال: «كنت أُمِيحُ أصحابي الماءَ يوم بدر» (1). المايح بالياء: الذي في أسفل البئر، والماتح بالتاء ثالث الحروف: الذي هو في أعلى البئر (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: الأعلى للأعلى والأسفل للأسفل. ونظيره في ذلك: الجِنازة بالكسر للسرير، والجَنازة بالفتح للميت (3). قال بعضهم: من ذلك الدَّجاج بالفتح للديكة، والدِّجاج بالكسر للإناث (4). 16 - باب في سجود الشكر 292/ 2657 - عن أبي بكرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا جاءه أمْرُ سُرورٍ أو بُشِّرَ به خَرَّ ساجدًا شُكرًا لله». وأخرجه ابن ماجه والترمذي (5)، وقال: حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث بكار بن عبد العزيز. هذا آخر كلامه. _________ (1) «سنن أبي داود» (2731) بإسناد جيد. (2) لفظ تعليق المنذري من (هـ)، وفيه تصرّف يسير من المؤلف. (3) وهو قول ابن الأعرابي، أسنده الخطابي في «غريب الحديث» (1/ 234) عن أبي العباس ثعلب، عنه. وقيلت فيه أقوال أخرى. انظر: «تهذيب اللغة» و «التاج» (جنز). (4) لم أجد قائلًا به، وفي «القاموس»: «الدجاجة: م، للذكر والأنثى، ويثلَّث»، وفي «شرحه»: «والفتح أفصح، ثم الكسر». (5) أبو داود (2774)، وابن ماجه (1394)، والترمذي (1578)، والحاكم (1/ 276)، من طريق بكّار بن عبد العزيز بن أبي بكرة، عن أبيه، عن جدّه أبي بكرة. قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ... وبكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة مقارب الحديث».

(2/248)


وبكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة فيه مقال (1). وقد جاء حديث سجدة الشكر من حديث البراء بن عازب بإسناد صحيح (2)، ومن حديث كعب بن مالك (3). 293/ 2658 - وعن عامر بن سعد عن أبيه قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة نريد المدينة، فلما كنا قريبًا من عَزُورَا نزل، ثم رفع يديه فدعا الله ساعة، ثم خرَّ ساجدًا فمكث طويلًا، ثم قام فرفع يديه ساعة، ثم خرَّ ساجدًا فمكث طويلًا، ثم قام فرفع يديه ساعة، ثم خر ساجدًا ــ ذكره أحمد (يعني: ابن صالح) ثلاثًا ــ، قال: «إني سألت ربي وشفعت لأمتي فأعطاني ثُلُثَ أمتي فخررتُ ساجدًا شكرا لربي، ثم رفعت رأسي فسألت ربي لأمتي فأعطاني ثلث أمتي فخررت ساجدًا لربي شكرًا، ثم رفعت رأسي فسألت ربي لأمتي فأعطاني الثلث الآخَر فخررت ساجدًا لربي» (4). في إسناده موسى بن يعقوب الزَّمْعي، وفيه مقال. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى الإمام أحمد في «مسنده» (5) عن _________ (1) قال ابن معين: ليس حديثه بشيء، وضعّفه يعقوب بن سفيان والعقيلي. وقال ابن معين في رواية أخرى: صالح، وقال البزار: ليس به بأس، وقد استشهد به البخاري في «صحيحه» (7083)، وذكره ابن حبان في «الثقات» (6/ 107). وعليه فالحديث لا ينزل عن درجة الحسن، لا سيما وله شواهد تعضده. (2) أخرجه أبو بكر الإسماعيلي، ومن طريقه البيهقي (2/ 369) بإسناد على شرط الصحيح، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمّا جاءه خبر إسلام هَمْدان خرّ ساجدًا. وقد أخرج البخاري (4349) صدر الحديث ولم يسقه بتمامه. (3) أخرجه البخاري (4418) ومسلم (2769/ 53) في قصة توبته. (4) «سنن أبي داود» (2775). وإسناده ضعيف لضعف موسى بن يعقوب الزَّمعي وجهالة حال شيخه وشيخ شيخه. (5) برقم (20455) من طريق بكّار بن عبد العزيز به، وهو حسن كما سبق.

(2/249)


أبي بكرة: أنه شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه بشير يبشِّره بظَفَر جند له على عدوهم ورأسه في حِجر عائشة فقام فخرَّ ساجدًا. وفي «المسند» (1) أيضًا عن عبد الرحمن بن عوف قال: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فتوجَّه نحو صدَقَته فدخل فاستقبل القبلة فخرّ ساجدًا فأطال السجود، ثم رفع رأسه وقال: «إن جبريل أتاني فبشّرني فقال: إن الله عز وجل يقول لك: من صلَّى عليك صلَّيت عليه، ومن سلَّم عليك سلَّمتُ عليه، فسجدتُ لله شكرا». وفي «مسند الإمام أحمد» (2) أيضًا: أن عليًّا سجد حين وجد ذا الثُدَيَّة في الخوارج مقتولًا. وفي «سنن سعيد بن منصور» (3): أن أبا بكر الصديق سجد حين جاءه قتلُ مسيلمةَ الكذّاب. _________ (1) برقم (1664) من طريق عمرو بن أبي عمرو، عن عبد الواحد بن محمد بن عبد الرحمن بن عوف، عن جده عبد الرحمن بن عوف. وهذا الإسناد فيه ضعف لأن عبد الواحد بن محمد لم يوثقه غير ابن حبان. ثم إنه قد اختلف على عمرو بن أبي عمرو في إسناده، ولكن استصوب الدارقطني الطريق المذكور وأن ما سواه ليس بمحفوظ. انظر «العلل» (577). وللحديث إسنادان آخران عند أبي يعلى (847، 858)، وهما ضعيفان، ولكن الحديث يتقوى بهما ويرتقي إلى درجة الحسن إن شاء الله. (2) برقم (848)، وفي إسناده ضعف لجهالة طارق بن زياد الكوفي الراوي عن علي. وله طرق أخرى عن عليٍّ عند ابن أبي شيبة (8502، 8508، 8510)، والبزار (564)، والحاكم (2/ 154)، يثبت الأثر بمجموعها. (3) وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (8499) من طريق محمد بن عبيد الله أبي عون الثقفي، عن رجل لم يسمِّه، أن أبا بكر لمّا أتاه فتح اليمامة سجد.

(2/250)


 كتاب الأضاحي

1 - باب ما جاء في وجوب الأضاحي 294/ 2670 - عن مِخنَف بن سُليم قال: ونحن وقوف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفات قال: «يا أيها الناس، إنَّ على أهلِ كلِّ بيت في كلِّ عام أُضحية وعَتيرَة، أتدْرونَ ما العَتيرَة؟ هذه التي يقول الناس الرَّجَبِية». وأخرجه النسائي وابن ماجه والترمذي (1)، وقال: حسن غريب، ولا نعرف هذا الحديث مرفوعًا إلا من هذا الوجه من حديث ابن عون. وقال الخطابي (2): ضعيف المخرج، وأبو رملة مجهول. وقال أبو بكر المعافري (3): هوحديث ضعيف لا يحتج به (4). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال عبد الحق (5): إسناد هذا الحديث ضعيف. وقال ابن القطان (6): يرويه حبيب بن مخنف ــ وهو مجهول ــ عن أبيه (7). _________ (1) أبو داود (2788)، والنسائي (4224)، وابن ماجه (3125)، والترمذي (1518)، كلهم من طريق عبد الله بن عون، عن عامر أبي رملة، عن مِخْنَف به. (2) «معالم السنن» (4/ 94). (3) هو ابن العربي المالكي في «عارضة الأحوذي» (6/ 241). (4) لفظ تعليق المنذري من (هـ)، وفيه تصرّف واختصار من المؤلف. (5) «الأحكام الوسطى» (4/ 126). (6) «بيان الوهم والإيهام» (3/ 577 - 578). (7) أخرجه عبد الرزاق (8001)، وعنه أحمد (20730) إلا أنه لم يقل: «عن أبيه» وجعله من مسند حبيب. قال أبو نعيم في «معرفة الصحابة» (2/ 839 - 840): «كان عبد الرزاق يرويه في بعض الأوقات مجوّدًا هكذا (عن أبيه)، ورواه مرّة عن حبيب نفسه». وعلى كلٍّ، ففي إسناده عبد الكريم بن أبي المخارق، وهو ضعيف، وحبيب مجهول.

(2/251)


وفيه أبو رَمْلة عامر بن أبي رملة لا يعرف إلا به. انتهى. [وقال البيهقي (1): هذا إن صحّ فهو على طريق الاستحباب، وقد جَمَع بين الأضحية والعتيرة، والعتيرة غيرُ واجبةٍ بالإجماع. وقال غيره: هذا الحديث منسوخ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا فرَعَ ولا عتيرة» (2). وقيل: «لا» لنفي الوجوب، والحديث يدل على الاستحباب ليكون جمعًا بين الحديثين. قال الخطّابي (3): وكان ابن سيرين من بين أهل العلم يذبح العتيرة في شهر رجب، ويروي فيها شيئًا (4). وقال أبو داود (5): العتيرة منسوخة. وقال غيره (6): قال بعض السلف ببقاء حكمها] (7). _________ (1) «معرفة السنن» (14/ 17). (2) أخرجه البخاري (5473)، ومسلم (1976) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (3) «معالم السنن» (4/ 123). (4) انظر: «مصنف عبد الرزاق» (7999). (5) في رواية ابن داسة، كما في هامش «السنن» طبعتي دار الصدّيق ودار التأصيل. (6) لفظ «المختصر»: «وقال اليَحصُبي»، هو القاضي عياض في كتابه «مشارق الأنوار على صحاح الآثار» (2/ 65). (7) ما بين الحاصرتين من (هـ)، ولعل المجرّد لم ينقله لأنه كلَّه ــ خلا النقل عن أبي داود ــ من كلام المنذري في «المختصر» مع تصرّف يسير من المؤلف.

(2/252)


وقد روى أحمد في «مسنده» (1) عن أبي رزين العقيلي أنه قال: يا رسول الله، إنا كنا نذبح في رجبٍ ذبائحَ فنأكل منها ونُطعم مَن جاءنا، فقال: «لا بأس بذلك». وفي «المسند» أيضًا و «سنن النسائي» (2) عن الحارث بن عمرو أنه لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، قال: فقال رجل: يا رسول الله، الفرائع والعتائر؟ قال: «مَن شاء فَرَّع ومن شاء لم يُفرِّع، ومن شاء عَتَر ومن شاء لم يَعتِر، في الغنم أضحيةٌ». وسيأتي بعد هذا في باب العتيرة (3) [ق 153] قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «في كل _________ (1) برقم (16202)، وأيضًا النسائي (4233)، وابن حبان (5891)، كلهم من طريق وكيع بن حُدُس ــ وقيل: ابن عدس ــ العُقيلي، عن عمه أبي رَزِين - رضي الله عنه -. وهذا إسناد حسن، فوكيع يحسّن له الترمذي، وقال ابن حبان في «مشاهير علماء الأمصار» (ص 200): «من الأثبات»، وقال الجورقاني في «الأباطيل والمناكير» (1/ 385): «صدوق صالح الحديث». (2) أحمد (15972)، والنسائي (4226)، وأيضًا الحاكم (4/ 232، 236) من طريقين يقوّي أحدهما الآخر، عن زرارة بن كريم بن الحارث بن عمرو، عن جدّه - رضي الله عنه -. وزُرارة له رؤية، وذكره ابن حبّان في ثقات التابعين. قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، فإن الحارث بن عمروِ السهمي صحابي مشهور، وولده بالبصرة مشهورون ... ». (3) في «المختصر» (2712) و «السنن» (2830) وليس في «التجريد»، ولفظه: قال نُبيشة: نادى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنا كنّا نعتِر عتيرةً في الجاهلية في رجبٍ فما تأمرنا؟ قال: «اذبحوا لله في أي شهر كان، وبَرُّوا لله عز وجل وأطعموا». قال: إنا كنّا نفرع فرَعًا في الجاهلية، فما تأمرنا؟ قال: «في كلّ سائمةٍ فرَعٌ تَغْذُوه ماشِيتك حتى إذا استحمل ذبحته فتصدقت بلحمه». وأخرجه أحمد (20723)، والنسائي (4229)، والحاكم (4/ 235) وقال: صحيح الإسناد. قلتُ: هو على رسم مسلم.

(2/253)


سائمة من الغنم فَرَع» فهذه الأحاديث تدل على مشروعيته. وقال ابن المنذر (1): ثبت أن عائشة قالت: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفَرَعة من كل خمسين بواحدة (2). قال: وروينا عن نُبَيشة قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا نَعتِر عتيرةً في الجاهلية في رجب، فما تأمرنا؟ فقال: «في كل سائمة فَرَع»، اختصر الحديث، وسيأتي لفظه. قال: وخبر عائشة وخبر نبيشة ثابتان. قال: وقد كانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية، ويفعلها بعض أهل الإسلام، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهما، ثم نهى عنهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «لا فرع ولا عتيرة»، فانتهى الناس عنهما لنهيه إياهم عنهما. _________ (1) «الإشراف» (3/ 425 - 426)، والمؤلف صادر عن «الاعتبار» للحازمي (ص 571 - 572). (2) أخرجه عبد الرزاق (7997)، وأبو داود (2833)، والبيهقي (9/ 312) من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن يوسف بن ماهك، عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، عن عائشة. وصحح الحافظ إسناده في «الفتح» (9/ 598). وفيه نظر، فإن عبد الله بن عثمان بن خثيم، وإن كان صدوقًا، ولكنه أنكرت عليه أحاديث حتى قال ابن معين: «أحاديثه ليست بالقوية»، وقال ابن حبان في «الثقات» (5/ 34): «كان يخطئ». وقد اضطَرب في رواية هذا الحديث، فرواه تارةً هكذا: «من كل خمسين بواحدة»، وتارةً: «من الخمسةِ واحدة»، كما عند أحمد (24530، 25250)، وأبي يعلى (4509)، والحاكم (4/ 236) من طُرق عنه.

(2/254)


ومعلوم أن النهي لا يكون إلا عن شيء قد كان يُفعَل، ولا نعلم أن أحدًا من أهل العلم يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينهاهم عنهما ثم أذن فيهما. والدليل على أن الفعل كان قبل النهي: قوله في حديث نبيشة: «إنا كنا نَعتِر عتيرة في الجاهلية، وإنا كنا نُفرِّع فَرَعًا في الجاهلية». وفي إجماع عوامّ علماء الأمصار أن استعمالهما (1) ذلك وقوف عن الأمر بهما، مع ثبوت النهي عن ذلك= بيانٌ لما قلنا. وقد كان ابن سيرين من بين أهل العلم يذبح العتيرة في شهر رجب، وكان يروي فيها شيئًا. وكان الزهري يقول: «الفرعة أول نتاج، والعتيرة شاة كانوا يذبحونها في رجب» (2). آخر كلام ابن المنذر. وقال أبو عبيد (3): هذا منسوخ. وكان إسحاق بن راهويه يحمل قوله: «لا فرع ولا عتيرة» أي لا يجب ذلك، ويحمل هذه الأحاديث على الإذن فيها (4). قال الحازمي (5): وهذا أولى مما سلكه ابن المنذر. _________ (1) في الأصل و (هـ): «استعمالها»، والتصحيح من «الاعتبار»، وفي مطبوعة «الإشراف»: «عن استعمالهما، والوقوف عن الأمر بهما». (2) أخرجه الحميدي في «المسند» (1126)، والطحاوي في «شرح مشكل الآثار (1061). وهو في «الصحيحين» عقب حديث «لا فَرَع ولا عتيرة» دون التصريح أنه من قول الزهري، والحديث مروي من طريقه. (3) «غريب الحديث» (1/ 247 - 248). (4) انظر قول إسحاق في «مسنده» عقب الحديث (1034). (5) «الاعتبار» (ص 573).

(2/255)


وقال الشافعي (1): الفرَعة شيء كان أهل الجاهلية يطلبون به البركة في أموالهم، فكان أحدهم يذبح بِكر ناقته لا يَغذُوه رجاء البركة فيما يأتي بعده، فسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «افرعوا إن شئتم» (2) أي اذبحوا إن شئتم. وكانوا يسألونه عما يصنعونه في الجاهلية خوفًا أن يُكره في الإسلام، فأعلمهم أنهم لا بركة لهم فيه، وأمرهم أن يغذوه، ثم يحملون عليه في سبيل الله. قال البيهقي: أو يذبحونه ويُطعمونه، كما في حديث نبيشة. قال الشافعي: وقوله: «الفرَعة حق» (3) أي ليست بباطل، ولكنه كلام عربي يخرج على جواب السائل. قال الشافعي: وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا فرَع ولا عتيرة»، وليس باختلاف من الرواة، إنما هو: لا فرَعة ولا عتيرة واجبة. والحديث الآخر في الفرعة والعتيرة يدل على معنى هذا أنه أباح _________ (1) أسنده عنه البيهقي في «معرفة السنن» (14/ 74 - 75) ــ واللفظ له ــ، وفي «السنن الكبرى» (9/ 313). (2) أخرجه عبد الرزاق (7991، 7994) من مرسل طاوس ومجاهد، وتتمة مرسل طاوس: «وأن تدعه حتى يبلغ فتحمِلَ عليه في سبيل الله، أو تصل به قرابةً خير من أن تذبحه فيختلط لحمُه بشعره». ويشهد لهذا المرسل ما تقدم من أحاديث أبي رزين العُقَيلي، والحارث بن عمرو السهمي، ونبيشة الهذلي، وما سيأتي من حديث عبد الله بن عمرو. (3) جزء من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -، وتمامه: «سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الفرع، قال: الفرع حقٌّ، وأن تتركوه حتى يكون بَكرًا شُغْزُبًّا ابنَ مخاضٍ، أو ابنَ لبون، فتُعطيه أرملةً أو تحمل عليه في سبيل الله خيرٌ من أن تذبحه فيَلْزق لحمُه بوبره، وتكفَأَ إناءَك، وتُولِهَ ناقتك». أخرجه أحمد (6759)، وأبو داود (2842)، والحاكم (4/ 236)، من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جدّه.

(2/256)


الذبح، واختار له أن يُعطِيه أرملةً، أو يحمل عليه في سبيل الله. والعتيرة هي الرجبية، وهي ذبيحة كان أهل الجاهلية يتبرّرون بها في رجب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا عتيرة» على معنى: لا عتيرة لازمة. وقوله حين سُئل عن العتيرة: «اذْبحوا لله في أي شهر ما كان، وبروا لله وأطعموا» (1) أي اذبحوا (2) إن شئتم واجعلوا الذبح لله لا لغيره في أي شهر ما كان، لا أنها في رجب دون ما سواه من الشهور. آخر كلامه. وقال أصحاب أحمد (3): لا يسنّ شيء من ذلك، وهذه الأحاديث منسوخة. قال الشيخ أبو محمد (4): «ودليل النسخ أمران، أحدهما: أن أبا هريرة هو الذي روى حديث «لا فرع ولا عتيرة» وهو متفق عليه. وأبو هريرة متأخر الإسلام، أسلم في السنة السابعة من الهجرة. والثاني: أن الفرع والعتيرة كان فِعلهما أمرًا متقدمًا على الإسلام. فالظاهر بقاؤهم عليه إلى حين نَسْخه واستمرارُ النسخ من غير رفع له. قال: ولو قدرنا تقدم النهي على الأمر بها، لكانت قد نسخت ثم نسخ ناسخها، وهذا خلاف الظاهر. فإذا ثبت هذا، فإن المراد بالخبر نفيُ كونها سنة، لا تحريمُ فعلها ولا _________ (1) جزء من حديث نُبَيشة، وقد سبق تخريجه. (2) من قوله: «لله في أي شهرٍ ... » إلى هنا سقط من مطبوعة «معرفة السنن» بانتقال النظر. (3) انظر: «المغني» (13/ 402 - 403). (4) هو ابن قدامة المقدسي في المصدر السابق.

(2/257)


كراهته. فلو ذبح إنسان ذبيحةً في رجب، أو ذبح ولد الناقة لحاجته إلى ذلك أو الصدقةِ به أو إطعامه، لم يكن ذلك مكروهًا». 2 - باب الرجل يأخذ من شَعَره في العشر وهو يريد أن يضحي 295/ 2673 - عن أم سلمة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كان له ذِبْحٌ يَذبَحُهُ فإذا أهلَّ هلالُ ذي الحِجة فلا يأخُذَنَّ من شعره ولا من أظفاره شيئًا، حتى يُضَحِّي». وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه بمعناه (1). وفي لفظٍ لمسلم (2): «فلا يمَسَّ من شعره وبَشَره شيئًا». وفي لفظ لابن ماجه: «فلا يمَسَّ من شعره ولا بَشره شيئًا». قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد اختلف الناس في هذا الحديث وفي حكمه: فقالت طائفة: لا يصح رفعه، وإنما هو موقوف. قال الدارقطني في كتاب «العلل» (3): ووقَفه عبد الله بن عامر الأسلمي، ويحيى القطان، وأبو ضمرة، عن عبد الرحمن بن حميد عن سعيد. ووقفه عُقَيل على سعيدٍ قولَه (4). ووقفه _________ (1) أبو داود (2791)، ومسلم (1977)، والترمذي (1523)، والنسائي (4361)، وابن ماجه (3149)، كلهم من حديث سعيد بن المسيب عن أم سلمة. (2) (1977/ 39). (3) برقم (3957/ 10) تحقيق الدباسي. (4) هذه الجملة ليست في مطبوعة «العلل»، ولا أدري من عقيل هذا، إلا أن يكون المراد: عُقيل بن خالد، عن الزهري، عن سعيد؛ فقد ذكر الدارقطني أن الزهري رواه عن سعيد واختُلف عنه، ثم ذكر رواية ابن جريج عن الزهري ولم يذكر غيرها، ولعل ثَم سقطًا.

(2/258)


يزيد بن عبد الله بن قُسَيط عن سعيد عن أم سلمة قولَها. ووقفه ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن أبي سلمة عن أم سلمة قولَها. ووقفه عبد الرحمن بن حرملة وقتادة وصالح بن حسان عن سعيد قولَه. والمحفوظ عن [ق 154] مالك موقوف (1). قال الدارقطني: والصحيح عندي قول من وقفه. ونازعه في ذلك آخرون فصححوا رفعه، منهم مسلم بن الحجاج رواه في «صحيحه» مرفوعًا. ومنهم أبو عيسى الترمذي، قال: هذا حديث حسن صحيح. ومنهم ابن حبان خرّجه في «صحيحه» (2). ومنهم أبو بكر البيهقي، قال (3): هذا حديث قد ثبت مرفوعًا من أوجه لا يكون مثلها غلطًا، وأودعه مسلم في كتابه. وصححه غير هؤلاء. وقد رفعه سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن حميد عن سعيد عن أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (4). ورفعه شعبة عن مالك عن عمرو بن مسلم عن سعيد عن أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (5). _________ (1) هذه الجملة أيضًا ليست في مطبوعة «العلل»، وإنما فيه ذكر الاختلاف على مالك، حيث رفعه شعبة عنه، ووقفه ابن وهب عنه. (2) برقم (5897، 5916 - 5918). (3) «معرفة السنن والآثار» (14/ 22). (4) رواية ابن عيينة أخرجها أحمد (26474)، ومسلم (1977/ 39)، والنسائي (4364). (5) رواية شعبة أخرجها أحمد (26654)، ومسلم (1977/ 41)، والترمذي (1523)، والنسائي (4361).

(2/259)


وليس شعبة وسفيان بدون هؤلاء الذين وقفوه، ولا مثل هذا اللفظ من ألفاظ الصحابة، بل هو المعتاد من خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «لا يؤمن أحدكم» (1)، «أيعجِز أحدكم» (2)، «أيحب أحدكم» (3)، «إذا أتى أحدكم الغائط» (4)، «إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه» (5) ونحو ذلك. وأما اختلافهم في متنه (6): فذهب إليه طائفة من التابعين ومن بعدهم، فذهب إليه سعيد بن المسيب، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وإسحاق بن راهويه، والإمام أحمد وغيرهم. _________ (1) كما في حديثَي أنس المتفق عليهما: « ... حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين»، و « ... حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه». (2) كما في حديث أبي سعيد عند البخاري (5015): «أيعجِز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟»، وهو عند مسلم من حديث أبي الدرداء (811). وعنده (2698) أيضًا من حديث سعد مرفوعًا: «أيعجِز أحدكم أن يكسب كل يومٍ ألف حسنة؟». (3) كما في حديث ابن عمر المتفق عليه: «أيحب أحدكم أن تُؤتى مشرُبَتُه فتكسر خزانته ... »، وقد سبق. وعند مسلم (802) من حديث أبي هريرة: «أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خَلِفات عظامٍ سمان؟». (4) هو حديث أبي أيوب المتفق عليه: « ... فلا يستقبل القبلة ولا يُوَلِّها ظهرَه». (5) هو حديث أبي هريرة المتفق عليه: «إذا أتى أحدَكم خادمُه بطعامه، فإن لم يُجلسه معه، فليناوله أُكلةً أو أُكلتين ــ أو لقمةً أو لقمتين ــ، فإنه ولِيَ حرَّه وعلاجه». (6) انظر: «الإشراف» (3/ 411 - 412)، و «مختصر اختلاف العلماء للطحاوي» باختصار الجصاص (3/ 230)، و «البيان والتحصيل (17/ 315، 18/ 166)، و «المغني» (13/ 362)، و «المجموع» (8/ 363).

(2/260)


وذهب آخرون إلى أن ذلك مكروه لا محرّم، وحملوا الحديث على الكراهة، منهم مالك وطائفة من أصحاب أحمد، منهم أبو يعلى وغيره. وذهبت طائفة إلى الإباحة، وأنه غير مكروه، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. والذين لم يقولوا به، منهم من أعله بالوقف، وقد تقدّم ضعفُ هذا التعليل. ومنهم من قال: هذا خلاف الحديث الثابت عن عائشة المتفق على صحته: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث بهَدْيه ويقيم حلالًا، لا يحرم عليه شيء (1). قال الشافعي (2): فإن قال قائل: ما دل على أنه اختيار لا واجب؟ قيل له: روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة قالت: «أنا فتلتُ قلائدَ هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - بيدي، ثم قلّدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم بعث بها مع أبي بكر، فلم يحرم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء أحلّه الله له حتى نحر الهدي». قال الشافعي: وفي هذا دلالة على ما وصفت، وعلى أن المرء لا يُحْرِم بالبِعثة بهديه؛ يقول: البِعثة بالهدي أكبر من إرادة الأضحية. ومنهم من رد هذا الحديث بخلافه للقياس، لأنه لا يَحْرُم عليه الوطء واللباس والطِّيب، فلا يحرم عليه حلق الشعر وتقليم الظفر. وأسعد الناس بهذا الحديث مَن قال بظاهره لصحته وعدم ما يعارضه. _________ (1) أخرجه البخاري (1698، 1700، 1702، ومواضع أخرى)، ومسلم (1321). (2) «اختلاف الحديث» (10/ 158 - ضمن الأم).

(2/261)


وأما حديث عائشة، فهو إنما يدل على أن من بعث بهديه وأقام في أهله فإنه يقيم حلالًا، ولا يكون مُحرِمًا بإرسال الهدي، ردًّا على من قال: يكون بذلك مُحرِمًا من السلف، ولهذا روت عائشة لمّا حكي لها هذا (1). وحديث أم سلمة يدل على أن من أراد أن يضحّي أمسك في العشر عن شعره وظفره خاصة، فأي منافاة بينهما؟ ولهذا أحمد وغيره يعمل بكلا الحديثين: هذا في موضعه، وهذا في موضعه. وقد سأل الإمام أحمد (2) أو غيره عبدَ الرحمن بن مهدي عن هذين الحديثين؟ فقال: هذا له وجه، وهذا له وجه. ولو قُدِّر بطريق الفرض تعارضهما لكان حديث أم سلمة خاصًّا وحديث عائشة عامًّا، ويجب تنزيل العام على ما عدا مدلول الخاص توفيقًا بين الأدلة، ويجب حمل حديث عائشة على ما عدا ما دل عليه حديث أم سلمة؛ أن (3) النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليفعل ما نهى عنه، وإن كان مكروهًا. وأيضًا: فعائشة إنما تعلم ظاهرًا ما يباشرها به، أو يفعله ظاهرًا من اللباس والطيب. وأما ما يفعله نادرًا، كقص الشعر وتقليم الظفر، مما لا يُفعل في الأيام العديدة إلا مرة = فهي لم تُخبر بوقوعه في عشر ذي الحجة منه - صلى الله عليه وسلم -، وإنما قالت: «لم يحرم عليه شيء»، وهذا غايته أن يكون شهادة على نفيٍ، فلا يعارِض حديث أم سلمة. والظاهر أنها لم ترد ذلك بحديثها، وما _________ (1) كما في البخاري (1700) ردًّا على قول ابن عباس - رضي الله عنهما -. (2) كما في «مسائله» برواية صالح (1/ 450)، ولكن فيه أن عبد الرحمن سكت ولم يجب بشيء، فسأل أحمد يحيى بن سعيد القطان فهو الذي أجاب بهذا. (3) كذا في الأصل، ولعل الصواب: «فإن» كما في ط. الفقي، أو «لأن».

(2/262)


كان كذلك فاحتمال تخصيصه قريب، فيكفي فيه أدنى دليل. وخبر أم سلمة صريح في النهي، فلا يجوز تعطيله. وأيضًا: فأم سلمة تخبر عن قوله وشرعه لأمته، فيجب امتثاله. وعائشة تخبر عن نفيٍ مستنِدٍ إلى رؤيتها، وهي إنما رأت أنه لا يصير بذلك مُحرِمًا يَحرُم عليه ما يحرم على المحرم، ولم تخبر عن قوله: إنه لا يحرم على أحدكم بذلك شيء، وهذا لا يعارض صريح لفظه. وأما رد الحديث بالقياس، فلو لم يكن فيه إلا أنه قياس فاسد مصادم للنص لكفى ذلك في رد القياس، ومعلوم أن رد القياس بصريح السنة أولى من رد السنة بالقياس، وبالله التوفيق. كيف وإن تحريم النساء والطيب واللِّبس أمر يختص بالإحرام، لا يتعلق بالضحية! وأما تقليم الظفر وأخذ الشعر فإنه من تمام التعبد بالأضحية، وقد تقدم حديث عبد الله بن عمرو أول الباب، وقوله: «تأخذ من شعرك، وتحلق عانتَك، فتلك تمامُ ضحيَّتِك (1) عند الله» (2)، فأحب النبي - صلى الله عليه وسلم - توفير الشعر والظفر في العشر ليأخذه مع [ق 155] الضحية، فيكون ذلك من تمامها عند الله. وقد شهد لذلك أيضًا: أنه - صلى الله عليه وسلم - شرع لهم إذا ذبحوا عن الغلام عقيقته أن يحلقوا رأسه، فدل على أن حَلْق رأسه مع الذبح أفضل وأولى، وبالله التوفيق. _________ (1) كذا في الأصل، وهو لفظ النسائي في «الكبرى» (4439)، وفي «الطبعتين»: «أضحيتك» وفاقًا لأكثر مصادر التخريج. (2) أخرجه أحمد (6575)، وأبو داود (2789)، والنسائي (4365)، وابن حبان (5914)، والحاكم (4/ 223) وقال: «صحيح الإسناد».

(2/263)


3 - باب ما يجوز من السن في الضحايا 296/ 2680 - وعن زيد بن خالد الجُهني، قال: قَسَم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه ضحايا، فأعطاني عَتُودًا جَذَعًا، قال: فرجعتُ به إليه. فقلت: إنه جَذَع، قال: «ضَحِّ به»، فضحَّيتُ به (1). في إسناده محمد بن إسحاق، وقد تقدم الكلام عليه. ورواه أحمد بن خالد الوهبي عن ابن إسحاق، وقال فيه: «فقلت: إنه جَذَع من المعز» (2). وقد أخرج البخاري ومسلم في «صحيحيهما» (3) من رواية عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاه غنمًا يقسمها على أصحابه ضحايا فبقي عَتُود، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: «ضحِّ به أنت». وقد وقع لنا حديث عقبة هذا من رواية يحيى بن بُكير عن الليث بن سعد، وفيه: «لا رخصة لأحد فيها بعدك» (4). _________ (1) «سنن أبي داود» (2798)، ورواه أحمد (21690)، وابن حبان (5899)، والطبراني (5217 - 5220)، من طرق عن محمد بن إسحاق، عن عُمارة بن عبد الله بن طُعمة، عن سعيد بن المسيب، عن زيد. (2) أخرجه الطبراني في «الكبير» (5217)، والبيهقي (9/ 270). (3) البخاري (2300، 2500)، ومسلم (1965) من ثلاثة طرق، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -. (4) أخرجه البيهقي (9/ 270) من طريق يحيى بن بُكير، عن الليث به. وهذه الزيادة منكرة، قد تفرد يحيى بها دون غيره ممن رواه عن الليث. ويحيى وإن كان ثقة في روايته عن الليث، لكنه متكلم فيه، قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يُحتج به. ثم إن لحديث عقبة طريقًا آخر، يرويه يحيى بن أبي كثير، عن بَعجة الجهني، عن عقبة، وليس فيه هذه الزيادة. أخرجه البخاري (5547)، ومسلم (1965/ 16)

(2/264)


قال البيهقي (1): وهذه الزيادة إذا كانت محفوظةً كانت رخصة له، كما رخّص لأبي بُردة بن نِيار، وعلى مثل هذا يُحمَل معنى حديث زيد بن خالد الجهني الذي أخرجه أبو داود هاهنا. وقال غيره: حديث عُقبة منسوخ بحديث أبي بردة، لقوله: «ولن تَجزي عن أحد بعدك». وفيما قاله نظر، فإن في حديث عقبة أيضًا: «ولا رخصة لأحد فيها بعدك». وأيضًا فإنه لا يُعرف المتقدّم منهما من المتأخر. وقد أشار البيهقي (2) إلى أن الرخصة ايضًا لعقبة وزيد بن خالد، كما كانت لأبي بُردة. قال ابن القيم - رحمه الله -: وهذا لا يصح، فإن قوله لأحد هؤلاء: «ولن تَجزي عن أحد بعدك» (3) و «لا رخصة فيها لأحد بعدك» ينفي تعدد الرخصة. وقد كنا نستشكل هذه الأحاديث إلى أن يسر الله بإسفارِ صُبْحِها (4) وزوالِ إشكالها، فله الحمد، فنقول: أما حديث أبي بردة بن نيار فلا ريب في صحته، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: في الجَذَعة من المعز: «ولن تَجزي عن أحدٍ بعدك»، وهذا قطعًا ينفي أن _________ (1) «السنن الكبرى» (9/ 270). (2) «السنن الكبرى» (9/ 270)، وقد سبق نص كلامه آنفًا. (3) قاله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بُردة بن نيار في قصته المشهورة حين استعجل الذبح قبل الصلاة فلم يُعتدّ بها نُسُكًا، فأراد أن يضحّي بعد الصلاة بِعَناقٍ جَذَعةٍ لم يكن عنده غيرها. أخرجها البخاري (955، ومواضع) ومسلم (1961) من حديث البراء بن عازب. (4) في الطبعتين: «بإسناد صحتها»، تحريف.

(2/265)


تكون مُجزئةً عن أحد بعده. وأما حديث عقبة بن عامر، فإنما وقع فيه الإشكال أنه جاء في بعض ألفاظه أنه بقيتْ له جَذَعة (1). وقد ثبت في «الصحيحين»: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه غنمًا يَقسِمها على صحابته ضحايا فبقي عَتُود، فذكره للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ضحِّ به أنت»، فظن من ظن: أن العتود: هو الجَذَع من ولد المعز، فاستشكله وقَوَّى هذا الإشكالَ عنده روايةُ يحيى بن بُكَير عن الليث في هذا الحديث: «ولا رخصة فيها لأحد بعدك». ولكن العتود من ولد المعز: ما قوي ورَعَى، وأتى عليه حول، قاله الجوهري (2)، وكذلك كلام غيره من أئمة اللغة قريب منه. قال بعضهم (3): ما بلغ السِّفاد. وقال بعضهم (4): ما قوي وشبَّ. وعلى هذا فيكون هو الثَنِيُّ من المعز، فتجوز الضحية به. ومن رواه «فبقي جذَع» لم يقل: فيه جذع من المعز، ولعله ظن أن العتود هو الجذع من المعز فرواه كذلك، والمحفوظ: «فبقي عتود»، وفي لفظ «فأصابني جذع»، وليس في «الصحيح» إلا هاتان اللفظتان. وأما «جذع من المعز»، فليس في حديث عقبة، فلا إشكال فيه. فإن قيل: فما وجه قوله: «ولا رخصة فيها لأحد بعدك»؟ قيل: هذه الزيادة غير محفوظة في حديثه، ولا ذكرها أحد من أصحاب «الصحيحين»، ولو كانت في الحديث لذكروها ولم يحذفوها، فإنه لا يجوز _________ (1) هكذا في روايةٍ للبخاري (5547)، ومسلم (1965/ 16). (2) «الصحاح» (2/ 505). (3) حكاه في «العين» (2/ 29). (4) هو أبو عبيد القاسم بن سلَّام في «غريب الحديث» (3/ 213).

(2/266)


اختصار مثلها، وأكثر الرواة لا يذكرون هذه اللفظة. وأما حديث زيد بن خالد الجهني فهو ــ والله أعلم ــ حديث عقبة بن عامر الجهني بعينه، واشتبه على ابن إسحاق أو من حدثه به (1) اسمُه، وأن قصة العتود وقسمة الضحايا إنما كانت مع عقبة بن عامر الجهني، وهي التي رواها أصحاب الصحيح. ثم إن الإشكال في حديثه: إنما جاء من قوله: «فقلت: إنه جَذَع من المعز»، وهذه اللفظة إنما ذكرها عن ابن إسحاق (2): أحمدُ بن خالد الوَهبي عنه (3). 297/ 2681 - وعن عاصم بن كُلَيب، عن أبيه، قال: كُنَّا مع رجل من أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، يقال له: مُجاشِعٌ من بني سُليم، فَعزَّت الغنمُ، فأمر مناديًا فنادى: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنَّ الجذَعَ يُوَفِّيممّا يُوَفّي منه الثَّنِيُّ». وأخرجه ابن ماجه (4). _________ (1) هو عُمارة بن عبد الله بن طعمة، ولعل الحمل عليه في هذا الاشتباه، فإنه وإن كان روى عنه مالك (وهو لا يروي إلا عن ثقة عنده)، إلا أنه ليس معروفًا بالحفظ والضبط، ولم ينصّ معتبر على توثيقه. (2) ط. الفقي: «أبي إسحاق السبيعي»، غلط فاحش. (3) أي تفرد بها أحمد عن ابن إسحاق. قلتُ: هو كذلك في هذا الموضع من الحديث، وإلا فقد رويت من غير طريقه في موضع آخر، وهو قوله: «فأعطاني عتودًا جذعًا من المعز»، رواها عن ابن إسحاق اثنان: إبراهيم بن سعد الزهري عند أحمد (21690) وابن حبان (5899)، وعبد الله بن نمير عند الطبراني في «الكبير» (5220). (4) أبو داود (2799)، وابن ماجه (3140)، وأخرجه الحاكم (4/ 226) وصححه.

(2/267)


عاصم بن كليب، قال ابن المديني: لا يُحتج بحديثه إذا انفرد. قال الإمام أحمد: لا بأس به. وقال أبو حاتم الرازي: صالح، وأخرج له مسلم (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى ابن حزم (2) من طريق سليمان بن يسار (3) عن مكحول أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ضحوا بالجذَعة من الضأن، والثنيَّة من المعز»، وهذا مرسل. 4 - باب ذبائح أهل الكتاب 298/ 2701 - وعن ابن عباس (4) قال: جاءت اليهود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: نأكل مما قتلَ الله؟ فأنزل الله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} إلى آخر الآية [الأنعام: 121]. وأخرجه الترمذي (5)، وقال: حسن غريب، ورواه بعضهم عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا (6). _________ (1) انظر: «الجرح والتعديل» (6/ 349)، و «تهذيب التهذيب» (5/ 55). (2) في «المحلَّى» (7/ 364). (3) كذا في الأصل والطبعتين، والصواب كما في «المحلَّى»: «سليمان بن موسى»، وهو الدمشقي الأشدق، يروي عن بلديِّه مكحول، وأما سليمان بن يسار فهو مدني أكبر من مكحول، ولا تُعرف له رواية عنه. (4) في «مختصر المنذري»: «وعنه» إشارة إلى ما سبق قبله في الباب مِن ذكر ابن عباس، ولكن لمّا لم يَرِد هنا في «التجريد»، آثرتُ ذكر اسم الصحابي. (5) أبو داود (2819)، والترمذي (3069)، من طريق عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وفي رواية الترمذي: «أتى أناس النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -» ليس فيه ذكر اليهود، وهو أقرب إلى الصواب كما سيأتي. (6) هذه الرواية المرسلة أخرجها ابن أبي حاتم في «تفسيره» (4/ 1378).

(2/268)


قال ابن القيم - رحمه الله -: هذا الحديث له علل: إحداها (1): أن عطاء بن السائب اضطرب فيه، فمرةً وصله، ومرةً أرسله. الثانية: أن عطاء بن السائب اختلط في آخر عمره (2)، واختلف في الاحتجاج بحديثه، وإنما أخرج له البخاري (3) مقرونًا بأبي بشر. الثالثة: فيه عمران بن عيينة، أخو سفيان بن عيينة، قال أبو حاتم الرازي (4): لا يحتج بحديثه فإنه يأتي بالمناكير (5). الرابعة: أن سورة الأنعام مكية باتفاق، ومجيء اليهود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومجادلته إنما كان بعد مقدمه المدينة، وأما بمكة فإنما كان جداله مع المشركين عباد الأصنام (6). _________ (1) في الأصل وط. المعارف: «أحدها». (2) وليس في رواة هذا الحديث عنه أحد ممن روى عنه قبل الاختلالأط. (3) برقم (6578) ليس غير. (4) «الجرح والتعديل» (6/ 302). (5) والظاهر أن الحمل عليه، فإنه تفرد بذكر «اليهود» عن عطاء بن السائب، وغيره لا يذكره، فقد رواه زياد البكائي عن عطاء بن السائب بلفظ: «أناس» أخرجه الترمذي، ورواه جرير بن عبد الحميد عن عطاء بلفظ: «المشركين» أخرجه ابن أبي حاتم (4/ 1380). وهو الموافق لما ثبت عن ابن عباس من طرق عنه، وعن مجاهد وعكرمة وقتادة وغيرهم أن المشركين هم الذين جادلوا المسلمين فقالوا: ما بال ما قتل الله لا تأكلونه، وما قتلتم أنتم أكلتموه؟! فأنزل الله الآية. انظر: «تفسير الطبري» (9/ 522 - 525). (6) زاد ابن كثير في «تفسيره» (5/ 450) وجهًا آخر لتعليل الحديث فقال: «إن اليهود لا يرون إباحة الميتة حتى يجادلوا».

(2/269)


5 - باب ما جاء في ذكاة الجنين 299/ 2709 - عن أبي سعيد ــ وهو الخدري ــ قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجنين، فقال: «كُلُوهُ إن شئتم». وقال مسدد: قال: قلنا: يا رسول الله، ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة، في بطنها الجنينُ، أنُلْقيه أم نأكله؟ فقال: «كلوه إن شئتم، فإنّ ذكاتَه ذكاةُ أمِّه». وأخرجه ابن ماجه والترمذي (1) وقال: حسن. آخر كلامه. وفي إسناده مُجالد بن سعيد الهَمْداني، تكلم فيه غير واحد (2). 300/ 2710 - وعن جابر بن عبد الله، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ذكاة الجنين ذكاةُ أمه» (3). فيه عبيد الله بن أبي زياد المكي القداح، وفيه مقال (4). وأخرجه الإمام أحمد في «المسند» (5) عن أبي عُبيدة الحدَّاد عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي الودّاك عن أبي سعيد مرفوعًا: «ذكاة الجنين ذكاة أمّه». وهذا إسناد حسن، ويونس وإن تُكلِّم فيه فقد احتجَّ به مسلم في «صحيحه» (6). _________ (1) أبو داود (2827)، الترمذي (1476)، وابن ماجه (3199)، كلهم من طريق مجالد بن سعيد، عن أبي الودّاك، عن أبي سعيد. (2) إلا أنه قد توبع، تابعه يونس بن أبي إسحاق عن أبي الودّاك كما سيأتي. (3) «سنن أبي داود» (2828) من طريق عتّاب بن بشير، عن عبيد الله بن أبي زياد القدّاح المكي، عن أبي الزبير، عن جابر. (4) ولكنه لم يتفرّد به عن أبي الزبير، بل له ثلاث متابعات على ضعف فيها، وبمجموعها يثبت الحديث وتنتهض به الحجة. انظر: «التلخيص الحبير» (4/ 156 - 157). (5) برقم (11343). أخرجه أيضًا ابن حبان (5889). (6) كلام المنذري مثبت من (هـ)، وفيه تصرّف يسير من المؤلف.

(2/270)


والبراء بن عازب. وقوله في بعض ألفاظه (1): «فإن ذكاته ذكاة أمه» مما يبطل تأويل من رواه بالنصب وقال: ذكاة الجنين ذكاةَ أمه (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: وهذا باطل من وجوه: أحدها: أن سياق الحديث يبطله، فإنهم [ق 156] سألوه عن الجنين الذي يوجد في بطن الشاة: أيأكلونه أم يُلقونه؟ فأفتاهم بأكله ورفع عنهم ما توهَّموه من كونه ميتة بأنّ ذكاةَ أمه ذكاةٌ له، لأنه جزء من أجزائها كيَدِها (3) ورأسها، وأجزاءُ المذبوح لا تفتقر إلى ذكاة مستقلة. والحمل ما دام جنينًا فهو كالجزء منها، لا يُفرَد (4) بحكم، فإذا ذُكِّيت الأم أتت الذكاة على جميع أجزائها التي من جملتها الجنين. فهذا هو القياس الجلي لو لم يكن في المسألة نص. الثاني: أن السؤال لابد وأن يقع عنه (5) الجوابُ، والصحابة لم يسألوا عن كيفية ذكاته، ليكون قوله: «ذكاته كذكاة أمّه» جوابًا لهم، وإنما سألوا عن _________ (1) وهو لفظ حديث أبي سعيد الخدري أول الباب. (2) كلام المنذري بتمامه مثبت من (هـ)، والمجرد لم يذكر منه إلا الفقرة الأخيرة، وفيها زيادة وتصرّف من المؤلف عمّا في «المختصر» (4/ 120 - 121). (3) (هـ): «كبدنها». (4) في الطبعتين: «ينفرد» خلافًا للأصل. (5) في الأصل: «عين»، وفي «هـ»: «عن»، ولعل الصواب ما أثبت، وأصلحه في ط. الفقي هكذا: «أن الجواب لابد وأن يقع عن السؤال».

(2/272)


أكل الجنين الذي يجدونه بعد الذبح، فأفتاهم بأكله معلِّلًا جَرَيان (1) ذكاة أمه عليه، وأنه لا يحتاج إلى أن يُفرد بالذكاة. الثالث: أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم الخلق فهمًا لمراده بكلامه، وقد فهموا من هذا الحديث اكتفاءَهم بذكاة الأم عن ذكاة الجنين، وأنه لا يحتاج أن يُفرد بذكاة، بل يؤكل. قال عبد الله بن كعب بن مالك: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: «إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمّه» (2)، وهذا إشارة إلى جميعهم. قال ابن المنذر (3): كان الناس على إباحته، لا نعلم أحدًا منهم خالف ما قالوه، إلى أن جاء النعمان (4)، فقال: لا يحل، لأن ذكاة نفسٍ لا تكون ذكاة نفسَين. الرابع: أن الشريعة قد استقرت على أن الذكاة تختلف بالقدرة والعجز، _________ (1) ط. الفقي: «حلالًا بجريان»، تحريف. (2) أخرجه عبد الرزاق (8641) وابن عبد البر في «الاستذكار» (5/ 264) بإسناد صحيح. وعبد الله بن كعب بن مالك من كبار التابعين، وقيل: وُلد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. (3) ليس في القدر المطبوع من «الأوسط» و «الإشراف»، وقد نقله الموفق في «المغني» (13/ 309). (4) هو أبو حنيفة، وهذا القول: «لا تكون ذكاةُ نفسٍ ذكاةَ نفسَين» كان يرويه أبو حنيفة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قولَه، كما في «الموطأ» برواية محمد بن الحسن (652). ولعل إبراهيم قال ذلك في مسألة أخرى غير مسألة ذكاة الجنين، لأنه ثبت من طرق صحيحة عنه أنه قال: «الجنين ذكاته ذكاة أمه». أخرجها الفسوي في «المعرفة والتأريخ» (2/ 792) ومن طريقه البيهقي (9/ 336).

(2/273)


فذكاة الصيد الممتنع: بجَرْحه في أي موضعٍ كان، بخلاف المقدور عليه، وذكاة المتردية لا يمكن إلا بطعنها في أي موضع كان، ومعلوم أن الجنين لا يتوصل إلى ذبحه بأكثر من ذبح أمه، فيكون «ذكاةُ أمه ذكاةٌ له» هو محضَ القياس. الخامس: أن قوله: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» جملة خبرية، جُعل الخبر فيها نفسَ المبتدأ، فهي كقولك: غذاء الجنين غذاء أمه. ولهذا جُعلت الجملةُ اسمَ (1) «إن» وخبرَها في قوله: «فإن ذكاتَه ذكاةُ أمه». وإذا كان هكذا لم يَجُز في «ذكاة أمه» إلا الرفع، ولا يجوز نصبه لبقاء المبتدأ بغير خبر، فيخرج الكلام عن الإفادة والتمام، إذ الخبرُ محل الفائدة، وهو غير معلوم. السادس: أنه إذا نصب «ذكاة أمه» فلا بد وأن يُجعل الأول في تقدير فعلٍ لينتصب عنه المصدر، ويكون تقديره: يُذكَّى الجنينُ ذكاةَ أمه، أو: ذكُّوا الجنينَ ذكاةَ أمه، ونحوه. ولو أريد هذا المعنى لقيل: ذكوا الجنين ذكاة أمه، أو يُذكَّى، كما يقال: اضربْ زيدًا ضربَ عمرٍو، أو: يُضرب، ونحوه. فأما أن يقال: ضَرْبُ زيدٍ ضَرْبَ عمروٍ، ويُنصب الثاني على معنى: اضربْ زيدًا ضربَ عمرٍو= فهذا لا يجوز، وليس كلامًا عربيًّا، إلا إذا نُصِب الجُزءان معًا، فتقول: ذكاةَ الجنين ذكاةَ أمه، وهذا مع أنه خلاف رواية الناس وأهل الحديث قاطبة، فهو أيضًا ممتنع، فإن المصدر لا بد له من فعل يعمل فيه، فيؤول التقدير إلى: ذكوا ذكاةَ الجنين ذكاةَ أمه، ويصير نظير قولك: «ضَرْبَ زيدٍ ضربَ عمرٍو» بنصبهما، وتقديره: اضربْ ضربَ زيدٍ ضربَ _________ (1) ط. الفقي: «لتتميم»، وفي ط. المعارف: «ليتم»، كلاهما تحريف.

(2/274)


عمرٍو، وهذا إنما يكون فيه المصدر بدلًا من اللفظ بالفعل إذا كان مُنَكَّرًا، نحو «ضربًا زيدًا» أي اضربْ زيدًا. ولهذا كان قولك: «ضربًا زيدًا» كلامًا تامًّا، وقولك: «ضَرْبَ زيدٍ» ليس بكلام تام، فإن الأول يتضمن: اضربْ زيدًا ــ بخلاف الثاني فإنه مفرد فقط ــ، فيعطي ذلك معنى الجملة، فأما إذا أضفته وقلتَ: ضرْبَ زيدٍ، فإنه يصير مفردًا ولا يجوز تقديره باضرِبْ زيدًا، ويدل على بطلانه: الوجه السابع: وهو أن الجنين إنما يُذكَّى مثلَ ذكاةِ أمه إذا خرج حيًّا، وحينئذ فلا يؤكل حتى يذكى ذكاةً مستقلة، لأنه حينئذ له حكم نفسه. وهم لم يسألوا عن هذا، ولا أجيبوا به، فلا السؤال دل عليه، ولا هو جواب مطابق لسؤالهم، فإنهم قالوا: نذبح البقرة أو الشاة في بطنها الجنين أنلقيه أم نأكله؟ فقال: «كلوه إن شئتم، فإن ذكاته ذكاة أمه». فهم إنما سألوه عن أكله: أيحل لهم أم لا؟ فأفتاهم بأكله، وأزال عنهم ما عَلِم أنه يقع في أوهامهم من كونه ميتةً بأنه ذُكِّيَ بذكاة الأم. ومعلوم أن هذا الجواب والسؤال لا يطابق: «ذَكُّوا الجنين مثلَ ذكاة أمه»، بل كان الجواب حينئذ: لا تأكلوه إلا أن يخرج حيًّا، فتذكُّونه ذكاةً (1) مثلَ ذكاةِ أمه، وهذا ضد مدلول الحديث، والله أعلم. وبهذا يُعلم فساد ما سلكه أبو الفتح ابن جِنِّي (2) وغيرُه في إعراب هذا الحديث، حيث قالوا: «ذكاةُ أمه»، على تقدير مضاف محذوف، أي ذكاة الجنين مثلُ ذكاةِ أمّه، وحَذْفُ المضاف وإقامةُ المضاف إليه كثير. وهذا إنما _________ (1) «فتذكونه ذكاة» من (هـ)، وفي الأصل: «فذكاته». (2) فقد ألّف في إعرابه رسالة، نقل منها السيوطي في «عقود الزبرجد» (1/ 257 - 260).

(2/275)


يكون حيث لا لَبْس، وأما إذا أوقع في اللبس فإنه يمتنع، وما تقدّم كافٍ في فساده. وبالله التوفيق. 6 - باب العقيقة 301/ 2719 - وعن الحسن، عن سمرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كلُّ غُلامٍ رَهينةٌ بعقيقته تُذبح عنه يوم السابع، ويُحلَق رأسُه ويُدَمَّى». فكان قتادة إذا سُئل عن الدم كيف يصنع به؟ قال: إذا ذبحتَ العقيقة أخذتَ منها صُوفةً واستقبلتَ به أوْدَاجَهَا ثم توضع على يافوخ الصَّبِيِّ حتى يَسيل على رأسه مثلُ الخيط، ثم يُغْسَل رأسُه بعدُ ويُحلق (1). قال أبو داود: وهذا وهم من همّام ــ يعني ابن يحيى ــ: «ويُدمَّى». 302/ 2720 - وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كلُّ غلام رَهينة بعقيقته: تُذبَحُ عنه يومَ سابعه، ويُحْلَق، ويُسمَّى». قال أبو داود: «ويسمَّى» أصح. وأخرجه النسائي وابن ماجه والترمذي (2)، وقال: حسن صحيح. وقال غير واحد من الأئمة (3): حديث الحسن عن سمُرة كتاب إلا حديثَ العقيقة، وتصحيح الترمذي له يدل على ذلك. وقد حكى البخاري في _________ (1) «سنن أبي داود» (2837) من طريق همّام بن يحيى العَوذي، عن قتادة، عن الحسن به. (2) أبو داود (2838)، والنسائي (4220)، وابن ماجه (3165)، والترمذي (1522)، كلهم من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن به. (3) انظر: «تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل» لأبي زرعة العراقي (ص 89).

(2/276)


«صحيحه» (1) ما يدل على سماع الحسن من سمُرة حديثَ العقيقة. قال ابن القيم - رحمه الله -: [ق 157] فإنه حكى: أن محمد بن سيرين قال لحَبِيب بن الشهيد: اذهب إلى الحسن فسَلْه ممن سمع حديث العقيقة؟ فذهب إليه فسأله فقال: سمعتُه من سمرة. وهذا يرد على من قال: إنه لم يسمع منه. [وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «رهينة بعقيقته» قال الإمام أحمد: مرتهَن عن الشفاعة لوالِدَيه، يعني إذا مات طفلًا. وقال غيره: إنما معناه أنه مرهون بعقيقته، أي بأذى شعره. قال: والدليل عليه قوله: «فأميطوا عنه الأذى»، وهو ما يعلَق به من دم الرحم؛ قاله الخطابي (2). و «رهينته» قيل: الهاء فيه للمبالغة، وإنما هو رهين بمعنى مرتهَن (3). والصواب أنها للتأنيث، فذهب به مذهب النفس المؤنثة، فهو كقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]. وقال آخرون: معناه (4) أن العقيقة لازمة له لا ينفكُّ منها، فشبَّهه في لزومها وعدم انفكاكه منها بالرهن في يد المرتهن. فقال بعض العلماء: وهذا يدل أن من لم (5) يعقَّ عنه أبواه عقَّ هو عن _________ (1) أسنده عقب حديث العقيقة (5471) من رواية سلمان بن عامر الضبي - رضي الله عنه -. (2) أي أن القولين السابقين ذكرهما الخطابي في «معالم السنن» (4/ 126). (3) قاله الخطابي في «المعالم»، وأبو عبيد الهروي كما في «المختصر» المخطوط و «النهاية» (رهن). (4) «آخرون: معناه» قراءة ظنية، فإنه أتى عليه شريط لاصق. (5) «العلماء: وهذا يدل أن من لم» قراءة ظنية، فإنه أتى عليه شريط لاصق.

(2/277)


نفسه، ليفكَّ ما عليه من ذلك الارتهان. واحتجَّ بذلك من يوجبها، وهو الليث وأهل الظاهر، ويُروى عن الحسن (1). واحتجُّوا بحديث سلمان، وسيأتي. وقوله: «ويُدمَّى» اختُلف في هذه اللفظة، فكان همَّام يقول: «يُدمَّى». قال أحمد] (2): قال فيه ابن أبي عروبة: «ويُسمَّى»، وقال همّام: «ويُدمَّى» وما أُراه إلا خطأ (3). تمّ كلامه (4). وقال سلّام بن أبي مطيع عن قتادة: «ويُسمَّى» ذكره أبو داود (5)، وهو الذي صححه. وقال إياس بن دغفل عن الحسن: «ويُسمَّى» (6). واختلف في حكمها أيضًا، فكان قتادة يستحب تدميتَه، كما ذكر أبو داود. وهذا يدل على أن همّامًا لم يَهِم في هذه اللفظة فإنه رواها عن قتادة وهذا مذهبه، فهو ــ والله أعلم ــ بريء من عهدتها. وقد روي عن الحسن مثل قول قتادة (7). _________ (1) انظر: «الإشراف» (3/ 416) و «مختصر المنذري». (2) ما بين الحاصرتين من (هـ)، ولم يذكره المجرّد، وإنما ذكر كلام أحمد الآتي وعزاه إلى المنذري، وليس هو في «المختصر» المخطوط، وإنما فيه بعض الكلام السابق. (3) قول أحمد نقله ابن قدامة في «المغني» (13/ 399). (4) «تم كلامه» من (هـ). (5) عقب الحديث (2838) معلّقًا، وأخرجه الطبراني في «الكبير» (6829). (6) رواية إياس عن الحسن ذكرها أبو داود أيضًا، ولم أجد من أخرجها. (7) حكاه عن الحسن ابنُ المنذر في «الإشراف» (3/ 418) وابن عبد البر في «التمهيد» (4/ 317، 318)، ولكن يَرِد علاه أن ابن أبي شيبة أسند في «مصنفه» (24167، 24749) عن الحسن بإسناد صحيح أنه كره ذلك وقال: الدم رِجْس.

(2/278)


وكره آخرون التدمية منهم أحمد ومالك والشافعي وابن المنذر (1). قال ابن عبد البر (2): لا أعلم أحدا قال هذا ــ يعني: التدمية ــ إلا الحسن وقتادة، وأنكره سائر أهل العلم وكرهوه. وقال مهنَّا بن يحيى الشامي (3): ذكرت لأبي عبد الله حديث يزيد بن عبدٍ المزني عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يُعَقّ عن الغلام ولا يُمَسّ رأسُه بدم» فقال أحمد: ما أظرفه! ورواه ابن ماجه في «سننه» (4)، ولم يقل: «عن أبيه». واحتجوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أميطوا عنه الأذى» (5) والدم أذى، فكيف يؤمر بأن يصاب بالأذى ويلطخ به؟! واحتجوا بأن الدم نجس، فلا يشرع إصابة الصبي به، كسائر النجاسات من البول وغيره. _________ (1) انظر: «مسائل أحمد» برواية الكوسج (2/ 355)، و «الإنصاف» (9/ 441)، و «الموطأ» (1448)، و «النوادر والزيادات» (4/ 334)، و «المجموع» (8/ 413)، و «الإشراف» لابن المنذر (3/ 418). (2) «التمهيد» (4/ 318). (3) نقل روايته الموفق في «المغني» (13/ 399). (4) رقم (3166) من طريق عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن أيوب بن موسى، عن يزيد بن عبدٍ مُرسلًا. وأخرجه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (1052)، والطبراني في «الأوسط» (333) و «الكبير» (15059)، من طرق عن عبد الله بن وهب به، إلا أنهم قالوا: «عن يزيد بن عبدٍ، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -» مسندًا متصلًا. ويزيد بن عبدٍ المزني لم يوثقه إلا ابن حبان، ولكن له شاهدان من حديث عائشة وحديث بريدة يصحّ بهما. انظر: «الصحيحة» للألباني (2452). (5) كما في «صحيح البخاري» (5471) من حديث سلمان بن عامر الضبي - رضي الله عنه -.

(2/279)


واحتجوا أيضًا بحديث بريدة الذي ذكره أبو داود في آخر الباب، وسيأتي. واحتجوا بأن هذا كان من فِعل الجاهلية، فلما جاء الإسلام أبطله، كما قاله بريدة. وقوله: «ويسمّى» ظاهره: أن التسمية تكون يوم سابعه. وقد ثبت في «الصحيح» (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمَّى ابنه إبراهيم ليلة وِلادِه. وثبت عنه أنه سمى الغلام الذي جاء به أنس وقت ولادته، فحنَّكه وسماه عبد الله (2). وثبت في «الصحيحين» (3) من حديث سهل بن سعد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمّى المنذر بن [أبي] أُسَيد: «المنذر» حين ولد. وقد روى الترمذي (4) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بتسمية المولود يوم سابعه، ووَضْعِ الأذى عنه، والعقِّ». قال: «هذا حديث حسن غريب». والأحاديث التي ذكرناها أصح منه، فإنها متفق عليها كلها. ولا تعارض بينها، فالأمران جائزان. _________ (1) «صحيح مسلم» (2315) من حديث أنس - رضي الله عنه -. (2) أخرجه البخاري (5470) ومسلم (2144). (3) البخاري (6191)، ومسلم (2149). (4) رقم (2832) من طريق شريك، عن ابن إسحاق، عن عمرو بن شعيب به. وهو حسن بشواهده.

(2/280)


وقوله: «ويُحلق رأسه» قد جاء هذا أيضًا في «مسند الإمام أحمد» (1): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة لما ولدت الحسن: «احْلقي رأسه، وتصدَّقي بزِنَةِ شعره فضةً على المساكين والأوفاض» يعني أهل الصفة. وروى سعيد بن منصور في «سننه» (2): أن فاطمة ــ عليها السلام ــ كانت إذا ولدت ولدًا حلقتْ شعره وتصدقت بوزنه وَرِقًا. 303/ 2721 - وعن سلمان بن عامر الضبِّي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مع الغلام عقيقتُه، فأهريقوا عنه دمًا وأميطوا عنه الأذى». وأخرجه البخاري موقوفًا، وأخرجه مسندًا تعليقًا، وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (3) مسندًا، وقال الترمذي: صحيح 304/ 2722 - وعن الحسن ــ وهو البصري ــ أنه كان يقول: «إماطة الأذى حلق الرأس» (4). _________ (1) (27183، 27196)، وأيضًا البيهقي (9/ 304) من حديث أبي رافع - رضي الله عنه -، وفي أول الحديث أن فاطمة عليها السلام أرادت أن تعقَّ عن الحسن فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا، ولكن احلقي ... » إلخ. إسناده ضعيف، فيه عبد الله بن محمد بن عقيل، لين الحديث. قال البيهقي: «تفرد به ابن عقيل، وهو إن صحَّ فكأنه أراد أن يتولَّى العقيقة عنهما بنفسه، كما روِّيناه، فأمرها بغيرها وهو التصدّق بوزن شعرهما من الورق». (2) ليس في الجزء المطبوع منه، وأخرجه أيضًا مالك (1442، 1443)، وعبد الرزاق (7974)، وابن سعد في «الطبقات» (6/ 354) من طرق عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، مرسلًا. (3) أبو داود (2839)، والبخاري (5471)، والترمذي (1515) والنسائي (4214)، وابن ماجه (3164). (4) «سنن أبي داود» (2840).

(2/281)


305/ 2723 - وعن ابن عباس «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقَّ عن الحسن والحسين كَبْشًا كَبْشًا» (1). وأخرجه النسائي (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: احتج بهذا من يقول: الذكر والأنثى في العقيقة سواء لا يفضل أحدهما على الآخر، وأنها كبش كبش، كقول مالك وغيره (3). واحتج الأكثرون بحديث أم كُرْزٍ المتقدم (4). واحتجوا بحديث عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم عن الغلام شاتان مكافأتان (5)، وعن الجارية شاة. _________ (1) «سنن أبي داود» (2841) من طريق عبد الوارث، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. ورجاله رجال الصحيح إلا أن أبا حاتم قال: إنه وهم والصواب: عن أيوب، عن عكرمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مُرسلًا. انظر: «العلل» لابنه (1631). (2) في «الكبرى» (4531) و «المجتبى» (4219) من طريق قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - بلفظ: «كبشين كبشين». ظاهر إسناده على رسم الصحيح، وقد اختاره الضياء (12/ 205)، إلا أن أبا حاتم يقول: إنما هو قتادة عن عكرمة مرسلًا. انظر: «العلل» (1633). (3) قول مالك في «الموطأ» (1448). وهو قول ابن عمر وعروة والزهري ومحمد الباقر. انظر: «مصنف ابن أبي شيبة» (24731 - 24736). (4) في «المختصر» (2716) و «السنن» (2834)، ولفظه: عن أم كرز الكعبية قالت: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «عن الغلام شاتان مكافأتان، وعن الجارية شاة». وأخرجه أحمد (27143)، والترمذي (1516) وصححه، وابن حبان (5312، 5313)، والحاكم (4/ 237) وقال: «صحيح الإسناد». (5) كذا رُسم في الأصل و (هـ) بالألف بعد الفاء، وهذا يقتضي فتح الفاء، وهو اختيار المحدّثين، وفي بعض مصادر التخريج: «مكافِئتان» بكسر الفاء، ولا فرق، لأن كل واحدة إذا كافأت أختها فقد كوفئت، فهما مكافأتان ومكافئتان، أي متساويتان في السن أو متقاربتان. انظر: «النهاية» و «تاج العروس» (كفأ).

(2/282)


رواه الترمذي (1)، وقال: حديث حسن صحيح. ورواه أحمد (2) بهذا اللفظ، وله فيه لفظ آخر: «أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نعقّ عن الجارية شاةً وعن الغلام شاتين». وهذا اللفظ لابن ماجه (3) أيضًا. واحتجوا أيضًا بما رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه ــ أُراه عن جده ــ وفيه: «ومن وُلد له فأحب أن يَنْسُك عنه فلينسك؛ عن الغلام شاتان مكافأتان، وعن الجارية شاة»، وسيأتي. قالوا: وأما قصة عَقِّه عن الحسن والحسين، فذلك يدل على الجواز، وما ذكرناه من الأحاديث صريح في الاستحباب. وقال آخرون: مولد الحسن والحسين كان قبل قصة أم كرز، فإن الحسن ولد عامَ أُحُد والحسين في العام القابل، وأما حديث أم كرز فكان سماعها له من النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية، ذكره النسائي (4)، فهو متأخر عن قصة الحسن والحسين. قالوا: وأيضًا فإنا قد رأينا الشريعة (5) على أن الأنثى على النصف من _________ (1) رقم (1513). (2) «المسند» (24028)، واللفظ الآتي برقم (25250). (3) رقم (3163). (4) في «الكبرى» (4529) و «المجتبى» (4217) ضمن حديثها في العقيقة، قالت: أتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية أسأله عن لحوم الهدي فسمعتُه يقول: ... (فذكرتْه). (5) زيد في ط. الفقي بعده: «نصّت»، والسياق مستقيم بدونها.

(2/283)


الذكر في ميراثها وشهادتها ودِيَتها وعِتقها، كما روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي (1) وصححه من حديث أبي أمامة وغيره من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -[عن النبي - صلى الله عليه وسلم -] (2) قال: «أيما امرئ مسلم أعتق امرأً مسلمًا كان فِكاكَه من النار؛ يُجزَى بكل عضو منه عضوا منه. وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فِكاكَه من النار؛ يُجزَى بكل عضوٍ منهما عضوًا منه» اللفظ للترمذي. فحكم العقيقة موافق لهذه الأحكام، كما أنه مقتضى النصوص. والله الموفق. 306/ 2724 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه ــ أُراه عن جده ــ قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العقيقة؟ فقال: «لا يُحِبُّ الله العُقُوقَ» ــ كأنه كره الاسم ــ وقال: «ومَنْ وُلد له فأحبَّ أن يَنْسُكَ عنه فلينسك؛ عن الغلام شاتان مكافأتان، وعن الجارية شاة». وسئل عن الْفَرَع؟ قال: «والفَرَع حق، وأن تَتْرُكُوه حتى يكون بَكْرًا شُغْزُبًا ابنَ مخَاضٍ، أو ابنَ لَبون، فتُعطيَه أرْمَلةً أو تَحمِلَ عليه في سبيل الله= خَيْرٌ من أن تذبحه فيَلزَقَ لحمُه بِوَبَرِه، وتَكْفَأ إناءَك، وتُوَلِّهَ نَاقَتَك». وأخرجه النسائي (3). _________ (1) أخرجه أحمد (18061) وأبو داود (3967) من حديث سالم بن أبي الجعد، عن شرحبيل بن السِّمْط عن كعب بن مرّة ــ أو مرة بن كعب ــ - رضي الله عنه -. قال أبو داود: سالم لم يسمع من شرحبيل. وأخرجه الترمذي (1547) من حديث سالم عن أبي أمامة وغيره من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الترمذي: «حسن صحيح غريب من هذا الوجه». وانظر: «الصحيحة» (2611). (2) ساقط من الأصل و (هـ). (3) أبو داود (2842) والنسائي (4212)، من طريق داود بن قيس، عن عمرو بن شعيب.

(2/284)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال ابن عبد البر (1) في حديث مالك (2) عن زيد بن أسلم، عن رجل من بني ضمرة، عن أبيه: أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العقيقة؟ فقال: «لا أحب العقوق»، وكأنه كره الاسم. قال أبو عمر: «ولا أعلم روي معنى هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من هذا الوجه، ومن حديث عمرو بن شعيب. وقد اختلف فيه على عمرو. أحسن [ق 158] أسانيده ما ذكره عبد الرزاق (3) قال: حدثنا (4) داود بن قيس قال: سمعت عمرو بن شعيب يحدث عن أبيه عن جده قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العقيقة؟ فذكره». وهذا سالم من العلّتين، أعني الشك في جَدِّه، ومِن ابن واقد (5). [وقوله: «شُغزُبًا» بالشين والغين والزاي المعجمات، والباء الموحّدة من تحت، أي: غليظًا. ورواه أبو عبيد (6): «زخزبًا» بالزاي والخاء. قال بعضهم: وهو الصواب، والرواية الأولى وهم. قال إبراهيم الحربي: والذي عندي أنه زخزبًا، وهو الذي اشتدَّ لحمُه وغلُظ] (7). _________ (1) «التمهيد» (4/ 304 - 305)، و «الاستذكار» (5/ 312 - 313). (2) «الموطأ» (1441). (3) في «مصنفه» (7995). (4) في الأصل: «نا» وهو اختصار ما أثبت. وفي الطبعتين: «أخبرنا»، وقد سبق التنبيه على مثله. (5) وليس ابن واقد في إسناد حديث عمرو بن شعيب، كما قد يوهمه ظاهر كلام المؤلف، بل إنما في إسناد حديث بريدة الآتي. (6) القاسم بن سلًّام في «الغريب» (3/ 93). وانظر: «معالم السنن» (4/ 131). (7) ما بين الحاصرتين من (هـ)، ولعل المجرّد لم يذكرها لأنها ليست من زيادات المؤلف، بل مما نقله من كلام المنذري باختصار وتصرّف.

(2/285)


307/ 2725 - وعن بريدة ــ وهو ابن الحُصَيب ــ قال: كنا في الجاهلية إذا وُلِدَ لأحدنا غلامٌ ذبح شاةً، ولَطَخ رأسَه بدَمِها، فلما جاء الله بالإسلام كُنَّا نَذبَحُ شاةً، ونَحلِق رأسه، ونَلْطَخُه بزَعْفران (1). في إسناده علي بن حسين بن واقد، وفيه مقال (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: ولكن قد رواه البزار في «مسنده» (3) من حديث عائشة بمثله، وقالت: فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعلوا مكان الدم خَلوقًا. وقد روى أبو أحمد بن عدي (4) من حديث إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الخلوق بمنزلة الدم» يعني في العقيقة. وإبراهيم هذا قال عبد الحق (5): _________ (1) «سنن أبي داود» (2843) من طريق علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه. (2) قال فيه أبو حاتم: «ضعيف الحديث» كما في «الجرح والتعديل» (6/ 179)، على أنه قد توبع، تابعه علي بن الحسن بن شقيق ــ وهو ثقة ــ عند الطحاوي في «مشكل الآثار» (3/ 64) والحاكم (4/ 238). ولكن ثمة علة أخرى، وهي أن الإمام أحمد يستنكر روايات حسين بن واقد عن ابن بريدة. انظر: «العلل» رواية عبد الله (497، 1420). (3) «البحر الزخار» (18/ح 319)، وأخرجه أيضًا أبو يعلى (4521)، وابن حبان (5308)، كلهم من طريق ابن جريج، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة. رجاله رجال الصحيح، إلا أن الدارقطني أعله بأن ابن جريج لم يسمعه من يحيى لأنه جاء في بعض طرقه أنه قال: «حُدِّثت عن يحيى». انظر: «العلل» (3911). (4) في «الكامل في ضعفاء الرجال» (1/ 234). (5) «الأحكام الوسطى» (4/ 141).

(2/286)


لا أعلم أحدًا وثَّقه إلا أحمد بن حنبل، وأما الناس فضعفوه (1). 7 - باب في الصيد 308/ 2730 - وعن عامر ــ وهو الشعبي ــ عن عدي بن حاتم قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - قلتُ: إنا نَصيدُ بهذه الكلاب، فقال لي: «إذا أرسلتَ كلابَك المعلَّمة وذكرتَ اسم الله عليها، فكُلْ ممَّا أمسَكن عليك وإن قَتَلَ، إلا أن يأكلَ الكلبُ، فإن أكل فلا تأكل فإني أخافُ أن يكون إنّما أمسَكَهُ على نفسه» (2). وأخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه (3). 309/ 2734 - وعن أبي ثعلبة ــ وهو الخشني ــ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صيد الكلب: «إذا أرسلتَ كلبك وذكرت اسم الله، فكل وإن أكلَ منه، وكل ما رَدَّت يَدُك» (4). في إسناده داود بن عمرو الأَوْدي الدمشقي عامل واسط. وثَّقه يحيى بن معين. وقال الإمام أحمد: حديثه مقارب. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال ابن عدي: ولا أرى برواياته بأسًا. وقال أحمد بن عبد الله العِجْلي: ليس بالقوي. وقال _________ (1) ضعَّفه ابن معين والبخاري وأبو حاتم والنسائي والدارقطني. انظر: «تهذيب الكمال» (1/ 100). (2) تعليق المؤلف وقع عقب حديث أبي ثعلبة الآتي، وفي الباب قبله خمسة أحاديث (2729 - 2733)، كلها روايات مختلفة لحديث عدي بن حاتم، وآثرتُ إثبات هذه الرواية منها لشدّة اتصالها بالمسألة، وإشارة المؤلف إليها أثناء كلامه. (3) أبو داود (2848)، والبخاري (5487)، ومسلم (1929/ 2)، وابن ماجه (3208). (4) «سنن أبي داود» (2852). وأصل الحديث في البخاري (5478) ومسلم (1930) دون قوله: «وإن أكل منه».

(2/287)


أبو حاتم الرازي: هو شيخ (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: ويُروى مثل ذلك من حديث عبد الله بن عمرو، وسيأتي آخر الباب والكلام عليه (2). وفي «مسند الإمام أحمد» (3) من حديث إبراهيم عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أرسلتَ الكلب فأَكَل من الصيد فلا تأكل، فإنما أَمْسَك على نفسه، وإذا أرسلت فقتل ولم يأكل فكُلْ فإنما أمسك على صاحبه». فاختُلف في إباحة ما أكل منه الكلب من الصيد: فمنعه ابن عباس، وأبو هريرة، وعطاء، وطاوس، والشعبي، والنخعي، وعبيد بن عمير، وسعيد بن جبير، وأبو بردة، وسُوَيد بن غفَلة، وقتادة _________ (1) انظر: «الجرح والتعديل» (3/ 420)، و «الكامل» لابن عدي (3/ 84)، و «معرفة الثقات» للعجلي (1/ 341). (2) الحديث في «المختصر» (2739)، وفي «السنن» (2857)، ولا يأتي في «التجريد»، فإما أن ابن القيم لم يعلّق عليه بشيء غير ما ذكره المنذري من تخريجه، أو أن المجرّد فاته نقله. والشاهد فيه قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ثعلبة: «إن كان لك كلاب مكلّبة فكلْ مما أمسكن عليك». قال: ذكيًّا أو غير ذكي؟ قال: «نعم». قال: فإن أكل منه؟ قال: «وإن أكل منه». (3) رقم (2049) من طريق حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم به. وإبراهيم عن ابن عباس مُرسَل. ثم إن حمادًا فيه لين، وكأنه وهم في رفعه، وإنما هو موقوف على ابن عباس من قوله، هكذا أخرجه عبد الرزاق (8513) وابن أبي شيبة (19918 - 19922) من طرق عنه، وعلّقه البخاري مجزومًا به في باب إذا أكل الكلب.

(2/288)


وغيرهم (1). وهو قول إسحاق (2) وأبي حنيفة وأصحابه (3)، وهو أصح الروايتين عن أحمد وأشهرهما (4)، وأحد قولي الشافعي (5). وأباحه طائفة، يُروى ذلك عن سعد بن أبي وقاص وسلمان، ويروى عن أبي هريرة أيضًا، وعن ابن عمر، رواه أحمد عنهم (6). وبه قال مالك (7) والشافعي في القول الآخر، وأحمد في إحدى الروايتين عنه. واحتجوا بحديث أبي ثعلبة المتقدم وحديث عبد الله بن عمرو الذي ذكره أبو داود في آخر الباب. واحتجوا بما رواه عبد الملك بن حبيب (8) عن أسد بن موسى ــ وهو _________ (1) انظر آثار هؤلاء في «مصنف ابن أبي شيبة» (19918 - 19935). (2) كما في «مسائله» برواية الكوسج (1/ 557). (3) انظر: «الأصل» للشيباني (5/ 365) و «شرح مختصر الطحاوي» للجصاص (7/ 249). (4) انظر: «مسائله» برواية الكوسج (1/ 557) وبرواية أبي داود (ص 343)، و «الإنصاف» (27/ 393 - 395). (5) انظر: «الأم» (3/ 591)، و «المجموع» (9/ 118 - 120). (6) ورواه أيضًا ابن أبي شيبة (19938 - 19945). (7) انظر: «المدونة» (3/ 52 - 53) و «النوادر والزيادات» (4/ 343). (8) هو الفقيه المالكي الأندلسي (ت 238)، ولعله أخرج هذه الرواية في بعض كتبه، وممن نقله عنه الإشبيلي في «الأحكام الوسطى» (4/ 112). والحديث منكر بذكر جواز الأكل منه إذا أكل الكلب، فإن الحديث مخرّج في «الصحيحين» من طرق عن الشعبي، عن عدي بن حاتم، وفيه النهي عن الأكل منه إذا أكل الكلب لأنه يُخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه. والظاهر أن الحمل في هذا الخطأ على عبد الملك بن حبيب فإنه كان صَحَفيًّا كثير الوهم لا يدري الحديث. انظر ترجمته في «ميزان الاعتدال» (2/ 652).

(2/289)


أسد السنة ــ عن ابن أبي زائدة، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ــ فذكر نحو حديث أبي ثعلبة في جواز الأكل منه إذا أكل. واحتجوا أيضًا بما رواه الثوري عن سماك عن مُرِّي بن قَطَري (1) عن عدي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما كان من كلب ضارٍ أمسك عليك فكل»، قلت: وإن أكل؟ قال: «نعم» (2). _________ (1) في الأصل هنا وفي الموضع الآتي: «قطن»، تصحيف، وهو كذلك في مطبوعة «المحلى» والمؤلف صادر عنه، فهل تصحّف الاسم على ابن حزم فتبعه المؤلف، أو توافق نسَّاخ الكتابين على التصحيف؟ محتمل. (2) لم أجد الحديث مرويًّا في شيء من المصادر بهذا اللفظ، بل المروي من طريق الثوري وشعبة وحماد بن سلمة وإسرائيل، كلهم عن سماك، عن مُرِّي عن عدي قال: يا رسول الله، إني أرسل كلبي فيأخذ الصيد، فلا أجد ما أذكيه به فأذبحه بالمروة والعصا؟ قال: «أنهر الدم بما شئت، واذكر اسم الله عز وجل». أخرجه أحمد (18250، 18262 - 18264، 18267)، وأبو داود (2824)، والنسائي (4304)، وابن ماجه (3177)، وعبد الرزاق (8621). وأقرب ما روي للفظ المذكور ــ لكن دون أن يكون فيه الشاهد ــ ما رواه الطبراني في «الكبير» (17/ 104) من طريق أبي الأحوص، عن سماك، عن مري، عن عدي قال: يا رسول الله، إنا نرسل كلابًا معلّمة؟ فقال: «إذا ذكرتَ اسم الله فكُل». قلت: وإن قتلن؟ قال: «وإن قَتلن». وهذا هو الموافق لما رواه الشعبي وهمّام بن الحارث عن عدي بن حاتم، كما في «الصحيحين» وغيرهما.

(2/290)


ذكر هذين الحديثين ابن حزم (1)، وتعلَّق على عبد الملك في الأول، وعلى أسد بن موسى. وتعلق في الثاني على سماك، وأنه كان يقبل التلقين ــ ذكره النسائي (2) ــ، وعلى مُرِّي بن قَطَري. وقد تقدم تعليل حديث أبي ثعلبة بداود بن عمرو. وهو ليس بالحافظ، قال فيه ابن معين مرة: مستور (3). قال أحمد (4): يختلفون في حديث أبي ثعلبة على هُشَيم، وحديث الشعبي عن عدي مِن أصحِّ ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، الشعبي يقول: كان جاري وربيطي فحدّثني (5)، والعمل عليه. وسلكت طائفة مسلك الجمع بين الحديثين، فقال الخطابي (6): يمكن _________ (1) «المحلى» (7/ 470 - 472). (2) في «الكبرى» عقب الحديثين (3295، 5167)، وفي «المجتبى» عقب الحديث (5677). (3) كذا في الأصل، والذي في «الجرح والتعديل» (3/ 420) و «تهذيب الكمال» (2/ 423): «مشهور». (4) نقله عنه في «المغني» (13/ 264). (5) لفظ مسلم (1925/ 5): «سمعت عدي بن حاتم، وكان لنا جارًا ودخيلًا وربيطًا بالنهرين». قال النووي: «الربيط هنا بمعنى المرابط، وهو الملازم، والرباط الملازمة». (6) «معالم السنن» (4/ 136)، والمجرد لم ينقل النص بتمامه، بل ذكر طرفًا منه إلى قوله: «الحديثين» ثم قال: «فذكر [أي: ابن القيم] ما ذكره عنه المنذري». وهو ساقط من مطبوعة «المختصر»، وموجود في أصله الخطِّي (النسخة البريطانية)، فنقلتُه منه بين الحاصرتين، وختمته بـ «آخر كلامه» على عادة المؤلف في فصل كلامه عن كلام غيره.

(2/291)


أن يوفق بين الحديثين [بأن يُجعل حديث أبي ثعلبة أصلًا في الإباحة، وأن يكون النهي في حديث عديِّ بن حاتم على معنى التنزيه دون التحريم. ويحتمل أن يكون الأصل في ذلك حديث عدي بن حاتم، ويكون النهي على التحريم الباتِّ، ويكون المراد بقوله: «وإن أكل» فيما مضى من الزمان وتقدّم منه، لا في هذه الحال. آخر كلامه]. والصواب في ذلك أنه لا تعارض بين الحديثين على تقدير الصحة، ومحمل حديث عدي في المنع على ما إذا أكل منه حال صيده، لأنه إنما صاده لنفسه، ومحمل حديث أبي ثعلبة على ما إذا أكل منه بعد أن صاده وقتَله ولَهِيَ عنه (1)، ثم أقبل عليه فأكل منه فإنه لا يَحْرُم، لأنه أمسكه لصاحبه، وأَكْلُه منه بعدَ ذلك كأكلِه من شاةٍ ذكّاها صاحبها أو من لحمٍ عنده. فالفرق بين أن يصطاد ليأكل، أو يصطاد ثم يعطف عليه فيأكل منه. فهذا أحسن ما يُجمع به بين الحديثين. والله تعالى أعلم. * * * _________ (1) ط. الفقي: «وقبله ونهى عنه»، تحريف يفسد المعنى.

(2/292)


 كتاب الوصايا

1 - باب متى ينقطع اليتم 310/ 2753 - عن علي بن أبي طالب قال: حفظت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُتْمَ بعد احتلامٍ، ولا صُماتَ يومٍ إلى الليل» (1). في إسناده يحيى بن محمد المدني الجاري. قال البخاري (2): يتكلمون فيه. وقال ابن حبان (3): يجب التنكب عما انفرد به من الروايات. وذكر العقيلي (4) هذا الحديث، وذكر أن هذا الحديث لا يُتابَعُ عليه يحيى الجاري. هذا آخر كلامه. وهو منسوب إلى الجار بالجيم والراء المهملة: بُليدة على الساحل بقرب مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (5). وقد رُوي هذا الحديث من رواية جابر بن عبد الله (6) وأنس بن _________ (1) «سنن أبي داود» (2873) عن أحمد بن صالح، نا يحيى بن محمد المديني، نا عبد الله بن خالد بن سعيد بن أبي مريم، عن أبيه، عن سعيد بن عبد الرحمن بن يزيد بن رُقيش، أنه سمع شيوخًا من بني عمرو بن عوف، ومن خاله عبد الله بن أبي أحمد، قال: قال علي بن أبي طالب. (2) في مطبوعة «المختصر» والمخطوط (النسخة البريطانية): «الخطابي»، وهو تحريف إذ لا يوجد قوله هذا في «معالم السنن»، وإنما هو قول البخاري، أسنده عنه العقيلي في «الضعفاء» (6/ 403)، وابن عدي في «الكامل» (7/ 226). (3) في «المجروحين» (2/ 483). (4) في «الضعفاء» (6/ 403). (5) كانت ميناء لقرية بدر فاندثرت. انظر: «معجم المعالم الجغرافية» للبِلادي (ص 41). (6) أخرجه عبد الرزاق (13899)، والطيالسي (1876)، وابن عدي في «الكامل» (2/ 447)، وفي إسناده حرام بن عثمان الأنصاري، ضعيف جدًّا حتى قال الشافعي وابن معين: الرواية عن حرام حرام! انظر: «لسان الميزان» (3/ 6). وله طريق أخرى عند ابن عدي (3/ 385)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (3/ 640)، ولكنها واهية أيضًا، فيها أبو سعد البقَّال، ضعيف متروك الحديث.

(2/293)


مالك (1)، وليس فيها شيء يثبت. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال عبد الحق (2): المحفوظ موقوف على علي. وقد روي من حديث جابر، ولكن في إسناده حرام بن عثمان. وقال ابن القطان (3): علة حديث علي: أنه من رواية عبدالرحمن بن رُقَيش (4)، ولا يعرف في رواة الأخبار. قال: «وعلته أيضًا أنه سمع شيوخًا من بني عمرو بن عوف، [ومن خاله] (5) عبد الله بن أبي أحمد قال: قال علي. _________ (1) أخرجه البزّار (6243)، وإسناده ضعيف جدًّا، فيه يزيد بن عبد الملك النوفلي، متروك منكر الحديث، وبه أعله الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 229). (2) في «الأحكام الوسطى» (3/ 323). (3) في «بيان الوهم والإيهام» (3/ 536 - 537). (4) ليس الحديث من رواية عبد الرحمن، بل من رواية ابنه سعيد، وإنما وهم عبد الحق فجعله من رواية عبد الرحمن كما بيَّن ابن القطان نفسه في (2/ 31). ثم في هذا الموضع الثاني (الذي ينقل منه ابن القيم) بنى ابن القطان كلامه على فرض صحة ما ذكره عبد الحق فقال: «لو كان الحديث هكذا، كانت علّته أبين شيء، وذلك أن عبد الرحمن بن رُقَيش لا يُعرف في رواة الأخبار، وإنما هو عن ابنه سعيد بن عبد الرحمن بن رُقيش، على ما بيَّناه في الباب المذكور، وسعيد ثقة». (5) في الأصل: «خالد بن سعيد و»، وهو سهو أو سبق قلم.

(2/294)


فخالد بن سعيد وابنه عبد الله بن خالد مجهولان، ولم أجد لعبد الله ذكرًا إلا في رسم ابن له يقال له: إسماعيل بن عبد الله بن خالد بن سعيد بن أبي مريم، ذكره أيضًا أبو حاتم (1)، وهو مجهول الحال. فأما جده سعيد بن أبي مريم فثقة. ويحيى بن محمد المدني: إما مجهول، وإما ضعيف إن كان ابنَ هانئ». وهذا سهو، فإن يحيى هذا هو يحيى بن محمد بن قيس أبو زُكَير، روى له مسلم في «الصحيح» (2). قال ابن القطان: «وعبد الله بن أبي أحمد بن جحش بن رئاب مجهول الحال أيضًا، وليس بوالد بكير بن عبد الله بن الأشج كما ظنه ابن أبي حاتم _________ (1) «الجرح والتعديل» (2/ 179). (2) كذا استظهر المؤلف، مع أنه سبق في كلام المنذري أنه يحيى بن محمد الجاري، وأن العقيلي ذكر الحديث في ترجمته. وأما الذهبي في «الرد على ابن القطان» (ص 43) فقال: «أرى أنه أبو زُكير، ويجوز أن يكون الجاري». قلت: يترجّح أنه الجاري بأمور: أنه جاء مصرَّحًا بنسبته في «الضعفاء» للعقيلي وفي «المعجم الصغير» للطبراني (266). أن أحمد بن صالح (الراوي عن يحيى بن محمد) له أحاديث أخرى عن الجاري، كما عند أبي داود (1215)، ولم أجد له رواية عن أبي زُكير يحيى بن محمد بن قيس المحاربي. أن ابن أبي حاتم قال في ترجمة عبد الله بن خالد بن سعيد بن أبي مريم (5/ 44): «روى عن أبيه، عن ابن رُقيش، روى عنه يحيى بن محمد الجاري».

(2/295)


حين [ق 159] جمع بينهما (1)، والبخاري قد فصل بينهما، فجعل الذي يروي عن علي في ترجمة (2)، والذي يروي عن ابن عباس ــ وهو والد بكير ــ في ترجمة أخرى (3)، وأيهما كان فحاله مجهول أيضًا». * * * _________ (1) في «الجرح والتعديل» (5/ 5). (2) لم أجد له ترجمة في «التاريخ الكبير» ولا في «الأوسط». (3) «التاريخ الكبير» (5/ 42).

(2/296)


 كتاب الفرائض

1 - باب في ميراث ذوي الأرحام 311/ 2779 - عن المقدام ــ وهو ابن معديْكَرب الكِنْدي ــ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن تَرك كَلًّا فإليَّ ــ وربما قال: إلى الله وإلى رسوله ــ ومن ترك مالًا فلورثته، وأنا وارثُ مَن لا وارث له، أَعْقِلُ له وأرثه، والخال وارثُ مَن لا وَارث له، يَعْقِلُ عنه ويرثه». وأخرجه النسائي وابن ماجه (1). واختلف في هذا الحديث. فروي عن راشد بن سعد، عن أبي عامر الهَوْزني عن المقدام. وروي عن راشد بن سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ــ مرسلًا (2). وقال أبو بكر البيهقي (3) في هذا الحديث: كان يحيى بن معين يضعفه، ويقول: ليس فيه حديث قوي. وقال أيضًا (4): «وقد أجمعوا على أن الخال الذي لا يكون ابنَ عم أو مولى لا يَعْقِل بالخؤولة، فخالفوا الحديث الذي احتجوا به في العقل. فإن كان ثابتًا _________ (1) أبو داود (2899)، وابن ماجه (2738)، والنسائي في «الكبرى» (6321)، من طريق بديل بن ميسرة، عن علي بن أبي طلحة، عن راشد بن سعد، عن أبي عامر الهَوزني، عن المقدام. وهذا إسناد حسن، حسَّنه أبو زرعة كما في «العلل» (1636)، وصححه ابن حبان (6035) والحاكم (4/ 344)، والألباني بشواهده في «الإرواء» (1700). (2) أخرجه النسائي في «الكبرى» (6323). (3) «السنن الكبرى» (6/ 215)، و «معرفة السنن والآثار» (9/ 164). (4) «معرفة السنن» (9/ 165).

(2/297)


فيشبه أن يكون في وقت كان يُعْقَل بالخؤولة، ثم صار الأمر إلى غير ذلك. أو أراد خالًا يعقل بأن يكون ابن عم أو مولًى، أو اختار وَضْع ماله فيه إذا لم يكن له وارث سواه. قال بعضهم: «الخال وراث من لا وارث له» يحتمل أن يكون على وجه السلب والنفي، كما قالوا: الصبر حيلةُ من لا حيلةَ له. ويحتمل أن يريد به: إذا كان عصبةً. ويحتمل أن يريد به السلطان، فإنه يُسمَّى خالًا (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: فهذا ما رُدَّ به حديث الخال وهي بأسرها وجوه ضعيفة: أما قولهم: إن أحاديثه ضعاف، فكلام فيه إجمال، فإنْ أريد بها أنها ليست في درجة الصحاح التي لا علة فيها فصحيح، ولكن هذا لا يمنع الاحتجاج بها، ولا يوجب انحطاطها عن درجة الحسن، بل هذه الأحاديث وأمثالها هي الأحاديث الحسان، فإنها قد تعددت طرقها ورويت من وجوه مختلفة، وعُرفت مخارجها، ورواتها ليسوا بمجروحين ولا متّهمين. وقد أخرجها أبو حاتم بن حبان في «صحيحه» وحكم بصحتها. وليس في أحاديث الأصول ما يعارضها. وقد رويت من حديث المقدام بن معديكرب هذا، ومن حديث عمر بن الخطاب، ذكره الترمذي (2) عن حكيم بن حكيم، عن أبي أمامة بن سهل بن _________ (1) هذه الفقرة الأخيرة من كلام المنذري أشار المجرّد إلى طرفها الأخير، وليست في مطبوعة «المختصر»، فاستدركتها من أصله الخطّي (النسخة البريطانية). (2) رقم (2103)، وأخرجه أحمد (189)، وابن ماجه (2737)، وابن حبان (6037)، واختاره الضياء (1/ 167 - 169).

(2/298)


حنيف قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له». قال الترمذي: هذا حديث حسن، ورواه ابن حبان في «صحيحه». ولم يصنع من أعلّ هذا الحديث بحكيم بن حكيم، وأنه مجهول= شيئًا، فإنه قد روى عنه سهيل بن أبي صالح، وعبد الرحمن بن الحارث، وعثمان بن حكيم أخوه، ولم نَعلم أن أحدًا جرحه (1)، ومِثْلُ هذا ترتفع عنه الجهالة ويُحتَج بحديثه. ومن حديث عائشة، ذكره الترمذي (2) أيضًا عن ابن جريج، عن عمرو بن مسلم، عن طاوس، عن عائشة ترفعه: «الخال وارث من لا وارث له». قال الترمذي: حسن غريب. قال: وإلى هذا الحديث ذهب أكثر أهل العلم في توريث ذوي الأرحام، وأما زيد بن ثابت فلم يورثهم. وقد أرسله بعضهم ولم يذكر فيه: عن عائشة (3). تم كلامه. وهذا على طريقة منازعينا لا يضر الحديث شيئًا لوجهين: أحدهما: أنهم يحكمون بزيادة الثقة، والذي وَصَله ثقة وقد زاد، فيجب _________ (1) بل قال عنه الإمام أحمد ــ كما في «سؤالات أبي داود» (ص 233) ــ: «ما أعلم إلا خيرًا»، ووثقه العجلي، وقال ابن حبان في «مشاهير علماء الأمصار» (ص 208): «من جِلَّة أهل المدينة»، وأورده في «الثقات». وأغرب ابنُ سعد في «الطبقات» (7/ 501) فقال: «كان قليل الحديث، لا يحتجّون بحديثه». (2) رقم (2104)، وأخرجه النسائي في «الكبرى» (6318، 6319)، والدارقطني (4112 - 4115) من نفس الطريق مرفوعًا وموقوفًا، واستصوب الدارقطني في «العلل» (3679) والبيهقي (6/ 215) الرواية الموقوفة. (3) لم أجده مرسلًا عن طاوس، ولكن عن ابنه، أخرجه عبد الرزاق (12488، 12489، 19122، 19123) من طرق عنه.

(2/299)


عندهم قبول زيادته. الثاني: أنه مرسل قد عمل به أكثر أهل العلم كما قال الترمذي، ومثل هذا حجة عند من لا يرى المرسل حجة، كما نص عليه الشافعي (1). وأما حمل الحديث على الخال الذي هو عَصَبة، فباطل يُنزَّه كلام الرسول عن أن يحمل عليه، لِما يتضمنه من اللبس، فإنه إنما علق الميراث بكونه خالًا. فإذا كان سبب توريثه كونَه ابنَ عمٍّ أو مولى، فعدل عن هذا الوصف الموجِب للتوريث إلى وصفٍ لا يوجب التوريث، وعلق به الحكم= فهذا ضد البيان، وكلامُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - منزه عن ذلك. وأما قوله: قد أجمعوا أن الخال الذي لا يكون ابنَ عم أو مولى لا يعقل بالخؤولة، فلا إجماع في ذلك أصلًا، وأين الإجماع؟ ثم لو قدر أن الإجماع انعقد على خلافه في التعاقل، فلم ينعقد على عدم توريثه، بل جمهور العلماء يورِّثونه، وهو قول أكثر الصحابة، فكيف يُترك القول بتوريثه لأجل القول بعدم تحمُّله في العاقلة؟ وهذا حديث المسح على الجوربين والخمار (2)، والمسح على العصائب والتساخين (3)، والمسح على الناصية _________ (1) في «الرسالة» (ص 462 - 463). (2) أخرجه مسلم (275) من حديث بلال بلفظ: «الخفّين والخمار»، وأخرج البخاري (205) من حديث عمرو بن أمية الضَّمْري بذكر الخفّين والعمامة. فأخذت الحنفية والمالكية والشافعية ببعضه دون بعض حيث قالوا بجواز المسح على الخفين، دون العمامة والخمار. (3) العصائب هي العمائم، والتساخين هي الخفاف، والحديث أخرجه أحمد (22383) وأبو داود (146) والحاكم (1/ 169) عن ثوبان. وهو حديث صحيح. انظر: حاشية محققي «المسند» طبعة الرسالة، و «صحيح أبي داود - الأم» للألباني (1/ 250).

(2/300)


والعمامة (1) = قد أخذوا منه ببعضه دون بعض. وكذلك حديث بُصْرَة بن أبي بُصْرة في الذي تزوج امرأة فوجدها حبلى (2) أخذوا ببعضه دون بعض. وهذا موجود في غير حديث. وقوله: لو كان ثابتًا يكون في وقت كان الخال يعقل بالخؤولة، فهو إشارة إلى النسخ الذي لا يمكن إثباته إلا بعد أمرين، أحدهما: ثبوت معارضة المقاوِم له، والثاني: تأخره عنه، ولا سبيل هنا إلى واحد من الأمرين. وقوله: اختار وضع ماله فيه ــ يعني على سبيل الطُّعْمة لا الميراث ــ، فباطل لثلاثة أوجه: أحدها: أن لفظ الحديث يبطله فإنه قال: «يرث ماله»، وفي لفظ «يرثه». _________ (1) أخرجه مسلم (247) من حديث المغيرة بن شعبة. احتجّت به الحنفية على وجوب مسح ربع الرأس لأن الناصية تساوي ربع الرأس، ولكن لم يأخذوا بما دلّ عليه من مشروعية المسح على العمامة، فلم يجيزوا المسح عليها. انظر: «المبسوط» (1/ 63، 101)، و «إعلام الموقعين» للمؤلف (3/ 72). (2) فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لها الصداق بما استحللتَ مِن فَرجها، والولد عبدٌ لك، فإذا ولدتْ فاجلِدُوها». أخرجه أبو داود (2131)، والصواب فيه أنه مُرسَل ليس بمتِّصل، كما أشار إليه أبو داود عقبه، ونصّ عليه أبو حاتم في «العلل» (1259)، وضعّفه أيضًا أحمد وإسحاق كما في «مسائلهما» برواية الكوسج (2/ 316). وقد استدل بالحديث المالكية والحنابلة على عدم صحة نكاح الحامل من زنى حتى تضع حملها، مع مخالفتهم لسائر ما دلّ عليه. انظر: «المحلّى» (10/ 28)، و «المغني» (9/ 561).

(2/301)


الثاني: أنه سماه وارثًا، والأصل في التسمية الحقيقة، فلا يُعدَل عنها إلا بعد أمور أربعة: أحدها: قيام دليل على امتناع إرادتها. الثاني: بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي عَيَّنه مجازًا له، ولا يكفي ذلك إلا بالثالث، وهو: بيان استعماله فيه لغةً، حتى لا يكون لنا وضع نحمل عليه لفظ النص. وكثير من الناس يغفل عن هذه الثلاثة، ويقول: يُحمل على كذا وكذا، وهذا غلط، فإن الحمل ليس بإنشاء، وإنما هو إخبار عن استعمال اللفظ في ذلك المعنى الذي حمله عليه، وإن لم يكن مطابِقًا كان خبرًا كاذبًا. وإن أراد به أني أنشئ حمله على هذا المعنى، كما يظن كثير ممن لا تحقيق عنده، فهو باطل قطعًا لا يَحِلُّ لأحد أن يرتكبه ثم يحمل كلام الشارع عليه. الرابع: الجواب عن المعارِض، وهو دليل إرادة الحقيقة، ولا يكفيه دليل امتناع إرادتها ما لم يُجِبْ عن دليل الإرادة. الثالث (1): أن المخاطبين بهذا اللفظ فهموا منه الميراث دون غيره، وهم الصحابة [ق 160]- رضي الله عنهم -، ولهذا كتب به عمر - رضي الله عنه - جوابًا لأبي عبيدة حين سأله في كتابه عن ميراث الخال، وهم أحق الخلق بالإصابة في الفهم. وقد عُلِم بهذا بطلان حمل الحديث على أن الخال السلطان، وعلى أن _________ (1) هذا الوجه الثالث من أوجه بطلان تفسير الحديث بأنه اختار وضع ماله فيه على سبيل الطُّعْمة. في ط. الفقي: «الخامس»، وهو خطأ.

(2/302)


المراد به السَّلْب. وكل هذه وجوه باطلة. وأسعد الناس بهذه الأحاديث من ذهب إليها، وبالله التوفيق. 2 - باب ميراث ابن الملاعَنة 312/ 2786 - عن واثلة بن الأسقع، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المرأة تَحُوزُ ثلاثةَ مواريث: عَتِيقَها، ولَقِيطَها، وولدَها الذي لاعَنَتْ عنه». وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (1)، وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن حرب. هذا آخر كلامه. وفي إسناده عمر بن رُؤبة التَّغلِبي، قال البخاري: فيه نظر. وسئل عنه أبو حاتم الرازي، فقال: صالح الحديث، قيل: تقوم به الحجة؟ فقال: لا، ولكن صالح (2). وقال الخطابي (3): وهذا الحديث غير ثابت عند أهل النقل. وقال البيهقي (4): لم يُثبت البخاري ولا مسلم هذا الحديث لجهالة بعض رواته. قال ابن القيم - رحمه الله -: وأُعِلَّ أيضًا بعبد الواحد بن عبد الله بن بسر _________ (1) أبو داود (2906)، والترمذي (2115)، والنسائي في «الكبرى» (6326 - 6328)، وابن ماجه (2742)، كلهم من طريق عمر بن رؤبة، عن عبد الواحد بن عبد الله النَّصْري، عن واثلة. (2) انظر: «التاريخ الكبير» (6/ 155)، و «الجرح والتعديل» (6/ 108). (3) «معالم السنن» (4/ 176). (4) «معرفة السنن والآثار» (9/ 153).

(2/303)


النَّصْري، راويه عن واثلة، قال ابن أبي حاتم (1): صالح لا يحتج به (2). وقد اشتمل على ثلاث جمل: ميراث المرأة عتيقَها، وهو متفق عليه. الثانية: ميراثها ولدَها الذي لاعنت عليه، وقد اختُلف فيه؛ فكان زيد بن ثابت يجعل ميراثها منه كميراثها من الولد الذي لم تلاعن عليه، وروي عن ابن عباس نحوه (3). وهو قول جماعة من التابعين (4). وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم (5)، وعندهم لا تأثير لانقطاع نسبه من أبيه في ميراث الأم منه. وكان الحسن وابن سيرين وجابر بن زيد وعطاء والنخعي والحكم وحماد والثوري والحسن بن صالح وغيرهم يجعلون عصبةَ أمِّه عصبةً _________ (1) نقلًا عن أبيه في «الجرح والتعديل» (6/ 22). (2) أعله بهذا عبد الحق في «الأحكام الوسطى» (3/ 337) وابن الجوزي في «التحقيق» (2/ 251)، وردَّ ابنُ عبد الهادي الإعلال به وبعُمَر بن رؤبة، فقال في «التنقيح» (4/ 273 - 274): «عبد الواحد النصري روى له البخاري في «صحيحه»، ووثَّقه العجلي والدارقطني وغيرهما، وعمر بن رؤبة: محلّه الصدق، قال دحيم: لا أعلمه إلا ثقة ... واعلم أن هذا الحديث تكلّم فيه الشافعي وغيره، لكن له شواهد تقوّيه ... ». (3) أخرجه عنهما عبد الرزاق في «المصنف» (12485). (4) كعروة بن الزبير وسليمان بن يسار والزهري، أخرجه عنهم ابن أبي شيبة (31973 - 31976). (5) انظر: «الموطأ» (1488)، و «المدونة» (8/ 387)، و «الأم» (5/ 177)، و «الأصل» للشيباني (6/ 93)، و «المبسوط» (29/ 198).

(2/304)


له (1). وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه (2). وهو إحدى الروايتين عن علي وابن عباس (3). وكان ابن مسعود، وعلي في الرواية الأخرى عنه (4) يجعلون أمه نفسها عصبة، وهي قائمة مقام أمه وأبيه، فإن عدمت فعصبتها عصبته. وهذا هو الرواية الأخرى (5) عن أحمد نقلها عنه أبو الحارث ومهنا، ونقل الأولى الأثرم وحنبل، وهو مذهب مكحول والشعبي (6). وأصح هذه الأقوال: أن أمَّه نفسها عَصَبتُه (7)، وعصباتها (8) من بعدها عصبةٌ له. هذا مقتضى الآثار والقياس. _________ (1) حكاه عن جميعهم ابن عبد البر في «التمهيد» (15/ 46) و «الاستذكار» (5/ 378). وقول الحسن أسنده الدارمي (3003)، وقول عطاء والنخعي أخرجه عبد الرزاق (12483، 12480)، وقول الحكم وحماد بن أبي سليمان رواه ابن أبي شيبة (31983). (2) انظر: «المغني» (9/ 116)، و «الإنصاف» (18/ 44 - 46). (3) أثر علي أخرجه عبد الرزاق (12481، 12482)، وابن أبي شيبة (31979). وأثر ابن عباس أخرجه الدارمي (3009). (4) أخرجه البيهقي (6/ 258) عنهما بإسناد فيه لين، وله طريقان آخران عن ابن مسعود عند عبد الرزاق (12479)، وابن أبي شيبة (31969، 31970). (5) «الأخرى» ساقطة من الأصل، واستدركت من (هـ). (6) قول مكحول والشعبي أخرجه ابن أبي شيبة (31967، 31971). وانظر: «مسند الدارمي» (3001، 3008). (7) الأصل: «عصبة»، والمثبت من (هـ). (8) في الطبعتين: «عصبتها» خلافًا للأصل.

(2/305)


أما الآثار، فمنها حديث واثلة هذا. ومنها ما ذكره أبو داود (1) في الباب عن مكحول [الشامي قال: «جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميراث ابنِ الملاعنة لأمِّه ولورثتها من بعدها». وهذا مرسل يتأيّد بالمسند] (2). ومنها ما رواه أيضًا (3) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. ومنها ما رواه أبو داود أيضًا عن عبد الله بن عبيدٍ عن رجل من أهل الشام: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لولد الملاعنة: «عصبته عصبة أمه» ذكره في «المراسيل» (4). وفي لفظ له (5) عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: كتبتُ إلى صديق لي _________ (1) برقم (2907). (2) ما بين الحاصرتين من (هـ) وليس فيه قوله: «في الباب»، وأخشى أن يكون المجرّد حذف لفظ الحديث اختصارًا وزاد قوله: «في الباب» ليُغني عن سياق لفظه. (3) برقم (2908) من طريق عيسى بن موسى القرشي، عن العلاء بن الحارث، عن عمرو بن شعيب به. قال البيهقي (6/ 424): عيسى فيه نظر. قلت: قد وثَّقه دحيم، ولم أجد من غمزه بشيء، لكنه قد خولف في هذا الحديث، خالفه الهيثم بن حميد ــ وهو ثقة ــ فرواه عن العلاء، عن عمرو بن شعيب مُرسلًا، أخرجه الدارمي (3157). وقد يعتضد الوصل بما أخرجه أحمد (7028) من طريق ابن إسحاق قال: وذكر عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ولد المتلاعنين أنه يرث أمَّه، وترثه أمه. (4) برقم (362). (5) ليس في «السنن» ولا «المراسيل»، إنما أخرجه عبد الرزاق (12476، 12477)، وابن أبي شيبة (29083)، والدارمي (3002)، والبيهقي (6/ 259).

(2/306)


من أهل المدينة من بني زُرَيق أسأله عن ولد الملاعنة، لمن قضى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فكتب إليّ: إني سألتُ فأُخبِرت أنه قضى به لأمه، هي (1) بمنزلة أبيه وأمه. وهذه آثار يشدُّ بعضها بعضًا. وقد قال الشافعي (2): «إن المرسل إذا روي من وجهين مختلفين أو روي مسندًا، أو اعتضد بعمل بعض الصحابة فهو حجة». وهذا قد روي من وجوهٍ متعددة، وعمل به من ذكرنا من الصحابة. والقياس معه، فإنها لو كانت معتَقةً كان عصبتها من الولاء عصبةً لأولادها يرثونهم بتعصيب الولاء، والولاء فرع النسب، فكيف يكون عصبتها من الولاء عصبةً (3) لولدها ولا يكون عصبتها من النسب عصبةً لهم؟! ومعلوم أن تعصيب الولاء الثابتَ لغير المباشِر بالعتق فرعٌ على ثبوت تعصيب النسب، فكيف يثبت الفرع مع انتفاء أصله؟! وأيضًا: فإن الولاء في الأصل لموالي الأب، فإذا انقطع من جهتهم رجع إلى موالي الأم، فإذا عاد من جهة الأب انتقل من موالي الأم إلى موالي الأب. وهكذا النسب: هو في الأصل للأب وعصباته، فإذا انقطع من جهته باللعان عاد إلى الأم وعصباتها، فإذا عاد إلى الأب باعترافه بالولد وإكذابه نفسَه رجع النسب إليه كالولاء سواء، بل النسب هو الأصل في ذلك والولاءُ _________ (1) في الطبعتين: «وهي» خلافًا للأصل ولمصادر التخريج. (2) انظر: «الرسالة» (ص 461 - 464). (3) من قوله: «عصبة لأولادها» إلى هنا ساقط من الأصل، واستدرك من (هـ)

(2/307)


مُلحَق به. وهذا من أوضح القياس وأبينه، وأَدَلِّه على دقَّة أفهام الصحابة وبُعدِ غَورهم في فهم (1) مآخذ الأحكام. وقد أشار إلى هذا في قوله في الحديث: «هي بمنزلة أمه وأبيه». حتى لو لم ترد هذه الآثار لكان هذا محضَ القياس الصحيح. وإذا ثبت أن عصبة أمه عصبة له، فهي أولى أن تكون عصبتَه، لأنهم فرعها وهم إنما صاروا عصبةً له بواسطتها، ومن جهتها استفادوا تعصيبهم، فأن تكون هي نفسها عصبةً أولى وأحرى. فإن قيل: لو كانت أمه بمنزلة أمه وأبيه لحجبت إخوتَه ولم يرثوا معها شيئًا، وأيضًا: فإنهم إنما يرثون منه بالفرض، فكيف يكونون عصبةً له؟ فالجواب: أنها إنما لم تحجب إخوته من حيث إن تعصيبها مفرَّع على انقطاع تعصيبه من جهة الأب، كما أن تعصيب الولاء مفرَّع على انقطاع التعصيب من جهة النسب، فكما لا يحجب عصبةُ الولاء أحدًا من أهل النسب، كذلك لا تحجب الأم الإخوة لضعف تعصيبها وكونِه إنما صار إليها ضرورةَ تعذُّرِه من جهة أصله، وهو بِعُرْض الزوال، بأن يُقرّ به الملاعن فيزول. وأيضًا: فإن الإخوة استفادوا من جهتها أمرين: أخوة ولد الملاعنة وتعصيبه، فهم يرثون أخاهم معها بالأُخوَّة لا بالتعصيب، وتعصيبها إنما يدفع تعصيبهم لا أُخوَّتهم، ولهذا وَرِثوا معها بالفرض لا بالتعصيب، وبالله _________ (1) «فهم» من (هـ).

(2/308)


التوفيق. الجملة الثالثة في حديث واثلة: «ميراث اللقيط». وهذا قد اختلف فيه، فذهب الجمهور إلى أنه لا توارث بينه [ق 161] وبين ملتقطه بذلك. وذهب إسحاق بن راهويه إلى أن ميراثه لملتقطه عند عدم نسبه (1)، لظاهر حديث واثلة. وإن صح الحديث فالقول ما قال إسحاق، لأن إنعام الملتقط على اللقيط بتربيته والقيام عليه والإحسان إليه، ليس بدون إنعام المُعتِق على العبد بعتقه. فإذا كان الإنعام بالعتق سببًا لميراث المعتق، مع أنه لا نسب بينهما، فكيف يستبعد أن يكون الإنعام بالالتقاط سببًا له مع أنه قد يكون أعظم موقعًا وأتم نعمةً؟ وأيضًا فقد ساوى هذا الملتقط المسلمين في مال اللقيط، وامتاز عنهم بتربية اللقيط والقيام بمصالحه وإحيائه من الهلكة، فمِن محاسن الشرع ومصلحته وحكمته: أن يكون أحقَّ بميراثه. وإذا تدبَّرتَ هذا وجدته أصحَّ من كثير من القياسات التي يبنون عليها الأحكام، والعقولُ أشدُّ قبولًا له. فقول إسحاق في هذه المسألة في غاية القوة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدفع الميراث بدون هذا، كما دفعه إلى العتيق مرة (2)، _________ (1) كما في «مسائله» برواية الكوسج (2/ 472 - 473، 504) مستدلًّا بقول عمر للملتقط: «لك ولاؤه، وعلينا نفقته». أخرجه مالك في «الموطأ» (2155). (2) أخرجه أحمد (1930)، وأبو داود (2905)، والترمذي (2106) وقال: حسن، والحاكم (4/ 347)، من طريق عمرو بن دينار، عن عوسجة مولى ابن عباس، عن ابن عباس. عوسجة هذا وثَّقه أبو زرعة، لكنه ليس بمشهور ولم يتابع عليه. قال البخاري: لم يصح حديثه. انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (1643)، و «الضعفاء» للعقيلي (5/ 29)، و «الكامل» لابن عدي (5/ 384).

(2/309)


وإلى الكُبْر من خُزاعة مرة (1)، وإلى أهل سِكَّة الميت ودَرْبه مرة (2)، وإلى من أسلم على يديه مرة (3). ولم يُعرَف عنه - صلى الله عليه وسلم - شيء يَنسخ ذلك، ولكن الذي استقر عليه شرعُه تقديمُ النسب على هذه الأمور كلها، وأما نسخُها عند عدم النسب فممّا لا سبيل إلى إثباته أصلًا، وبالله التوفيق. 3 - باب فيمن أسلم على ميراث 313/ 2794 - عن ابن عباس، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كلُّ قَسْمٍ قُسِمَ في الجاهلية فهو على مَا قُسِم، وكل قَسْم أدركه الإسلامُ فإنه على قَسْم الإسلام». وأخرجه ابن ماجه (4). _________ (1) أخرجه أحمد (22944)، وأبو داود (2903، 2904)، والنسائي في «الكبرى» (6361 - 6363)، من حديث جبريل بن أحمد، عن ابن بريدة، عن أبيه. في إسناده لين، فإن جبريل وثقه ابن معين، ولكن قال النسائي: ليس بالقوي، وقد تفرّد بالحديث ولم يُتابع عليه. انظر: «ضعيف أبي داود- الأم» (2/ 397 - 399). (2) أخرجه أحمد (25054)، وأبو داود (2902)، والترمذي (2105) من حديث مجاهد بن وردان، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها -. قال الترمذي: «حديث حسن». (3) سيأتي الحديث والكلام عليه بعد بابين. (4) أبو داود (2914)، وابن ماجه (2485) من طريق محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس. اختاره الضياء المقدسي (9/ 521)، وقال ابن عبد الهادي في «التنقيح» (4/ 264): «إسناده جيّد». ويَرِد عليه أن محمد بن مسلم الطائفي فيه بعض اللين، وقد خولف، خالفه ابن عيينة [عند سعيد بن منصور (193)]، وابن جريج [عند عبد الرزاق (12637)]، فروياه عن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مُرسلًا، وهو أصح. ولكن له متابعات وشواهد تعضده. انظر: «إرواء الغليل» (1717).

(2/310)


وفيه دليل على أن أحكام الأموال والأنساب والأنكحة التي كانت في الجاهلية ماضية على ما وقع الحكم فيها أيام الجاهلية، لا يُردّ منها شيء في الإسلام، وما وُجِدَ من هذه الأمور في الإسلام يُستأنف فيه حكمه (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد دل على هذا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278]، فأمرهم بترك ما لم يُقبَض من الربا، ولم يتعرَّض لما قبضوه، بل أمضاه لهم. وكذلك الأنكحة لم يتعرض فيها لما مضى، ولا لكيفية عقدها، بل أمضاها وأبطل منها ما كان موجب إبطاله قائمًا في الإسلام، كنكاح الأختين والزائد على الأربع، فهو نظير الباقي من الربا. وكذلك الأموال: لم يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدًا بعد إسلامه عن ماله ووَجْه أخذه، ولا تعرَّض لذلك. وكذلك الأنساب كما تقدم في المستلحق في بابه (2). وهذا أصل من أصول الشريعة ينبني عليه أحكام كثيرة. وأما الرجل يسلم على الميراث قبل أن يُقْسَم، فروي عن عمر بن الخطاب، وعثمان، وعبد الله بن مسعود، والحسن بن علي: أنه يرث (3). _________ (1) هذا نص كلام المنذري كما نقله المجرّد، وفيه تصرّف يسير من المؤلف عمّا في «المختصر» (4/ 182). (2) وهو «باب في ادّعاء ولد الزنا» في كتاب الطلاق. (3) حكاه عنهم في «المغني» (9/ 160). وأسنده عن عمر بن الخطاب وعثمان: عبد الرزاق (9894)، وابن المنذر في «الأوسط» (7/ 473)، وابن عبد البر في «التمهيد» (2/ 56 - 57).

(2/311)


وقال به جابر بن زيد، والحسن، ومكحول، وقتادة، وحميد، وإياس بن معاوية، وإسحاق بن راهويه (1)، والإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، اختارها أكثر أصحابه (2). وذهب عامة الفقهاء إلى أنه لا يرث، كما لو أسلم بعد القسمة، وهذا مذهب الثلاثة. وذكر ابن عبد البر في «التمهيد» (3): أن عمر قضى أن من أسلم على ميراث قبل أن يقسم فله نصيبه، وقضى به عثمان. واحتُجَّ لهذا القول الأول بما روى سعيد بن منصور في «سننه» (4) عن عروة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أسلم على شيء فهو له». ورواه أيضًا (5) عن ابن أبي مليكة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. واحتجوا أيضًا بحديث أبي داود هذا. _________ (1) عزاه إليهم في «المغني» (9/ 160)، وقول جابر بن زيد أخرجه عبد الرزاق (9895)، وقول الحسن أخرجه ابن أبي شيبة (32292)، وقول إسحاق في «مسائله» رواية الكوسج (2/ 502). (2) انظر: «مسائل أحمد» للكوسج (2/ 502)، و «المغني» (9/ 160)، و «الإنصاف» (18/ 267 - 270). (3) (2/ 56 - 57). (4) برقم (189)، وهو مرسل. (5) برقم (190)، وهو كسابقه.

(2/312)


واحتجوا بأنه قضاء انتشر في الصحابة من عمر وعثمان، ولم يعلم لهما مخالف (1). وفيه نظر، فإن المشهور عن علي أنه لا يرث (2). واحتجوا أيضًا بأن التركة إنما يتحقّق انتقالُها إليهم بقسمتها وحَوزها، واختصاصِ كل من الوارثين بنصيبه، وما قبل ذلك فهي بمنزلة ما قبل الموت. والتحقيق: أنها بمنزلة ما قبل الموت من وجه، وبمنزلة ما بعد القسمة من وجه، فإنهم ملكوها بالموت ملْكا قهريًّا ونماؤها لهم، وابتدأ حولُ الزكاة من حين الموت، ولكن هي قبل القسمة كالباقي على ملك الموروث، ولو نَمَتْ لضوعف منها وصاياه، وقُضِيت منها ديونه، فهي في حكم الباقي على ملكه من بعض الوجوه. ولو تجدد للميت صَيد بعد موته بأن يقع في شبكةٍ نصبها قبل موته ثبت ملكه عليه. ولو وقع إنسان في بئر حفرها لتعلَّق ضمانُه بتركته بعد موته. فإذا قُسِمت التركة وتعيَّن حقُّ كل وارثٍ انقطعت علاقة الميت عنها، والله أعلم. 4 - باب الولاء 314/ 2797 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رِيابَ بن حُذيفة تزوج امرأة فولدتْ له ثلاثة غِلْمةٍ، فماتت أمُّهم، فوَرِثوها رِباعَها وولاءَ مواليها، وكان عمرو بن العاص عَصَبَةَ بَنِيها فأخرجهم إلى الشام فماتوا، فقَدِم عمرو بن العاص، ومات مَوْلًى لها وترك مالاً، فخاصمه إخوتها إلى عمر بن الخطاب، فقال عمر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أحْرَزَ الولدُ أو الوالدُ فهو لِعَصَبتِه مَن _________ (1) كذا قال ابن قدامة في «المغني» (9/ 161). (2) انظر: «سنن سعيد» (183، 184)، و «مصنف ابن أبي شيبة» (32284).

(2/313)


كان». قال: فكتب له كتابًا فيه شهادة عبد الرحمن بن عوف، وزيد بن ثابت، ورجلٍ آخر، فلما استُخْلِف عبد الملك اختصموا إلى هشام بن إسماعيل، أو إلى إسماعيل بن هشام، فرفعهم إلى عبد الملك فقال: هذا من القضاء الذي ما كنتُ أَراه (1)، قال: فقضى لنا بكتاب عمر بن الخطاب، فنحن فيه إلى الساعة. وأخرجه النسائي وابن ماجه (2). وأخرجه النسائي (3) أيضًا مرسلًا. وقد تقدم الكلام على اختلاف الأئمة في الاحتجاج بعمرو بن شعيب (4). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال ابن عبد البر (5): «هذا حديث حسن صحيح غريب ... ». وذكر توثيق الناس لعمرو بن شعيب، وأنه إنما أُنكِر من حديثه وضُعِّف ما كان عن قومٍ ضعفاء عنه، وهذا الحديث قد رواه أبو بكر بن أبي شيبة (6)، نا أبو أسامة، عن حسين المعلم عن عمرو، فذكره. _________ (1) لفظ عبد الملك هنا مختصر، ولذا يوهم خلاف المعنى المقصود، وجاء في رواية ابن ماجه مطولا: «إن كنتُ لأرى أن هذا من القضاء الذي لا يُشكّ فيه، وما كنت أرى أن أمر أهلِ المدينة بلغ هذا أن يشكُّوا في هذا القضاء». (2) أبو داود (2917)، والنسائي في «الكبرى» (6314)، وابن ماجه (2732). قال علي ابن المديني: «هذا من صحيح ما يُروى عن عمرو بن شعيب ... وإنما صار هذا الحديث عندي متصل الإسناد لأن هذه القصة كانت فيهم، خاصم فيها عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب، وحدث بها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ». نقله ابن كثير في «مسند الفاروق» (2/ 85 - 86). (3) «الكبرى» (6315) من طريق عمرو بن شعيب قال: قال عمر. (4) في «المختصر»: «بحديث عمرو بن شعيب»، والمثبت من أصل المجرد. (5) في «التمهيد» (3/ 62). (6) وهو في «المصنف» (32171)، ومن طريقه رواه ابن ماجه وابن عبد البر.

(2/314)


5 - باب من أسلم على يدي رجل 315/ 2798 - عن تميم الداري أنه قال: يا رسول الله ــ وقال يزيد، وهو ابن خالد: إن تميمًا قال: يا رسول الله ــ ما السُّنة في الرجل يُسْلِم على يدي الرجل من المسلمين؟ قال: «هو أَولى الناس بمَحْيَاه ومَماتِه». وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (1). وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن وهب ــ ويقال: ابن مَوهَب ــ عن تميم الداري. وقد أدخل بعضهم بين عبد الله بن مَوهَب وبين تميم الداري قَبِيصةَ بن ذُؤيب. وهو عندي ليس بمتصل. هذا آخر كلامه. وقال الشافعي (2) في هذا الحديث: إنه ليس بثابت، إنما يرويه عبد العزيز بن عمر عن ابن موهَب عن تميم الداري. وابن موهب ليس بالمعروف عندنا، ولا نعلمه لقي تميمًا. ومثل هذا لا يثبت عندنا ولا عندك، من قِبَل أنه مجهول، ولا أعلمه متصلًا. وقال الخطابي (3): وضعَّف أحمد بن حنبل حديث تميم الداري هذا، وقال: عبد العزيز ــ راويه ــ ليس من أهل الحفظ والإتقان. وقال البخاري في «الصحيح» (4): واختلفوا في صحة هذا الخبر. _________ (1) أبو داود (2918)، والترمذي (2112)، والنسائي في «الكبرى» (6379)، وابن ماجه (2752)، من طريق عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، عن عبد الله بن موهب، ــ زاد في رواية أبي داود: عن قبيصة بن ذؤيب ــ عن تميم الداري. (2) «الأم» (5/ 164). (3) «معالم السنن» (4/ 186). (4) كتاب الفرائض، باب إذا أسلم على يديه.

(2/315)


وقال ابن المنذر (1): لم يروه غير عبد العزيز بن عمر. وهو شيخ ليس من أهل الحفظ، وقد اضطربت روايته له. هذا آخر كلامه. وقال أبو مسهر (2): عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ضعيف الحديث. قلت: وقد احتج البخاري في «صحيحه» بحديث عبد العزيز هذا، وأخرج له عن نافع مولى ابن عمر حديثًا واحدًا (3). وذكر الحاكم أبو عبد الله النيسابوري وأبو الحسن الدارقطني: أن البخاري ومسلمًا أخرجا له (4). وقال يحيى بن معين: عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: ثقة. وقال أيضًا: روى شيئًا يسيرًا. وقال أبو زرعة الرازي: لا بأس به. وقال أبو نعيم: ثقة. وقال ابن عمار: ثقة، ليس بين الناس فيه اختلاف (5). هكذا قال، وقد ذكرنا الخلاف فيه. قال ابن القيم - رحمه الله -: والذين ردوا هذا الحديث منهم من ردَّه لِضَعفه، ومنهم من رده لكونه منسوخًا، ومنهم من قال: لا دلالة فيه على [ق 162] الميراث، بل لو صح كان معناه: هو أحق به، يواليه وينصره، ويبَرُّه ويَصِله، ويرعى ذِمامه، ويغسله ويصلي عليه ويدفنه، فهذه أولويَّته به، لا أنها أولويته بميراثه، وهذا التأويل (6). وقال بهذا الحديث آخرون، منهم: إسحاق بن راهويه (7)، وأحمد بن _________ (1) «الأوسط» (7/ 562). (2) انظر: «تهذيب الكمال» (4/ 525). (3) برقم (4616). (4) مسلم أخرجه له في بعض المتابعات في الحديث (1406). (5) انظر هذه الأقوال في «تهذيب الكمال» (4/ 525). (6) بعده في هامش الأصل: «بياض في الأصل». (7) انظر: «مسائله» رواية الكوسج (2/ 430).

(2/316)


حنبل في إحدى الروايتين عنه (1)، وطاوس، وربيعة، والليث (2). وهو قول عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز (3). وفيها مذهب ثالث: أنه إن عقل عنه ورثه وإن لم يعقل عنه لم يرثه، وهو مذهب سعيد بن المسيب (4). وفيها مذهب رابع: أنه إن أسلم على يديه ووالاه فإنه يرثه ويعقل عنه، وله أن يتحوّل عنه إلى غيره ما لم يعقل عنه، فإذا عقل عنه لم يكن له أن يتحول عنه إلى غيره. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد (5). وفيها مذهب خامس: أن هذا الحكم ثابت فيمن كان من أهل الحرب دون الذمة، وهو مذهب يحيى بن سعيد (6). فلا إجماع في المسألة مع [مخالفة] (7) هؤلاء الأعلام. وأما تضعيف الحديث، فقد رويت له شواهد: _________ (1) انظر: «المغني» (9/ 254). (2) قول ربيعة أسنده الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (7/ 282)، وقول الليث حكاه ابن عبد البر في «التمهيد» (3/ 83). (3) أخرجه عنهما ابن أبي شيبة (32231 - 32236). (4) حكاه في «التمهيد» (3/ 85 - 86). وانظر: «شرح مشكل الآثار» (7/ 282). (5) انظر: «الأصل» للشيباني (6/ 113 - 115)، و «المبسوط» (8/ 91). وهو قول إبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان من قبلُ. انظر: «سنن سعيد» (205، 214). (6) ذكره عنه في «التمهيد» (3/ 81) و «الاستذكار» (7/ 358). (7) زيادة من ط. الفقي.

(2/317)


منها: حديث أبي أمامة (1). وأمّا رده بجعفر بن الزبير، فقد رواه سعيد بن منصور (2): نا عيسى بن يونس، نا معاوية بن يحيى الصَّدَفي، عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعًا. ورواه أيضًا (3) من حديث راشد بن سعد (4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا. وحديث تميم وإن لم يكن في رتبة الصحيح، فلا ينحطّ عن أدنى درجات الحسن، وقد عضده المرسل، وقضاءُ عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز. وآية الفرائض إنما (5) تقتضي تقديم الأقارب عليه، ولا تدل على عدم توريثه إذا لم يكن له نسب، والله أعلم. _________ (1) هو ما رواه جعفر بن الزبير، عن القاسم أبي عبد الرحمن الشامي، عن أبي أمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أسلم على يَدي رجلٍ فله ولاؤه». أخرجه ابن عدي في «الكامل» (2/ 135)، ومن طريقه البيهقي (10/ 298)، وجعفر بن الزبير الشامي متروك الحديث كما قال البخاري وغيره. (2) برقم (200). وأخرجه أيضًا الدارقطني (4386)، وابن عدي في «الكامل» (6/ 401)، من طريق عيسى بن يونس به. قال الدارقطني: «الصدفي ضعيف»، وقال ابن عدي: «عامة رواياته فيها نظر». وقد اتفق الأئمة على ضعفه وأنه يروي المناكير. انظر: «تهذيب التهذيب» (10/ 219). (3) «سنن سعيد» (201). (4) في الأصل: «حديث بن اشيب سعد»، تحريف. وفي ط. الفقي: «حديث سعيد بن المسيب»، تحريف على تحريف! وراشد بن سعد هو الحُبْراني الحمصي، تابعي ثقة، روى عن ثوبان وأنس ومعاوية وغيرهم، (ت 108 أو 113). (5) ط. الفقي: « ... برواية الفرائض، وإنما» متصلًا بالفقرة السابقة، تحريف.

(2/318)


6 - باب في المولود يستهل [ثم يموت] 316/ 2800 - عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا استهلَّ المولودُ ورث» (1). في إسناده محمد بن إسحاق، وقد تقدم الكلام عليه. وقوله: «استهل» معناه: رفع صوتَه بأن يصرخ أو يبكي، وكلُّ من رفع صوتَه بشيء فقد استهلّ به. ومعنى الاستهلال هاهنا أن يُوجد مع المولود أمارة الحياة. ولو لم يتّفق أن يكون منه الاستهلال، وكان منه حركة أو عطاس أو تنفُّس أو بعضُ ما لا يكون ذلك إلا من حيّ= فإنه يُورَّث لوجود ما فيه من دلالة الحياة. وإلى هذا ذهب الثوري والأوزاعي والشافعي. وقال مالك: لا ميراث له وإن تحرّك أو عطس، ما لم يستهلّ. وروي عن محمد بن سيرين والشعبي والزهري وقتادة أنهم قالوا: «لا يورَّث المولود حتى يستهلّ» (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: وروى النسائي (3) من حديث أبي الزبير عن جابر _________ (1) «سنن أبي داود» (2920) من طريق ابن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيط، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. قال ابن عبد الهادي في «المحرّر»: إسناده جيّد. ولكن يَرِد عليه أن محمد بن إسحاق مدلّس ولم يصرّح بالسماع. (2) انظر للخلاف في المسألة: «الإشراف» (4/ 361) و «المغني» (9/ 180 - 181). (3) في «الكبرى» (6324) من طريق المغيرة بن مسلم، عن أبي الزبير، ثم روى نحوه (6325) عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر موقوفًا، وقال: «وهذا أولى بالصواب من حديث المغيرة بن مسلم، وعند المغيرة عن أبي الزبير غيرُ حديث منكر، وابن جريج أثبت من المغيرة، والله أعلم».

(2/319)


عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصبي إذا استهلَّ وَرِث وصُلِّي عليه». ورواه الترمذي (1)، وقال: «هذا حديث قد روي موقوفًا على جابر، وكأنّ الموقوف أصح»، ولفظه (2): «الطفل لا يُصلَّى عليه، ولا يَرِث ولا يُورَث حتى يستهل». وفي «مسند البزار» (3) من حديث ابن عمر يرفعه: «استهلال الصبي العُطاس». فيه ابن البَيْلَماني عن أبيه (4). 7 - باب في الحِلْفِ 317/ 2805 - عن جُبير بن مُطْعِم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا حِلْفَ في الإسلام، وَأَيُّما حِلْفٍ كان في الجاهلية لم يَزِده الإسلامُ إلَّا شدَّةً». وأخرجه مسلم (5). 318/ 2806 - وعن أنس بن مالك قال: حالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار في دارنا، فقيل له: أليس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا حلف في الإسلام»، فقال: «حالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار في دارنا، مرَّتين _________ (1) برقم (1032) من طريق إسماعيل بن مسلم المكي، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعًا. وإسماعيل بن مسلم ضعيف. (2) أي لفظ الترمذي في الرواية المرفوعة، ثم قال عقبه ما سبق نقله باختصار. والمؤلف صادر عن «الأحكام الوسطى» (3/ 336) في هذا التقديم والتأخير المُوهِم. (3) (5409). (4) هما: محمد بن عبد الرحمن ابن البَيلَماني، وأبوه. كلاهما ضعيف، لاسيما الابن فإنه منكر الحديث، وقد تفرد بهذا الخبر عن أبيه، فهو من مناكيره. (5) أبو داود (2925)، ومسلم (2530).

(2/320)


أو ثلاثا. وأخرجه البخاري ومسلم (1) بنحوه. قال سفيان بن عيينة (2): معنى «حالف» آخى، ولا حِلف في الإسلام كما جاء به الحديث. وقال غيره: أصل الحِلف المعاقدةُ والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق، وهو من الحلف التي هي اليمين، فما كان منه في الجاهلية على القتال بين القبائل والغارات فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام بقوله عليه السلام: «لا حِلف في الإسلام»، وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصِلة الأرحام كحِلف المطيبين (3) وما جرى مجراه، فذلك الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: «وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزِده الإسلام إلا شِدَّةً»، يريد من المعاقدة على الخير ونصرة الحق. فبذلك يُجمَع الحديثان. وقيل: المُحالفة كانت قبل الفتح، وقوله: «لا حلف في الإسلام» قاله زمنَ الفتح فكان ناسخًا (4). قال ابن القيم - رحمه الله -: فالظاهر ــ والله أعلم ــ أن المراد بالحديث: أن الله _________ (1) أبو داود (2926)، والبخاري (2294)، ومسلم (2529). (2) عقب الحديث، كما عند أحمد (12089) والخطابي في «غريب الحديث» (2/ 212)، والمنذري صادر عن «المعالم» (4/ 190). (3) رسمه في المخطوط: «المطلبين»، ولعل الصواب ما أثبت. (4) كلام المنذري في معنى الحديث ساقط من مطبوعة «المختصر»، فأثبتناه من أصله الخطي (النسخة البريطانية). وقد أشار المجرّد إلى أن ابن القيم بدأ بذكر الوجوه التي ذكرها المنذري في الحلف، واستضعفها ثم قال: «فالظاهر ... » إلخ.

(2/321)


تعالى قد ألَّف بين المسلمين بالإسلام، وجعلهم به إخوةً متناصرين متعاضدين يدًا (1) واحدة بمنزلة الجسد الواحد، فقد أغناهم بالإسلام عن الحلف. بل الذي توجبه أخوّةُ الإسلام لبعضهم على بعضٍ أعظمُ مما يقتضيه الحلف. فالحلف إن اقتضى شيئًا يخالف الإسلام فهو باطل، وإن اقتضى ما يقتضيه الإسلام فلا تأثير له، فلا فائدة فيه. وإذا كان قد وقع في الجاهلية ثم جاء الإسلام بمقتضاه لم يزده إلا شدةً وتأكيدًا. وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «شهدت حِلْفًا في الجاهلية ما أحب أن لي به حُمْرَ النَّعَم، لو دُعِيتُ إلى مثله في الإسلام لأجبت» (2)، فهذا ــ والله أعلم ــ هو حلف المُطيَّبين (3)، حيث تحالفت قريش على نصر المظلوم، وكفِّ الظالم _________ (1) في الأصل وط. المعارف: «يد»، والمثبت من ط. الفقي. (2) أخرجه البزار (1024) والطوسي في «مختصر الأحكام» (1346) بنحوه، وأخرج البخاري في «التاريخ الكبير» (1/ 295) طرفًا منه، من طرق فيها مقال عن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن جدّه. وله شاهد من حديث طلحة بن عبد الله بن عوف مرسلًا عند ابن إسحاق (سيرة ابن هشام 1/ 134) والبيهقي (6/ 367). وروي نحوه من حديث عبد الرحمن بن عوف عند أحمد (1655) وابن حبان (4373) والحاكم (2/ 220)، ولكن ليس فيه موضع الشاهد: «لو دُعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت». (3) كذا ورد مصرَّحًا في حديث عبد الرحمن بن عوف عند أحمد وابن حبان والحاكم، ولكن في إسناده عبد الرحمن بن إسحاق المدني، في حديثه بعض ما يُنكر ولا يُتابَع عليه، وهذا الحديث مما أنكره عليه ابن عدي في ترجمته في «الكامل» (4/ 301). وورد أيضًا في حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة مرفوعًا عند ابن حبان (4374)، ولكن في إسناده ضعف، ورجَّح الدارقطني في «العلل» (1779) أن الصواب عن أبي سلمة مرسلًا. وقد اعتبر بعض العلماء ما ورد من ذكر «حلف المطيبين» غلطًا، قالوا: والصواب: «حلف الفضول»، لأن حلف المطيّبين كان قبل مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - بزمان. وقد أجاب ابن حبان وغيره بأن المراد حِلْف الفُضُول الذي عقده المُطَيَّبون. انظر: «صحيح ابن حبان» عقب (4374)، و «السنن الكبرى» للبيهقي (6/ 365 - 367)، و «البداية والنهاية» (3/ 455 - 456)، و «البدر المنير» (7/ 325 - 329).

(2/322)


ونحوه، فهذا إذا وقع في الإسلام كان تأكيدًا لموجَب الإسلام وتقوية. وأما الحلف الذي أبطله فهو تحالف القبائل بأن يقوم بعضها مع بعض وينصره، ويحارب من حاربه، ويسالم من سالمه. فهذا لا يُعقَد في الإسلام. وما كان منه قد وقع في الجاهلية، فإن الإسلام يؤكده ويشده، إذْ صار موجَبُه في الإسلام التناصرَ والتعاضدَ والتساعد على إعلاء كلمة الله تعالى وجهاد أعدائه، وتألّف (1) الكلمة، وجمع الشمل. 319/ 2806 - وعن أنس بن مالك قال: حالَف رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار في دارِنا، فقيل له: أليس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا حِلْفَ في الإسلام؟»، فقال: حالفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار في دارنا ــ مرتين أو ثلاثًا ــ. وأخرجه البخاري ومسلم (2) بنحوه. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد تبين أن الحِلف الذي نفاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس _________ (1) في الطبعتين: «تأليف»، والمثبت أقرب إلى رسم الأصل. (2) أبو داود (2926)، والبخاري (2294)، ومسلم (2529).

(2/323)


هو الحلفَ والإخاء الذي عقده بين المهاجرين والأنصار، ويشبه أن يكون أنس فَهِم من السائل له: أن النهي عن الحلف متناول لمثل ما عقده النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرد عليه أنس بحلف النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه في دارهم، والله أعلم. * * *

(2/324)


 كتاب الخراج والإمارة

1 - باب في اتخاذ الكاتب 320/ 2816 - عن ابن عباس قال: السِّجِلُّ كاتِبٌ كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: سمعت شيخنا أبا العباس ابن تيمية يقول: هذا الحديث موضوع، ولا يُعرف لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كاتب اسمه «السجل» قطّ. وليس في الصحابة من اسمه السجل، وكُتَّاب النبي - صلى الله عليه وسلم - معروفون لم يكن فيهم من يُقال له: السجل. قال: والآية مكية (2)، ولم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كاتب بمكة. والسجل هو الكتاب المكتوب، واللام في قوله {لِلكِتَاب} بمعنى «على»، والمعنى: نطوي السماء كطي السجل على ما فيه من الكتاب، كقوله: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} _________ (1) «سنن أبي داود» (2935) من طريق عمرو بن مالك النُّكْري، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس. متنه منكر جدًّا كما سيقرّره المؤلف، والحمل فيه على عمرو بن مالك، فهو وإن وثَّقه ابن معين، إلا أن ابن عدي ذكر أنه روى عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قدر عشرة أحاديث غير محفوظة. انظر: «الكامل» (1/ 411). قلتُ: وقد رأيت له مناكير أخرى في التفسير يرويها عن أبي الجوزاء عن ابن عبّاس، منها تفسير {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة:187] بليلة القدر، وتفسير {وَانْحَرْ} ... بوضع اليدين في الصلاة عند النحر! (2) وهي قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلكِتَاب} [الأنبياء:104] على قراءة أبي عمرو التي كانت قراءة أهل دمشق في زمن شيخ الإسلام. انظر: «غاية النهاية في طبقات القراء» لابن الجزري (1/ 292)، و «النشر» له (2/ 324 - 325).

(2/325)


[الصافات:103]، وقولِ الشاعر (1): فخرَّ صريعًا لليدين وللفم أي على اليدين وعلى الفم، والله أعلم. 2 - باب في حكم أرض اليمن 321/ 2909 - عن أبيض بن حَمَّال: أنه كلّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصدقة، حين وَفَد عليه، فقال: «يا أخا سَبأ، لا بُدَّ من صَدَقةٍ». فقال: إنما زرْعُنا القطن يا رسول الله، وقد تبدَّدتْ سبأ، ولم يبقَ منهم إلا قليل بمأربَ، فصالح نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - على سبعين حُلَّةً من قيمة وَفاءِ بَزِّ المعافر كلَّ سنة عمّن بقي من سَبأٍ بمأربَ، فلم يزالوا يؤدُّونها حتى قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن العمال انتقضوا عليهم بعد قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما صالح أبيضُ بن حَمَّال رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في الحُلل السبعين، فردَّ ذلك أبو بكر على ما وَضَعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى ماتَ أبو بكر، فلما مات أبو بكر - رضي الله عنه - انتقض ذلك وصارت على الصدقة» (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: قال عبد الحق (3): «لا يحتج بإسناد هذا الحديث فيما أعلم، لأن [ق 162] سعيدًا لم يروِ عنه فيما أدري إلا ثابت، وثابت مثله في الضعف»، يعني هذا الحديث من رواية ثابت بن سعيد بن أبيض بن حمال، عن أبيه، عن جده. _________ (1) عجز بيت لجابر بن حُنَي التغلبي من قصيدة له في «المفضليات» (ص 212)، وصدره: «تَناوَله بالرُّمح ثمّ اتَّنَى له». (2) «سنن أبي داود» (3028). (3) «الأحكام الوسطى» (3/ 112).

(2/326)


3 - باب إخراج اليهود من جزيرة العرب 322/ 2912 - وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تكون قِبْلَتان في بلدٍ واحدٍ». وأخرجه الترمذي (1)، وقال: إنه روي مرسلًا (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: هو (3) من رواية قابوس بن أبي ظبيان [عن أبيه] (4) عن ابن عباس. وثّقه ابن معين مرة وضعّفه مرة، وضعفه غيره، وحدث عنه يحيى بن سعيد (5). 4 - باب تعشير أهل الذمة 323/ 2924 - عن حرب بن عبيد الله، عن جَدِّه أبي أُمِّه، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّما العُشُور على اليهود والنَّصارى، وليس على المسلمين عُشُور» (6). _________ (1) أبو داود (3032)، والترمذي (633، 634) من طريق قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس. (2) قال أبو حاتم: هذا (أي: الاختلاف) من قابوس، لم يكن قابوس بالقويّ فيُحتَمَل أن يكون مرّة قال هكذا ومرّة قال هكذا. «العلل» (943). (3) في الطبعتين: «وهو» خلافًا للأصل. (4) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل. (5) قال أبو حاتم: يُكتب حديثه ولا يُحتج به، وضعَّفه النسائي والدارقطني، وقال ابن حبان: كان رديء الحفظ، ينفرد عن أبيه بما لا أصل له، فربما رفع المراسيل وأسند الموقوف، وأبوه ثقة. انظر: «تهذيب التهذيب» (8/ 305). (6) «سنن أبي داود» (3046). وذكر البخاري في «التاريخ الكبير» (3/ 60) في ترجمة حرب بن عبيد الله هذا الحديثَ وقال: «لا يُتابَع عليه، وقد فرض النبي - صلى الله عليه وسلم - العُشْر فيما أخرجت الأرض في خمسة أوسق». وانظر: «ضعيف سنن أبي داود - الأم» (2/ 447).

(2/327)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال عبد الحق (1): في إسناده اختلاف، ولا أعلمه من طريق يُحتجّ به. * * * _________ (1) «الأحكام الوسطى» (3/ 117).

(2/328)


 كتاب الجنائز

1 - باب في العيادة 324/ 2967 - وعن أسامة بن زيد قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعود عبد الله بن أُبي في مرضه الذي مات فيه، فلما دخل عليه عَرَفَ فيه الموت. فقال: «قد كنتُ أَنهاك عن حُبِّ يهود». قال: قد أبغَضَهم أسعدُ بن زُرارةَ، فَمَهْ؟ فلما مات أتاه ابنُه فقال: يا رسول الله، إنَّ عبد الله بن أُبيّ قد مات، فأعْطِني قميصك أُكَفِّنْه فيه، فنزع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قميصه فأعطاه إياه (1). قد أخرج البخاري ومسلم في «صحيحيهما» (2) من حديث عبد الله بن عمر: أن ابنه عبد الله جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله أن يعطيه قميصه يكفّن فيه أباه، فأعطاه. وأخرج البخاري ومسلم في «صحيحيهما» (3) من حديث جابر بن عبد الله قال: أتى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قبرَ عبد الله بن أُبيّ فأخرجه من قبره، فوضعه على ركبتيه ونفث عليه من ريقه، وألبسه قميصه». والله أعلم. قيل: يجوز أن يكون جابر شاهَد مِن ذلك ما لم يشاهده ابن عمر، ويجوز أن يكون أعطاه قميصين، قميصًا للكفن، ثم أخرجه فألبسه آخر. _________ (1) «سنن أبي داود» (3094)، وأخرجه أحمد (21758) والحاكم (1/ 341)، كلهم من طريق ابن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن أسامة. إسناده ضعيف؛ لأن ابن إسحاق مدلس ولم يصرّح بالسماع. وله شاهدان في «الصحيحين» على ما سيأتي. (2) البخاري (1269) ومسلم (2400، 2744). (3) البخاري (1270) ومسلم (2773).

(2/329)


واختلفوا: لِمَ أعطاه ذلك؟ على أربعة أقوال. أحدها: أن يكون أراد بذلك إكرام ولده، فقد كان مسلمًا بريئًا من النفاق. والثاني: أنه - صلى الله عليه وسلم - ما سُئل شيئًا قطّ فقال: لا. والثالث: أنه كان قد أعطى العباس عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قميصًا لمّا أُسِرَ يوم بدر، ولم يكن على العباس ثياب يومئذ، فأراد أن يكافئه على ذلك لئلا يكون لمنافق عنده يد لم يُجازِه عليها (1). والرابع: أنه يَحتمِل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما فعل ذلك قبل أن ينزل قوله عز وجل: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: ولا تعارض بين هذين الحديثين بوجه، فإن حديث أسامة صريح بأنه أعطاه القميص وقت موته، فكفنه فيه، وحديث جابر بن عبد الله (3) لم يقل فيه: إنه ألبسه قميصه حين أخرجه من قبره، وإنما فيه: «أنه نفث عليه من ريقه، وأجلسه على ركبتيه، وألبسه قميصه»، فأخبر بثلاث جُمَل متباينة: الأُولَيان منها يتعين أن تكونا بعد الإخراج من القبر، والثالثة لا يتعيّن فيها ذلك، ولعل جابرًا (4) لما رأى عليه القميص في تلك الحال ظن أنه ألبسه إياه حينئذ. 2 - باب العيادة من الرمد 325/ 2974 - عن زيد بن أرقم، قال: عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وَجَع كان _________ (1) انظر: «صحيح البخاري» (3008). (2) جاء ذلك مصرّحًا به في حديث ابن عمر المتقدم. (3) في الأصل: «عبد الله بن عمر»، وهو سبق قلم، وقد تقدم الحديث آنفًا. (4) في الأصل: «ابن عمر»، كسابقه.

(2/330)


بعَيْنِي (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي هذا رَدٌّ على من زعم أنه لا يُعاد من الرمد، وزعموا أن هذا لأن العُوَّاد يرون في بيته ما لا يراه هو. وهذا باطل من وجوه: أحدها: هذا الحديث. الثاني: جواز عيادة الأعمى. الثالث: عيادة المغمى عليه، وقد جلس النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت جابر في حال إغمائه حتى أفاق (2)، وهو - صلى الله عليه وسلم - الحجة. وهذا القول في كراهة عيادة الرَّمِد إنما هو مشهور بين العوام فتلقّاه بعضهم عن بعض (3). 3 - باب الخروج من الطاعون 326/ 2975 - عن عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا سمعتم به بأرضٍ فلا تَقْدَموا عليه، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها، فلا تَخرُجوا فِرارًا منه». وأخرجه البخاري ومسلم (4) مطولًا. _________ (1) «سنن أبي داود» (3102)، وأخرجه أحمد (19348) بسياق أتم، والحاكم (1/ 342)، كلهم من طريق يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن زيد. وإسناده حسن. وله شاهد من حديث أنس عند أحمد (12586، 12636)، والحاكم (1/ 342)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (8758). (2) أخرجه البخاري (5651) ومسلم (1616) من حديث جابر. (3) ولعلّ مستندهم هو الحديث الموضوع: «ثلاث لا يُعاد صاحبهن: الرَّمِد، وصاحب الضرس، وصاحب الدملة». انظر: «الأحاديث الضعيفة» للألباني (150). (4) أبو داود (3103)، والبخاري (5729) ومسلم (2219). وأخرجاه أيضًا من حديث أسامة بن زيد، البخاري (3472) ومسلم (2218).

(2/331)


واختلف السلف في ذلك، فمنهم من أخذ بظاهر الحديث، وهم الأكثر. روي عن عائشة قالت: «هو كالفرار من الزحف» (1). ومنهم من دخل إلى بلاد الطاعون وخرج عنها. ورُوي هذا المذهب عن عمر بن الخطاب، وأنه ندم على رجوعه من سَرْغ (2). وروي عن أبي موسى الأشعري، ومسروق، والأسود بن هلال: أنهم فروا من الطاعون (3)، وروي عن عمرو بن العاص نحوه (4). _________ (1) روي ذلك من حديثها مرفوعًا. أخرجه أحمد (24527) وابن خزيمة بإسناد حسن، كما قال الحافظ في «الفتح» (10/ 188). (2) أخرج ابن أبي شيبة (34540) عن ابن عمر أنه سمع أباه يقول: «اللهم اغفر لي رجوعي من غزوة سَرْغ» يعني حين رجع من أجل الوباء. وانظر في تأويل ذلك وتوجيهه كلام الحافظ في «الفتح» (10/ 187) فإنه كلام رصين وتوجيه متين. (3) أما أبو موسى فأخرج الطبري في «تهذيب الآثار» (111، 112 - الجزء المتمم) أنه بعث بِنْتَه إلى الأعراب من الطاعون، وإسناده ضعيف. وأخرج هو (113) والطحاوي في «معاني الآثار» (4/ 305) بإسناد صحيح أنه لما وقع الطاعون في أهله أذن للناس أن يجفوا عنه وقال: «فمن شاء منكم أن يتنزه فليتنزّه ... ». وأخرج ابن سعد في «الطبقات» (4/ 104) أنه لمّا وقع الطاعون أشار عليه أخوه بالخروج فلم يوافق. أما مسروق، فأخرج الطبري في «التهذيب» (116) عنه أنه كان يفرّ من الطاعون، ولكن صحّ عن امرأته أنها قالت: «كلّا والله ما كان يفر، ولكنّه يقول: أيام تشاغُلٍ فأحب أن أخلو للعبادة، فكان يتنحّى فيخلو للعبادة». أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (8/ 202). أما فرار الأسود بن هلال، فصحّ عند الطبري في «التهذيب» (115). (4) أخرجه الطبري في «تهذيب الآثار» (118 - الجزء المتمم) والطحاوي في «معاني الآثار» (4/ 306) عنه أنه قال: «إنه رجز فتفرَّقوا عنه»، ولكنه تراجع لمّا أنكر عليه شرحبيل ابن حسنة - رضي الله عنه -.

(2/332)


قال ابن القيم - رحمه الله -: والصواب في ذلك: ما دل عليه النص: أنه لا ينبغي القدوم على الأرض التي هو بها، فإن ذلك تعرُّضٌ للبلاء، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تمنّي لقاء العدو (1). وإذا وقع في أرض هو بها، فإنه لا ينبغي له أن يفرَّ منه، وإن ظن في ذلك نجاته، بل ينبغي له أن يصبر، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في العدو: «وإذا لقيتموهم (2) فاصبروا»، لا سيما والطاعون قد جاء أنه وَخْزُ أعدائنا من الجن (3). فالطاعون كالطِّعان، فلا ينبغي الفرار منهما ولا تمنِّي لقائِهما. 4 - باب تطهير ثياب الميت عند الموت 327/ 2985 - عن أبي سعيد الخدري أنه لما حضره الموت دعا بثيابٍ جُدُدٍ فلبسها، ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «المَيِّت يُبعَث في ثيابه التي يموت فيها» (4). _________ (1) أخرجه البخاري (2966) ومسلم (1742) من حديث عبد الله بن أبي أوفى بلفظ: «يا أيها الناس، لا تتمنَّوا لقاءَ العدوّ، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا». وأخرجا من أبي هريرة نحوه. البخاري (3026) ومسلم (1741). (2) في الطبعتين: «لقيتموه» خلافًا للأصل ولنص الحديث. (3) جاء ذلك في حديث أبي موسى الأشعري مرفوعًا، أخرجه أحمد (19528، 19708)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (9/ 15 - 16)، من طرق تقوي بعضها بعضًا. وقد صححه الحافظ في «الفتح» (10/ 181 - 182) بمجموع طرقه. (4) «سنن أبي داود» (3114)، وأخرجه أيضًا ابن حبان (7316)، والحاكم (1/ 340)، وإسناده جيّد.

(2/333)


قال ابن القيم - رحمه الله - (1): استعمل أبو سعيد الحديث على ظاهره، وقد رُوي في تحسين الكفن أحاديث (2). وقد تأوله بعضهم على أن معنى الثياب العمل، كَنَى بها عنه، يريد أنه يُبعث على ما مات عليه من عمل صالح أو سيِّئ. قال: والعرب تقول: «فلان طاهر الثياب»، إذا وصفوه بطهارة النفس والبراءة من العيب والدَّنَس، وتقول: دَنِس الثياب إذا كان بخلاف ذلك، واستدل بقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] وأكثر المفسرين على أن المعنى: وعملَكَ فأصْلِح ونفسك فزَكِّ (3). قال الشاعر (4): ثيابُ بني عوفٍ طَهارَى نقيَّةٌ قال: وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يحشر الناس حُفاةً عُراة» (5). وقالت طائفة: البعث غير الحشر، فقد يجوز أن يكون البعث مع الثياب، والحشر مع العُرْي والحَفا. _________ (1) أفاد المؤلف في شرح الحديث من كلام الخطابي في «المعالم» (4/ 285). (2) منها حديث جابر عند مسلم (943) بلفظ: «إذا كفن أحدكم أخاه، فليحسّن كفنه». وبنحوه حديث أبي قتادة عند الترمذي (995) بإسناد حسن. (3) هو قول ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، وإبراهيم النخعي، وغيرهم. انظر: «تفسير الطبري» (23/ 405 - 409). (4) صدر بيت لامرئ القيس في «ديوانه» (ص 83)، وعجزه: «وَأوْجُههم عند المَشاهدِ غُرّانُ». (5) أخرجه البخاري (3349، 6527) ومسلم (2860، 2859) عن ابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم -.

(2/334)


5 - باب في التلقين 328/ 2988 - وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَقِّنُوا مَوتاكم قولَ لا إلهَ إلا الله». وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى مسلم في «صحيحه» (2) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله سواء. وروى ضِمام بن إسماعيل، عن موسى بن وردان، عن أبي هريرة يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أكثروا مِن لا إله إلا الله قبلَ أن يُحال بينكم وبينها، ولَقِّنوها موتاكم» ذكره أبو أحمد بن عدي (3). وضمام هذا صدوق صالح الحديث، قاله الإشبيلي (4). 6 - باب في النَّوح 329/ 3000 - وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الميِّتَ لَيُعذَّب ببُكاء أهلِه عليه»، فذُكر ذلك لعائشة، فقالت: وَهِلَ ــ تعني ابنَ عمر ــ، إنما مَرَّ النبي _________ (1) أبو داود (3117)، ومسلم (916)، والترمذي (976)، والنسائي (1826)، وابن ماجه (1445). (2) رقم (917). (3) «الكامل» (4/ 104). وأخرجه أبو يعلى (6147)، والطبراني في «الدعاء» (1143)، من طريق ضمام به. (4) «الأحكام الوسطى» (2/ 118). وقال الذهبي في «الميزان» (2/ 329): «صالح الحديث، ليَّنه بعضهم بلا حجة». قلت: يبقى أن شيخه في الإسناد موسى بن وردان فيه بعض اللين. انظر: «تهذيب التهذيب» (10/ 376).

(2/335)


- صلى الله عليه وسلم - على قبر فقال: «إنّ صاحب هذا لَيُعذَّب وأهلُه يبكون عليه»، ثم قرأَتْ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. وفي رواية: «على قبر يهودي» (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: هذا أحد الأحاديث التي ردَّتْها عائشة، واستدركتها، ووهَّمت فيه ابن عمر (2). والصواب مع ابن عمر، فإنه حفظه ولم يهم فيه. وقد رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبوه عمر بن الخطاب، وهو في «الصحيحين»، وقد وافقه عليه من حضره من جماعة الصحابة، كما خرَّجا في «الصحيحين» (3) عن ابن عمر قال: لما طُعِن عمر أغمي عليه، فصيح عليه، فلما أفاق قال: أما علمتم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الميت لَيُعذَّب ببكاء الحي»؟ وأخرجا (4) أيضًا عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الميت يُعذَّب بِما نِيح عليه». وأخرجا في «الصحيحين» (5) أيضًا عن أبي موسى قال: لما أصيب عمر جعل صهيب يقول: وا أخاه! فقال له عمر: يا صهيب، أما علمتَ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الميت ليعذب ببكاء الحي»؟ _________ (1) البخاري (1292)، ومسلم (927/ 17). (2) البخاري (1290)، ومسلم (927/ 19). (3) «سنن أبي داود» (3129)، وأخرجه البخاري (3978) ومسلم (931، 932) بنحوه. (4) ذكر بدرُ الدين الزركشي (ت 794) في رسالته: «الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة» عشرة استدراكات على ابن عمر. (5) البخاري (1292)، ومسلم (927/ 18) واللفظ له

(2/336)


وفي لفظ لهما (3): قال عمر: والله لقد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من يُبكَ عليه يُعذَّب». وفي «الصحيحين» (4) عن أنس: أن عمر لما طعن عَوَّلت عليه حفصة، فقال: يا حفصة، أما سمعتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «المُعَوَّل عليه يعذب»؟ وفي «الصحيحين» (5) عن المغيرة بن شعبة: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من يُنَحْ (6) عليه، فإنه يعذب بما نيح عليه». فهؤلاء عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وابنته حفصة، وصهيب، والمغيرة بن شعبة كلهم يروي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومُحال أن يكون هؤلاء كلهم وهموا في الحديث. والمعارضة التي ظنتها أم المؤمنين - رضي الله عنها - بين روايتهم وبين قوله: {لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] غيرُ لازمةٍ أصلًا. ولو كانت لازمة لزمتْ في روايتها أيضًا: «إن الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذابًا» (7)، فإن الله سبحانه لا يعذب أحدًا بذنب غيره الذي لا سبب له فيه. فما تجيب به أم _________ (1) إنما هو عند مسلم (927/ 20) دون البخاري. (2) وهو أيضًا عند مسلم (927/ 21) دون البخاري. (3) البخاري (1291)، ومسلم (933). (4) في الطبعتين: «نِيح» خلافًا للأصل، والمثبت من الأصل موافق لرواية أبي ذر عن الحمُّويي والمستملي لـ «صحيح البخاري». انظر: الطبعة السلطانية (2/ 80)، و «إرشاد الساري» (2/ 405). (5) أخرجه البخاري (1288)، ومسلم (929).

(2/337)


المؤمنين عن قصة الكافر يجيب (1) به أبناؤها عن الحديث الذي استدركته. ثم سلكوا في ذلك طرقًا: أحدها: أن ذلك خاص بمن أوصى أن يُناح عليه، فيكون النَّوح عليه بسبب فعله، ويكون هذا جاريًا على المتعارف من عادة الجاهلية، كما قال قائلهم (2): إذا متُّ فانْعَيني بما أنا أهله ... وشُقِّي عليَّ الجيبَ يا ابنةَ مَعْبد وهو كثير في شعرهم. وأما من لم يتسبب إلى ذلك بوصية ولا غيرها فلا يتناوله الحديث. وهذا ضعيف من وجهين: أحدهما: أن اللفظ عام. الثاني: أن عمر والصحابة فهموا منه حصول ذلك وإن لم يُوصِ به. ومن وجه آخر: وهو أن الوصية بذلك حرام يستحق بها التعذيبَ نِيح عليه أم لا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما علّق التعذيب بالنياحة لا بالوصية. المسلك الثاني: أن ذلك خاص بمن كان النوح من عادته وعادة قومه وأهله، وهو يعلم أنهم ينوحون عليه إذا مات. فإذا لم ينههم كان رضًى منه بفعلهم، وذلك سبب عذابه. وهذا مسلك البخاري في «صحيحه» (3)، فإنه _________ (1) في الأصل: «يجيبه»، تصحيف أو سبق قلم، والتصحيح من الطبعتين. (2) هو طَرَفة بن العبد في معلّقته. (3) كتاب الجنائز (3/ 150 - الفتح).

(2/338)


ترجم عليه وقال: «إذا كان النوح من سنَّته»، وهو قريب من الأول. المسلك الثالث: أن الباء ليست باء السببية، وإنما هي باء المصاحبة، والمعنى: يعذب مع بكاء أهله عليه، أي يجتمع بكاء أهله وعذابه، كقوله: خرج زيد بسلاحه؛ قال تعالى: {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} [المائدة:61]. وهذا المسلك باطل قطعًا، فإنه ليس كل ميت يعذَّب، ولأن هذا اللفظ لا يدل إلا على السببية، كما فهمه أعظم الناس أفهامًا، ولهذا ردَّته عائشة لما فهمت منه السببية. ولأن اللفظ الآخر الصحيح الذي رواه المغيرة (1) يُبطل هذا التأويل. ولأن الإخبار بمقارنة عذاب الميت المستحق للعذاب لبكاء أهله لا فائدة فيه. المسلك الرابع: أن المراد بالحديث ما يتألَّم به الميت ويتعذب به من بكاء الحي عليه، وليس المراد أن الله تعالى يعاقبه ببكاء الحي عليه؛ فإن التعذيب هو من جنس الألم الذي يناله بمن يجاوره ممن يتأذى به ونحوه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «السفر قطعة من العذاب» (2). وليس هذا عقابًا على ذنب، وإنما هو تعذيب وتألُّم، فإذا وُبِّخ الميت على ما يناح به عليه لحقه من ذلك تألم وتعذيب. _________ (1) وهو: «من يُنَح عليه، فإنه يعذّب بما نيح عليه». (2) وتمامه: «يمنع أحدَكم طعامَه وشرابَه ونومَه، فإذا قضى نَهْمتَه فليُعَجِّل إلى أهله». أخرجه البخاري (1804)، ومسلم (1927) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

(2/339)


ويدل على ذلك ما روى البخاري في «صحيحه» (1) عن النعمان بن بشير قال: أغمي على عبد الله بن رواحة، فجَعلتْ أخته عَمْرةُ تبكي: واجَبَلاه! وا كذا، وا كذا، تُعدِّد عليه، فقال حين أفاق: ما قلتِ شيئًا إلا قيل لي: آنْتَ كذلك؟ وقد تقدم (2) قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن ثابت: «فإذا وجب فلا تبكينَّ باكية». وهذا أصح ما قيل في الحديث (3). ولا ريب أن الميت يسمع بكاء الحي، ويسمع قرْعَ نعالهم (4)، وتُعرَض عليهم (5) أعمالُ أقاربهم الأحياء (6)، فإذا رأوا فيها ما يسوءهم تألموا له. وهذا ونحوه مما يتعذب به _________ (1) رقم (4267). وانظر أيضًا حديث أبي موسى الأشعري بمعناه ــ وهو أصرح دلالةً ــ عند أحمد (19716)، وابن ماجه (1594)، والحاكم (2/ 470). (2) في «المختصر» (2982)، وهو في «السنن» (3111) بإسناد حسن. (3) وهو الذي نصره شيخ الإسلام ابن تيمية في «جواب الاعتراضات المصرية» (ص 59 - 72)، و «مجموع الفتاوى» (24/ 369 - 376)، و «جامع المسائل» (3/ 138 - 141). (4) كما في حديث أنس عند البخاري (1338) ومسلم (2870). (5) أي: على الأموات، وفي الطبعتين: «عليه» خلافًا للأصل. (6) روي ذلك في عدة أحاديث مرفوعة، ولا يصح منها شيء. وفي الباب آثار موقوفة مروية من وجوه حسان، منها: عن أبي أيوب وأبي الدرداء في «الزهد» لابن المبارك (1/ 149، 2/ 42) و «المنامات» لابن أبي الدنيا (3 - 5)، وعن أبي هريرة في «تهذيب الآثار ــ مسند عمر» للطبري (2/ 510 - 511)، وعن سعيد بن جبير في «الزهد» لابن المبارك (1/ 151). وانظر: «الضعيفة» (443، 863، 864)، و «الصحيحة» (2758) كلاهما للألباني.

(2/340)


الميت ويتألم، ولا تعارض بين ذلك وبين قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} بوجهٍ ما. [وأما الشافعي - رحمه الله - فإنه سلك في هذا الحديث مسلكَ عائشة بعينه، قال (1): وما روت عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشبه أن يكون محفوظًا عنه بدلالة الكتاب ثم السنة. قال: فإن قيل: فأين دلالة الكتاب (2)؟ قيل في قوله عز وجل: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 38، 39]، وقولِه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]، وقولِه: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15]. قال الشافعي: فإن قيل: أين دلالة السنة؟ قيل: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل: «ابنك هذا؟» قال: نعم، قال: «أما إنَّه لا يجني عليك ولا تجني عليه» (3)، فأَعلَمَ رسولُ الله مثلَ ما أعلم الله من أن جناية كل امرئٍ عليه كما عملُه له لا لغيره ولا عليه. والله أعلم] (4). _________ (1) في «اختلاف الحديث» (10/ 218 - 219 ــ ضمن الأم). (2) بعده في (هـ): «والسنة»، وهو سهو، فإنه ليس في كتاب الشافعي ولا المنذري، سيأتي ذكر السنة مستقلًّا بعد هذا. (3) أخرجه أحمد (7107)، وأبو داود (4495)، وابن حبان (5995)، والحاكم (2/ 425) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (4) ما بين الحاصرتين من (هـ)، والظاهر أن المجرّد لم يذكره لأنه ليس من زيادات المؤلف بل مما نقله من «مختصر المنذري» (ق 3/ 79 - 80 - النسخة البريطانية) بتصرف يسير.

(2/341)


7 - باب في الشهيد يُغسَّل 330/ 3008 - وعن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بحمزة وقد مُثِّل به، ولم يُصَلِّ على أَحَدٍ من الشهداء غيرَه (1). قال الدارقطني (2): تفردّ به أسامة بن زيد عن الزهري عن أنس بهذه الألفاظ، ورواه عثمان بن عمر عن أسامة عن الزهري عن أنس وزاد فيه حرفًا لم يأت به غيره فقال: «ولم يصلِّ على أحد من الشهداء غيره» يعني حمزة. وقال في موضع آخر (3): لم يقُل هذا اللفظ غير عثمان بن عمر، وليس بمحفوظ. وقال البخاري (4): «وحديث أسامة بن زيد هو غير محفوظ، غلط فيه أسامة بن زيد»، وهو الليثي مولاهم المديني، احتجّ به مسلم واستشهد به البخاري. وأما عثمان بن عمر فهو ابن فارس البصري، وقد اتفقا على الاحتجاج به. _________ (1) «سنن أبي داود» (3137) من طريق عثمان بن عمر عن أسامة عن الزهري عن أنس. وقد تفرّد به عثمان بن عمر بهذا اللفظ كما سيأتي، وخالفه غير واحد من الحفّاظ ــ كابن وهب عند أبي داود (3135) ــ فرووه عن أسامة عن الزهري عن أنس: «أن شهداء أُحُد لم يُغسَّلوا، ودُفنوا بدمائهم ولم يُصَلَّ عليهم» فلم يستثنِ حمزة ولا غيره. (2) انظر: «العلل» (2585). (3) في «السنن» عقب الحديث (4205). (4) كما في «العلل الكبير» للترمذي (ص 146)، وتخطئة البخاري لأسامة إنما هو من حيث الإسناد، لإن أسامة رواه عن الزهري عن أنس، وخالفه الليث فرواه الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بدفنهم بدمائهم ولم يصلِّ عليهم ولم يغسِّلهم. أخرجه البخاري (1347).

(2/342)


وقد اختُلف في الشهيد، فقال الشافعي، ومالك، وأحمد في الأشهر عنه (1)، وإسحاق (2): لا يغسّل ولا يُصلَّى عليه. وهو قول عطاء (3)، والنخعي، والحَكَم، والليث بن سعد. وقال أبو حنيفة (4) والثوري والأوزاعي ومكحول (5): لا يغسل، ويصلَّى عليه. وهو رواية عن أحمد (6)، واختاره المزني (7). (8) قال ابن القيم - رحمه الله -: وهؤلاء رأوا أن الغسل لم يأت فيه شيء يعارِض حديثَ جابر في قتلى أحد (9)، وأما الصلاة عليه فقد أخرجا في «الصحيحين» (10) عن عقبة بن عامر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يومًا، فصلى على _________ (1) انظر: «الأم» (2/ 596)، و «الموطأ» (1334)، و «المدونة» (1/ 183)، و «المغني» (3/ 467)، و «الإنصاف» (6/ 95 - 97). (2) كذا في «المغني»، وفي «مسائله» رواية الكوسج (1/ 329) أنه قال: «لابدّ من الصلاة على الشهداء، صُلّي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أعظم الشهداء». (3) وفي «مصنف عبد الرزاق» (6638، 6652) أنه يرى الصلاة عليه. (4) انظر: «الأصل» للشيباني (1/ 338 - 342)، و «المبسوط» (2/ 49). (5) انظر: «التمهيد» (24/ 244) و «الاستذكار» (5/ 119). (6) انظر: «مسائله» رواية الكوسج (1/ 329)، ورواية عبد الله (ص 140). (7) انظر: «المجموع» للنووي (5/ 221 - 225). (8) كلام المنذري مثبت من (هـ)، وفيه اختصار وتصرّف من المؤلف. وهو ساقط من مطبوعة «المختصر»، وموجود في مخطوطته (النسخة البريطانية)، وذكر المجرّد طرفه الأخير من قوله: «وقد اختلف في الشهيد ... » إلخ. (9) وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بدفنهم بدمائهم ولم يصلِّ عليهم ولم يغسِّلهم. أخرجه البخاري (1347)، وهو عند أبي داود في الباب (3138) عقب حديث أنس. (10) البخاري (1344) ومسلم (2296).

(2/343)


أهل أحد صلاته على الميت. وحديث أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على حمزة. وحديث أبي مالك الغفاري قال: كان قتلى أحد يؤتى بتسعةٍ وعاشرُهم حمزة، فيصلي عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم يُحمَلون، ثم يُؤتى بتسعة فيصلي عليهم وحمزة مكانه، حتى صلى عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. هذا مرسل صحيح ذكره البيهقي (1)، [ق 165] وقال: هو أصح ما في الباب. وروى أبو بكر بن عياش عن يزيدَ بن أبي زياد، عن مِقْسَم، عن ابن عباس: أنه صلى عليهم. رواه البيهقي (2)، وقال: لا يُحفظ إلا من حديثهما، وكانا غير حافظين، يعني: أبا بكر، ويزيد بن أبي زياد. وقد روى ابن إسحاق عن رجل من أصحابه، عن مقسم، عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على حمزة، فكبّر عليه سبع تكبيرات، ولم يُؤتَ بقتيل إلا صلى عليه معه، حتى صلى عليه اثنتين وسبعين صلاة (3). ولكن هذا الحديث له ثلاث علل: إحداها: أن ابن إسحاق عنعنه، ولم يذكر فيه سماعًا (4). _________ (1) «السنن الكبرى» (4/ 12)، وأخرجه أيضًا أبو داود في «المراسيل» (427). (2) «السنن الكبرى» (4/ 12)، وأخرجه أيضًا ابن ماجه (1513)، والحاكم (3/ 197 - 198) من طريق أبي بكر بن عيّاش به. (3) أخرجه البيهقي (4/ 13) وضعَّفه لإبهام الرجل من أصحاب ابن إسحاق. (4) كذا، وهو وهم سببه أن المؤلف صادر عن «معرفة السنن والآثار» (5/ 257) حيث ذكر فيه البيهقي طرف الإسناد معلقًا باللفظ الذي ذكره المؤلف: «ابن إسحاق عن رجل من أصحابه ... ». وقد وصله في «السنن الكبرى» (4/ 13) بإسناده، وفيه: «عن محمد بن إسحاق: حدثني رجل من أصحابي، عن مقسم وقد أدركه ... ».

(2/344)


الثانية: أنه رواه عمن لم يسمّه. الثالثة: أن هذا قد روي من حديث الحسن بن عُمارة عن الحَكَم عن مِقْسم عن ابن عباس (1). والحَسَن لا يُحتَجّ به، وقد سُئل الحَكَم: أصلَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على قتلى أُحُد؟ قال: لا. سأله شعبة (2). وقد روى أبو داود (3) عن أبي سلَّام عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: فصلَّى عليه ودفنه، فقالوا: يا رسول الله، أشهيد هو؟ قال: «نعم، وأنا له شهيد»، وقد تقدم (4). قالوا: وهذه آثار يقوّي بعضها بعضًا، ولم يختلف فيها، وقد اختُلِف في شهداء أحد. فكيف يؤخذ بما اختلف فيه، وتُترَك هذه الآثار؟ والصواب في المسألة: أنه مخير بين الصلاة عليهم وتركها لمجيء _________ (1) أخرجه مسلم في مقدمة «صحيحه» (عند ذكر كلام الأئمة في الضعفاء والمتّهمين) والبيهقي (4/ 13). والحسن بن عمارة متروك الحديث، ولعله هو الذي أبهمه ابن إسحاق فلم يذكر اسمه. انظر: «الروض الأنف» (6/ 43). (2) أخرجه مسلم في مقدمة «صحيحه» والبيهقي (4/ 13)، وبه استدل شعبة على كذب الحسن بن عمارة، فإنه يروي عن الحَكَم أشياء لا أصل لها عنه. (3) رقم (2539)، وفي إسناده الوليد بن مسلم، وهو مدلس، وقد عنعنه. انظر: «ضعيف أبي داود ــ الأم» للألباني (2/ 313). (4) «المختصر» (2428) ولم يتقدَّم معنا في التجريد. والحديث في (هـ) بتمامه، ولعل الاقتصار في الأصل على ذكر موضع الشاهد منه من تصرّف المجرِّد، وكذا قوله: «وقد تقدّم» فإنه ليس في (هـ).

(2/345)


الآثار بكل واحد من الأمرين. وهذا إحدى الروايات عن الإمام أحمد، وهي الأليق بأصوله ومذهبه. والذي يظهر من أمر شهداء أُحُد: أنه لم يصلِّ عليهم عند الدفن. وقد قُتِل معه بأُحُد سبعون نفسًا، فلا يجوز أن تخفى الصلاةُ عليهم. وحديث جابر بن عبد الله في ترك الصلاة عليهم صحيح صريح، وأبوه عبد الله أحد القتلى يومئذ، فله بالوقعة (1) من الخبرة ما ليس لغيره. وقد ذهب الحسن البصري وسعيد بن المسيب إلى أنهم يغسَّلون ويصلى عليهم (2). وهذا تردّه السنة المعروفة في ترك تغسيلهم. فأصح الأقوال: أنهم (3) لا يغسلون، ويخيَّر في الصلاة عليهم. وبهذا يتفق جميع الأحاديث، وبالله التوفيق. 8 - باب في الكفن 331/ 3022 - وعن عائشة قالت: كُفِّنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب يمانيةٍ بِيض، ليس فيها قميصٌ ولا عمامة. وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (4). 332/ 3023 - وعنها مثله، زاد: «من كُرْسُفٍ»، قال: فذُكر لعائشة قولُهم: _________ (1) «بالوقعة» من (هـ). (2) أخرجه عنهما عبد الرزاق (6650) وابن أبي شيبة (11109). (3) ط. المعارف: «أنه» خلافًا للأصل. (4) أبو داود (3151)، والبخاري (1264)، ومسلم (941/ 45)، والترمذي (996)، والنسائي (1899)، وابن ماجه (1469).

(2/346)


في ثوبين وبُرْدِ حِبَرة، فقالت: قد أُتي بالبرد ولكنهم ردُّوه ولم يكفنوه فيه. وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (1)، وقال الترمذي: صحيح. 333/ 3024 - وعن مِقْسَم، عن ابن عباس قال: كُفِّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاث أثواب نَجْرَانِيةٍ: الحُلَّةُ ــ ثَوبانِ ــ، وقميصُه الذي مات فيه. وأخرجه ابن ماجه (2). وفيه يزيد بن أبي زياد، وقد أخرج له مسلم في المتابعات. وقال غير واحد من الأئمة: لا يحتج بحديثه. وقال أبو عبد الله بن أبي صُفْرَة (3): قولها: «ليس فيها قميص ولا عمامة» يدل على أن القميص الذي غُسِّل فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - نُزِع عنه حين كُفِّن، لأنه إنما قيل لهم: «لا تنزعوا القميص» ليُستر به ولا يُكشفَ جسده، فلما سُتر بالكفن استغني عن القميص، فلو لم يُنزَع القميص حين كفن لخرج عن حد الوتر الذي أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - واستحسنه في غير ما شيء، وكانت تكون أربعةً بالثوب المبلول، ويُستَشنع أن يكفّن في مبلول. فإن قيل: فقد روى يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس قال: كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب: قميصه الذي مات فيه وحلة نجرانية. قيل: هذا حديث تفرد به يزيد بن أبي زياد، ولا يحتج به لضعفه. وحديث _________ (1) أبو داود (3152)، والترمذي (996)، والنسائي (1899)، وابن ماجه (1469). (2) أبو داود (3153)، وابن ماجه (1471). (3) هو محمد بن أحمد بن أبي صُفْرة، أخو المهلَّب (توفي قبل 420)، وكلامه هذا نقله ابن بطّال (ت 449) في «شرح صحيح البخاري» (3/ 260).

(2/347)


عائشة أصح. آخر كلامه (1). قال ابن القيم - رحمه الله - (2): وقد حمل الشافعي (3) قولها (4): «ليس فيها قميص ولا عمامة» على أن ذلك ليس في الكفن بموجود، وأن عدد الكفن ثلاثة أثواب. وحمله مالك على أنه ليس بمعدود من الكفن، بل يحتمل أن تكون الثلاثة الأثواب زيادةً على القميص والعمامة (5). وقال ابن القصَّار (6): لا يستحب القميص ولا العمامة عند مالك في الكفن، ونحوه عن ابن القاسم. قال (7): وهذا خلاف ما حكى متقدمو أصحابنا ــ يعني عن مالك. _________ (1) كلام المنذري مثبت من (هـ)، وفيه تصرّف يسير من المؤلف. (2) الكلام الآتي ليس على شرط التجريد، إذ هو كلام المنذري في «المختصر» (4/ 302 - 303) بعينه، وليس لابن القيم فيه إلا تصرّف يسير جدًّا، ولعله كان ساقطًا من نسخة «المختصر» التي قابل بها المجرّد «تهذيب ابن القيم»، فظنّ أنه من زيادات ابن القيم على كلام المنذري. (3) انظر: «الأم» (2/ 593). (4) في الأصل: «قوله»، خطأ. (5) انظر: «النوادر والزيادات» (1/ 558)، و «المنتقى» للباجي (2/ 7)، و «المفهم» لأبي العباس القرطبي (2/ 599). (6) كما في «المفهم» (2/ 599). (7) كذا دون ذكر القائل، وفي «المختصر»: «حكى بعضهم عن ابن القصار ... وقال: وهذا خلاف ... ». والذي حكى ذلك عن ابن القصار ثم تعقبه بقوله: «وهذا خلاف ... » إلخ= هو القاضي عياض في «إكمال المُعْلِم بفوائد مسلم» (3/ 394).

(2/348)


9 - باب في الغُسل مِن غَسل الميت 334/ 3031 - عن عائشة أنها حدثت: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل من أربع: من الجنابة، ويومَ الجمعة، ومن الحجامة، وغَسْلِ الميت (1). قال أبو داود: حديث مصعب ــ يعني هذا ــ فيه خصال ليس العمل عليه. وقال الخطابي (2): وفي إسناد الحديث مقال. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال الإمام أحمد في رواية أبي داود (3): حديث مصعب هذا ضعيف، يعني حديث عائشة. وقال الترمذي (4): قال البخاري: حديث عائشة في هذا الباب ليس بذاك. وقال ابن المنذر (5): ليس في هذا حديث يثبت، وقال الإمام أحمد (6): وحديث أبي هريرة موقوف، وسيأتي. _________ (1) «سنن أبي داود» (3160)، وأخرجه أحمد (25190)، وابن خزيمة (256)، والدارقطني (399)، والحاكم (1/ 163)، كلهم من طريق مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة. قال الدارقطني عقبه: «مصعب بن شيبة ليس بالقوي، ولا بالحافظ». وأسند العقيلي في «الضعفاء» (6/ 27) عن ابن هانئ قال: ذكرت لأبي عبد الله [أحمد بن حنبل] الوضوء من الحجامة، فقال: «ذاك حديث منكر، رواه مصعب بن شَيبة، أحاديثه مناكير ... ». وانظر: «ضعيف أبي داود ــ الأم» (1/ 138 - 142). (2) «معالم السنن» (4/ 306). (3) لم أجده في «مسائله» المطبوعة، وإنما فيه (ص 422) أنه قال: «ليس يثبت فيه حديث». (4) «العلل الكبير» (ص 143). (5) «الأوسط» (5/ 375). (6) كما نقله في «المغني» (1/ 256).

(2/349)


335/ 3032 - وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من غَسَّل الميتَ فليغتسل، ومن حمله فليتوضَّأ» (1). وأخرجه (2) من حديث إسحاق مولى زائدة عن أبي هريرة بمعناه. وقال: هذا منسوخ، سمعت أحمد بن حنبل وسئل عن الغُسل من غَسل الميث فقال: يجزئه الوضوء. وقد أخرجه الترمذي وابن ماجه (3) من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا: «من غسل ميتا فليغتسل»، ولفظ الترمذي: «مِن غَسله الغُسل، ومن حمله الوُضوء ــ يعني الميت ــ». وقال: حديث حسن. وقد روي عن أبي هريرة موقوفًا. آخر كلامه. وقد روي أيضًا من حديث حذيفة بن اليمان وفيه من لا يحتجُّ به (4). وقد اختلف في هذا الحديث اختلافًا كثيرًا. وقال أحمد وعلي ابن المديني: لا يصحُّ في هذا الباب شيء (5). وقال محمد بن يحيى (6): لا أعلم في: «من غسل ميتًا فليغتسل» حديثًا ثابتًا، _________ (1) «سنن أبي داود» (3161) من طريق القاسم بن عباس، عن عمرو بن عمير، عن أبي هريرة. (2) «سنن أبي داود» (3162) من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة. (3) الترمذي (993) وابن ماجه (1463). (4) سيأتي ذكره والكلام عليه. (5) نقله الترمذي في «العلل الكبير» (ص 143) عن البخاري عنهما. (6) هو الذُّهْلي، الحافظ إمام أهل الحديث بخراسان (ت 258). أسنده عنه البيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 302).

(2/350)


ولو ثبت لزمنا استعماله. وقال الشافعي في رواية البويطي (1): إن صح الحديث قلت بوجوبه (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال في رواية الربيع (3): «وأولى الغُسْل عندي أن يجب بعد غسل الجنابة: الغسلُ مِن غَسْل الميت، ولا أحب تركه بحال» ثم ساق الكلام إلى أن قال: «وإنما منعني من إيجاب الغسل من غسل الميت: أن في إسناده رجلًا لم أقع من معرفة ثَبْتِ (4) حديثه إلى يومي [هذا] على ما يُقنعني، فإن وجدت من يُقنعني مِن معرفة ثَبْت حديثه أوجبتُه، وأوجبت الوضوء مِن مَسِّ الميت مُفْضيًا إليه، فإنهما في حديث واحد» (5). وقال في غير هذه الرواية (6): «وإنما لم يَقْوَ عندي أنه يروى عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، ويُدخِل بعض الحفاظ بين أبي صالح وبين أبي هريرة: إسحاق مولى زائدة. وقيل (7): إن أبا صالح لم يسمعه من أبي هريرة، وليست معرفتي بإسحاق مولى زائدة مثلَ معرفتي _________ (1) «مختصر البويطي» (ص 313). (2) كلام المنذري مثبت من (هـ)، وذكر المجرّد طرفه الأخير فقط، من قوله: «وقال الشافعي ... » إلخ. (3) «الأم» (2/ 83)، والمؤلف صادر عن «معرفة السنن والآثار» (2/ 133). (4) في الطبعتين هنا وفي الموضع الآتي: «تثبّت»، تحريف. (5) هو حديث أبي هريرة المتقدم: «مِن غَسله الغُسل، ومِن حمله الوضوء»، والرجل الذي لم يعرفه في إسناده هو إسحاق مولى زائدة، كما سيأتي. (6) كما في «معرفة السنن» (2/ 133). (7) كذا في الأصل، وفي مطبوعة «معرفة السنن»: «فدلّ»، وهو أقرب.

(2/351)


بأبي صالح، ولعله أن يكون ثقة (1)، وقد رواه صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة». وقال الإمام أحمد في رواية أبي داود (2): يجزئه الوضوء. قال أبو داود: أدخل أبو صالح بينه وبين أبي هريرة فيه: إسحاق مولى زائدة، قال: وحديث مصعب ضعيف. آخر كلامه. وهذا الحديث فيه عدة أقوال: أحدها: سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة (3). الثاني: سهيل عن أبيه عن إسحاق مولى زائدة عن أبي هريرة (4). الثالث: عن يحيى بن أبي كثير عن إسحاق عن أبي هريرة (5). _________ (1) وهو كذلك إن شاء الله، فقد وثَّقه ابن معين والعجلي وابن حبان. انظر: «تهذيب التهذيب» (1/ 258). (2) في «السنن» عقب الحديث (3162) وقد سبق، وانظر: «مسائله» (ص 215، 422). (3) هكذا أخرجه أحمد (7689)، والترمذي (993)، وابن ماجه (1463)، وابن حبان (1161)، من طرق عن سهيل به. (4) أخرجه أبو داود (3162) عن سفيان بن عيينة، عن سهيل به، مرفوعًا. وروي أيضًا عن سهيل بهذا الإسناد موقوفًا على أبي هريرة. قال الدارقطني بعد حكاية الخلاف على سهيل في إسناد الحديث ورفعه ووقفه: يُشبه أن يكون سُهَيل كان يضطرب فيه. «العلل» (1954). (5) ذكره البيهقي في «معرفة السنن» (2/ 134)، ولم أجد من أخرجه. تنبيه: أما وقوعه هكذا في مطبوعة «مصنف عبد الرزاق» (6110) فهو خطأ مخالف لما في أصله الخطّي، ولما في «مسند أحمد» (7770) و «علل ابن أبي حاتم» (1094) من طريق عبد الرزاق.

(2/352)


الرابع: عن يحيى عن أبي إسحاق عن أبي هريرة (1). الخامس: عن يحيى عن رجل من بني ليث عن أبي إسحاق عن أبي هريرة (2). السادس: عن معمر عن أبي إسحاق عن أبيه عن حذيفة (3). السابع: عن أبي صالح عن أبي سعيد (4). الثامن: عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا وموقوفًا (5). قال البيهقي - رحمه الله - (6): والموقوف أصح. _________ (1) أخرجه أحمد (7770) من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى به. وانظر التعليق السابق. (2) أخرجه أحمد (7771)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (1/ 397) من طريق أبان بن يزيد العطار، عن يحيى به. (3) أخرجه الطبراني في «الأوسط» (2760)، والبيهقي (1/ 303 - 304)، من طريق يزيد بن زريع عن معمر به. قال أبو حاتم: هذا حديث غلط. وقال الدارقطني: لا يثبت هذا عن أبي إسحاق، والمحفوظ قول الثوري وشعبة ومن تابعهما عن أبي إسحاق، عن ناجية بن كعب، عن علي (أنه أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل بعد ما غسّل أباه وواراه). انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (1046)، والدارقطني (475). (4) كذا، والذي ذكره البيهقي في «المعرفة» هو: «عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي سعيد». أخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (1/ 397)، والبيهقي (1/ 301). (5) أخرجه على الوجهين البخاري في «التاريخ الكبير» (1/ 397) ــ ومن طريقه البيهقي (1/ 301 - 302) ــ والبزار (7992، 7993). وأخرجه ابن أبي شيبة (11264) موقوفًا فقط. قال البخاري: إن المرفوع لا يصح، وإن الموقوف أشبه بالصواب. وكذا قال أبو حاتم في «العلل» لابنه (1035). (6) «معرفة السنن والآثار» (2/ 134).

(2/353)


التاسع: زهير بن محمد عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا (1). العاشر: عمرو بن عمير عن أبي هريرة مرفوعًا (2). الحادي عشر: صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة مرفوعًا (3). ذكرها البيهقي، وقال (4): إنما يصح هذا الحديث عن أبي هريرة موقوفًا. وهذه الطرق تدل على أن الحديث محفوظ. وقد روى أبو داود (5) عن علي بن أبي طالب أنه اغتسل [ق 166] من تجهيزه أباه ومُواراته. قال البيهقي (6): وروينا تركَ إيجاب الغسل منه عن ابن عباس في أصح _________ (1) أخرجه البزار (8333) والبيهقي (1/ 302) من طريق عمرو بن أبي سلمة، عن زهير به. قال الدارقطني في «العلل» (1770): «ليس بمحفوظ». وذلك ــ والله أعلم ــ لأن عمرو بن أبي سلمة فيه ضعف، لاسيما في روايته عن زهير، فإنه قد روى عنه بواطيل. (2) أخرجه أبو داود (3161) ومن طريقه البيهقي (1/ 303). وعمرو بن عمير مجهول، لا يُعرف إلا بهذا الحديث، وبه أعلَّه البيهقي في كتابَيه. (3) أخرجه أحمد (9601) والبيهقي (1/ 303) وقال: «صالح مولى التوأمة ليس بالقوي»، وقال في «معرفة السنن»: «اختلط في آخر عمره، وسقط عن حدّ الاحتجاج بروايته». (4) «معرفة السنن» (2/ 135)، وبنحوه في «السنن الكبرى» (1/ 303). (5) رقم (3214)، وأخرجه أحمد (759)، والنسائي (190)، وإسناده جيّد. انظر: «البدر المنير» (5/ 237)، و «التلخيص الحبير» (2/ 114)، و «إرواء الغليل» (717). (6) «معرفة السنن» (2/ 137). وانظر آثار هؤلاء الصحابة عند عبد الرزاق (6101 - 6107)، وابن أبي شيبة (11246 - 11256).

(2/354)


الروايتين عنه، وعن ابن عمر وعائشة، ورويناه أيضًا عن سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وأنس بن مالك. آخر كلامه. هذه المسألة فيها ثلاثة مذاهب: أحدها: أن الغُسل لا يجب على غاسله، وهذا قول الأكثرين. الثاني: أنه يجب. وهذا اختيار الجوزجاني (1). ويروى عن ابن المسيب وابن سيرين والزهري، وهو قول أبي هريرة، ويُروى عن علي (2). الثالث: وجوبه مِن غَسل الميت الكافر دون المسلم. وهو رواية عن الإمام أحمد (3)، لحديث علي: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالغسل»، وليس فيه أنه غسل أبا طالب، مع أنه من رواية ناجيةَ بن كعب عنه، وناجية لا يُعرف أحد روى عنه غير أبي إسحاق، قاله ابن المديني وغيره (4). _________ (1) هو الحافظ أبو إسحاق، إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني (ت 259)، هو معدود من أصحاب أحمد عنده عن أحمد جزءان مسائل، وكان أحمد يُكاتبه ويُكرمه إكرامًا شديدًا، انظر: «المغني» (1/ 278 - 279)، و «شرح العمدة» لشيخ الإسلام (1/ 391)، و «طبقات الحنابلة» (1/ 257 - 258). (2) انظر آثار هؤلاء عند عبد الرزاق (6108 - 6114)، وابن أبي شيبة (11261 - 11264). (3) «المغني» (1/ 279). (4) كما في «معرفة السنن» (2/ 137). وقد حكى ابن أبي حاتم عن أبيه أن أبا حسّان الأعرج ويونس بن أبي إسحاق رويا عنه أيضًا. وحكى عن ابن معين أنه قال عن ناجية: صالح. «الجرح والتعديل» (8/ 486).

(2/355)


10 - باب في تقبيل الميت 336/ 3033 - عن عائشة قالت: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّل عثمان بن مَظْعون وهو ميت، حتى رأيت الدموع تَسيل. وأخرجه الترمذي وابن ماجه (1). وفي حديث ابن ماجه: «على خدَّيه». وقال الترمذي: حسن صحيح. هذا آخر كلامه. وفي إسناده عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة. قال ابن القيم - رحمه الله -: وابن حبّان يصحح له (2)، ومن طريقه صحح حديث: «سابق (3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الخَيل، وجعل بينهما محلِّلًا» (4). وذكره في «الضعفاء» (5). 11 - باب الدفن بالليل 337/ 3034 - عن جابر بن عبد الله قال: رأى ناسٌ نارًا في المقبرة فأتوها، _________ (1) أبو داود (3163)، والترمذي (989)، وابن ماجه (1456). (2) كذا قال، وهو وهم، فإن عاصمًا الذي يصحح له ابن حبان هو ــ كما سبق أن نصّ عليه المؤلف نفسه في باب في المحلل ــ: عاصم بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، أخو عبيد الله العمري، من طبقة مالك، وهو أصغر من عاصم بن عبيد الله الذي في حديث الباب فإنه من صغار التابعين. وكلاهما ضعيف، وعن كليهما قال البخاري: منكر الحديث. (3) في الأصل: «سبق»، خطأ. (4) «صحيح ابن حبان» (4689). (5) كلاهما مذكور في كتاب «الضعفاء والمجروحين» (2/ 109).

(2/356)


فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبر، وإذا هو يقول: «ناولوني صاحبَكم»، وإذا هو الرجل الذي كان يرفع صوته بالذكر (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: هذه النار كانت للإضاءة، ولهذا ترجم عليه أبو داود: الدفن بالليل. قال الإمام أحمد (2): لا بأس بذلك، وقال: أبو بكر دُفِن ليلًا، وعليٌّ دَفَن فاطمة ليلًا (3)، وحديث عائشة: سمعنا صوت المساحي من آخر الليل في دفن النبي - صلى الله عليه وسلم - (4). وممن دُفِن ليلا: عثمان، وعائشة، وابن مسعود (5). ورخَّص فيه عقبةُ بن عامر، وابن المسيب، وعطاء (6)، والثوري، والشافعي، وإسحاق (7). _________ (1) «سنن أبي داود» (3164)، والحاكم (1/ 368)، من طريق محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، عن جابر. قال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم». كذا قال، ولا يصحّ؛ فإن محمد بن مسلم الطائفي فيه لين، ولم يُخرج له مسلم إلا حديثًا واحدًا في المتابعات. ثم ساق له الحاكم شاهدًا من حديث أبي ذر بإسناد وصفه هو نفسه بأنه «معضل». وهو مخرج عند عبد الرزاق (6559) من وجه آخر. (2) انظر: «المغني» (3/ 503). (3) الأثران أخرجهما البخاري (1387، 4240). (4) أخرجه أحمد (24333، 26349)، وعبد الرزاق (6551). (5) انظر: «مصنف ابن أبي شيبة» (11952، 11955)، و «الطبقات الكبرى» لابن سعد (3/ 73 - 74، 10/ 75 - 76)، و «الأوسط» لابن المنذر (5/ 510 - 511). (6) أخرجها ابن أبي شيبة (11950، 11957)، وعبد الرزاق (6548) ولاءً. (7) انظر: «الأم» (2/ 637)، و «الأوسط» (5/ 509)، و «المغني» (3/ 503).

(2/357)


وكرهه الحسن وأحمد في إحدى الروايتين (1). وقد روى مسلم في «صحيحه» (2): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب يومًا فذكر رجلًا من أصحابه قُبِض فكُفِّن في كفنٍ غير طائل (3) ودفن ليلًا، فزجر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُقبَر الرجل بالليل إلا أن يُضطرّ إنسان إلى ذلك. والآثار في جواز الدفن بالليل أكثر. وفي الترمذي (4) من حديث الحجاج بن أرطاةَ، عن عطاء، عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل قبرًا ليلًا، فأُسرِج له سراج، فأخذه من قِبَل القبلة، وقال: «رحمك الله، إن كنت لأوَّاهًا تلَّاءً للقرآن»، وكبّر عليه أربعًا. قال: وفي الباب عن جابر، ويزيد بن ثابت، وهو أخو زيدٍ أكبر منه. قال: وحديث ابن عباس حديث حسن. قال: ورخص أكثر أهل العلم في الدفن بالليل. وقد نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبر ذي البِجادَين ليلًا (5). _________ (1) انظر: «مصنف ابن أبي شيبة» (11960)، و «المغني» (3/ 503). (2) رقم (943) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -. (3) أي غير كامل الستر. (4) رقم (1057) وأيضًا البزار (5198)، والطبراني في «الكبير» (11295/ 2)، كلهم من طريق المنهال بن خليفة، عن الحجاج به. والإسناد ضعيف لضعف المنهال، وحجّاج مدلّس لين الحديث، ولكن يشهد لموضع الشاهد منه حديث الباب، وحديث دفن ذي البجادين الآتي. (5) ثبت ذلك في حديث ابن مسعود، أخرجه أبو القاسم البغوي في «معجم الصحابة» (953، 955)، والهيثم بن كليب في «مسنده» (893)، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (1/ 122)، من طرق يعتضد بعضها ببعض.

(2/358)


وفي «صحيح البخاري» (1): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل عن رجل، فقال: «من هذا؟» قالوا: فلان، دُفِن البارحةَ، فصلَّى عليه. وهذه الآثار أكثر وأشهر (2) من حديث مسلم. وفي «الصحيحين» (3) عن ابن عباس قال: مات إنسان كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوده، فمات بالليل فدفنوه ليلًا، فلما أصبح أخبروه، فقال: «ما منعكم أن تُعْلِمُوني؟» فقالوا: كان الليل، وكرهنا ــ وكانت ظلمةٌ ــ أن نَشُقَّ عليك، فأتى قبرَه فصلَّى عليه. قيل: وحديث النهي محمول على الكراهة والتأديب. والذي ينبغي أن يقال في ذلك ــ والله أعلم ــ: إنه متى كان الدفن ليلًا لا يفوت به شيءٌ من حقوق الميت والصلاةِ عليه= فلا بأس به، وعليه تدل أحاديث الجواز. وإن كان يفوت بذلك حقوقُه والصلاة عليه وتمامُ القيام عليه= نُهي عن ذلك، وعليه يدل الزَّجْر. وبالله التوفيق. 12 - باب القيام للجنازة 338/ 3043 - عن عامر بن ربيعة ــ يبلغ به النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ــ قال: «إذا رأيتم الجِنازةَ فقومُوا حتَّى تُخَلِّفَكم أو تُوضَع». وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (4). _________ (1) رقم (1340). (2) (هـ): «أكثر وأبين». (3) البخاري (1247) واللفظ له، ومسلم (954). (4) أبو داود (3172)، والبخاري (1307)، ومسلم (958)، والترمذي (1042)، والنسائي (1916)، وابن ماجه (1542).

(2/359)


339/ 3044 - وعن ابن أبي سعيد الخدري ــ وهو عبد الرحمن ــ عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا تَبِعتُم الجنازة فلا تجلسوا حتَّى تُوضَع» (1). وقد أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي (2) من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي سعيد بنحوه. وأخرجه مسلم (3) من حديث أبي صالح السمان عن أبي سعيد. قال أبو داود: روى هذا الحديث الثوري عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال فيه: «حتى توضع بالأرض» (4)، ورواه أبو معاوية عن سهيل قال: «حتى توضع في اللَّحْدِ»، وسفيان أحفظ من أبي معاوية. قال ابن القيم - رحمه الله -: وحديث أبي معاوية رواه ابن حبان في «صحيحه» (5) ولفظه: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان مع الجنازة لم يجلس حتى توضع في اللحد، أو تدفن ــ شكَّ أبو معاوية ــ». ويدل على أن المراد بالوضعِ الوضعُ بالأرض عن الأعناق حديثُ البراء بن عازب: «خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجلٍ من الأنصار فانتهينا إلى القبر، ولمَّا يُلحدْ بعدُ، فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجلسنا معه ... ». وهو _________ (1) برقم (3173) من طريق زهير بن معاوية، عن سهيل بن أبي صالح، عن ابن أبي سعيد الخدري. وقد اختلف عن زهير وعن سهيل في إسناده ومتنه، كما سيأتي. (2) البخاري (1310)، ومسلم (959/ 77)، والترمذي (1043)، والنسائي (1914). (3) برقم (959/ 76) من طريق زهير عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه. (4) وصله البيهقي (4/ 26). (5) رقم (3105).

(2/360)


حديث صحيح، وسيأتي إن شاء الله تعالى (1). 340/ 3045 - وعن جابر ــ وهو ابن عبد الله ــ قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ مرَّت بنا جنازة، فقام لها، فلما ذهبنا لنحمل إذا هي جنازة يهودي، فقلنا: يا رسول الله، إنما هي جنازة يهودي، فقال: «إنَّ الموت فَزَع، فإذا رأيتم الجنازة فقُوموا». وأخرجاه والنسائي (2)، وليس في حديثهم: «فلما ذهبنا لنحمل». 341/ 3046 - وعن علي بن أبي طالب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام في الجنائز، ثم قعد بعدُ. وأخرجه مسلم والثلاثة (3). 342/ 3047 - وعن عبادة بن الصامت قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم في الجنازة حتى توضَع في اللَّحْدِ، فمَرَّ حَبْرٌ من اليهود، فقال: هكذا نفعل، فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: «اجْلسوا، خالِفوهم». وأخرجه وابن ماجه والترمذي (4)، وقال: غريب، وبِشْر بن رافع ليس بالقوي في الحديث. _________ (1) (3/ 319). (2) أبو داود (3174)، والبخاري (1311)، ومسلم (960)، والنسائي (1922). (3) أبو داود (3175)، ومسلم (962)، والترمذي (1044)، والنسائي (1999)، وابن ماجه (1544). (4) أبو داود (3176)، وابن ماجه (1545)، والترمذي (1020)، كلهم من طريق بِشر بن رافع الحارثي، عن عبد الله بن سليمان بن جنادة، عن أبيه، عن جدّه، عن عُبادة بن الصامت.

(2/361)


وقال أبو بكر الهَمَذاني (1): ولو صح لكان صريحًا في النسخ، غير أن حديث أبي سعيد أصح وأثبت، فلا يقاومه هذا الإسناد. وقال غيره: النسخ ثابت بحديث علي (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: وهذا هو الذي نحاه الشافعي، قال ــ وقد روى حديث عامر بن ربيعة ــ (3): «وهذا لا يعدو أن يكون منسوخًا، أو يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قام لها لعلةٍ قد رواها بعض المُحدِّثين مِن أن جنازة يهودي مُرَّ بها على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام لها كراهية أن تَطُوله (4). وأيهما كان، فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تركُه بعد فعله، والحجة في الآخر من أمره؛ إن كان الأول واجبًا فالآخِر من أمره ناسخ، وإن كان استحبابًا فالآخِر هو الاستحباب، وإن كان مباحًا فلا بأس في القيام، والقعودُ أحب إلي، لأنه الآخر من فعله». ثم ذكر حديث علي. اختلف أهل العلم في القيام [ق 167] للجنازة وعلى القبر على أربعة أقوال: _________ (1) في كتابه: «الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار» (ص 477). (2) كلام المنذري على هذه الأحاديث من (هـ)، وفيه تصرّف يسير من المؤلف. (3) «اختلاف الحديث» (10/ 210 - ضمن الأم)، وعنه البيهقي في «معرفة السنن» (5/ 267 - 280) بإسناده إليه. (4) أخرجه ابن أبي شيبة (12039)، والبيهقي في «معرفة السنن» (5/ 279) من طريق جعفر (الصادق)، عن أبيه (محمد الباقر) قال: كان الحسن بن علي جالسًا في نفر فمُرَّ عليه بجنازة فقام الناس حين طلعت، فقال الحسن: «إنه مُرَّ بجنازة يهودي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ــ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - على طريقها ــ فقام حين طلعت كراهية أن تعلُو على رأسه». إسناده ضعيف، لأن رواية محمد عن الحسن مُرسلة.

(2/362)


أحدها: أن ذلك كلَّه منسوخ؛ قيام تابِعها، وقيام من مرَّت عليه، وقيام المشيّع على القبر. قال هؤلاء: وما جاء من القعود نَسْخٌ لهذا كلِّه. وهذا المذهب ضعيف من ثلاثة أوجه: أحدها: أن شرطَ النسخِ المعارضةُ والتأخر، وكلاهما منتفٍ في القيام على القبر بعد الدفن، وفي استمرار قيام المشيّعين حتى توضع، وإنما يمكن دعوى النسخ في قيام القاعد الذي تمر به الجنازة على ما فيه. الثاني: أن أحاديث القيام كثيرة صحيحة صريحة في معناها، فمنها حديث عامر بن ربيعة، وهو في «الصحيحين»، وفي بعض طرقه: «إذا رأى أحدكم الجنازة فإن لم يكن ماشيًا معها فليَقُم حتى تخلِّفَه، أو توضع مِن قَبل أن تخلفه» (1). وفي لفظ: «إذا رأى أحدكم الجنازة فليقم حين يراها حتى تخلِّفه» (2). ومنها: حديث أبي سعيد، وهو متفق عليه، ولفظهما (3): «إذا اتبعتم جنازة فلا تجلسوا حتى توضع». وفي لفظ لهما (4): «إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يجلسْ حتى توضع». وهو دليل على القيام في المسألتين. ومنها: حديث جابر في قيامه لجنازة يهودي، وهو في «الصحيحين» (5). _________ (1) هذا لفظ مسلم (958/ 74)، وبنحوه عند البخاري (1308). (2) «صحيح مسلم» (958/ 75). (3) سبق تخريجه. (4) البخاري (1310) ومسلم (959/ 77). (5) وقد سبق في أحاديث الباب.

(2/363)


وتعليله بأن ذلك كراهية أن تَطُولَه تعليل باطل، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - علَّل بخلافه. وعنه في ذلك ثلاث علل: إحداها (1): قوله: «إن الموت فزع»، ذكره مسلم في حديث جابر، وقال: «إن الموت فزع فإذا رأيتم الجنازة فقوموا». الثانية: أنه قام للملائكة، كما روى النسائي (2) عن أنس: أن جنازة مرت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام، فقيل: إنها جنازة يهودي، فقال: «إنما قمنا للملائكة». الثالثة: التعليل بكونها نَفْسًا، وهذا في «الصحيحين» (3) من حديث قيس بن سعد وسهل بن حُنَيف قالا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرت به جنازة فقام، فقيل: إنه يهودي، فقال: «أليست نفسًا؟». فهذه هي العلل الثابتة عنه. وأما التعليل بأنه كراهية أن تطوله، فلم يأت في شيء من طرق هذا الحديث الصحيحة. ولو قُدِّر ثبوتها فهي ظن من الراوي، وتعليل النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي ذكره بلفظه أولى. فهذه الأحاديث مع كثرتها وصحتها كيف يقدَّم عليها حديثُ عبادة مع ضعفه؟! وحديث علي، وإن كان في «صحيح مسلم»، فهو حكاية فعلٍ لا عموم له، وليس فيه لفظ عامٌّ يحتج به على النسخ، وإنما فيه أنه قام وقعد، وهذا _________ (1) في الأصل وط. المعارف: «أحدها». (2) في «المجتبى» (1929) و «الكبرى» (2066)، وصححه الحاكم على شرط مسلم (1/ 357)، واختاره الضياء (7/ 130 - 131). (3) البخاري (1312) ومسلم (961).

(2/364)


يدل على أحد أمرين: إما أن يكون كل منهما جائزًا، والأمر بالقيام ليس على الوجوب، وهذا أولى من النسخ. قال الإمام أحمد (1): إن قام لم أَعِبْه، وإن قعد فلا بأس. وقال القاضي وابن أبي موسى: القيام مستحب، ولم يرياه منسوخًا (2). وقال بالتخيير إسحاقُ، وعبد الملك بن حبيب، وابن الماجشون (3). وبه تأتلف الأدلة. أو يدلَّ على نسخ قيام القاعد الذي يُمَرّ عليه بالجنازة، دون استمرار قيام مُشَيِّعِها، كما هو المعروف من مذهب أحمد عند أصحابه (4)، وهو مذهب مالك (5) وأبي حنيفة (6). الثالث: أن أحاديث القيام لفظ صريح، وأحاديث الترك إنما هي فِعْل مُحتمِل لما ذكرنا من الأمرين، فدعوى النسخ غير بينة، والله أعلم. وقد عمل الصحابة بالأمرين بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقعد علي وأبو هريرة ومروان، وقام أبو سعيد (7)، ولكن هذا في قيام التابع، والله أعلم. _________ (1) «مسائل أحمد وإسحاق» رواية الكوسج (1/ 328)، وقال إسحاق: كما قال. (2) «المغني» (3/ 404). (3) سبق قول إسحاق، وقول الآخرَين في «والنوادر والزيادات» (1/ 580 - 581). (4) انظر: «الإنصاف» (6/ 212 - 213). (5) ظاهر ما في «المدونة» (1/ 177) و «البيان والتحصيل» (2/ 274 - 275) أن مذهب مالك جواز جلوس المشيع قبل أن توضع، فليُحرّر. (6) انظر: «كتاب الآثار» للشيباني (ص 51)، و «تبيين الحقائق» (1/ 244). (7) أثر علي أخرجه عبد الرزاق (6312)، وابن أبي شيبة (12041، 12042، 12044) من طرق عنه. أما أبو هريرة ومروان وأبو سعيد، فلهم قصة، أخرجها البخاري (1309) ــ واللفظ له ــ، وأبو يعلى (6455)، والطبري في «تهذيب الآثار» (806، 807 - مسند عمر)، والحاكم (1/ 356 - 357)، أنهم كانوا في جنازة «فأخذ أبو هريرة بيد مروان فجلسا قبل أن توضع، فجاء أبو سعيد - رضي الله عنه - فأخذ بيد مروان فقال: قُمْ فواللهِ لقد علم هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن ذلك! فقال أبو هريرة: صدق». وزاد غير البخاري بإسناد صحيح: « ... قال [مروان]: فما منعك أن تخبرني؟ قال: كنتَ إمامًا فجلستَ فجلستُ».

(2/365)


13 - باب المشي أمام الجنازة 343/ 3050 - عن سالم ــ وهو ابن عبد الله بن عمر ــ عن أبيه قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - يمشون أمام الجنازة. وأخرجه النسائي وابن ماجه والترمذي (1)، وقال: وأهل الحديث كأنّهم يرون الحديث المرسل في ذلك أصح. وحَكى (2) أن البخاري قال: والحديث هو هذا ــ يعني المرسل ــ. قال الترمذي (3): رواه معمر ويونس ومالك وغير واحد من الحفاظ عن الزهري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمشي أمام الجنازة. قال الزهري، وأخبرني سالم أن أباه كان يمشي أمام الجنازة. وسمعت يحيى بن موسى يقول: قال عبد الرزاق: قال _________ (1) أبو داود (3179)، والنسائي (1944)، وابن ماجه (1482)، والترمذي (1007)، كلهم من طريق سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سالم به. ورواه مالك ومعمر وغيرهما عن الزهري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه مرسلًا، إما مقتصرًا عليه، أو مُدرجًا في روايته عن سالم عن أبيه موقوفًا: أنه كان يمشي بين يدي الجنازة، وسيأتي. (2) في «الجامع» عقب الحديث (1010)، وفي «العلل الكبير» (ص 144). (3) عقب الحديث (1009).

(2/366)


ابن المبارك: حديث الزهري في هذا مرسلًا أصح من حديث ابن عيينة. وقال النسائي (1): هذا خطأ، والصواب مرسل. وقالت طائفة من متأخرِّي المحدثين: هذا غير مؤثِّر، ووصله صحيح. قال البيهقي (2): من وصله واستقرَّ على وصله ولم يُختلف عليه فيه ــ وهو سفيان بن عيينة ــ حجة ثقة. وقال غيره (3): سفيان بن عيينة من الأثبات الحفاظ، وقد أتى بزيادة على من أرسل، فوجب تقديمه (4). قال ابن القيم - رحمه الله -: ومثل هذا لا يعبأ به أئمةُ الحديث شيئًا، ولم يخفَ عليهم أن سفيان حجة ثقة، وأنه قد وصله، فلم يستدرك عليهم المتأخرون شيئًا لم يعرفوه. وقال آخرون: قد تابع ابنَ عيينة على روايته إياه عن الزهري عن سالم عن أبيه: يحيى بن سعيد، وموسى بن عقبة (5)، وزياد بن سعد، وبكر، ومنصور (6)، _________ (1) «السنن الكبرى» عقب الحديث (2083)، و «المجتبى» عقب الحديث (1945). (2) «سنن البيهقي» (4/ 24). (3) كابن حزم في «المحلى» (5/ 165)، وابن الجوزي في «التحقيق» (2/ 11). (4) كلام المنذري من (هـ)، وفيه تصرّف وزيادة يسيرة من المؤلف. (5) أخرج روايتهما ابن عبد البر في «التمهيد» (12/ 88)، عن الزهري، عن سالم: «أن ابن عمر كان يمشي أمام الجنازة، وقال: قد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي بين يديها وأبو بكر وعمر وعثمان». وهذا ليس صريحًا في الوصل، بل الظاهر أن آخره كلام الزهري مُرسلًا. وانظر: «العلل» للدارقطني (2716). (6) أخرج رواية هؤلاء الثلاثة الترمذي (1008)، والنسائي (1945)، من طريق همّام بن يحيى عنهم.

(2/367)


وابن جريج (1)، وغيرهم. ورواه عن الزهري مرسلًا: مالك، ويونس، ومعمر (2). وليس هؤلاء الذين وصلوه بدون الذين أرسلوه. فهذا كلام على طريقة أئمة الحديث، وفيه استدراك وفائدة تُستفاد. قال المصححون لإرساله: الحديث هو لسفيان، وابن جريج أخذه عن سفيان. قال الترمذي (3): قال ابن المبارك: وأرى ابن جريج أخذه عن سفيان. قالوا: وأما رواية منصور وزياد بن سعد وبكر، فإنها من رواية همام. وقد قال الترمذي في «الجامع» (4): «وروى همام بن يحيى هذا الحديث عن زياد بن سعد ومنصور وبكر وسفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، وإنما هو سفيان بن عيينة روى عنه همام»، يعني أن الحديث لسفيان وحده، روى عنه همام كذلك. وفي هذا نظر لا يخفى، فإن همامًا قد رواه عن هؤلاء _________ (1) أخرج روايته أحمد (4939، 4940)، والرواية الثانية تبيّن أن ابن جريج لم يسمعه من الزهري، وإنما سمعه من زياد بن سعد عن الزهري. ثم إنه أيضًا ليس صريحًا في وصل الجزء المرفوع منه، بل الظاهر أنه مدرج مِن قول الزهري مرسلًا. انظر: «مسائل أحمد» رواية عبد الله (ص 142 - 143)، و «العلل» للدارقطني (2716)، و «الفصل للوصل المدرج في النقل» للخطيب (1/ 330 - 334). (2) رواية مالك في «الموطأ» (600). ورواية يونس ذكرها الترمذي (1010) عن البخاري، وأخرجها الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 379). ورواية معمر أخرجها عبد الرزاق (6259)، ومن طريقه الترمذي (1009). (3) عقب الحديث (1009). (4) الموضع السابق.

(2/368)


عن الزهري ويبعد أن يكونوا كلهم دلَّسوه عن سفيان ولم يسمعوه من الزهري. وهذا يحيى بن سعيد مع تثبته وإتقانه [ق 168] يرويه كذلك عن الزهري، وكذلك موسى بن عقبة (1)، فلأي شيءٍ يحكم للمُرسِلين على الواصلين؟ وقد كان ابن عيينة مُصرًّا على وصله، ونوظر فيه فقال: الزهري حدَّثنيه مرارًا، فسمعته مِن فيه، يُعيده ويُبديه: عن سالم، عن أبيه (2). وقد روى الترمذي في «جامعه» (3) من حديث يونس، عن ابن شهاب، عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يمشون أمام الجنازة. قال الترمذي: هذا غير محفوظ، وسألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث خطأ، أخطأ فيه محمد بن بكر، وإنما يُروى هذا الحديث عن يونس عن الزهري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة، قال الزهري: وأخبرني سالم أن أباه كان يمشي أمام الجنازة. قال محمد: والحديث الصحيح هو هذا. آخر كلام البخاري. وسيأتي (4) بعد هذا حديث ابن مسعود: «الجنازة متبوعة، ليس معها من _________ (1) سبق أن روايتهما عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، إنما هي موقوفة على ابن عمر من فعله، وأما القدر المرفوع منها، فالظاهر أنه مرسل من كلام الزهري. (2) أخرجه البيهقي (4/ 23 - 24) عن علي ابن المديني أنه ناظر سفيان في ذلك، فقاله. (3) رقم (1010)، وفي «العلل الكبير» (ص 144)، من طريق محمد بن بكر البُرساني، عن يونس به. (4) في «المختصر» (3055) و «السنن» (3184) في «باب الإسراع بالجنازة»، وقد أفاض المنذري في بيان ضعفه. ولم يرد الحديث في أصل المجرّد، ولكنه ورد في (هـ)، والكلام فيه لا يعدو ما ذكره المنذري خلا تصرف يسير.

(2/369)


تَقَدَّمها»، وأنه ضعيف. وذكر ابن عبد البر (1) من حديث أبي هريرة يرفعه: «امشُوا خلفَ الجنازة»، وفيه كنانة مولى صفية، لا يحتج به. وذكر أبو أحمد (2) عن سهل بن سعد: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمشي خلف الجنازة». وهو من حديث يحيى بن سعيد الحِمصي العطار، منكر الحديث. 14 - باب الصلاة على الجنازة في المسجد 344/ 3061 - عن عبّاد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت: «واللهِ ما صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد». وأخرجه مسلم (3). 345/ 3062 - وعن أبي سلمة عن عائشة قالت: «واللهِ لقد صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابنَي بيضاء في المسجد: سهيلٍ وأخيه». وأخرجه مسلم (4)، وفيه ذكر القَسَم. 346/ 3063 - وعن صالح مولى التَّوأمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن صَلَّى على جنازةٍ في المسجد فلا شيء عليه» (5). _________ (1) «التمهيد» (12/ 99 - 100). (2) في «الكامل» (7/ 193). (3) أبو داود (3189)، ومسلم (973/ 99، 100) دون ذكر القَسَم: «واللهِ». (4) أبو داود (3190)، ومسلم (973/ 101). (5) «سنن أبي داود» (3191) من طريق ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة به. صالح مولى التوأمة متكلم فيه، وقد تفرد بروايته، وقد ضعَّف الحديث الإمام أحمد، وابن المنذر، والبيهقي في آخرين. انظر: «مسائل أحمد» برواية عبد الله (ص 142)، و «الأوسط» (5/ 456)، و «معرفة السنن والآثار» (5/ 318 - 320).

(2/370)


قال الخطيب (1): كذا في الأصل. وأخرجه ابن ماجه (2) ولفظه: «فليس له شيء». قال ابن القيم - رحمه الله -: [وهو المحفوظ في كتاب «السنن» لأبي داود (3). ورواه الإمام أحمد في «المسند» (4) ولفظه: «فلا شيء له»] (5). هذا الحديث فيه أربعة ألفاظ: أحدها: «فلا شيء» فقط، وهي في بعض نسخ «السنن». اللفظ الثاني: «فلا شيء عليه»، وهي رواية الخطيب. اللفظ الثالث: «فلا شيء له»، وهي رواية ابن ماجه (6). _________ (1) البغدادي (ت 463) في نسخته من «سنن أبي داود» بإسناده إلى اللؤلؤي عن أبي داود. وتتمة كلامه: «المحفوظ: فلا شيء له». هكذا في نسخة خطية من «السنن» مقروءة على المنذري من روايته عن ابن طَبَرْزَد، عن أبي الفتح الدُّومي وأبي البدر الكرخي عن الخطيب. وانظر: «السنن» (5/ 305) طبعة دار التأصيل. (2) رقم (1517). (3) كذا، وسبق قريبًا أن المحفوظ في لفظ «السنن» كما قال الخطيب: «فلا شيء له». أخشى أن تكون هذه الجملة كانت في لحق ووضعها ناسخ (هـ) في غير محلِّها، فموضعها الصحيح بعد ذكر رواية أحمد الآتية. (4) رقم (9865) (5) ما بين حاصرتين من (هـ). (6) سبق أن هذا لفظ أحمد، ولفظ ابن ماجه: «فليس له شيء».

(2/371)


اللفظ الرابع: «فليس له أجر»، ذكره أبو عمر في «التمهيد» (1). وقال: هو خطأ لا إشكال فيه. قال: والصحيح: «فلا شيء له». وهذا الذي قاله أبو عمر في حديث أبي هريرة هو الصواب، لأن فيه: «قال صالح: فرأيت الجنازة توضع في المسجد: فرأيت أبا هريرة إذا لم يجد موضعًا إلا في المسجد انصرف (2) ولم يُصلِّ عليها». ذكره البيهقي (3) في حديث صالح. [وقد ضعَّف الإمام أحمد هذا الحديث وقال: «هو مما انفرد به صالح مولى التوأمة». وقال مالك: ليس بثقة. وقال غيره: كان صالحٌ ثقةً إلا أنه اختلط في آخر عمره فضُعِّف حديثه لأجل الاختلاط] (4). وقد قال بعض أهل الحديث: ما رواه ابن أبي ذئب عن صالح فهو لا بأس به، لأنه روى عنه قبل الاختلاط (5). وهذا الحديث من رواية ابن أبي _________ (1) (21/ 221)، والحديث أخرجه بهذا اللفظ أبو القاسم البغوي في «حديث ابن الجعد» (2752). وفي إسناده أبو حذيفة النهدي، صدوق سيئ الحفظ، وقد خالف الثقات في لفظ الحديث. (2) في الأصل و (هـ): «خرج انصرف»، ولعل لفظة «خرج» كان مضروبًا عليها في أصل المؤلف، فإنها ليست في المصدر المنقول منه. وفي ط. الفقي زيد بينهما واو العطف: «خرج وانصرف». (3) «السنن الكبرى» (4/ 52). (4) ما بين الحاصرتين من (هـ)، ولعل المجرِّد لم يُثبته لأن أوّله (تضعيف أحمد للحديث) مما ذكره المنذري في «المختصر»، ولكن ما بعده من زيادات المؤلف. (5) هكذا قال ابن معين والجوزجاني وابن عدي، وخالفهم البخاري فقال: «ما أرى أنه سمع منه قديمًا، يروي عنه مناكير». انظر: «تهذيب الكمال» (3/ 439)، و «العلل الكبير» للترمذي (ص 34، 292).

(2/372)


ذئب عنه. وقال ابن عدي (1): وممن سمع من صالح قديمًا: ابن أبي ذئب، وابن جريج، وزياد بن سعد وغيرهم، ولحقه مالك والثوري وغيرهم بعد الاختلاط. [وقد ذهب الطحاوي (2) إلى أن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء في المسجد منسوخة، وأن ترك ذلك آخرُ الفعلين منه بدليل إنكار عامة الصحابة ذلك على عائشة، وما كانوا ليفعلوه إلا لِما علموا خلاف ما فعلتْ (3). وقال البيهقي (4): لو كان عند أبي هريرة نسخ ما رَوَتْه عائشةُ لذكره يوم صُلِّي على أبي بكر في المسجد، ويوم صُلِّي على عمر في المسجد (5)، ولَذكره مَن أنكر على عائشة أَمْرَها بإدخاله المسجد، ولَذكره أبو هريرة يوم روت فيه الخبر المنسوخ، وإنما أنكره مَن لم يكن عنده علم بجوازه، فلما روت لهم عائشة الحديث سكتوا وصدروا عنه ولم ينكروه ولا عارضوه. قال الخطابي (6): وقد ثبت أن أبا بكر وعمر صلِّي عليهما في المسجد، _________ (1) في «الكامل» (4/ 58). (2) «شرح معاني الآثار» (1/ 492 - 493). (3) من الأمر بإدخال جنازة سعد بن أبي وقّاص في المسجد حتى تصلي عليه، فأنكروا عليها فاستشهدت بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على ابن البيضاء في المسجد. جاء ذلك في رواية مسلم وغيره لحديث الباب. (4) «معرفة السنن والآثار» (5/ 320). (5) صحّ الصلاة عليهما في المسجد عند عبد الرزاق (6576، 6577)، وابن أبي شيبة (12092 - 12096). (6) «معالم السنن» (4/ 324 - 325).

(2/373)


ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار شهدوا الصلاة عليهما، وفي تركهم إنكارَه الدليلُ على جوازه. وقد يحتمل أن يكون معنى حديث أبي هريرة ــ إن ثبت ــ نقصان الأجر، لأن من صلّى عليها في المسجد الغالبُ أنه ينصرف إلى أهله ولا يشهد دفنه، ومن سعى إلى الجنازة فصلّى عليها بحضرة المقابر شهد دفنها وأحرز أجر القيراطين، وقد يؤجر أيضًا على كثرة خُطاه، فصار الذي يصلِّي عليها في المسجد منقوصَ الأجر بالإضافة إلى هذا. وقال بعضهم: «لا شيء له» أي: لا شيء عليه، كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]. وهذا والذي قبله ضعيفان] (1). 15 - باب الصلاة على القبر 347/ 3074 - عن أبي هريرة أن امرأة سوداء أو رجلًا كان يَقُمُّ المسجدَ، ففقده النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأل عنه؟ فقيل: مات، فقال: «ألّا آذنتموني به؟» قال: «دُلُّوني على قبره»، فدلُّوه، فصلَّى عليه. وأخرجاه (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى البخاري (3) عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام على قبر منبوذ فأَمَّهم وصَلَّوا خلفه. قال الترمذي (4): وفي الباب عن أنس، وبريدة، ويزيد بن ثابت، وأبي _________ (1) ما بين الحاصرتين من (هـ)، ولعل المجرّد لم ينقله لأنه مما نقله المؤلف من كلام المنذري، عدا قوله: «وهذا والذي قبله ضعيفان»، فهو من تعقيب المؤلف. (2) أبو داود (3203)، والبخاري (458)، ومسلم (955). (3) رقم (1336)، ورواه مسلم (954) بنحوه. (4) عقب روايته لحديث ابن عباس السابق برقم (1037).

(2/374)


هريرة، وعامر بن ربيعة، وأبي قتادة، وسهل بن حُنَيف (1). قال الترمذي: «حديث ابن عباس حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، وهو قول الشافعي وأحمد (2) وإسحاق. وقال بعض أهل العلم: لا يُصلَّى على القبر، وهو قول مالك بن أنس (3). وقال عبد الله بن المبارك: إذا دُفن الميت ولم يُصَلَّ عليه صُلِّي على القبر». وقال الإمام أحمد (4): ومن يشك في الصلاة على القبر؟ يُروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ستة وجوه كلها حسان. وقد روى مسلم في «صحيحه» (5) عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر. وفي «الصحيحين» (6) عن ابن عباس قال: مات إنسان كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوده ــ فذكر الحديث ــ وفيه: «فأتى قبره فصلى عليه». ولكن هذه الأحاديث إنما تدل على قول ابن المبارك، فإنها وقائع أعيان، والله تعالى أعلم. _________ (1) انظر لأحاديث هؤلاء: «الإرواء» (736/ 1)، و «نزهة الألباب في قول الترمذي وفي الباب» للوائلي (3/ 1656 - 1660). (2) انظر: «الأم» (2/ 609)، و «مسائل أحمد» برواية أبي داود (ص 222) وعبد الله (ص 140) وصالح (1/ 466). (3) انظر: «المدونة الكبرى» (1/ 181 - 182). (4) كما في «التمهيد» (6/ 261)، و «المغني» (3/ 445)، والمؤلف صادر عنه. (5) رقم (955). (6) البخاري (1247) واللفظ له، ومسلم (954).

(2/375)


16 - باب في اللحد 348/ 3079 - عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّحْدُ لنا، وَالشَّقُّ لِغَيرنا». وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (1)، وقال الترمذي: غريب. هذا آخر كلامه. وفي إسناده: عبد الأعلى بن عامر الثعلبي، ولا يحتج بحديثه. وأخرجه ابن ماجه (2) أيضًا من حديث جرير بن عبد الله البجَلي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي إسناده: أبو اليقظان عثمان بن عمير البجلي الكوفي، ولا يحتج بحديثه، وذكر ابن عدي (3) أنه لا يتابعه عليه أحد. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى مسلم في «صحيحه» (4) من حديث سعد بن أبي وقاص أنه قال في مرضه الذي هلك فيه: «الحَدُوا لي لحدًا، وانْصِبوا عليَّ اللَّبِن نَصْبًا، كما صُنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم -». 17 - باب الجلوس عند القبر 349/ 3083 - عن البراء بن عازب، قال: «خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولم يُلْحَدْ بعدُ، فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - مستقبل القبلة وجلسنا معه». وأخرجه النسائي وابن ماجه (5). _________ (1) أبو داود (3208)، والترمذي (1045)، والنسائي (2009)، وابن ماجه (1554). (2) رقم (1555). (3) «الكامل» (5/ 167). (4) برقم (966). (5) أبو داود (3212)، والنسائي (2001)، وابن ماجه (1549) هكذا مختصرًا، كلهم من طريق المنهال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء. وأخرجه أبو داود (4753) في كتاب السنة مطوّلًا بذكر موعظة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإخباره عمّا يكون عند نزع الروح والمسألةِ في القبر وعذابِه ونعيمه.

(2/376)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وأخرجه الإمام أحمد والحاكم في «صحيحه» (1). وقد أعله أبو حاتم البُستي (2) بأن قال: زاذان لم يسمعه من البراء، قال: ولذلك لم أخرجه. وهذه العلة فاسدة، فإن زاذان قال: سمعت البراء بن عازب يقول: (فذكره). ذكره أبو عوانة الإسفراييني في «صحيحه» (3). وأعله ابن حزم (4) أيضًا بضعف المنهال بن عمرو. وهى علة فاسدة، فإن المنهال ثقة صدوق، وقد صححه أبو نُعَيم وغيره (5). _________ (1) أحمد (18534)، والحاكم (1/ 37)، كلاهما مطوّلًا. (2) في «صحيحه» (7/ 387) عقب الحديث (3117). (3) ليس الحديث في القدر المطبوع منه، وقد نقله منه الحافظ في «إتحاف المهرة» (2/ 459) ولكن لم يَسُق موضع الشاهد من الإسناد. وقد ورد التصريح بالسماع أيضًا عند أحمد (18535)، وأبي داود (4754)، والحاكم (1/ 37، 39). (4) في «المحلّى» (1/ 22). (5) قال أبو نعيم: «هو حديث أجمع رواة الأثر على شهرته واستفاضته»، نقله شيخ الإسلام في «شرح حديث النزول» (5/ 439 ــ مجموع الفتاوى). وصححه أيضًا أبو عبد الله ابن منده في كتاب «الإيمان» (2/ 965)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 39)، والبيهقي في «إثبات عذاب القبر» (ص 39).

(2/377)


18 - باب في تسوية القبر 350/ 3088 - عن أبي هَيَّاج الأسدي، قال: بعثني عليٌّ قال: أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن لا أدَعَ قبرًا مُشْرِفًا إلا سَوَّيتُه، ولا تمثالًا إلا طَمَسْتُه. وأخرجه مسلم (1). 351/ 3089 - وعن أبي علي الهَمْداني ــ وهو ثُمامة بن شُفَيٍّ، مِن تابعي أهل مصر ــ قال: كنا مع فَضالة بن عُبيد برُودِسَ بأرض الروم، فتُوفِّي صاحب لنا، فأمر فَضالة بقبره فَسُوِّي ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتسويتها. وأخرجه مسلم (2). 352/ 3090 - وعن القاسم ــ وهو ابن محمد بن أبي بكر الصديق ــ قال: دخلت على عائشة فقلت: يا أُمَّه، اكشِفي لي عن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه - رضي الله عنهما -، فكشفتْ لي عن ثلاثة قبور، لا مُشْرِفة ولا لاطِئة، مَبْطوحة بِبَطْحاء العَرْصة الحمراء. قال أبو علي: يقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُقَدَّم، وأبو بكر عند رأسه، وعمر عند رجليه، رأسه عند رِجلَي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: [وفي «صحيح البخاري» (4) عن سفيان التمَّار أنه رأى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مُسنَّمًا] (5). وهذه الآثار لا تضاد بينها، والأمر بتسوية القبور إنما هو [ق 169] _________ (1) أبو داود (3218)، ومسلم (969). (2) أبو داود (3219)، ومسلم (968). (3) «سنن أبي داود» (3220). وأبو علي هو اللؤلؤي راوي «السنن» عن أبي داود. (4) كتاب الجنائز، باب ما جاء في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. (5) ما بين الحاصرتين من (هـ)، ولم يذكره المجرّد مع أن الكلام الآتي يتوقف فهمه عليه.

(2/378)


تسويتها بالأرض، وأن لا تُرفَع مشرِفةً عالية، وهذا لا يناقض تسنيمها شيئًا يسيرًا عن الأرض. ولو قُدِّر تعارضها فحديث سفيان التمَّار أصحّ من حديث القاسم. وقال البيهقي (1): «وحديث القاسم بن محمد في هذا الباب أصح وأولى أن يكون محفوظًا». وليس الأمر كذلك، فحديث سفيان رواه البخاري في «صحيحه»، وحديث القاسم لم يروه أحد من أصحاب الصحيح. قال الشيخ أبو محمد المقدسي (2): حديث سفيان التمار أثبت وأصح، فكان العمل به أولى. قال البيهقي (3) في حديث سفيان: وصحت رؤية سفيان له مسنَّمًا، فكأنه غُيِّرَ ــ يعني القبر ــ عما كان عليه في القديم، فقد سقط جداره في زمن الوليد بن عبد الملك، ثم أُصلِح. 19 - باب الميت يُصَلَّى على قبره بعد حين 353/ 3093 - عن عقبة بن عامر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج يومًا فصلّى على أهل أُحُدٍ صلاته على الميت، ثم انصرف. 354/ 3094 - وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قتلى أُحُدٍ بعدَ ثمان سنين، كالمُودِّع للأحياء والأموات. _________ (1) «السنن الكبرى» (4/ 4). (2) في «المغني» (3/ 437). (3) «السنن الكبرى» (4/ 4).

(2/379)


وأخرجاه والنسائي (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وتبويب أبي داود وذِكرُه هذا الحديثَ يدل على أن ذلك لا يتقيد عنده بوقت، لا شهر ولا غيره. وقد روى سعيد بن المسيب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على أمِّ سعدٍ بعد موتها بشهر (2). وهذا مرسل صحيح. وصلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين، وصلى على غير واحد في القبر لِدُون الشهر، ولم يأت في التحديد نص. وصلاته على أم سعد بعد شهر لا ينفي الصلاة بعد أزيدَ منه. وكونُ الميت في الغالب لا يبقى أكثر من شهر لا معنى له، فإن هذا يختلف باختلاف الأرض، والعظامُ تبقى مدة طويلة، ولا تأثير لتمزُّق اللحوم. 20 - باب كراهية اتخاذ القبور مساجد (3) 355/ 3097 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قاتَل اللهُ اليهودَ اتَّخذُوا قبورَ أنبيائِهم مساجدَ». _________ (1) أبو داود (3224)، والبخاري (4042)، ومسلم (2296)، والنسائي (1954). (2) أخرجه الترمذي (1038)، وابن المنذر في «الأوسط» (5/ 452، 453)، والطبراني في «الكبير» (5378)، والبيهقي (4/ 48) من طرق عن قتادة، عن سعيد مرسلًا. (3) لا يوجد باب بهذه الترجمة في «السنن» ولا في «المختصر»، وإنما هناك: «باب البناء على القبر» وفيه ثلاثة أحاديث: روايتان لحديث جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يُقعد على القبر وأن يُقصَّص ويُبنى عليه، وحديث أبي هريرة الآتي. فإما أن المؤلف غيّر ترجمة الباب إلى ما ترى، أو أبقاه وزاد هذه الترجمة عند حديث أبي هريرة الآتي.

(2/380)


وأخرجاه والنسائي (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي «صحيح أبي حاتم بن حبان» (2) من حديث عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مِن شرار الناس مَن تدركهم الساعةُ وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد». وفي «صحيح مسلم» (3) عن جندب بن عبد الله البَجَلي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله عز وجل قد اتخذني خليلًا، كما اتخذ إبراهيم خليلًا. ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذتُ أبا بكرٍ خليلًا. وإن مَن كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ إني أنهاكم عن ذلك». وفي «الصحيحين» (4) عن عائشة: أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرَتا كنيسةً رأتاها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أولئكِ إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بَنَوا على قبره مسجدًا وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئكِ شرار الخلق عند الله يوم القيامة». وزاد البخاري (5): أن هذه _________ (1) أبو داود (3227)، والبخاري (437)، ومسلم (530)، والنسائي (2047). (2) رقم (6847)، وأخرجه أحمد (3844) وابن خزيمة (789) من الطريق نفسه، وإسناده حسن. وعلّقه البخاري في «صحيحه» (7067) بصيغة الجزم عن أبي عوانة، عن عاصم به، دون قوله: «ومن يتخذ القبور مساجد». (3) رقم (532). (4) البخاري (427)، ومسلم (528). (5) برقم (1341)، وورد في رواية لمسلم (528/ 17) أيضًا.

(2/381)


الكنيسة ذُكرت للنبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه. وفي «الصحيحين» (1) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يُتَّخذ مسجدًا. وفي «صحيح مسلم» (2) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». وفي «الصحيحين» (3) عن عائشة وابن عباس قالا: لما نُزِل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طَفِق يطرَح خميصةً له على وجهه، فإذا اغتمَّ كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، يحذِّر مثل ما صنعوا. وفي «صحيح أبي حاتم» (4) عن أبي صالح عن ابن عباس قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور، والمتّخذات عليها المساجد والسرج». قال أبو حاتم: أبو صالح هذا اسمه ميزان (5) ثقة، وليس بصاحب الكلبي، ذاك _________ (1) البخاري (1330، 1390، 4441)، ومسلم (529). (2) رقم (530). (3) البخاري (435)، ومسلم (531). (4) رقم (3179، 3180)، وأخرجه أحمد (2030)، وأبو داود (3236)، والترمذي (320)، والنسائي (2043)، والحاكم (1/ 374)، كلهم من طريق محمد بن جحادة، عن أبي صالح، عن ابن عباس. قال الترمذي: «حديث حسن»، وصححه ابن حبان، والحاكم. (5) في الأصل و (هـ) وط. الفقي: «مهران»، تصحيف.

(2/382)


اسمه باذام. وقال الإشبيلي (1): هو باذام صاحب الكلبي، وهو عندهم ضعيف جدًّا. وكان شيخنا أبو الحجاج المِزِّي يرجح هذا أيضًا (2). 21 - باب المشي في الحذاء بين القبور 356/ 3100 - عن بشير مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ــ وكان اسمه في الجاهلية: زَحْم بن مَعْبد، فهاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ما اسمك؟» فقال: زحم، قال: «بل أنت بشير» ــ قال: بينما أنا أُماشي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بقبورِ المشركين، فقال: «لقد سَبَقَ هؤلاء خيرًا كثيرًا» ــ ثلاثًا ــ ثم مَرَّ بقبور المسلمين، فقال: «لقد أدرك هؤلاء خيرًا كثيرًا». وحانت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظرةٌ، فإذا رجلٌ يمشي في القبور عليه نعلان، فقال: «يَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَين، وَيحَك! أَلْقِ سِبْتِيَّتَيك»، فنظر الرجل، فلما عرف رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خلعهما فرمى بهما. وأخرجه النسائي وابن ماجه (3). وبشير هذا هو: ابن الخَصاصيَّة، وهي أمه. _________ (1) «الأحكام الوسطى» (2/ 151). (2) كما نصّ عليه في «تحفة الأشراف» (4/ 368). وهذا الذي قاله عبد الحق الإشبيلي وأبو الحجاج المزي هو الذي نصّ عليه الإمام أحمد في «العلل» برواية عبد الله (5435)، والإمام مسلم في «كتاب التفصيل» حيث قال: «هذا الحديث ليس بثابت، وأبو صالح باذام قد اتقى الناس حديثه، ولا يثبت له سماع من ابن عباس». نقله ابن رجب في «الفتح» (2/ 403). (3) أبو داود (3230)، والنسائي (2048)، وابن ماجه (1568)، وكذلك أحمد (20784)، وابن حبان (3170)، والحاكم (1/ 373)، كلهم من طريق الأسود بن شيبان، عن خالد بن سُمَير، عن بَشِير بن نَهِيك، عن بشير ابن الخصاصيّة.

(2/383)


357/ 3101 - وعن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ العبد إذا وُضِعَ في قبره وتَوَلّى عنه أصحابُه إنَّه لَيَسْمَع قَرْعَ نِعالهم». وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد اختلف الناس في هذين الحديثين، فضعّفت طائفة حديث بشير. قال البيهقي (2): رواه جماعة عن الأسود بن شيبان، ولا يُعرَف إلا بهذا الإسناد، وقد ثبت عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فذكر هذا الحديث). وقال أحمد بن حنبل - رحمه الله - (3): حديث بشير إسناده جيد أذهب [ق 170] إليه، إلا من علة. قال المجوِّزون: يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى بنعليه قذرًا فأمره أن يخلعهما. ويحتمل أن يكون كره له المشي فيهما لِما فيه من الخيلاء، فإن النعال السِّبتية من زِيِّ أهل التنعُّم والرفاهية، كما قال عنترة (4): بطَلٍ كأن ثيابه في سَرْحَة ... يُحذى نعالَ السِّبْت ليس بتوأم وهذا ليس بشيء، ولا ذِكْر في الحديث لشيء من ذلك. ومن تدبر نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الجلوس على القبر، والاتكاء إليه، والوطء عليه= علم أن _________ (1) أبو داود (3231)، والبخاري (1338)، ومسلم (2870)، والنسائي (2049). (2) «السنن الكبرى» (4/ 80). (3) كما في «المغني» (3/ 514). (4) في «معلّقته». انظر: «ديوانه» (ص 212) و «شرح القصائد السبع الطوال» لابن الأنباري (ص 352).

(2/384)


النهي إنما كان احترامًا لسُكّانها أن يُوطأ بالنعال فوق رؤوسهم. ولهذا يُنهى عن التغوط بين القبور. وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الجلوس على الجمر حتى تُحرِق الثياب خير من الجلوس على القبر (1)، ومعلوم: أن هذا أخف من المشي بين القبور بالنعال. وبالجملة، فاحترام الميت في قبره بمنزلة احترامه في داره التي كان يسكنها في الدنيا، فإن القبر قد صار داره. وقد تقدم (2) قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كسرُ عظمِ الميت ككسره حيًّا»، فدل على أن احترامه في قبره كاحترامه في داره. والقبور هي ديار الموتى ومنازلهم ومحل تزاوُرِهم، وعليها تنزل الرحمة من ربهم والفضل على محسنهم، فهي منازل المرحومين ومَهبِط الرحمة، ويَلقَى بعضُهم بعضًا على أفنية قبورهم، يتجالسون ويتزاورون، كما تضافرت به الآثار. ومن تأمل «كتاب القبور» لابن أبي الدنيا رأى فيه آثارًا كثيرة في ذلك. فكيف يُستبعَد أن يكون من محاسن الشريعة إكرامُ هذه المنازل عن وطئها بالنعال واحترامها؟ بل هذا من تمام محاسنها، وشاهده ما ذكرناه من وطئها، والجلوس عليها والاتكاء عليها. وأما تضعيف حديث بشير، فممّا لم نعلم أحدًا طعن فيه، بل قد قال الإمام أحمد: إسناده جيد. وقال عبد الرحمن بن مهدي: كان عبد الله بن _________ (1) أخرجه مسلم (971) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) في «المختصر» (3078) وفي «السنن» (3207) من حديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعًا. وقد اختُلف في الحديث وقفًا ورفعًا، والذين وقفوه على عائشة أوثق وأكثر. انظر: «التاريخ الكبير» للبخاري (1/ 150)، و «العلل» للدارقطني (3756).

(2/385)


عثمان يقول فيه: حديث جيد ورجل ثقة (1). وأما معارضته بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنه ليَسمع قرعَ نعالهم»، فمعارضةٌ فاسدة، فإن هذا إخبار من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالواقع وهو سماع الميت قرع نعال الحي، وهذا لا يدل على الإذن في قرع القبور والمشي بينها بالنعال، إذ الإخبار عن وقوع الشيء لا يدل على جوازه ولا تحريمه ولا حُكْمه، فكيف يُعارَض النهيُ الصريح به؟ قال الخطابي (2): ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن توطأ القبور. وقد روى ابن ماجه في «سننه» (3) عن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَأن أمشي على جمرة أو سيف، أو أخصف نعلي برجلي أحب إلي من أن أمشي على قبر مسلم، وما أبالي أَوَسط القبر ــ كذا قال ــ _________ (1) أسنده ابن ماجه عقب الحديث عن محمد بن بشار، عن ابن مهدي به. وعبد الله بن عثمان هذا هو البصري، صاحب شعبة وصديقه، وأجلُّ من روى عنه وأضبطهم، ومات قبله. انظر: «تاريخ الإسلام» للذهبي (4/ 663)، و «تهذيب التهذيب» (5/ 317). (2) كما في «المغني» (3/ 515 - 516)، ولم أجد قوله في «الأعلام» و «المعالم». (3) رقم (1567)، وكذلك الذهبي في «السير» (9/ 138)، من طريقين عن عبد الرحمن المحاربي، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير به. قال الذهبي: إسناده صالح، وكذلك صحح إسناده البوصيري في «الزوائد». قلتُ: ولكن له علة، وهي أن المحاربي قد خولف في رفعه، خالفه شبابة فرواه عن الليث به موقوفًا على عقبة من قوله. أخرجه ابن أبي شيبة (11896). وفي الباب عن ابن مسعود وأبي بكرة موقوفًا: «لأن أطأ على جمرةٍ أحبّ إليّ من أن أطأ على قبر رجلٍ مسلم». أخرجهما ابن أبي شيبة (11893 - 11895).

(2/386)


قضيتُ حاجتي، أو وسط الطريق (1)». وعلى هذا، فلا فرق بين النعل والجُمْجُم (2) والمَداس والزَّرْبُول (3). وقال القاضي أبو يعلى (4): ذلك مختص بالنعال لا يتعدّاها إلى غيرها، قال: لأن الحكم تعبُّد غيرُ معلَّل، فلا يتعدّى موردَ النص. وفيما تقدم كفاية في رد هذا، وبالله التوفيق. 22 - باب في زيارة النساء القبور 358/ 3106 - عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: لعنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زائراتِ القبورِ والمتخذين عليها المساجدَ والسُّرُج. وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (5). وقال الترمذي: حديث حسن. وفيما قاله نظر، فإن أبا صالح هذا هو باذام، ويقال: باذان، مكي مولى أم هانئ بنت أبي طالب، وهو صاحب الكلبي. وقد قيل: إنه لم يسمع من ابن عباس، وقد تكلم فيه جماعة من الأئمة. _________ (1) كذا في الأصل، والذي في «السنن» و «المغني» ــ والمؤلف صادر عنه ــ: «وسط السوق». (2) هو المَداس، معرَّب. «التاج» (31/ 427). (3) بفتح الزاء وضمها: نوع من الأحذية كان الأرقاء يحتذونها، معرّب. «تكملة المعاجم العربية» لدُوزي (5/ 299). (4) كما في «المغني» (3/ 515). (5) أبو داود (3236)، والترمذي (320)، والنسائي (2043)، وابن ماجه (1575). وقد سبق الكلام على الحديث قريبًا.

(2/387)


وقال ابن عدي (1): ولم أعلم أحدًا من المتقدمين رضيه. وقد نَقَل (2) عن يحيى بن سعيد القطان وغيره تحسينَ أمره، فلعله يريد: رضيه حجةً، أو قال: هو ثقة. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد تقدم أن أبا حاتم (3) خالفه في ذلك وقال: أبو صالح هذا هو ميزان (4) ثقة، وليس بصاحب الكلبي، ذاك اسمه باذام. وقد أخرج الترمذي (5) من حديث عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن زوَّارات القبور. قال: هذا حديث حسن صحيح ــ وأخرجه ابن حبان في «صحيحه» (6) ــ، وفي الباب عن ابن عباس (7) وحسان. وحديث حسان بن ثابت قد أخرجه الإمام أحمد في «مسنده» (8). _________ (1) «الكامل» (2/ 71). (2) «الكامل» (2/ 69). (3) يعني: ابن حبان، في «صحيحه» عقب الحديث (3179). (4) في الأصل: «مهران» تصحيف، وقد سبق مثله. (5) رقم (1056)، وعمر بن أبي سلمة صدوق فيه لين، والحديث يعتضد بشواهده: حديث الباب، وحديث حسّان الآتي، ومرسل عكرمة عند عبد الرزاق (6704). (6) رقم (3178). (7) في الأصل: «عائشة»، ولعله تصحيف ما أثبته من «جامع الترمذي»، فإن الظاهر أن الكلام للترمذي وما ذكره من تصحيح ابن حبان فإنه كلام معترض. وحديث ابن عباس هو حديث الباب. (8) برقم (15657)، وأخرجه ابن ماجه (1574)، والحاكم (1/ 374)، والبيهقي (4/ 78)، كلهم من حديث سفيان، عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، عن عبد الرحمن بن بَهمان، عن عبد الرحمن بن حسّان، عن أبيه. إسناده ضعيف، عبد الرحمن بن بهمان مجهول الحال. والحديث يتقوى بشواهده كما سبق.

(2/388)


وروى ابن حبان في «صحيحه» (1) من حديث ربيعة بن سيف المَعافري، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو قال: قبَرْنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فلما فرغنا انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانصرفنا معه، فلما حاذى بابَه وتوسّط الطريق إذا نحن بامرأة مُقبِلة، فلما دنتْ إذا هي فاطمة، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أخرجكِ يا فاطمة من بيتِك؟» قالت: يا رسول الله [أتيتُ] (2) أهل هذا الميت فعَزَّينا ميّتهم، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فلعلّك بلغتِ معهم الكُدَى؟» قالت: معاذ الله، وقد سمعتُك تذكر فيها ما تذكر. قال: «لو بلغتِ معهم الكُدَى ما رأيتِ الجنة حتى يراها جدُّ أبيكِ!». فسألتُ ربيعة عن الكدى؟ فقال: القبور. قال أبو حاتم: يريد الجنة العالية التي يدخلها من لم يرتكب نهيَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأن فاطمة علمت النهيَ فيه قبل ذلك، والجنة هي جنان كثيرة، لا جنة واحدة، والمشرك لا يدخل الجنة أصلًا، لا عاليةً ولا سافلةً ولا ما بينهما. وقد طعن غيره في هذا الحديث، وقالوا: هو غير صحيح، لأن ربيعة [ق 171] بن سيف هذا ضعيف الحديث، عنده مناكير (3). _________ (1) برقم (3177)، وأخرجه أحمد (6574)، وأبو داود (3123)، والنسائي (1880)، والحاكم (1/ 373). (2) ساقط من الأصل، واستدركته من مصادر الحديث. (3) ممن ضعّف الحديث بربيعة: النسائي في «السنن»، وعبد الحق في «الأحكام الوسطى» (2/ 152)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 902). وربيعة هذا قال عنه البخاري في «التاريخ الكبير» (3/ 290): عنده مناكير، وقال في «الأوسط» (3/ 218): روى أحاديث لا يُتابع عليها، وقال في موضعٍ آخر (3/ 234): منكر الحديث.

(2/389)


وقد اختلف في زيارة القبور للنساء على ثلاثة أقوال: أحدها: التحريم، لهذه الأحاديث. والثاني: يكره من غير تحريم. وهذا منصوص أحمد في إحدى الروايات عنه (1). وحجة هذا القول: حديث أم عطية المتفق عليه (2): «نُهِينا عن اتباع الجنائز، ولم يُعزَم علينا». وهذا يدل على أن النهي عنه للكراهة لا للتحريم. والثالث: أنه مباح لهن غير مكروه، وهو الرواية الأخرى عن أحمد. واحتج لهذا القول بوجوه: أحدها: ما رواه (3) مسلم في «صحيحه» (4) من حديث بريدة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها». وفيه أيضًا (5) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «زوروا القبور فإنها تذكر الموت». قالوا: وهذا الخطاب يتناول النساء بعمومه بل هن المراد به، فإنه إنما _________ (1) انظر: «المغني» (3/ 523). (2) البخاري (1278)، ومسلم (938). (3) في الطبعتين: «روى» خلافًا للأصل. (4) برقم (977). (5) برقم (976).

(2/390)


علم نهيه عن زيارتها للنساء دون الرجال، وهذا صريح في النسخ، لأنه قد صرح فيه بتقدم النهي، ولا ريب في أن المنهي عن زيارة القبور هو المأذون له فيها، والنساء قد نُهِين عنها فيتناولهن الإذن. قالوا: وأيضًا فقد قال عبد الله بن أبي مُلَيكة لعائشة يا أم المؤمنين مِن أين أقبلتِ؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن، فقلت لها: قد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، قد نهى ثم أمر بزيارتها. رواه البيهقي (1) من حديث يزيد بن زُرَيع، عن بِسطام بن مُسْلم، عن أبي التَّيّاح عن ابن أبي مُلَيكة. [وروى الترمذي (2) عن ابن أبي مليكة] (3) قال: توفي عبد الرحمن بن أبي بكر بِحُبْشيّ، فحمل إلى مكة فدفن، فلما قدمت عائشة أتت قبر عبد الرحمن، فقالت (4): وكنا كنَدْمانَي جَذِيمةَ حِقبةً ... من الدهر حتى قيل لن يتصدَّعا فلما تفرقنا كأنّي ومالكًا ... لطول اجتماع لم نَبِت ليلةً معا _________ (1) «السنن الكبرى» (4/ 78) عن أبي عبد الله الحاكم، وهو في «مستدركه» (1/ 376). قال البيهقي: تفرّد به بسطام. قلت: هو ثقة، وسائر رجاله ثقات. (2) «الجامع» (1055)، وأخرجه ابن سعد في «الطبقات» (5/ 22)، وابن أبي شيبة (11933)، والحاكم (3/ 476)، من طريقين عن ابن أبي مليكة، ورجالهما ثقات. (3) الظاهر أنه حصل انتقال النظر في الأصل من «ابن أبي مليكة» إلى مثله فسقط ما بين الحاصرتين أو نحوه. (4) متمثّلةً، والبيتان من قصيدة لمتمِّم بن نُوَيرة يرثي بها أخاه مالكًا. انظر: «المفضّليات» (ص 267).

(2/391)


ثم قالت: والله لو حضرتك، ما دُفِنتَ إلا حيث متَّ، ولو شهدتُك ما زرتُك. قالوا: وأيضًا فقد ثبت في «الصحيحين» (1) من حديث أنس قال: مَرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأةٍ عند قبر تبكي على صبي لها، فقال لها: «اتقي الله واصبري»، فقالت: وما تبالي بمصيبتي؟! فلما ذهب (2) قيل لها: إنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذها مثل الموت، فأتت بابه، فلم تجد على بابه بوابين، فقالت: يا رسول الله لم أَعرِفْك، فقال: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى». وترجم عليه البخاري: «باب زيارة القبور». قالوا: ولأن تعليله زيارتَها بتذكير الآخرة أمر يشترك فيه الرجال والنساء، وليس الرجال بأحوج إليه منهن. قال الأولون: أحاديث التحريم صريحة في معناها، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن النساء على الزيارة، واللعن على الفعل من أدل الدلائل على تحريمه، ولا سيما وقد قرنه في اللعن بالمتخذين عليها المساجد والسرج، وهذا غير منسوخ، بل لعن في مرض موته مَن فعله، كما تقدم. قالوا: وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كنت نهيتكم» إنما هو صيغة خطاب الذكور، والإناثُ وإن دخلن فيه تغليبًا، فهذا حيث لا يكون دليل صريح يقتضي عدم دخولهن، وأحاديث التحريم من أظهر القرائن على عدم دخولهن في خطاب الذكور. _________ (1) البخاري (1283)، ومسلم (926). (2) في الأصل: «ذهبت»، تصحيف.

(2/392)


قالوا: وأما قولكم: إن النهي إنما كان للنساء خاصة، فغير صحيح، لأن قوله: «كنت نهيتكم» خطاب للذكور أصلًا ووضعًا، فلا بد وأن يتناولهم. ولو كان النهي إنما كان للنساء خاصةً لقال: «كنت نهيتكن» ولم يقل «نهيتكم». بل كان في أول الإسلام قد نهى عن زيارة القبور صيانةً لجانب التوحيد، وقطعًا للتعلق بالأموات، وسدًّا لذريعة الشرك التي أصلها من عبادة القبور، كما قال ابن عباس (1). فلما تمكّن التوحيد من قلوبهم واضمحلّ الشرك واستقر الدين أَذِن في زيارةٍ يحصل بها مزيدُ الإيمان وتذكيرُ ما خُلِق العبد له من دار البقاء، فأذِن حينئذ فيها، فكان نهيه عنها للمصلحة وإذنُه فيها للمصلحة. وأما النساء، فإن هذه المصلحة وإن كانت مطلوبة منهن، لكن ما يقارن زيارتهن من المفاسد التي يعلمها الخاص والعام من فتنة الأحياء وإيذاء _________ (1) يشير إلى أثر ابن عباس المشهور الذي أخرجه البخاري (4920) وغيره أن أوثان قوم نوح إنما كانت أسماء رجال صالحين، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم أنصابًا وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسّخ العلم عُبِدت. وليس في أثر ابن عباس ذكر لقبور هؤلاء الصالحين وافتتان قومهم بها، كما يوهمه ظاهر كلام المؤلف، ولعله تبع في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه عندما يورد تفسير ابن عباس وغيره من السلف لآية سورة نوح يقول: «فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم». انظر: «مجموع الفتاوى» (1/ 151، 167، 357، 11/ 292). وعلى كلّ، فلا شك أن افتتان المشركين القبوريين بأضرحة الصالحين هو مثل افتتان قوم نوح بتماثيل الصالحين سواءً بسواء.

(2/393)


الأموات والفساد الذي لا سبيل إلى دفعه إلا بمنعهن منها= أعظم مفسدة من مصلحة يسيرة تحصل لهن بالزيارة. والشريعة مبناها على تحريم الفعل إذا كانت مفسدتُه أرجحَ من مصلحته، ورجحان هذه المفسدة لا خفاء به، فمنعهن من الزيارة من محاسن الشرع. وقد روى البيهقي وغيره (1) من حديث محمد ابن الحنفية عن علي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج في جنازة فرأى نسوةً جلوسًا فقال: «ما يجلسكن؟» فقلن: الجنازة فقال: «أتَحمِلن فيمن يحمل؟» قلن: لا، قال: «فتُدلين فيمن يُدلي؟» قلن: لا، قال: «فتغسلن فيمن يغسل؟» قلن: لا، قال: «فارجِعْن مأزوراتٍ غير مأجورات». وفي رواية: «فتَحْثِين فيمن يَحْثُو؟» ولم يذكر الغسل. فهذا يدل على أن اتباعهن الجنازة وِزرٌ لا أجرَ لهن فيه، إذ لا مصلحةَ لهن، ولا للميت في اتباعها، [ق 172] بل مفسدة للحي والميت. قالوا: وأما حديث عائشة، فالمحفوظ فيه حديث الترمذي مع ما فيه. وعائشة إنما قدمت مكة للحج، فمرَّت على قبر أخيها في طريقها فوقفت عليه. وهذا لا بأس به، إنما الكلام في قصد الخروج لزيارتهن. ولو قُدِّر أنها _________ (1) البيهقي (4/ 77)، وابن ماجه (1578)، والبزار (653)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (3/ 901)، كلهم من طريق إسرائيل، عن إسماعيل بن سلمان، عن دينار أبي عمر، عن ابن الحنفية به. إسناده ضعيف، إسماعيل بن سلمان ضعيف واهي الحديث، وقد تفرد به من هذا الوجه، وقد أغرب ابن الجوزي حيث قال: جيّد الإسناد! وروي نحوه من مسند أنس لكنه لا يثبت أيضًا. انظر: «العلل» للدارقطني (2635)، و «العلل المتناهية»، و «السلسلة الضعيفة» (2742).

(2/394)


عدلت إليه وقصدت زيارته، فهي قد قالت: «لو شهدتُك لما زرتك»، وهذا يدل على أنه من المستقر المعلوم عندها: أن النساء لا يُشرَع لهن زيارة القبور، وإلا لم يكن في قولها ذلك معنى. وأما رواية البيهقي وقولها: «نهى عنها ثم أمر بزيارتها»، فهي من رواية بِسطام بن مسلم ... (1). ولو صح فهي تأولت ما تأول غيرها من دخول النساء، والحجة في قول المعصوم لا في تأويل الراوي، وتأويله إنما يكون مقبولًا حيث لا يعارضه ما هو أقوى منه، وهذا قد عارضه أحاديث المنع. قالوا: وأما حديث أنس فهو حجة لنا، فإنه لم يُقِرَّها بل أمرها بتقوى الله التي هي فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، ومن جملتها: النهي عن الزيارة، وقال لها: «اصبري»، ومعلوم أن مجيئها إلى القبر وبكاءَها منافٍ للصبر، فلما أبت أن تقبل منه ولم تعرفه انصرف عنها، فلما علمت أنه - صلى الله عليه وسلم - هو الآمر لها جاءته تعتذر إليه من مخالفة أمره. فأي دليل في هذا على جواز زيارة النساء؟ وبعدُ، فلا يُعلَم أن هذه القضية بعدَ لعنته زائراتِ القبور، ونحن نقول: إما أن تكون دالةً على الجواز فلا دلالة على تأخُّرها عن أحاديث المنع، أو تكون دالةً على المنع بأمرها بتقوى الله فلا دلالة فيها على الجواز، فعلى التقديرين: لا تُعارِض أحاديثَ المنع، ولا يمكن دعوى نسخها بها، والله أعلم. _________ (1) بياض قدر نصف سطر في الأصل.

(2/395)


وأما قول أم عطية: «نهينا عن اتباع الجنائز»، فهو حجة للمنع، وقولُها: «ولم يُعزَم علينا» إنما نفت فيه وصفَ النهي، وهو النهي المؤكَّد بالعزيمة، وليس ذلك شرطًا في اقتضاء التحريم، بل مجرد النهي كافٍ، ولمّا نهاهن انتهَين لطَواعِيَتهن لله ولرسوله، فاستغنَين عن العزيمة، وأم عطية لم تشهد العزيمة في ذلك النهي، وقد دلت أحاديث لعنة الزائرات على العزيمة، فهي مُثبتة للعزيمة فيجب تقديمها، وبالله التوفيق. 23 - باب المُحرِم يموت كيف يُصنع به؟ 359/ 3108 - عن ابن عباس قال: أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل وقَصَتْه راحلته فمات وهو محرم، فقال: «كفِّنُوه في ثوبَيه واغسِلُوه بماءٍ وسدر، ولا تُخمّروا رأسَه، فإن الله يبعثه يوم القيامة يُلَبِّي». وأخرجه الباقون (1). 360/ 3109 - وفي رواية: «في ثوبين». 361/ 3110 - وفي رواية: «ولا تحنِّطوه» (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: [وفي روايةٍ لمسلم (3): «ولا تخمِّروا وجهه ولا _________ (1) أبو داود (3238)، والبخاري (1851)، ومسلم (1206)، والترمذي (951)، والنسائي (2853)، وابن ماجه (3084). (2) «سنن أبي داود» (3239)، وورد اللفظان أيضًا في روايةٍ عند البخاري (1265)، والنسائي (2855). (3) رقم (1206/ 98)، وزيادة «وجهه» ليست في أكثر الطرق، وهي غير محفوظة. انظر: «سنن البيهقي» (3/ 390 - 393).

(2/396)


رأسه»، وفي رواية له (1): «ولا تغطُّوا وجهه»، وفي رواية (2): «فإنه يُبعث وهو يُهِلُّ»] (3). قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: في هذا الحديث خمس سنن: «كفنوه في ثوبيه» أي: يكفن الميتُ في ثوبين، و «اغسلوه بماء وسدر» أي: في الغَسَلات كلها سدر، «ولا تخمروا رأسه»، «ولا تقربوه طيبًا»، والكفن من جميع المال. قال ابن القيم - رحمه الله -: وفتح الإمام أحمد لمن بعدَه خمس سنن أخرى: إحداها: أن المحرم لا يُمنع من الغسل بالسدر. الثانية: أن الإحرام لا ينقطع بالموت، خلافًا لمن قال: يبطل إحرامه، فاستغنى الإمام أحمد عن ذكر هذه بقوله: «ولا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبًا»، فإن هذا يدل على أمرين، أحدهما: منع المحرم من ذلك، والثاني: أن المحرم الميت يُجنَّب ما يُجنَّبه المحرم الحي. الثالثة: أن المحرم ممنوع من تغطية وجهه، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد (4). الرابعة: أن الماء المتغيّر بالطاهرات لا تزول طهوريَّتُه، لأنه أمر بغسله بماءٍ وسدر، ولم يخصّ غسلةً من غسلة. _________ (1) رقم (1206/ 103). (2) رقم (1206/ 102). (3) ما بين الحاصرتين من (هـ)، ولم ينقله المجرد. (4) انظر: «شرح العمدة» لشيخ الإسلام (4/ 491 - 493).

(2/397)


الخامسة: كما يدل على أن الكفن من جميع المال لا من الثلث لعدم استفصاله، فهو دال على أنه مقدّم على الدَّين أيضًا لعدم الاستفصال، وهذا كما يُقدَّم ما يستره في حياته على حق الغرماء، كذلك ما يستره في مماته، والله أعلم. * * *

(2/398)


 كتاب الأيمان والنذور

1 - باب لغو اليمين 362/ 3125 - عن عطاء ــ وهو ابن أبي رباح ــ: اللَّغْوُ في اليمين، قال: قالت عائشة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «هو كلام الرجل في بيته: كلَّا والله، وبلى والله» (1). وذكر أن غير واحد رواه عن عطاء عن عائشة موقوفًا. قال ابن القيم - رحمه الله -: الصواب في هذا أنه قول عائشة، كذلك رواه الناس (2)، وهو في «صحيح البخاري» (3) عن عائشة قولُها. ورواه ابن حبان في «صحيحه» (4) عن عائشة مرفوعًا. _________ (1) «سنن أبي داود» (3254) من طريق حسّان بن إبراهيم الكرماني، عن إبراهيم الصائغ، عن عطاء به. حسّان بن إبراهيم ليس بالقوي، وقد خولف في رفعه كما ذكر أبو داود عقب الحديث، خالفه داود بن أبي الفرات ــ وهو أوثق منه ــ فرواه عن إبراهيم الصائغ به موقوفًا، وكذلك رواه غير واحد عن عطاء عن عائشة موقوفًا، وهو الصواب. (2) انظر: «تفسير الطبري» (4/ 14 - 18) فإنه أخرجه من أكثر من خمسة عشر طريقًا، وكلها موقوفة عدا طريق حسّان بن إبراهيم التي منها أخرجه أبو داود. وانظر: «العلل» للدارقطني (3486). (3) برقم (4613). (4) برقم (4333)، من طريق حسّان بن إبراهيم به.

(2/399)


2 - باب الاستثناء في اليمين 363/ 3129 - عن نافع، عن ابن عمر يَبلُغ به النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يمين فقال: إن شاء الله، فقد استثنَى». وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (1)، وقال الترمذي: حديث حسن. قال ابن القيم - رحمه الله -: ولفظ النسائي (2): «فله ثُنْياه». وفي لفظ له (3): «فهو بالخيار: إن شاء مضى وإن شاء ترك». ولفظ الترمذي: «فلا حِنْث عليه». ولفظ ابن ماجه: «إن شاء رجع، وإن شاء ترك غيرَ حانثٍ». قال الترمذي: وقد رواه عبيد الله بن عمر وغيره، عن نافع، عن ابن عمر موقوفًا. وهكذا روى سالم (4) عن ابن عمر موقوفًا، ولا نعلم أحدًا رفعه غيرَ أيوب السَّخْتِياني. وقال إسماعيل بن إبراهيم: كان أيوب أحيانًا يرفعه، وأحيانًا كان لا يرفعه. وروى عبد الرزاق (5) عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حلف على يمين فقال: إن شاء الله لم يحنَث». رواه الترمذي. _________ (1) أبو داود (3261)، والترمذي (1531)، والنسائي في «الكبرى» (4752)، و «المجتبى» (3829)، وابن ماجه (2105)، كلهم من طريق أيوب، عن نافع به. (2) في «الكبرى» (4751). (3) «الكبرى» (4753)، و «المجتبى» (3830). (4) في الأصل: «مسلم» خطأ، والتصحيح من «جامع الترمذي». (5) في «المصنف» (16118)، ومن طريقه الترمذي (1532).

(2/400)


وهذا الإسناد متفق على الاحتجاج به إلا أن الحديث معلول، قال الترمذي (1): سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث؟ فقال: هذا حديث خطأ، أخطأ فيه عبد الرزاق، اختصره من حديث معمر عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أن سليمان بن داود قال: لأطوفن الليلة على سبعين (2) [ق 173] امرأةً ... » الحديث، وفيه: «لو قال إن شاء الله كان كما قال». 3 - باب اليمين في قطيعة الرحم 364/ 3143 - عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب: أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدُهما صاحبَه القِسمةَ، فقال: إن عُدْتَ تسألني القسمةَ فكلُّ مالٍ لي في رِتاج الكعبة، فقال له عمر: إن الكعبة غَنيةٌ عن مالك، كَفِّرْ عن يمينك وكَلِّم أخاك، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يَمِينَ عليك، ولا نذر في معصية الربِّ، وفي قطيعة الرحم، وفيما لا تملك» (3). سعيد بن المسيب لم يصحَّ سماعه من عمر، فهو منقطع. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال الإمام أحمد وغيره من الأئمة: سعيد بن المسيب عن عمر عندنا حجة. قال أحمد: إذا لم نقبل سعيدًا عن عمر فمن نقبل؟ قد رأى عمر وسمع منه، ذكره ابن أبي حاتم (4). _________ (1) في «الجامع» عقب الحديث السابق، ونحوه في «العلل الكبير» (ص 253). (2) ط. الفقي: «تسعين»، وهو أقرب إلى رسم الأصل، والمثبت موافق لمصدر التخريج. (3) «سنن أبي داود» (3272). وصححه ابن حبان (4355)، والحاكم (4/ 300). (4) «الجرح والتعديل» (4/ 61).

(2/401)


فليس روايته عنه منقطعة على ما ذكره أحمد (1). ولو كانت منقطعة، فهذا الانقطاع غير مؤثرٍ عند الأئمة، فإن سعيدًا أعلم الخلق بأقضية عمر، وكان ابنه عبد الله يسأل سعيدًا عنها (2). وسعيد بن المسيب إذا أرسل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قُبِل مرسَلُه، فكيف إذا روى عن عمر! (3) 365/ 3145 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا نذْرَ ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم، ولا في معصية الله، ولا في قطيعة رحم، ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فَلْيَدَعْها وليأتِ الذي هو خير، فإنَّ تركَها كفَارتُها». وأخرجه النسائي (4). وقد تقدم الكلام على اختلاف الأئمة في الاحتجاج بحديث عمرو بن شعيب. _________ (1) مقتضى كلام أحمد أنه ثبتت رؤيته لعمر وسماعه منه في الجملة، فإنه قد ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر، وقد صحّ عنه أنه سمع عمر يخطب على المنبر، كما في «الطبقات» لابن سعد (7/ 120)، ومع ذلك فجلّ ما يرويه عن عمر لم يسمعه منه لأنه كان ابن ثمان سنين حين توفي عمر، إلا أنه لصحة مراسيله عن عمر أدخلها الأئمة في المسند على المجاز، كما قال أبو حاتم في «المراسيل» (ص 71). (2) أسند أبو بكر ابن أبي خيثمة في «تاريخه» (2/ 111، 112 - السِّفْر الثالث) عن الإمام مالك قال: كان يقال لسعيد بن المسيب: «راوية عمر»، وكان يتبع أقضيته يتعلّمها، وإن كان عبد الله بن عمر ليرسل إلى ابن المسيب يسأله عن القضاء من أقضية عمر. (3) سيأتي في كتاب الأدب (3/ 384) كلام للمؤلف على هذه المسألة بأوسع مما هنا. (4) أبو داود (3274)، والنسائي (3792).

(2/402)


وذكر أبو بكر البيهقي (1) أن حديث عمرو هذا لم يثبت، وحديث أبي هريرة: «فليأت الذي هو خير، فهو كفارته» لم يثبت. قال أبو داود: الأحاديث كلها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وليكفر عن يمينه» إلا ما لا يُعبأ به. قال ابن القيم - رحمه الله -: وأخرج ابن ماجه (2) منه: «من حلف على يمينٍ فرأى غيرَها خيرًا منها فليتركها، فإنّ تركَها كفارتُها»، وترجم عليه: من قال تَرْكها كفارتها. 4 - النذر في المعصية 366/ 3158 - عن القاسم، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه». وأخرجوه سوى مسلم (3). 367/ 3159 - وعن الزهري، عن أبي سلمة ــ وهو ابن عبد الرحمن ــ، عن عائشة - رضي الله عنها -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا نَذْرَ في معصيةٍ، وكفَّارتُه كفَّارةُ يمين». وأخرجه ابن ماجه والترمذي (4)، وقال: هذا حديث لا يصحّ، لأن الزهري لم يسمعه من أبي سلمة. _________ (1) في «السنن الكبرى» (10/ 33 - 34) و «معرفة السنن» (14/ 160). (2) برقم (2111)، وفي إسناده عَون بن عُمارة، وهو ضعيف منكر الحديث. (3) أبو داود (3289)، والبخاري (6696)، والترمذي (1526)، والنسائي (3806)، وابن ماجه (2126). (4) أبو داود (3290)، وابن ماجه (2125)، والترمذي (1524). وأخرجه النسائي (3834 - 3838) أيضًا.

(2/403)


وقال غيره: لم يسمعه من أبي سلمة، إنما سمعه من سليمان بن أرقم، وهو متروك. 368/ 3160 - وعن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عنها - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا نذرَ في معصيةٍ، وكفَّارتُه كفارةُ يمينٍ». وأخرجه الترمذي (1). وفيه سليمان بن أرقم، وقال الإمام أحمد: ليس بشيء، لا يُروى عنه الحديث. وقال ابن معين: ليس بشيء (2)، لا يساوي فلسًا. وقال البخاري: تركوه. وتكلم فيه عمرو بن علي، والسَّعدي، وأبو داود، وأبو زرعة، وابن حبان، والدارقطني (3). وقال الخطابي (4): لو صحّ هذا الحديث لكان القول به واجبًا، والمصير إليه _________ (1) أبو داود (3292)، والترمذي (1525)، وأخرجه النسائي (3839) أيضًا؛ كلهم من طريق محمد بن أبي عتيق وموسى بن عقبة، عن الزهري، عن سليمان بن أرقم، عن يحيى بن أبي كثير به. قال أبو داود: قال أحمد بن محمد المرُّوذي: «إنما الحديث حديث علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن الزبير، عن أبيه، عن عمران بن حصين، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -»، أراد أن سليمان بن أرقم وهم فيه، وحمله عنه الزهري وأرسله عن أبي سلمة عن عائشة رحمها الله. وقال الترمذي: هذا حديث غريب. وقال النسائي: سليمان بن أرقم متروك الحديث، خالفه غير واحدٍ من أصحاب يحيى بن أبي كثير في هذا الحديث. (2) من قوله: «لا يُروى عنه» إلى هنا ساقط من (هـ) لانتقال النظر. (3) انظر: «الجرح والتعديل» (4/ 100)، و «تهذيب التهذيب» (4/ 168). (4) «معالم السنن» (4/ 372).

(2/404)


لازمًا، إلا أن أهل المعرفة بالحديث زعموا أنه حديث مقلوب، وهِم فيه سليمان بن أرقم، فرواه عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عائشة، فحمله عنه الزهري وأرسله عن أبي سلمة، ولم يذكر فيه سليمان بن أرقم ولا يحيى بن أبي كثير ــ وساق الشاهد على ذلك ــ (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال البيهقي (2): هذا حديث لم يسمعه الزهري من أبي سلمة، إنما سمعه من سليمان بن أرقم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، كذلك رواه محمد بن أبي عتيق وموسى بن عقبة، عن الزهري. وسليمان بن أرقم متروك، والحديث عند غيره عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن الزبير الحنظلي، عن أبيه، عن عمران بن حصين، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (3). كذلك رواه علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير (4). وبمعناه رواه الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير، إلا أنَّ في حديث الأوزاعي: «لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين» (5). _________ (1) كلام المنذري على أحاديث الباب مثبت من (هـ)، وفيه تصرُّف يسير من المؤلف. (2) «وقال البيهقي» ساقط من ط. الفقي، والنقل من «معرفة السنن» (14/ 199 - 201). (3) هذا هو المحفوظ في إسناد الحديث، والإسناد الآخر عن عائشة خطأ ووهم من سليمان بن أرقم. وهذا الإسناد عن عمران أيضًا ضعيف جدًّا، فإن مداره على محمد بن الزبير الحنظلي، وهو ضعيف منكر الحديث. وبه ضعَّفه الحاكم (4/ 305)، والبيهقي كما سيأتي، وابن عبد البر في «التمهيد» (6/ 96). (4) أخرجه النسائي (3840). (5) أخرجه البيهقي في «الكبرى» (10/ 70) بهذا اللفظ، وأخرجه النسائي (3841) بلفظ: «لا نذر في معصية ... ».

(2/405)


وكذلك رواه حماد بن زيد عن محمد بن الزبير (1). ورواه ابن أبي عروبة عن محمد بن الزبير وقال: «لا نذر في معصية الله» (2). ورواه عبد الوارث بن سعيد عن محمد بن الزبير عن أبيه أن رجلًا حدّثه أنه سأل عمران بن حصين عن رجلٍ حلف أنه لا يصلي في مسجد قومه، فقال عمران: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين» (3). وفي هذا دلالة على أن أباه لم يسمعه من عمران. ورواه محمد بن إسحاق عن محمد بن الزبير، عن رجلٍ صحبه، عن عمران (4). ورواه الثوري عن محمد بن الزبير، عن الحسن، عن عمران إلا أنه قال: «لا نذر في معصية أو في غضب» (5). قال: فهذا حديث مختلف في إسناده ومتنه كما ذكرنا، ولا تقوم الحجة بأمثال ذلك. وقد روينا عن محمد بن إسماعيل البخاري (6) أنه قال: محمد بن الزبير الحنظلي منكر الحديث وفيه نظر. _________ (1) أخرجه النسائي (3844)، والبيهقي (10/ 70). (2) أخرجه البيهقي (10/ 70). (3) أخرجه أحمد (19955)، والنسائي (3846)، والبيهقي (10/ 70) واللفظ له. (4) أخرجه البيهقي (10/ 70) هكذا. وأخرجه النسائي (3845) والطبراني في «الكبير» (18/ 201) بزيادة: «عن أبيه» بين محمد بن الزبير والرجل المبهم. (5) أخرجه أحمد (19985)، والنسائي (3847)، والبيهقي (10/ 70). (6) أسنده البيهقي عنه في «السنن الكبرى» (10/ 71)، من طريق ابن عدي في «الكامل» (6/ 203). وهو مجموع من قول البخاري في كتابه «الضعفاء» (ص 120)، و «التاريخ الكبير» (1/ 86).

(2/406)


قال البيهقي: وإنما الحديث فيه عن الحسن عن هيَّاج بن عمران البُرْجُمي، أن غلامًا لأبيه (1) أبق، فجعل لله عليه لئن قدر عليه ليقطعنَّ يده، فلما قَدَر عليه بعثني إلى عمران بن حصين فسألته؟ فقال: إني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يحث في خطبته على الصدقة وينهى عن المُثلة. فقل لأبيك: فليكفِّرْ عن يمينه، وليتجاوز عن غلامه. قال: وبعثني إلى سمرة، فقال مثل ذلك (2). وهذا أصح ما روي فيه عن عمران. واختلف في اسم الذي رواه عنه (3) الحسنُ، فقيل هكذا، وقيل: حيّان بن عمران البرجمي. والأمر بالتكفير فيه موقوف على عمران وسمرة. والذي روي عن ابن عباس مرفوعًا: «من نذر نذرًا في معصية الله فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا لم يُطِقْه فكفارته كفارة يمين» (4) _________ (1) في الأصل و (هـ) وط. الفقي: «لابنه» هنا، و «لابنك» فيما سيأتي، وهو تصحيف. (2) أخرجه أحمد (19846)، وأبو داود (2667)، وابن حبان (4473) دون ذكر الهيّاج، والبيهقي في «الكبرى» (10/ 71 - 72). قال الحافظ في «الفتح» (7/ 459): إسناده قوي. (3) في الأصل و (هـ) وط. الفقي: «عن»، خطأ يفسد المعنى. (4) أخرجه أبو داود (3322)، وابن ماجه (2128)، والطبراني في «الكبير» (11/ 412)، والبيهقي (10/ 72)، من طرقٍ فيها ضعف، عن بكير بن الأشج، عن كريب، عن ابن عباس مرفوعًا. وقد أعلّه أبو داود بالوقف، وكذا الحافظان الرازيان وقالا: الموقوف الصحيح، كما في «العلل» (1326). والموقوف أخرجه ابن أبي شيبة (12313) عن وكيع، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن بكير به، وإسناده جيّد.

(2/407)


لم يثبت رفعه، والله أعلم (1). قال الموجبون للكفارة في نذر المعصية ــ وهم أحمد وإسحاق والثوري وأبو حنيفة وأصحابه (2) ــ: هذه الآثار قد تعددت طرقها، ورواتها ثقات. وحديث عائشة احتج به الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه (3). وإن كان الزهري لم يسمعه من أبي سلمة، فإن له شواهد تقويه؛ رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى عائشة: جابر (4)، وعمران بن حصين، وعبد الله بن عمر (5)، قاله الترمذي (6). وفيه حديث ابن عباس رفعه (7): «من نذر نذرًا في معصية، فكفارته كفارة يمين» رواه أبو داود (8). _________ (1) هنا انتهى النقل الطويل لكلام البيهقي من «معرفة السنن». (2) انظر: «مسائل أحمد وإسحاق» رواية الكوسج (1/ 625 - 626)، و «الموطأ» برواية محمد بن الحسن (751)، و «المبسوط» (8/ 142)، و «المغني» (13/ 624). (3) كما في «المسائل» برواية الكوسج. (4) أخرجه عبد الرزاق (15823، 15839، 15840)، وابن أبي شيبة (12275، 12289) عن جابر موقوفًا عليه. (5) أخرجه البيهقي (10/ 74) عن ابن عمر موقوفًا عليه، وضعَّفه بقوله: «هذا منقطع»، وذلك لأن في إسناده راويين مُبهمَين. (6) عقب الحديث (1524). (7) (هـ): «يرفعه». (8) سبق تخريجه، وبيان أن الصواب فيه الوقف.

(2/408)


ورواه ابن الجارود في «مسنده» (1)، ولفظه: عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «النذر نذران: فما كان لله فكفارته الوفاء به، وما كان للشيطان فلا وفاء فيه، وعليه كفارة يمين». وروى أبو إسحاق الجوزجاني حديث عمران بن حصين في كتابه «المترجم» (2) وقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «النذر نذران فما كان من نذر في طاعة الله فذلك لله وفيه الوفاء، وما كان من نذر في معصية الله فلا وفاء فيه، ويُكفِّره ما يكفّر اليمين». وروى الطحاوي (3) بإسناد صحيح عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه، وليُكفِّرْ عن يمينه»، وهو _________ (1) «المنتقى» لابن جارود (935) ــ وعنه البيهقي (10/ 72) ــ من طريق محمد بن موسى بن أعين، عن خطاب بن القاسم، عن عبد الكريم الجزري، عن عطاء، عن ابن عباس. رواته ثقات من رجال البخاري، إلا خطّاب بن القاسم، قال عنه أحمد: لا بأس به، ووثَّقه ابن معين، وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، وقال أبو زرعة في رواية ابن أبي حاتم: ثقة، ولكن قال في رواية البرذعي: «منكر الحديث، يقال: إنه اختلط قبل موته»، ولذا ففي صحّته مرفوعًا نظر، لاسيما وقد صحَّ مثله عن ابن عباس من طريق آخر موقوفًا عليه. أخرجه ابن أبي شيبة (12544). (2) هو كتاب شرح فيه الجوزجاني مسائل إسماعيل بن سعيد الشالنجي عن الإمام أحمد. والمؤلف صادر عن «المغني» (13/ 625). والحديث قد سبق الكلام عليه، وهو بهذا اللفظ عند النسائي (3845) أيضًا. (3) «شرح مشكل الآثار» (1514، 2144) من طريق عبد الرحمن بن مجبَّر، عن القاسم بن محمد، عن عائشة. رجاله ثقات، إلا أن قوله: «يكفر عن يمينه» مشكوك في رفعه، ولعله من قول القاسم. انظر: «بيان الوهم» (2/ 288 - 289).

(2/409)


عند البخاري (1) إلا ذكر الكفارة. قال الإشبيلي (2): وهذا أصح إسنادًا وأحسن من حديث أبي داود» ــ يعني حديث [ق 174] الزهري عن أبي سلمة المتقدم. وفي «مصنف عبد الرزاق» (3): عن يحيى بن أبي كثير، عن رجل من بني حنيفة، وعن أبي سلمة كلاهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا (4): «لا نذر في غضب ولا في معصية الله، وكفارته كفارة يمين». قالوا: وقد روى مسلم في «صحيحه» (5) من حديث عقبة بن عامر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كفارة النذر كفارة اليمين». وهذا يتناول نذر المعصية من وجهين: أحدهما: أنه عام لم يَخُصَّ منه نذرًا دون نذر (6). _________ (1) برقم (6696) من طريق طلحة بن عبد الملك، عن القاسم، عن عائشة. (2) «الأحكام الوسطى» (4/ 38). (3) برقم (15815). قوله: «رجل من بني حنيفة» هكذا قال معمر عن يحيى، واستظهر الحاكم في «المستدرك» ــ كما في «البدر المنير» (9/ 495) ــ أنه هو محمد بن الزبير الحنظلي (وهو منكر الحديث كما سبق)، وأن معمرًا أراد أن يقول: مِن بني حنظلة، فأخطأ وقال: من بني حنيفة. وأما رواية يحيى عن أبي سلمة، فرواها عبد الرزاق عن ابن جريج قال: حُدِّثتُ عن يحيى ... إلخ. (4) في الأصل: «مرسل»، والمثبت من الطبعتين. (5) برقم (1645). (6) «دون نذر» من (هـ).

(2/410)


الثاني: أنه شبّهه باليمين، ومعلوم أنه لو حلف على المعصية وحَنِث لزمته كفارة يمين، بل (1) وجوب الكفارة في نذر المعصية أولى منها في يمين المعصية لما سنذكره. قالوا: ووجوب الكفارة قول عبد الله بن مسعود (2)، وجابر بن عبد الله، وعمران بن حصين، وسمرة بن جندب، ولا يُحفَظ عن صحابي خلافهم. قالوا: وهب أن هذه الآثار لم تثبت، فالقياس يقتضي وجوب الكفارة فيه، لأن النذر يمين، ولو حلف ليشربن الخمر، أو ليقتلنَّ فلانًا، وجبت عليه كفارة اليمين وإن كانت يمين معصية، فهكذا إذا نذر المعصية. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تسمية النذر يمينًا، كما قال لأخت عقبة (3) لمّا نذرت المشيَ إلى بيت الله فعجزت: «تُكفِّر يمينها»، وهو حديث صحيح وسيأتي (4). _________ (1) في الأصل وط. المعارف: «بلى»، ولعل المثبت من ط. الفقي هو الصواب. (2) أخرجه عبد الرزاق (15813)، وابن أبي شيبة (12288)، وأما آثار سائر الصحابة فقد سبق تخريجها. (3) بعده في (هـ): «وهي أم حِبَّان، أسلمت فبايعت، لم يذكرها أبو عمر، استُدركت عليه»، وفوقه ممدودًا عليه: «حاشية». وهو من كلام المنذري في «المختصر» عقب الحديث (3165). (4) في «المختصر» (3162)، وفي «السنن» (3295)، من حديث كريب عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. وفي إسناده شريك القاضي، وهو سيئ الحفظ. وروي من حديث عكرمة عن ابن عباس بلفظ: « ... فلتركبْ، ولتهدِ بدنة». أخرجه أحمد (2134)، وأبو داود (3296، 3303)، وابن خزيمة (3045)، والضياء في «المختارة» (12/ 205)، وصححه الحافظ في «التلخيص» (4/ 178). وفي صحته نظر، فإن الرواة اختلفوا فيه على عكرمة، وليس في أكثر الطرق وأصحّها ذكر الهدي، ثم إن بعضهم يرويه عن عكرمة مرسلًا دون ذكر ابن عباس. وقال البخاري: لا يصحّ فيه الهدي، يعني في قصة أخت عقبة. انظر: «سنن البيهقي» (10/ 79 - 80)، و «معرفة السنن» (14/ 206 - 208)، و «التاريخ الكبير» للبخاري (5/ 204). وأصل الحديث في «الصحيحين» من حديث عقبة، ولفظه: «لتمشِ ولتركبْ» دون ذكر الهدي أو الكفّارة. البخاري (1866)، ومسلم (1644). وفي رواية عن عُقبة عند أبي داود (3293) وغيره زيادة: «ولتصم ثلاثة أيام»، وإسناده ضعيف. ومما يدل على بطلانه أن رواية «الصحيحين» هي من طريق أبي الخير مرثد بن عبد الله اليَزَني عن عقبة، وكان ملازمًا لعقبة لا يُفارقه، وكان مفتي أهل مصر في زمانه، فيبعد أن يكون ذكر الكفارة ثابتًا في حديث عقبة ثم هو لا يرويه، والله أعلم.

(2/411)


وعن عقبة مرفوعًا وموقوفًا: «النذر حَلْفة» (1). وقال ابن عباس في امرأة نذرت ذبح ابنها: «كفري يمينكِ» (2). فدل على أن النذر داخل في مسمَّى اليمين في لغة من نزل القرآن بلغتهم. وذلك أن حقيقته هي حقيقة اليمين فإنه عَقَده لله ملتزمًا له، كما أن الحالف عقد يمينه بالله ملتزمًا لما حلف عليه، بل ما عُقِد لله أبلغ وألزم مما عُقِدَ به، فإن ما عُقِدَ به من الأَيمان لا يُصيّر اليمينَ واجبًا، فإذا حلف على قربة _________ (1) لم أجده مسندًا بهذا اللفظ، وقد ذكره الإمام أحمد في «مسائله» برواية صالح (1/ 396) موقوفًا على عقبة من قوله. وذكره شيخ الإسلام في مواضع من تصانيفه، تارةً مرفوعًا كما في «مجموع الفتاوى» (25/ 277، 35/ 258، 271)، وتارةً موقوفًا كما في «الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق» (ص 118، 364، 531، وغيرها). (2) أخرجه مالك في «الموطأ» (1364)، وابن أبي شيبة (12654)، والبيهقي (10/ 72) وقال: هذا إسناد صحيح.

(2/412)


مستحبة لِيفعَلَها لم تَصِرْ واجبةً عليه وتجزئه الكفارة، ولو نَذَرها وجبت عليه ولم تجزئه الكفارة، فدلّ على أن الالتزام بالنذر آكدُ من الالتزام باليمين، فكيف يقال: إذا التزم معصيةً بيمينه وجبت عليه الكفارة، وإذا التزمها بنذره الذي هو أقوى من اليمين فلا كفارة فيها؟! فلو لم يكن في المسألة إلا هذا وحدَه لكان كافيًا. ومما يدل على أن النذر آكد من اليمين: أن الناذر إذا قال: لله عليّ أن أفعل كذا، فقد عَقَد نذرَه بحُرمةِ إيمانِه (1) بالله والتزامِه تعظيمَه، كما عقدها الحالف بالله كذلك، فهما من هذه الوجوه سواء، والمعنى الذي يقصده الحالف ويقوم بقلبه هو بعينه مقصود للناذر قائم بقلبه، ويزيد النذر عليه أنه التزمه لله، فهو ملتزم من وجهين: له وبه، والحالف إنما التزم ما حلف عليه به خاصةً، فالمعنى الذي في اليمين داخل في حقيقة النذر، فقد تضمن النذرُ اليمينَ وزيادةً، فإذا وجبت الكفارة في يمين المعصية فهي أولى بأن تجب في نذرها. ولأجل هذه القوة والتأكيد قال بعض الموجبين للكفارة فيه: إنه إذا نذر المعصية لم يَبَرَّ (2) بفعلها، بل تجب عليه الكفارة عينًا ولو فعلها؛ لقوة النذر، بخلاف ما إذا حلف عليها، فإنه إنما تلزمه الكفارة إذا حنث، لأن اليمين أخف من النذر. وهذا أحد الوجهين لأصحاب أحمد (3)، وتوجيهه ظاهر _________ (1) ط. الفقي: «بجزمه أيمانه»، وفي ط. المعارف: «بجزمه إيمانه»، ولعل الصواب ما أثبت. (2) في الطبعتين: «يبرأ» خلافًا للأصل. (3) انظر: «المغني» (13/ 626).

(2/413)


جدًّا، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاه عن الوفاء بالمعصية، وعيَّن عليه الكفارة عينًا، فلا يخرج من عهدة الأمر إلا بأدائها. وبالله التوفيق. 5 - باب فيمن نذر أن يتصدق بماله 369/ 3176 - عن كعب بن مالك قال: قلت: يا رسول الله، إنَّ من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمسِكْ عليك بعضَ مالِك فهو خير لك». قال: فقلت: إني أُمسك سهمي الذي بخيبر. وأخرجاه في الحديث الطويل، والنسائي (1) مختصرًا. 370/ 3177 - وعنه ــ في قصته ــ قال: قلت: يا رسول الله، إنّ من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله إلى الله وإلى رسوله صدقةً، قال: «لا». قلت: فنصفه؟ قال: «لا». قلت: فثلثه؟ قال: «نعم». قلت: فإني سأُمسك سهمي من خيبر (2). فيه ابن إسحاق. قال ابن القيم - رحمه الله -: المحفوظ في هذا الحديث ما أخرجه أصحاب الصحيح من قوله: «أمسك عليك بعض مالك». وأما ذكر الثلث فيه، فإنما أتى به ابنُ إسحاق (3)، ولكن هو في حديث أبي لبابة بن عبد المنذر لما تاب الله عليه قال: يا رسول الله، إن من توبتي أن _________ (1) أبو داود (3317)، البخاري (4418)، ومسلم (2769)، والنسائي (3824). (2) «سنن أبي داود» (3321) من طريق ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، عن أبيه، عن جدّه. (3) وقد خالف بذلك أوثقَ أصحاب الزهري: عُقيلًا ويونس الأيليَّين، ومعمرًا، وغيرهم.

(2/414)


أَهجُر دارَ قومي وأُساكِنَك وأنخَلِع من مالي صدقةً لله عز وجل ولرسوله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يجزئ عنك الثلث» (1). ولعل بعض الرواة وهم في نقله هذا إلى حديث كعب بن مالك في قصة توبته، ولكن ليس في هذا أنه نذر الصدقة بماله، ولا تعلُّق في قوله: «ويجزئك الثلث» على أنه كان نذرًا، فإن «يُجزئ» رباعيٌّ بمعنى «يكفي»، والمعنى: يكفيك مما عزمت عليه وأردته الثلث. وليس في هذا ما يدل على أن الناذر للصدقة بماله يُجزئه ثُلثُه. والقياس: أنه إن كان حالفًا بالصدقة أجزأه كفَّارة يمين، وإن كان ناذرًا متقرّبًا تَصدَّق به وأبقى له (2) ما يكفيه ويكفي عياله، على الوجه الذي قلنا به في الحج (3). وقال ربيعة: يتصدق منه بقدر الزكاة، لأنها هي الواجب شرعًا، فينصرف النذر إليها (4). وقال الشافعي (5): إن حلف به [ق 175] فكفارةُ يمين، وإن نذر قربةً تصدق به كلِّه. _________ (1) أخرجه أحمد (15750)، وابن حبان (3371)، والحاكم (3/ 632)، وإسناده ضعيف. انظر تعليق محققي «المسند» (طبعة الرسالة) على الحديث. (2) «له» ساقطة من الطبعتين. (3) لم يسبق في كتاب الحج، ولعله في القدر الذي لم ينقله المجرّد. (4) «المغني» (13/ 630). (5) في «الأم» (3/ 658).

(2/415)


وقال مالك: يخرج ثلثه في الوجهين (1). وقال أبو حنيفة: إن كان ماله زكويًّا تصدق به كله. وعنه في غير الزكوي روايتان، إحداهما: يخرجه كله، والثانية: لا تجب الصدقة بشيء منه (2). وأصح هذه الأقوال: ما دل عليه حديث كعب المتفق عليه، أنه يتصدق به ويمسك عليه بعضَه وهو ما يكفيه ويكفي عيالَه. والله أعلم. * * * _________ (1) وهذا إذا لم يُسمِّ شيئًا بعينه، بل قال: لله عليّ أن أتصدق بمالي، أو بجميع مالي، أما لو سمَّى شيئًا بعينه كأن يقول: لله عليّ أن أتصدّق بناقتي، أو بعبدي، وجب التصدّق به ولو كان المسمَّى هو جميعَ ماله. انظر: «الموطأ» (1386)، و «المدونة» (2/ 474، 3/ 94 - 97). (2) انظر: «المبسوط» (4/ 134 - 135).

(2/416)


كتاب البيوع 1 - باب الحيوان [بالحيوان نسيئة] 371/ 3217 - عن الحسن عن سمرة ــ وهو ابن جندب ــ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئةً. وأخرجه النسائي وابن ماجه والترمذي (1)، وقال: حسن صحيح، وسماع الحسن من سمرة صحيح، هكذا قال علي ابن المديني وغيره. آخر كلامه. وقال الشافعي (2): وأما قوله: «نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة» فهو غير ثابت. وحُكي عن يحيى بن معين أنه قال (3): الحسن من سمرة صحيفة (4). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال البيهقي (5): أكثر الحفاظ لا يثبتون سماع الحسن من سمرة في غير حديث العقيقة. تم كلامه. وقد روي هذا من حديث ابن عباس، وابن عمر، وجابر بن سمرة. أما حديث ابن عباس، فرواه معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة _________ (1) أبو داود (3356)، والنسائي (4620)، وابن ماجه (2270)، والترمذي (1237). (2) في «الأم» (9/ 192)، وعنه البيهقي في «السنن» (5/ 289) و «المعرفة» (8/ 50). (3) كما في «تاريخه» برواية الدوري (4/ 229)، والمنذري صادر عن «المعالم السنن» (5/ 27). (4) كلام المنذري من (هـ)، إلآ أنه سقطت منها كلمة «صحيفة»، لانتقال النظر إلى «الحسن من سمرة» الآتي في كلام البيهقي، فاستدركتها من «المختصر». (5) في «السنن الكبرى» (5/ 288).

(2/417)


عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ذكره البيهقي والبزار وغيرهما (1). وقال البزار (2): ليس في هذا الباب حديث أجل إسنادًا من هذا. [وقال البخاري (3): حديث النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئةً من طريق عكرمة عن ابن عباس رواه الثقات عن ابن عباس موقوفًا، أو عكرمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا. قال البيهقي (4): هذا وهم ممن (5) رفعه، والمحفوظ عن معمر عن يحيى عن عكرمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا، وكذلك رواه عبد الرزاق وعبد الأعلى عن معمر مُرسلًا، وكذلك رواه علي بن المبارك عن يحيى بن أبى كثير مرسلًا. ومحمد بن إسحاق بن خزيمة وهَّن رفعه ووصله] (6). وأما حديث ابن عمر: فرواه علي بن عبد العزيز (7) من حديث _________ (1) البيهقي (5/ 288 - 289)، وليس في المطبوع من «مسند البزار»، وأخرجه عبد الرزاق (14132)، وابن حبان (5028)، والدارقطني (3058)، والضياء في «المختارة» (12/ 283، 284) من طرق عن معمر به. وأعله الأئمة بالإرسال كما سيأتي. وانظر: «العلل» لابن أبي حاتم (1149). (2) كما في «الإلمام» (2/ 497)، و «تنقيح التحقيق» (4/ 26). (3) لم أجده بهذا التمام. وانظر: «العلل الكبير» للترمذي (ص 182). (4) في «السنن» (5/ 288) باختصار وتصرّف. (5) «وهم ممن» إكمال مقترح، فإنه أتى عليه قص طرف الورقة فلم تظهر إلا الواو. (6) ما بين الحاصرتين من (هـ)، ولم يذكره المجرّد. (7) البغوي الحافظ (ت 286)، لعله أخرجه في «مسنده»، وعنه ابن المنذر في «الأوسط» (10/ 121)، والطبراني في «الكبير» (13/ 252)، ثم من طريق الطبراني وطرق أخرى أخرجه الضياء في «المختارة» (13/ 171 - 172). في إسناده محمد بن دينار الطاحي، فيه لين. وقد أعله الإمام أحمد بالإرسال فقال: «ليس فيه ابن عمر، هو عن زياد بن جُبير موقوف»، كما في «سؤالات أبي داود لأحمد في الجرح والتعديل» (ص 352).

(2/418)


محمد بن دينار الطاحي، عن يونس بن عبيد، عن زياد بن جبير، عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الترمذي (1): سألت محمدًا عن هذا الحديث؟ فقال: إنما نرويه عن زياد بن جبير (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا. وأما حديث جابر بن سمرة، فرواه عبد الله بن أحمد في «مسند أبيه» (3). وقال الترمذي (4): والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم. 2 - باب الرخصة في ذلك 372/ 3218 - عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يُجَهِّز جيشًا، فنفِدتْ الإبل، فأمره أن يأخذ في قِلاصِ الصدقة، فكان يأخذ البعير _________ (1) «العلل الكبير» (ص 183)، والمؤلف صادر عن «معرفة السنن» (8/ 50). (2) في الأصل والطبعتين بعده: «عن ابن عمر»، وهو سبق قلم ظاهر، يُناقض قوله: «مرسلًا» عقبه. (3) برقم (20942)، وأخرجه الطبراني في «الكبير» (2/ 252)، وابن عدي في «الكامل» (6/ 164)، من طريقين ــ كلتاهما شديدة الضعف ــ عن سماك بن حرب، عن جابر به. (4) في «الجامع» عقب حديث سمرة بن جندب.

(2/419)


بالبعيرين إلى إبل الصدقة (1). فيه ابن إسحاق. وحكى الخطابي (2) أن في إسناد حديث عبد الله بن عمرو أيضًا مقالًا (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال البيهقي (4): واحتج أصحابنا بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يجهّز جيشًا وأمره أن يبتاع ظهرًا إلى خروج المصدِّق، فابتاع عبد الله بن عمرو البعيرَ بالبعيرين [وبالأبعِرَة] إلى خروج المصدق بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (5). وهذا غير حديث محمد بن إسحاق، فإنه يرويه عن يزيد بن أبي حبيب، عن مسلم بن جُبَير، عن أبي سفيان، عن عمرو بن حَرِيش، عن عبد الله بن عمرو. _________ (1) «سنن أبي داود» (3357)، وأخرجه أحمد (6593، 7025)، والدارقطني (3054)، والحاكم (2/ 56 - 57). وفي إسناده اختلاف واضطراب، انظر: «التاريخ الكبير» للبخاري (6/ 322 - 323)، و «بيان الوهم» لابن القطان (5/ 162 - 164)، و «تعجيل المنفعة» (2/ 255). (2) «معالم السنن» (5/ 29). (3) كلام المنذري مثبت من (هـ)، وفيه اختصار من المؤلف. (4) في «معرفة السنن» (8/ 49)، وما بين الحاصرتين منه. (5) أخرجه الدارقطني (3052) ــ ومن طريقه البيهقي في «الكبرى» (5/ 287)، وابن الجوزي في «التحقيق» (2/ 170) ــ من طريق ابن وهب: أخبرنى ابن جريج أن عمرو بن شعيب أخبره عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص. صححه البيهقي، وقال ابن عبد الهادي في «التنقيح» (4/ 22): إسناده جيّد.

(2/420)


373/ 3219 - عن جابر ــ وهو ابن عبد الله ــ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى عبدًا بعَبْدَين. وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي أتم منه (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى مسلم في «صحيحه» (2) عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى صفيّة من دِحْية الكلبي بسبعة أرؤس. وقال الشافعي (3): أخبرنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس أنه سئل عن بعير ببعيرين؟ فقال: قد يكون البعير خيرًا من البعيرين. وقال الشافعي (4): أخبرنا مالك، عن صالح بن كيسان، عن الحسن بن محمد بن علي، عن علي أنه باع بعيرًا له يُدعى عُصَيفِير بعشرين بعيرًا إلى أجل. _________ (1) أبو داود (3358)، ومسلم (1602)، والترمذي (1239)، والنسائي (4184). وهو عند ابن ماجه (2869) أيضًا. (2) برقم (1365/ 87). (3) «الأم» (4/ 243)، ومن طريقه البيهقي في «الكبرى» (5/ 287) و «معرفة السنن» (8/ 48). وأخرجه عبد الرزاق (14140) عن معمر، عن ابن طاوس به، وعلّقه البخاري عن ابن عباس مجزومًا به في كتاب البيوع، باب بيع العبيد والحيوان بالحيوان نسيئة. (4) «الأم» (4/ 69، 243)، وهو في «الموطأ» (1901)، ومن طريق الشافعي أخرجه البيهقي في «الكبرى» (5/ 288) و «معرفة السنن» (8/ 48). وهو مرسل فإن الحسن بن محمد بن علي لم يُدرك جدّه عليًّا، ثم إنّه قد جاء عنه خلاف ذلك. انظر: «البدر المنير» (6/ 618).

(2/421)


وقال الشافعي (1): أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه باع بعيرًا له بأربعة أبعِرَةٍ مضمونةٍ عليه بالرَّبَذَة. 3 - باب في ذلك يدًا بيد (2) روى الترمذي (3) من حديث حجاج بن أرطاة، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الحيوانُ: اثنان بواحدٍ لا يَصلحُ نَساءً، ولا بأس به يدًا بيد». قال الترمذي: هذا حديث حسن. وفي «مسند أحمد» (4) عن ابن عمر: أن رجلًا قال: يا رسول الله، أرأيت _________ (1) «الأم» (4/ 69، 243)، وهو في «الموطأ» (1902)، ومن طريق الشافعي أخرجه البيهقي في كتابَيه. (2) كان هذا التبويب في «السنن» و «مختصره» عند حديث جابر السابق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى عبدًا بِعَبدين، ولكن أثبته المؤلف في هذا الموضع بخطّه كما نصّ عليه المجرّد. والظاهر أن المؤلف أخّر التبويب لأن حديث جابر ليس صريحًا أن ذلك كان يدًا بيد، ولأن المؤلف أيضًا أتبعه بذكر آثارٍ في بيع البعير بالأبعرة نسيئةً. (3) برقم (1238)، وأخرجه أحمد (15063)، وابن ماجه (2271)، وأبو يعلى (2025، 2223)، كلهم من طرق عن الحجاج بن أرطاة به. الحجاج مدّلس وفيه ضعف، وقد توبع، تابعه أشعث بن سوَّار في «شرح معاني الآثار» (4/ 60)، وسعيد بن بشير الأزدي في «مسند الشاميين» (2801)، ولكنهما أيضًا ضعيفان، والسند إلى سعيد بن بشير فيه مقال. (4) برقم (5885) من طريق خلف بن خليفة، عن أبي جَناب الكلبي، عن أبيه، عن ابن عمر، وفي أوّله قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تبيعوا الدينار بالدينارين ... ». أول الحديث صحيح مرفوعًا دون آخره المتضمن سؤال السائل وإجابته، فالصواب فيه الوقف، وذلك أن خلف بن خليفة صدوق ربّما يهم في شيء، وقد خالفه الحافظ المتقن الثبت أبو نُعيم الفضل بن دُكين، فرواه عن أبي جناب به، فجعل أوّله مرفوعًا، ثم قال: «فقال رجل: يا أبا عبد الرحمن الرجل يشتري النجيبة ... » إلخ الإجابة موقوفًا على ابن عمر. أخرجه الطبراني في «الكبير» (13/ 196)، وإسناده حسن من أجل الكلام في أبي جناب الكلبي، وهو صدوق حسن الحديث إن شاء الله إذا صرّح بالتحديث كما هنا.

(2/422)


الرجل يبيع الفرس بالأفراس، والنَّجِيبَة (1) بالإبل؟ قال: «لا بأس إذا كان يدًا بيد». قال الإمام أحمد والبخاري: حديث ابن عمر هذا، المعروف مرسل (2). فاختلف أهل العلم في هذه المسألة على أربعة أقوال، وهي أربع روايات عن أحمد (3): إحداها: أن ما سوى المكيل والموزون من الحيوان والنبات ونحوه يجوز بيع بعضه ببعضٍ متفاضلًا ومتساويًا، وحالًّا ونَساءً، وأنه لا يجري فيه الربا بحال، وهذا مذهب الشافعي (4) وأحمد في إحدى رواياته، واختارها القاضي وأصحابه، وصاحب «المغني». والرواية الثانية عن أحمد: أنه يجوز التفاضل فيه يدًا بيد، ولا يجوز _________ (1) ط. الفقي: «البُختيّة» خلافًا للمسند، وإن كان رسم الأصل يحتمله لإهماله. والنجيبة: النفيسة من الإبل. (2) لم أجد كلامًا للإمامين في هذا الحديث، وإنما كلامُهما في حديث زياد بن جبير عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئةً، وقد سبق قريبًا. (3) انظر: «المغني» (6/ 64 - 66). (4) انظر: «الأم» (4/ 70، 245)، و «المجموع شرح المهذّب» (9/ 504).

(2/423)


نسيئة، وهي مذهب أبي حنيفة (1)، كما دل عليه حديث جابر وابن عمر. والرواية الثالثة عنه: أنه يجوز فيه النساء إذا كان متماثلًا، ويحرم مع التفاضل. وعلى هاتين الروايتين: فلا يجوز الجمع بين النسيئة والتفاضل، بل إن وُجد أحدهما حَرُم الآخر. وهذا أعدل الأقوال في المسألة، وهو قول مالك (2)، فيجوز عبد بعبدين حالًّا، وعبد بعبد نَساءً، إلا أن لمالك فيه تفصيلًا، والذي عقد عليه أصل قوله: أنه لا يجوز التفاضل والنساء معًا في جنس من الأجناس، والجنس عنده معتبر باتفاق الأغراض والمنافع، فيجوز (3) بيع البعير النجيب (4) بالبعيرين من الحمولة ومن (5) حاشية إبله إلى أجل، لاختلاف المنافع. وإن أشبه بعضها بعضًا ــ واختلفت أجناسها أو لم تختلف ــ، فلا يجوز منها اثنان بواحدٍ إلى أجل. فسِرُّ مذهبه: أنه لا يجتمع التفاضُل والنَّساء في الجنس الواحد عنده، والجنسُ ما اتفقت منافعه وأشبه بعضُه بعضًا، وإن اختلفت حقيقته. _________ (1) انظر: «الأصل» للشيباني (2/ 420، 439)، و «بدائع الصنائع» (5/ 185). (2) انظر: «الموطأ» (1904 - 1906)، و «الكافي» لابن عبد البر (2/ 657)، و «القوانين الفقهية» لابن جُزَي (ص 169). (3) من هنا إلى آخر الفقرة لفظ مالك في «الموطأ» (1905) بتصرف يسير. (4) ط. الفقي: «البختيّ» خلافًا للأصل، وقد سبق مثله. (5) في «الموطأ»: «من» دون واو العطف، أي أن البعيرَين من الحمولة كائنان من حاشية إبله، أي مِن أَدْوَنها. انظر: «المنتقى» للباجي (6/ 355).

(2/424)


فهذا تحقيق مذاهب الأئمة في هذه المسألة المعضلة ومآخذُهم. وحديث عبد الله بن عمرو (1) صريح في جواز المفاضلة والنساء، وهو حديث حسن. قال عثمان بن سعيد (2): قلت ليحيى بن معين: أبو سفيان الذي روى عنه محمد بن إسحاق ــ يعني هذا الحديث ــ ما حاله؟ قال: مشهور ثقة. قلت: عن مسلم بن كثير (3)، عن عمرو بن حَرِيش الزُّبَيدي؟ قال: هو حديث مشهور. ولكن مالك يحمله على اختلاف المنافع والأغراض، فإن الذي كان يأخذه إنما هو للجهاد، والذي جعله عوضه مِن إبل الصدقة، قد يكون من بني المخاض ومن حواشي الإبل ونحوها. وأما الإمام أحمد، فإنه كان يُعلّل أحاديثَ المنع كلَّها، قال (4): ليس فيها حديث يُعتمد عليه، ويعجبني أن يتوقاه. وذُكر له حديث ابن عباس وابن عمر، فقال: هما مرسلان. وحديث سمرة عن الحسن، قال الأثرم: قال أبو عبد الله: لا يصح سماع _________ (1) في ابتياعه البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد سبق في أول الباب السابق. (2) هو الدارمي في «سؤالاته» لابن معين في «التاريخ» (ص 199)، ومن طريقه ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (8/ 193، 9/ 383). (3) هكذا وقع اسمه في بعض طرق الحديث، وفي غيرها: «مسلم بن جُبير»، كما عند أحمد وأبي داود وغيرهما. وقد سبق أن الرواة اختلفوا على ابن إسحاق في إسناد الحديث. (4) كما في «المغني» (6/ 66)، وفيه أيضًا الأقوال الآتية لأحمد.

(2/425)


الحسن من سمرة. وأما حديث جابر رواية حجّاجٍ عن أبي الزبير عنه، فقال الإمام أحمد: هذا حجاج زاد فيه: «نَساءً»، والليث بن سعد سمعه من أبي الزبير لا يذكر فيه: «نساءً» (1). وهذه ليست بعلة في الحقيقة، فإن قوله: «ولا بأس به يدًا بيد» يدل على أن قوله: «لا يصلح» يعني نساء، فذِكْر هذه اللفظة زيادة إيضاحٍ، لو سكت عنها لكانت مفهومةً من الحديث، ولكنه معلَّل بالحجاج، فقد أكثرَ الناسُ الكلامَ فيه، وبالغ الدارقطني في «السنن» (2) في تضعيفه وتوهينه. وقد قال أبو داود (3): «إذا اختلفت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نُظِر إلى ما عمل به أصحابُه من بعده». وقد ذكرنا الآثار عن الصحابة بجواز ذلك متفاضلًا ونسيئة، وهذا كلُّه مع اتحاد الجنس. وأما إذا اختلف الجنس، كالعبيد بالثياب، والشاء بالإبل، فإنه يجوز عند جمهور الأمة التفاضلُ فيه والنساء، إلا ما حكي رواية عن أحمد: أنه يجوز بيعه متفاضلًا يدًا بيد ولا يجوز نساءً، وحكى هذا أصحابنا عن أحمد روايةً رابعة في المسألة. واحتجوا لها بظاهر حديث جابر: «الحيوان: اثنان بواحدٍ لا يصلح _________ (1) لم أجد رواية الليث التي أشار إليها الإمام أحمد، وقد سبق في تخريج حديث الحجاج أنه توبع. (2) (4/ 226 - 228) عقب الحديث (3365). (3) في «السنن» عقب الحديث (720)، ونصّه: «إذا تنازع الخبران عن ... ».

(2/426)


نسيئة، ولا بأس به يدًا بيد»، ولم يخص به الجنس المتحد. وكما يجوز التفاضل في المكيل المختلف الجنس دون النساء، فكذلك الحيوان وغيره، إذا قيل إنه ربوي. وهذه الرواية في غاية الضعف لمخالفتها النصوص، وقياسُ الحيوان على المكيل فاسد، إذ في محل الحكم في الأصل أوصاف معتبرة غيرُ موجودة في الفرع، وهي مؤثرة في التحريم. وحديث جابر لو صح، فإنما المراد به مع اتحاد الجنس دون اختلافه، كما هو مذكور في حديث ابن عمر. فهذه نُكَت في هذه المسألة المُعْضِلة، لا تكاد توجد مجموعةً في كتاب، وبالله التوفيق. 4 - باب في الثَّمَر بالتمْر (1) 374/ 3220 - عن زيد أبي عَيَّاشٍ، أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن البيضاء بالسُلْتِ؟ فقال له سعد: أيُّهما أفضل؟ قال: البيضاء، قال: فنهاه عن ذلك وقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسألُ عن شراءِ التمر بالرُّطَبِ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذا يَبِسَ؟» قال: نعم، فنهاه عن ذلك. وأخرجه النسائي وابن ماجه والترمذي (2)، وقال: حسن صحيح. _________ (1) في الأصل و «المختصر» المطبوع ومطبوعة «السنن»: «التمر بالتمر»، والمثبت من (هـ) وبعض الأصول الخطية المجوّدة للسنن، لاسيما نسخة المنذري المقروءة عليه، وهو الموافق لمضمون الأحاديث الواردة فيه. (2) أبو داود (3359)، والنسائي (4545)، وابن ماجه (2264)، والترمذي (1225). وأخرجه أيضًا مالك في «الموطأ» (1826)، وأحمد (1515)، وابن حبان (4997)، والحاكم (2/ 38)، من طرق عن عبد الله بن يزيد المخزومي، عن زيد أبي عيّاش.

(2/427)


وقال الخطابي (1): وقد تكلم بعض الناس في إسناد سعد بن أبي وقاص وقال: زيد أبو عياش راويه ضعيف، ومثل هذا الحديث على أصل الشافعي لا يجوز أن يحتج به. وليس الأمر على ما توهّمه (2). وأبو عياش هذا مولى لبني زهرة معروف. وقد ذكره مالك في «الموطأ»، وهو لا يروي عن رجل متروك الحديث بوجه، وهذا من شأن مالك وعادته معلوم. هذا آخر كلامه. وقد حُكي عن بعضهم أنه قال: زيد أبو عياش مجهول (3). وكيف يكون مجهولًا وقد روى عنه اثنان ثقتان: عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان، وعمران بن أبي أنس، وهما ممن احتج به مسلم في «صحيحه»، وقد عرفه أئمة هذا الشأن؟! هذا الإمام مالك قد أخرج حديثه في «موطئه» مع شدة تحرِّيه في الرجال ونقده وتتبعه لأحوالهم. والترمذي قد أخرج حديثه وصححه كما ذكرناه. وصحّح حديثه أيضًا الحاكم أبو عبد الله النيسابوري. وقد ذكره مسلم بن الحجاج في كتاب «الكنى» (4) وذكر أنه سمع من سعد بن أبي وقاص. وذكره أيضًا الحافظ أبو أحمد الكرابيسي في كتاب _________ (1) «معالم السنن» (5/ 35). (2) كلام المنذري إلى هذا القدر من (هـ)، ثم سقطت الورقة التي فيها تتمته، ولم يُشر المجرّد إلى القدر الذي أثبته المؤلف من كلام المنذري على هذا الحديث، فأثبته إلى آخره من «المختصر». (3) ممن قال ذلك الجصاص في «شرح مختصر الطحاوي» (3/ 39). (4) (1/ 636).

(2/428)


«الكنى» (1) وذكر أنه سمع من سعد بن أبي وقاص. وذكره أيضًا النسائي في كتاب «الكنى» (2). وما علمت أحدًا ضعّفه. والله عز وجل أعلم. 375/ 3221 - وعن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله ــ يعني ابن يزيد مولى الأسود بن سفيان ــ أن أبا عياش أخبره، أنه سمع سعد بن أبي وقاص يقول: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الرُّطَب بالتمر نسيئة (3). قال أبو الحسن الدارقطني (4): خالفه مالك، وإسماعيل بن أمية، والضحاك بن عثمان، وأسامة بن زيد؛ رووه عن عبد الله بن يزيد ولم يقولوا فيه: «نسيئة»، واجتماع هؤلاء الأربعة على خلاف ما رواه يحيى ــ يعني: ابنَ أبي كثير ــ يدل على ضبطهم للحديث. وقال أبو بكر البيهقي (5): ورواه عمران بن أبي أنس عن أبي عياش نحو رواية مالك، وليس فيه هذه الزيادة. قال ابن القيم - رحمه الله - (6): وقد روى ابن وهب عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن عبد الله، عن عمران [أن] (7) مولى لبني مخزوم حدثه: أنه سأل _________ (1) ليس في القدر المطبوع منه. (2) ولا يزال في عِداد المفقود. (3) «سنن أبي داود» (3360). (4) عقب روايته للحديث (2994). (5) في «معرفة السنن» (8/ 63 - 64) (6) مواصلًا النقل عن البيهقي الذي بدأ به المنذري. (7) ساقط من الأصل وط. المعارف. وفي ط. الفقي: «عن عمر أنّ مولى ... »، والتصحيح من مصادر النقل والتخريج. وعمران هو ابن أبي أنس القرشي، ثقة من صغار التابعين. والمولى لبني مخزوم هو زيد أبو عيّاش المخزومي الذي سبق في حديث الباب.

(2/429)


سعدًا عن الرجل يُسْلِف الرجل الرطب بالتمر إلى أجل؟ فقال سعد: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذا (1). قال البيهقي: وهذا يخالف رواية الجماعة، وإن كان محفوظًا فهو حديث آخر. والخبر يصرّح بأن المنع إنما كان لنقصان الرطب في المتعقِّب (2)، وحصول الفضل بينهما بذلك. وهذا المعنى يمنع من أن يكون النهي لأجل النسيئة، فلذلك لم تُقبل هذه الزيادة ممن خالف الجماعة بروايتها في هذا الحديث. وقد رُوينا في الحديث الثابت عن ابن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تبتاعوا الثمر حتى يبدو صلاحه (3)، ولا تبتاعوا الثَّمَر بالتمر». وفي الحديث الثابت عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تبيعوا الثمَر بالتمر». _________ (1) أخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/ 6)، و «شرح مشكل الآثار» (6173) عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب به. (2) في الأصل والطبعتين: «البعض»، تصحيف. والمراد بالمتعقب: أي في عاقبة أمره إذا يَبِس. وقد عبّر به الشافعي - رحمه الله - في «اختلاف الحديث» (10/ 264 - مع الأم). (3) في الأصل هنا وفي الموضع الآتي: «يبدوا صلاحه» بإثبات الألف بعد الواو، فظنّ محقق ط. المعارف أنها همزة التعدية فأثبتها في هذا الموضع دون الثاني هكذا: «يبدو إصلاحه» منبهًا في الهامش أنه مخالف للفظ الحديث عند مسلم!

(2/430)


وفي رواية إبراهيم بن سعد عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تبايعوا الثمر بالتمر؛ ثَمَر النخل بتَمْر النخل» هكذا روي مقيَّدًا. آخر كلامه. وحديث أبي هريرة الذي أشار إليه رواه مسلم في «صحيحه» (1). وحديث ابن عمر متفق على صحته (2)، ولفظ «الصحيحين» فيه: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه، وعن بيع الرطب بالتمر (3). 5 - باب المضارب يخالف 376/ 3244 - عن عروة ــ يعني البارِقِيَّ ــ قال: أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - دينارًا يشتري به أضحية ــ أو شاة ــ، فاشترى شاتين، فباع إحداهما بدينار، فأتاه بشاة ودينار، فدعا له بالبركة في بَيْعه؛ فكان لو اشترى ترابًا لربح فيه. وأخرجه الترمذي وابن ماجه (4). _________ (1) برقم (1538). (2) البخاري (2183) من طريق عُقيل، ومسلم (1534/ 57) من طريق ابن عيينة، كلاهما عن الزهري، عن سالم، عن أبيه. وأخرجه البخاري (2171) ومسلم (1542/ 73) أيضًا من طريق نافع عن ابن عمر. وأما رواية إبراهيم بن سعد عن الزهري التي ذكرها البيهقي، فهي مخرجة عنده في «السنن الكبرى» (5/ 296). (3) كذا، ولفظ «الصحيحين»: «وعن بيع الثَّمَر بالتمر». (4) أبو داود (3384)، والترمذي (1258)، وابن ماجه (2402).

(2/431)


377/ 3245 - وعن شيخ من أهل المدينة، عن حكيم بن حِزام أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَعثَ معه بدينار يشتري له أضحية، فاشتراها بدينار وباعها بدينارين، فرجع فاشترى أضحية بدينار وجاء بدينار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتصدَّق به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ودعا له أن يبارَك له في تجارته (1). في إسناده مجهول. وأخرجه الترمذي (2) من حديث حبيب بن أبي ثابت عن حكيم بن حزام، وقال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وحبيب بن أبي ثابت لم يسمع عندي من حكيم بن حزام. هذا آخر كلامه. وحكى المزني (3) عن الشافعي أن حديث البارقي ليس بثابت عنده. قال أبو بكر البيهقي: وإنما ضَعَّف حديث البارقي لأن شبيب بن غَرْقدة رواه عن الحَيِّ وهم غير معروفين. وحديث حكيم بن حزام إنما رواه شيخ غير مسمًّى. وقال في موضع آخر (4): الحيُّ الذي أخبرنا شبيب بن غرقَدة عن عروة البارقي لا نعرفهم، والشيخ الذي أخبر أبا حَصِين (5) عن حكيم بن حزام لا نعرفه، وليس هذا من شرط أصحاب الحديث في قبول الأخبار. والله أعلم. وذكر الخطابي (6) أن الخبرين معًا غير متصلين، لأن في أحدهما ــ وهو _________ (1) أبو داود (3386). (2) برقم (1257) من طريق أبي حَصِين عن حبيب بن أبي ثابت به. (3) كما في «معرفة السنن» (8/ 327)، وفيه قول البيهقي الآتي. (4) في «الخلافيات»، كما في «مختصره» (3/ 342). (5) في مطبوعة «المختصر»: «أخبرنا حصين»، تصحيف. (6) «معالم السنن» (5/ 49).

(2/432)


خبر حكيم بن حزام ــ رجلًا مجهولًا لا يُدرى مَن هو؟ وفي خبر عروة «أن الحي حدثوه»، وما كان هذا سبيله من الرواية لم تَقُم به الحجة. هذا آخر كلامه. فأما تخريج البخاري (1) له في صدر حديث «الخير معقود بنواصي الخيل» فيحتمل أنه سمعه من علي ابن المديني على التمام، فحدث به كما سمعه، وذكر فيه إنكار شبيبِ بن غَرقدة سماعَه من عروة حديث شراء الشاة، وإنما سمعه من الحيِّ عن عروة، وإنما سمع من عروة قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الخير معقود بنواصي الخيل». ويشبه أن الحديث في الشراء لو كان على شرطه لأخرجه في كتاب البيوع وكتاب الوكالة، كما جرت عادته في الحديث الذي يشتمل على أحكام أن يذكره في الأبواب التي تصلح له، ولم يخرجه إلا في هذا الموضع، وذكر بعده حديث «الخيل» من رواية عبد الله بن عمر وأنس بن مالك وأبي هريرة (2). فدل ذلك على أن مراده حديث «الخيل» فقط، إذ هو على شرطه. وقد أخرج مسلم (3) حديث شبيب بن غرقدة عن عروة مقتصرًا على ذكر الخيل، ولم يذكر حديث الشاة. وقد أخرج الترمذي (4) حديث شراء الشاة من رواية أبي لَبيد ــ لِمازة بن زبَّار (5) ــ عن عروة. وهو من هذه الطريق حسن (6). _________ (1) برقم (3642). (2) بأرقام (3644 - 3646). (3) برقم (1873/ 99). (4) برقم (1258). (5) تصحّف في «المختصر» المطبوع إلى: «لُمازة بن رِياب». (6) ذكر المجرّد أن المؤلف ذكر حديث عروة البارقي وكلام المنذري إلى قوله: «وهو من هذه الطريق حسن»، ولذا أثبتنا كلام المنذري بطوله من «المختصر».

(2/433)


قال ابن القيم - رحمه الله -: والحديث مخرّج في «صحيح البخاري» (1)، أخرجه في ذكر الأنبياء والمناقب، في الأبواب التي فيها صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، في باب ترجمته: «باب سؤال المشركين أن يريهم النبي - صلى الله عليه وسلم - آية»، فذكره بإسناده عن شبيب بن غرقدة قال: «سمعت الحي يتحدثون عن عروة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه دينارًا يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فجاءه بدينار وشاة فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه». قال سفيان: «يشتري له شاة، [ق 177] كأنها أضحية». انفرد بإخراجه البخاري. وقد استُدرك عليه روايته له عن الحي وهم غير معروفين، وما كان هكذا فليس من شرط كتابه. وقد رواه ابن ماجه من رواية شبيب عن عروة نفسه، والصحيح أنه لم يسمعه منه. قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا شبيب بن غرقدة، قال: سمعت الحيَّ يتحدّثون عن عروة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه دينارًا ليشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فجاءه بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه. قال سفيان: كان الحسن بن عُمارة جاءنا بهذا الحديث عنه قال: [سمعه شبيب من عُروة، فأتيته فقال شبيب: إني لم أسمعه من عروة، قال:] (2) _________ (1) رقم (3642). (2) سقط من الأصل لانتقال النظر من «قال» إلى مثله.

(2/434)


سمعت الحيَّ يخبرونه عنه، ولكن سمعته يقول: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة»، قال: وقد رأيت في داره سبعين فرسًا. قال سفيان: يشتري له شاة، كأنها أضحية. 6 - باب في المزارعة (1) 378/ 3248 - عن عبد الله بن عمر قال: ما كنَّا نرى بالمزارعة بأسًا، حتى سمعتُ رافع بن خَدِيج يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها. فذكرتُه (2) لطاوس، فقال: قال ابن عباس: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يَنْهَ عنها ولكن قال: «لِيَمْنَحْ أحدُكم أرضَهُ خيرٌ من أن يأخذ عليها خراجًا معلومًا». وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه (3). 379/ 3249 - وعن عروة بن الزبير قال: قال زيد بن ثابت: يغفر الله لرافع بن خَديج، أنا واللهِ أعلمُ بالحديث منه! إنما أتاه رجلان ــ قال مسدَّد: مِن الأنصار، ثم اتفقا: ــ قد اقتتلا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن كان هذا شَأنَكم فلا تُكْرُوا المَزَارع». زاد مسدد: فسمع قولَه: «لا تكروا المزارع». وأخرجه النسائي وابن ماجه (4). _________ (1) هذا الباب لم يذكره المجرد، وإنما أثبتناه لأن كلام ابن القيم في آخر الباب التالي هو على مجموع أحاديث البابين، ويشير المؤلف في أثنائه إلى أحاديث هذا الباب بقوله: «وقد تقدم» و «كما تقدم». (2) القائل عمرو بن دينار، وهو الراوي عن ابن عمر. (3) أبو داود (3389)، ومسلم (1547/ 106)، والنسائي (3917)، وابن ماجه (2450). (4) أبو داود (3390)، والنسائي (3927)، وابن ماجه (2461)، وفي إسناده لين.

(2/435)


380/ 3250 - وعن سعيد بن المسيب، عن سعد ــ وهو ابن أبي وقاص ــ قال: كنا نُكري الأرضَ بما على السَّواقي من الزرع، وما سَعِدَ بالماء منها، فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وأمرنا أن نُكريها بذهبٍ أو فضة. وأخرجه النسائي (1). 381/ 3251 - وعن حنظلةَ بن قيسٍ الأنصارى قال: سألت رافع بن خَديج عن كِراء الأرض بالذهب والوَرِق، فقال: لا بأس بها، إنما كان الناسُ يؤاجرون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما على المَاذِيانات وأَقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيَهلِك هذا ويَسلَم هذا، ويَسلم هذا ويَهلك هذا، ولم يكن للناس كِراء إلا هذا، فلذلك زَجَر عنه، فأما شيء مضمون معلوم فلا بأس به. وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (2). 382/ 3252 - وعنه أنه سأل رافع بن خَديج عن كراء الأرض، فقال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كِراء الأرض، فقلت: بالذهب والوَرِق؟ فقال: أمَّا بالذهب والوَرِق فلا بأس به (3). وهو طرف من الحديث الذي قبله. _________ (1) أبو داود (3391)، والنسائي (3894)، وإسناده ضعيف. (2) أبو داود (3392)، والبخاري (2332)، ومسلم (1547/ 116)، والنسائي (3899)، وابن ماجه (2458). (3) أخرجه أبو داود (3393)، والبخاري (2346)، ومسلم (1547/ 117)، والنسائي (3900)، وابن ماجه (2458).

(2/436)


7 - باب التشديد في ذلك (1) 383/ 3253 - عن سالم بن عبد الله: أن ابنَ عمر كان يُكري أرضه، حتى بلغه أنَّ رافع بن خديج الأنصاري كان ينهى عن كراء الأرض، فلقيه عبد الله، فقال: يا ابنَ خَديج، ماذا تُحدِّث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كراء الأرض؟ قال رافع لعبد الله بن عمر: سمعت عَمَّيَّ ــ وكانا قد شهدا بدرًا ــ يحدثان أهل الدار: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كراء الأرض، قال عبد الله: والله لقد كنتُ أعلم في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الأرض تُكْرَى. ثم خشي عبد الله أن يكون رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أحدث في ذلك شيئًا لم يكن عَلِمَه فترك كراء الأرض. وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (2). وعماه: هما ظُهير، ومُظهِّر، ابنا رافع. وذكر أبو داود: أنه رواه نافع ــ يعني مولى ابن عمر ــ عن رافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعن نافع عن رافع قال: سمعت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعن أبي النجاشي عن رافع قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعن أبي النجاشي عن رافع عن عمه ظُهَير بن رافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذه الطرق التي ذكرها كلها أسانيدها جيدة. 384/ 3254 - وعن سليمان بن يسار أن رافع بن خديج قال: كنا نُخَابِر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر أن بعض عمومته أتاه فقال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمرٍ كان لنا نافعًا، وطَواعِيَةُ الله ورسوله أنفعُ لنا وأنفع، قال: قلنا: وما ذاك؟ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كانت له أرضٌ فليَزرَعْها، أو لِيُزْرِعْها أخاه، ولا يُكارِيها بثلثٍ ولا بربع، ولا بطعامٍ مسمًّى». _________ (1) كتب المجرّد بعده: «يعني كراء المزارع»، وقد استغنينا عن هذا الإيضاح بإيراد الباب السابق بتمامه. (2) أبو داود (3394)، والبخاري (4012)، ومسلم (1547/ 112)، والنسائي (3904).

(2/437)


وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه (1). 385/ 3255 - وعن ابن رافع بن خَديج، عن أبيه، قال: جاءنا أبو رافع من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمرٍ كان يَرْفُق بنا، وطاعةُ الله وطاعةُ رسوله أرفق بنا، نهانا أن يزرع أحدُنا إلا أرضًا يملك رَقَبَتها، أو مَنِيحةً يُمْنَحُها رجل» (2). 386/ 3256 - وعن أُسَيد بن ظُهير قال: جاءنا رافع بن خَديج فقال: إن رسول الله ينهاكم عن أمر كان لكم نافعًا، وطاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنفع لكم؛ إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهاكم عن الحَقْل، وقال: «مَنِ استَغنَى عن أرضِهِ فَليَمنَحْها أخاه، أو لِيَدَعْ». وأخرجه النسائي وابن ماجه (3). 387/ 3257 - وعن أبي جعفر الخَطْمي ــ واسمه عُمير بن يزيد ــ قال: بعثني عمي أنا وغلامًا له إلى سعيد بن المسيب، قال: قلنا له: شيء بلغَنا عنك في المزارعة؟ قال: كان ابنُ عمر لا يرى بها بأسًا، حتى بلغه عن رافع بن خديج حديثٌ، فأتاه فأخبره رافع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى بني حارثة فرأى زرعًا في أرضِ ظُهَيْرٍ، فقال: «ما أحسَنَ زَرعَ ظُهَيرٍ!» قالوا: ليس لظهير، قال: «أليس أرضَ ظهير؟» قالوا: بلى، ولكنه زرعُ فلان، قال: «فخذوا زرعكم، ورُدُّوا عليه النفقة». قال رافع: فأخذنا زرعنا، ورددنا إليه النفقة. قال سعيد: أفقِر أخاك، أو اكْرِهِ بالدراهم. _________ (1) أبو داود (3395)، ومسلم (1548/ 113)، والنسائي (3895)، وابن ماجه (2465). (2) أبو داود (3397). (3) أبو داود (3398)، والنسائي (3864)، وابن ماجه (2460).

(2/438)


وأخرجه النسائي (1). 388/ 3258 - وعن سعيد بن المسيب، عن رافع بن خديج قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المُحاقَلة والمُزابَنة، وقال: إنّما يَزرع ثلاثةٌ: رجلٌ له أرض فهو يزرعها، ورجلٌ مُنِحَ أرضًا فهو يزرع ما مُنِح، ورجل استكرَى أرضًا بذهبٍ أو فضة. وأخرجه النسائي مسندًا ومرسلًا، وأخرجه ابن ماجه (2). 389/ 3259 - وعن عثمان بن سهل بن رافع بن خديج قال: إني ليتيم في حِجر رافع بن خَديج وحججت معه، فجاءه أخي عِمران بن سهل، فقال: أكرَينَا أرضَنا فلانةَ بمائتي درهم، فقال: دَعْه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كراء الأرض. وأخرجه النسائي (3)، وقال: عيسى بن سهل بن رافع. وهو الصواب. 390/ 3260 - وعن ابن أبي نُعْم ــ وهو عبد الرحمن ــ قال: حدثني رافع بن خَديج أنه زرع أرضًا، فمرَّ به النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يَسقيها، فسأله: «لمن الزرع؟ ولمن الأرض؟» فقال: زرعي ببَذْري وعملي، لي الشَّطر ولبني فلان الشَّطر، فقال: «أَرْبَيتُما، فرُدَّ الأرض على أهلها، وخُذ نفقتك» (4). _________ (1) أبو داود (3399)، والنسائي (3889). (2) أبو داود (3400)، والنسائي (3890 - 3892)، وابن ماجه (2449). النهي عن المحاقلة والمزابنة اختلف في وصله وإرساله ــ ولا يضرّ فإنه ثبت في «الصحيحين» من غير وجه ــ، وأما قوله: «إنّما يزرع ثلاثة ... » فهو من قول سعيد بن المسيب موقوفًا عليه. (3) أبو داود (3401)، والنسائي (3926). (4) أبو داود (3402).

(2/439)


في إسناده: بُكَير بن عامر البجَلي الكوفي، وقد تكلم فيه غير واحد. قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي «صحيح البخاري» و «مسلم» (1) عن جابر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كراء الأرض. وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كانت له أرض فليَزرَعْها، فإن لم يَزرعها فليُزرِعْها أخاه» (2). وعنه قال: كان لرجال فضول أرضين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كان له فضلُ أرضٍ فليَزْرعها أو ليَمْنَحْها أخاه، فإن أبى فليُمْسك أرضه» (3). وعنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُؤخذ للأرض أَجرٌ أو حظّ (4). وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يستطع أن يزرعها وعَجَز عنها فليمنحها أخاه المسلم ولا يؤاجِرْها إياه» (5). وفي لفظ آخر: «من كانت له أرض فليَزرعها، أو لِيُزرِعْها أخاه ولا يُكْرِها» (6). وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان له فضل أرض فليَزرَعْها، أو ليُزرِعْها _________ (1) «صحيح مسلم» (1536/ 87)، وليس عند البخاري بهذا اللفظ. (2) البخاري (2340)، ومسلم (1536/ 88) واللفظ له. (3) البخاري (2632)، ومسلم (1536/ 89). (4) «صحيح مسلم» (1536/ 90). (5) «صحيح مسلم» (1536/ 91). (6) «صحيح مسلم» (1536/ 92).

(2/440)


أخاه، ولا تبيعوها». قال سَلِيم بن حيّان: فقلت لسعيد بن مِيناء: ما «لا تبيعوها»؟ يعني الكراء؟ قال: نعم (1). وعن جابر قال: كنا نُخابِر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنصيب مِن القِصْرِيِّ ومِن كذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كانت له أرض فليَزرعها أو ليُحرِثها أخاه، وإلا فليَدَعها» (2). وعنه قال: كنا في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نأخذ الأرض بالثلث أو الربع وبالماذِيانات، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك فقال: «من كانت له أرض فليَزرعها، فإن لم يزرعها فليَمنَحْها أخاه، فإن لم يمنحها أخاه فليُمسِكها» (3). وهذه الأحاديث متفق عليها، وذهب إليها من أبطل المزارعة. وأما الذين صححوها، وهم فقهاء الحديث كالإمام أحمد (4)، والبخاري، وإسحاق، والليث بن سعد، وابن خزيمة، وابن المنذر، وأبي _________ (1) «صحيح مسلم» (1536/ 94) من طريق سليم بن حيّان، عن سعيد بن مِيناء، عن جابر. (2) «صحيح مسلم» (1536/ 95). والقصرِيّ (على وزن القبطيّ): ما بقي من الحبّ في السنبل بعد الدياسة. (3) «صحيح مسلم» (1536/ 96). والماذيانات: هي مسايل الماء، والمراد أنهم كانوا يؤاجرون الأرض بما ينبت على حافتي الماذيانات. (4) انظر: «مسائله» رواية الكوسج (2/ 30)، ورواية صالح (1/ 209)، وعبد الله (ص 403)، وأبي داود (ص 272).

(2/441)


داود (1). وهو قول أبي يوسف ومحمد (2). وهو قول عمر بن عبد العزيز، والقاسم بن محمد، وعروة، وابن سيرين، وسعيد بن المسيب، وطاوس، وعبد الرحمن بن الأسود، وموسى بن طلحة، والزهري، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، ومحمد بن عبد الرحمن، ومعاذ العنبري، وهو قول الحسن وعبد الرحمن بن يزيد (3). قال البخاري في «صحيحه» (4): قال قيس بن مسلم عن أبي جعفر: ما بالمدينة أهل بيت هِجرة إلا يزرعون على الثلث والربع. قال البخاري: وزارَع عليٌّ، وسعد بن مالك، وعبد الله بن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم، وعروة، وآل أبي بكر، وآل عمر، وآل علي، وابن سيرين. وعامل عُمَر الناسَ على إن جاء عمر بالبَذْر من عنده فله الشَّطْر، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا. وقال الحسن: لا بأس أن تكون الأرض لأحدهما فيُنفقان جميعًا _________ (1) قول إسحاق في «مسائله» رواية الكوسج (2/ 30)، وسيأتي قول البخاري، والليث، وابن المنذر. وأما ابن خزيمة فذكر الخطابي في «المعالم» (5/ 54) والنووي في «شرح صحيح مسلم» (10/ 211) أنه ألّف كتابًا في جواز المزارعة ذكر فيه علل أحاديث النهي، فاستقصى فيه وأجاد. وأما أبو داود، فقد عزاه إليه شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (29/ 95). (2) انظر: «الأصل» للشيباني (9/ 527 - 528)، و «بدائع الصنائع» (6/ 175). (3) انظر: «مصنف عبد الرزاق» (14470 - 14474)، و «مصنف ابن أبي شيبة» (21637 - 21661)، و «الإشراف» لابن المنذر (6/ 261)، و «المغني» (7/ 555). (4) كتاب المزارعة، باب المزارعة بالشطر ونحوه. وانظر: «تغليق التعليق» (3/ 300 - 305).

(2/442)


فما يخرج فهو بينهما، ورأى ذلك الزهري. = فحجتهم (1): معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثَمَر (2) أو زرع (3). وهذا متفق عليه بين الأمة. قال أبو جعفر (4): عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر (5) أو زرع، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم أهلوهم إلى اليوم يعطون الثلث والربع. وهذا أمر صحيح مشهور قد عمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى مات، ثم خلفاؤه الراشدون من بعده حتى ماتوا، ثم أهلوهم من بعدهم، ولم يبق بالمدينة أهل بيت حتى عملوا به، وعمل به أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعده. ومثل هذا يستحيل أن يكون منسوخًا، لاستمرار العمل به من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن قبضه الله، وكذلك استمرار عمل خلفائه الراشدين به، فنسخُ هذا من أمحل المُحال. وأما حديث رافع بن خديج، فجوابه من وجوه: _________ (1) في الأصل: «وحجتهم»، والتصحيح من (هـ)، والفاء واقعة في جواب «وأما الذين صححوها ... » في الصفحة قبل السابقة. (2) في الطبعتين: «تمر» خلافًا للصحيحين، والأصل مهمل بلا نَقْط. (3) أخرجه البخاري (2328)، ومسلم (1551) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. (4) هو محمد بن علي بن الحسين، الملقَّب بالباقر. وقوله مخرّج في «مصنف ابن أبي شيبة» (21642)، و «الأموال» لابن زنجويه (300). (5) في الطبعتين: «تمر»، ولعل الصواب ما أثبت، ولم ترد الكلمة في مصادر التخريج.

(2/443)


أحدها: أنه حديث في غاية الاضطراب والتلوّن. قال الإمام أحمد (1): حديث رافع بن خديج ألوان. وقال أيضًا (2): حديث رافع ضروب. الثاني: أن الصحابة أنكروه على رافع؛ قال زيد بن ثابت ــ وقد حُكي له حديث رافع ــ: أنا أعلم بذلك منه، وإنما سمع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رجلين [ق 178] قد اقتتلا فقال: «إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع»، وقد تقدم. وفي البخاري (3): عن عمرو بن دينار قال: قلت لطاوس: لو تركتَ المخابرة، فإنهم يزعمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها، قال: إنَّ أعلمهم ــ يعني ابن عباس ــ أخبرني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينه عنه، ولكن قال: «أن يمنح أحدكم أخاه خيرٌ له من أن يأخذ عليها خراجًا معلومًا». فإن قيل: إن كان قد أنكره بعض الصحابة عليه، فقد أقرَّه ابن عمر ورجع إليه. فالجواب: أن ابن عمر - رضي الله عنهما - لم يحرّم المزارعة، ولم يذهب إلى حديث رافع، وإنما كان شديد الورع، فلما بلغه حديث رافع خشي أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدث في المزارعة شيئًا لم يكن علمه، فتركها لذلك. وقد جاء هذا مصرَّحًا به في «الصحيحين» (4) أن ابن عمر إنما تركها _________ (1) في «مسائله» رواية أبي داود (ص 273)، ورواية عبد الله (ص 405)، ومن طريق أبي داود أسنده ابن المنذر في «الأوسط» (11/ 71). (2) نقله عنه الأثرم، كما في «الأوسط» (11/ 71) و «المغني» (7/ 529). (3) برقم (2330)، وقد سبق. (4) البخاري (2345)، ومسلم (1547/ 112).

(2/444)


لذلك، ولم يحرّمها على الناس. الثالث: أن في بعض ألفاظ حديث رافع ما لا يقول به أحد، وهو النهي عن كراء المزارع على الإطلاق (1). ومعلوم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينهَ عن كرائها مطلقًا، فدل على أنه غير محفوظ. الرابع: أنه تارةً يحدثه عن بعض عمومته، وتارة عن سماعه، وتارة عن ظهير بن رافع؛ مع اضطراب ألفاظه، فمرة يقول: «نهى عن الحَقْل (2)»، ومرة يقول: «عن كراء الأرض»، ومرة يقول: «لا يكاريها بثلث، ولا بربع (3)، ولا طعام مسمّى»، كما تقدم ذكر ألفاظه. وإذا كان حديث هكذا، وجب تركه والرجوع إلى المستفيض المعلوم من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من بعده، الذي لم يَضطرب ولم يختلف. الخامس: أن من تأمل حديث رافع، وجمع طرقه، واعتبر بعضها ببعض، وحمَل مُجمَلها على مفسَّرِها ومطلَقَها على مقيَّدها= عَلِم أن الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك أمرٌ بيِّن الفساد، وهو المزارعة الظالمة الجائرة، فإنه قال: «كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه» (4)، وفي لفظ له: «كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما على الماذيانات وأقبال الجداول أو أشياء من الزرع» كما _________ (1) كما عند البخاري (2344)، ومسلم (1547/ 109، 110). (2) في الأصل والطبعتين: «الجعل»، تصحيف. والتصويب مما سبق من أحاديث الباب. (3) الأصل: «ربع» بدون الباء، والمثبت من (هـ) موافق لحديث الباب. (4) أخرجه البخاري (2722)، ومسلم (1547/ 117).

(2/445)


تقدم، وقوله: «ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، وأما شيء مضمون معلوم (1) فلا بأس». وهذا مِن أبين ما في حديث رافع وأصحه، وما فيها مجمل أو مطلق أو مختصر فيُحمَل على هذا المفسَّر المبين المتفق عليه لفظًا وحكمًا. قال الليث بن سعد (2): الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرٌ إذا نظر ذو البصر (3) بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز. وقال ابن المنذر (4): قد جاءت الأخبار عن رافع بعلل تدل على أن النهي كان لتلك العلل. فلا تعارض إذًا بين حديث رافع وأحاديث الجواز بوجه. السادس: أنه لو قدر معارضة حديث رافع لأحاديث الجواز وامتنع الجمع بينها، لكان منسوخًا قطعًا بلا ريب، لأنه لا بد من نسخ أحد الخبرين، ويستحيل نسخ أحاديث الجواز لاستمرار العمل بها من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن توفي، واستمرارِ عمل الخلفاء الراشدين، وهذا أمر معلوم عند من له خبرة بالنقل كما تقدم ذكره، فيتعيّن نسخُ حديث رافع. _________ (1) في الطبعتين: «معلوم مضمون»، مع أن ناسخ الأصل قد وضع عليهما علامة التقديم والتأخير، فلم ينتبه له المحقّقان. والمثبت لفظ أبي داود في أحاديث الباب. (2) كما في «صحيح البخاري» عقب حديث رافع من طريقه، برقم (2346). (3) في الطبعتين: «ذو البصيرة» خلافًا للأصل. (4) في «الإشراف» (6/ 259)، فذكر علّتين. وانظر: «الأوسط» (11/ 63 وما بعدها) حيث ذكر ست علل كان النهي من أجلها.

(2/446)


السابع: أن الأحاديث إذا اختلفت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه ينظر إلى ما عمل به أصحابه من بعده، وقد تقدم ذكر عمل الخلفاء الراشدين وأهلهم وغيرهم من الصحابة بالمزارعة. الثامن: أن الذي في حديث رافع إنما هو النهي عن كرائها بالثلث أو الربع، لا عن المزارعة، وليس هذا بمخالف لجواز المزارعة، فإن الإجارة شيء والمزارعة شيء؛ فالمزارعة من جنس الشركة يستويان في الغُنْم والغُرْم، فهي كالمضاربة بخلاف الإجارة، فإن المؤجِّر على يقين من المغنم وهو الأجرة، والمستأجرَ على رجاء. ولهذا كان أحدُ القولين للمجوِّزين المزارعةَ: إنها أحلُّ من الإجارة وأولى بالجواز، لأنهما على سواءٍ في الغُنم والغُرم (1)، فهي أقرب إلى العدل. فإذا استأجرها بثلثٍ أو ربعٍ كانت هذه إجارة لازمة، وذلك لا يجوز، ولكن المنصوص عن الإمام أحمد جواز ذلك. واختلف أصحابه على ثلاثة أقوال في نصه (2)، فقالت طائفة: يصح ذلك بلفظ المؤاجرة ويكون مزارعة، فيصحُ بلفظ الإجارة كما يصح بلفظ المزارعة. قالوا: والعبرة في العقود بمعانيها وحقائقها لا بصيغها وألفاظها. قالوا: فتصحّ مزارعةً، ولا تصحّ إجارة. وهذه طريقة الشيخ أبي محمد. الثاني: أنها لا تصح إجارةً ولا مزارعة. أما الإجارة، فلأن من شرطها كونَ العوض فيها معلومًا متميزًا معروف الجنس والقدر، وهذا منتفٍ في _________ (1) (هـ): «المغنم والمغرم». (2) انظر: «الإنصاف» (14/ 188).

(2/447)


الثلث والربع. وأما المزارعة، فلأنهما لم يعقدا عقد مزارعة، إنما عقدا عقد إجارة. وهذه طريقة أبي الخطاب. الثالث: أنها تصحّ [ق 189] مؤاجرةً ومزارعةً، وهي طريقة القاضي وأكثر أصحابه. فحديث رافع إما أن يكون النهي فيه عن الإجارة دون المزارعة، أو عن المزارعة التي كانوا يعتادونها، وهي التي فسّرها في حديثه. وأما المزارعة التي فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وخلفاؤه من بعده فلم يتناولها النهي بحال. التاسع: أن ما في المزارعة من الحاجة إليها، والمصلحة، وقيام أمر الناس، يمنع من تحريمها والنهي عنها، لأن أصحاب الأرض كثيرًا ما يعجِزون عن زرعها ولا يقدرون عليه، والعُمّالُ والأَكَرة يحتاجون إلى الزرع ولا أرضَ لهم، ولا قِوام لهؤلاء ولا لهؤلاء إلا بالزرع، فكان من حِكمة الشارع (1)، ورحمته بالأمة، وشفقته عليها، ونظره لهم= أن جوّز لهذا أن يدفع أرضه لمن يعمل عليها، ويشتركان في الزرع؛ هذا بعمله وهذا بمنفعة أرضه، وما رزقه الله فهو بينهما، وهذا في غاية العدل والحكمة والرحمة والمصلحة. وما كان هكذا فإن الشارع لا يحرّمه ولا ينهى عنه، لعموم مصلحته وشدة الحاجة إليه، كما في المضاربة والمساقاة، بل الحاجة في المزارعة آكد منها في المضاربة، لشدة الحاجة إلى الزرع إذ هو القوت، والأرض لا _________ (1) في الأصل والطبعتين: «الشرع»، والكلام الآتي يقتضي ما أثبته.

(2/448)


يُنتفَع بها إلا بالعمل عليها، بخلاف المال. فإن قيل: فالشارع نهى عنها مع هذه المنفعة التي فيها، ولهذا قال رافع: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمر كان لنا نافعًا. فالجواب: أن الشارع لا ينهى عن المنافع والمصالح، وإنما ينهى عن المفاسد والمضارّ، وهم ظنوا أن ذلك المنهيَّ عنه منفعةٌ، وإنما هو مضرة ومفسدة مقتضية للنهي. وما تخيَّلُوه من المنفعة فهي منفعة جُزْوِيّة (1) لرب الأرض لاختصاصه بخيار الزرع، وما سَعِد منه بالماء، وما على أقبال الجداول، فهذا وإن كانت منفعة له، فهو مضرّة على المزارع، فهو من جنس منفعة المُرْبي (2) بما يأخذه من الزيادة، وإن كان مضرةً على الآخر؛ والشارع لا يبيح منفعة هذا بمضرة أخيه. فجواب رافع (3): أن هذا وإن كان منفعةً لكم، فهو مضرة على إخوانكم، فلهذا نهاكم عنه. وأما المزارعة العادلة التي يستوي فيها العامل ورب الأرض فهي منفعة لهما، ولا مضرة فيها على أحد، فلم ينه عنها. فالذي نهى عنه مشتمل على مضرة ومفسدة راجحة في ضِمنها منفعةٌ مرجوحة جُزويّة، والذي فعله وأصحابه من بعده (4) مصلحةٌ ومنفعة راجحة، لا مضرة فيها على واحد منهما، فالتسوية بين هذا وهذا تسوية بين متباينين لا _________ (1) في الطبعتين: «جزئية» خلافًا للأصل، والجُزْو لغةٌ في الجزءِ. (2) (هـ): «المُرابي». (3) يعني: الجواب عن قوله: «نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمرٍ كان لنا نافعًا». (4) الأصل: «هذه»، ولعل المثبت من (هـ) هو الصواب.

(2/449)


يستويان عند الله ولا عند رسوله (1). وكذلك الجواب عن حديث جابر سواء. وقد تقدم في بعض طرقه أنهم كانوا يختصون بأشياء من الزرع من القِصْريّ ومن كذا ومن كذا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «من كان له أرض فليَزرَعها أو لِيُحْرِثْها (2) أخاه»، فهذا مفسَّر مبيَّن ذُكِر فيه سبب النهي، وأُطلِق في غيره من الألفاظ، فينصرف مطلقها إلى هذا المقيد المبين، ويدل على (3) أنه هو المراد بالنهي. واتفقت السنن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتآلفت، وزال عنها الاضطراب والاختلاف، وبان أنّ لكل منها (4) وجهًا، وأن ما نهى عنه غيرُ ما أباحه وفَعَله، وهذا هو الواجب والواقع في نفس الأمر، والحمد لله رب العالمين. 8 - باب مَن زرع أرضًا بغير إذن صاحبها 391/ 3261 - عن عطاء ــ وهو ابن أبي رباح ــ، عن رافع بن خديج، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن زرع في أرضِ قومٍ بغير إذنهم، فليس له من الزَّرع شيءٌ وله نفقَتُه». وأخرجه ابن ماجه (5) والترمذي، وقال: حسن غريب، لا نعرفه من حديث أبي إسحاق إلا من هذا الوجه، من حديث شريك بن عبد الله. قال: وسألت _________ (1) زاد في ط. الفقي: «ولا عند الناس»، وليس في الأصل. (2) ضبطه في الأصل: «ليُخبرنَّها»، خطأ مخالف للفظ الحديث. (3) بعده في الأصل: «هذا»، وليست في (هـ)، والكلام مستقيم بدونها. (4) الأصل: «فيها»، والتصحيح من (هـ). (5) أبو داود (3403)، وابن ماجه (2466) والترمذي (1366)، من طريق شريك بن عبد الله النخعي القاضي، عن أبي إسحاق السبيعي، عن عطاء به.

(2/450)


محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث؟ فقال: هو حديث حسن. وقال: لا أعرفه من حديث أبي إسحاق إلا من رواية شريك. وقال الخطابي (1): هذا الحديث لا يثبت عند أهل المعرفة بالحديث. وحدثني الحسن بن يحيى، عن موسى بن هارون الحمّال أنه كان ينكر هذا الحديث ويضعّفه، ويقول: لم يروه عن أبي إسحاق غير شريك [ولا رواه عن عطاء غير أبي إسحاق، وعطاء لم يسمع من رافع بن خديج شيئًا. وضعّفه البخاري (2) أيضًا وقال: تفرد بذلك شريك] عن أبي إسحاق، وشريك يهم كثيرًا أو أحيانًا. وقال الخطابي: وحكى ابن المنذر (3) عن أبي داود قال: سمعت أحمد بن حنبل يُسأل عن حديث رافع بن خديج؟ فقال: عن رافع ألوان، ولكن أبا إسحاق زاد فيه: «زرع بغير إذنه»، وليس غيره يذكر هذا الحرف (4). قال ابن القيم - رحمه الله -: وليس مع من ضعّف الحديث حجة، فإن رواته محتج بهم في «الصحيح»، وهم أشهر من أن يسأل عن توثيقهم (5)، وقد _________ (1) «معالم السنن» (5/ 64 - 65). (2) لم أقف عليه عند غير الخطّابي. (3) في «الأوسط» (11/ 96)، وهو في «مسائل أحمد» لأبي داود (ص 273). (4) كلام المنذري من (هـ)، وفيه تصرّف يسير من المؤلف، وما بين الحاصرتين سقط لانتقال النظر فاستُدرك من «المختصر» (5/ 65). (5) خلا شريك، فإنه صدوق يخطئ، وقد تغيّر حفظه منذ ولي القضاء، ولم يحتج به الشيخان، وإنما استشهد به البخاري في موضع واحد تعليقًا، وأخرج له مسلم في المتابعات. ومع هذا، فإن شريكًا من أثبت أصحاب أبي إسحاق بعد شعبة والثوري، وقد قدّمه أحمد وابن معين على إسرائيل في أبي إسحاق. ثم إنه قد توبع كما عند يحيى بن آدم في «الخراج» (296)، ومن طريقه البيهقي (6/ 136). وانظر: «العلل» لابن أبي حاتم (1427).

(2/451)


حسّنه إمام المحدثين أبو عبد الله البخاري، والترمذي بعده، وذكره أبو داود ولم يضعّفه فهو حسن عنده، واحتج به الإمام أحمد وأبو عبيد (1). وقد تقدّم شاهده من حديث رافع بن خديج في قصة الذي زرع في أرض ظُهَير (2) فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحاب الأرض أن يأخذوا الزرع ويردوا عليه نفقته، وقال فيه لأصحاب الأرض: «خذوا زرعكم»، فجعله زرعًا لهم، لأنه تولّد من منفعة أرضهم، فتولُّدُه في الأرض كتولُّد الجنين في بطن أمه. ولو غصب رجل فحلًا فنزا على ناقته أو رَمَكَتِه (3) لكان الولد لصاحب الأنثى، دون صاحب الفحل، لأنه إنما يكون حيوانًا من أجزائها (4)، ومنيُّ الأب لما لم يكن له قيمة أهدره الشارع، لأن عسب الفحل لا يقابَل بالعوض. ولما كان البذر مالًا متقوّمًا رُدَّ على صاحبه قيمتُه، ولم يذهب عليه باطلًا، وجعل الزرع لمن يكون في أرضه، كما يكون الولد لمن يكون في بطن أمّه ورَمَكَته وناقته. فهذا محض القياس لو لم يأت فيه حديث؛ فمِثلُ هذا الحديث الحسن الذي له شاهد من السنة على مثله، وقد تأيد بالقياس الصحيح= مِن حُجَج الشريعة، وبالله التوفيق. _________ (1) احتجّ به أحمد في «مسائله» برواية أبي داود (ص 273)، وأبو عبيد في كتاب «الأموال» (1/ 404 - 406). (2) في الأصل: «ظهر»، وعُلّق عليه في الهامش: «لعله: ظهير»، وهو كذلك. (3) الرَّمَكَة: الأنثى من البراذين. (4) غير منقوط في الأصل، وفي ط. الفقي: «حرثها»، والمثبت من ط. المعارف.

(2/452)


9 - باب في المخابرة 392/ 3262 - عن أبي الزبير، وسعيد بن مِيناء، عن جابر بن عبد الله قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المُحاقلة، والمُزابنة، والمُخابرة، والمُعاوَمة ــ قال عن حماد: وقال أحدهما: والمعاومة، وقال الآخر: بيع السِّنين، ثم اتفقوا: ــ وعن الثُّنْيا، ورخَّصَ في العَرايا. وأخرجه مسلم وابن ماجه (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: المخابرة التي نهاهم عنها رسول الله صلى الله عليه [ق 180] وسلّم هو الذي كانوا يفعلونه من المخابرة الظالمة الجائرة، وهي التي جاءت مفسّرةً في أحاديثهم. ومطلق النهي إنما ينصرف إليها دون ما فَعَله هو وخلفاؤه من بعده وأصحابه، كما بينّاه. 10 - باب المُساقاة 393/ 3266 - عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاملَ أهل خَيبرَ بِشَطْرِ ما يخرج من ثَمَرٍ أو زرع. وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه (2) (3). _________ (1) أبو داود (3404)، ومسلم (1536/ 85)، وابن ماجه (22، 2266) مختصرًا. (2) أبو داود (3408)، والبخاري (2328)، ومسلم (1551)، والترمذي (1383)، وابن ماجه (2467). (3) ذكر أبو داود ــ وكذا المنذري في «مختصره» ــ في الباب خمسة أحاديث: اثنان عن ابن عمر، وثلاثة عن ابن عباس، كلها في معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر على نصف ثمرتها؛ فاكتفينا بذكر الأول منها، فإن المجرّد لم يحدّد موضع تعليق ابن القيم، ولعله كان في آخرها تذييلًا عليها بذكر حديث آخر على جواز المساقاة.

(2/453)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي «صحيح البخاري» (1) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قالت الأنصار للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اقْسِم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: «لا»، فقالوا: تكفونا المَؤُونة، ونشرككم في الثمرة. قالوا: سمعنا وأطعنا. 11 - باب في العبد يُباع وله مال 394/ 3288 - عن سالم ــ وهو ابن عبد الله بن عمر ــ عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من بَاع عَبدًا وله مال فمالُه للبائع، إلا أن يشترط المبتاع، ومن باع نخلًا مُؤَبَّرًا فالثمرة للبائع، إلا أن يشترط المبتاع». وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (2). 395/ 3289 - وعن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، بقصة العبد. وأخرجه النسائي (3) موقوفًا. 396/ 3290 - وعن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقصة النخل (4). وأخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه (5). قال ابن القيم - رحمه الله -: اختلف سالم ونافع على ابن عمر في هذا الحديث، _________ (1) برقم (2325، 2719). (2) أبو داود (3433)، والبخاري (2379)، ومسلم (1543/ 80)، والترمذي (1244)، والنسائي (4636)، وابن ماجه (2211). (3) أبو داود (3434)، والنسائي في «الكبرى» (4967، 4968). (4) ذكر المجرّد أن تعليق المؤلف وقع عقب قوله: «بقصة النخل»، وأثبتنا تخريج المنذري جريًا على عادة المؤلف بإثباته في أكثر المواضع. (5) أبو داود (3434)، والبخاري (2204، 2206)، ومسلم (1543/ 77 - 79)، وابن ماجه (2210). وأخرجه النسائي (4635) أيضًا.

(2/454)


فسالم رواه عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعًا في القصتين جميعًا: قصة العبد وقصة النخل؛ ورواه نافع عنه، ففرَّق بين القصتين، فجعل قصة النخل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -،وقصة العبد عن ابن عمر عن عمر. فكان مسلم والنسائي (1) وجماعة من الحفاظ يحكمون لنافع ويقولون: ميّز وفرق بينهما، وإن كان سالم أحفظ منه. وكان البخاري والإمام أحمد وجماعة من الحفاظ يحكمون لسالم، ويقولون: هما جميعا صحيحان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2). وقد روى جماعة أيضًا عن نافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصةَ العبد، كما رواه سالم، منهم: يحيى بن سعيد، وعبد ربه بن سعيد، وسليمان بن موسى (3). ورواه عبيد الله بن أبي جعفر، عن بكير بن الأشج، عن نافع، عن ابن عمر يرفعه، وزاد فيه: «ومن أعتق عبدًا وله مال فماله له، إلا أن يشترط السيد مالَه فيكون له» (4). _________ (1) أسنده عنهما البيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 324). وانظر: «التتبّع» للدارقطني برقم (145). (2) أما البخاري، فقد أخرج رواية سالم في «صحيحه» (2379)، ونقل الترمذي عنه في «العلل الكبير» (ص 185 - 186) أنه رأى الحديثين صحيحين. أما أحمد، فالذي نقله عنه المروذي في «العلل» (ص 43، 156) أنه مال إلى رواية نافع. (3) روايات هؤلاء أخرجها البيهقي (5/ 325 - 326). وذكر الدارقطني رواية عبد ربه، وسليمان بن موسى في آخرين، وقال: «وهموا فيه على نافع». «العلل» (2996). (4) أخرجه أبو داود (3962)، وابن ماجه (2529)، والبيهقي (5/ 325) من طريق عبيد الله بن أبي جعفر به.

(2/455)


قال البيهقي (1): وهذا بخلاف رواية الجماعة. وليس هذا بخلاف روايتهم، وإنما هي زيادة مستقلة رواها أحمد في «مسنده» (2)، واحتج بها أهل المدينة في أن العبد إذا أعتق فماله له إلا أن يشترطه سيده، كقول مالك. ولكن علة الحديث أنه ضعيف، قال الإمام أحمد: يرويه عبيد الله بن أبي جعفر من أهل مصر، وهو ضعيف في الحديث، كان صاحب فقه، فأما في الحديث فليس هو فيه بالقوي (3). وقال أبو الوليد (4): هذا الحديث خطأ. وكان ابن عمر إذا أعتق عبدًا لم يعرض لماله. قيل للإمام أحمد (5): هذا عندك على التفضُّل؟ قال: إي لعَمْري، على التفضُّل. قيل له: فكأنه عندك للسيد؟ فقال: نعم للسيد، مثل البيع سواء. 12 - باب النهي عن العِينة 397/ 3317 - عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا تَبايعتم _________ (1) «الكبرى» (5/ 325)، و «معرفة السنن والآثار» (8/ 127). (2) كذا، ولم أجدها فيه. (3) قول أحمد هذا ذكره في «المغني» (14/ 398). وقال في رواية ابنه عبد الله: كان يتفقّه، ليس به بأس. «الجرح والتعديل» (5/ 311). (4) كما في «المغني» (14/ 398)، وأبو الوليد هذا لعله الأستاذ الفقيه حسان بن محمد القرشي، إمام أهل الحديث بخراسان في زمانه (ت 349). انظر: «تاريخ الإسلام» (7/ 874). (5) كما في «المغني» (14/ 398)، وانظر «مسائل أحمد» برواية الكوسج (1/ 503، 2/ 482) ورواية أبي الفضل صالح (1/ 260).

(2/456)


بالعِينة، وأخذتم أذنابَ البقر، ورَضِيتم بالزرع، وتركتم الجهادَ، سَلَّطَ الله عليكم ذُلًّا لا يَنزِعُه حتى ترجعوا إلى دينكم» (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي الباب حديث أبي إسحاق السَّبِيعي عن امرأته: أنها دخلت على عائشة فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم، فقالت: يا أم المؤمنين، إني بعتُ غلامًا من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئةً، وإني ابتعتُه منه بستمائة نقدًا، فقالت لها عائشة: «بئسما اشتريتِ، وبئسما شريتِ، أخبري (2) زيدًا أن جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بطل إلا أن يتوب». هذا الحديث رواه البيهقي والدارقطني (3). وذكره الشافعي (4) وأعله بالجهالة بحال امرأة أبي إسحاق، وقال: لو ثبت فإنما عابت عليها بيعًا إلى العطاء، لأنه أجل غير معلوم. ثم قال: ولا يثبت مثل هذا عن عائشة، وزيد بن أرقم لا يبيع إلا ما يراه حلالًا. قال البيهقي: ورواه يونس بن أبي إسحاق عن أمه العالية بنت أَيْفَعَ: أنها دخلت على عائشة مع أم مُحِبَّة (5). وقال غيره: هذا الحديث حسن ويُحتج بمثله، لأنه قد رواه عن العالية _________ (1) «سنن أبي داود» (3462). في إسناده لين، ولكن له طرق يتقوى بها كما سيأتي في كلام المؤلف مفصّلًا. (2) في الأصل: «أخبرني»، سبق قلم. (3) البيهقي (5/ 330) والدارقطني (3003)، وكذا أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (10/ 365)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 545 - 546)، من طرق عن أبي إسحاق به. (4) «الأم» (4/ 74 - 160)، والمؤلف صادر عن «معرفة السنن» (8/ 135 - 137). (5) أخرجه الدارقطني (3002)، وقال: «أم محبة والعالية مجهولتان لا يُحتجّ بهما».

(2/457)


ثقتان ثَبْتان: أبو إسحاق زوجها، ويونس ابنها؛ ولم يُعلَم فيها جرح، والجهالة ترتفع عن الراوي بمثل ذلك. ثم إن هذا مما ضبَطَت فيه القصة ومن دخل معها على عائشة، وقد صدَّقها زوجُها وابنُها وهما مَن هما، فالحديث محفوظ. وقوله في الحديث المتقدم (1): «من باع بيعتين في بيعة فله أوكَسُهما أو الربا» هو مُنزَّل على العِينة بعينها، قاله شيخنا (2)؛ لأنه بيعان في مبيع واحد، فأوكسهما: الثمن الحالّ، وإن أخذ بالأكثر ــ وهو المؤجل ــ أخذ بالربا. فالمعنَيان لا تنفك (3) من أحد الأمرين: إما الأخذ بأوكس الثمنَين، أو الربا، وهذا لا يتنزَّل إلا على العِينة. فصل قال المُحرِّمون للعينة: الدليل على تحريمها من وجوه: أحدها: أن الله تعالى حرَّم الربا، والعِينةُ وسيلة إلى الربا، بل هي من _________ (1) «السنن» (3461) و «مختصره» (3316)، وأخرجه أيضًا ابن حبان (4974)، والحاكم (2/ 45)، كلهم من طريق يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعًا. رجاله ثقات إلا أن ابن أبي زائدة خولف في لفظه، خالفه يحيى القطان ويزيد بن هارون وغيرهما من الأثبات، فروَوه عن محمد بن عمرو بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعتين في بيعة. أخرجه أحمد (9584، 10535)، والترمذي (1231) وقال: حسن صحيح. (2) انظر: «مجموع الفتاوى» (29/ 432)، و «بيان الدليل على إبطال التحليل» (ص 83 - 85). (3) كذا في الأصل و (هـ) على عادة المؤلف، وقد سبق نظيره، وفي الطبعتين: «ينفكّان».

(2/458)


أقرب وسائله، والوسيلة إلى الحرام حرام. فهنا مقامان: أحدهما: بيان كونها وسيلة. والثاني: أن الوسيلة إلى الحرام حرام. فأما الأول: فيشهد به النقل والعرف والنية والقصد، وحال المتعاقدَين. فأما النقل: فما ثبت عن ابن عباس أنه سئل عن رجل باع من رجل حريرةً بمائة، ثم اشتراها بخمسين؟ فقال: «دراهم بدراهم متفاضلة، دخلت بينهما (1) حريرة» (2). وفي كتاب محمد بن عبد الله الحافظ المعروف بِمُطَيَّن (3)، عن ابن عباس: أنه قال: «اتقوا هذه العينة، لا تبيعوا دراهم بدراهم بينهما حريرة». وفي كتاب أبي محمد النَخْشَبي الحافظ (4) عن ابن [ق 181] عباس أنه _________ (1) في الطبعتين: «بينها» خلافًا للأصل ولمصادر التخريج. (2) أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (10/ 364) بإسناد صحيح. والمؤلف صادر عن «بيان الدليل» لشيخ الإسلام (ص 76). (3) عزاه إليه شيخ الإسلام في «بيان الدليل» (ص 76)، وذكر أنه من رواية ابن سيرين، عن ابن عباس. وقد أخرجه ابن أبي شيبة (20527) بإسناده عن ابن سيرين قال: نُبِّئتُ أن ابن عباس كان يقول: (بنحوه). (4) وإليه عزاه شيخ الإسلام في «بيان الدليل» (ص 76)، وصححه المؤلف في «أعلام الموقعين» (4/ 47). وأبو محمد النَخْشَبي هو الحافظ الكبير: عبد العزيز بن محمد بن محمد النخشبي، ونخشب هي نَسَف. صاحَبَ الحافظ جعفر بن محمد المستغفري وأكثر عنه، وسمع جماعةً كثيرة بدمشق وبغداد وخراسان. توفي كهلًا سنة 456 أو 457، ولم يروِ إلا اليسير. انظر: «السير» (18/ 267)، و «تاريخ الإسلام» (10/ 72).

(2/459)


سئل عن العينة يعني بيع الحريرة؟ فقال: «إن الله لا يُخدَع، هذا مما حرم الله ورسوله». وفي كتاب الحافظ مُطيَّن (1) عن أنس أنه سئل عن العينة ــ يعني بيع الحريرة ــ، فقال: «إن الله لا يُخدَع، هذا مما حرم الله ورسوله». وقول الصحابي: «حرم رسول الله كذا، وأمر بكذا، وقضى بكذا، وأوجب كذا» في حكم المرفوع اتفاقًا من أهل العلم، إلا خلافًا شاذًّا لا يُعتد به، ولا يؤبه له. وشبهة المخالف: أنه لعله رواه بالمعنى، فظن ما ليس بأمرٍ ولا تحريمٍ، كذلك. وهذا فاسد جدًّا، فإن الصحابة أعلم بمعاني النصوص، وقد تلقَّوها مِن فِيْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يُظَنّ بأحدٍ منهم أن يُقدِم على قوله: «أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو حرّم، أو فرض» إلا بعد جَزمه بذلك (2)، ودلالةِ اللفظ عليه. واحتمالُ خلاف هذا كاحتمال الغلط والسهو في الرواية، بل دونه. فإنْ رُدَّ قوله «أمر» ونحوه بهذا الاحتمال وجب رَدُّ روايته لاحتمال السهو والغلط، وإن قُبلت روايته وجب قبول الآخر. وأما شهادة العرف بذلك: فأظهر من أن تحتاج إلى تقرير، بل قد علم الله وعبادُه مِن ذلك، مِن قصدهما أنهما لم يعقدا على السلعة عقدًا يُقصَد به _________ (1) كما في «بيان الدليل» (ص 75)، وصححه المؤلف في «الأعلام» (4/ 47). (2) الأصل: «ذلك»، والمثبت من (هـ).

(2/460)


تملُّكها، ولا غرضَ لهما فيها بحال. وإنما الغرض والمقصود بالقصد الأول: مائة بمائة وعشرين، وإدخالُ تلك السلعة في الوسط تلبيس وعبث، وهي بمنزلة الحرف الذي لا معنى له في نفسه، بل جِيء به لمعنًى في غيره، حتى لو كانت تلك السلعة تساوي أضعاف ذلك الثمنِ أو أقلَّ جزء من أجزائه لم يبالوا بجعلها مورِدًا للعقد، لأنهم لا غرض لهم فيها، وأهلُ العرف لا يكابرون أنفسهم في هذا. وأما النية والقصد، فالأجنبي المشاهد لهما يقطع بأنه لا غرض لهما في السلعة وأن القصد الأول: مائةٌ بمائةٍ وثلاثين (1)، فضلًا عن علم المتعاقدَين ونيتهما، ولهذا يتواطأ كثير منهم على ذلك قبل العقد، ثم يُحضران تلك السلعة محلِّلًا لما حرم الله ورسوله. وأما المقام الثاني ــ وهو أن الوسيلة إلى الحرام حرام ــ فثابت بالكتاب والسنة والفطرة والمعقول، فإن الله سبحانه مسخ اليهود قردةً وخنازير لمّا توسلوا إلى الصيد الحرام بالوسيلة التي ظنوها مباحةً. وسمى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون مثل ذلك مخادعة، كما تقدم. وقال أيوب السختياني: «يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمرَ على وجهه كان أسهل» (2). والرجوع إلى الصحابة في معاني الألفاظ متعين، سواء كانت لغويةً أو شرعية، والخداع حرام. _________ (1) كذا في الأصل و (هـ)، وفي ط. الفقي: «وعشرين» موافقًا لما سبق. (2) علَّقه البخاري بنحوه مجزومًا به في «الحيل»، باب ما يُنهى من الخداع في البيوع. ووصله وكيع بن الجرّاح في «مصنّفه» ــ كما في «تغليق التعليق» (5/ 264) ــ عن ابن عيينة، عنه.

(2/461)


وأيضًا: فإن هذا العقد يتضمن إظهار صورة مباحة، وإضمارَ ما هو من أكبر الكبائر، فلا تنقلب الكبيرة مباحةً بإخراجها في صورة البيع الذي لم يُقصَد نقل الملك فيه أصلًا، وإنما قُصِد حقيقة الربا. وأيضًا: فإن الطريق متى أفضت إلى الحرام، فإن الشريعة لا تأتي بإباحتها أصلًا، لأن إباحتها وتحريمَ الغاية جمعٌ بين النقيضين، فلا يتصور أن تُباح (1) ويُحرَّم ما تُفضِي إليه، بل لا بد من تحريمهما أو إباحتهما، والثاني باطل قطعًا فيتعيّن الأول. وأيضًا: فإن الشارع إنما حرَّم الربا، وجعله من الكبائر، وتوعَّد آكِلَه بمحاربة الله ورسوله، لما فيه من أعظم الفساد والضرر، فكيف يُتصوَّر مع هذا أن يبيح هذا الفساد العظيم بأيسر شيءٍ يكون من الحِيَل؟! فيالله العجب! أتُرى هذه الحيلة أزالت تلك المفسدة العظيمة، وقلبتها مصلحةً بعد أن كانت مفسدة؟ وأيضًا: فإن الله سبحانه عاقب أهل الجنة الذين أقسموا ليَصرِمُنَّها مُصبِحين (2)، وكان مقصودهم منع حق الفقراء من المتساقط وقت الجِذاذ، فلما قصدوا منع حقهم منعهم الله الثمرة جملة. ولا يقال: فالعقوبة إنما كانت على ترك الاستثناء وحده (3)، لوجهين: _________ (1) أي الطريقُ المفضية إلى الحرام. وفي الطبعتين: «يُباح»، وزاد الفقي بعده: «شيءٌ»! (2) كما قصَّ الله خبرهم في سورة القلم (17 - 33). (3) على قول من فسّر: {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} بأنهم لم يقولوا: إن شاء الله. انظر: «زاد المسير» (8/ 335 - 336).

(2/462)


أحدهما: أن العقوبة من جنس العمل، وتركُ الاستثناء عقوبته أن يُعوَّق ويُنَسَّى، لا إهلاكُ ماله، بخلاف عقوبة ذنب الحِرمان فإنها حرمان كالذنب. الثاني: أن الله تعالى أخبر عنهم أنهم قالوا: {أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ}، ورتّب (1) العقوبة على ذلك، فلو لم يكن لهذا الوصف مدخل في العقوبة لم يكن لذكره فائدة، فإن لم يكن هو العلةَ التّامة كان جزءًا من العلة. وعلى التقديرين يحصل المقصود. وأيضًا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الأعمال بالنيات»، والمتوسِّل بالوسيلة التي صورتها مباحة إلى المحرَّم إنما نيته المحرَّم، ونيته أولى به من ظاهر عمله. وأيضًا: فقد روى ابن بطة (2) وغيره بإسناد حسن عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلُّوا محارمَ الله بِأَدنى الحيل» وإسناده مما يصححه الترمذي. وأيضًا: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لعن الله اليهود حُرِّمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها» (3). _________ (1) في الأصل و ط. الفقي: «وذنب»، تحريف. (2) في «إبطال الحيل» (ص 104 - 105) من طريق محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. قال شيخ الإسلام في «بيان الدليل» (ص 54) بعد أن ساق إسناد ابن بطة: «هذا إسناد جيّد يصحح مثله الترمذي وغيره تارةً، ويحسنّه تارة، وأحمد بن محمد بن سلْم المذكور (شيخ ابن بطة) مشهور ثقة ذكره الخطيب في «تاريخه» [(6/ 8) ط. دار الغرب] بذلك، وسائر رجال الإسناد أشهر من أن يُحتاج إلى وصفهم». وبنحوه قال ابن كثير في «تفسيره» (الأعراف: 163). (3) أخرجه البخاري (2223، 2224، 2236)، ومسلم (1582، 1583، 1581) من حديث عمر وأبي هريرة وجابر - رضي الله عنهم - ولاءً.

(2/463)


و «جملوها»: يعني أذابوها [ق 182] وخلطوها، وإنما فعلوا ذلك ليزول عنها اسم الشحم، ويَحدُث لها اسم آخر وهو الوَدَك، وذلك لا يفيد الحِلَّ، فإن التحريم تابع للحقيقة وهي لم تتبدَّل بتبدُّل الاسم. وهذا الربا تحريمه تابع لمعناه وحقيقته، فلا يزول بتبدل الاسم بصورة البيع كما لم يَزُل تحريم الشحم بتبدل الاسم بصورة الجَمْل والإذابة، وهذا واضح بحمد الله. وأيضًا: فإن القوم (1) لم ينتفعوا بعَين الشحم، إنما انتفعوا بثمنه، فيلزم مَن وقف مع صُوَر العقود والألفاظ دون مقاصدها وحقائقها أن لا يحرِّم ذلك، لأن الله تعالى لم ينصَّ على تحريم الثمن، وإنما حرَّم عليهم نفس الشحم. ولمّا لعنهم على استحلالهم الثمن، وإن لم ينص على تحريمه، دل على أن الواجبَ النظرُ إلى المقصود وإن اختلفت الوسائل إليه، وأن ذلك يوجب أن لا يُقصد الانتفاعُ بالعَين ولا ببدلها. ونظير هذا أن يُقال: «لا تقرب مال اليتيم»، فتبيعه وتأكل عِوَضه؛ وأن يقال: «لا تشرب الخمرَ»، فتغير اسمه وتشربه؛ وأن يقال: «لا تَزْنِ بهذه المرأة»، فتعقدَ عليها عقدَ إجارةٍ وتقول: إنما أستوفي منافعها! وأمثال ذلك. قالوا: ولهذا الأصل ــ وهو تحريم الحِيَل المتضمنة إباحةَ ما حرم الله، أو إسقاطَ ما أوجبه الله عليه ــ أكثر من مائة دليل. وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن المحلِّل والمحلَّل له (2)، مع أنه أتى بصورة _________ (1) ط. الفقي: «اليهود» تغييرًا لما في الأصل. (2) أخرجه أحمد (4283)، والترمذي (1120)، والنسائي (3416)، وغيرهم من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروي أيضًا من حديث علي، وأبي هريرة، وعقبة بن عامر، وابن عباس - رضي الله عنهم -، وفي أسانيدها ضعف. انظر: «بيان الدليل» (ص 318 - 322)، و «تفسير ابن كثير» (البقرة: 230)، و «التلخيص الحبير» (3/ 170 - 171).

(2/464)


عقد النكاح الصحيح، لمّا كان مقصوده التحليل، لا حقيقة النكاح. وقد ثبت عن الصحابة أنهم سَمَّوه زانيًا (1)، ولم ينظروا إلى صورة العقد. الدليل الثاني على تحريم العينة ما رواه أحمد في «مسنده» (2): حدثنا أسود بن عامر، حدثنا أبو بكر، عن الأعمش، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا ضنَّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعِينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله= أنزل الله بهم بلاءً، فلا يرفعه عنهم حتى يُراجِعوا دينهم». ورواه أبو داود (3) بإسناد صحيح إلى حَيْوَةَ بن شُرَيحٍ المصري، عن إسحاق أبي عبد الرحمن (4) الخراساني، أن عطاءً الخراساني حدثه: أن نافعًا حدثه عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (فذكره). وهذان إسنادان حسنان يشُدُّ أحدهما الآخر. _________ (1) صحَّ عن ابن عمر أنه قال: كنا نعدُّ هذا سفاحًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه وكيع ــ كما في «بيان الدليل» (ص 397) ــ، والحاكم (2/ 199) وعنه البيهقي (7/ 208)، بإسناد على شرط الشيخين. (2) رقم (4825)، وسيأتي الكلام عليه. (3) رقم (3462)، وهو حديث الباب. (4) في الأصل: «أبي عبد الله»، خطأ.

(2/465)


فأما رجال الأول فأئمة مشاهير، وإنما يخاف أن لا يكون الأعمش سمعه من عطاء، أو أن عطاء لم يسمعه من ابن عمر (1). فالإسناد الثاني يبين أن للحديث أصلًا محفوظًا عن ابن عمر، فإن عطاء الخراساني ثقة مشهور وحَيْوة كذلك، وأما إسحاق أبو عبد الرحمن (2) فشيخ روى عنه أئمة المصريين مثلُ: حَيْوة، واللَّيث، ويحيى بن أيوب، وغيرهم. وله طريق ثالث: رواه السَّرِي بن سهل (3): حدثنا عبد الله بن رُشَيد، _________ (1) أما الأول فلأن الأعمش مدلس ولم يصرح بالسماع، وأما الثاني فلأنه اختلف الأئمة في سماع عطاء من ابن عمر، فأثبته أبو نعيم الفضل بن دكين، كما في «التاريخ الكبير» للبخاري (6/ 464)، وأنكره أحمد فقال: رآه ولم يسمع منه، كما في «المراسيل» لابن أبي حاتم (ص 154). (2) في الأصل: «أبو عبد الله»، خطأ. (3) نقله عنه شيخ الإسلام في «بيان الدليل» (ص 73) فقال: «وقد رُويناه من طريق ثالث في حديث السري بن سهل الجُندَيسابوري بإسناد مشهور إليه». وقد أخرجه أيضًا ابن أبي الدنيا في «العقوبات» (317)، والرُّوياني في «مسنده» (1422)، وأبو يعلى (5659)، والطبراني في «الكبير» (12/ 433)، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 313 - 314)، والبيهقي في «الشعب» (10373)؛ من طرق عن الليث بن أبي سليم به، إلا أن في رواية أبي يعلى والطبراني والبيهقي زيادة «عبد الملك بن أبي سليمان» في الإسناد بين الليث وعطاء. ويُشبه أن يكون هذا الاختلاف من الليث نفسه، فإنه مضطرب الحديث لسوء حفظه واختلاطه، وقد ذكر البيهقي عقب الحديث لونَين آخَرَين في الإسناد عنه. هذا، وللحديث طريق رابع: أخرجه أحمد (5007) من طريق أبي جناب الكلبي، عن شهر بن حوشب، عن ابن عمر. وهو ضعيف لعنعنة أبي جناب، فإنه كثير التدليس عن الضعفاء. وطريق خامس: أخرجه ابن أبي الدنيا في «العقوبات» (24) بإسناد حسن إلى راشد أبي محمد الحِمَّاني أنه قال: قال ابن عمر ... بنحوه. إلا أنه مُرسَل فإن راشدًا هذا من صغار التابعين لم يُدرك ابن عمر.

(2/466)


حدثنا عبد الرحمن بن محمد، عن ليث، عن عطاء، عن ابن عمر قال: لقد أتى علينا زمان وما منا رجل يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم، ولقد سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا ضنَّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، وتركوا الجهاد، واتبعوا أذناب البقر= أدخل الله عليهم ذُلًّا لا ينزعه حتى يتوبوا ويرجعوا إلى دينهم». وهذا يبين أن للحديث أصلًا وأنه محفوظ. الثالث: ما تقدم من حديث أنس أنه سئل عن العينة، فقال: «إن الله لا يُخدَع، هذا مما حرم الله ورسوله». وتقدم أن هذا اللفظ في حكم المرفوع. الرابع: ما تقدم من حديث ابن عباس وقوله: «هذا مما حرم الله ورسوله». الخامس: ما رواه الإمام أحمد (1): حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن العالية؛ ورواه حرب (2) من حديث إسرائيل حدثني أبو إسحاق عن جدّته العالية ــ يعني جدة إسرائيل، فإنها امرأة أبي إسحاق ــ _________ (1) كما في «بيان الدليل» (ص 77) ــ والمؤلف صادر عنه ــ، وليست الرواية في «المسند»، ولعلها كانت في «مسائل حرب بن إسماعيل الكرماني» كما يدل عليه الإسناد الآتي. والحديث قد سبق تخريجه في أول الباب. (2) لعله في «مسائله» عن أحمد وإسحاق، فإنه كثيرًا ما يُسند فيها الأحاديث، كما في القدر المطبوع منه، وأكثره في عداد المفقود، والله المستعان.

(2/467)


قالت: دخلت على عائشة في نسوة فقالت [ما] حاجتكن؟ فكان أول من سألها أم مُحبّة، فقالت: يا أم المؤمنين هل تعرفين زيد بن أرقم؟ قالت نعم. قالت: فإني بعته جاريةً لي بثمانمائة درهم إلى العطاء، وإنه أراد أن يبيعها فابتعتُها بستمائة درهم نقدًا. فأقبلتْ عليها وهي غضبى، فقالت: بئسما شَرَيتِ وبئسما اشتريتِ، أبلغي زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتوب. وأُفحِمتْ صاحبتنا فلم تتكلم طويلًا، ثم إنه سهل عنها فقالت: يا أم المؤمنين أرأيتِ إن لم آخذ إلا رأس مالي؟ فتلَتْ عليها: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275]. فلولا أن عند أم المؤمنين علمًا لا تستريب فيه أن هذا محرَّم لم تستجز (1) أن تقول مثل هذا بالاجتهاد، ولا سيما إن كانت قد قصدت أن العمل يَحبَط بالردة، وأن استحلال الربا كفرٌ، وهذا منه، ولكن زيدٌ معذور لأنه لم يعلم أن هذا مُحرَّم، ولهذا قالت: «أبلغيه». ويحتمل أن تكون قصدت أن هذا من الكبائر التي يقاوم إثمُها ثوابَ الجهاد فيصير بمنزلة من عمل حسنةً وسيئةً بقدرها، فكأنه لم يعمل شيئًا. وعلى التقديرين فجزمُ أم المؤمنين بهذا دليل على أنه لا يسوغ فيه الاجتهاد، ولو كانت هذه من مسائل الاجتهاد [ق 183] والنزاعِ بين الصحابة لم تُطلِق عائشة على زيد ذلك، فإن الحسناتِ لا تَبطُل بمسائل الاجتهاد. ولا يقال: فزيد من الصحابة وقد خالفها؛ لأن زيدًا لم يقل: هذا حلال، _________ (1) في الأصل و (هـ) وط. المعارف: «تستحسن»، ولعل المُثبت من ط. الفقي هو الصواب لموافقته ما في «بيان الدليل» (ص 78) والمؤلف صادر عنه.

(2/468)


بل فعله، وفِعل المجتهد لا يدل على قوله على الصحيح، لاحتمال سهوٍ أو غفلة أو تأويل أو رجوع ونحوه، وكثيرًا ما يفعل الرجل الشيء ولا يعلم مفسدته، فإذا نُبِّه لها انتبه. ولا سيما أم ولده، فإنها دخلت على عائشة تستفتيها، وطلبت الرجوع إلى رأس مالها، وهذا يدل على الرجوع عن ذلك العقد، ولم يُنقَل عن زيد أنه أصرَّ على ذلك. فإن قيل: لا نسلم ثبوت الحديث، فإن أم ولد زيد مجهولة. قلنا: أم ولده لم تروِ الحديث، وإنما كانت هي صاحبة القصة، وأما العالية فهي امرأة أبي إسحاق السبيعي، وهي من التابعيات، وقد دخلت على عائشة (1)، وروى عنها أبو إسحاق، وهو أعلم بها. وفي الحديث قصة وسياق يدل على أنه محفوظ، وأن العالية لم تختلق هذه القصة وتضعها، بل يغلب على الظن غلبةً قوية صِدقُها فيها وحفظها لها، ولهذا رواها عنها زوجها (2) ولم يتَّهِمها، ولا سيما عند من يقول رواية العدل عن غيره تعديل له، والكذب لم يكن فاشيًا في التابعين فُشُوَّه فيمن بعدهم، وكثير منهم كان يروي عن أمه وامرأته ما يخبرهن به أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - _________ (1) هكذا جاء في أكثر الروايات عن أبي إسحاق: أن العالية دخلت مع أم ولد زيدٍ على عائشة، فأم الولد صاحبة القصة، والراوية عن عائشة هي العالية، إلا أن في رواية الثوري عنه عند عبد الرزاق (14813) ما ظاهره أن العالية لم تسمعه من أم المؤمنين مباشرة، وإنما روته عن امرأة أبي السفر، عن عائشة. والله أعلم. وانظر: «المحلَّى» (9/ 49). (2) بعده في الأصل: «ميمون»، وليس في (هـ)، ولا وجه له، فزوجها هو: عمرو بن عبدالله أبو إسحاق السبيعي.

(2/469)


ويَحتج به. فهذه أربعة أحاديث تبين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم العينة: حديث ابن عمر الذي فيه تغليظ العينة، وحديث أنس وابن عباس أنها مما حرم الله ورسوله، وحديث عائشة هذا. والمرسل منها له ما يوافقه، وقد عمل به الصحابة والسلف، وهذا حجة باتفاق الفقهاء. السادس: ما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من باع بيعتين في بيعةٍ فله أوكسهما أو الربا». وللعلماء في تفسيره قولان: أحدهما: أن يقول: بعتك بعشرة نقدًا، أو عشرين نسيئة. وهذا هو الذي رواه أحمد (1) عن سماك، ففسره في حديث ابن مسعود قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صفقتين في صفقة. قال سماك: الرجل يبيع البيع، فيقول: هو على نَساءٍ بكذا، وبنقد بكذا. وهذا التفسير ضعيف، فإنه لا يدخل الربا (2) في هذه الصورة، ولا صفقتين هنا، وإنما هي صفقة واحدة بأحد الثمنين. والتفسير الثاني: أن يقول أبيعكها بمائة إلى سنة على أن أشتريها منك بثمانين حالَّةً. وهذا معنى الحديث الذي لا معنى له غيره، وهو مطابق لقوله: «فله أوكسهما أو الربا»، فإنه إما أن يأخذ الثمن الزائد فيُرْبي، أو الثمن الأول _________ (1) رقم (3783) من طريق شريك، عن سماك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه. وشريك سيئ الحفظ، وقد خالفه سفيان الثوري وشعبة فروياه عن سماك به موقوفًا على ابن مسعود؛ لفظ الثوري: «صفقتان في صفقة ربا»، ولفظ شعبة: «لا تحل صفقتان في صفقة». أخرجهما ابن حبان (1053، 5025) وغيره. (2) (هـ): «لا مدخل للربا».

(2/470)


فيكون هو أوكسهما، وهو مطابق لصفقتين في صفقة. فإنه قد جمع صفقتي النقد والنسيئة في صفقة واحدة ومبيع واحد، وهو قد قصد بيع دراهم عاجلة بدراهمَ مؤجّلةٍ أكثر منها، ولا يستحق إلا رأس ماله وهو أوكس الصفقتين، فإن أبى إلا الأكثر كان قد أخذ الربا. فتدبَّرْ مطابقة هذا التفسير لألفاظه - صلى الله عليه وسلم - وانطباقَه عليها. ومما يشهد لهذا التفسير: ما رواه الإمام أحمد (1) عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن بيعتين في بيعة، وعن سلف وبيع. فجمعه بين هذين العقدين في النهي لأن كلًّا منهما يؤول إلى الربا، لأنهما في الظاهر بيع وفي الحقيقة ربا. ومما يدل على تحريم العِينة: حديث ابن مسعود يرفعه: «لعن الله آكل الربا وموكله وشاهِدَيه وكاتبه والمُحِلَّ والمحلَّل له» (2). _________ (1) رقم (6628، 6918) من حديث عبد الله بن عمرو، وليس «ابن عمر» كما هنا، ولعله سهو، وهو على الصواب في «بيان الدليل» (ص 85) والمؤلف صادر عنه. والحديث إسناده حسن، فإنه من رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. أخرجه أبو داود (3504)، والترمذي (1234)، والحاكم (2/ 17) بلفظ: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع». (2) أخرجه أحمد (3737) والترمذي (1206) وقال: حسن صحيح، وابن حبان (5025)، كلهم دون قوله: «والمُحِلَّ والمحلَّل له»، وصحّ ذلك عن ابن مسعود من طريق آخر، وقد سبق تخريجه. ورويت هذه الأمور مجتمعة في حديث حارث الأعور عن علي. أخرجه أحمد (671، 980، 1364)، والبزار (281)، وأبو يعلى (402) وغيرهم.

(2/471)


ومعلوم أن الشاهدين والكاتب إنما يكتب ويشهد (1) على عقدٍ صورته جائزةُ الكتابة والشهادِة، لا يشهد بمجرد الربا، ولا يكتبه. ولهذا قرنه بالمُحِل والمحلل له، حيث أظهرا صورة النكاح، ولا نكاح؛ كما أظهر الكاتب والشاهدان صورة البيع، ولا بيع. وتأمل كيف لعن في الحديث الشاهدين والكاتب والآكل والموكل؛ فلَعَن المعقود له، والمعينَ له على ذلك العقد، ولعن المُحِلَّ والمحلل له؛ فالمحلل له هو الذي يُعقَد التحليل لأجله، والمُحِلّ هو المعين له بإظهار صورة العقد، كما أن المرابي هو المعان على أكل الربا بإظهار صورة العقد المكتوب المشهود به؛ فصلوات الله وسلامه (2) على من أوتي جوامع الكلم. السابع: ما صحَّ عن ابن عباس أنه قال: «إذا استقمت بنقدٍ فبِعتَ بنقد فلا بأس، وإذا استقمت بنقدٍ فبعت بنسيئة فلا خير فيه، تلك وَرِق بورق» رواه سعيد وغيره (3). ومعنى كلامه: أنّك إذا قوَّمت السلعة بنقدٍ ثم بِعتَها بنَساءٍ، كان مقصود المشتري شراء دراهم معجَّلة بدراهم مؤجَّلة، وإذا قوَّمتَها بنقد ثم بعتَها به فلا بأس، فإن ذلك بيع المقصود منه السلعة لا الربا. _________ (1) (هـ): «يشهد ويكتب». (2) «وسلامه» من (هـ). (3) أخرجه عبد الرزاق (15028) بإسناد صحيح.

(2/472)


الثامن: ما رواه ابن بطة (1) عن الأوزاعي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع» يعني العينة. وهذا، وإن كان مرسلًا، فهو صالح للاعتضاد به، ولا سيما وقد تقدم من المرفوع ما يؤكده. ويشهد له أيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ليشربنَّ [ق 184] ناسٌ من أمتي الخمرَ يسمُّونها بغير اسمها» (2). وقوله أيضًا فيما رواه إبراهيم الحربي (3) من حديث أبي ثعلبة عن النبي _________ (1) عزاه إليه شيخ الإسلام في «بيان الدليل» (ص 67)، وليس في «إبطال الحيل» المطبوع. وأخرجه الخطابي في «غريب الحديث» (1/ 218) دون تفسيره بالعينة، والحديث معضل. (2) أخرجه أحمد (22900)، وأبو داود (3688)، وابن حبان (6758)، من حديث مالك بن أبي مريم، عن عبد الرحمن بن غَنم، عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه -. في إسناده ضعف لجهالة مالك بن أبي مريم، ولكن للحديث شواهد كثيرة يصح بها، منها ما أخرجه أحمد (18073) والنسائي (5658) بإسناد صحيح عن رجلٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، بنحوه. وانظر: «الفتح» (10/ 51 - 52)، و «السلسلة الصحيحة» (89، 90، 414). (3) ليس في القدر المطبوع من «غريب الحديث» له، وقد أخرجه الدارمي (2146)، والطبراني في «الكبير» (22/ 223) وفي «مسند الشاميين» (2/ 293)، والخطابي في «الغريب» (1/ 249) من طريق مكحول عن أبي ثعلبة - رضي الله عنه -، وزاد في رواية الدارمي والخطابي: «عن أبي ثعلبة، عن أبي عبيدة بن الجرَّاح». رجاله ثقات، إلا أن مكحولًا كثيرُ الإرسال، ونص المزي في «تهذيب الكمال» (8/ 268): أنه لم يسمع من أبي ثعلبة. ولكنه توبع، تابعه عبد الرحمن بن سابط عن أبي ثعلبة، عن أبي عبيدة ومعاذ - رضي الله عنهما -، ولفظه: «يستحلون الحرير والخمور والفروج». أخرجه إسحاق بن راهويه ــ كما في «المطالب العالية» (2092) ــ، وأبو يعلى (873)، والبيهقي (8/ 159)، وفي إسناده ليث بن أبي سليم، وهو صدوق سيئ الحفظ، فبمجموع الطريقين يتقوى الحديث، لا سيما ويشهد له حديث أبي عامر ــ أو أبي مالك ــ الأشعري عند البخاري (5590): «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ... ».

(2/473)


- صلى الله عليه وسلم -: «أول دينكم نبوة ورحمة، ثم خلافة ورحمة، ثم مُلك ورحمة، ثم مُلك وجبرية، ثم ملك عَضُوض يُستَحَلّ فيه الحِرُ والحرير». و «الحِرُ» بكسر الحاء وتخفيف الراء هو: الفرج. فهذا إخبار عن استحلال المحارم، ولكنه بتغيير أسمائها، وإظهارِ صُوَرٍ تُجعَل وسيلةً إلى استباحتها، وهي الربا والخمر والزنا، فيسمَّى كل منها بغير اسمها، ويُستباح بالاسم الذي سمي به، وقد وقعت الثلاثة. وفي قول عائشة: «بئسما شريتِ، وبئسما اشتريت» دليل على بطلان العقدَين معًا، وهذا هو الصحيح من المذهب، لأن الثاني عقد ربا والأول وسيلة إليه. وفيه قول آخر في المذهب: إن العقد الأول صحيح، لأنه تم بأركانه وشروطه، فطَرَيان الثاني عليه لا يبطله. وهذا ضعيف، فإنه لم يكن مقصودًا لذاته، وإنما جعله وسيلة إلى الربا، فهو طريق إلى المحرَّم، فكيف يُحكَم بصحته؟ وهذا القول لا يليق بقواعد المذهب. فإن قيل: فما تقولون فيمن باع سلعة بنقد ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة؟ قلنا: قد نص أحمد في رواية حرب (1) على أنه لا يجوز إلا أن تتغير السلعة، لأن هذا يُتخذ وسيلةً إلى الربا، فهو كمسألة العينة سواء، وهي _________ (1) كما في «المغني» (6/ 263).

(2/474)


عكسُها صورةً. وفي الصورتين قد ترتّب في الذمة (1) دراهم مؤجلة بأقل منها نقدًا، لكن في إحدى الصورتين البائع هو الذي اشتغلت ذمته، وفي الصورة الأخرى المشتري هو الذي اشتغلت ذمته، فلا فرق بينهما. وقال بعض أصحابنا: يحتمل أن تجوز الصورة الثانية إذا لم يكن ذلك حيلةً ولا مواطأةً بل وقع اتفاقًا، وفرَّقَ بينها وبين الصورة الأولى بفرقين: أحدهما: أن النص ورد فيها، فيبقى ما عداها على أصل الجواز. والثاني: أن التوسل إلى الربا بتلك الصورة أكثر من التوسل بهذه. والفرقان ضعيفان، أما الأول: فليس في النص ما يدل على اختصاص العينة بالصورة الأولى حتى تَتقيَّد به، بل النصوص مطلقة على تحريم العينة. والعِينة فِعْلَة من العَين وهو النقد، قال الشاعر (2): أنَدَّانُ أم نَعْتَانُ، أم ينبري لنا ... فتًى مثلُ نصلِ السيف مِيزَتْ (3) مضاربُه _________ (1) الأصل: «ذمته»، والمثبت من (هـ). (2) البيت بهذه الرواية بلا نسبة في «تهذيب اللغة» (14/ 183)، ومنه في «اللسان» (دين). وهو برواية أخرى مع بيت آخر قبله في «مقاييس اللغة» (4/ 204) بلا نسبة، وفي «أساس البلاغة» (عين) منسوبًا إلى ابن مُقبل: فكيف لنا بالشرب إن لم تكن لنا ... دراهمُ عند الحانَويِّ ولا نقدُ أندَّانُ أم نعتانُ أم ينبري لنا ... فتًى مثلُ نصل السيف أبرزه الغِمْدُ وأنشدهما ابن برِّي (اللسان ــ عون) لذي الرُّمَّة برواية «شيمته الحمد» مكان «أبرزه الغمد». وهما لذي الرمة أيضًا في «قطب السرور» (ص 637) مع بيت ثالث. وقوله: «أندَّان أم نعتانُ» أي أنتداين أم نأخذ العِينَة. (3) كذا في الأصل، والرواية: «هُزَّت»، ولعلّ المؤلف صادر عن «المغني» (6/ 262).

(2/475)


قال الجوزجاني (1): أنا أظن أن العينة إنما اشتُقَّت من حاجة الرجل إلى العَين من الذهب والورق، فيشتري السلعة ويبيعها بالعَين الذي احتاج إليه، وليست به إلى السلعة حاجة. وأما الفرق الثاني فكذلك، لأن المعتبر في هذا الباب هو الذريعة، ولو اعتبر فيه الفرق بين الاتفاق والقصد لزم طرد ذلك في الصورة الأولى، وأنتم لا تعتبرونه. فإن قيل: فما تقولون إذا لم تَعُد السلعة إليه بل رجعت إلى ثالث، هل تسمون ذلك عِينة؟ قيل: هذه مسألة التَوَرُّق، لأن المقصود منها الوَرِق، وقد نص أحمد في رواية أبي داود (2) على أنها من العِينة، وأطلق عليها اسمها. وقد اختلف السلف في كراهيتها، فكان عمر بن عبد العزيز يكرهها، وكان يقول: «التورق آخِيَّة الربا» (3)، ورخص فيها إياس بن معاوية (4). وعن أحمد فيها روايتان منصوصتان، وعلل الكراهة في إحداهما بأنه _________ (1) كما في «بيان الدليل» (ص 74). (2) (ص 263). (3) ذكره شيخ الإسلام في «بيان الدليل» (ص 82)، ولم أجده مسندًا إليه بهذا اللفظ، وقد أخرج ابن أبي شيبة (20528) بإسناد صحيح أنه كتب إلى عبد الحميد ــ وهو ابن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، والِيه على الكوفة ــ: «انْهَ مَن قِبَلك عن العِينة فإنها أخت الربا». «آخية الربا» فسّره شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (29/ 431) فقال: «أي: أصل الربا». والذي يظهر من رواية ابن أبي شيبة أن ضبطَه: «أُخيَّة الربا» تصغير الأخت. (4) أخرجه ابن أبي شيبة (20525).

(2/476)


بيع مُضطَرّ. وقد روى أبو داود (1) عن علي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع المضطر. وفي «المسند» (2) عن علي: «سيأتي على الناس زمان عضوض يَعَضُّ المُوسِر (3) على ما في يده ولم يؤمر بذلك، قال تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] ويبايع المضطَرّون، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع المضطر» وذكر الحديث. فأحمد - رحمه الله - أشار إلى أن العينة إنما تقع من رجل مضطَر إلى نفقة، يَضِنُّ عليه الموسِرُ بالقرض، فيُضطَرّ إلى أن يشتري منه سلعةً ثم يبيعها، فإن اشتراها منه بائعُها كانت عِينةً، وإن باعها من غيره فهي التورق. ومقصوده في الموضعين: الثمن، فقد حصل في ذمته ثمن مؤجَّل مقابِلٌ لثمنٍ حالٍّ أنقصَ منه، ولا معنى للربا إلا هذا، لكنه ربا بسُلَّمٍ لم يحصل له صعوده إلا بمشقة، ولو لم يَصعَده (4) كان ربا بسهولة. وللعينة صورة رابعة، وهي أخف (5) صورها، وهي أن يكون عند الرجل المتاع فلا يبيعه إلا بنسيئةٍ، ونصَّ أحمد على كراهة ذلك فقال (6): العِينة أن _________ (1) رقم (3382) من حديث شيخ من بني تميم، عن علي - رضي الله عنه -. فالإسناد ضعيف لجهالة الشيخ التميمي. (2) رقم (937)، وإسناده كسابقه. (3) في الأصل وط. الفقي: «المؤمن»، تصحيف. (4) ط. الفقي: «مقصوده ... لم يقصده»، تحريف. (5) ط. الفقي: «أخت»، تحريف. (6) كما في «مسائله» رواية الكوسج (2/ 11)، وبنحوه في «مسائله» برواية صالح (2/ 259).

(2/477)


يكون عند الرجل المتاع فلا يبيعه إلا بنسيئة، فإن باع بنسيئة ونقد فلا بأس. وقال أيضًا (1): أكره للرجل أن لا يكون له تجارة غير العينة فلا يبيع بنقد. قال ابن عقيل: إنما كَرِه ذلك لمضارَعَته الربا، فإن البائع بنسيئة يقصد الزيادة غالبًا. وعلله شيخُنا - رضي الله عنه - (2) بأنه يدخل في بيع المضطر، فإن غالب من يشتري بنسيئة إنما يكون لتعذر النقد، فإذا كان الرجل لا يبيع إلا بنسيئة كان رِبحُه على أهل الضرورة والحاجة، وإذا باع بنقد ونسيئة كان تاجرًا من التجار. وللعينة صورة خامسة، وهي أقبحُ صورها وأشدُّها تحريمًا، وهي أن المترابيين يتواطآن على الربا، ثم يعمدان إلى رجل عنده متاع، فيشتريه منه المحتاج، ثم يبيعه للمربي بثمن حالٍّ ويقبضه منه، ثم يبيعه إياه المربي (3) بثمن مؤَجَّل، وهو ما اتفقا [ق 185] عليه، ثم يعيد المتاع إلى ربه ويعطيه شيئًا. وهذه تسمى «الثُّلاثِية» لأنها بين ثلاثة، وإذا كانت السلعة بينهما خاصة فهي الثُّنائية. وفي الثلاثية قد أدخلا بينهما محلِّلًا يزعمان أنه يحلِّل لهما ما حرم الله من الربا، وهو كمحلل النكاح؛ فهذا محلل الربا، وذلك محلل الفروج. والله _________ (1) كما في «المغني» (6/ 262). وفيه قول ابن عقيل الآتي. (2) انظر: «بيان الدليل» (ص 81 - 82). (3) في الأصل والطبعتين: «للمربي»، خطأ؛ فقد سبق أن المحتاج قد باعه له، والآن المربي هو البائع. ثم وجدته على الصواب في (هـ) ولله الحمد.

(2/478)


تعالى لا تخفى عليه خافية، بل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. 13 - باب وضع الجائحة (1) 398/ 3323 - عن أبي سعيد الخدري أنه قال: أصيب رجل في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها فكثُر دينُه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تصدَّقوا عليه»، فتصدَّق الناسُ عليه فلم يبلغ ذلك وفاءَ دينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك». وأخرجه مسلم (2). 399/ 3324 - وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن بِعْتَ من أخيك ثمرًا فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بِمَ تأخذ مال أخيك بغير حق؟». وأخرجه مسلم (3). (4) قال ابن القيم - رحمه الله -: حديث مسلم في الجائحة من رواية ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر، وهذا صحيح. والشافعي علل حديث سفيان، عن حميد بن قيس، عن سليمان بن عتيق، عن جابر: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بَيع السنين، وأمر بوضع _________ (1) هنا ورد هذا الباب في الأصل، وفي «السنن» و «المختصر» يقع بعد الباب الآتي. (2) أبو داود (3469)، ومسلم (1556). (3) أبو داود (3470)، ومسلم (1554). (4) تخريج الحديثين من (هـ)، وقد اختصره المؤلف فحذف من ذكرهم المنذري مع مسلم من أصحاب السنن الذين أخرجوا الحديث.

(2/479)


الجوائح»، بأن قال (1): سمعتُ سفيان يحدث هذا الحديث كثيرًا في طول مجالستي له، لا أحصي ما سمعته يحدثه من كثرته، لا يذكر فيه: «أمر بوضع الجوائح»، لا يزيد على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع السنين، ثم زاد بعد ذلك: «وأمر بوضع الجوائح». قال سفيان: وكان حميد بن قيس يذكر بعد «بيع السنين» كلامًا قبل «وضع الجوائح»، إلا أني لا أدري كيف كان الكلام؟ وفي الحديث: «أمر بوضع الجوائح». وفي الباب حديث عمرة عن عائشة: ابتاع رجل ثمر حائطٍ في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،فعالجه وقام عليه، حتى تبيَّن له النقصان، فسأل رب الحائط أن يضع عنه، فحلف أن لا يفعل، فذهبت أم المشتري إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك له، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تَألَّى أن لا يفعل خيرًا؟!»، فسمع بذلك رب المال، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله هو له. وعلله الشافعي بالإرسال (2). وقد أسنده يحيى بن سعيد عن أبي الرجال عن عَمرة عن عائشة (3)، وأسنده حارثة بن أبي الرجال عن أبيه (4). _________ (1) في «الأم» (4/ 116). (2) أخرجه الشافعي في «الأم» (4/ 117) من طريق مالك ــ وهو في «الموطأ» (1816) ــ، عن أبي الرجال، عن أمّه عَمرة مرسلًا. ثم قال الشافعي: وحديث مالك عن عمرة مرسل، وأهل الحديث ونحن لا نثبت مرسَلًا. (3) أخرجه البخاري (2705)، ومسلم (1557)، وليس فيه ذكر الثمر، وإنما فيه أن أحد الخصمين كان يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء، وهو يقول: واللهِ لا أفعل! (4) كذا ذكر البيهقي في «الكبرى» (5/ 305)، و «معرفة السنن» (8/ 89) ثم ذكر أن حارثة ضعيف لا يحتج به عند أهل العلم بالحديث. ولم أجد الحديث من طريق حارثة بن أبي الرجال، ولكن وجدته من رواية أخيه عبد الرحمن بن أبي الرجال ــ وهو صدوق ــ عن أبيه أبي الرجال، عن عمرة، عن عائشة. أخرجه أحمد (24405، 24742)، وابن حبان (5032).

(2/480)


وليس بصريح في وضع الجائحة. وقد تأوله من لا يرى [وضع] (1) الجائحة بتأويلات باطلة: أحدها: أنه محمول على ما يجتاح (2) الناسَ في الأراضي الخراجية التي خراجها للمسلمين، فيوضَع ذلك الخراج عنهم، فأما في الأشياء المبيعات فلا. وهذا كلام في غاية البطلان، ولفظ الحديث لا يحتمله بوجه. قال البيهقي (3): ولا يصح حمل الحديث عليه، لأنه لم يكن يومئذ على أراضي المسلمين خراج. ومنها: أنهم حملوه على إصابة الجائحة قبل القبض، وهو تأويل باطل، لأنه خَصَّ بهذا الحكم الثمار وعمَّ به الأحوال، ولم يقيده بقبض ولا عدمه. ومنها: أنهم حملوه على معنى حديث أنس: «أرأيت إن منع الله الثمرة، فبِمَ يأخذ أحدكم مال أخيه؟». وهذا في بيعها قبل بدوّ صلاحها. وهذا أيضًا تأويل باطل، وسياق الحديث يبطله، فإنه علل بإصابة الجائحة لا بغير ذلك. _________ (1) زيادة لازمة. (2) في الطبعتين: «يحتاج»، تحريف. (3) «معرفة السنن» (8/ 90).

(2/481)


14 - باب السلف في شيءٍ ثم يُحَوَّلُ إلى غيره 400/ 3322 - عن عطية بن سعد، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن أسلَف في شيءٍ فلا يَصرِفْه إلى غيره». وأخرجه ابن ماجه (1)، وعطية بن سعد لا يحتج بحديثه. قال ابن القيم - رحمه الله -: اختلف الفقهاء في حكم هذا الحديث، وهو جواز أخذ غير المُسْلَم فيه عوضًا. وللمسألة صورتان: إحداهما: أن يعاوض عن المُسْلَم فيه مع بقاء عقد السَّلَم، فيكون قد باع دين السلم قبل قبضه. والصورة الثانية: أن ينفسخ العقد بإقالة أو غيرها، فهل يجوز أن يصرف الثمن في عوض آخر غير المسلم فيه؟ فأما المسألة الأولى، فمذهب الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه (2): أنه لا يجوز بيعه قبل قبضه، لا لمن هو في ذمته ولا لغيره. وحكى بعض أصحابنا ذلك إجماعًا، وليس بإجماع، فمذهب مالك جوازه (3)، وقد نص عليه أحمد في غير موضع، وجوز أن يأخذ عوضه عَرَضًا بقدر قيمة دين السَّلَم وقت الاعتياض ولا يربح فيه. _________ (1) أبو داود (3468)، وابن ماجه (2283). وعطية بن سعد هو العوفي، ضعيف الحديث. واستظهر أبو حاتم ــ كما في «العلل» لابنه (1158) ــ أن الصواب: عن عطية، عن ابن عباس موقوفًا عليه. (2) انظر: «الأم» (4/ 273 - 274)، و «نهاية المطلب» (5/ 193، 6/ 21)؛ و «الأصل» (2/ 381 - 382، 402)؛ و «بدائع الصنائع» (5/ 214)؛ و «الإنصاف» (12/ 292). (3) انظر: «المدونة» (9/ 33 - 35)، و «عقد الجواهر الثمينة» لابن شاس (2/ 757).

(2/482)


وطائفة من أصحابنا خصَّت هذه الرواية بالحنطة والشعير فقط، كما قال في «المستوعب» (1): ومن أسلم في شيءٍ لم يجز أن يأخذ من غير جنسه بحال في إحدى الروايتين. والأخرى: يجوز أن يأخذ ما دون الحنطة من الحبوب، كالشعير ونحوه، بمقدار كيل الحنطة لا أكثر منها ولا بقيمتها، نص عليه في رواية أبي طالب: إذا أسلفت في كَرِّ حنطةٍ فأخذت شعيرًا فلا بأس، وهو دون حقك، ولا تَأخذ مكان الشعير حنطة. وطائفة ثالثة من أصحابنا جعلت المسألة رواية واحدة وأن هذا النص بناء على قوله في الحنطة والشعير أنهما جنس واحد، وهي طريقة صاحب «المغني» (2). وطائفة رابعة من أصحابنا: حكوا رواية مطلقة في المكيل والموزون وغيره. ونصوص أحمد تدل على صحة هذه الطريقة وهي طريقة أبي حفص العُكبَري (3) وغيره. قال القاضي: نقلت من خط أبي حفص في «مجموعه»: فإن كان ما أسلم فيه مما يكال أو يوزن فأخذ من غير نوعه مثلَ كيله مما هو دونه في الجودة جاز، وكذلك إن أخذ بثمنه مما لا يكال ولا يوزن كيف شاء. ونقل ابن القاسم (4) عن أحمد قلت لأبي عبد الله: إذا لم يجد ما أسلم _________ (1) (1/ 712). (2) انظره (6/ 416). (3) في الأصل: «الطبري»، تصحيف. والمَكنيُّ بأبي حفص في كتب المذهب اثنان: أبو حفص العُكبَري (ت 387)، وأبو حفص البرمكي (ت 388). والمراد هنا الأول، كما في «مجموع الفتاوى» (29/ 504)، فإن المؤلف صادر عنه. (4) ط. الفقي: «أبو القاسم»، ورسم «ابن» غير محرر في الأصل، والمثبت موافق لما في «مجموع الفتاوى» (29/ 504). وهو أحمد بن القاسم، صاحب أبي عبيد القاسم بن سلّام، حدث عن الإمام أحمد أشياء كثيرة من مسائله. انظر: «تاريخ بغداد» (5/ 573)، و «طبقات الحنابلة» (1/ 135).

(2/483)


فيه ووجد (1) غيرَه من جنسه أيأخذه؟ قال: نعم إذا كان دون الشيء الذي له، كأنما (2) أسلم في قفيز حنطة موصلي، فقال: يأخذ (3) مكانه سُلْتي (4) أو قفيزَ شعيرٍ بكَيلَةٍ واحدة لا يزداد، وإن كان فوقه فلا يأخذ، وذكر حديث ابن عباس رواه طاوس عنه: «إذا أسلمتَ في شيءٍ فجاء الأجل فلم تجد الذي أسلمت فيه فخذ عوضًا (5) بأنقص منه، ولا تربح مرتين» (6). ونقل أحمد بن أصرم (7): سئل أحمد عن رجل أسلم في طعام إلى أجل، فإذا حلّ الأجلُ يشتري منه عقارًا أو دارًا؟ فقال: نعم يشتري منه ما لا يكال ولا يوزن. _________ (1) في الأصل: «ووجده» خطأ، وهو على الصواب في (هـ). (2) كذا في الأصل و (هـ)، وفي «مجموع الفتاوى» (29/ 504): «[قلتُ:] فإنما» وما بين الحاصرتين زيادة من مرتّبي الفتاوى. (3) في الأصل و (هـ) والطبعتين: «آخذ»، والتصحيح من مصدر النقل. (4) ط. الفقي: «شلبيا»، تصحيف. و «السُّلْت» ضرب من الشعير ليس عليه قشر، كأنه حنطة. «الصحاح» (1/ 253). (5) كذا في الأصل والطبعتين و «مجموع الفتاوى»، وسيأتي قريبًا بلفظ «عرضًا»، وهو الموافق لمصادر التخريج. (6) أخرجه عبد الرزاق (14120)، وسعيد بن منصور ــ ومن طريقه ابن حزم في «المحلّى» (9/ 4 - 5) ــ، وابن المنذر في «الأوسط» (10/ 312) بإسناد صحيح. (7) كما في «مجموع الفتاوى» (29/ 505).

(2/484)


وقال حرب (1): سألت أحمد فقلت: رجل أسلم إلى رجل دراهم في بر، فلما حلَّ الأجلُ لم يكن عنده بُرّ فقال (2): قَوِّم الشعيرَ بالدراهم فخذ من الشعير؟ فقال: لا يأخذ منه الشعير إلا مثل كَيلِ البر أو أنقص. قلت: إذا كان البر عشرة أجربة يأخذ الشعير عشرة أجربة؟ قال نعم. إذا عُرف هذا فاحتج المانعون بوجوه: أحدها: الحديث. والثاني: نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام قبل قبضه (3). الثالث: نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ربح ما لم يضمن (4)، وهذا غير مضمون عليه لأنه في ذمة المُسْلَم إليه. الرابع: أن هذا المبيع مضمون له على المُسلَم إليه، فلو جوَّزنا بيعه صار مضمونًا عليه للمشتري فيتوالى في المبيع ضمانان. الخامس: أن هذا إجماع، كما تقدم. هذا جملة ما احتجوا به. قال المجوزون: الصواب جواز هذا العقد، والكلام معكم في مقامين: _________ (1) كما في المصدر السابق، ومثله أيضًا في رواية رواية عبد الله (ص 288) وصالح (1/ 208). (2) أي المُسلَم إليه. (3) متفق عليه من حديث ابن عمر، وسيأتي في باب بيع الطعام قبل أن يُستوفى. (4) أخرجه أحمد (6628، 6671، 6918)، والترمذي (1234) وصححه، والنسائي (4629)، والحاكم (2/ 17)، من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه.

(2/485)


أحدهما: في الاستدلال على جوازه. والثاني: في الجواب عما استدللتم به على المنع. فأما الأول، فنقول: قال ابن المنذر (1): ثبت عن ابن عباس أنه قال: «إذا أسلفت في شيء إلى أجل، فإن أخذت ما أسلفت فيه، وإلا فخُذ عَرَضًا أنقص منه، ولا تربح مرتين». رواه سعيد (2). فهذا قول صحابي، وهو حجة ما لم يخالَف. قالوا: وأيضًا فلو امتنعت المعاوضة عليه، لكان ذلك لأجل كونه مبيعًا لم يتصل به القبض، وقد ثبت عن ابن عمر أنه قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير؟ فقال: «لا بأس أن تأخذَها بسِعر يومها ما لم تتفرَّقا وبينكما شيء» (3). فهذا بيع للثمن ممن هو في ذمته قبل قبضه بجنس آخر (4)، فما _________ (1) في «الإشراف» (6/ 114). (2) في الأصل وط. الفقي: «شعبة»، تحريف. وقد سبق في تخريجه قريبًا أن سعيد بن منصور رواه. (3) أخرجه أحمد (4883، 5628، 6239)، وأبو داود (3354)، والترمذي (1242)، والنسائي (4582)، وابن حبان (4920)، والحاكم (2/ 44)، كلهم من طريق سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر به. والحديث أعلّه الأئمة النقاد بالوقف، فإن سماكًا قد تفردّ برفعه وهو سيئ الحفظ، وغيره يرويه موقوفًا على ابن عمر، وهو الصواب. انظر: «العلل» للدارقطني (3072)، و «معرفة السنن» (8/ 113 - 114). (4) «بجنس آخر» من (هـ)، وفي الأصل بياض قدر كلمة أو كلمتين، وكتب في الهامش: «بياض في الأصل».

(2/486)


الفرق بينه وبين الاعتياض عن دين السَّلَم بغيره؟ قالوا: وقد نص أحمد على جواز بيع الدين لمن هو في ذمته ولغيره، وإن كان أكثر أصحابنا لا يحكون عنه جوازه لغير من هو في ذمته، فقد نص عليه في مواضع؛ حكاه شيخنا أبو العباس ابن تيمية (1) عنه. والذين منعوا جواز بيعه لمن هو في ذمته قاسوه على السلم وقالوا: لأنه دَين فلا يجوز بيعه كدين السَّلَم. وهذا ضعيف من وجهين: أحدهما: أنه قد ثبت في حديث ابن عمر جوازه. والثاني: أن دين السلم غير مجمع على منع بيعه، فقد ذكرنا عن ابن عباس جوازه، ومالك يُجوِّز بيعه من غير المستسلف. والذين فرَّقوا بين دين السلم وغيره لم يفرقوا بفرق مؤثر، والقياسُ التسوية بينهما. وأما المقام الثاني، فقالوا: أما الحديث فالجواب عنه مِن وجهين: أحدهما: ضعفه كما تقدم. والثاني: أن المراد به أن لا يصرف المُسلَم فيه إلى سَلَم آخر أو يبيعه بمعيَّن مؤجل، لأنه حينئذ يصير بيع دين بدين، وهو منهي عنه، وأما بيعه بعَرَضٍ (2) حاضر من غير ربح فلا محذور فيه، كما أذن فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في _________ (1) «مجموع الفتاوى» (29/ 506). (2) في الطبعتين: «بعوض»، والمثبت أقرب إلى رسم الأصل (هـ).

(2/487)


حديث ابن عمر. فالذي نهى عنه من ذلك هو من جنس ما نهى عنه من بيع الكالئ بالكالئ (1)، والذي يجوز منه هو من جنس ما أَذِن فيه من بيع النقد لمن هو في ذمته بغيره من غير ربح. وأما نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام قبل قبضه، فهذا إنما هو في الطعام (2) المعين أو المتعلقِ به حقُّ التوفية من كيلٍ أو وزنٍ، فإنه لا يجوز بيعه قبل قبضه. وأما ما في الذمة فالاعتياض عنه من جنس الاستيفاء، وفائدته سقوط ما في ذمته عنه، لا حدوث ملك له، فلا يقاس بالبيع الذي يتضمن شغل الذمة، فإنه إذا أخذ منه عن دين السلم عرضًا أو غيرَه أسقط ما في ذمته، فكان كالمستوفي دينَه لأن بدله يقوم مقامه، ولا يدخل هذا في بيع الكالئ بالكالئ بحال، والبيع المعروف هو أن يملك المشتري ما اشتراه. وهنا لم يَملِك شيئًا، بل سقط الدين من ذمته. ولهذا لو وفاه ما في ذمته لم يُقَل: إنه باعه دراهم بدراهم، بل يقال: وفاه حقه، بخلاف ما لو باعه دراهم معينة بمثلها فإنه بيع. ففي الأعيان إذا عاوض عليها بجنسها أو بعين غير جنسها يُسمَّى بيعًا، وفي الدَّين (3) إذا وفاها _________ (1) أي بيع الدين بالدين، وقد جاء ذلك في حديث ضعيف. أخرجه عبد الرزاق (14440)، والدارقطني (3060، 3061)، والبيهقي (5/ 290). وقال الإمام أحمد وابن المنذر: ليس في هذا حديث يصح، إنما إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين. انظر: «البدر المنير» (6/ 567 - 570)، و «الأوسط» (10/ 118 - 119). (2) «الطعام» من (هـ). (3) (هـ): «الديون».

(2/488)


بجنسها لم يكن بيعًا فكذلك إذا وفاها بغير جنسها لم يكن بيعًا، بل هو إيفاء فيه معنى المعاوضة. ولو حلف لَيقضينَّه حقَّه (1) غدًا فأعطاه عنه عَرَضًا، بَرَّ في أصح الوجهين. وجواب آخر: أن النهي عن بيع الطعام قبل قبضه أُريدَ به بيعه من غير بائعه. وأما بيعه من البائع ففيه قولان معروفان. وذلك لأن العلة في المنع إن كانت توالي الضمانين اطَّرد المنع في البائع وغيره. وإن كانت عدم تمام الاستيلاء، وأن البائع لم تنقطع عُلَقُه عن المبيع بحيث ينقطع طمعه في الفسخ ولا يتمكن من الامتناع من الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح فيه= لم يطرد النهي في بيعه [ق 187] من بائعه قبل قبضه، لانتفاء هذه العلة في حقه. وهذه العلة أظهر، وتوالي الضمانين ليس بعلة مؤثرة، ولا تنافي بين كون العين الواحدة مضمونةً له من وجه وعليه من وجه آخر، فهي مضمونة له وعليه باعتبارين. وأي محذور في هذا؟ كمنافع الإجارة، فإن المستأجر له أن يُؤَاجِر (2) ما استأجره، فتكون المنفعة مضمونة له وعليه، وكالثمار بعد بدوِّ صلاحها، له أن يبيعها على الشجر، وإن أصابتها جائحة رجع على البائع فهي مضمونة له وعليه، ونظائره كثيرة. وأيضًا: فبيعه من بائعه شبيه بالإقالة، وهي جائزة قبل القبض على الصحيح (3). _________ (1) في الأصل و (هـ) وط. المعارف: «حقًّا»، ولعل المثبت من ط. الفقي هو الصواب، وهو موافق لما في «مجموع الفتاوى» (29/ 513)، والمؤلف صادر عنه. (2) في الطبعتين: «يؤجّر»، والمثبت من الأصل، وهما بمعنى. (3) في الأصل والطبعتين: «الصحة»، والمثبت من (هـ).

(2/489)


وأيضًا: فدين السلم تجوز الإقالة فيه بلا نزاع، وبيع المبيع لبائعه قبل قبضه غير جائز في أحد القولين، فعُلِم أن الأمر في دين السلم أسهل منه في بيع الأعيان. فإذا جاز في الأعيان أن تباع لبائعها قبل القبض فدين السلم أولى بالجواز، كما جازت الإقالة فيه قبل القبض اتفاقًا بخلاف الإقالة في الأعيان. ومما يوضح ذلك: أن ابن عباس لا يُجوِّز بيع المبيع قبل قبضه، واحتَجّ عليه بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام قبل قبضه وقال: «أحسب كل شيء بمنزلة الطعام» (1). ومع هذا فثبت عنه أنه جوَّز بيع دين السلم ممن هو عليه إذا لم يربح فيه، ولم يفرق بين الطعام وغيره، ولا بين المكيل والموزون وغيرهما؛ لأن البيع هنا من البائع الذي هو في ذمته، فهو يقبضه من نفسه لنفسه. بل في الحقيقة ليس هنا قبض، بل يسقط عنه ما في ذمته فتبرأ ذمته، وبراءةُ الذمم مطلوب في نظر الشرع، لِما في شَغْلها من المفسدة. فكيف يصح قياس هذا على بيع شيءٍ (2) غيرِ مقبوضٍ لأجنبي لم يتحصَّل بعدُ ولم تنقطع عُلَقُ بائعه عنه؟ وأيضًا: فإنه لو سلَّم المُسلَمَ فيه ثم أعاده إليه جاز، فأي فائدة في أخذه منه ثم إعادته إليه، وهل ذلك إلا مجرد كلفة ومشقَّةٍ لم تحصل بها فائدة؟ ومن هنا يُعرَف فضل علم الصحابة وفقهِهم على كل من بعدهم. قالوا: وأما استدلالكم بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربح ما لم يضمن، فنحن نقول بموجَبه، وأنه لا يربح فيه، كما قال ابن عباس: «خذ عرضًا بأنقص منه، ولا _________ (1) «صحيح مسلم» (1525/ 30). (2) الأصل: «شيء بيع» تقديم وتأخير، والمثبت من (هـ).

(2/490)


تربح مرتين». فنحن إنما نُجوِّز له أن يعاوض عنه بسعر يومه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمر في بيع النقود في الذمة: «لا بأس إذا أخذتَها بسعر يومها»، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما جوَّزَ الاعتياض عن الثمن بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن. وقد نص أحمد على هذا الأصل في بدل القرض وغيره من الديون: أنه إنما يعتاض عنه بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن. وكذلك قال مالك: يجوز الاعتياض عنه بسعر يومه، كما قال ابن عباس، لكن مالك يستثني الطعام خاصة؛ لأن مِن أصله أن بيع الطعام قبل قبضه لا يجوز بخلاف غيره (1). وأما أحمد، فإنه فرق بين أن يعتاض عنه بعرض أو حيوان أو نحوه، وبين (2) أن يعتاض بمكيل أو موزون؛ فإن كان بعرض ونحوه جوَّزه بسعر يومه، كما قال ابن عباس ومالك، وإن اعتاض عن المكيل بمكيل، أو عن الموزون بموزون، فإنه منعه لئلا يشبه بيع المكيل بالمكيل من غير تقابض، إذ كان لم توجد حقيقة التقابض من الطرفين، ولكن جوزه إذا أخذ بقدره مما هو دونه، كالشعير عن الحنطة، نظرًا منه إلى أن هذا استيفاء لا معاوضة، كما يستوفى الجيد عن الرديء. ففي العرض جوَّز المعاوضة، إذ لا يشترط هناك تقابض، وفي المكيل والموزون منع المعاوضة، لأجل التقابض، وجوز أخذ قدر حقه أو دونه، لأنه استيفاء، وهذا من دقيق فقهه - رضي الله عنه -. _________ (1) انظر: «الموطأ» (1927، 1928). (2) الأصل: «دون»، والمثبت من (هـ).

(2/491)


قالوا: وأما قولكم: إن هذا الدين مضمون له، فلو جوزنا بيعه لزم توالي الضمانين، فهو دليل باطل من وجهين: أحدهما: لا توالي ضمانين هنا أصلًا، فإن الدَّين كان مضمونًا له في ذمة المُسْلَم إليه، فإذا باعه إياه لم يصر مضمونًا عليه بحال، لأنه مقبوض في ذمة المسلم إليه، فمِن أي وجه يكون مضمونًا على البائع؟ بل لو باعه لغيره لكان مضمونًا له على المُسْلَم إليه ومضمونًا عليه للمشتري، وحينئذ فيتوالى ضمانان. الجواب الثاني: أنه لا محذور في توالي الضمانين، وليس بوصف مستلزم لمفسدةٍ يَحرُم العقدُ لأجلها. وأين الشاهد من أصول الشرع لتأثير هذا الوصف؟ وأيُّ حكم علق الشارع فساده على توالي الضمانين؟ وما كان من الأوصاف هكذا فهو طردي لا تأثير له. وقد قدمنا ذكر الصور التي فيها توالي الضمانين. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه جوز المعاوضة عن ثمن المبيع في الذمة، ولا فرق بينه وبين دين السلم. قالوا: وأيضًا فالمبيع إذا تلف قبل التمكُّن من قبضه كان على البائع أداء الثمن الذي قبضه من المشتري، فإذا كان هذا المشتري قد باعه فعليه أداء الثمن الذي قبضه من المشتري الثاني، فالواجب بضمان هذا غير الواجب بضمان الآخر؛ فلا محذور في ذلك. وشاهده: المنافع في الإجارة، والثمرة قبل القطع، فإنه قد ثبت بالسنة الصحيحة التي لا معارض لها وضعُ الثمن عن [ق 188] المشتري إذا أصابتها جائحة، مع هذا يجوز التصرف فيها. ولو تلفت لصارت مضمونة عليه بالثمن الذي أخذه، كما هي مضمونة له بالثمن الذي دفعه.

(2/492)


قالوا: وأما قولكم: إن المنع منه إجماع، فكيف يصحّ دعوى الإجماع مع مخالفة حبر الأمة ابن عباس، وعالم المدينة مالك بن أنس؟ فثبت أنه لا نص في التحريم، ولا إجماع ولا قياس، وأن النص والقياس يقتضيان الإباحة كما تقدم، والواجب عند التنازع: الرد إلى الله وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فصل وأما المسألة الثانية: وهي إذا انفسخ العقد بإقالة أو غيرها، فهل يجوز أن يأخذ عن دين السَّلَم عوضًا من غير جنسه؟ فيه وجهان (1): أحدهما: لا يجوز ذلك حتى يقبضه ثم يصرفه فيما شاء. وهذا اختيار الشريف أبي جعفر، وهو مذهب أبي حنيفة (2). والثاني: يجوز أخذ العوض عنه. وهو اختيار القاضي أبي يعلى، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وهو مذهب الشافعي (3). وهو الصحيح، فإن هذا عوض مستقر في الذمة، فجازت المعاوضة عليه كسائر الديون من القرض وغيره. وأيضًا: فهذا مال رجع إليه بفسخ العقد، فجاز أخذ العوض عنه، كالثمن في المبيع. وأيضًا: فحديث ابن عمر في المعاوضة عما في الذمة صريح في الجواز. واحتج المانعون بقوله: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره». _________ (1) انظر: «المغني» (6/ 418)، و «الإنصاف» (12/ 303 - 304). (2) انظر: «بدائع الصنائع» (5/ 181). (3) انظر: «الأم» (4/ 276)

(2/493)


قالوا: ولأنه مضمون على المسلم إليه بعقد السلم فلم تَجُز المعاوضة عليه قبل قبضه وحيازته كالمُسْلَم فيه. قال المجوزون: أما استدلالكم بالحديث، فقد تقدم ضعفه. ولو صح لم يتناول محل النزاع، لأنه لم يصرف المسلم فيه في غيره، وإنما عاوض عن دين السلم بغيره، فأين المسلم فيه من رأس مال السلم؟ وأما قياسكم المنع على نفس المسلم فيه، فالكلام فيه أيضًا، وقد تقدم: أنه لا نص يقتضي المنع منه، ولا إجماع ولا قياس. ثم لو قدر تسليمه لكان الفرق بين المسلم فيه ورأس مال السلم واضحًا، فإن المسلم فيه مضمون بنفس العقد، والثمن إنما يُضمَن بعد فسخ العقد فكيف يُلْحَق أحدهما بالآخر؟ فثبت أنه لا نص في المنع، ولا إجماع ولا قياس. فإذا عُرِف هذا فحكم رأس المال بعد الفسخ حكم سائر الديون، لا يجوز أن تُجعل سلَمًا في شيء آخر، لوجهين: أحدهما: أنه بيع دين بدين. والثاني: أنه من ضمان المسلم إليه، فإذا جعله سلمًا في شيء آخر ربح فيه، وذلك ربح ما لم يضمن، ويجوز فيه ما يجوز في دين القرض وأثمان المبيعات إذا فُسِخت (1)، فإذا أخذ فيه أحد النقدين عن الآخر وجب قبض العوض في المجلس، لأنه صرف بسعر يومه، لأنه غير مضمون عليه. _________ (1) غير محرر في الأصل، وفي الطبعتين: «قسمت»، والصواب ما أثبت.

(2/494)


وإن عاوض عن المكيل بمكيل، أو عن الموزون بموزون من غير جنسه، كقُطن بحرير أو كتّان، وجب قبض عوضه في مجلس التعويض. وإن بيع بغير مكيل أو موزون، كالعقار والحيوان، فهل يُشترط القبض في مجلس التعويض؟ فيه وجهان، أصحهما: لا يشترط، وهو منصوص أحمد. والثاني: يشترط. ومأخذ القولين: أن تأخير قبض العوض يشبه بيع الدين بالدين، فيمنع منه؛ ومأخذ الجواز ــ وهو الصحيح ــ أن النساء بين ما لا يجمعهما علة الربا كالحيوان بالموزون جائز، للاتفاق على جواز سَلَم النقدين في ذلك، والله أعلم. ونظير هذه المسألة: إذا باعه ما يجري فيه الربا، كالحنطة مثلا بثمن مؤجل، فحل الأجل فاشترى بالثمن حنطة أو مكيلًا آخر من غير الجنس، مما يمتنع ربا النساء بينهما، فهل يجوز ذلك؟ فيه قولان (1): أحدهما: المنع. وهو المأثور عن ابن عمر، وسعيد بن المسيب، وطاوس. وهو مذهب مالك وإسحاق (2). والثاني: الجواز. وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، وابن المنذر (3). وبه قال جابر بن زيد، وسعيد بن جبير، وعلي بن الحسين. وهو اختيار صاحب «المغني» وشيخنا (4). _________ (1) انظر: «المغني» (6/ 263 - 264)، والمؤلف صادر عنه. (2) انظر: «المدونة» (9/ 35، 99)، و «مسائل أحمد وإسحاق» برواية الكوسج (2/ 131 - 132). (3) انظر: «الأم» (4/ 159)، و «الأصل» (2/ 506)، و «الإشراف» (6/ 133). (4) انظر: «مجموع الفتاوى» (29/ 300 - 301).

(2/495)


والأول اختيار عامة الأصحاب. والصحيح: الجواز، لما تقدم. قال عبد الله بن زيد: قدمت على علي بن حسين فقلت له: إني أجُذُّ نخلي، وأبيع ممن حضرني التمر إلى أجل، فيَقْدَمون بالحنطة وقد حلّ الأجل فيوقفونها بالسوق، فأبتاع منهم وأُقاصّهم؟ قال: «لا بأس بذلك، إذا لم يكن منك على رأي» (1)، يعني إذا لم يكن حيلة مقصودة. فهذا شراء للطعام بالدراهم التي في الذمة بعد لزوم العقد الأول، فصحَّ لأنه لا يتضمن ربا نسيئةٍ ولا تفاضل. والذين يمنعون ذلك يجوِّزون أن يشتري منه الطعام بدراهم، ويُسلِّمها إليه، ثم يأخذها منه وفاء، أو يشتريه (2) منه بدراهم في ذمته، ثم يُقاصُّه بها. ومعلوم أن شراءه الطعام منه بالدراهم التي له في ذمته أيسر من هذا وأقل كلفة، والله أعلم. 15 - باب في بيع الطعام قبل أن يُستوفَى 401/ 3346 - عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من ابتاع طعامًا فلا يَبِعْه حتى يستوفيه». وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (3). 402/ 3347 - وعنه أنه قال: كُنَّا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبتاع الطعام، فَيَبعَثُ علينا من يأمُرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكانٍ سواه قبل أن _________ (1) ذكره في «المغني» (6/ 264)، ولم أقف عليه مسندًا. (2) ط. الفقي: «نسيئة»، خطأ. (3) أبو داود (3492)، والبخاري (2126)، ومسلم (1526/ 32)، والنسائي (4595)، وابن ماجه (2226)، من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر.

(2/496)


نبيعَه ــ يعني جُزافًا ــ». وأخرجه مسلم والنسائي (1). 403/ 3348 - وعنه قال: كانوا يتبايعون الطعام جُزَافًا بأعلى السُّوق، فنهَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعوه حتى يَنقلوه. وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (2) بنحوه. 404/ 3349 - وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبيع أحدٌ طعامًا اشتراه بكَيلٍ حتى يستوفيه. وأخرجه النسائي (3). 405/ 3350 - وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن ابتَاعَ طَعَامًا فلا يَبيعه حتى يكتاله». 406/ 3351 - وفي رواية: قلت لابن عباس: لِمَ؟ قال: ألا ترى أنهم يتبايعون بالذهب والطعام مُرْجَأٌ؟ وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (4) بنحوه. _________ (1) أبو داود (3493)، ومسلم (1527/ 33)، والنسائي (4605)، من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر. (2) أبو داود (3494)، والبخاري (2167)، ومسلم (1526/ 34)، والنسائي (4606). وابن ماجه (2229)، من طريق عبيد الله عن نافع عن ابن عمر. (3) أبو داود (3495)، والنسائي (4604)، من طريق القاسم بن محمد عن ابن عمر. (4) أبو داود (3496)، والبخاري (2132)، ومسلم (1525/ 31)،والترمذي (1291)، والنسائي (4597)، وابن ماجه (2227).

(2/497)


407/ 3352 - وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا اشترى أحدُكم طعامًا فلا يَبِعْه حتى يقبضه». 408/ 3353 - وفي رواية: «يستوفيه». 409/ 3354 - وفي رواية: وقال ابن عباس: وأحسب كلَّ شيء مثلَ الطعام. وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (1) بنحوه. 410/ 3355 - وعن ابن عمر قال: رأيت الناس يُضرَبون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتروا الطعام جِزافًا أن يبيعوه حتى يُبلِّغَه إلى رَحْله. وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (2). 411/ 3356 - وعنه قال: ابتعتُ زيتًا في السوق، فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني به رِبحًا حسنًا، فأردتُ أن أضربَ على يده، فأخذ رجلٌ من خَلفي بذراعي فالتفتُّ فإذا زيدُ بن ثابت، فقال: لا تبعه حيث ابتعْتَه حتى تَحُوزه إلى رَحْلك، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تُباع السِّلَعُ حيثُ تبتاع، حتى يَحُوزَها التجَّار إلى رحالهم (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى البيهقي في «سننه» (4) من حديث شيبان _________ (1) أبو داود (3497)، والبخاري (2135)، ومسلم (1525/ 30)،والترمذي (1291)، والنسائي (4600)، وابن ماجه (2227). (2) أبو داود (3498)، والبخاري (2131)، ومسلم (1527/ 37)، والنسائي (4608)، من طريق الزهري عن سالم عن أبيه. (3) «سنن أبي داود» (3499)، وفي إسناده لين. (4) (5/ 313) من طريق شيبان، عن يحيى بن أبي كثير به، ثم قال: «هذا إسناد حسن متصل، وكذلك رواه همام بن يحيى، وأبان العطار، عن يحيى بن أبي كثير، وقال أبان ... (فذكر لفظه)، وبمعناه قال همام». قلت: رواية همام مخرجة عند ابن حبان (4983)، ورواية أبان عند الدارقطني (2820).

(2/498)


وهمّام وأبان العطار عن يحيى بن أبي كثير، عن يعلى بن حكيم، عن يوسف بن ماهَك، عن عبد الله بن عِصمة، عن حكيم بن حِزام قال: قلت: يا رسول الله، إني أبتاع هذه البيوع، فما يحلّ لي منها وما يحرم عليّ؟ قال: «يا ابن أخي، لا تبع شيئًا حتى تقبضه»، [ق 189] ولفظ حديث أبان: «إذا اشتريت بيعًا فلا تبعه حتى تقبضه». وهذا إسناد على شرطهما سوى عبد الله بن عصمة، وقد وثَّقه ابن حبان واحتج به النسائي. وروى النسائي (1) من حديث عطاء بن أبي رباح عن حزام بن حكيم قال: قال حكيم بن حزام: ابتعت طعامًا من طعام الصدقة، فربحت فيه قبل أن أقبضه، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له فقال: «لا تبِعْه حتى تقبضه». وفي «صحيح مسلم» (2) عن أبي الزبير عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى أن يبيع الرجل طعامًا حتى يستوفيه. وفيه (3) من حديث أبي هريرة يرفعه: «من اشترى طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله». قال ابن المنذر (4): أجمع العلماء على أن من اشترى طعامًا فليس له _________ (1) «المجتبى» (4603) و «الكبرى» (6152) بإسناد صحيح. (2) رقم (1529). (3) رقم (1528). (4) في «الأوسط» (10/ 146)، و «الإشراف» (6/ 50).

(2/499)


بيعه حتى يقبضه. وحُكي ذلك عن غير واحد من أهل العلم إجماعًا (1). وأما ما حكي عن عثمان البتّي من جوازه، فإن صح لم يُعتدَّ به (2). فأما غير الطعام فاختلف فيه الفقهاء على أقوال عديدة: أحدها: أنه يجوز بيعه قبل قبضه، مكيلًا كان أو موزونًا. وهذا مشهور مذهب مالك، واختاره أبو ثور وابن المنذر (3). والثاني: أنه يجوز بيع الدُّور والأرض قبل قبضها، وما سوى العقار فلا يجوز بيعه قبل القبض، وهذا مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف (4). والثالث: ما كان مكيلًا أو موزونًا فلا يصح بيعه قبل القبض، سواء أكان مطعومًا أم لم يكن. وهذا يروى عن عثمان - رضي الله عنه - (5). وهو مذهب ابن المسيب والحسن والحكم وحماد والأوزاعي وإسحاق (6). وهو المشهور _________ (1) انظر: «الموطأ» (1870) و «شرح معاني الآثار» (4/ 36). (2) انظر: «التمهيد» (13/ 334)، و «المغني» (6/ 188 - 189). (3) انظر: «المدونة» (9/ 87)، و «الإشراف» (6/ 51)، و «الأوسط» (10/ 149). (4) انظر: «المبسوط» (13/ 9)، و «بدائع الصنائع» (5/ 180 - 181). (5) أخرجه عنه ابن أبي شيبة (22919)، وابن المنذر في «الأوسط» (10/ 149). (6) أخرجه ابن أبي شيبة (22920، 22921، 22926) عن ابن المسيب والحكم وحماد بن أبي سليمان. وقول إسحاق في «مسائله» برواية الكوسج (2/ 6، 21، 22، 77). وانظر: «الإشراف» (6/ 51)، و «الأوسط» (10/ 149)، و «التمهيد» (13/ 330).

(2/500)


من مذهب أحمد بن حنبل (1). والرابع: أنه لا يجوز بيع شيء من المبيعات قبل قبضه بحال. وهذا مذهب ابن عباس (2) والشافعي (3) ومحمد بن الحسن (4). وهو إحدى الروايات عن أحمد. وهذا القول هو الصحيح الذي نختاره. وقد اختلف أصحاب أحمد في منعه من بيع المكيل والموزون قبل قبضه على ثلاثة طرق: أحدها: أن المراد ما تعلق به حق التوفية بالكيل أو الوزن، كرَطْلٍ من زُبْرَةٍ، أو قفيز من صُبْرَة. وهذه طريقة القاضي، وصاحب «المحرر» وغيرهما. وعلى هذا: فمنعوا بيع ما تعلق به حقُّ توفية وإن لم يكن مكيلًا ولا موزونًا، كمن اشترى ثوبًا على أنه عشرة أذرع أو قطيعًا كلُّ شاةٍ بدرهم. والطريقة الثانية: أن المراد به ما كان مكيل الجنس وموزونَه، وإن اشتراه جُزافًا كالصُّبْرة، وزُبْرة الحديد، ونحوهما. والطريقة الثالثة: أن المراد به المكيل والموزون من المطعوم والمشروب نصَّ عليه في رواية مُهنّا، فقال: كل شيء يباع قبل قبضه، إلا ما كان يكال أو يوزن مما يؤكل ويشرب. _________ (1) نصّ عليه الإمام في «مسائله» برواية أبي داود (ص 275). وانظر: «الإنصاف» (11/ 493 وما بعده). (2) كما سبق قوله في أحاديث الباب: «وأحسب كل شيء مثل الطعام». (3) «والشافعي» ساقط من ط. الفقي. وقوله في «الأم» (4/ 144). (4) انظر: «الموطأ» بروايته (ص 270).

(2/501)


فصار في مذهبه أربع روايات: إحداها (1): أن المنع مختص بما يتعلق به حق التوفية. الثانية: أنه عام في كل مكيل أو موزون مطعوم. الثالثة: أنه عام في كل مكيل أو موزون مطعومًا كان أو غيره. الرابعة: أنه عام في كل مبيع. والصحيح هو هذه الرواية لوجوه: أحدها: حديث حكيم بن حزام: قلت: يا رسول الله إني أبتاع هذه البيوع فما يحل لي منها وما يحرم علي؟ قال: «يا ابن أخي لا تبع شيئا حتى تقبضه». وقد ذكرنا الكلام عليه. الثاني: ما ذكره أبو داود في الباب من حديث زيد بن ثابت: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تباع السلع حيث تبتاع». وإن كان فيه محمد بن إسحاق، فهو الثقة الصدوق، وقد استوفينا الكلام عليه في الرد على الجهمية من هذا الكتاب (2). فإن قيل: الأحاديث كلها مقيدة بالطعام سوى هذين الحديثين، فإنهما مطلَقان أو عامّان، وعلى التقديرين فنقيّدهما بأحاديث الطعام أو نخصهما بمفهومها (3) جمعًا بين الأدلة، وإلا لزم إلغاء وصف الحكم، وقد عُلِّقَ به _________ (1) في الأصل: «أحدها»، والمثبت موافق للطبعتين. (2) (3/ 229 - 234). (3) في الأصل و (هـ) وط. المعارف: «بمفهومهما»، ولعل المثبت من ط. الفقي هو الصواب، إذ المراد: نخص الحديثين العامَّين بمفهوم أحاديث الطعام، أي بمفهوم المخالفة لها.

(2/502)


الحكم. قيل: عن هذا جوابان: أحدهما: أن ثبوت المنع في الطعام بالنص، وفي غيره إما بقياس النظير، كما صح عن ابن عباس أنه قال: «ولا أحسب كلَّ شيء إلا بمنزلة الطعام»؛ أو بقياس الأولى، لأنه إذا نهى عن بيع الطعام قبل قبضه مع كثرة الحاجة إليه وعمومها، فغير الطعام بطريق الأولى. وهذا مسلك الشافعي ومن تبعه. الجواب الثاني: أن اختصاص الطعام بالمنع إنما هو مستفاد من مفهوم اللقب، وهو لو تجرد لم يكن حجةً، فكيف وقد عارضه عمومُ الأحاديث المصرِّحة بالمنع مطلقًا، والقياسُ المذكور؟ حتى لو لم ترد النصوص العامة لكان قياسه على الطعام دليلًا على المنع، والقياس في هذا يمكن تقديره من طريقين: أحدهما: قياس بإبداء الجامع، ثم للمتكلمين فيه طريقان، أحدهما: أنه قياس تسوية، والثاني: أنه قياس أولويّة. والثاني من الطريقين الأولين: قياس بإلغاء الفارق، فإنه لا فارق بين الطعام وغيره في ذلك، إلا ما لا يقتضي الحكم وجودًا ولا عدمًا، فافتراق المجلس فيها عديم التأثير. يوضحه: أن المسالك التي اقتضت المنع من بيع الطعام قبل قبضه موجودةٌ بعينها في غيره، كما سيأتي بيانه. قال المخصِّصون للمنع: تعليق النهي عن ذلك بالطعام يدل على أنه هو

(2/503)


العلة، لأن الحكم لو تعلق بالأعم لكان الأخصُّ عديمَ التأثير، فكيف يكون المنع عامًّا، فيعلِّقه الشارع بالخاص؟ قال المُعمِّمون: لا تنافي بين الأمرين، [ق 190] فإن تعليق الحكم بعموم المبيعات مستقل بإفادة التعميم، وتعليقه بالخاص يحتمل أن يكون لاختصاص الحكم به فيثبت التعارض، ويحتمل أن يكون لغرضٍ دعا إلى التعيين من غير اختصاص الحكم به؛ إما لحاجة المخاطَب، وإمّا لأن غالب التجارة حينئذ كانت بالمدينة فيه، فخرج ذِكْرُ الطعام مخرَجَ الغالب فلا مفهوم له. وهذا هو الأظهر، فإن غالب تجاراتهم بالمدينة كانت في الطعام، ومن عرف ما كان عليه القوم من سيرتهم عرف ذلك، فلم يكن ذكر الطعام لاختصاص الحكم به، ولو لم يكن ذلك هو الأظهر لكان محتملًا، فقد تعارض الاحتمالان، والأحاديث العامة لا معارض لها فتعيَّن القول بموجَبها. قال المخصصون: لا يمكنكم القول بعموم المنع، فإنه قد ثبت بالسنة جوازُ التصرف في غير الطعام قبل قبضه بالبيع، وهو الاستبدال بالثمن قبل قبضه والمصارفة عليه. قال المعممون: الجواب من وجهين. أحدهما: الفرق بين الثمن في الذمة والمبيع المتعيّن من وجوه ثلاثة: أحدها: أن الثمن مستقرّ في الذمة لا يتصور تلفه، والمبيع (1) ليس كذلك، نعم لو كان الثمن معيّنًا لكان بمنزلة المبيع المتعين. _________ (1) في الأصل و (هـ) والطبعتين: «والبيع»، ولعل الصواب ما أثبت.

(2/504)


الثاني: أن بيع الثمن هاهنا إنما هو ممن في ذمته ليس بيعًا (1) لغيره، فلو باع الثمن قبل القبض لغير من هو في ذمته لم يَجُزْ في أحد قولي الشافعي، وهو الذي رجحه الرافعي (2) وغيره من أصحابه. الثالث: أن العلل التي لأجلها امتنع العقد على المبيع قبل قبضه منتفية في الثمن بأسرها، فإن المآخذ ثلاثة: إما عدم استقرار المبيع، وكونه عرضةً للتلف وانفساخ العقد، وهذه العلة مأمونة بكون الثمن في الذمة. وإما أن عُلَقَ البائع لم تنقطع عن المبيع، وهذه العلة أيضًا منتفية هاهنا. وإما أنه عرضةٌ للربح وهو مضمون على البائع، فيؤدي إلى ربح ما لم يضمن. وهذه العلة أيضًا منتفية في الثمن، فإنه إنما يجوز له الاستبدال به بسعر يومه، كما شرطه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لئلا يربح فيما لم يضمن. ولا يمكن أن يقال مثل هذا في السِّلَع، لأنه إنما اشتراها للربح، فلو منعناه من بيعها إلا بمثل الثمن لم يكن في الشراء فائدة، بخلاف الأثمان فإنها لم توضع للربح، وإنما وضعت رؤوسًا للأموال، لا مَورِدًا للكسب والتجارة. قال المخصِّصون: قد سلمتم نفوذ العتق قبل القبض، وهو تصرُّف يزيل الملك، فما الفرق بينه وبين البيع الناقل للملك؟ قال المعمِّمُون: الفرق بينهما أن الشارع جعل للعتق من القوة والسِّراية والنفوذ ما لم يجعل لغيره، حتى أدخل الشِّقْص الذي للشريك في ملك _________ (1) في (هـ) والطبعتين: «تبعًا»، خطأ. (2) انظر: «العزيز في شرح الوجيز» (8/ 429).

(2/505)


المُعتِق قهرًا وأعتقه عليه قهرًا، وحتى أعتق عليه ما لم يُعتقه لقوّته ونفوذه، فلا يصح إلحاق غيره من التصرفات به. قال المخصصون: قد جوَّزتم بيع الملك قبل قبضه في صور: إحداها (1): بيع الميراث قبل قبض الوارث له. الثانية: إذا أخرج السلطان رزق رجل فباعه قبل أن يقبضه. الثالثة: إذا عُزِل سهمُه من الغنيمة (2) فباعه قبل أن يقبضه. الرابعة: ما ملكه بالوصية، فله أن يبيعه بعد القبول وقبل القبض. الخامسة: غَلَّة ما وُقِف عليه، له أن يبيعها قبل أن يقبضها. السادسة: الموهوب للولد إذا قبضه ثم استرجعه الوالد، فله أن يبيعه قبل قبضه. السابعة: إذا أثبت صيدًا ثم باعه قبل القبض جاز. الثامنة: الاستبدال بالدَّين من غير جنسه، هو بيع قبل القبض. نصَّ الشافعي (3) على الميراث والرزق يخرجه السلطان، وخُرِّج الباقي على نصه. التاسعة: بيع المهر قبل قبضه جائز، وقد نص أحمد (4) على جواز هبة _________ (1) في الأصل وط. المعارف: «أحدها». (2) «من الغنيمة» من (هـ). (3) في «الأم» (4/ 146). (4) كما في «المستوعب» (1/ 621)، والمؤلف صادر عنه.

(2/506)


المرأة صداقها من زوجها قبل قبضه. العاشرة: إذا خالعها على عوضٍ جاز التصرف فيه قبل قبضه، حكاه صاحب «المستوعب» (1) وغيره. وقال أبو البركات في «المحرر» (2): هو كالبيع، يعني في عدم جواز التصرف فيه قبل القبض. الحادية عشرة: إذا أعتقه على مالٍ جاز التصرف فيه قبل قبضه، حكاه صاحب «المستوعب» (3). الثانية عشرة: إذا صالحه عن دم العمد بمال جاز التصرف فيه قبل قبضه، وكذلك إذا أتلف له مالًا وأخرج عوضه. ومنع صاحب «المحرر» (4) من ذلك كله، وألحقه بالمبيع. قال المعممون: الفرق بين هذه الصور وبين التصرف في المبيع قبل قبضه: أن الملك فيه غير مستقر، فلم يُسلَّط على التصرف في ملك مزلزل، بخلاف هذه الصور، فإن الملك فيها مستقر غير معرَّض للزوال، على أن المعاوضات فيها غير مجمَع عليها، بل مختلَف فيها كما ذكرناه. وفيها طريقان لأصحاب أحمد: أحدهما: طريقة صاحب «المستوعب»، وهي أن كل عقد مُلِّكَ به العوض، فإن كان ينتقض بهلاك العوض قبل قبضه، كالإجارة والصلح عن _________ (1) (1/ 621) (2) (1/ 323). (3) (1/ 621). (4) (1/ 323).

(2/507)


المبيع، فحكمه في جواز التصرف فيه حكم العوض المتعين بعقد البيع؛ وإن كان العقد لا [ق 191] ينتقض بهلاك العوض المتعين به، كالمهر، وعوض الخلع والعتق، والصلحِ عن دم العمد، فحكمه حكم المملوك بعقد البيع (1) وما مُلِّك بغير عوض كالميراث والوصية والهبة، فالتصرف فيه جائز قبل قبضه. قال المخصصون: قد ثبت في «صحيح البخاري» (2) عن عمرو بن دينار عن ابن عمر قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فكنت على بَكر صعب لِعُمَر، فكان يغلبني فيتقدم أمام القوم، فيزجره عمر ويردّه، ثم يتقدم فيزجره ويقول لي: أَمْسِكه، لا يتقدم بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بعْنيه يا عمر»، فقال: هو لك يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: «بِعنيه»، فباعه منه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هو لك يا عبدَ الله فاصنع به ما شئت». فهذا تصرف في المبيع غير المكيل والموزون قبل قبضه. قال المعممون: لا ريب أن هذا تصرف فيه بالهبة لا بالمعاوضة. ونحن لنا في مثل هذا التصرف قبل القبض خلاف، فمن أصحابنا من يجوّزه ويفرّق بين التصرف فيه بالبيع والتصرف بالهبة، ويُلحق الهبة بالعتق، ويقول: هي _________ (1) كذا في الأصل، وفيه نظر، فإنه قد سبق آنفًا أن العقد الذي ينتقض بهلاك العوض المتعين هو الذي يكون حكمه حكم المملوك بعقد البيع في عدم جواز التصرف قبل قبضه، والكلام هنا على العقد الذي لا ينتقض بهلاك العوض المتعين. ولعل صواب العبارة: «فحكمه حكم المملوك بالقرض وما مُلِّك بغير عوض كالميراث ... ». انظر: «المستوعب» (1/ 621). (2) برقم (2115).

(2/508)


إخراج عن ملكه لا يتوالى فيه ضمانان، ولا يكون التصرف بها عُرضةً لربح ما لم يضمن، بخلاف البيع. ومِن أصحابنا من منعها، وقال: العلة المانعة من بَيعه قبل قبضه عدم استقرار الملك وضعفه، ولا فرق في ذلك بين تصرف وتصرف. فإن صحّ الفرق بطل النقض (1)، وإن بطل الفرق سوينا بين التصرفات، وعلى هذا فالحديث لا دلالة فيه على التصرف قبل القبض، إذ قبضُ ذلك البعير حصل بالتخلية بينه وبينه، مع تميزه وتعيينه (2)، وهذا كاف في القبض. فصل (3) وقد ذكر للمنع من بيع ما لم يقبض علتان: إحداهما: ضعف الملك، لأنه لو تلف انفسخ البيع. والثانية: أن صحته تفضي إلى توالي الضمانين، فإنا لو صححناه كان مضمونًا للمشتري الأول على البائع الأول، وللمشتري الثاني على البائع الثاني، فكيف يكون الشيء الواحد مضمونًا لشخص مضمونًا عليه؟ وهذان التعليلان غير مرضيَّين. أما الأول، فيقال: ما تعنون بضعف الملك؟ إن عَنَيتم به أنه لو طرأ عليه سبب يوجب فسخه ينفسخ به، أو أمرًا آخر؟ فإن عنيتم الأول فلِمَ قلتم: إنه مانع من صحة البيع، وأي ملازمة بين الانفساخ بسبب طارئ، وبين عدم الصحة شرعًا أو عقلًا؟ وإن عنيتم بضعف _________ (1) ط. الفقي: «القبض»، وط. المعارف: «البعض»، كلاهما خطأ، والصواب ما أثبت. (2) في الطبعتين: «تعيّنه»، والمثبت أقرب إلى رسم الأصل. (3) «فصل» ساقط من ط. المعارف.

(2/509)


الملك أمرًا آخر، فعليكم بيانه لننظر فيه. وأما التعليل الثاني، فكذلك أيضًا، ولا تظهر فيه مناسبة تقتضي الحكم، فإن كون الشيء مضمونًا على الشخص بجهة، ومضمونًا له بجهة أخرى غير ممتنع شرعًا ولا عقلًا، ويكفي في رده أنه لا دليل على امتناعه، كيف وأنتم تجوّزون للمستأجر إجارة ما استأجره، والمنفعة مضمونة له على المؤجر، وهي مضمونة عليه للمستأجر الثاني. وكذلك الثمار بعد بُدُوِّ صلاحها إذا بِيعت على أصولها، فهي مضمونة على البائع إذا احتاجت إلى سقي اتفاقًا، وإن تلفت بجائحة فهي مضمونة عليه عند أحمد ومالك، ومع ذلك فله أن يبيعها على رؤوس الشجر وتصير مضمونةً عليه (1) وله. ولهذا لمّا رأى أبو المعالي الجويني ضعف هذين التعليلين قال (2): لا حاجة إلى ذلك، والمعتمد في بطلان البيع إنما هو الأخبار. فالشافعي يمنع التصرف في المبيع قبل قبضه، ويجعله من ضمان البائع مطلقًا، وهو رواية عن أحمد، وأبو حنيفة كذلك إلا في العقار. وأما مالك وأحمد في المشهور من مذهبه (3) فيقولان: ما تمكّن المشتري من قبضه وهو المتعين بالعقد، فهو من ضمان المشتري، ومالك يجوّز التصرف فيه وأحمد، ويقولان: المُمَكَّن من القبض جارٍ مجرى القبض على تفصيل في _________ (1) من قوله: «عند أحمد» إلى هنا ساقط من الأصل لانتقال النظر، واستدرك من (هـ). (2) في «نهاية المطلب في دراية المذهب» (5/ 173). (3) (هـ): «مذهبهما».

(2/510)


ذلك. فظاهر مذهب أحمد أن الناقل للضمان إلى المشتري هو التمكّن (1) من القبض لا نفسه. وكذلك ظاهر مذهبه أن جواز التصرف فيه ليس ملازمًا للضمان ولا مبنيًّا عليه، ومن ظن ذلك من أصحابه فقد وهم، فإنه يجوِّز التصرف حيث يكون من ضمان البائع، كما ذكرنا في الثمن ومنافع الإجارة، وبالعكس أيضًا، كما في الصُّبرة المعينة. وقد نص الخرقي على هذا وهذا فقال في «المختصر» (2): «وإذا وقع البَيع (3) على مكيل أو موزون أو معدود فتلف قبل قبضه، فهو من مال البائع». ثم قال (4): «ومن اشترى ما يحتاج إلى قبضه لم يَجُز بيعه حتى يقبضه». ثم قال: «ومن اشترى صُبْرَة طعامٍ لم يبعها حتى ينقلها». فالصبرة مضمونة على المشتري بالتمكن والتخلية اتفاقًا، ومع هذا لا يبيعها حتى ينقلها، وهذا منصوص أحمد. فالمأخذ الصحيح في المسألة: أن النهي معلل بعدم تمام الاستيلاء، وعدم انقطاع علاقة البائع عنه، فإنه يطمع في الفسخ والامتناع من الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح فيه، ويُغيره (5) الربحُ وتضيق عينه منه، وربما أفضى إلى التحيُّل على الفسخ ولو ظلمًا، وإلى الخصام والمعاداة؛ والواقعُ شاهد بهذا. _________ (1) (هـ): «التمكين». (2) (6/ 181 - مع المغني). (3) في الأصل والطبعتين: «المبيع»، تصحيف. (4) (6/ 188 - مع المغني). (5) في الأصل والطبعتين: «يغره»، والتصحيح من (هـ). ومعنى قوله: «يُغيره الربح» أي يجعله يَغار.

(2/511)


فمن محاسن الشريعة الكاملة الحكيمة: منعُ المشتري من التصرف فيه حتى يتم استيلاؤه عليه، وتنقطع عُلَق البائع، وينفطم عنه، [ق 192] فلا يطمع في الفسخ والامتناع من الإقباض، وهذا من المصالح التي لا يُهملها الشارع، حتى إن من لا خبرة له من التجار بالشرع يتحرَّى ذلك ويقصده، لما في ظنه من المصلحة وسدِّ باب المفسدة. وهذه العلة أقوى من تَينِك العلتين. وعلى هذا، فإذا باعه من بائعه قبل قبضه (1) جاز على الصحيح، لانتفاء هذه العلة. ومن علّل النهي بتوالي الضمانين يمنع بيعه من بائعه لوجود العلة، فبيعه من بائعه يشبه الإقالة، والصحيح من القولين جواز الإقالة قبل القبض وإن قلنا: هي بيع. وعلى هذا خرج حديث ابن عمر في الاستبدال بثمن المبيع والمصارفة عليه قبل قبضه، فإنه استبدال ومصارفة مع العاقد، لا مع غيره. 16 - باب في الرجل يبيع ما ليس عنده 412/ 3361 - عن عمرو بن شعيب، قال: حدثني أبي، عن أبيه ــ حتى ذكر عبد الله بن عمرو ــ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَحِلُّ سَلَف وبيع، ولا شرطانِ في بيع، ولا ربحُ ما لم تضمن، ولا بيعُ ما ليس عندك». وأخرجه النسائي وابن ماجه والترمذي (2)، وقال: حسن صحيح. ويشبه أن يكون صحّحه لتصريحه فيه بذكر عبد الله بن عمرو، ويكون مذهبه في الامتناع من الاحتجاج بحديث عمرو بن شعيب إنما هو الشكّ في إسناده لجواز أن يكون _________ (1) الأصل: «باعه قبل قبضه من بائعه»، والمثبت من (هـ) أوضح. (2) أبو داود (3504)، والنسائي (4611)، وابن ماجه (2188)، والترمذي (1234).

(2/512)


الضمير عائدًا على محمد بن عبد الله بن عمرو، فإذا صرَّح بذكر عبد الله بن عمرٍو انتفى ذلك. هذا كلام المنذري (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: هذا الحديث أصل من أصول المعاملات، وهو نص في تحريم الحِيَل الربوية، وقد اشتمل على أربعة أحكام: الحكم الأول: تحريم الشرطين في البيع، وقد أشكل على أكثر الفقهاء معناه من حيث إن الشرطين إن كانا فاسدين فالواحد حرام، فأي فائدة لذكر الشرطين؟ وإن كانا صحيحين لم يَحْرُما. فقال ابن المنذر (2): قال أحمد وإسحاق فيمن اشترى ثوبًا واشترط على البائع خياطته وقِصارته، أو طعامًا واشترط طحنه وحمله: إن شرط أحدَ هذه الأشياء فالبيع جائز، وإن شرط شرطين فالبيع باطل. وبهذا فسّره القاضي أبو يعلى (3) وغيره. وعن أحمد في تفسيره رواية ثانية، حكاها الأثرم (4)، وهو أن يشتريها على أن لا يبيعها من أحد ولا يطأها؛ ففسّره بالشرطين الفاسدين. وعنه رواية ثالثة، حكاها إسماعيل بن سعيد الشالَنْجي (5) عنه، هو أن يقول: إذا بعتَها فأنا أحق بها بالثمن، وأن تخدمني سنة. ومضمون هذه _________ (1) في «المختصر» (5/ 147 - 150)، والفقرة مثبتة من (هـ). (2) في «الإشراف» (6/ 124)، والمؤلف صادر عن «المغني» (6/ 322). (3) كما في «المغني» (6/ 322). (4) المصدر السابق. (5) المصدر السابق.

(2/513)


الرواية أن الشرطين يتعلقان بالبائع، فيبقى له فيها عُلقتان: علقة قبل التسليم، وهي الخدمة؛ وعلقة بعد البيع، وهو كونه أحق بها. فأما اشتراط الخدمة فيصح، وهو استثناء منفعة المبيع مدةً، كاستثناء ركوب الدابة ونحوه. وأما شرط كونه أحق بها بالثمن، فقال في رواية المرُّوذي (1): هو في معنى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا شرطان في بيع»، يعني لأنه شرط أن يبيعه إياه، وأن يكون البيع بالثمن الأول، فهما شرطان في بيع. وروى عنه إسماعيل بن سعيد (2) جواز هذا البيع. وتأوله بعض أصحابنا على جوازه مع فساد الشرط، وحمل رواية المرُّوذي على فساد الشرط وحده. وهو تأويل بعيد، ونصُّ أحمد يأباه. قال إسماعيل بن سعيد: ذكرت لأحمد حديث ابن مسعود أنه قال: «ابتعتُ من امرأتي زينب الثقفية جارية، وشرطتُ لها: إنْ (3) بعتُها فهي لها (4) بالثمن الذي ابتعتُها به، فذكرت ذلك لعمر، فقال: لا تَقرَبْها ولأحدٍ فيها شرط» (5). فقال أحمد: البيع جائز، و «لا تقربها» لأنه كان فيها شرط واحد للمرأة، ولم يقل عمر في ذلك: البيع فاسد. _________ (1) كما في «المغني» (6/ 171). (2) كما في «المغني» (6/ 171)، وسيأتي قريبًا لفظ روايته بتمامه. (3) الأصل: «أني»، والتصحيح من (هـ) و «المغني». (4) من (هـ)، وفي الأصل: «لي» خطأ، وإنما يصحّ لو كان أوّله: «اشترطَتْ عليه: أنّك إن بعتَها ... »، كما هو لفظ «الموطأ». (5) أخرجه مالك في «الموطأ» (1801)، وعبد الرزاق (14291)، وابن المنذر في «الأوسط» (10/ 235).

(2/514)


فهذا يدل على تصحيح أحمد للشرط من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه قال: «لا تقربها»، ولو كان الشرط فاسدًا لم يمنع من قربانها. الثاني: أنه علل ذلك بالشرط، فدل على أن المانع من القربان هو الشرط، وأنَّ وطأها يتضمن إبطال ذلك الشرط، لأنها قد تحمل فيمتنع عودها إليه (1). الثالث: أنه قال: «كان فيها شرط واحد للمرأة»، فذِكْره وحدةَ الشرط يدل على أنه صحيح عنده، لأن النهي إنما هو عن الشرطين. وقد حكى عنه بعض أصحابنا رواية صريحة: أن البيع جائز والشرطَ صحيح. ولهذا حمل القاضي (2) منعه من الوطء على الكراهة، لأنه لا معنى لتحريمه عنده مع فساد الشرط. وحمله ابن عقيل على الشبهة، للاختلاف في صحة هذا العقد. وقال القاضي في «المجرد» (3): ظاهر كلام أحمد: أنه متى شرط في العقد شرطين بطل، سواءٌ كانا صحيحين أو فاسدين لمصلحة العقد أو لغير مصلحته، أخذًا بظاهر الحديث وعملًا بعمومه. وأما أصحاب الشافعي وأبي حنيفة (4) فلم يفرقوا بين الشرط _________ (1) في الأصل: «لأنه قد تحمل .... إليها»، والتصحيح من (هـ). (2) كما في «المغني» (6/ 171)، وفيه قول ابن عقيل الآتي. (3) كما في «المغني» (6/ 322). (4) انظر: «الحاوي الكبير» (5/ 312 - 313)، و «المهذب» (9/ 451 - 453 مع المجموع)؛ و «الأصل» (2/ 441) للشيباني، و «المبسوط» (13/ 23).

(2/515)


والشرطين، وقالوا: يَبْطل البيعُ بالشرط الواحد (1) لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع وشرط (2)، وأما الشروط الصحيحة فلا تؤثر في العقد وإن كثرت. وهؤلاء ألغوا التقييد بالشرطين، ورأوا أنه لا أثر له أصلًا. وكل هذه الأقوال بعيدة عن مقصود الحديث، غيرُ مرادة منه. فأما القول الأول، وهو أن يشترط حمل الحطب وتكسيره، وخياطة الثوب وقِصارته، ونحو ذلك= فبعيد، فإن اشتراط منفعة البائع في المبيع إن كان فاسدًا فسد الشرط والشرطان. وإن كان صحيحًا فأي فرق بين منفعة أو منفعتين أو منافع؟ لا سيما والمصححون لهذا الشرط قالوا: هو عقد قد جمع بيعًا وإجارة، وهما معلومان لم يتضمّنا غررًا، فكانا صحيحين. وإذا كان كذلك فما الموجِب لفساد الإجارة على منفعتين وصحتِها على منفعة؟ وأي فرق بين أن يشترط على بائع الحطب حملَه، أو حمله ونقلَه، أو حمله وتكسيرَه؟ وأما التفسير الثاني، وهو الشرطان الفاسدان، فأضعف وأضعف، لأن _________ (1) أي مما لا يقتضيه مطلق العقد وليس متعلقًا بمصلحته. (2) أخرجه وكيع في «أخبار القضاة» (3/ 46)، والطبراني في «الأوسط» (4361)، والحاكم في «معرفة علوم الحديث» (ص 393)، وأبو نعيم في «مسند أبي حنيفة» (ص 160)، وابن عبد البر في «التمهيد» (22/ 185 - 186)، كلهم من طريق عبد الله بن أيوب القِرَبي الضرير، عن محمد بن سليمان الذهلي، عن عبد الوارث بن سعيد، عن أبي حنيفة، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. إسناده واهٍ ومتنه منكر، فعبد الله القِرَبي متروك، والذهلي لم أعثر له على ترجمة، ولفظه مخالف لما ثبت من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «لا يحل شرطان في بيع». وانظر: «السلسلة الضعيفة» (491).

(2/516)


الشرط الواحد الفاسد منهي عنه، فلا فائدة في التقييد بشرطين في بيع، وهو يتضمن زيادةً في اللفظ، [ق 193] وإيهامًا بجواز الواحد. وهذا ممتنع على الشارع مثلُه، لأنه زيادة مخِلَّة بالمعنى. وأما التفسير الثالث، وهو أن يشترط أنه إن باعها فهو أحق بها بالثمن، وأن ذلك يتضمن شرطين: أن لا يبيعها لغيره وأن يبيعه إياها بالثمن= فكذلك أيضًا، فإنّ كلَّ واحدٍ منهما إن كان فاسدًا فلا أثر للشرطين، وإن كان صحيحًا لم يفسد بانضمامه إلى صحيح مثله، كاشتراط الرهن والضمين، واشتراط التأجيل والرهن، ونحو ذلك. وعن أحمد في هذه المسألة ثلاث روايات: إحداهن: صحة البيع والشرط. والثانية: فسادهما. والثالثة: صحة البيع وفساد الشرط. وهو - رضي الله عنه - إنما اعتمد في الصحة على اتفاق عمر وابن مسعود على ذلك. ولو كان هذا هو الشرطين في البيع لم يخالفه لقولِ أحدٍ على قاعدة مذهبه، فإنه إذا كان عنده في المسألة حديث صحيح لم يتركه لقول أحد، ويَعْجَب ممن يخالفه من صاحب أو غيره. وقوله في رواية المرُّوذي: هو في معنى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا شرطان في بيع»، ليس تفسيرًا منه صريحًا، بل تشبيه وقياس على معنى الحديث، ولو قُدِّر أنه تفسير فليس بمطابق لمقصود الحديث، كما تقدم. وأما تفسير القاضي في «المجرد»، فمِن أبعدِ ما قيل في الحديث

(2/517)


وأفسدِه، فإنَّ شرط ما يقتضيه العقد، أو ما هو من مصلحته، كالرهن والتأجيل والضمين ونقد كذا= جائز بلا خلاف، تعددت الشروط أو اتحدت. فإذا تبين ضعف هذه الأقوال فالأولى تفسير كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بعضه ببعض، فنفسِّر كلامَه بكلامه فنقول: نظير هذا نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن صفقتين في صفقة، وعن بيعتين في بيعة. فروى سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صفقتين في صفقة (1). وفي «السنن» (2) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من باع بيعتين في بيعةٍ فله أوكسهما أو الربا». وقد فُسِّرت البيعتان في البيعة بأن يقول: أبيعك بعشرة نقدًا، أو بعشرين نسيئةً، وهذا بعيد من معنى الحديث من وجهين: أحدهما: أنه لا يدخل الربا في هذا العقد. الثاني: أن هذا ليس بصفقتين، إنما هو صفقة واحدة بأحد الثمنين؛ وقد ردَّده بين الأَوكَس (3) أو الربا، ومعلوم أنه إذا أخذ بالثمن الأزيد في هذا العقد لم يكن ربا، فليس هذا معنى الحديث. وفُسِّر بأن يقول: خُذ هذه السلعة بعشرة نقدًا، وآخذها منك بعشرين نسيئة، وهي مسألة العينة بعَينها. وهذا هو المعنى المطابق للحديث، فإنه إذا كان مقصوده الدراهم العاجلة بالآجلة فهو لا يستحق إلا رأس ماله، وهو _________ (1) سبق تخريجه (ص 470). (2) أي «سنن أبي داود»، وقد سبق تخريجه (ص 458). (3) في الأصل وط. الفقي: «الأوليين»، وفي ط. المعارف: «الأوكسين»، كلاهما تحريف.

(2/518)


أوكس الثمنين، فإن أخذه أخذ أوكسهما، وإن أخذ الثمن الأكثر فقد أخذ الربا؛ فلا محيد له عن أوكس الثمنين أو الربا. ولا يحتمل الحديث غير هذا المعنى. وهذا هو بعينه الشرطان في بيع، فإن الشرط يطلق على العقد نفسه لأنهما تشارطا على الوفاء به فهو مشروط، والشرط يُطلَق على المشروط كثيرًا، كالضرب (1) على المضروب، والحلق على المحلوق، والنسخ على المنسوخ. فالشرطان كالصفقتين سواء، فشرطان في بيع كصفقتين في صفقة. وإذا أردت أن يتضح لك هذا المعنى فتأمل نهيه - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر عن بيعتين في بيعة، وعن سلف وبيع ــ رواه أحمد (2) ــ، ونَهْيَه في هذا الحديث عن شرطين في بيع، وعن سلف وبيع (3)؛ فجمع السلف والبيع مع الشرطين في البيع، ومع البيعتين في البيعة. وسرُّ ذلك: أن كِلا الأمرين يؤول إلى الربا، وهو ذريعة إليه. أما البيعتان في بيعة فظاهر، فإنه إذا باعه السلعة إلى شهر ثم اشتراها منه بما شرط له، كان قد باع بما شرط له بعشرة (4) نسيئة. ولهذا المعنى حرم الله ورسوله العينة. _________ (1) في الطبعتين بعده: «يُطلق» خلافًا للأصل. (2) رقم (6628) من حديث عبد الله بن عمرو، وليس ابن عمر، وقد سبق التنبيه على ذلك. وهو نفس حديث الباب إلا أن لفظه: «بيعتين في بيعة»، والذي في حديث الباب ــ وهو لفظ أكثر الروايات ــ: «شرطين في بيع»، وهما بمعنى. (3) النهي عن سلف وبيع هو الحكم الثاني من الأحكام الأربعة التي ذكرها المؤلف في مطلع كلامه (ص 513). (4) ط. المعارف: «لعُسرة»، تصحيف.

(2/519)


وأما السلف والبيع، فلأنه إذا أقرضه مائة إلى سنة، ثم باعه ما يساوي خمسين بمائة، فقد جعل هذا البيع ذريعةً إلى الزيادة في القرض الذي موجَبه رد المثل، ولولا هذا البيع لما أقرضه، ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك. فظهر سرُّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع»، وقولِ ابن عمر: «نهى عن بيعتين في بيعة وعن سلف وبيع»، واقترانِ إحدى الجملتين بالأخرى لمّا كانا سُلَّمًا إلى الربا. ومن نظر في الواقع وأحاط به علمًا فهم مرادَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من كلامه، ونزّله عليه. وعلم أنه كلامُ من جُمِعت له الحكمة، وأوتي جوامع الكلم، فصلوات الله وسلامه عليه، وجزاه أفضل ما جزى نبيًّا عن أمته. وقد قال بعض السلف: اطلبوا الكنوز تحت كلمات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولما كان موجب عقد القرض رد المثل من غير زيادة كانت الزيادة ربا. قال ابن المنذر (1): أجمعوا على أن المُسْلِف إذا شرط على المستسلف زيادةً أو هديةً فأسلف على ذلك= أن أخذ الزيادة على ذلك ربا. وقد روي عن ابن مسعود وأبيّ بن كعب وابن عباس أنهم نَهَوا عن قرضٍ جرَّ منفعة (2). وكذلك إن شرط أن يُؤَجِّره داره أو يبيعه شيئًا لم يَجُزْ، لأنه سُلَّم إلى الربا، ولهذا نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولهذا منع السلف - رضي الله عنهم - من قَبول هدية المقترض إلا أن يحتسبها _________ (1) في «الإشراف» (6/ 142)، و «الأوسط» (10/ 407)، والمؤلف صادر عن «المغني» (6/ 436). (2) أسند هذه الآثار ابن المنذر في «الأوسط» (10/ 407 - 408). وأخرجها أيضًا ابن أبي شيبة (21058، 21059، 21068).

(2/520)


المُقرِض من الدين، فروى الأثرم (1): أن رجلًا كان له على سمّاك عشرون درهمًا، فجعل يهدي إليه [ق 194] السمك، ويُقَوِّمه حتى بلغ ثلاثة عشر درهمًا، فسأل ابن عباس فقال: أعطه سبعة دراهم. وروي عن ابن سيرين أن عمر أسلف أُبيَّ بن كعب عشرة آلاف درهم، فأهدى إليه أبيُّ بن كعب من ثمرة أرضه، فردَّها عليه ولم يقبلها (2)، فأتاه أُبي فقال: لقد علم أهل المدينة أني من أطيبهم ثمرة، وأنه لا حاجة لنا، فبِمَ منعتَ هديتنا؟ ثم أهدى إليه بعد ذلك فقبل (3). فردّه عمر لما توهَّم أن يكون بسبب القرض، فلما تيقَّن أنه ليس بسبب القرض قبله. وهذا فصل النزاع في مسألة هدية المقترض. وقال زِرّ بن حُبَيش: قلت لأُبي بن كعب: إني أريد أن أسير إلى أرض الجهاد إلى العراق، فقال: إنك تأتي أرضًا فاشٍ بها الربا، فإن أقرضتَ رجلًا قرضًا، فأتاك بقرضك ليؤدي إليك قرضك ومعه هدية، فاقبض قرضك واردُد عليه هديته (4). ذكرهن الأثرم. _________ (1) كما في «المغني» (6/ 437)، وأخرجه بنحوه عبد الرزاق (14651)، وابن المنذر في «الأوسط» (10/ 407)، والبيهقي (5/ 349 - 350). (2) في الأصل وط. المعارف: «يقبله»، والتصويب من مصدر النقل. (3) ذكره في «المغني» (6/ 437) وعزاه إلى الأثرم، وأخرجه بنحوه عبد الرزاق (14647)، والطحاوي في «مشكل الآثار» (11/ 114 - 115)، والبيهقي (5/ 349) وقال: «هذا منقطع»، أي لأن ابن سيرين لم يُدرك القصة. (4) أخرجه عبد الرزاق (14652)، وابن أبي شيبة (21059)، وابن المنذر في «الأوسط» (10/ 408)، والبيهقي (5/ 349).

(2/521)


وفي «صحيح البخاري» (1) عن أبي بردة بن أبي موسى قال: قدمت المدينة، فلقيت عبد الله بن سلام ــ فذكر الحديث، وفيه: ثم قال لي: إنك بأرض فيها الربا فاشٍ، فإذا كان لك على رجل دين، فأهدى إليك حِمْل تِبْن، أو حمل قَتٍّ، أو حمل شعير، فلا تأخذه فإنه ربا. قال ابن أبي موسى (2): ولو أقرضه قرضًا ثم استعمله عملًا، لم يكن يستعمله مثله قبل القرض، كان قرضًا جرّ منفعة. قال: ولو استضاف غريمَه، ولم تكن العادة جرت بينهما بذلك= حسب له ما أكله. واحتج له صاحب «المغني» بما روى ابن ماجه في «سننه» (3) عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أقْرَضَ (4) أحدكم قرضًا فأَهدى إليه، أو حمله على دابته، فلا يركبها ولا يقبله، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك». واختلفت الرواية عن أحمد فيما لو أقرضه دراهم، وشرط عليه أن يوفّيه إياها ببلد آخر ولا مؤنة لحملها، فروي عنه أنه لا يجوز (5). وكرهه الحسن وجماعة (6)، _________ (1) برقم (3814). (2) في «الإرشاد» (ص 236)، والمؤلف صادر عن «المغني» (6/ 438). (3) رقم (2432) من طريق عتبة بن حميد الضبي، عن يحيى بن أبي إسحاق، عن أنس. إسناده ضعيف لضعف عتبة بن حميد، وقد روي عن أنس موقوفًا، وهو أشبه. أخرجه الطحاوي في «معاني الآثار» (11/ 116) والبيهقي في «شعب الإيمان» (5144). وانظر: «سنن البيهقي» (5/ 350). (4) ط. الفقي: «اقترض»، خطأ. (5) انظر: «المغني» (6/ 436). (6) منهم ميمون بن أبي شبيب، أخرجه ابن أبي شيبة (21428، 21429) عنه وعن الحسن البصري. وانظر: «الأوسط» (10/ 417).

(2/522)


ومالك والأوزاعي والشافعي (1). وروي عنه الجواز، نقله ابن المنذر (2)؛ لأنه مصلحة لهما، فلم ينفرد المُقرض (3) بالمنفعة، وحكاه (4) عن علي، وابن عباس، والحسن بن علي، وابن الزبير، وابن سيرين، وعبد الرحمن بن الأسود، وأيوب، والثوري، وإسحاق. واختاره القاضي (5). ونظير هذا: لو أفلس غريمه فأقرضه دراهم يوفيه كلَّ شهر شيئًا معلومًا من ربحها جاز، لأن المُقرض لم ينفرد بالمنفعة. ونظيره: لو كان له عليه حنطة، فأقرضه دراهم يشتري له بها حنطة ويوفيه إياها. ونظير ذلك أيضًا: إذا أقرض فلّاحه ما يشتري به بقرًا يعمل بها في أرضه، أو بَذْرًا يَبْذُره فيها. ومنعه ابن أبي موسى (6)، والصحيح جوازه، وهو اختيار صاحب «المغني» (7)؛ وذلك لأن المستقرض إنما يقصد نفع نفسه، _________ (1) انظر: «الكافي» لابن عبد البر (2/ 728 - 729)، و «الأوسط» (10/ 417)، و «الأم» (4/ 65). (2) في «الأوسط» (10/ 417) عنه وعن إسحاق، وانظر: «مسائلهما» برواية الكوسج (2/ 32). (3) في الأصل والطبعتين: «المقترض»، خطأ. (4) أي ابن المنذر في «الأوسط» (10/ 415 - 417)، وقد أسند هذه الآثار أيضًا ابن أبي شيبة (21418 - 21427). (5) انظر: «المغني» (6/ 437)، وهو ما رجحه أبو محمد أيضًا. (6) في «الإرشاد» (ص 237). (7) (6/ 440).

(2/523)


ويحصل انتفاع المقرض ضمنًا، فأشبه أخذ السَّفْتَجَة به وإيفاءَه إياه في بلد آخر، من حيث إنه مصلحة لهما جميعًا. والمنفعة التي تجرّ إلى الربا في القرض، هي التي تخص المقرض كسكنى دار المقترض وركوب دوابه، واستعماله، وقبول (1) هديته؛ فإنه لا مصلحة له في ذلك بخلاف هذه المسائل، فإن المنفعة مشتركة بينهما، وهما متعاونان عليها، فهي من جنس التعاون والمشاركة. وأما نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ربح ما لم يضمن (2)، فهو كما ثبت عنه في حديث عبد الله بن عمر حيث قال له: إني أبيع الإبل بالبقيع بالدراهم وآخذ الدنانير، وأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم. فقال: «لا بأس إذا أخذتها بسعر يومها وتفرقتما وليس بينكما شيء» (3)، فجوز ذلك بشرطين: أحدهما: أن يأخذها بسعر يوم الصرف، لئلا يربح فيها وليستقر ضمانه. والثاني: أن لا يتفرقا إلا عن تقابض، لأنه شرط في صحة الصرف لئلا يدخله ربا النسيئة. والنهي عن ربح ما لم يضمن قد أشكل على بعض الفقهاء علّته. وهو من محاسن الشريعة، فإنه لم يتم عليه استيلاء، ولم تنقطع عُلَق البائع عنه، فهو يطمع في الفسخ والامتناع من الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح فيه، وإن أقبضه إياه فإنما يقبضه على إغماض وتأسّف على فوت الربح، فنفسه متعلقة به لم ينقطع طمعها منه. وهذا معلوم بالمشاهدة، فمِن كمال الشريعة _________ (1) في الأصل وط. المعارف: «قبول» بدون واو العطف، والصواب إثباتها. (2) وهو الحكم الثالث من الأحكام الأربعة التي اشتمل عليها الحديث. (3) سبق تخريجه.

(2/524)


ومحاسنها النهي عن الربح فيه حتى يستولي عليه ويكون من ضمانه، فييأس البائع من الفسخ وتنقطع علقه عنه. وقد نص أحمد (1) على ذلك في الاعتياض عن دين القرض وغيره: أنه إنما يعتاض (2) عنه بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن. فإن قيل: هذا ينتقض عليكم بمسألتين: إحداهما: بيع الثمار بعد بدو صلاحها، فإنكم تجوّزون لمشتريها أن يبيعها على رؤوس الأشجار ويربح فيها، ولو تلفت بجائحة لكانت من ضمان البائع، فيلزمكم أحد أمرين: إما أن تمنعوا بيعها، وإما أن لا تقولوا بوضع الجوائح، كما يقول الشافعي وأبو حنيفة، بل تكون من ضمانه، فكيف تجمعون بين هذا وهذا؟ المسألة الثانية: أنكم تجوِّزون للمستأجر أن يُؤَجِّر العين المستأجرة بمثل الأجرة وزيادة، مع أنها لو تلفت لكانت من ضمان المؤجر، فهذا ربح ما لم يضمن. قيل: النقض الوارد إما أن يكون بمسألة [ق 195] منصوص عليها أو مُجمَعٍ على حكمها، وهاتان المسألتان غير منصوص عليهما ولا مجمع على حكمهما، فلا يَرِدان نقضًا، فإن في جواز بيع المشتري ما اشتراه من الثمار على الأشجار كذلك روايتان منصوصتان عن أحمد (3). _________ (1) سبق عزو كلامه. (2) في الأصل: «يعتاد»، تحريف سماعي. (3) انظر: «الإنصاف» (12/ 191 - 192).

(2/525)


فإن مُنع البيع بطل النقض، وإن جوّزنا البيع ــ وهو الصحيح ــ فلأن الحاجة تدعو إلى ذلك، فإن الثمار قد لا يمكن بيعها إلا كذلك، فلو منعناه من بيعها أضررنا به، ولو جعلناها من ضمانه إذا تلفت بجائحة أضررنا به أيضًا، فجوَّزنا له بيعها لأنها في حكم المقبوض بالتخلية بينه وبينها، وجعلناها من ضمان البائع بالجائحة، لأنها ليست في حكم المقبوض من جميع الوجوه، ولهذا يجب عليه تمام التسليم بالوجه المحتاج إليه. فلما كانت مقبوضة من وجه غير مقبوضة من وجه رتّبنا على الوجهين مقتضاهما، وهذا من ألطف الفقه. وأما مسألة الإجارة، فاختلفت الرواية عن أحمد في جواز إجارة الرجل ما استأجره بزيادة على ثلاث روايات (1): إحداهن: المنع مطلقًا، لئلا يربح فيما لم يضمن، وعلى هذا فالنقض مندفع. والثانية: أنه إن جدد فيها عمارة جازت الزيادة، وإلا فلا، لأن الزيادة لا تكون ربحًا بل هي في مقابلة ما أحدثه من العمارة. وعلى هذه الرواية أيضًا فالنقض مندفع. والثالثة: أنه يجوز أن يؤجرها بأكثر مما استأجرها مطلقًا، وهذه مذهب الشافعي (2). وهذه الرواية أصح، فإن المستأجر لو عطَّل المكان وأتلف منافعه بعد قبضه لتلفت من ضمانه، لأنه قبضه القبض التام، ولكن لو _________ (1) انظر: «الإنصاف» (14/ 338 - 339). (2) انظر: «المهذب» (15/ 306 مع تكملة المجموع).

(2/526)


انهدمت الدار لتلفت من مال المؤجّر لزوال محل المنفعة، فالمنافع مقبوضة ولهذا له استيفاؤها بنفسه وبنظيره، وإيجارُها والتبرع بها. ولكن كونها مقبوضةً مشروط ببقاء العين، فإذا تلفت العين زال محل الاستيفاء، فكانت من ضمان المؤجر. وسرّ المسألة: أنه لم يربح فيما لم يضمن، وإنما ربح فيما (1) هو مضمون عليه بالأجرة. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ولا تبع ما ليس عندك» (2) فمطابق لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر، لأنه إذا باع ما ليس عنده فليس على ثقة من حصوله، بل قد يحصل له وقد لا يحصل، فيكون غررًا، كبيع الآبق والشارد والطير في الهواء، وما تحمل ناقته ونحوه. قال حكيم بن حزام: يا رسول الله، الرجل يأتيني يسألني البيع ليس عندي فأبيعه منه، ثم أمضي إلى السوق، فأشتريه وأسلمه إياه، فقال: «لا تبع ما ليس عندك» (3). وقد ظنّ طائفة أن السَّلَم مخصوص من عموم هذا الحديث، فإنه بيع ما ليس عنده. وليس كما ظنوه، فإن الحديث إنما تناول بيع الأعيان، وأما السَّلَم _________ (1) «ربح فيما» سقطت من ط. الفقي. (2) هو الحكم الرابع والأخير. (3) أخرجه أحمد (15311)، وأبو داود (3503)، والترمذي (1232، 1235)، والنسائي (4613) من حديث يوسف بن ماهَك، عن حكيم بن حزام. قال الترمذي: حديث حسن. وقد قيل: إن يوسف لم يسمع من حكيم بدليل رواية أحمد (15316) وابن حبان (4983) وفيها: «عبد الله بن عصمة» بينهما، ولفظها: «إذا اشتريت بيعًا، فلا تبعه حتى تقبضه»، وقد سبق تخريجه (ص 498 - 499).

(2/527)


فعقدٌ على ما في الذمة، بل شرطه أن يكون في الذمة، فلو أسلم في معيَّن عنده كان فاسدًا، وما في الذمة مضمون مستقر فيها. وبيع ما ليس عنده إنما نهي عنه لكونه غيرَ مضمون عليه، ولا ثابت في ذمته، ولا في يده. فالمبيع لا بد أن يكون ثابتًا في ذمة المشتري أو في يده، وبيع ما ليس عنده ليس بواحدٍ منهما، فالحديث باق على عمومه. فإن قيل: فأنتم تجوّزون للمغصوب منه أن يبيع المغصوب لمن يقدر على انتزاعه من غاصبه، وهو بيع ما ليس عنده. قيل: لما كان البائع قادرًا على تسليمه بالبيع، والمشتري قادرًا على تسلّمه من الغاصب، فكأنه قد باعه ما هو عنده، وصار كما لو باعه مالًا وهو عند المشتري وتحت يده، وليس عند البائع. والعِنْدية هنا ليست عندية الحس والمشاهدة، فإنه يجوز أن يبيعه ما ليس تحت يده ومشاهدته، وإنما هي عندية الحكم والتمكين، وهذا واضح ولله الحمد. 17 - باب من اشترى عبدًا فاستغلَّه [ثم رأى عيبًا] (1) 413/ 3365 - عن مَخلَد بن خُفاف، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الخرَاجُ بالضَّمان». وأخرجه الترمذي والنسائي (2)، وقال الترمذي: حديث حسن. _________ (1) في «السنن» و «المختصر»: «فاستعمله»، وكان ناسخ الأصل كتبه كذلك ثم غيَّره إلى ما هو مثبت، وما بين الحاصرتين من «المختصر». وفي «السنن»: «ثم وجد به عيبًا». (2) أبو داود (3508)، والترمذي (1285)، والنسائي (4490)، من طريق ابن أبي ذئب عن مخلد بن خفاف به.

(2/528)


414/ 3366 - وعن مخلد قال: كان بيني وبين أناس شَرِكة في عبد، فاقْتَوَيْتُه وبعضُنا غائب، فأغَلَّ عليَّ غَلَّةً، فخاصمني في نصيبه إلى بعض القضاة، فأمرني أن أرُدَّ الغلَّة، فأتيت عروة بن الزبير فحدثتُه، فأتاه عروة فحدثه عن عائشة - رضي الله عنها - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الخراج بالضمان» (1). قال البخاري (2): هذا حديث منكر، ولا أعرف لمخلد بن خفاف غير هذا الحديث. قال الترمذي: فقلت له: فقد رُوي هذا الحديث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة؟ فقال: إنما رواه مسلم بن خالد الزنجي، وهو ذاهب الحديث. وقال ابن أبي حاتم (3): سئل أبي عنه ــ يعني مخلد بن خفاف ــ، فقال: لم يرو عنه غير ابن أبي ذئب، وليس هذا إسناد يقوم بمثله الحجة، يعني الحديث الذي يروي مخلد بن خفاف عن عروة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أن الخراج بالضمان». وقال الأزدي: مخلد بن خفاف ضعيف. 415/ 3367 - وعن مسلم بن خالد الزَّنجي، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها - أن رجلًا ابتاع غلامًا فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم، ثم وجد به عيبًا، فخاصمه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فردَّه عليه، فقال الرجل: يا رسول الله، قد استغلَّ غلامي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الخراج بالضمان» (4). قال أبو داود: هذا إسناد ليس بذاك. _________ (1) «سنن أبي داود» (3509)، عن ابن أبي ذئب به. (2) كما في «العلل الكبير» للترمذي (ص 191). (3) «الجرح والتعديل» (8/ 347). (4) «سنن أبي داود» (3510).

(2/529)


يشير إلى ما أشار إليه البخاري من تضعيف مسلم بن خالد الزنجي. وقد أخرج هذا الحديث الترمذي في «جامعه» (1) من حديث عمر بن علي المُقدَّمي عن هشام بن عروة مختصرًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى أن الخراج بالضمان. وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث هشام بن عروة. وقال أيضًا: استغرب محمد بن إسماعيل ــ يعني البخاري ــ هذا الحديث من حديث عمر بن علي. قلت: تراه تدليسًا؟ قال: لا. وحكى البيهقي (2) عن الترمذي أنه ذكره لمحمد بن إسماعيل البخاري، فكأنه أعجبه. هذا آخر كلامه. وعمر بن علي: هو أبو حفص عمر بن علي المقدَّمي البصري. وقد اتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج بحديثه. ورواه عن عمر بن علي: أبو سلمة يحيى بن خَلَف الجُوباري، وهو ممن روى عنه مسلم في «صحيحه». وهذا إسناد جيد، ولهذا صححه الترمذي، وهو غريب كما أشار إليه البخاري والترمذي. والله عز وجل أعلم. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد قال قتيبة فيما رواه أبو داود: «هذا الحديث في كتابي بخطي: عن جرير عن هشام بن عروة». ذكره البيهقي (3). _________ (1) برقم (1286). (2) في «معرفة السنن» (8/ 123). (3) في «معرفة السنن» (8/ 123)، وأخرجه أبو عوانة في «المستخرج» (5493) قال: حدثنا أبو داود السِّجزي، قال سمعت قتيبة ... إلخ، ثم قال أبو عوانة: وأما جرير فإن هذا الحديث ليس بمشهور عنه، ولا نعلم كتبناه من غير حديث قتيبة بن سعيد. وقال الترمذي عقب الحديث (1286): ورواه جرير عن هشام أيضا، وحديث جرير يقال: تدليس، دلس فيه جرير لم يسمعه من هشام بن عروة.

(2/530)


فهؤلاء ثلاثة: عمر بن علي، ومسلم بن خالد، وجرير. وقال الشافعي (1): أخبرني من لا أتهم من أهل المدينة عن ابن أبي ذئب، عن مخلد بن خفاف قال: «ابتعتُ غلامًا، فاستغللته، ثم ظهرتُ منه على عيب، فخاصمته فيه إلى عمر بن عبد العزيز، فقضى له برده، وقضى عليّ برد غَلَّته، فأتيت عروة بن الزبير فأخبرته فقال: أروح إليه العَشِيَّة فأخبره أن عائشة أخبرتني: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في مثل هذا: أن الخراج بالضمان، فعجِلت إلى عمر، فأخبرته ما أخبرني عروة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال عمر بن عبد العزيز: فما أيسر عليَّ مِن قضاءٍ قضيتُه، والله يعلم أني لم أُرِد فيه إلا الحق، فبلغني فيه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -= فأرد قضاء عمر وأُنفّذ سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فراح إليه عروة، فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به عليَّ له. [ق 196] رواه أبو داود الطيالسي في «مسنده» (2) عن ابن أبي ذئب. 18 - باب إذا اختلف البيِّعان والمبيع قائم 416/ 3368 - عن عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث، عن أبيه، عن جده، قال: اشترى الأشعثُ رقيقًا من رقيق الخُمس من عبد الله بعشرين ألفًا، فأرسل عبدُ الله إليه في ثَمَنهم، فقال: إنما أخذتُهم بعشرة آلاف، فقال عبد الله: فاخْتَرْ رجلًا يكون بيني وبينك، قال الأشعث: أنتَ بيني وبين نفسك، قال عبد الله: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا اختلف البيِّعان ليس بينهما بيِّنة، فهو ما _________ (1) في «الرسالة» (ص 448 - 449)، وأسنده عنه البيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 321)، و «معرفة السنن» (8/ 124). (2) برقم (1567)، ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 321).

(2/531)


يقول ربُّ السِّلعة أو يتتاركان». وأخرجه النسائي (1). 417/ 3369 - وعن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه: أن ابنَ مسعود باع من الأشعث بن قيس رقيقًا ــ فذكر معناه، والكلام يزيد وينقص. وأخرجه ابن ماجه (2). وأخرجه الترمذي (3) من حديث عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن مسعود. وقال: هذا مرسل، عون بن عبد الله لم يدرك ابن مسعود. وفيه (4) محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ولا يحتج به، وعبد الرحمن ابن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه، فهو منقطع (5). _________ (1) أبو داود (3511)، والنسائي (4648)، وكذلك أخرجه الحاكم (2/ 45)، والبيهقي (5/ 332). وعبد الرحمن بن قيس مجهول الحال، وكذلك أبوه، ولكنه يتقوى ويثبت بمجموع طرقه كما قال البيهقي والمؤلف (كما سيأتي) وابن عبد الهادي وغيرهم. انظر: «التمهيد» (24/ 290 - 293)، و «تنقيح التحقيق» (4/ 75)، و «البدر المنير» (6/ 593)، و «إرواء الغليل» (1322). (2) أبو داود (3512)، وابن ماجه (2186)، كلاهما من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن القاسم به. ولفظ ابن ماجه: «إذا اختلف البيّعان وليس بينهما بينة، والبيع قائم بعينه، فالقول ما قال البائع أو يترادّان البيع». فقوله: «والبيع قائم بعينه» تفرّد به ابن أبي ليلى، والظاهر أنه المقصود من قول أبي داود: «والكلام يزيد وينقص». (3) برقم (1270). (4) أي في إسناد حديث أبي داود السابق حديث الباب. (5) كلام المنذري مثبت من (هـ).

(2/532)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روي هذا الحديث من طرق عن ابن مسعود (1) يشدّ بعضُها بعضًا، وليس فيهم مجروح ولا متّهم، وإنما يُخاف من سوء حفظ محمد بن عبد الرحمن، ولم ينفرد به، فقد رواه الشافعي (2) عن ابن عيينة، عن محمد بن عجلان، عن عون بن عبد الله، عن ابن مسعود، ثم قال: هذا حديث منقطع لا أعلم أحدًا يصله عن ابن مسعود، وقد جاء من غير وجه. وقد رواه الحاكم في «المستدرك» (3) من حديث ابن جُرَيج: أن إسماعيل بن أمية أخبره عن عبد الملك بن عُمَير (4) قال: حضرت أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود وأتاه رجلان تبايعا سلعة، فقال أحدهما: أخذت بكذا وكذا، وقال الآخر: بعتُ بكذا وكذا، فقال أبو عُبَيدة: أتي عبدُ الله بن مسعود في مثل هذا فقال: حضرتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذا، فأمر البائع أن يحلف (5)، ثم خيّر المبتاع، إن شاء أخذ وإن شاء ترك. _________ (1) وهذه الجملة: «وقد روي ... » إلى هنا كانت من كلام المنذري أيضًا لكنه قال بعده: «كلّها لا تثبت»، فلم يرتضه المؤلف فاستبدل به ما تراه. (2) في رواية المزني والزعفراني عنه، كما في «السنن» للبيهقي (5/ 332)، و «معرفة السنن والآثار» (8/ 139 - 140). وقوله الآتي في الحكم عليه بالانقطاع في رواية الزعفراني فقط. (3) (2/ 48) من طريق الشافعي، عن سعيد بن سالم القدّاح، عن ابن جريج به. (4) تحرف في الطبعة الهندية من «المستدرك» إلى «عبد الملك بن عبيد»، وهو على الصواب في ط. دار التأصيل (3/ 242) وط. دار الميمان (3/ 100) المحقَّقتَين. (5) كذا في الأصل و (هـ)، وفي هامش (هـ): «يستحلف فيه»، وهو موافق للفظ «المستدرك» دون كلمة: «فيه».

(2/533)


ورواه الإمام أحمد (1) عن الشافعي، حدثنا سعيد بن سالم القدّاح، حدثنا ابن جريج ... فذكره. قال عبد الله بن أحمد (2)، قال أبي: أُخبِرتُ عن هشام بن يوسف، عن ابن جريج، عن إسماعيل بن أمية، عن عبد الملك بن عبيد. قال أحمد: وقال حجاج الأعور: عبد الملك بن عُبَيدة (3). قال البيهقي (4): وهذا هو الصواب. وقد رواه يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن أمية، عن عبد الملك بن عمير، كما قال سعيد بن سالم، ورواية هشام بن يوسف وحجّاج عن ابن جريج أصح. وقال البخاري في «تاريخه» (5): عبد الملك بن عبيد عن بعض ولد عبد الله بن مسعود، روى عنه إسماعيل بن أمية، مرسل. وذكر بعده (6) عبد الملك بن عمير قال: هو الكوفي أبو عمر القرشي مات سنة ست وثلاثين ومائة، وكان أفصح الناس، سمع جُندبًا، ورأى المغيرة، روى عنه الثوري وشعبة. _________ (1) في «المسند» (4442)، والمؤلف صادر عن «معرفة السنن والآثار» (8/ 140). (2) عقب الحديث السابق. (3) كذا في «معرفة السنن» و «السنن الكبرى» (5/ 332). وفي «مسند أحمد» المطبوع ــ ومن طريقه الدارقطني (2857) ــ أن هشام بن يوسف قال: «ابن عبيدة»، وأن حجَّاجًا الأعور قال: «ابن عبيد»، أي على عكس ما هنا. (4) «معرفة السنن والآثار» (8/ 140). (5) (5/ 424). (6) (5/ 426).

(2/534)


قال البيهقي (1): ورواه أبو عُمَيس، ومَعْن بن عبد الرحمن، وعبد الرحمن المسعودي، وأبان بن تَغلِب، كلهم عن القاسم عن عبد الله منقطعًا، وليس فيه: «والمبيع قائم بعينه»، وابن أبي ليلى كان كثير الوهم في الإسناد والمتن، وأهلُ العلم بالحديث لا يقبلون منه ما ينفرد به لكثرة أوهامه. وأصح إسنادٍ روي في هذا الباب: رواية أبي العميس عن عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث بن قيس (2)، عن أبيه، عن جده ... فذكر الحديث الذي في أول الباب. 19 - باب الشفعة 418/ 3370 - عن أبي الزبير، عن جابر ــ وهو ابن عبد الله ــ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الشُّفْعَة في كل شِرْكٍ: رَبْعَةٍ أو حائطٍ، لا يصلح أن يبيع حتى يُؤذِن شريكه، فإن باع فهو أحق به حتى يؤذنه». وأخرجه مسلم (3). 419/ 3371 - وعن أبي سَلَمة بن عبد الرحمن، عنه قال: إنما جَعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشفعة في كل ما لم يُقْسَم، فإذا وَقعتِ الحدود وصُرِّفت الطّرق فلا شفعة». وأخرجه البخاري (4). 420/ 3372 - وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا قُسِمَت _________ (1) «معرفة السنن» (8/ 141). (2) «بن قيس» من (هـ) و «المعرفة». (3) أبو داود (3513)، ومسلم (1608). (4) أبو داود (3514)، والبخاري (2213).

(2/535)


الأرض وحُدَّتْ فلا شفعةَ فيها» (1). 421/ 3373 - وعن أبي رافع ــ وهو مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ــ سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الجارُ أحقُّ بِسَقَبِه». وأخرجه البخاري (2). 422/ 3374 - وعن الحسن، عن سَمُرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «جارُ الدَّار أحقُّ بدار الجار ــ أو الأرض ــ». وأخرجه الترمذي (3) وصححه. 423/ 3375 - وعن عطاء ــ وهو ابن أبي رباح ــ عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الجارُ أحقُّ بشفعة جاره، يُنتَظَر بها وإن كان غائبًا، إذا كان طريقهما واحدًا». وأخرجه النسائي وابن ماجه والترمذي (4)، وقال: حسن غريب. ولا نعلم أحدًا روى هذا الحديث غير عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر. وقد تكلم شعبة في عبد الملك من أجل هذا الحديث. وعبد الملك ثقة مأمون عند أهل الحديث، ولا نعلم أحدًا تكلم فيه غير شعبة من أجل هذا الحديث. _________ (1) «سنن أبي داود» (3515). وأخرجه النسائي في «الكبرى» (6261، 6262)، وابن ماجه (2497). (2) أبو داود (3516)، والبخاري (2258). (3) أبو داود (3517)، والترمذي (1368). (4) أبو داود (3518)، والترمذي (1369)، والنسائي في «الكبرى» (6264)، وابن ماجه (2494).

(2/536)


وقال الشافعي (1): سمعتُ بعض أهل العلم بالحديث يقولون: نخاف أن لا يكون هذا الحديث محفوظًا (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: قيل له (3): ومن أين قلت؟ قال: إنما رواه عن جابر بن عبد الله، وقد روى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر مفسَّرًا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة»، وأبو سلمة من الحفاظ. وروى أبو الزبير ــ وهو من الحفاظ ــ عن جابر ما يوافق قول أبي سلمة، ويخالف ما روى عبد الملك بن أبي سليمان، وفيه من الفرق بين الشريك وبين المقاسم، فكان أولى الأحاديث أن يؤخذ به عندنا ــ والله أعلم ــ لأنه أثبتُها إسنادًا وأبيَنُها لفظًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأعرقها (4) في الفرق بين المقاسم وغير المقاسم. آخر كلامه. [وسئل الإمام أحمد عن هذا الحديث فقال: هذا حديث منكر، ذكره البيهقي (5) وغيره عنه. وقال يحيى بن معين (6): لم يحدّث به إلا عبد الملك، _________ (1) في «اختلاف الحديث» (10/ 216 مع الأم)، وعنه في «معرفة السنن» (8/ 315). (2) كلام المنذري على أحاديث الباب مثبت من (هـ)، وفيه تصرّف واختصار من المؤلف عمّا في «المختصر»، وكان هذا النقل الأخير عن الشافعي ورد فيه مختصرًا فأثبت المؤلف نصّ الشافعي من «معرفة السنن والآثار»، ثم أكمله إلى آخره. (3) أي الشافعي، والنقل متصل بما سبق. (4) كذا في الأصل مضبوطًا بالقاف، وفي مطبوعة «اختلاف الحديث» و «معرفة السنن»: «أعرفها» بالفاء. (5) في «السنن الكبرى» (6/ 108) و «معرفة السنن» (8/ 316). وهو في «العلل ومعرفة الرجال» رواية عبد الله (2256). (6) أسنده عنه الخطيب في «تاريخ بغداد» (12/ 132).

(2/537)


وقد أنكره الناس عليه. وقال الترمذي (1): سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: لا أعلم أحدًا رواه عن عطاء غير عبد الملك، تفرّد به. ورُوي عن جابر خلاف هذا. ثم] (2) قال الترمذي: وإنما ترك شعبة حديث عبد الملك لحال هذا الحديث. تم كلامه. وروى الحاكم (3) من طريق أمية بن خالد قال: قلت لشعبة: ما لك لا تُحدِّث عن عبد الملك بن أبي سليمان؟ قال: تركت حديثه، قال: قلت: تحدث عن محمد بن عبيد الله (4) العَرْزَمي وتدع عبد الملك، وقد كان حسنَ الحديث؟! قال من حُسْنِها فررت! وقال أحمد بن سعيد الدارمي سمعت مسدَّدًا وغيره من أصحابنا عن يحيى بن سعيد قال: قال شعبة: لو أن عبد الملك جاء بمثله آخر أو اثنين لتركت حديثه، يعني حديث الشفعة (5). وقال (6) أبو قدامة عن يحيى القطان قولَه: لو روى عبد الملك بن أبي _________ (1) في «العلل الكبير» (ص 216). (2) ما بين الحاصرتين من (هـ)، ولعل المجرّد لم يذكره لأنه منقول من كلام المنذري في «المختصر» (5/ 172) بتصرّف يسير. (3) وعنه البيهقي في «معرفة السنن» (8/ 316 - 317). وأخرج الحكاية أيضًا ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (1/ 146)، والعقيلي في «الضعفاء» (3/ 497)، وابن عدي في «الكامل» (5/ 302). (4) في الأصل و (هـ): «عبد الله» تصحيف. (5) أسنده البيهقي في «معرفة السنن» (8/ 317). (6) كذا في الأصل و (هـ)، فإن لم يكن تصحيفًا عن «نقل» فهو مضمَّن معناه.

(2/538)


سليمان حديثًا آخر مثل حديث الشفعة لتركتُ حديثه (1). وقال بعض الناس: هذا رأي لعطاء، أدرجه عبد الملك في الحديث إدراجًا. فهذا ما رمى به الناسُ عبد الملك وحديثه. وقال آخرون: عبد الملك أجل وأوثق من أن يُتكلّم فيه. وكان يسمى «الميزان» لإتقانه وضبطه وحفظه (2)، ولم يتكلم فيه أحد قط إلا شعبة، وتكلم فيه من أجل هذا الحديث، وهو كلام باطل، فإنه إذا لم يُضعِّفه إلا من أجل هذا [ق 197] الحديث كان ذلك دورًا باطلًا، فإنه لا يثبت ضعف الحديث حتى يثبت ضعف عبد الملك؛ فلا يجوز أن يستفاد ضعفه من ضعف الحديث الذي لم يُعلَم ضعفه إلا من جهة عبد الملك، ولم يُعلَم ضعف عبد الملك إلا بالحديث؛ وهذا محال من الكلام، فإن الرجل من الثقات الأثبات الحفاظ الذين لا مطمع في الطعن (3) فيهم (4). وقد احتج به مسلم في «صحيحه»، وخرّج له عدة أحاديث، ولم ينكِر _________ (1) أسنده ابن عدي في «الكامل» (5/ 302)، ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (6/ 107)، وعلّقه في «معرفة السنن» (8/ 317). (2) هكذا كان يسمّيه سفيان الثوري، انظر: «الجرح والتعديل» (5/ 366)، و «جامع الترمذي» عقب الحديث، و «تهذيب الكمال» (4/ 556). (3) في الأصل: «في للطعن» سهو، والتصحيح من (هـ). (4) قد يقال: إن شعبة ضعَّف عبد الملك وحديثَه لمخالفته اللفظَ المحفوظ لحديث جابر من رواية أبي سلمة وأبي الزبير عنه ــ وقد أشار إلى ذلك الشافعي كما سبق ــ، وحينئذ فلا دور، فتأمل.

(2/539)


عليه (1) تصحيحَ حديثه والاحتجاج به أحدٌ من أهل العلم، واستشهد به البخاري. ولم يروِ ما يخالف الثقات، بل روايته موافقة لحديث أبي رافع الذي أخرجه البخاري، ولحديث سمرة الذي صححه الترمذي، فجابر ثالث ثلاثة في هذا الحديث: أبي رافع، وسمرة، وجابر، فأي مطعن على عبد الملك في رواية حديث قد رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من الصحابة؟ والذين ردُّوا حديثه ظنوا أنه معارض لحديث جابر الذي رواه أبو سلمة عنه: «الشفعة فيما لم يُقسَم، فإذا وقعت الحدود وصُرِّفت الطرق فلا شفعة». وفي الحقيقة لا تعارض بينهما، فإن منطوق حديث أبي سلمة انتفاء الشفعة عند تميّز الحدود وتصريف الطرق واختصاص كل ذي مُلكٍ بطريق، ومنطوقُ حديث عبد الملك إثبات الشفعة بالجوار عند الاشتراك في الطريق، ومفهومه انتفاء الشفعة عند تصريف الطرق، فمفهومه موافق لمنطوق حديث أبي سلمة وأبي الزبير، ومنطوقه غير معارض له. وهذا بيِّن، وهو أعدل الأقوال في المسألة، فإن الناس في شفعة الجوار طرفان ووسط، فأهل المدينة وأهل الحجاز وكثير من الفقهاء ينفونها مطلقًا، وأهل الكوفة يثبتونها مطلقًا، وأهل البصرة يثبتونها عند الاشتراك في حق من حقوق الملك، كالطريق والماء ونحوه، وينفونها عند تميز كل ملك بطريقه حيث لا يكون بين المُلّاك اشتراك. وعلى هذا القول تدل أحاديث جابر منطوقُها ومفهومُها، ويزول عنها التضاد والاختلاف، ويُعلَم أن عبد الملك لم يرو ما يخالف رواية غيره. _________ (1) «عليه» من (هـ).

(2/540)


والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد (1)، وأعدلها وأحسنها هذا القول الثالث، والله الموفق للصواب. 20 - باب في الرجل يُفلِس، فيجد الرجلُ متاعَه بعينه 424/ 3376 - عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أيُّما رجلٍ أَفلَس فأدرك الرجلُ متاعَه بعينِه فهو أحقُّ به من غيره». وأخرجه الباقون (2). 425/ 3377 - وعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أيُّما رجلٍ باع متاعًا، فأفلس الذي ابتاعه، ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئًا، فوجد متاعه بعينه فهو أحق به، وإن مات المشتري فصاحبُ المتاع إسْوَةُ الغُرَماء» (3). 426/ 3378 - وفي رواية: «وإن كان قَضَى من ثمنها شيئًا فهو إسوة الغرماء» (4). وهذا مرسل. 427/ 3379 - وعن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة عن النبي _________ (1) انظر: «الإنصاف» (15/ 371 - 373). (2) أبو داود (3519)، والبخاري (2402)، ومسلم (1559)، والترمذي (1262)، والنسائي (4676)، وابن ماجه (2358)، كلهم من طريق عمر بن عبد العزيز، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، عن أبي هريرة. (3) «سنن أبي داود» (3520) من طريق مالك عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن مرسلًا. (4) «سنن أبي داود» (3521) من طريق يونس عن الزهري به.

(2/541)


- صلى الله عليه وسلم - نحوه، قال: «فإن كان قضاه من ثمنها شيئًا فما بقي فهو إسوة الغرماء، وأيما امرئ هلك وعنده متاع امرئ بعينه، اقتُضي منه شيء أو لم يُقتَضَ، فهو إسوة الغرماء» (1). قال أبو داود: «وحديث مالك أصح». يريد المرسل الذي تقدم. وفيه إسماعيل بن عيّاش. وقال الدارقطني (2): ولا يثبت هذا عن الزهري مسندًا، وإنما هو مرسل. آخر كلامه (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد أعله الشافعي (4) بأنه كالمدرج في حديث أبي هريرة، يعني قوله: «فإن كان قضى من ثمنها شيئًا ... » إلى آخره. قال الشافعي في جواب من سأله: لِمَ لا تأخذ بحديث أبي بكر بن عبد الرحمن هذا ــ يعني المرسل ــ فقال: الذي أخذتُ به أولى من قِبَل أن ما أخذت به موصول يجمع فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الموت والإفلاس (5)، وحديث ابن شهاب منقطع، _________ (1) «سنن أبي داود» (3522) من طريق إسماعيل بن عياش، عن محمد بن الوليد الزُّبيدي، عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن. (2) في «سننه» عقب الحديث (2903). (3) كلام المنذري على أحاديث الباب مثبت من (هـ)، وفيه تصرّف يسير من المؤلف. (4) في «الأم» (4/ 448 - 449)، ونقله عنه البيهقي في «الكبرى» (6/ 46 - 47)، و «معرفة السنن» (8/ 249 - 250). (5) هو حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: «أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه». أخرجه الشافعي في «الأم» (4/ 415)، وأبو داود (3523) وغيرهما من طريق أبي المعتمر بن عمرو بن رافع، عن عمر بن خلدة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وفي إسناده لين، فإن أبا المعتمر مجهول لم يرو عنه غير ابن أبي ذئب، وقد ضعّف الحديث ابن المنذر وغيره. انظر: «الأوسط» (11/ 34)، و «البدر المنير» (6/ 649).

(2/542)


ولو لم يخالفه غيره لم يكن مما يُثبته أهلُ الحديث، ولو لم يكن في تركه حجة إلا هذا انبغى لمن عرف الحديث تركُه من الوجهين، مع أن أبا بكر بن عبد الرحمن يروي عن أبي هريرة حديثه ليس فيه ما (1) روى ابن شهاب عنه مرسلًا؛ إن كان رواه كلَّه ــ ولا أدري عمن رواه، ولعله روى أوّل الحديث وقال برأيه آخره ــ، وموجود في حديث أبي بكر عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه انتهى فيه إلى قوله: «فهو أحق به» = أشبَهَ أن يكون ما زاد على هذا قولًا (2) من أبي بكر لا رواية. تم كلامه. وقد روى الليث (3) بن سعد عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن حزم (4)، عن عمر بن عبد العزيز، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة يرفعه: «أيما رجل أفلس ثم وجد رجل سلعته عنده بعينها، فهو أولى بها من غيره». قال الليث: بلغَنا أن ابن شهاب قال: «أما من مات ممن أفلس ثم وجد رجل سلعته بعينها فإنه أسوة الغرماء»، يحدث بذلك عن أبي بكر بن عبد الرحمن. قال البيهقي: هكذا وجدته غير مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخره، وفي ذلك _________ (1) في الأصل والطبعتين: «فيما»، وكذا في مطبوعة «معرفة السنن»، وهو خطأ، والتصحيح من «الأم» و «السنن الكبرى». (2) في الأصل وط. المعارف: «قول»، والتصحيح من المصادر. (3) ومن طريقه البيهقي في «معرفة السنن» (8/ 250). (4) ط. الفقي: «أبي بكر بن محمد بن حزم»، وما في الأصل صواب، فإنه منسوب إلى جدّه الثاني، لأنه: «أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم».

(2/543)


كالدلالة على صحة ما قال الشافعي. وقال غيره: هذا الحديث قد رواه عبد الرزاق عن مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قاله ابن عبد البر (1). وقد رواه إسماعيل بن عياش عن الزُّبَيدي، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة. ومن هذه الطريق خرّجه أبو داود (2). والزُّبَيدي هو: محمد بن الوليد شامي حمصي. وقد قال الإمام أحمد ويحيى بن معين وغيرهما: حديث إسماعيل بن عياش عن الشاميين صحيح (3). فهذا الحديث ــ على هذا ــ صحيح. وقد رواه موسى بن عقبة عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ذكره ابن عبد البر (4). _________ (1) في «التمهيد» (8/ 406)، لكنه ذكر أنه في جميع «الموطآت» مرسل، وكذلك رواه جميع الرواة عن مالك، إلا عبد الرزاق، وقد اختُلِف عليه فيه، فرواه بعض الرواة عنه مسندًا، ورواه بعضهم مرسلًا، منهم إسحاق بن إبراهيم الدَّبَري. قلت: هو راوي «المصنف»، وهو فيه (15158) مرسلًا. (2) كما سبق في أحاديث الباب، وأخرجه من هذه الطريق أيضًا الطحاوي في «مشكل الآثار» (4608)، والدارقطني (2904). وإسماعيل بن عياش قد اختُلف عليه في الحديث، فقد روي عنه هكذا، وروي عنه عن موسى بن عقبة (بدل الزبيدي)، عن الزهري به، وسيأتي تخريجه. والظاهر أن هذا الاضطراب من إسماعيل بن عيّاش، والله أعلم. (3) انظر: «الكامل» (1/ 292)، و «تهذيب الكمال» (1/ 250 - 251). (4) في «التمهيد» (8/ 407). وأخرجه ابن ماجه (2359)، والطحاوي في «مشكل الآثار» (4607)، والدارقطني (2903)، من طرق عن إسماعيل بن عيّاش، عن موسى بن عقبة به. وموسى بن عقبة مدني، وإسماعيل يخلّط في حديثه عن المدنيين، ثم إن إسماعيل قد اضطرب فيه فرواه مرّة عن موسى بن عقبة، ومرة عن الزُّبيدي. ولذا قال الدارقطني: «إسماعيل بن عيّاش مضطرب الحديث، ولا يثبت هذا عن الزهري مسندًا، وإنما هو مرسَل».

(2/544)


فهؤلاء ثلاثة وصلوه عن الزهري: مالك في رواية عبد الرزاق، وموسى بن عقبة، ومحمد بن الوليد، وكونه مدرجًا لا يثبت إلا بحجة، فإن [ق 198] الراوي لم يقل: قال فلان بعد ذكره المرفوع، وإنما هو ظن. وأما قول الليث: بلغنا أن ابن شهاب: قال «أما من مات» إلى آخره، فهو مع انقطاعه ليس بصريح في الإدراج، فإنه فُسِّر قولُه بأنه رواية عن أبي بكر لا رأي منه، ولم يقل: إن أبا بكر قاله من عنده، وإنما قال يحدث بذلك عن أبي بكر، والحديث صالح للرأي والرواية، ولعله في الرواية أظهر. وبالجملة، فالإدراج بمثل هذا لا يثبت ولا يعلَّل به الحديث. والله أعلم. 21 - باب في الرجل يفضِّل بعض ولده على بعضٍ في النُّحْلِ 428/ 3399 - عن الشعبي، عن النعمان بن بَشير، قال: أنْحَلني أبي نُحْلًا ــ قال إسماعيل بن سالم من بين القوم: نُحْلَة، غلامًا له ــ، قال: فقالت له أمِّي عَمْرة بنتُ رواحة: إيتِ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأَشهِدْه، فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فقال: إني نَحَلْتُ ابني النعمانَ نُحْلًا، وإنَّ عَمْرَة سألتني أن أُشهدك على ذلك. قال: فقال: «ألك ولدٌ سواه؟»، قال: قلت: نعم، قال: «فكلهم أعطيتَ مثلَ ما أعطيتَ النعمان؟» قال: لا، قال: فقال بعض هؤلاء المحدِّثين: «هذا جَوْرٌ ــ وقال بعضهم:

(2/545)


هذا تَلْجِئة ــ فأَشهِد على هذا غيري». قال مغيرة في حديثه: «أليس يسُرُّك أن يكونوا لك في البرِّ واللُّطفِ سواء؟» قال: نعم، قال: «فأشْهِد على هذا غيري». وذكر مجالد في حديثه: «إن لهم عليك من الحق أن تَعدِل بينهم، كما أن لك عليهم من الحق أن يَبَرُّوك». قال أبو داود: في حديث الزهري قال بعضهم: «أكُلَّ بنيك»، وقال بعضهم: «وَلَدِك»، وقال ابن أبي خالد عن الشعبي فيه: «ألَكَ بنُونَ سواه؟»، وقال أبو الضُّحى عن النعمان بن بشير: «ألكَ ولَدٌ غيرُه؟». وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (1) بنحوه. وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (2) من حديث حميد بن عبد الرحمن بن عوف ومحمد بن النعمان بن بشير، عن النعمان بن بشير. قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي لفظ في «الصحيح» (3): «أكلَّ ولدك نحلته مثل هذا؟» قال لا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فارجِعْه». وفي لفظ قال: «فرُدَّه» (4). _________ (1) أبو داود (3542)، والبخاري (2587، 2650)، ومسلم (1623/ 13 - 18)، والنسائي (3679 - 3682)، وابن ماجه (2375). (2) البخاري (2586)، ومسلم (1623/ 9 - 11)، والترمذي (1367)، والنسائي (3672 - 3675)، وابن ماجه (2376) من طرق عن الزهري عنهما (حميد بن عبد الرحمن، ومحمد بن النعمان). (3) «صحيح البخاري» (2586)، و «صحيح مسلم» (1623/ 9). (4) «صحيح مسلم» (1623/ 12).

(2/546)


وفي لفظ آخر فيه: «فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم»، فرجع أبي في تلك الصدقة (1). وفي لفظ لهما (2): «فلا تُشهدني إذًا، فإني لا أشهد على جور». وفي آخر: «فلا تُشهدني على جور» (3). وفي آخر: «فأَشهِد على هذا غيري» (4). وفي آخر (5): «أيسُرُّك أن يكونوا إليك (6) في البر سواء؟» قال: بلى، قال: «فلا إذًا». وفي لفظ آخر: «أفكلّهم أعطيت مثل ما أعطيته؟» قال: لا، قال: «فليس يصلح هذا، وإني لا أَشهَد إلا على حق» (7). وكل هذه الألفاظ في «الصحيح» وغالبها في «صحيح مسلم»، وعند البخاري منها: «لا تشهدني على جور»، وقوله: «لا أشهد على جور» (8)، والأمر برده. _________ (1) البخاري (2587)، ومسلم (1623/ 13). (2) البخاري (2650)، ومسلم (1623/ 14) واللفظ له. (3) البخاري (2650)، ومسلم (1623/ 16). (4) «صحيح مسلم» (1623/ 17). (5) كذا، وليس لفظًا آخر، بل هو تتمة الرواية السابقة. (6) ط. الفقي: «أن يكون بنوك»، تحريف. (7) «صحيح مسلم» (1624/ 19). (8) كلا اللفظين برقم (2650).

(2/547)


وفي لفظ: «سَوِّ بينهم» (1). وفي لفظ: «هذا جَور، أَشهد على هذا غيري» (2). وهذا صريح في أن قوله: «أشهد على هذا غيري» ليس إذنًا، بل هو تهديد لتسميته إياه جورًا. وهذه كلها ألفاظ صحيحة صريحة في التحريم والبطلان من عشرة أوجهٍ تؤخذ من الحديث. ومنها قوله: «أشهد على هذا غيري»، فإن هذا ليس بإذن قطعًا، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يأذن في الجور وفيما لا يصلح وفي الباطل، فإنه قال: «إني لا أَشهَد إلا على حق»، فدل ذلك على أن الذي فعله أبو النعمان لم يكن حقًّا، فهو باطل قطعًا. فقوله: «إذًا أَشهِدْ على هذا غيري» حجة على التحريم كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا لم تستَحْيِ فاصنع ما شئت» (3)، أي الشهادة على هذا ليست من شأني ولا تنبغي لي، وإنما هي من شأن من يشهد على الجور والباطل وما لا يصلح، وهذا في غاية الوضوح. وقد كتبت في هذه المسألة مصنفًا مفردًا استوفيتُ فيه أدلتَها، وشُبَهَ (4) من خالف هذا الحديث ونَقْضَها عليهم (5)، وبالله التوفيق. _________ (1) أخرجه أحمد (18359)، والنسائي (3686)، وابن حبان (5098)، بإسناد جيّد. (2) أخرجه أحمد (18378)، وأبو داود (وهو حديث الباب)، وابن حبان (5104). (3) أخرجه البخاري (3483) من حديث أبي مسعود البدري - رضي الله عنه -. (4) نسخة (ش): «بينته»، وط. الفقي: «بيّنت»، وكلاهما تصحيف. (5) وهو من مصنفاته المفقودة.

(2/548)


22 - باب في تضمين العارية 429/ 3417 - عن الحسن، عن سَمُرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «على اليدِ ما أخَذَتْ حتَّى تُؤَدِّي»، ثم إن الحسن نسي فقال: هو أَمِينُك، لا ضمان عليه. وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (1)، وقال الترمذي: حسن. وفي سماع الحسن من سمرة خلاف (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: اختلف أهل الحديث في سماع الحسن من سمرة على ثلاثة أقوال (3): أحدها: صحة سماعه منه مطلقًا، وهذا قول يحيى بن سعيد، وعلي ابن المديني (4)، وغيرهما. والثاني: أنه لا يصح سماعه منه وإنما روايته عنه من كتاب. والثالث: صحة سماعه منه لحديث العقيقة وحده. قال البخاري في «صحيحه» (5): حدثني عبد الله بن أبي الأسود، حدثنا _________ (1) أبو داود (3561)، والترمذي (1266)، والنسائي في «الكبرى» (5751)، وابن ماجه (2400)، كلهم عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن به. (2) هكذا وردت هذه الجملة في الأصل، وهي مختصرة من كلام المنذري في «المختصر». (3) انظر: «المراسيل» لابن أبي حاتم (ص 33، 39)، و «تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل» (ص 89). (4) انظر قوله في «العلل» له (ص 51 - 53)، و «التاريخ الكبير» للبخاري (2/ 290). (5) عقب الحديث (5472).

(2/549)


قريش بن أنس، عن حبيب بن الشهيد قال: أمرني ابن سيرين أن أسأل الحسن: ممن سمع حديث العقيقة؟ فسألته، فقال: من سمرة بن جندب. وفي «المسند» (1) من حديث المبارك بن فضالة عن الحسن قال: حدثنا سمرة بن جندب قال: «ما خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة». وحديث الحسن هذا عن سمرة في العارية أخرجه الحاكم في «صحيحه» (2)، وقال: هو على شرط البخاري. وفيما قاله نظر، فإن البخاري لم يخرج حديث العقيقة في كتابه من طريق الحسن عن سمرة، وإنما أخرجه (3) من حديث أيوب السختياني، عن ابن سيرين، حدثنا سليمان بن عامر الضبي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مع الغلام عقيقة ... » الحديث، ثم أتبعه قول حبيب بن الشهيد: أمرني ابن سيرين أن أسأل الحسن _________ (1) برقم (20136) من طريق حميد الطويل، عن الحسن: حدثنا سمرة ... إلخ، وأخرج برقم (20225) من طريق يزيد بن إبراهيم التُّسْتري، عن الحسن «عن سمرة»، ولم يذكر سماعًا. ولم أجده من رواية المبارك بن فضالة عن الحسن عن سمرة، ولكن أخرج أحمد (19950) عن المبارك، عن الحسن: أخبرني عمران بن حصين، بنحوه. وإسناده ضعيف، والحسن لم يسمع من عمران شيئًا. والأقرب في إسناد الحديث أن الحسن إنما أخذه عن هيَّاج بن عمران البُرجمي عنهما (عمران وسمرة). هكذا جاء مبينًا في رواية أحمد (19844)، وقد سبق ذلك مفصّلًا في باب النذر في المعصية (ص 407). (2) (2/ 47). (3) برقم (5471 - 5472).

(2/550)


ممن سمع حديث العقيقة؟ فسألته، فقال: من سمرة. وهذا لا يدل على أن الحسن عن سمرة من شرط كتابه، ولا أنه احتج به. * * *

(2/551)


 كتاب الأقضية

1 - باب في طلب القضاء 430/ 3427 - عن سعيد المَقْبُري، عن أبي هريرة: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن وَلِيَ القضاءَ فقد ذُبح بغير سِكِّينٍ». وأخرجه الترمذي (1)، وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه. 431/ 3428 - وعن المقبُري والأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من جُعِل قاضيًا بين الناس فقد ذُبح بغير سكين» (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: هذا رواه النسائي (3) من حديث ابن أبي ذئب، عن عثمان بن محمد الأخنسي، عن سعيد المَقْبُري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من استُعمِل على القضاء فكأنما ذُبح بالسكين (4)». ثم ساقه (5) من حديث المَخْرَمي عن الأخنسي، عن المقبري، عن أبي _________ (1) أبو داود (3571)، والترمذي (1325) من طريق الفُضَيل بن سليمان، عن عمرو بن أبي عمرو، عن سعيد المقبري به. فضيل بن سليمان فيه لين، ولذا قال الترمذي: «حسن غريب»، وللحديث طريقان آخران عن سعيد المقبري كما سيأتي، فبمجموعها يثبت الحديث، وقد حسّنه السخاوي في «المقاصد الحسنة» (1107). (2) «سنن أبي داود» (3572) من طريق عبد الله بن جعفر المَخْرَمي، عن عثمان بن محمد الأخنسي، عن المَقبُري والأعرج، عن أبي هريرة. (3) في «الكبرى» (5893). (4) ط. الفقي: «بغير سكين» خلافًا للأصل وللفظ الحديث. (5) برقم (5895).

(2/552)


هريرة يرفعه، وقال: «فقد ذبح بغير سكين». ثم اعتذر عن إخراجه حديث عثمان الأخنسي فقال: «وعثمان ليس بذاك القوي، وإنما ذكرناه لئلا يُخرَج عثمان من الوسط ويُجعَل: ابن أبي ذئب عن سعيد». يعني لئلا يُدلَّس فيسقط عثمان، فإذا أسقطه أحد فليعلم أنه بالطريق. ورواه النسائي أيضًا (1) من حديث داود بن خالد [ق 199] عن المقبري عن أبي هريرة. وليس في هذا الطريق ذكر الأخنسي، ولكن قال النسائي (2): داود بن خالد ليس بالمشهور. 2 - باب اجتهاد الرأي في القضاء 432/ 3447 - عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شُعبة، عن أناس من أهل حِمْصَ من أصحاب معاذ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن قال: «كيف تَقضي إذا عَرَض لك قضاء؟» قال: أقضي بكتاب الله، قال: «فإن لم تَجِد في كتاب الله؟» قال: فبِسُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «فإن لم تَجِدْ في سُنة رسول الله ولا في كتاب الله؟» قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضربَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صَدْره وقال: «الحمدُ لله الذي وَفَّقَ رسولَ رسولِ الله لما يُرضي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -». 433/ 3448 - وفي رواية عن الحارث بن عمرو، عن ناس من أصحاب معاذ، عن معاذ بن جبل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمّا بعثه إلى اليمن ــ فذكر معناه ــ. وأخرجه الترمذي (3) وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل. _________ (1) برقم (5892). (2) في «السنن الكبرى» طبعة دار التأصيل (8/ 142)، وهو ساقط من طبعة الرسالة. (3) أبو داود (3592)، والترمذي (1327).

(2/553)


وقال البخاري في «التاريخ الكبير» (1): الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة الثقفي عن أصحاب معاذ عن معاذ، روى عنه أبو عون، ولا يصحّ، ولا يعرف إلا بهذا، مرسل. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد أخرجه ابن ماجه في «سننه» (2) من حديث يحيى بن سعيد الأموي، عن محمد بن سعيد بن حسان، عن عُبادة بن نُسَيّ، عن عبد الرحمن بن غَنْم، حدثنا معاذ بن جبل قال: لما بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن قال: «لا تَقْضِيَنَّ ولا تَفصِلنَّ إلا بما تَعلم، وإن أشكل عليك أمر فقِفْ حتى تَبَيَّنه أو تكتبَ إليّ فيه». وهذا أجود إسنادًا من الأول (3)، ولا ذكر فيه للرأي. _________ (1) (2/ 277). (2) برقم (55)، وإسناده تالف بمرَّة، فإن محمد بن سعيد بن حسان هو الشامي المصلوب، صُلِب على الزندقة، وكان يضع الحديث. (3) كذا قال، مع أن في إسناده محمد بن سعيد المصلوب. ولعله تبع في ذلك الحافظ أبا الفضل بن طاهر المقدسي (ت 507) فإن له مصنّفًا على هذا الحديث بيَّن فيه عدم ثبوت حديث معاذ المشهور ثم قال: «ومما يدل على بطلانه ما رواه ابن ماجه ... » فذكر هذا الحديث وسكت عليه. انظر: «البدر المنير» (9/ 538 - 540). وبنحوه صنيع الجورقاني (ت 543) في «الأباطيل والمناكير» (1/ 105 - 109) حيث أسند حديث الباب وقال: «هذا حديث باطل»، ثم أسند حديث ابن ماجه من طريقه وقال: «هذا حديث غريب حسن»! واستظهر الألباني في «الضعيفة» (2/ 276) أنه قد يكون اشتبه على ابن القيم محمد بن سعيد بن حسان المصلوب بمحمد بن سعيد بن حسّان الحِمصي، وليس به فإنه متأخر عن المصلوب، ولم يذكروا له رواية عن ابن نُسَي، ولا في الرواة عنه يحيى بن سعيد الأموي. والله أعلم.

(2/554)


3 - باب في الصلح 434/ 3449 - عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الصُّلح جائز بين المسلمِين»، زاد أحمد ــ وهو ابن عبد الواحد ــ: «إلا صُلحًا أحَلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا»، وزاد سليمان بن داود ــ وهو المهري ــ: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المسلمون على شُروطِهم» (1). في إسناده كثير بن زيد أبو محمد الأسلمي مولاهم المدني، قال ابن معين: ثقة، وقال مرَّة: ليس بشيء، وقال مَرَّة: ليس بذاك القوي، وتكلم فيه غيره (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى الترمذي (3) من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا حرّم حلالًا أو أحلّ حرامًا، والمسلمون على شروطهم، إلا شرطًا حرّم حلالًا أو أحل حرامًا (4)». وقال: هذا حديث حسن صحيح. وفي كثير من النسخ: «حسن» فقط (5). _________ (1) «سنن أبي داود» (3594)، وأخرجه أحمد (8784)، وابن حبان (5091)، والحاكم (2/ 49)، كلهم من طريق كثير بن زيد، عن الوليد بن رَباح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) ضعّفه النسائي، وقال أبو زرعة: صدوق فيه لين، وقال أبو حاتم: صالح، ليس بالقوي، يُكتب حديثه، وقال أحمد: ما أرى به بأسًا. انظر: «تهذيب الكمال» (6/ 153). (3) برقم (1352). (4) من قوله: «والمسلمون» إلى هنا ساقط من ط. الفقي لانتقال النظر. (5) الذي في نسخة الكروخي الشهيرة (ق 97): «حسن صحيح»، وكذا في «تحفة الأشراف» (8/ 166).

(2/555)


وقد استُدرك على الترمذي تصحيح كثيرٍ هذا، فإنه ضعيف؛ قال عبد الله بن أحمد (1): أمرني أبي أن أضرب على حديثه، وقال مرة: ضرب أبي على حديثه، فلم يحدّثنا به وقال: هو ضعيف الحديث. وقال ابن معين (2): ليس بشيء. وقد روى الدارقطني في «سننه» (3) حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصلح جائز بين المسلمين» من طريق عفان (4)، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبى هريرة وقال: هذا صحيح الإسناد. وأخرجه الحاكم في «المستدرك» (5) من هذا الوجه، وقال: صحيح على شرطهما. قلت: وعلته أنه من رواية عبد الله بن الحسين (6) المِصِّيصي عن عفان، وقد قال ابن حبان (7): كان يَقْلِب الأخبار ويسرقها، لا يُحتجّ بما انفرد به. وقال الحاكم: المصيصي ثقة، تفرد به. _________ (1) في «العلل ومعرفة الرجال» (4922) بنحوه. (2) في «التاريخ» برواية الدوري (3/ 232)، والدارمي (ص 195)، وابن الجنيد (ص 469). (3) برقم (2891)، وليس في المطبوع قوله: «هذا صحيح الإسناد». (4) في الأصل: «عثمان» خطأ، وسيأتي على الصواب قريبًا. (5) (2/ 50). (6) في الأصل وط. الفقي: «الحسن»، تصحيف. (7) في «المجروحين» (2/ 10).

(2/556)


4 - باب شهادة أهل الذمة على الوصية في السفر 435/ 3459 - عن الشَّعبي أن رجلًا من المسلمين حضرته الوفاةُ بِدَقُوقاء هذه، ولم يجد أحدًا من المسلمين يُشهده على وصيته، فأَشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدِما الكوفةَ فأتيا الأشعريَّ ــ هو أبو موسى ــ فأخبراه، وقدِما بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعدَ الذي كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأَحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا، ولا بدَّلا ولا كتما ولا غيَّرا، وإنها لوصيةُ الرجل وترِكَتُه، فأمضى شهادتَهما (1). 436/ 3460 - وعن ابن عباس قال: خرج رجل من بني سَهْمٍ مع تميمٍ الداريِّ وعديِّ بن بَدَّاء، فمات السَّهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدِما بتركته فقدُوا جامَ فِضَّةٍ مُخوًّصًا بالذهب، فأحلفهما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم وُجد الجام بمكة، فقالوا: اشتريناه من تميم وعديٍّ، فقام رجلان من أولياء السَّهمي فحلفا: لَشهادتُنا أحقُّ من شهادتهما، وإن الجام لصاحبهم، قال: فنزلت فيهم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الآية [المائدة: 106]. وأخرجه الترمذي (2) وقال: حسن غريب. وأخرجه البخاري (3) فقال: وقال لي علي بن عبد الله ــ يعني ابن المديني ــ: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن أبي زائدة، عن محمد بن أبي القاسم، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس، فذكره. قيل: وهذا يدل على أنه ليس من شرطه، وهذه عادته فيما ليس من شرطه أن _________ (1) «سنن أبي داود» (3605). (2) أبو داود (3606)، والترمذي (3060). (3) برقم (2780).

(2/557)


لا يصرّح بالتحديث بل يقول: «قال لي» ونحوه (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وهذا تعليل فاسد، فإن البخاري رواه في «صحيحه» مسندًا متّصلًا، وقوله: «قال لي» طريق من طرق الرواية، ليس بموجبةٍ لتعليل الإسناد، فالتعليل بها عَنَت. وقال علي ابن المديني (2): هذا حديث حسن، ولا أعرف ابن أبي القاسم. وقال غيره: هو محمد بن أبي القاسم الطويل، قال يحيى بن معين (3): ثقة، كتبت عنه. وقد تأول قوم الآية تأويلات باطلة: فمنهم من قال: كلها في المسلمين، وقوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} يعني من غير قبيلتكم. وهذا باطل فإن الله افتتح الخطاب بـ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ثم قال: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}، ومعلوم أن غير المؤمنين هم الكفار، ولم يخاطب الله سبحانه بهذه الآية قبيلة دون قبيلة، بل الخطاب بها على عادة خطاب القرآن لعموم المؤمنين. وحديث ابن عباس صريح في المراد بها، وأن الشهود من أهل الكتاب. _________ (1) كلام المنذري من أصل المجرد و (هـ)، وفيه تصرّف وزيادة من المؤلف عمّا في «المختصر» (5/ 222 - 223). (2) كما في «المختصر» للمنذري (5/ 223). وانظر: «تهذيب الكمال» (6/ 481). (3) كما في «المختصر». وانظر: «الجرح والتعديل» (8/ 66).

(2/558)


وقال بعضهم: الشهادة هنا بمعنى الحضور لا الإخبار. وهذا إخراج للكلام عن الفائدة، وحمله على خلاف مراده، والسياق يبطل هذا التأويل المستنكر. وقال بعضهم: الشهادة هنا بمعنى اليمين. وظاهر السياق بل صريحه يشهد بأنها شهادة صريحة مؤكَّدة باليمين، فلا يجوز تعطيل وصف الشهادة. وقال بعضهم: الآية منسوخة. وهذه دعوى باطلة، فإن المائدة من آخر القرآن نزولًا، ولم يجئ بعدها ما ينسخها، فلو قدر نصٌّ يعارِض هذا من كل وجه لكان منسوخًا بآية المائدة. وقال بعضهم: هذه الآية تُرِك العمل بها إجماعًا. وهذا مجازفة وقول بلا علم، فالخلاف فيها أشهر من أن يخفى، وهي مذهب كثير من السلف (1)، وحكم بها أبو موسى الأشعري (2)، وذهب إليها الإمام أحمد (3). 5 - باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به 437/ 3461 - عن عُمارة بن خُزيمة أن عمَّه حدثه ــ وهو من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ــ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتاع فرسًا من أعرابي، فاستتبعه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ليقضيَه ثمنَ فرسه، فأسرع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المشيَ وأبطأ الأعرابيُّ، فطفِقَ رجال يعترضون الأعرابيَّ فيساومونه الفرسَ ولا يشعرون أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتاعه، فنادى الأعرابيُّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - _________ (1) كابن المسيب، وشريح القاضي، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي وغيرهم. انظر: «مصنف عبد الرزاق» (15538 - 15542)، و «مصنف ابن أبي شيبة» (22888 - 22897)، و «تفسير الطبري» (9/ 61 - 67). (2) كما سبق في حديث الباب. (3) انظر: «مسائله» برواية عبد الله (ص 435)، وبرواية صالح (2/ 218).

(2/559)


فقال: إن كنتَ مبتاعًا هذا الفرسَ وإلا بعتُه، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سمع نداء الأعرابي فقال: «أوَليسَ قد ابتَعْتُه منك؟»، فقال الأعرابيُّ: لا واللهِ ما بعتُك! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بلى قد ابتَعْتُه منك»، فطفق الأعرابي يقول: هَلُمَّ شَهِيدًا، فقال خُزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - على خزيمة فقال: «بِمَ تَشهَد؟» فقال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شهادةَ خزيمة بشهادة رجلين. وأخرجه النسائي (1). وهذا الأعرابي هو: سَواءُ بن الحارثِ ــ وقيل: قيسٍ ــ المُحاربي، ذكره غير واحد في الصحابة. وقيل: إنه جحد البيع بأمر بعض المنافقين. وقيل: إن هذا الفرس هو «المرتجز» المذكور في أفراس النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الشافعي (2): وقد حفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه بايع أعرابيًا في فرس فجحد الأعرابي بأمر بعض المنافقين ولم يكن بينهما بينة، فلو كان حتمًا لم يبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا بينة ــ يريد قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]ــ (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد احتج بهذا الحديث من يرى أن للحاكم أن يحكم بعلمه، قال: وجرت شهادة خزيمة في ذلك مجرى التوكيد والاستظهار، ولهذا لم يكن معها يمين (4). _________ (1) أبو داود (3607)، والنسائي (4647)، وكذلك الحاكم (2/ 17 - 18) من طرق عن الزهري، عن عمارة بن خُزيمة به. (2) «الأم» (4/ 180). (3) كلام المنذري مثبت من (هـ)، وفيه اختصار وتصرّف من المؤلف عمّا في «المختصر» المخطوط، وليس في مطبوعته النقل عن الشافعي. (4) انظر: «معالم السنن» للخطابي (5/ 224)، وأن للحاكم أن يحكم بعلمه هو قول الشافعي. انظر: «نهاية المطلب» (18/ 580).

(2/560)


وهذا القول باطل، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمضى البيع بشهادة خزيمة وجعلها بمنزلة شاهدين، وهذا لأن شهادة خزيمة على البيع ــ ولم يره ــ استندت إلى أمرٍ هو أقوى من الرؤية، وهو تصديق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبراهين الدالة على صدقه، وأن كل ما يخبر به حق وصدق قطعًا، فلما كان من المستقر عنده أنه [ق 200] الصادق في خبره، البارُّ في كلامه، وأنه يستحيل عليه غير ذلك البتة= كان هذا من أقوى التحمّلات، فجزم بأنه بايعه كما يجزم لو رآه وسمعه. بل هذه الشهادة مستندة إلى محض الإيمان، وهي من لوازمه ومقتضاه، ويجب على كل مسلم أن يشهد بما شهد به خزيمة، فلما تميّزت عن شهادة الرؤية والحس التي يشترك فيها العدل وغيره أقامها النبي - صلى الله عليه وسلم - مقام شهادة رجلين. 6 - باب القضاء باليمين مع الشاهد 438/ 3462 - عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بيمين وشاهد. 439/ 3463 - وفي رواية: قال عمرو ــ يعني ابن دينار ــ: «في الحقوق». وأخرجه مسلم (1). _________ (1) أبو داود (3608)، ومسلم (1712)، كلاهما من طريق سيف بن سليمان المكي، عن قيس بن سعد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس. وليس فيه قول عمرو: «في الحقوق». وأخرجه أبو داود (3609) من طريق محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار به، وفي آخره قول عمرو المذكور.

(2/561)


440/ 3464 - وعن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد. وأخرجه ابن ماجه والترمذي (1)، وقال: حسن غريب. قال ابن القيم - رحمه الله -: قال ابن أبي حاتم في كتاب «العلل» (2): سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه ربيعة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بشاهد ويمين؟ فقالا: هو صحيح، قلت: فإنَّ (3) بعضهم يقول: عن سهيل عن أبيه عن زيد بن ثابت؟ فقالا: وهذا صحيح أيضًا، هما جميعًا صحيحان. وقد روى ابن ماجه (4) عن جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد. _________ (1) أخرجه أبو داود (3610)، وابن ماجه (2368)، والترمذي (1343)، وكذلك ابن حبان (5073) كلهم من طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة. (2) برقم (1049). (3) في الأصل والطبعتين: «قال»، تصحيف، والتصويب من (هـ) وكتاب «العلل». (4) برقم (2369)، وأحمد (14278)، وكذلك الترمذي (1344) كلهم من طريق عبد الوهاب الثقفي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر. رجاله ثقات، إلا أنه اختلف في وصله وإرساله، فقد أخرجه مالك (2111)، والترمذي (1345)، والبيهقي (10/ 169) من طرق عن جعفر بن محمد، عن أبيه مرسلًا. رجَّح أحمد والترمذي المرسَل، وكذا الحافظان الرازيان وخطَّآ رواية عبد الوهاب. انظر: «العلل» (1402). وأما الدارقطني في «العلل» (301) فصحح الوجهين وقال: وكان جعفر بن محمد ربما أرسل هذا الحديث وربما وصله عن جابر، لأن جماعة من الثقات حفظوه عن أبيه عن جابر، والحكم يُوجِب أن يكون القولُ قولَهم، لأنهم زادوا وهم ثقات، وزيادة الثقة مقبولة.

(2/562)


ورواه الإمام أحمد في «مسنده». وفي «المسند» (1) أيضًا عن عمارة بن حزم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد. وفي «المسند» (2) أيضًا عن سعد بن عبادة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد. وفي «المسند» (3) أيضًا عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بشهادة شاهد واحد ويمين صاحب الحق، وقضى به علي بالعراق. _________ (1) برقم (24009/ 37)، من طريق شُرَحْبيل بن سعيد بن سعد بن عُبادة قال: كتابٌ وجدته في كتب سعيد بن سعد بن عُبادة: أن عمارة بن حزم شهد ... إلخ. في إسناده اختلاف واضطراب، وفي أكثر الطرق أن الكتب هي «كتب سعد بن عبادة»، وروي الحديث من مسنده دون ذكر عمارة بن حزم، وفي بعضها: يشهد سعد بن عبادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عمرو بن حزم أن يقضي باليمين مع الشاهد. انظر حاشية محققي طبعة الرسالة على هذا الحديث والحديث الآتي. (2) برقم (22460)، وأخرجه أيضًا الترمذي (1343)، والدارقطني (4493)، والبيهقي (10/ 171). (3) برقم (14278)، بذكر قضاء عليّ به فقط، وأما الجزء المرفوع فيه فهو عن جعفر، عن أبيه، عن جابر. وأما من مسند علي باللفظ المذكور، فأخرجه الدارقطني (4487)، والبيهقي (10/ 170). والظاهر أنه وهم من بعض الرواة حيث جعل الحديث كله عن علي، والصواب أن أوله ــ وهو القدر المرفوع منه ــ إما مُرسل وإما من مسند جابر (وقد سبق الكلام عليه)، ثم أعقبه محمد الباقر بذكر أن عليًّا قضى به أيضًا، وهومنقطع فإن محمدًا لم يدرك عليًّا.

(2/563)


وروى ابن ماجه (1) عن سُرَّق: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاز شهادة رجل ويمين الطالب. وأُعِلّ حديث أبي هريرة وحديث ابن عباس، وهما أجود ما في الباب. أما حديث أبي هريرة، قالوا يرويه سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، رواه عنه ربيعة، قال الدَّراوَرْدي (2): فذكرت ذلك لسهيل، فقال: أخبرني رَبيعة ــ وهو عندي ثقة ــ أني حدّثته إياه، ولا أحفظه. قال عبد العزيز: وكان أصاب سهيلًا علةٌ أذهبت عقلَه، ونسي بعضَ حديثه، فكان سهيل يحدثه عن ربيعة عنه عن أبيه. والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن هذا لو ثبت لكان تعليلًا لبعض طرق حديث أبي هريرة، ولا يلزم من تعليل هذه الطريق تعليل أصل الحديث، فقد رواه أبو الزناد عن الأعرج عنه، ومن هذه الطريق خرَّجه النسائي (3). _________ (1) برقم (2371) من حديث عبد الله بن يزيد مولى المُنبَعِث، عن رجل من أهل مصر، عن سُرَّق. فالإسناد ضعيف لجهالة التابعي المصري. وأخرجه ابن عبد البر في «التمهيد» (2/ 151) من هذا الطريق وفيه: «عن رجل من أهل مصر أحسبه ابن البَيلماني». وهو عبد الرحمن ابن البيلماني، ضعيف. (2) رواه عنه الشافعي في «الأم» (7/ 627)، ومن طريقه أبو داود عقب حديث الباب. (3) في «الكبرى» (5969)، وكذلك ابن عدي في «الكامل» (6/ 356)، والبيهقي (10/ 169)، كلهم من طريق المغيرة بن عبد الرحمن الحِزامي، عن أبي الزناد به. والمغيرة لا بأس به، إلا أن له ما ينفرد به ويُنكَر عليه، ولعل هذا الحديث منه، كما يوحي إليه إيراد ابن عدي له في «الكامل»، ونصّ عليه الذهبي في «تاريخ الإسلام» (4/ 748 - 749)، ويدل عليه أن مالكًا ومحمد بن عجلان خالفاه فروياه عن أبي الزناد عن عمر بن عبد العزيز قولَه، وزاد ابن عجلان عنه عن بعض مشيختهم عن شُرَيح القاضي أيضًا. أخرجه مالك (2112)، وابن أبي شيبة (23454)، والبيهقي (10/ 173 - 174).

(2/564)


الثاني: أن هذا يدل على صدق الحديث فإن سهيلًا صدّق ربيعة، وكان يرويه عنه عن نفسه، ولكنه نسيه وليس نسيان الراوي حجةً على من حفظ. الثالث: أن ربيعة من أوثق الناس، وقد أخبر أنه سمعه من سهيل، فلا وجه لرد حديثه ولو أنكره سهيل، فكيف ولم ينكره؟ وإنما نسيه للعلة التي أصابته، وقد سمعه منه ربيعة قبل أن تصيبه تلك العلة. وأما حديث ابن عباس، فيرويه عمرو بن دينار عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد روي عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالشاهد واليمين (1). وهذا أيضًا تعليل باطل لا يُعترض بمثله على السنن الصحيحة، وقد رواه الناس عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصححه مسلم، وقال النسائي (2): إسناد جيد، وساقه من طرق عن عمرو بن دينار عن ابن عباس. _________ (1) ذكر هذه الرواية النسائي في «الكبرى» عقب الحديث (5967) معلقةً، ولم أجد من أسندها. (2) في «الكبرى» عقب الحديث (5967)، وهو من طريق سيف بن سليمان، عن قيس بن سعد، عن عمرو به. ثم ذكر أن قيسًا قد تابعه محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو به.

(2/565)


وقال الشافعي (1): هو حديث ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يردُّ أحدٌ من أهل العلم مثلَه لو لم يكن معه غيره، مع أن معه غيره مما يشده. وقال الشافعي (2): قال لي محمد بن الحسن: لو علمتُ أن سيف بن سليمان يروي حديث اليمين مع الشاهد ــ يعني حديث ابن عباس ــ لأفسدتُه عند الناس. قلت: يا أبا عبد الله، إذا أفسدتَه فسد؟ وسيف هذا ثقة، اتفق الشيخان على الاحتجاج بحديثه. قال علي ابن المديني (3): سألت يحيى بن سعيد عن سيف بن سليمان، فقال: كان عندي ثبتًا ممن يَصْدُق ويحفظ. وقال النسائي (4): وسيف بن سليمان ثقة. وأعله الطحاوي (5) وقال: إنه منكر، وقال: قيس بن سعد لا نعلم يحدث عن عمرو بن دينار بشيء. وهذه علة باطلة، لأن قيسًا ثقة ثبت غير معروف بتدليس، وقيس وعمرو مكّيّان في زمان واحد، وإن كان عمرو أسنَّ وأقدم وفاة منه، وقد روى قيس عن عطاء ومجاهد، وهما أكبر سِنًّا وأقدم موتًا من عمرو. وقد روى عن عمرٍو من هو في قرن قيس وهو أيوب السَّختياني، فمِن أين جاء إنكار رواية _________ (1) في «الأم» (8/ 16)، وعنه البيهقي في «معرفة السنن» (14/ 285) و «السنن الكبرى» (10/ 167). (2) كما في «السنن الكبرى» (10/ 167) و «معرفة السنن» (14/ 286). (3) أسنده عنه البيهقي في المصدرَين السابقَين. (4) في «الكبرى» عقب الحديث. (5) في «شرح معاني الآثار» (4/ 145). والمؤلف صادر عن «معرفة السنن» (14/ 286 - 288) في الرد على إعلاله.

(2/566)


قيس عن عمرو؟ وقد روى جرير بن حازم عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن جبير عن ابن عباس قصة المُحرِم الذي وقصته ناقته (1)، وهو من أصح الأحاديث. فقد تبين أن قيسًا روى عن عمرٍو غيرَ حديث، ولم يعللها أحد من أئمة الحديث بانقطاع أصلًا. وقد تابع قيسًا محمدُ بن مسلم الطائفي عن عمرو عن ابن عباس، ذكره النسائي وأبو داود. والحديث مروي من وجوه عن ابن عباس، فهو ثابت لا مطمع في رده بحمد الله. وقد أعله طائفة بالإرسال بأن عمرو بن دينار رواه عن محمد بن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا. [ق 201] وهذا أيضًا تعليل فاسد لا يؤثر في الحديث، لأن راويه عن عمرو مرسلًا إنسان ضعيف لا يعترض بروايته على الثقات. قال النسائي (2): ورواه إنسان ضعيف فقال: عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي مرسل، قال: وهو متروك الحديث، ولا يحكم بالضعفاء على الثقات. تم كلامه. وهذه العلل وأمثالها عَنَت، لا يُترَك لها الأحاديث الثابتة، ولو تركت السنن بمثلها لوُجِد السبيل إلى ترك عامة الأحاديث الصحيحة (3) بمثل هذه الخيالات. _________ (1) أخرجه البزار (4983)، والطبراني في «الكبير» (12/ 78)، والدارقطني (2770). والحديث متفق عليه من طرق أخرى عن عمرو، وعن أيوب وأبي بشر، ثلاثتهم عن سعيد بن جُبير به. (2) في «الكبرى» عقب الحديث (5967). (3) زاد في ط. الفقي بعده: «الثابتة»، خلافا للأصل.

(2/567)


وهذه الطريق في مقابلها طريق الأصوليين وأكثرِ الفقهاء: أنهم لا يلتفتون إلى علَّةٍ للحديث إذا سلمت طريق من الطرق منها، فإذا وصله ثقة أو رفعه لا يبالون بخلاف مَن خالفه ولو كثُروا. والصواب في ذلك طريقة أئمة هذا الشأن العالمين به وبعلله، وهو النظر والتمهُّر في العلل، والنظر في الواقفين والرافعين والمرسلين والواصلين: أيّهم (1) أكثر وأوثق وأخص بالشيخ وأعرف بحديثه، إلى غير ذلك من الأمور التي يجزمون معها بالعلة المؤثرة في موضع، وبانتفائها في موضع؛ لا يرتضون طريق هؤلاء، ولا طريق هؤلاء. والمقصود أن هذا الأصل قد رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وسعد بن عبادة، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة، وسُرَّق، وعمارة بن حزم، وجماعة من الصحابة، وعمرو بن شعيب مرسلًا ومتصلًا ــ والمنقطع أصح ــ، وأبو سعيد الخدري، وسهل بن سعد. فحديث ابن عباس رواه مسلم. وحديث أبي هريرة حسن، صححه أبو حاتم الرازي. وحديث جابر: حسن، وله علة، وهي الإرسال، قاله أبو حاتم الرازي (2). وحديث زيد بن ثابت صححه أبو زرعة وأبو حاتم، رواه سهيل عن أبيه _________ (1) في الأصل و (هـ) والطبعتين: «أنّهم»، تصحيف. (2) كما في «العلل» لابنه (1402)، وقد سبق تخريجه والكلام عليه.

(2/568)


عن زيد بن ثابت: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بشاهد ويمين. وحديث سعد بن عبادة رواه الترمذي والشافعي وأحمد (1). وحديث سُرَّق رواه ابن ماجه وتفرد به، وله علة: رواية ابن البَيْلَماني عنه. وحديث الزُّبَيب: حسن، رواه عنه [عمّار بن] شُعيث (2) بن عبد الله بن الزبيب العنبري، حدثني أبي قال: سمعت جدي الزُّبَيب (3). وشُعَيث ذكره ابن حبان في «الثقات» (4). وحديث عمرو بن شعيب رواه مسلم الزَّنْجي عن ابن جريج عن عمرو: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد، منقطعًا (5)، وهو الصحيح. _________ (1) سبق تخريجه من كتابَي أحمد والترمذي، وأخرجه الشافعي في «الأم» (7/ 625). (2) ما بين الحاصرتين مستدرك من مصادر التخريج، و «شُعَيث» تحرّف في (هـ) والطبعتين إلى «شُعيب»، وهو مهمل في الأصل. (3) أخرجه أبو داود (3612) ــ ومن طريقه البيهقي (10/ 171) ــ، وأبو القاسم البغوي في «معجم الصحابة» (1256)، في قصة إسلام بني العنبر. ضعّفه ابن القطان في «بيان الوهم» (3/ 182) بجهالة شُعيث وابنه عمار. ولكن عمَّارًا قد توبع، تابعه موسى بن إسماعيل التبوذكي، كما عند الطبراني في «الكبير» (5/ 268)، وعنه أبو نعيم في «معرفة الصحابة» (3064). وأما شُعيث، فقال ابن عدي في «الكامل» (4/ 43): «أرجو أنه في مقدار ما يرويه يصدق فيه»، وأورده ابن حبان في «الثقات»، وحسّن ابن عبد البر حديثه هذا في «الاستيعاب» (2/ 562). (4) (6/ 453). (5) هكذا أخرجه الشافعي في «الأم» (7/ 628)، ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 172) و «معرفة السنن» (14/ 292). وقول المؤلف: «وهو الصحيح» إشارة إلى أنه قد روي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده موصولًا ولكنه لا يصح. وهو كذلك، فقد أخرجه البيهقي (10/ 172)، وابن عبد البر في «التمهيد» (2/ 150) من طريقين عن عمرو بن شعيب به، وكلاهما واهٍ.

(2/569)


وحديث أبي سعيد رواه الطبراني في «معجمه الصغير» (1) بإسناد ضعيف. وحديث سهل بن سعد رواه أبو بكر بن أبي سبرة (2) ــ ضعيف ــ، عن أبي حازم، عن سهل (3). فالعمدة على الأحاديث الثابتة، وبقيتها شواهد لا تضر. 7 - باب الرجلين يدّعيان شيئًا وليست لهما بينة 441/ 3466 - عن أبي موسى الأشعري: أن رجلين ادَّعَيا بعيرًا أو دابة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليست لواحد منهما بينة، فجعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما. وأخرجه النسائي وابن ماجه (4). 442/ 3467 - وفي رواية: أن رجلين ادعيا بعيرًا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبعث _________ (1) (2/ 9)، وكذلك في «الأوسط» (4782)، وفي إسناده جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، متروك متّهم بالوضع، وفيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ضعيف. (2) ط. الفقي: «أبو بكر بن أبي شيبة»، وهو تحريف قبيح، إذ ذاك أحد الأئمة الأعلام فكيف يكون ضعيفًا؟! (3) لم أقف عليه. (4) أبو داود (3613)، والنسائي في «المجتبى» (5424) و «الكبرى» (5955)، وابن ماجه (2330)، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن جده أبي موسى الأشعري.

(2/570)


كلُّ واحد منهما شاهدين، فقسمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما نصفين (1). وأخرجه النسائي (2)، وقال: «هذا خطأ، ومحمد بن كثير هذا هو المصيصي، وهو صدوق إلا أنه كثير الخطأ»، وذكر أنه خُولف في إسناده ومتنه. قال ابن القيم - رحمه الله -: فقال (3): خالفه سعيد بن أبي عروبة في إسناده ومتنه، ثم ساقه (4) من حديث سعيد عن قتادة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى: أن رجلَين اختصما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في دابة ليست لواحد منهما (5) بينة، فقضى بها بينهما نصفين. ثم قال: إسناد هذا الحديث جيد. والحديث الذي أنكره النسائي قد خرّجه أبو داود من غير طريق محمد بن كثير، خرجه بإسناد كلهم ثقات؛ رواه من حديث همام عن قتادة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى. ورواه الضحاك بن حُمْرَة (6) عن قتادة، عن أبي مِجلَز، عن أبي بردة، عن أبيه (7) أبي موسى (8). _________ (1) أخرجه أبو داود (3615)، من طريق همّام بن يحيى «عن قتادة بمعنى إسناده». (2) في «الكبرى» (5954) من طريق محمد بن كثير، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن أبي بردة، عن أبي موسى. (3) أي النسائي. (4) برقم (5955)، وهو الحديث الأول في الباب. (5) في الأصل وط. المعارف: «فيهما»، تصحيف. (6) تصحّف في الطبعتين ومطبوعة «سنن البيهقي» إلى «حمزة». (7) بعده: «عن» في الأصل والطبعتين، وهو خطأ إذ إن أباه هو أبو موسى. (8) أخرجه الطبراني في «الأوسط» (2)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 257)؛ والضحاك بن حُمرة ضعيف، وقد خالف ثقات أصحاب قتادة في إسناده.

(2/571)


وروي عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن أبي بردة، عن أبي موسى (1). وقيل: عن حماد، عن قتادة، عن النضر، عن بشير بن نَهِيك، عن أبي هريرة (2). قال البيهقي: وليس بمحفوظ. قال (3): والأصل في هذا الباب حديث سماك بن حرب عن تميم بن طَرَفة: أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعير فأقام كل واحد منهما شاهدَين فقضى به بينهما نصفين (4)، وهذا منقطع. وقال الترمذي في كتاب «العلل» (5): سألت محمد بن إسماعيل عن حديث سعيد بن أبي بردة عن أبيه في هذا الباب؟ فقال: يرجع هذا الحديث إلى حديث سماك بن حرب عن تميم بن طرفة. قال محمد: روى حماد بن سلمة قال (6): قال سماك بن حرب: أنا حدّثتُ أبا بردة بهذا الحديث. تم _________ (1) من هذا الوجه أخرجه النسائي في «الكبرى» (5954)، وقد سبق تخطئة النسائي له والكلام عليه. (2) أخرجه ابن حبان (5068)، والبيهقي (10/ 258)، والمؤلف صادر عن «معرفة السنن والآثار» (14/ 354 - 355). (3) أي البيهقي في «معرفة السنن» (14/ 355). (4) أخرجه عبد الرزاق (15202، 15203)، وابن أبي شيبة (21564)، وأبو داود في «المراسيل» (339)، والبيهقي في الكتابَين من طرق عن سماك به. (5) (ص 213)، والمؤلف صادر عن «معرفة السنن». (6) أسنده عن حماد الإمام أحمد في «العلل» برواية عبد الله (371)، والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (4758).

(2/572)


كلامه. وقد رواه غندر عن شعبة عن قتادة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه مرسلًا (1)، قال البيهقي: وإرسال شعبة له كالدلالة على صحة ما قال البخاري. * * * _________ (1) أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 255)، والمؤلف صادر عن «معرفة السنن» (14/ 355).

(2/573)


 كتاب العلم

1 - في كتاب العلم (1) 443/ 3499 - عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كلَّ شيء أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أريد حفظه، فنَهَتْني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشر يتكلم في الغضب والرضا؟! فأمسكتُ عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال: «اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق» (2). 444/ 3500 - وعن المطَّلب بن عبد الله بن حَنْطَب قال: دخل زيدُ بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث، فأمر إنسانًا يكتبُه، فقال له زيدٌ: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن لا نكتبَ شيئًا من حديثه»، فمحاه (3). في إسناده كثير بن زيد الأسلمي مولاهم المدني، وفيه مقال (4). والمطلب بن عبد الله بن حنطب قد وثَّقه غير واحد. وقال محمد بن _________ (1) أي في كتابته، وفي أصل المجرّد مكانه: «باب رواية أهل الكتاب»، وهو السابق لهذه الترجمة في «السنن». وهذه الترجمة سقطت من «المختصر» المطبوع أيضًا، وهي موجودة في أصله الخطي (النسخة البريطانية). (2) «سنن أبي داود» (3646). وأخرجه أحمد (6802)، والدارمي (501)، والحاكم (1/ 105 - 106). وقال العراقي في «تخريج الإحياء» (2/ 844): إسناده صحيح. (3) «سنن أبي داود» (3647). (4) قال أحمد وابن معين في رواية: ليس به بأس، وقال أبو زرعة: صدوق فيه لين، وقال أبو حاتم: صالح ليس بالقوي يكتب حديثه، وضعّفه النسائي. انظر: «تهذيب الكمال» (6/ 153).

(2/574)


سعد (1): كان كثير الحديث، وليس يحتجّ بحديثه لأنه يُرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس له لُقي، وعامَّة أصحابه يدلِّسون. هذا آخر كلامه. وقد قيل: إنه سمع من عمر، وأن الأوزاعي روى عنه. والظاهر أنهما اثنان، لأن الراوي عن عمر لم يُدركه الأوزاعي (2). وقد أخرج مسلم في «الصحيح» (3) من حديث أبي سعيد الخدري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تكتبوا عنّي، ومن كتب عنّي غيرَ القرآن فليَمْحُه ... » الحديث (4). قال ابن القيم - رحمه الله -: قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن الكتابة والإذنُ فيها، والإذن متأخر، فيكون ناسخًا لحديث النهي، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في غزاة الفتح: «اكتبوا لأبي شاه» (5) يعني خطبته التي سأل كتابتها، [ق 202] وأذن لعبد الله بن عمرو في الكتابة (6)، وحديثه متأخر عن النهي لأنه لم يزل يكتب ومات وعنده كتابه، وهي الصحيفة التي كان يسميها «الصادقة» (7)، ولو كان _________ (1) في «الطبقات» (7/ 409). (2) انظر: «الجرح والتعديل» (8/ 359)، و «أوهام الجمع والتفريق» (1/ 127). (3) برقم (3004)، وقد أعلّه بعض الأئمة كالبخاري وأبي داود بالوقف. انظر: «فتح الباري» (1/ 208)، و «تحفة الأشراف» (3/ 408). (4) ولم يُشر المجرّد إلى القدر الذي أثبته المؤلف من كلام المنذري، فرأيت إثبات هذا القدر منه، لأن ما بعده قد ضمّنه المؤلف في ثنايا تعليقه الآتي. (5) أخرجه البخاري (112، 2434)، ومسلم (1355). (6) أخرجه أحمد (6510)، وأبو داود (3646)، والحاكم (1/ 105 - 106)، بإسناد صحيح. (7) كما أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (2/ 321 - 322)، والدارمي (513)، والخطيب البغدادي في «تقييد العلم» (ص 84، 85)، من طرق بعضها صحيح.

(2/575)


النهي عن الكتاب متأخرًا لمحاها عبد الله لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمحو من كتب عنه غير القرآن، فلما لم يمحها وأثبتها دل على أن الإذن في الكتابة متأخر عن النهي عنها، وهذا واضح، والحمد لله. وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لهم في مرض موته: «ائتوني باللوح والدواة والكتف لأكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده أبدًا» (1). وهذا إنما كان يكون كتابة كلامه بأمره وإذنه. وكتب النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم كتابًا عظيمًا في الديات وفرائض الزكاة وغيره (2). وكتبه في الصدقات معروفة مثل كتاب عمر بن الخطاب (3)، وكتاب _________ (1) أخرجه البخاري (114)، ومسلم (1637/ 21) واللفظ به أشبه. (2) أخرج نصّ الكتاب بتمامه ابن حبّان في «صحيحه» (6559)، والحاكم (1/ 395 - 397) من طريق الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده. والصواب في إسناده: عن الزهري قال: قرأتُ في كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران، وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم. أخرجه أبو داود في «المراسيل» (257)، وقال: «أُسند هذا ولا يصحّ». وهو كتاب مشهور عند أهل العلم، وقد أمر عمر بن عبد العزيز عمّاله على الصدقات أن يأخذوا بما فيه، وشهد له ابن شهاب الزهري بالصحة، وصدّر به مالك «كتاب العقول» من «الموطأ». انظر: «التمهيد» (17/ 159)، و «مستدرك الحاكم» (1/ 394 - 395). (3) وتوارثه أبناؤه من بعده، حتى انتسخه عمر بن عبد العزيز من سالم وعبد الله ابنَي عبد الله بن عمر، فأمر عمّاله بالعمل به، وقد أقرأه سالمٌ الزهريَّ أيضًا فرواه، وأدركه مالك فقرأه ورواه بنصه في «الموطأ» (697). انظر: «سنن أبي داود» (1570)، و «مستدرك الحاكم» (1/ 393). وأخرجه أحمد (4632)، والترمذي (621)، والحاكم (1/ 392) من طريق الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - موصولًا، والصواب هو الأول أن الزهري قرأه عند سالم، ليس فيه ذكر لأبيه. انظر: «العلل» للدارقطني (2723).

(2/576)


أبي بكر الصديق الذي دفعه إلى أنس (1). وقيل لعلي: هل خَصَّكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا ما في هذه الصحيفة، وكان فيها العقول وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مؤمن بكافر (2). وإنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة غير القرآن في أول الإسلام لئلا يختلط القرآن بغيره؛ فلما عُلِم القرآن، وتميَّز وأفرد بالضبط والحفظ، وأُمنِت عليه مفسدةُ الاختلاط= أذن في الكتابة. وقد قال بعضهم: إنما النهي عن كتابة مخصوصة، وهي أن يجمع بين كتابة الحديث والقرآن في صحيفة واحدة، خشية الالتباس. وكان بعض السلف يكره الكتابة مطلقًا، وكان بعضهم يرخص فيها حتى يحفظ، فإذا حفظ محاها (3). وقد وقع الاتفاق على جواز الكتابة وإبقائها، ولولا الكتابة لم يكن بأيدينا اليوم من السنة إلا أقلُّ القليل. _________ (1) أخرجه البخاري (1454) وأبو داود (1567). (2) أخرجه البخاري (3047). (3) انظر آثارهم في «تقييد العلم» للخطيب، و «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البر (باب ذكر كراهية كتابة العلم - باب ذكر الرخصة في كتابة العلم).

(2/577)


2 - التشديد في الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - 445/ 3504 - عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، قال: قلت للزبير: ما يمنعك أن تُحدِّثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما يُحدِّث عنه أصحابه؟ فقال: أمَا والله لقد كان لي منه وَجْهٌ ومنزلة، ولكني سمعتُه يقول: «من كذبَ عليَّ متعمدًا فليَتبَوَّأْ مَقعدَه من النار». وأخرجه البخاري والنسائي وابن ماجه (1). وليس في حديث البخاري والنسائي: «متعمدًا»، والمحفوظ في حديث الزبير أنه ليس فيه «متعمدًا». وقد روي عن الزبير أنه قال: والله ما قال «متعمدًا»، وأنتم تقولون «متعمدًا» (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي «الصحيحين» (3) عن علي أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من تعمَّد عليَّ كذبًا فليتبوأ مقعده من النار». وفيهما أيضًا (4) عن المغيرة بن شعبة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنَّ كذبًا عليّ ليس ككذب على غيري، فمن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار». _________ (1) أبو داود (3651)، والبخاري (107)، والنسائي في «الكبرى» (5881)، وابن ماجه (36). (2) أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (3/ 99)، والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (387)، والشاشي في «مسنده» (34، 36) بإسناد صحيح. (3) البخاري (106)، ومسلم (1)، ولفظه: «لا تكذبوا عليّ، فإنه من كذب عليّ فليَلِج النار». وأما اللفظ الذي ذكره المؤلف فهو لفظ حديث أنس عند البخاري (108) ومسلم (2)، فلعله سقط سطر من الأصل لانتقال النظر. (4) البخاري (1291) ومسلم (4).

(2/578)


وفيهما أيضًا (1): عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كذب علي متعمِّدًا فليتبوأ مقعده من النار». وفي «صحيح البخاري» (2) عن سلمة بن الأكوع قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَن يَقُلْ عليَّ ما لم أقُل فليتبوأ مقعده من النار». 3 - باب كراهية منع العلم 446/ 3511 - عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن سُئل عن علم فكتمه أَلجَمَه الله بِلِجامٍ من نارٍ يومَ القيامة». وأخرجه الترمذي وابن ماجه (3)، وقال الترمذي: حديث حسن. هذا آخر كلامه. وقد روي عن أبي هريرة من طريق فيها مقال. والطريق التي أخرجه بها أبو داود طريق حسن، فإنه رواه عن التَّبوذَكيِّ (وقد احتج به البخاري ومسلم)، عن حماد بن سلمة (وقد احتج به مسلم، واستشهد به البخاري)، عن علي بن الحَكَم (وهو أبو الحكم البُناني، قال الإمام أحمد: ليس به بأس، وقال أبو حاتم الرازي: لا بأس به صالح الحديث (4))، عن عطاء بن أبي رباح (وقد اتفق الإمامان على الاحتجاج به). قال ابن القيم - رحمه الله -: ولهذا صححه جماعة منهم ابن حبان وغيره (5). _________ (1) البخاري (110) ومسلم (3). (2) برقم (109). (3) أبو داود (3658)، والترمذي (2649)، وابن ماجه (266). (4) انظر: «الجرح والتعديل» (6/ 181)، ففيه قول أحمد وأبي حاتم. (5) ابن حبان (95)، والحاكم (1/ 101).

(2/579)


ورواه ابن خزيمة (1): حدثنا حفص بن عمرو الرَّبَالي (2)، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم الكرابيسي، حدثنا ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعًا، وهؤلاء كلهم ثقات. ورواه ابن ماجه (3) عن محمد بن عبد الله الأنصاري عن إسماعيل بن إبراهيم به. ومِن أجودها أيضًا حديث عبد الله بن عمرو، رواه الجماعة (4) عن ابن _________ (1) ليس في القدر المطبوع من «صحيحه»، وقد أخرجه العقيلي في «الضعفاء» (1/ 242)، وابن المقرئ في «معجمه» (243)، كلاهما من طريق حفص بن عمرو الرَّبالي به. قال العقيلي: إسماعيل بن إبراهيم الكرابيسي عن ابن عون، ليس لحديثه أصل مسند، إنما هو موقوف من حديث ابن عون ... ثم ذكر أنه يُروى بإسناد صالح من حديث علي بن الحَكَم، عن عطاء، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) في الأصل: «الربَّال»، وفي (هـ): «الزبال»، وفي مطبوعة «المعجم» لابن المقرئ: «الريالي»؛ كل ذلك تصحيف. وهو حفص بن عمرو بن رَبَال الرباليّ، ثقة مأمون (ت 258). انظر: «تهذيب الكمال» (2/ 231) و «تبصير المنتبه» (2/ 621). (3) برقم (266). (4) منهم أبو الطاهر بن السَّرْح عند ابن حبان (96)، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم عند الحاكم (1/ 102) وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 91)، وأصبغ بن الفرَج عند ابن الجوزي أيضًا، وسحنون بن سعيد عند ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1/ 60)، وإبراهيم بن المنذر الحزامي عند أبي نعيم في «المستخرج على صحيح مسلم» (1/ 41)، وخالد بن خداش عند الطبراني في «الكبير» (قطعة من 13 - 14/ رقم 33)؛ كلهم عن ابن وهب به.

(2/580)


وهبٍ الإمام، عن عبد الله بن عيّاش (1)، عن أبيه، عن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو يرفعه، وهذا إسناد صحيح. وقد ظنَّ أبو الفرج بن الجوزي (2) أن هذا هو ابن وهب النَّسَوي الذي قال فيه ابن حبان (3): «يضع الحديث»، فضعف الحديث به. وهذا من غَلَطاته، بل هو ابن وهب (4) الإمام العَلَم، والدليل عليه: أن الحديث من رواية أصبغ بن الفَرَج، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وغيرهما (5) من أصحاب ابن وهب عنه. والنَّسَوي متأخر، من طبقة يحيى بن صاعد (6). والعجب من أبي الفرج كيف خفي عليه هذا، وقد ساقها من طريق أصبغ وابن عبد الحكم عن ابن وهب؟! وحديث أبي سعيد أخرجه ابن ماجه (7) من حديث محمد بن دابٍ، وهو كذاب. _________ (1) ط. الفقي: «عبد الله بن عباس»، وله وجه، فإنه: عبد الله بن عيّاش بن عبّاس القِتْباني. (2) انظر: «العلل المتناهية» (1/ 98)، وتصحّف في مطبوعته «النسوي» إلى «الفسوي». (3) في «المجروحين» (1/ 537). (4) (هـ): «بل ابن وهب هو». (5) كأبي الطاهر ابن السَّرْح، وسحنون، كما سبق في التخريج. (6) النَّسَوي متأخر عن عبد الله بن وهب المصري (ت 197) بلا ريب، ولكن لم يتبين كونه من طبقة يحيى بن صاعد (ت 317)، بل الذي يظهر بالنظر إلى شيوخه الذين يلزق بهم الموضوعات ــ كما في «المجروحين» ــ أنه من طبقة أحمد (ت 241) وإسحاق (ت 238) وأضرابهما، والله أعلم. (7) برقم (265).

(2/581)


وحديث أنس رواه ابن ماجه (1) أيضًا من حديث الهيثم بن جميل: حدثني عُمَر (2) بن سليم، حدثنا يوسف بن إبراهيم، عن أنس ... فذكره، وإسناده ضعيف (3). وحديث جابر أجود طرقه ما رواه ابن ماجه (4): حدثنا الحسين بن (5) أبي السَّري العسقلاني، حدثنا خلف (6) بن تميم، عن عبد الله بن السري عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا لعن آخِرُ هذه الأمة أولها، فمن كتم حديثًا فقد كتم ما أنزل الله عز وجل»، وهؤلاء ثقات (7). * * * _________ (1) برقم (264). (2) في الأصل و (هـ) والطبعتين: «عمرو»، خطأ. (3) لأن يوسف بن إبراهيم أبا شيبة الجوهري ضعيف منكر الحديث. (4) برقم (263). (5) في الأصل و (هـ) وط. الفقي: «الحسن عن»، تحريف. (6) في الأصل و (هـ) وط. الفقي: «خالد»، تحريف. (7) فيه نظر، فإن الحسين بن أبي السري، وعبد الله بن السري، وإن كان ابن حبان ذكرهما في «الثقات»، لكنّ كليهما متكلَّم فيه، ثم إن عبد الله بن السري لم يُدرك ابن المنكدر، وإنما بينهما ثلاثة رواة أُسقِط ذكرهم من الإسناد، واثنان منهم متروكان، فالحديث ضعيف جدًّا. انظر: «الضعفاء» للعقيلي (3/ 247)، و «الكامل» (4/ 212)، و «تهذيب الكمال» (4/ 145 - 146).

(2/582)


كتاب الأشربة 1 - بابٌ الخمر مما هي؟ (1) 447/ 3529 - عن النعمان بن بَشير، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ مِن العِنَب خمرًا، وإنَّ من التَّمرِ خمرًا، وإنَّ من العَسَل خمرًا، وإن من البُرِّ خمرًا، وإن من الشعير خمرًا». وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (2). وقال الترمذي: غريب. هذا آخر كلامه. وفي إسناده إبراهيم بن المهاجر البجَلي الكوفي، وقد تكلّم فيه غير واحد من الأئمة. 448/ 3530 - وعنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الخمر من العصير، والزبيب، والتمر، والحنطة، والشعير، والذُّرة، وإني أنهاكم عن كل مُسْكِرٍ» (3). في إسناده أبو حريز (4)، عبد الله بن الحسين الأزدي الكوفي قاضي _________ (1) في الأصل: «ما هي»، والمثبت من (هـ)، وهو كذلك في بعض نسخ «السنن»، وفي بعضها و «المختصر» المطبوع والمخطوط: «مما هو». (2) أبو داود (3676)، والترمذي (1872)، والنسائي في «الكبرى» (6756)، وابن ماجه (3379). (3) «سنن أبي داود» (3677)، من طريق أبي حريز، عن عامر الشعبي، عن النعمان. (4) في مطبوعة «المختصر»: «أبو جرير»، تحريف.

(2/583)


سجستان، وثَّقه يحيى بن معين وأبو زرعة الرازي، واستشهد به البخاري، وتكلم فيه غير واحد. وقد أخرج البخاري ومسلم في «الصحيحين» (1) أن عمر - رضي الله عنه - خطب على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إنه قد نزل تحريم الخمر وهي من خمسة أشياء: العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل، والخمر ما خامر العقل» الحديث. 449/ 3531 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الخمرُ مِن هاتين الشجرتين ــ يعني النخلةَ والعِنَبة ــ». وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد أخرجا في «الصحيحين» (3) عن أنس قال: «إن الخمر حُرِّمت، والخمر يومئذ البُسْر والتمر». وفي «صحيح مسلم» (4) عن أنس قال: «لقد أنزل الله الآية التي حرَّم فيها الخمر وما بالمدينة شراب يُشرَب إلا من تمر». وفي «صحيح البخاري» (5) عن أنس قال: «حرمت علينا [الخمر] حين حرمت وما نجد خمر الأعناب إلا قليلًا، وعامّة خَمرنا البُسْر والتمر». _________ (1) البخاري (4619، 5588)، ومسلم (3032). (2) أبو داود (3678)، ومسلم (1985)، والترمذي (1875)، والنسائي (5572، 5573)، وابن ماجه (3378). (3) البخاري (5584) ومسلم (1980/ 3، 7). (4) برقم (1982). (5) برقم (5580)، وما بين الحاصرتين منه.

(2/584)


وفي «صحيح البخاري» (1) أيضًا عن ابن عمر قال: «نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب». وأخرجه مسلم (2) أيضًا. وفي «الصحيحين» (3) أيضًا عن أنس قال: كنت أسقي أبا عبيدة [وأبا طلحة] وأبي بن كعب فَضِيخ زَهْوٍ وتمر، [ق 203] فجاءهم آتٍ، فقال: إن الخمر قد حُرِّمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس فأهرقها. وفي لفظ (4): قال عبد العزيز بن صهيب: قلت لأنس: ما هو؟ قال: بسر ورطب. وفي لفظ في «الصحيحين» (5) عن أنس، وسألوه عن الفضيخ، فقال: ما كان لنا خمر غيرَ فضيخكم هذا الذي تسمونه الفضيخ، إني لقائم أَسقيها أبا طلحة وأبا أيوب ورجالًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتنا إذ جاء رجل فقال: هل بلغكم الخبر؟ فقلنا: لا، فقال: إن الخمر قد حُرِّمت، فقال: يا أنس أرِقْ هذه القلال. قال: فما راجعوها ولا سألوا عنها بعد خبر الرجل. فهذه النصوص الصحيحة الصريحة في دخول هذه الأشربة المُتَّخَذة _________ (1) برقم (4616). (2) إنما أخرج (3032) عنه عن عمر أنه قال في خطبته على المنبر: «أما بعد، ألا وإن الخمر نزل تحريمها يوم نزل وهي من خمسة أشياء ... » الحديث، وقد سبق. (3) البخاري (5582) ومسلم (1980/ 9)، وما بين الحاصرتين مستدرك منهما. (4) البخاري (5583، 5622) ومسلم (1980/ 5)، والسائل فيه سليمان بن طَرْخان التيمي، وأما رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس فهي الآتية. (5) البخاري (4617) ومسلم (1980/ 4) واللفظ له.

(2/585)


من غير العنب في اسم الخمر في اللغة التي نزل بها القرآن وخوطب بها الصحابة= مُغْنيةٌ عن التكلُّف في إثبات تسميتها خمرًا بالقياس مع كثرة النزاع فيه. فإذ قد ثبت تسميتها خمرًا نصًّا، فتناوُلُ لفظ النصوص لها كتناوله لشراب العنب سواء تناولًا واحدًا. فهذه طريقة قريبة منصوصة سهلة، تُريح من كلفة القياس في الاسم، والقياسِ في الحكم. ثم إن محض القياس الجلي يقتضي التسوية بينهما، لأن تحريم قليل شراب العنب مجمَع عليه وإن لم يسكر، وهذا لأن النفوس لا تقتصر على الحد الذي لا يسكر منه، وقليله يدعو إلى كثيره، وهذا المعنى بعينه في سائر الأشربة المسكرة، فالتفريق بينها في ذلك تفريق بين المتماثلات، وهو باطل. فلو لم يكن في المسألة إلا القياس لكان كافيًا في التحريم، فكيف وفيها ما ذكرناه من النصوص التي لا مطعن في سندها ولا اشتباه في معناها، بل هي صحيحة صريحة، وبالله التوفيق. 2 - باب النهي عن المسكر 450/ 3532 - عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كلُّ مُسْكِرٍ خمر، وكل مسكر حرام، ومن مات وهو يشرب الخمر يُدمِنُها لم يشربها في الآخرة». وأخرجه مسلم (1). 451/ 3533 - وعن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل مُخَمَّرٍ خمرٌ، وكل مسكر حرام، ومن شرب مُسكرًا بُخِسَت صلاتُه أربعين صباحًا، فإن تاب _________ (1) أبو داود (3679)، ومسلم (2003).

(2/586)


تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقًّا على الله أن يَسْقَيه من طِينة الخَبال». قيل: وما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال: «صديدُ أهل النار، ومَنْ سقاه صغيرًا لا يَعرِف حلالَه من حرامِه كان حقًّا على الله أن يَسقيه من طينة الخبال» (1). 452/ 3534 - وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أسكر كثيرُه فقليله حرام». وأخرجه ابن ماجه والترمذي (2)، وقال: حسن غريب من حديث جابر. هذا آخر كلامه. وفي إسناده: داود بن بكر بن أبي الفُرات الأشجعي مولاهم المدني، سُئل عنه يحيى بن معين؟ فقال: ثقة، وقال أبو حاتم الرازي: لا بأس به ليس بالمتين (3). آخر كلامه. وقد روي هذا الحديث من رواية علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وابن عمرو، وعائشة، وخوّات بن جبير. وحديث سعد بن أبي وقاص أجودها إسنادًا، فإن النسائي رواه في «سننه» (4) عن محمد بن عبد الله بن عمّار الموصلي (وهو أحد الثقات)، عن الوليد بن كثير _________ (1) «سنن أبي داود» (3680)، وفي إسناده راوٍ مجهول، وقال أبو أزرعة: هذا حديث منكر. انظر: «العلل» (1587). (2) أبو داود (3681)، وابن ماجه (3393)، والترمذي (1865)، كلهم من طريق داود بن بكر بن أبي الفرات، عن ابن المنكدر، عن جابر. (3) انظر القولين في «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (3/ 408). (4) «الكبرى» (5099) و «المجتبى» (5609)، ولفظه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قليلِ ما أسكر كثيرُه.

(2/587)


(وهو قد احتج به الشيخان)، عن الضحاك بن عثمان (احتج به مسلم)، عن بكير بن عبد الله بن الأشجّ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص (وقد احتج بهما الشيخان). وقال البزّار (1): وهذا الحديث لا نعلمه يُروى عن سعد إلا مِن هذا الوجه. ورواه عن الضحّاك وأسنده جماعة، منهم الدراوردي والوليد بن كثير، ومحمد بن جعفر بن أبي كثير المدني. آخر كلامه. وتابع محمدَ بن عبد الله بن عمّار عليه أبو سعيد الأشجّ، متفق على الاحتجاج به (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: وحديث ابن عمر رواه أحمد في «مسنده»، وابن ماجه، وصححه الدارقطني (3). وحديث عبد الله بن عمرو رواه أحمد والنسائي (4) من حديث _________ (1) عقب إخراجه الحديث في «مسنده» (1099) عن عبد الله بن سعيد الأشج، عن الوليد بن كثير به. (2) كلام المنذري على أحاديث الباب مثبت من (هـ)، وفيه تصرّف واختصار من المؤلف عمّا في «المختصر» (5/ 265 - 267). (3) أحمد (5648)، وابن ماجه (3392)، وكذلك أخرجه البزار (6068 - 6070)، والبيهقي (8/ 296)، من طرق يشد بعضها بعضًا. وقد روي موقوفًا على ابن عمر بإسناد صحيح عند النسائي في «الكبرى» (5188). وقد صحح الدارقطني المرفوع في «السنن» عقب الحديث (4694)، ولكنه أعله في «العلل» (2972، 3010)، وقال: إن المحفوظ عن ابن عمر مرفوعًا: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام»، وهو لفظ مسلم وغيره، وقد سبق في أول الباب. (4) أحمد (6558، 6674)، والنسائي (5607)، وأخرجه أيضًا ابن ماجه (3394)، والدارقطني (4655)، من طرق عن عمرو بن شعيب به.

(2/588)


عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ولا يصح حمل هذه الأحاديث على القليل من القدر المسكر، لأن صريح الحديث يرده لقوله في حديث عائشة: «ما أسكر الفَرَق منه فمِلء الكف منه حرام» (1)، فهذا صريح في أن الشراب إذا كان إنما يُسكَر منه بالفرق، فملء الكف منه حرام مع أنه لا يحصل به سُكر، وهذا مراد الأحاديث؛ فإن الإسكار إنما يحصل بالمجموع من الشراب الذي يقع به السُّكر، ومن ظن أنه إنما يقع بالشَّرْبة الأخيرة فقد غلط، فإن الشربة الأخيرة إنما أثرت في السكر بانضمامها إلى ما قبلها، ولو انفردت لم تؤثر، فهي كاللقمة الأخيرة في الشِّبَع، والمصَّة الأخيرة في الرِّيّ، وغير ذلك من المسبَّبات التي تحصل عند كمال سببها بالتدريج شيئًا فشيئًا. فإذا كان السكر يحصل بقدر معلوم من الشراب كان أقلُّ ما يقع عليه الاسم منه حرامًا، لأنه قليل من الكثير المسكر، مع القطع بأنه لا يسكر وحده، وهذا في غاية الوضوح. 453/ 3535 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سُئل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن البِتْع؟ فقال: «كلُّ شرابٍ أسكرَ حرامٌ». وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (2). 454/ 3536 - وفي رواية: والبِتْع: نبيذ العسل، كان أهل اليمن يشربونه. _________ (1) سيأتي في أحاديث الباب، فانظر تخريجه هناك. (2) أبو داود (3682)، والبخاري (5585، 5586)، ومسلم (2001)، والترمذي (1863)، والنسائي (5592 - 5594)، وابن ماجه (3386).

(2/589)


455/ 3537 - وعن دَيْلَم الحِمْيَري، قال: سألت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسولَ الله، إنَّا بأرضٍ باردةٍ، نُعالِج فيها عملًا شديدًا، وإنا نتَّخِذ شرابًا من هذا القمح نتقوَّى به على أعمالنا، وعلى برد بلادنا. قال: «هل يُسْكِر؟» قلت: نعم، قال: «فاجتنبوه»، قال: قلت: فإن الناس غيرُ تاركيه، قال: «فإن لم يتركوه فقاتِلوهم» (1). 456/ 3538 - وعن عاصم بن كُلَيب، عن أبي بردة، عن أبي موسى ــ وهو الأشعري ــ قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شراب من العسل، فقال: «ذاك البِتْعُ». قلت: وينتبذون من الشعير والذُّرة؟ فقال: «ذاك المِزْرُ». ثم قال: «أخبر قومَك أنَّ كلَّ مسكرٍ حرام» (2). وقد أخرجه البخاري ومسلم (3) بنحوه من حديث سعيد بن أبي بردة عن أبيه. 457/ 3539 - وعن الوليد بن عَبَدة، عن عبد الله بن عمر (4): أن نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخمر والمَيسِر، والكُوبة، والغُبَيراء، وقال: «كلُّ مسكر حرام» (5). الوليد بن عبدة: بالعين المهملة المفتوحة، وبعدها باء بواحدة مفتوحة أيضًا. _________ (1) «سنن أبي داود» (3683)، وأخرجه أحمد (18034)، والبيهقي (8/ 292)، من طرق عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد اليَزَني، عن ديلم. (2) «سنن أبي داود» (3684). (3) البخاري (4343، 4344، 6124)، ومسلم (1733). (4) كذا في «المختصر»، وفي «السنن» برواية اللؤلؤي، والصواب: «عبد الله بن عمرو»، كما سيأتي. (5) «سنن أبي داود» (3685).

(2/590)


قال أبو حاتم (1): هو مجهول. وقال ابن يونس في «تاريخ المصريين»: وليد بن عبدة مولى عمرو بن العاص، روى عنه يزيد بن أبي حبيب، والحديث معلول، ويقال: عمرو بن الوليد بن عبدة. وذكر له هذا الحديث، وذكر أن وفاته سنة مائة. وهكذا وقع في رواية الهاشمي (2): «عبد الله بن عمر»، والذي وقع في رواية ابن العبد عن أبي داود: «عبد الله بن عمرو»، وهو الصواب (3). 458/ 3540 - وعن شَهْر بن حَوشَب، عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلِّ مُسكر ومُفَتِّرٍ (4). 459/ 3541 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفَرَقُ فَمِلءُ الكَفِّ منه حرام». وأخرجه الترمذي (5) وحسّنه. ورواته كلهم محتج بهم في «الصحيحين»، سوى أبي عثمان عمرو ــ ويقال: عمر ــ بن سالم الأنصاري المدني، مشهور ولي القضاء بمَرْوٍ، ورأى ابن عمر وابن عباس، وسمع من القاسم بن محمد، وعنه روى هذا الحديث، روى عنه _________ (1) «الجرح والتعديل» (9/ 11). (2) للسنن عن أبي علي اللؤلؤي عن أبي داود. وهو القاضي القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي العبّاسي (ت 414)، روى «السنن» عن أبي علي اللؤلؤي، وعنه رواه الخطيب البغدادي. انظر: «تاريخ بغداد» (14/ 462). ونسخة المنذري للسنن هي من طريق الخطيب عنه. (3) انظر: «تحفة الأشراف» (6/ 386 - 387). (4) «سنن أبي داود» (3686). (5) أبو داود (3687)، والترمذي (1866)، من طريق أبي عثمان الأنصاري، عن القاسم بن محمد، عن عائشة.

(2/591)


غير واحد. قال المنذري: ولم أر لأحدٍ فيه كلامًا (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي «صحيح مسلم» (2) عن جابر أن رجلًا قدم من جَيْشان ــ وجَيْشان من اليمن ــ فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شراب يشربونه بأرضهم من الذُّرَة يقال له المِزْر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَوَ مسكر هو؟»، قال: نعم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل مسكر حرام، إن على الله عهدًا لمن يشرب المسكرَ أن يَسقيه مِن طِينة الخَبال». قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: «عَرَق أهل النار» أو «عُصارة أهل النار». وفي «مسند الإمام أحمد» (3) عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل مسكر حرام». ورواه النسائي والترمذي وابن ماجه (4)، وقال الترمذي: صحيح. وفي «سنن ابن ماجه» (5) عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كل _________ (1) الكلام على الحديث مثبت من (هـ)، وفيه تصرّف يسير من المؤلف عمّا في «المختصر» (5/ 269 - 270). وإنما صرّح المؤلف بذكر المنذري في آخر جملة منه لئلا ينسب استقراءه إلى نفسه. (2) برقم (2002). (3) برقم (9539). (4) النسائي (5588)، والترمذي معلقًا عقب الحديث (1864)، وابن ماجه (3401)، وأخرجه أيضًا ابن حبان في «صحيحه» (5408). (5) برقم (3388) عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن ابن جريج، عن أيوب بن هانئ، عن مسروق، عن ابن مسعود. إسناده حسن، وقد أخرجه ابن حبان (5409)، والحاكم (1/ 375)، من طريقين آخرين عن ابن وهب به.

(2/592)


مسكر حرام». قال ابن ماجه: «هذا حديث المصريين». رواه من حديث أيوب بن هانئ عن مسروق عنه. وفي «سنن ابن ماجه» (1) أيضًا عن يعلى بن شداد بن أوس قال: سمعت معاوية يقول: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كل مسكر حرام على كل مؤمن» قال ابن ماجه: وهذا حديث الرَّقِّيِّين (2). 3 - باب في الداذيّ (3) 460/ 3542 - عن مالك بن أبي مريم، قال: دخل علينا عبد الرحمن بن غَنْم فتذاكرنا الطِّلاء، فقال: حدثني أبو مالك الأشعري: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لَيشربَنَّ ناسٌ مِن أمتي الخمرَ، يُسمُّونها بغير اسمها». وأخرجه ابن ماجه (4). _________ (1) برقم (3389)، وأخرجه أيضًا ابن حبان (5374)، كلاهما من طريق عليّ بن ميمون الرقِّي، عن خالد بن حيّان الرقِّي، عن سليمان بن عبد الله بن الزِّبْرِقان، عن يعلى بن شداد بن أوس به. والإسناد حسن في الشواهد والمتابعات. (2) ط. الفقي: «العراقيين»، تحريف. (3) نوع من الخمر، فارسي معرّب على صيغة المنسوب وليس بنسب. (4) أبو داود (3688)، وابن ماجه (4020)، وأخرجه أيضًا ابن حبان (6758)؛ كلهم من طريق حاتم بن حُريث عن مالك بن أبي مريم به. ومالك مجهول، وقد خالفه عطية بن قيس الكلاعي فروى هذا الحديث عن عبد الرحمن بن غنم ــ كما سيأتي في رواية البخاري ــ بلفظ: «يستحلون الخمر»، على أن لهذا اللفظ: «يسمونها بغير اسمها» شواهد حسان، وسيأتي بعضها.

(2/593)


قال ابن القيم - رحمه الله -: ولفظه (1): «ليشربنّ ناس من أمتي الخمر يسمّونها بغير اسمها، يُعزَف على رؤوسهم بالمعازف والمُغَنّيات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير». [وفي إسناد حديث أبي داود وابن ماجه: حاتم بن حريث الطائي الحمصي. سئل عنه أبو حاتم الرازي فقال: شيخ، وقال يحيى بن معين: لا أعرفه (2)] (3). وقد أخرج ابن ماجه (4) أيضًا من حديث ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أبي أمامة يرفعه: «لا تذهب الليالي والأيام حتى تشرب طائفة من أمتي الخمر، يسمّونها بغير اسمها». وأخرجه أيضًا (5) من حديث ابن مُحَيرِيز عن ثابت بن السِّمْط عن عبادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. _________ (1) أي لفظ ابن ماجه. (2) قولهما في «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (3/ 257). وقد وثقه عثمان بن سعيد الدارمي، وقال ابن عدي: لعِزَّة حديثه لم يعرفه ابن معين، وأرجو أنه لا بأس به. انظر: «الكامل» (2/ 439). (3) ما بين الحاصرتين من (هـ)، ولعل المجرّد لم ينقله لأنه مما أفاده المؤلف من كلام المنذري. (4) برقم (3384)، وفي إسناده عبد السلام بن عبد القدوس الكلاعي، وهو ضعيف يروي المناكير عن ثور بن يزيد وغيره. انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (1571). (5) برقم (3385) من طريق بلال بن يحيى العبسي، عن أبي بكر بن حفص، عن ابن محيريز به. رجاله موثقون، إلا أن بلالًا خولف في إسناده، خالفه شعبة فرواه عن أبي بكر بن حفص، عن ابن محيريز، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أخرجه أحمد (18073) والنسائي (5658)، وهو أصحّ.

(2/594)


وقال البخاري في «صحيحه» (1): باب ما جاء فيمن [ق 204] يستحلُّ الخمر ويسميه بغير اسمه. وقال هشام بن عمار: حدثنا صدَقة بن خالد، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا عطية بن قَيس الكَلاعي، قال حدثني عبد الرحمن بن غَنْم الأشعري، قال حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري ــ والله ما كذبني ــ سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليكوننّ من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف، ولينزلنّ أقوام إلى جَنْبِ عَلَم يروح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم لحاجة (2) فيقولون: ارجع إلينا غدًا، فيبيّتهم الله ويضع العَلَم، ويمسخ آخرين قردةً وخنازيرَ إلى يوم القيامة». وقد طعن ابن حزم (3) وغيره في هذا الحديث، وقالوا: لا يصح، لأنه منقطع لم يذكر البخاري من حدّثه به، وإنما قال: «وقال هشام بن عمار». وهذا القدح باطل من وجوه: أحدها: أن البخاري قد لقي هشام بن عمار وسمع منه، فإذا روى عنه معنعنًا حُمِل على الاتصال اتفاقًا لحصول المعاصرة والسماع، فإذا قال: «قال هشام» لم يكن فَرْق بينه وبين قوله: «عن هشام» أصلًا. الثاني: أن الثقات الأثبات قد رووه عن هشام موصولًا، قال الإسماعيلي _________ (1) في كتاب الأشربة، والحديث فيه برقم (5590). (2) كذا بحذف الفاعل في رواية أبي ذر الهروي للصحيح، وفي بعض الروايات الأخرى: «يأتيهم ــ يعني الفقير ــ لحاجة». انظر: الطبعة السلطانية (7/ 106)، و «إرشاد الساري» للقسطلاني (8/ 318). (3) انظر: «المحلّى» (9/ 59).

(2/595)


في «صحيحه» (1): أخبرني الحسن، حدثنا هشام بن عمار بإسناده ومتنه. والحسن هو ابن سفيان. الثالث: أنه قد صح من غير حديث هشام، قال الإسماعيلي في «الصحيح» (2): حدثنا الحسن، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، حدثنا بِشْر، حدثنا ابن جابر، عن عطية بن قيس قال: قام ربيعة الجُرَشي في الناس فذكر حديثًا فيه طول، قال: فإذا عبد الرحمن بن غنم، فقال: يمينًا حلفت عليها حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري، واللهِ يمينًا أخرى، حدثني أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليكوننَّ في أمتي قوم يستحلون الخمر ... » ــ في حديث هشام: «الخمر والحرير»، وفي حديث دُحَيم: «الخزَّ والحرير والخمر والمعازف» ــ فذكر الحديث. ورواه عثمان بن أبي شيبة: حدثنا زيد بن الحُباب، قال: أخبرني معاوية بن صالح، حدثني حاتم بن حُرَيث، عن مالك بن أبي مريم قال: تذاكرنا الطِّلَاء (3) فدخل علينا عبد الرحمن بن غنم فقال: حدثني أبو مالك الأشعري أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ــ فذكر الحديث بلفظه ــ (4). الرابع: أن البخاري لو لم يلق هشامًا ولم يسمع منه فإدخاله هذا الحديث في «صحيحه» وجزمُه به يدل على أنه ثابت عنده عن هشام، فلم _________ (1) ومن طريقه أخرجه البيهقي (3/ 272). (2) ومن طريقه أخرجه البيهقي (3/ 272). (3) في الأصل وط. الفقي: «الطلاق»، تحريف. (4) أخرجه ابن حبان (6758) من طريق عثمان بن أبي شيبة به، ولفظ المرفوع فيه بنحو لفظ ابن ماجه الذي ساقه المؤلف في مطلع تعليقه.

(2/596)


يذكر الواسطة بينه وبينه، إما لشهرتهم وإما لكثرتهم، فهو معروف مشهور عن هشام، تغني شهرته به عن ذكر الواسطة. الخامس: أن البخاري له عادة في (1) «صحيحه» في تعليقه، وهي جزمه (2) بإضافته الحديث إلى من علّقه (3) عنه إذا كان صحيحًا عنده، فيقول: «وقال فلان» و «قال رسول الله»، وإن كان فيه علةٌ قال: «ويذكر عن فلان» أو «ويذكر عن رسول الله»، ومن استقرى كتابه علم ذلك. وهنا قد جزم بإضافة الحديث إلى هشام، فهو صحيح عنده. السادس: أنه قد ذكره محتجًّا به مُدخلًا له في كتابه «الصحيح» أصلًا لا استشهادًا، فالحديث صحيح بلا ريب. 4 - باب في الشرب قائمًا 461/ 3571 - عن أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يَشرب الرجلُ قائمًا. وأخرجه مسلم (4) وزاد: قال قتادة: فقلنا: فالأكل؟ فقال: «ذلك أشر وأخبث». هذا من قول أنس (5). 462/ 3572 - وعن النَّزَّال بن سَبْرة أن عليًّا دعا بماءٍ فشربه وهو قائم، ثم _________ (1) «في» من (هـ)، وسقطت من الأصل فصارت العبارة في الطبعتين: «عادة صحيحة». (2) في الطبعتين: «حرصه»، تحريف. (3) ط. المعارف: «عقله»، تصحيف. (4) أبو داود (3717)، ومسلم (2024). (5) نصّ التخريج مثبت من (هـ)، وقد تصرّف فيه المؤلف عمّا في «المختصر» بحذف ذكر الترمذي وابن ماجه وزيادة قول أنس من «صحيح مسلم».

(2/597)


قال: إن رجالًا يكره أَحَدُهم أن يفعل هذا، وقد رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل مثل ما رأيتموني أفعله. وأخرجه البخاري (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد خرَّج مسلم في «صحيحه» (2) عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زجر عن الشرب قائمًا. وفيه أيضًا (3) عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يشربَنَّ أحدٌ منكم قائمًا، فمن نسي فليَستَقِئ». وفي «الصحيحين» (4) عن ابن عباس قال: سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زمزم، فشرب وهو قائم. وفي لفظ آخر (5): فحلف عكرمة: ما كان يومئذ إلا على بعير. فاختُلف في هذه الأحاديث، فقوم سلكوا بها مسلك النسخ وقالوا: آخِر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشرب قائمًا، كما شرب في حجة الوداع. وقالت طائفة: في ثبوت النسخ بذلك نظر، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعله شرب _________ (1) أبو داود (3718)، والبخاري (5615). (2) برقم (2025). (3) برقم (2026). وأخرجه أحمد (7809) ــ ومن طريقه ابن حبان (5324) ــ بلفظ: «لو يعلم الذي يشرب وهو قائم ما في بطنه لاستقاءَه»، وإسناده أصح من إسناد مسلم. وانظر: «السلسلة الضعيفة» (927)، و «الصحيحة» (175 - 177). (4) البخاري (1637) ومسلم (2027). (5) عند البخاري (1637) عقب حديث ابن عباس السابق.

(2/598)


قائمًا لعذر، وقد حلف عكرمة: أنه كان حينئذ راكبًا، وحديث علي قصَّة عَين، فلا عموم لها. وقد روى الترمذي (1) عن عبد الرحمن بن أبي عمرة (2) عن جدَّته كبشة قالت: دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي البيت قِربة معلَّقة فشرب قائمًا، فقمتُ إلى فيها فقطعتُه (3). وقال الترمذي: حديث صحيح. وأخرجه ابن ماجه. وروى أحمد في «مسنده» (4) عن أم سُلَيم قالت: دخل (5) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي البيت قِربة معلقة، فشرب منها وهو قائم، فقطعتُ فاها، فإنه لعندي. فدلّت هذه الوقائع على أن الشرب منها قائمًا كان لحاجة، لكون القربة معلقةً، وكذلك شربه من زمزم أيضًا لعله لم يتمكن من القعود لضيق الموضع أو لزحام وغيرها. وبالجملة فالنسخ لا يثبت بمثل ذلك. وأما حديث ابن عمر: كنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[نأكل] (6) ونحن _________ (1) برقم (1892)، وابن ماجه (3422). قال الترمذي: «حسن صحيح غريب»، وصححه ابن حبان (5318). (2) في الأصل: «عمر»، تصحيف. (3) زاد في رواية ابن ماجه: «تبتغي بركة موضعِ فيْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». (4) برقم (27430) من حديث البراء بن زيد ابن بنت أنس، عن أنس، عن أم سليم. في إسناده ضعف لجهالة حال البراء بن زيد، لكنه توبع، تابعه أبو عصام البصري عن أنس، كما عند الضياء في «المختارة» (7/ 295). (5) في الطبعتين: «دخل عليّ» خلافًا للأصل وللمسند. (6) سقط من الأصل و (هـ)، واستدركه ناسخ الأصل في الهامش مصدّرًا بـ «لعله».

(2/599)


نمشي، ونشرب ونحن قيام»، رواه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي (1) وصححه= فلا يدل أيضًا على النسخ إلا بعد ثلاثة أمور: مقاومته لأحاديث النهي في الصحة، وبلوغ ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وتأخره عن أحاديث النهي. وبعد ذلك فهو حكاية فعلٍ لا عموم لها، فإثبات النسخ في هذا عسير، والله أعلم. * * * _________ (1) أحمد (5874)، وابن ماجه (3301)، والترمذي (1880)، كلهم من طريق حفص بن غياث، عن عبيد الله العمري، عن نافع، عن ابن عمر. قال الترمذي: «حسن صحيح غريب من حديث عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر». ظاهر الإسناد على رسم مسلم، ولكن أعله الأئمة النقاد: أحمد وابن معين وابن المديني والبخاري، فقالوا: وهم فيه حفص، والصواب في إسناده أنه من حديث عمران بن حُدير، عن يزيد بن عُطارِد، عن ابن عمر. ومن هذا الوجه أخرجه أحمد (4601)، والدارمي (2171)، وابن حبان (5243). وإسناده ضعيف، فإن يزيد بن عطارد مجهول لم يروِ عنه غير عمران، وقال أبو حاتم: ليس ممن يُحتجّ بحديثه. انظر: «التاريخ الكبير» للبخاري (1/ 165)، و «العلل الكبير» للترمذي (ص 311)، و «الجرح والتعديل» (9/ 281 - 282)، و «تاريخ بغداد» (9/ 76 - 77).

(2/600)


 كتاب الأطعمة

1 - باب غسل اليدين عند الطعام 463/ 3613 - عن عبد الله بن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج مِن الخلاء فقُدِّم إليه طعام، فقالوا: ألا نأتيك بوَضُوءٍ؟ فقال: إنَّما أُمِرتُ بالوُضوء إذا قمتُ إلى الصلاة». وأخرجه النسائي والترمذي (1) وحسّنه. 464/ 3614 - عن سلمان، قال: قرأتُ في التوراة: أن بَركة الطعام الوُضوءُ قبله، فذكرتُ ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «بركة الطعام الوضوءُ قبله والوضوء بعده». وأخرجه الترمذي (2)، وقال: لا نعرفه إلا من حديث قيس بن الربيع، وهو يُضعَّف في الحديث (3). _________ (1) أبو داود (3760)، والنسائي (132)، والترمذي (1847)، وأخرجه أيضًا ابن خزيمة (35)، كلهم من طريق أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس. وأخرجه مسلم (374) من حديث عمرو بن دينار، عن سعيد بن الحويرث، عن ابن عباس بنحوه. (2) أبو داود (3761)، والترمذي (1846) من طريق قيس بن الربيع، عن أبي هاشم الرماني، عن زاذان، عن سلمان. قال أبو داود: هو ضعيف، وسيأتي تضعيف أحمد له، وقال أبو حاتم: منكر، وقال البيهقي: قيس بن الربيع غير قوي، ولم يثبت في غسل اليد قبل الطعام حديث. انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (1502)، و «السنن الكبرى» (7/ 276). (3) تخريج الحديثين من (هـ)، وفيه اختصار من المؤلف عمّا في «المختصر».

(2/601)


قال ابن القيم - رحمه الله -: في هذه المسألة قولان لأهل العلم، أحدهما: يستحب [ق 205] غسل اليدين قبل الطعام، والثاني: لا يستحب. وهما في مذهب أحمد وغيره (1). والصحيح: أنه لا يستحب. وقال النسائي في كتابه «الكبير» (2): «باب ترك غَسل اليدين قبل الطعام»، ثم ذكر من حديث ابن جريج عن سعيد بن الحويرث عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبرَّز ثم خرج فطعِم ولم يمَسَّ ماء. وإسناده صحيح (3). ثم قال (4): «باب غَسل الجُنُب يده إذا طعم»، وساق من حديث الزهري عن أبي سلمة عن عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة، وإذا أراد أن يأكل غسل يديه. وهذا التبويب والتفصيل في المسألة هو الصواب. وقال الخلال في «الجامع» (5): عن مهنا قال: سألت أحمد عن حديث قيس بن الربيع عن أبي هاشم عن زاذان عن سلمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بركة _________ (1) انظر: «الإنصاف» (21/ 357). وروى أشهب عن مالك أنه كرهه. انظر: «النوادر والزيادات» (1/ 140). (2) «السنن الكبرى» ترجمةً للحديث (6703). (3) وقد أخرجه مسلم (374/ 11) أيضًا من هذا الوجه. (4) «السنن الكبرى» ترجمةً للحديث (6704)، وإسناده على رسم الشيخين، وقد أخرجه ابن حبان في «صحيحه» (1218). (5) أكثره في عداد المفقود، والنقول الآتية قد أودعها ابن قدامة في «المغني» (13/ 354 - 355) باختلاف يسير.

(2/602)


الطعام الوضوء قبله وبعده»، فقال لي أبو عبد الله: هو منكر، فقلتُ: ما حدّث بهذا إلا قيس بن الربيع؟ قال: لا. وسألتُ يحيى بن معين وذكرت له حديث قيس بن الربيع عن أبي هاشم عن زاذان عن سلمان ــ الحديث، فقال لي يحيى بن معين: ما أَحسنَ الوضوءَ قبل الطعام وبعده! قلت له: بلغني عن سفيان الثوري أنه كان يكره الوضوء قبل الطعام. قال مهنا: سألتُ أحمد، قلت: بلغني عن يحيى بن سعيد أنه قال: كان سفيان يكره غَسل اليد عند الطعام، قلت: لِمَ كره سفيان ذلك؟ قال: لأنه من زِيّ العجم، وضعّف أحمد حديث قيس بن الربيع. قال الخلال: وأخبرنا أبو بكر المَرُّوذي قال: رأيت أبا عبد الله يغسل يديه قبل الطعام وبعده وإن كان على وضوء. 2 - باب في أكل لحوم الحمر الأهلية 465/ 3661 - عن رجل عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أن نأكلَ لحوم الحُمر، وأمرنا أن نأكل لحومَ الخيل. قال عمرو ــ وهو ابن دينار ــ: فأخبرت هذا الخبرَ أبا الشَّعثاء، فقال: قد كان الحَكَمُ الغِفاريُّ فينا يقول هذا، وأبى ذلك البحْرُ ــ يريد ابنَ عباس ــ (1). وأخرجه البخاري (2) من حديث عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء، وليس فيه: _________ (1) «سنن أبي داود» (3808)، وهو متفق عليه من حديث جابر، وسيأتي تخريجه. (2) أي حديث الحكَم الغفاري، وهو في «صحيحه» برقم (5529). وأما حديث جابر ففي «الصحيحين»، وقد سبق أن عزاه المنذري إليهما عند وروده في «باب في أكل لحوم الخيل» برقم (3640) من «المختصر».

(2/603)


«عن رجل». 466/ 3662 - وعن غالب بن أَبجَرَ قال: أصابتنا سَنَةٌ، فلم يكن في مالي شيء أُطْعِمُ أهلي إلا شيء من حُمُرٍ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حَرَّم لحوم الحمر الأهلية، فأتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، أصابتنا السَّنة، ولم يكن في مالي ما أُطعم أهلي إلا سِمَانُ حُمُرٍ، وإنك حَرَّمتَ لحوم الحمر الأهلية، فقال: «أَطعِمْ أهلَك من سَمين حمرك، فإنما حرمتُها من أجل جَوَالِّ (1) القرية» (2). اختلف في إسناده اختلافًا كثيرًا. وقد ثبت التحريم من حديث جابر. وذكر البيهقي (3) أن إسناد حديث ابن أبجر مضطرب. 467/ 3664 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبرَ عن لحوم الحمر الأهلية، وعن الجلَّالةِ عن ركوبها وأكلِ لحمها». وأخرجه النسائي (4). قال ابن القيم - رحمه الله -: أحاديث النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية رواها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب، وجابر بن عبد الله، والبراء بن عازب، وابن أبي أوفى، وأنس بن مالك، والعرباض بن سارية، وأبو ثعلبة الخشني، وعبد الله بن عمر، وأبو سعيد الخدري، وسلمة بن الأكوع، والحكم بن عمرو الغفاري، والمقدام بن معديْكَرِب، وأبو أمامة الباهلي، وعبد الله بن _________ (1) جمع جالَّة، وهي التي تأكل الجِلّة وهي العذرة، كالجلّالة. انظر: «النهاية» (جلل). (2) «سنن أبي داود» (3809) (3) «معرفة السنن» (14/ 104). (4) أبو داود (3811) والنسائي (4447).

(2/604)


عباس، وثابت بن وديعة، وأبو سَلِيط (1) البدري، وعبد الله بن عمرو، وزاهر الأسلمي، وأبو هريرة، وخالد بن الوليد. فأما حديث علي، فمتفق عليه (2) من حديث الزهري عن الحسن بن محمد بن الحنفية، عن أبيه، عن علي. وأما حديث جابر، فمتفق عليه أيضًا (3) من رواية عمرو بن دينار عن محمد بن علي بن الحسين عن جابر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل. وهو لمسلم أيضًا (4) من رواية أبي الزبير عنه. وأما حديث البراء بن عازب، فمتفق عليه أيضًا (5) من طريق شعبة عن عدي بن ثابت عن البراء: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأصبنا حُمُرًا فطبخناها، فأمر مناديًا ينادي أن: «أَكفِئُوا القدور». وأما حديث ابن أبي أوفى، فمتفق عليه أيضًا (6) من حديث سليمان الشيباني عنه: أصابتنا مجاعة ليالي خيبرَ، فلما كان يومُ خيبر وقعنا في لحوم الحمر الأهلية فانتحرناها، فلما غلت بها القدور نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: _________ (1) في الأصل و (هـ) وط. الفقي: «أبو سليك» تصحيف، والتصحيح من مصادر التخريج، وهو معروف بكنيته، واختلف في اسمه، انظر: «الإصابة» (12/ 319). (2) البخاري (5115) ومسلم (1407). (3) البخاري (4219) ومسلم (1941/ 36). (4) (1491/ 37). (5) البخاري (4221) ومسلم (1938/ 28). (6) البخاري (3155) ومسلم (1937).

(2/605)


«أَكفِئوا القدورَ، ولا تأكلوا من لحوم (1) الحمر شيئًا». وعند النسائي (2) فيه: فأتانا منادي النبي - صلى الله عليه وسلم -،فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حرَّم لحوم الحمر، فأكفئوا القدور بما فيها، فكفأناها (3). وأما حديث أنس، فمتفق عليه أيضًا (4) من رواية محمد بن سيرين عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه جاءٍ فقال: أُكِلَت الحمر، ثم جاءه جاءٍ فقال: أُفنِيت الحمر، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا فنادى: «إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها ركس» (5)، فأُكفِئت القدورُ وإنها لتفور باللحم. وفي مسلم (6): «إنها رجس من عمل الشيطان». قلت: وكان المنادي أبا طلحة الأنصاري، قاله يزيد بن زُرَيع عن هشام (7). وأما حديث العرباض بن سارية، فرواه الترمذي (8) من حديث أم حبيبة _________ (1) الأصل: «لحم»، والمثبت من (هـ) موافق للفظ الشيخين. (2) «المجتبى» (4339) و «الكبرى» (4832). (3) كذا في الأصل من الثُلاثي (كفأ)، وفي «السنن» المطبوعة: «فأكفأناها» من الرباعي، وهما بمعنى. (4) البخاري (5528) ومسلم (1940). (5) كذا في الأصل، ولفظ «الصحيحين» وغيرهما: «رِجْس». (6) (1940/ 34). (7) أخرجه مسلم (1940/ 35). (8) برقم (1474)، وإسناده صحيح إلى أم حبيبة بنت العرباض، وهي فيها جهالة حال لا تضرّ لما للحديث من الشواهد الكثيرة.

(2/606)


بنت العرباض عن أبيها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى يوم خيبر عن كل ذي نابٍ من السباع، وعن كل ذي مِخْلَب من الطير، وعن لحوم الحمر الأهلية، وعن المُجَثَّمة (1). وأما حديث أبي ثعلبة الخشني، فمتفق عليه من حديث الزهري عن أبي إدريس الخولاني عنه قال: «حرَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحم الحمر، ولحم كل ذي ناب من السباع». لفظ البخاري (2). ولفظ مسلم (3): «حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحوم الحمر الأهلية». ورواه النسائي (4) من حديث بقية عن بَحِير (5) بن سعد، عن خالد بن معدان، عن جبير بن نُفير، عن أبي ثعلبة: أنهم غزوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر والناس جِياع، فوجدوا فيها حمرًا من حمر الإنس فذبح الناس منها، فحُدِّث بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر عبدَ الرحمن بن عوف فأذّن في الناس: «ألا إن _________ (1) سئل عنه أبو عاصم النبيل ــ والحديث مروي من طريقه ــ فقال: «أن يُنصب الطير أو الشيء فيُرمَى». (2) ليس هذا لفظ البخاري، وإنما أخرجه بهذا اللفظ البيهقي في «الكبرى» (9/ 331). وأما البخاري فأخرج أوله (5527) بمثل لفظ مسلم الآتي سواء، وأخرج آخره (5527 معلَّقًا، و 5530، 5580، 5581 مسندًا) بلفظ: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وفي لفظ: السَّبُع. وهو عند مسلم أيضًا (1932). (3) برقم (1936). (4) «المجتبى» (4341) و «الكبرى» (4834، 6613). (5) في الأصل تحرّف إلى «يحيى». وفي ط. الفقي: «بُحَير بن سعيد» بضبط اسمه في الهامش بضم الباء وفتح الحاء، وهو تحريف لاسمه واسم أبيه. انظر: «الإكمال» لابن ماكولا (1/ 196 - 197)، و «تبصير المنتبه بتحرير المشتبه» للحافظ (1/ 60).

(2/607)


لحوم الحُمُرِ الإنسِ (1) لا تحِلُّ لمن يشهد أني رسول الله». وأما حديث عبد الله بن عمر، فمتفق عليه (2) من حديث نافع وسالم عنه: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لحوم الحمر الأهلية. زاد مسلم (3): يوم خيبر. وأما حديث أبي سعيد الخدري، فرواه عثمان بن سعيد الدارمي (4): حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا ابن المبارك، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، حدثني أبو الوداك، حدثني أبو سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله [ق 206] عليه وسلم مر بالقدور وهي تغلي، فقال: «ما هذا اللحم؟»، فقالوا: لحوم الحمر الأهلية، فقال: «أو وحشية؟»، قلنا: بل أهلية، فقال لنا: «أكْفِئوها» فكفأناها وإنّا لجِياع نشتهيها. احتج البخاري بنعيم بن حماد، ومسلم بأبي الودّاك جَبْر بن نَوف، فالإسناد صحيح. وأما حديث سلمة بن الأكوع، فرواه البخاري (5) ــ وهو من ثُلاثياته ــ: _________ (1) هكذا في الأصل، وهو لفظ النسائي. وفي الطبعتين: «الإنسية» خلافًا للأصل. (2) البخاري (4218)، ومسلم (561) (3/ 1538). (3) وهي عند البخاري (4215، 4217، 5521) أيضًا. (4) لعله في «كتاب الأطعمة» له. انظر: «تجريد أسانيد الكتب» لابن حجر (ص 82). والحديث مخرّج في «مسند ابن المبارك» (186) من رواية حبان بن موسى، عن ابن المبارك به. وأخرجه أحمد (11778، 11936) من طريق أبي نعيم ووكيع، كلاهما عن يونس بن أبي إسحاق به. وقد روي من وجه آخر عن أبي سعيد الخدري، رواه أحمد (11623) من حديث بشر بن حرب الأزدي قال: سمعتُ أبا سعيد الخدري بنحوه، وإسناده حسن. (5) برقم (5497)، وأخرجه أيضًا (2477) ثُلاثيًّا عن أبي عاصم النبيل، عن يزيد بن أبي عبيد به.

(2/608)


حدثنا المكي بن إبراهيم، حدثنا يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع قال: لما أمسوا يوم خيبر أوقدوا النيران، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «على ما (1) أوقدتم هذه النيران؟»، قالوا: على لحوم الحمر الإنسية، قال: «أهريقوا ما فيها واكسروا قُدورها»، فقام رجل من القوم فقال: نُهَرِيق ما فيها ونَغْسِلها؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أو ذاك». ورواه مسلم (2). وهو صريح في أن ما لا يؤكل لحمه لا يطهر بالذكاة وأنها لا تعمل فيه شيئًا. وأما حديث الحَكَم بن عمرو، فرواه البخاري (3) من حديث عمرو بن دينار، قال: قلت لجابر بن زيد: يزعمون (4) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الحمر الأهلية، فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة، ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس، وقرأ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية [الأنعام: 145]. وأما حديث المقدام بن معديْكَرِب، فرواه عثمان الدارمي (5): حدثنا _________ (1) كذا في الأصل و (هـ) وفاقًا لأكثر روايات البخاري، وفي الطبعتين: «علامَ» وفاقًا لرواية أبي ذر عن الكُشْمِيهَني. انظر: الطبعة السلطانية (7/ 90). (2) برقم (1802) (3/ 1540). (3) برقم (5529). (4) الأصل: «زعموا»، والمثبت من (هـ) موافق للفظ البخاري. (5) ومن طريقه أخرجه الحاكم (1/ 109)، ثم عنه البيهقي (7/ 76). وأخرجه أحمد (17193، 17194)، وعبد الله الدارمي (606)، والترمذي (2664) دون موضع الشاهد، وغيرُهم من طرق عن معاوية بن صالح به. والحديث صحيح، وهذا الإسناد حسن في الشواهد والمتابعات، وقال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه.

(2/609)


عبد الله بن صالح المصري، أن معاوية بن صالح حدثه قال: حدثني الحسن بن جابر أنه سمع المقدام بن معديكرب يقول: حرَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشياء يوم خيبر منها الحمار الأهلي، وقال: «يوشِك رجلٌ متّكئ على أرِيكته يحدَّث حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه، ومن حرام حرَّمناه، ألا وإن مما حرم رسول الله لحومَ الحمر الأهلية، ولحمَ كل ذي ناب من السباع». وعبد الله بن صالح من شيوخ البخاري، والحسن بن جابر وثّقه ابن حبان (1) ولم يتكلم فيه. ورواه أبو اليمان (2) عن حَرِيز بن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي عوف الجُرَشي، عن المقدام، وفيه: «ألا لا يحِلُّ لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع». وهذا إسناد صحيح. وأما حديث أبي أمامة، فرواه الدارمي أيضًا: حدثنا عبد الله بن أبي شيبة (3)، حدثنا أبو أسامة، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني _________ (1) أورده في «الثقات» (4/ 125)، ولم يوثّقه غيره، ففيه جهالة حال، ولكنها مغتفرة لأنه توبع في رواية هذا الحديث عن المقدام، كما في الإسناد الآتي. (2) ومن طريقه أخرجه الطبراني في «الكبير» (20/ 283)، والخطيب في «الكفاية» (1/ 90). ومن طرق أخرى عن حريز وابن أبي عوف أخرجه أحمد (17174)، وأبو داود (3804، 4604)، والطبراني (الموضع السابق)، والدارقطني (4768). (3) وهو عنده في «المصنف» (38047). وإسناده ثقات وصححه المؤلف، إلا أن له علّة، وهي أن عبد الرحمن بن يزيد الذي روى عنه أبو أسامة ليس ابنَ جابر بل ابن تميم، وهو منكر الحديث؛ نصّ عليه أئمة العلل. وقد ذكر المؤلف ذلك فيما تقدّم (1/ 255 - 257) وفي «جلاء الأفهام» (ص 79 - 83).

(2/610)


القاسم ومكحول عن أبي أمامة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى يوم خيبر عن أكل الحمار الأهلي، وعن أكل كل ذي ناب من السبع. وهذا إسناد صحيح، فإن مكحولًا قد أدرك أبا أمامة وسمع منه. وفي حديث القاسم من رواية علي بن يزيد عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال: «أذِّنْ في الناس أنه لا يحل لكم لحومُ الحمر الأهلية، ولا لحمُ كل ذي نابٍ من السباع، ولا كلُّ ذي مخلب من الطير، وأن الجنة لا تحل لعاصٍ» (1). وأما حديث ابن عباس، فقال الدارمي (2): حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن شَيبان، عن الأعمش، عن مجاهد عن ابن عباس: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية. وهذا الإسناد على شرط الشيخين. وفي «الصحيحين» (3) عن الشعبي عن ابن عباس قال: لا أدري أَنَهى _________ (1) لم أجده من رواية علي بن يزيد الألهاني ــ وهو ضعيف ــ، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة. ولعلّه مخرَّج في «الأطعمة» للدارمي. وأخرجه الطبراني في «الكبير» (7792، 7799) وفي «مسند الشاميين» (173، 2280) من طريقين آخرين عن القاسم، وإسنادهما ضعيف. (2) هو عثمان بن سعيد الدارمي. والحديث أخرجه أيضًا الحاكم (2/ 137) وعنه البيهقي (9/ 125) من طريق آخر عن عبيد الله بن موسى به. وأخرجه الطبراني في «الكبير» (11067) ــ ومن طريقه الضياء في «المختارة» (13/ 77) ــ، من طريق شريك عن الأعمش به. وأخرجه البزار (4913)، والدارقطني (3051)، والحاكم (2/ 137)، والضياء في «المختارة» (13/ 77)، من طريقين جيدين عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد به. (3) البخاري (4227) ومسلم (1939).

(2/611)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجل أنها كانت حَمولة الناس فكره أن تذهب حمولتهم، أو حرّمه في يوم خيبر؟ يعني الحمر الأهلية. وهذا يدل على أن ابن عباس بلغه النهيُ ولكن تأوّله. والتحقيق أن ابن عباس أباحها أولًا حيث لم يبلغه النهي، فسمع ذلك منه جماعة منهم أبو الشعثاء وغيره فرَووا ما سمعوه (1)، ثم بلغه النهي عنها فتوقف: هل هو للتحريم أو لأجل كونها حمولة؟ فروى ذلك عنه الشعبي وغيره، ثم لما ناظره عليٌّ (2) جزم بالتحريم كما رواه عنه مجاهد. وأما حديث ثابت بن وديعة، فرواه الدارمي (3) أيضًا: حدثنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا أبو عوانة، عن حُصَين، عن (4) زيد بن وهب، عن ثابت بن وديعة قال: أصَبنا حمرًا أهلية يوم خيبر فطبخ الناس، فمرّ بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقدور تغلي فقال: «أكفِئُوها» فكفأناها. وهذا إسناد صحيح، رواته كلهم ثقات. وأما حديث أبي سَلِيط (5) البدري، فرواه الدارمي أيضًا: حدثنا _________ (1) كما في أول أحاديث الباب، وهو عند البخاري أيضًا، وقد سبق. (2) كما عند البخاري (5115) ومسلم (1407/ 31، 32). (3) وأخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (2/ 170) عن أبي الوليد به. وأخرجه أبو القاسم البغوي في «معجم الصحابة» (396)، وكذا ابن قانع (1/ 127 - 128)، كلاهما من طريق حصين به. (4) في الأصل وط. الفقي: «بن» خطأ، والتصويب من (هـ) ومصادر التخريج. (5) في الأصل وط. الفقي هنا وفي الموضع الآتي: «أبي سليك»، تصحيف، وقد سبق التنبيه على مثله.

(2/612)


عبد الله بن أبي شيبة (1)، حدثنا عبد الله بن نُمَير، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن عمرو بن ضمرة، عن عبد الله بن أبي سَلِيط، عن أبيه ــ وكان بدريًّا ــ قال: أتانا نهيُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل الحمر وإن القدور لتغلي بها، فكفأناها على وجهها. وأما حديث عبد الله بن عمرو (2)، فرواه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهو في الأصل. وأما حديث زاهر الأسلمي، فرواه الدارمي (3) عن يحيى الحِمَّاني، حدثنا شَرِيك، عن مَجْزَأَة بن زاهر، عن أبيه قال: مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - والقدور تغلي، فسأل عنها فقالوا: الحمر الأهلية، فأمر بها فكفئت. وهذا الإسناد على رسم الشيخين (4). _________ (1) وهو عنده في «المصنف» (24810). وأخرجه أحمد (15458) من طريق ابن إسحاق به، وفيه تصريح ابن إسحاق بالسماع. وعبد الله بن عمرو بن ضمرة ــ ويقال: ضميرة ــ فيه جهالة حال، ولكن مثلها مغتفر في الشواهد، وقد صححه الضياء في «المختارة» (4/ 291 - 293). (2) في الأصل: «عمر»، سقطت الواو سهوًا، وقد سبق تخريجه في أحاديث الباب. (3) وأخرجه أيضًا البخاري (4173) من طريق إسرائيل عن مجزأة به. (4) كذا قال، مع أن في إسناده يحيى الحماني، وهو متهم بسرقة الحديث مع حفظه وسعة روايته، ولم يُخرج له الشيخان شيئًا، وإنما ورد ذكره عرضًا في «صحيح مسلم» (713/ 68)، ولعل المؤلف توهمه أبا يحيى عبد الحميد الحماني ــ والد المذكور ــ فقد أخرج له البخاري حديثًا واحدًا (5048)، وروى له مسلم في مقدّمة «صحيحه» كلامًا لجابر الجعفي. والله أعلم.

(2/613)


وأما حديث أبي هريرة، فرواه الترمذي (1) من حديث زائدة عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرَّم يوم خيبر كل ذي نابٍ من السِّباع والمُجَثَّمة والحمار الإنسي. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وأما حديث خالد بن الوليد، فقد تقدم في الباب الذي [ق 207] قبل هذا (2). وقد اختلف في سبب النهي عن الحمر على أربعة أقوال، وهي في «الصحيح»: أحدها: لأنها كانت جَوَالَّ (3) القرية، كما في حديث غالب هذا (4). وهذا قد جاء في بعض طرق حديث عبد الله بن أبي أوفى: أصابتنا مجاعة ليالي خيبر، فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها، فلما غلت بها القدور نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن: «أكفئوا القدور ولا تأكلوا من _________ (1) برقم (1795)، وإسناده حسن. (2) «باب النهي عن أكل السباع»، في «السنن» برقم (3806)، وفي «المختصر» (3658). إسناده ضعيف، ومتنه منكر حيث فيه أن خالدًا قال: «غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر»، وخالدٌ لم يكن مسلمًا حينها؛ وفيه تحريم الخيل مع الحمر، وهو مخالف لحديث جابر المتفق عليه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخّص في لحوم الخيل يوم خيبر. وقد ضعَّفه أحمد والبخاري والنسائي والدارقطني في آخرين. انظر: «العلل المتناهية» (2/ 170)، و «المختصر» للمنذري (5/ 316)، و «الضعيفة» للألباني (1149). (3) ط. المعارف: «جوالّي»، خطأ، والجوالّ قد سبق تفسيره. (4) هو حديث الباب، وقد سبق تخريجه وبيان ضعفه.

(2/614)


لحوم الحمر شيئًا»، فقال أناس: إنما نهى عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنها لم تُخمَّس، وقال آخرون: نهى عنها البتة (1). وقال البخاري في بعض طرقه (2): «نهى عنها البتة لأنها كانت تأكل العَذِرة». فهذه علّتان. العلة الثالثة: حاجتهم إليها، فنهاهم عنها إبقاءً لها كما في حديث ابن عمر المتفق عليه (3): «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية»، زاد في طريق أخرى: وكان الناس قد احتاجوا إليها. العلة الرابعة: أنه إنما حرمها لأنها رجس في نفسها. وهذه أصح العلل، فإنها هي التي ذكرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلفظه كما في «الصحيحين» (4) عن أنس قال: لما افتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر أصبنا حمرًا خارجةً من القرية وطبخناها فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إن الله ورسوله ينهيانكم عنها فإنها رجس من عمل الشيطان». فهذا نص في سبب التحريم، وما عدا هذه من العلل فإنما هي حدْسٌ وظنّ ممن قاله. 3 - باب أكل الطافي 468/ 3667 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أَلقَى البحرُ أو جَزَرَ عنه فكُلُوه، وما مات فيه وطَفَا فلا تأكلوه» (5). _________ (1) أخرجه البخاري (3155) ومسلم (1937). (2) برقم (4220). (3) سبق تخريجه، والزيادة الآتية عند مسلم برقم (561/ 25) (ج 3، ص 1538) (4) سبق تخريجه. (5) «سنن أبي داود» (3815)، من طريق يحيى بن سُليم الطائفي، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعًا. وقد أعله الأئمة بالوقف كما سيأتي.

(2/615)


قال أبو داود: روى هذا الحديث سفيان الثوري وأيوب وحماد، عن أبي الزبير، أوقفوه على جابر (1). وقد أُسند هذا الحديث من وجهٍ ضعيف (2). وأخرجه ابن ماجه (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: قال عبد الحق (4): هذا الحديث إنما يرويه الثقات من قول جابر، وإنما أُسنِد من وجه ضعيف من حديث يحيى بن سُلَيم عن إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن جابر. ومن حديث عبد العزيز بن عبيد الله (5) بن حمزة بن صهيب، ضعيف لم يرو عنه إلا إسماعيل بن عياش (6). وقال ابن القطان (7): يحيى بن سليم وثقه ابن معين، وتَكلّم فيه غيرُه من أجل حفظه، والناس رووه موقوفًا غيرَ يحيى. وذكر أبو داود هذا الحديث وقال: رواه الثوري وحماد عن أبي الزبير، وقفاه على جابر، وقد أُسنِد من _________ (1) رواية الثوري عند عبد الرزاق (8662)، ورواية أيوب عند ابن أبي شيبة (20104)، ولم أجد من أخرجه عن حماد. (2) لكلام أبي داود تتمة لم ترد في «المختصر»، وستأتي في كلام ابن القطان الذي سينقله المؤلف. (3) برقم (3247)، من طريق يحيى بن سُليم الطائفي بمثل إسناد أبي داود مرفوعًا. (4) «الأحكام الوسطى» (4/ 124). (5) في الأصل: «عبد الله»، خطأ. والتصويب من «الأحكام» ومصادر ترجمته. (6) أخرجه ابن عدي في «الكامل» (5/ 285)، والدارقطني (4713) وقال: عبد العزيز ضعيف لا يحتجّ به. وقال أبو زرعة عنه: مضطرب الحديث واهي الحديث، وقال أبو حاتم: منكر الحديث. «الجرح والتعديل» (5/ 387 - 388). (7) «بيان الوهم والإيهام» (3/ 576 - 577).

(2/616)


وجهٍ ضعيف عن ابن أبي ذئب عن أبي الزبير عن جابر (1). قال ابن القطان: فإن كان عبد الحق ضعّف المرفوعَ لكونه من رواية أبي الزبير، فقد تناقض، لتصحيحه الموقوف وهو عنه. وإن عنى به ضعف يحيى بن سليم ناقَضَ (2)، فكم من حديث صحّحه من روايته! ولم يخالِف يحيى بنَ سليم في رفعه عن إسماعيل بن أمية إلا من هو دونه، وهو إسماعيل بن عياش (3). وأما إسماعيل بن أمية فلا يُسأل عن مثله. وهذا عَنَت من ابن القطان، والحديث إنما ضُعِّف لأن الناس رووه موقوفًا على جابر، وانفرد برفعه يحيى بن سليم (4)، وهو مع سوء حفظه فقد خالف الثقات وانفرد عنهم، ومثل هذا لا يَحتج به أهلُ الحديث، فهذا هو الذي أراده أبو داود وغيره (5) من تضعيف الحديث. وأما تصحيحه (6) حديث يحيى بن سليم في غير هذا، فلا إنكار عليه فيه؛ فهذه طريقة أئمة الحديث العالمين بعلله، يصححون حديث الرجل ثم _________ (1) أخرجه الترمذي في «العلل الكبير» (ص 242)، والطبراني في «الأوسط» (5656)، والجصّاص في «أحكام القرآن» (1/ 134)، من طريق الحسين بن يزيد الطحّان، عن حفص بن غياث، عن ابن أبي ذئب به. الحسين بن يزيد ضعيف، وقال الترمذي: سألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: ليس هذا بمحفوظ. (2) زاد في الطبعتين: «أيضًا»، خلافًا للأصل. (3) رواية إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير، عن جابر موقوفًا أخرجها الدارقطني (4716)، وقال: موقوف هو الصحيح. (4) في الأصل و (هـ) وط. الفقي: «يحيى بن أبي سليم»، خطأ. (5) كالدارقطني في «السنن» (4715 - 4718)، والبيهقي في «المعرفة» (13/ 463). (6) أي تصحيح عبد الحق الإشبيلي.

(2/617)


يضعفونه بعينه في حديث آخر إذا انفرد أو خالف الثقات. ومن تأمل هذا وتتبعه رأى منه الكثير، فإنهم يصححون حديثه لمتابعة غيره له أو لأنه معروف الرواية صحيحُ الحديث عن شيخ بعينه ضعيفُها في غيره. وفي مثل هذا يعرض الغلط لطائفتين من الناس: طائفة تجد الرجل قد خُرِّج حديثه في «الصحيح» وقد احتج به فيه، فحيث وجدوه في حديث قالوا: هذا على شرط الصحيح! وأصحاب «الصحيح» يكونون قد انتقوا حديثَه، ورووا له ما تابعه فيه الثقاتُ ولم يكن معلولًا، ويتركون من حديثه المعلولَ وما شذَّ فيه وانفرد عن الناس وخالف فيه الثقاتِ، أو رواه عن غير معروف بالرواية عنه، ولا سيما إذا لم يجدوا ذلك مِن حديثه عند أصحابه المختصِّين به؛ فلهم في هذا نظرٌ واعتبارٌ اختصُّوا به عمن لم يشاركهم فيه، فلا يلزم حيث وُجِد حديث مثلُ هذا أن يكون صحيحًا، ولهذا كثيرًا ما يعلل البخاري ونظراؤه حديثَ الثقة بأنه لا يتابَع عليه. والطائفة الثانية: يرون الرجل قد تُكلِّم فيه بسبب حديث رواه وضُعِّف من أجله، فيجعلون هذا سببًا لتضعيف حديثه أين وجدوه، فيضعِّفون من حديثه ما يجزِم أهلُ المعرفة بالحديث بصحته. وهذا باب قد اشتبه كثيرًا على غير النقاد، والصواب: ما اعتمده أئمة الحديث ونُقّاده من تنقية (1) حديث الرجل وتصحيحه والاحتجاج به في موضع، وتضعيفه وترك حديثه في موضع آخر. وهذا فيما إذا تعددت شيوخ الرجل ظاهر، كإسماعيل بن عياش في غير الشاميين، وسفيان بن حسين في _________ (1) رسمه غير محرّر في الأصل و (هـ)، والمثبت من الطبعتين.

(2/618)


غير الزهري، ونظائرُهما متعددة. وإنما النقد الخفي إذا كان شيخه واحدًا، كحديث العلاء بن عبد الرحمن مثلًا عن أبيه عن أبي هريرة، فإن مسلمًا يصحح هذا الإسناد ويحتج بالعلاء، وأعرض عن حديثه في الصيام بعد انتصاف شعبان (1)، وهو من روايته، وعلى شرطه في الظاهر، ولم يرَ إخراجه [ق 208] لكلام الناس في هذا الحديث وتفرُّدِه وحدَه به. وهذا أيضًا كثير يعرفه من له عناية بعلم النقد ومعرفة العلل. وهذا إمام الحديث البخاري يعلل حديث الرجل بأنه لا يتابَع عليه، ويحتج به في «صحيحه»، ولا تناقض منه في ذلك. 4 - باب الإقران في التمر 469/ 3686 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: نَهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإقران، إلَّا أن تستأذنَ أصحابَك. وأخرجه الباقون (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: وهذه الكلمة، وهي الاستئذان، قد قيل: إنها مدرجة من كلام ابن عمر. قال شعبة: لا أُرى هذه الكلمة إلا من كلام ابن عمر، يعني الاستئذان. ذكره البخاري في «الصحيح» (3). _________ (1) سبق تخريجه والكلام عليه (ص 19 - 20). (2) أبو داود (3834)، والبخاري (2455)، ومسلم (2045)، والترمذي (1814)، والنسائي في «الكبرى» (6694)، وابن ماجه (3331). (3) برقم (5446)، ولفظ شعبة المذكور أشبه بلفظ مسلم (2045/ 150). وانظر: «الفصل للوصل المدرَج في النقل» (1/ 130 - 138). ومكان الجملة الأخيرة في (هـ): «وقال البخاري في «الصحيح»: قال شعبة: الإذن من قول ابن عمر»، ولعل المؤلف كتبها كذلك فاختصرها المجرّد. والله أعلم

(2/619)


وقد روى الطبراني في «المعجم» (1) من حديث يزيد بن زُرَيع عن أبي خالد (2) عن عطاء الخراساني عن ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «كنت قد (3) نهيتكم عن الإقران وإن الله قد أوسع الخير فأقرنوا». فذهبت طائفة منهم الحازمي (4) في ذلك إلى النسخ وادَّعوا أن حديث بريدة ناسخ لحديث ابن عمر، قالوا: وكان النهي حيث كان العيش زهيدًا _________ (1) «الأوسط» (7067) ــ ومن طريقه الحازمي في «الاعتبار» (ص 242) ــ، وأخرجه أيضًا الروياني في «مسنده» (64)، وابن شاهين في «الناسخ والمنسوخ» (579)، كلهم من طريق محبوب بن مُحرز العطار، عن يزيد بن بَزِيع عن عطاء الخراساني به. إسناده ضعيف، يزيد بن بزيع أبو خالد الرَّملي ضعيف لا يُتابَع على حديثه ــ وبه أعله الهيثمي في «مجمع الزوائد» (5/ 45) ــ، ومحبوب بن محرز وعطاء الخراساني كلاهما فيه لين أيضًا. (2) كذا في الأصل و (هـ)، والصواب: «يزيد بن بَزِيع أبي خالد»، ولكن لم أجسر على تغييره لأن تصحيف «بزيع» إلى «زُرَيع» قديم، ذكره ابن حجر في «اللسان» (8/ 494)، وهو كذلك في نسخة قديمة من «الاعتبار» ــ والمؤلف صادر عنه ــ مقابلة على نسخة مقروءة على أبي المكارم عبد الله بن الحسن الدمياطي (ت 646)، وهو راوي الكتاب عن الحازمي كما في «ذيل التقييد» (2/ 416). وكذا هو في طبعة دار ابن حزم (2/ 838) المنشورة عن نسختين أخريين. وأما زيادة «عن» بين الاسم والكنية، فليست في «الاعتبار»، ولعل المؤلف زادها لأن يزيد بن زريع لا يُكنى بأبي خالد. (3) «قد» من (هـ)، وهي ثابتة في «الاعتبار». (4) «الاعتبار» (ص 241 - 242).

(2/620)


والقُوت متعذرًا مراعاةً لجانب الضعفاء والمساكين، وحثًّا على الإيثار والمواساة، ورغبةً في تعاطي أسباب العدالة حالة الاجتماع والاشتراك؛ فلما وسّع الله الخير وعمَّ العيشُ الغنيَّ والفقيرَ قال: فشأنكم إذًا. وهذا الذي قالوه إنما يصح أن لو ثبت حديث بريدة، ولا يثبت مثلُه فإن الطبراني رواه من حديث محمد بن سهل، حدثنا سهل بن عثمان، حدثنا محبوب العطار، عن يزيد بن زريع (1) فذكره. 5 - باب الفأرة تقع في السمْن 470/ 3693 - عن ميمونة ــ وهي بنت الحارث ــ - رضي الله عنها -: أن فأرة وقعت في سمن، فأُخبِرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أَلقُوا ما حَوْلَها وكُلُوا». وأخرجه البخاري (2). 471/ 3694 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا وقعت الفأرةُ في السمن: فإن كان جامدًا فألقوها وما حَوْلها، وإن كان مائعًا فلا تقربوه» (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: هذا الحديث قد اختلف فيه إسنادًا ومتنًا، والحديث من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه سمع ابن عباس يحدث عن ميمونة، ولفظه: أن فأرة وقعت في سمن فماتت، فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ألقوها وما حولها وكلوه». _________ (1) الصواب: يزيد بن بزيع، وقد سبق التنبيه عليه. (2) أبو داود (3841)، والبخاري (235). (3) «سنن أبي داود» (3842) من طريق معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.

(2/621)


رواه الناس عن الزهري بهذا المتن والإسناد، ومتنه خرّجه البخاري في «صحيحه» والترمذي والنسائي (1)، وأصحاب الزهري كالمجمعين على ذلك. وخالفهم معمر في إسناده ومتنه فرواه عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال فيه: «إن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا فلا تقربوه». ولمّا كان ظاهر هذا الإسناد في غاية الصحة، صحّح الحديث جماعة وقالوا: هو على شرط الشيخين، وحُكي عن محمد بن يحيى الذهلي تصحيحه (2). ولكن أئمة الحديث طعنوا فيه ولم يروه صحيحًا، بل رأوه خطأ محضًا. قال الترمذي في «جامعه» (3): سمعت محمد بن إسماعيل يقول: حديث معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب في هذا خطأ، والصحيح حديث الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة. والبخاري في «صحيحه» (4) قد أشار أيضًا إلى علة حديث معمر من وجوه، فقال: «باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب»، ثم ذكر _________ (1) البخاري (235، 236، 5538، 5540)، والترمذي (1798)، والنسائي (4258)، من طرق عن سفيان بن عيينة ومالك، كلاهما عن الزهري به. وأخرجه أحمد (26803) من طريق الأوزاعي، عن الزهري به. وسيأتي أيضًا من رواية يونس عن الزهري، إلا أن الزهري لم يسق فيه الإسناد بتمامه، وإنما أرسله عن عبيد الله. وانظر: «العلل» للدارقطني (1357، 4007). (2) حيث قال في «الزهريات» ــ كما في «التمهيد» (9/ 35) و «الفتح» (1/ 344) ــ: الطريقان عندنا محفوظان إن شاء الله، لكن المشهور حديث ابن شهاب عن عبيد الله. (3) عقب الحديث (1798). (4) من قوله: «والصحيح» إلى هنا ساقط من الأصل، واستدرك من (هـ).

(2/622)


حديث ميمونة (1). وقال عَقِبه: قيل لسفيان: فإن معمرًا يحدثه عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة؟ قال: ما سمعت الزهري يقوله إلا عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولقد سمعته منه مِرارًا. ثم قال: حدثنا عبدان أخبرنا (2) عبد الله عن يونس عن الزهري سئل عن الدابة تموت في الزيت والسمن، وهو جامد أو غير جامد، الفأرة أو غيرها؟ قال: بلغَنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بفأرة ماتت في سمن، فأمر بما قَرُب منها فطُرِح، ثم أُكِل (3). فذِكْر البخاري فتوى الزهري في الدابة تموت في السمن وغيره الجامدِ والذائب: أنه يؤكل، واحتجاجَه بالحديث من غير تفصيل= دليلٌ على أن المحفوظ من رواية الزهري إنما هو الحديث المطلق الذي لا تفصيل فيه، وأنه مذهبه، فهو رأيه وروايته. ولو كان عنده حديث التفصيل بين الجامد والمائع لأفتى به واحتج به، فحيث أفتى بحديث الإطلاق واحتجّ به دلَّ على أن معمرًا غلط عليه في الحديث إسنادًا ومتنًا. ثم قد اضطرب حديث معمر، فقال عبد الرزاق (4) عنه: «فلا تقربوه». وقال عبد الواحد بن زياد عنه: «وإن كان ذائبًا أو مائعًا لم يؤكل» (5). _________ (1) برقم (5538). (2) في الطبعتين: «حدثنا» خلافًا للأصل وللبخاري (5539). (3) تتمته: «عن حديث عبيد الله بن عبد الله»، وهو متعلق بقول الزهري: «بلغنا»، أي بلغنا عن حديث عبيد الله بسنده، ولم ينشط لسياق سنده إلى آخره. (4) في «مصنفه» (278)، ومن طريقه أبو داود في حديث الباب. (5) أخرجه أبو يعلى (5841)، والبيهقي في «الكبرى» (9/ 353) وفي «معرفة السنن» (14/ 126) ــ وقوله الآتي فيه ــ، وابن عبد البر في «التمهيد» (9/ 38 - 39) من طرق عن عبد الواحد به.

(2/623)


قال البيهقي: «وعبد الواحد بن زياد أحفظ منه»، يعني عبد الرزاق. وفي بعض طرقه: «فاستصبِحوا به» (1). وكل هذا غير محفوظ في حديث الزهري. فإن قيل: فقد رواه أبو حاتم البُستي في «صحيحه» (2) من رواية الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الفأرة تموت في السمن؟ فقال: «إن كان جامدًا فألقُوها وما حولَها وكلوه، وإن كان ذائبًا فلا تقربوه». رواه عن عبد الله بن محمد الأزدي (3)، أخبرنا (4) إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا سفيان، عن الزهري به، وكذلك هو في «مسند إسحاق» (5). _________ (1) أخرجه الطحاوي في «بيان المشكل» (5354) من طريق الحسن بن الربيع البَجَلي ــ وهو ثقة ــ، عن عبد الواحد بن زياد، عن معمر به. والأمر بالاستصباح به قد ورد في أحاديث أخرى ضعيفة، وفي آثار عن بعض الصحابة والتابعين. انظر: «مصنف ابن أبي شيبة» (الأطعمة ــ ما قالوا في الفأرة تقع في السمن)، و «الأوسط» لابن المنذر (2/ 420)، و «البدر المنير» (5/ 23 - 26). (2) برقم (1392). (3) تصحّف في الأصل إلى: «الأزدب»، وسيأتي على الصواب. (4) في الطبعتين هنا وفي الموضع الآتي: «حدثنا» خلافًا للأصل. (5) لفظه في المطبوع (4/ 204 - 205) موافق للفظ المحفوظ دون التفصيل بين الجامد والمائع، مع أنه نصّ المؤلف هنا وابن حجر في «الفتح» (9/ 668) أن رواية إسحاق في «مسنده» هي بالتفصيل على نحو رواية معمر.

(2/624)


فالجواب: أن كثيرًا من أهل الحديث جعلوا هذه الرواية موهومة معلولة (1)، فإن الناس إنما رووه عن سفيان عن الزهري مثل ما رواه سائر الناس عنه (2)، كمالك وغيره من غير تفصيل، كما رواه البخاري وغيره. وقد رد أبو حاتم البُستي [ق 209] هذا، وزعم أن رواية إسحاق هذه ليست موهومة برواية معمر عن الزهري فقال: «ذكر خبرٍ أوهم بعضَ من لم يطلب العلم مِن مَظانّه أنّ رواية ابن عيينة هذه معلولة أو موهومة»، ثم ساق (3) من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة الحديث: «إن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا فلا تقربوه». _________ (1) ومنشأ الوهم والعلة أن إسحاق بن راهويه قد روى عن عبد الرزاق عن معمر حديثه بالتفصيل، وروى أيضًا عن ابن عُيينة حديثه فحمله على حديث معمر ــ كما أشار إليه ابن رجب في «شرح علل الترمذي» (2/ 723) ــ دون التنبّه لاختلاف ألفاظهما، ويدل على ذلك أيضًا أن الحديثين عنده متواليان في «مسنده» (4/ 204 - 206). وإسحاق من أحفظ أهل زمانه، ولم يُستغرَب من حديثه البالغ سبعين ألف حديث إلا حديثان هذا أحدهما، على أنه يَحتمِل أن يكون الوهم ممن رواهما عنه. انظر: «سير أعلام النبلاء» (11/ 373 - 379). (2) ممن رواه عن سفيان: أحمد (26796)، والحميدي [البخاري (5538)]، ومسدّد [أبو داود (3841)]، وسعيد بن عبد الرحمن المخزومي، وأبو عمار المروزي [الترمذي (1798)]، وقتيبة [النسائي (4258)]، وعلي ابن المديني [الدارمي (2128)]، وابن أبي شيبة (24877)، وأبو خيثمة [أبو يعلى (7078)] في آخرين؛ كلهم يرويه عن سفيان باللفظ المحفوظ من غير تفصيل. (3) برقم (1393).

(2/625)


وهذا لا يدل على أن حديث إسحاق محفوظ، فإن رواية معمر هذه خطأ، كما قاله البخاري وغيره، والخطأ لا يحتج به على ثبوت حديث معلول، فكلاهما وهم. ثم قال أبو حاتم (1): «ذكر الخبر الدال على أن الطريقين جميعًا محفوظان»: أخبرنا (2) عبد الله بن محمد الأزدي، أخبرنا إسحاق، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة فذكره، قال: «إن كان جامدًا أَلقَى ما حولها وأَكَله، وإن كان مائعًا لم يَقربْه». قال عبد الرزاق: وأخبرني عبد الرحمن بن بُوذَوَيه أن معمرًا كان يذكر أيضًا عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلَه. فهذه مثل رواية سفيان عن الزهري عن عبيد الله بالتفصيل. فتصير وجوه الحديث أربعة: * وجهان عن معمر وهُما: عبد الرزاق عنه عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بذكر التفصيل. الثاني: عبد الرحمن بن بُوذَوَيه عنه عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة بالتفصيل أيضًا. * ووجهان عن سفيان: أحدهما: رواية الأكثرين عنه عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس _________ (1) في «صحيحه» مبوبًا على الحديث (1394). (2) في الطبعتين هنا وفي الموضعين الآتيين: «حدثنا» خلافًا للأصل.

(2/626)


عن ميمونة بالإطلاق من غير تفصيل. والثاني (1): رواية إسحاق عنه عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة بالتفصيل. وأما رواية معمر، فإنه خالف أصحاب الزهري في حديثه المفصَّل في إسناده ومتنه في حديث أبي هريرة، وخالف أصحاب الزهري في المتن في حديث عبيد الله عن ابن عباس، ووافقهم في الإسناد. وهذا يدل على غلطه فيه، وأنه لم يحفظه كما حفظه (2) مالك وسفيان وغيرُهما من أصحاب الزهري. وأما حديث سفيان: فالمعروف عند الناس منه ما رواه البخاري في «صحيحه» (3) عن الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله أنه سمع ابن عباس عن ميمونة ــ فذكره من غير تفصيل. وكذلك رواه سعيد بن عبد الرحمن وأبو عمار عن سفيان (4). قال البخاري في «صحيحه» (5): «باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب». حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: أنه سمع ابن عباس يحدث عن _________ (1) في الأصل و (هـ): «والثانية»، والمثبت من الطبعتين أشبه. (2) في الطبعتين: «حفظ»، والمثبت من الأصل. (3) برقم (5538). (4) أخرجه الترمذي (1798) عنهما. (5) مبوّبًا على الأحاديث (5538 - 5540) الآتية.

(2/627)


ميمونة: أن فأرةً وقعت في سمن، فماتت، فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها، فقال: «ألقوها وما حولَها وكلوه». قيل لسفيان: فإن معمرًا يحدثه عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، قال: ما سمعتُ الزهري يقوله إلا عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولقد سمعتُه منه مرارًا. حدثنا عبدان، أخبرنا (1) عبد الله، عن يونس، عن الزهري عن الدابة تموت في الزيت والسمن وهو جامد أو غير جامد، الفأرة أو غيرها؟ قال: بلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بفأرة ماتت في سمن فأمر بما قَرُب منها فطُرِح، ثم أكل؛ عن حديث عبيد الله بن عبد الله. حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس عن ميمونة قالت: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن فأرة سقطت في سمن، فقال: «ألقوها وما حولها وكلوه». وأما الحديث الذي رواه ابن وهب (2)، عن عبد الجبار بن عمر، عن ابن شهاب، عن سالم عن أبيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن فأرةٍ وقعت في سمن، فقال: «ألقوها وما حولها، وكلوا ما بقي»، فقيل: يا نبي الله، أرأيت إن كان السمن مائعًا؟ قال: «انتفعوا به ولا تأكلوه» = فعبد الجبار بن عمر ضعيف، لا يحتج به (3). _________ (1) في الطبعتين: «حدثنا» خلافًا للأصل. (2) في «موطئه» ــ كما في «التمهيد» (9/ 36) ــ، ومن طريقه أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (2/ 429)، وابن عدي في «الكامل» (5/ 324)، والبيهقي في «الكبرى» (9/ 354) و «معرفة السنن» (14/ 126 - 127). (3) ضعّف حديثه هذا محمد بن يحيى الذهلي ــ كما في «التمهيد» (9/ 36) ــ، وأبو حاتم في «العلل» (1507)، وابن المنذر، وابن عدي، والدارقطني في «العلل» (3023)، والبيهقي.

(2/628)


وروي من وجه آخر ضعيف عن ابن جريج عن ابن شهاب (1). قال البيهقي (2): والصحيح عن ابن عمر من قوله في فأرة وقعت في زيت قال: «استصبحوا به وادَّهِنوا به أُدُمكم» (3). وقد روي هذا الحديث عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد، ولكن الصواب: أنه موقوف عليه، ذكره البيهقي (4). * * * _________ (1) أخرجه الدارقطني (4789)، والبيهقي (9/ 354)، من طريق يحيى بن أيوب الغافقي ــ وهو سيئ الحفظ ــ، عن ابن جريج به. وضعفه ابن المنذر، والدارقطني في «العلل» (3023)، والبيهقي. (2) «معرفة السنن» (14/ 127). (3) أخرجه ابن أبي شيبة (24881، 24882)، وابن المنذر في «الأوسط» (10/ 11)، والطحاوي في «بيان المشكل» (13/ 399 - 400)، والبيهقي في «الكبرى» (9/ 354)، من طرق عن نافع عن ابن عمر (4) في «معرفة السنن» (14/ 127)، وأسنده في «الكبرى» (9/ 354) من طريق الدارقطني (4790)، من حديث سعيد بن بشير الأزدي، عن أبي هارون، عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا. سعيد بن بشير ضعيف، وقد خالفه سفيان الثوري [عند الدارقطني (4791)]، ومعمر [عند عبد الرزاق (281)]، فروياه عن أبي هارون عن أبي سعيد موقوفًا عليه، هو الصواب، إلا أن أبا هارون العبدي نفسه ضعيف متروك الحديث.

(2/629)


 كتاب الطب

1 - باب في الكَيِّ 472/ 3716 - عن مُطرِّف عن عمران بن حُصين - رضي الله عنهما -، قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكَيِّ، فاكْتَوينا، فما أَفلحْن ولا أنْجَحْن (1). وأخرجه الترمذي وابن ماجه (2) من حديث الحسن البصري عن عمران. ولفظ الترمذي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الكي، قال: فابتُلِينا فاكتوينا، فما أفْلَحنا ولا أنجحنا. ولفظ ابن ماجه: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكيّ، فاكتَوَيتُ، فما أفلحت ولا أنجحت. وقال الترمذي: «حسن صحيح». وفيما قاله نظر، فقد ذكر غير واحد من الأئمة أن الحسن لم يسمع من عمران بن حصين (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: وأخرجه ابن حبان في «صحيحه» (4)، ثم قال بعده: _________ (1) «سنن أبي داود» (3865) بإسناد صحيح. وقوله: «فما أَفلحن ولا أنْجَحن» أي: تلك الكيَّات، كما جاء عند ابن أبي شيبة (24083) بإسناد صحيح عن أبي مِجْلَز عن عمران قال: «اكتويت كيَّةً بنار، ما أبرأتْ من ألمٍ، ولا أَشْفَتْ من سَقَم». (2) الترمذي (2049) وابن ماجه (3490). (3) انظر: «المراسيل» لابن أبي حاتم (ص 38). ولعل الترمذي صححه لأن الحسن قد توبع في روايته عن عمران، تابعه مطرف وأبو مِجلَز كما سبق. (4) برقم (6081).

(2/630)


الزجر عن الكي في حديث عمران بن حصين إنما هو عن الابتداء به من غير علةٍ تُوجبه، كما كانت العرب تفعله، تريد به الوشم، وحديث جابر (1) فيه إباحة استعماله لعلّةٍ تحدث من غير الاتكال عليه في برئها. وفي هذا نظر. وقالت طائفة: النهي من باب ترك الأولى، ولهذا جاء في حديث السبعين الألف أنهم لا يكتوون ولا يسترقون (2)، وفِعلُه يدل على إباحته. وهذا أقرب الأقوال، وحديث عمران يدل عليه، فإنه قال: «نهانا عن الكي فاكتوينا»، فلو كان نهيه للتحريم لم يُقدِموا عليه، والله أعلم. 2 - [ق 210] باب في الأدوية المكروهة 473/ 3721 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدواء الخبيث. وأخرجه الترمذي وابن ماجه (3)، وفي حديثهما: «يعني السمَّ». قال ابن القيم - رحمه الله - (4): وذكر بعضهم أن خبث الدواء يكون من وجهين. _________ (1) في قصة سعد بن معاذ أنه لمّا أصيب في أكْحَلِه (وهو العرق في وسط الذراع) يوم الأحزاب حسمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنار. أخرجه ابن حبان (6083)، وهو عند مسلم (2208) وغيره. (2) أخرجه البخاري (5705) ومسلم (218). (3) أبو داود (3870)، والترمذي (2045)، وابن ماجه (3459)، وأخرجه أيضًا أحمد (8048)، والحاكم (4/ 410) وصححه وقال: «الدواء الخبيث هو الخمر بعينه بلا شك فيه». (4) الكلام الآتي ليس على شرط المجرّد، إذ هو كلام المنذري في «المختصر» (5/ 355) بعينه، ليس لابن القيم فيه أي تصرّف أو زيادة، ولعله كان ساقطًا من نسخة «المختصر» التي قابل بها المجرّد «تهذيب ابن القيم» لتجريد ما فيه من الزيادات.

(2/631)


أحدهما: خبث النجاسة، وهو أن يدخله المحرَّم، كالخمر ولحم ما لا يؤكل لحمه من الحيوان. والثاني: أن يكون خبيثًا من جهة الطَّعْم والمذاق، ولا يُنكَر أن يكون كره ذلك لما فيه من المشقة على الطباع، ولتكرُّه النفس إياه. 474/ 3725 - وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواءً، فتداوَوْا ولا تتداوَوا بحرام» (1). فيه إسماعيل بن عيّاش (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: وأما حديث ابن مسعود: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم»، فذكره البخاري في «الصحيح» (3) من قول ابن مسعود. _________ (1) «سنن أبي داود» (3874)، وإسماعيل بن عيّاش متكلّم فيه، ولكنه صدوق في روايته عن أهل بلده خاصّة، وهذه منها (2) كلام المنذري على تخريج الحديثين من (هـ)، وفيه اختصار من المؤلف عمّا في «المختصر». (3) معلّقًا مجزومًا به في كتاب الأشربة، باب شراب الحلواء والعسل. ووصله عبد الرزاق (17097، 17102)، وابن أبي شيبة (23958)، والحافظ في «تغليق التعليق» (5/ 29 - 31) بأسانيد صحيحة.

(2/632)


3 - باب في تمرة العجوة 475/ 3727 - عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من تصبَّح بسبع تمراتٍ عجوة لم يضُرَّه ذلك اليوم سمٌّ ولا سِحر». وأخرجاه والنسائي (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: [هذا المعني مروي من حديث سعد وعائشة. فأما حديث سعد فإنه عامّ، وفي بعض طرق مسلم (2) فيه: «من أكل سبعَ تمراتٍ ممَّا بين لابَتَيها حين يُصبح لم يضرَّه سمٌّ حتَّى يُمسي»] (3). وهذا ظاهره أنه مختص بتمر المدينة. وأما حديث عائشة فرواه مسلم في «صحيحه» (4): أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «في عجوة العالية شفاء، ــ أو أنها تِرْياق ــ أولَ البُكْرة». وظاهر هذا: اختصاصها بعجوة العالية. وقد روى النسائي في «سننه» (5) من حديث الأعمش، عن أبي _________ (1) أبو داود (3876)، والبخاري (5445)، ومسلم (2047/ 155)، والنسائي في «الكبرى» (6680). (2) برقم (2047/ 154). (3) ما بين الحاصرتين من (هـ)، ولم يذكره المجرّد ولا أشار إليه! (4) برقم (2048). (5) «الكبرى» (6683). وفي إسناده اختلاف واضطراب، فقد روي عن الأعمش، وعن جعفر بن أبي وحشية على ألوان، وأشبهها رواية جعفر ومن تابعه، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة ــ وهو الحديث الآتي ــ. انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (1698)، و «العلل» للدارقطني (2098).

(2/633)


نضرة (1)، عن أبي سعيد وجابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «العجوة من الجنة، وهي شفاء من السم». وأخرج (2) عن شهر عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. فقيل: هذا يختص بالمدينة لعِظَم بركتها، لا أن ذلك عام في كل تمر. وقيل: مختص بعجوة العالية. والله أعلم بالصواب (3). 4 - باب الغَيْل 476/ 3732 - عن أسماء بنت يزيد بن السَّكَن - رضي الله عنها -، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تقتلوا أولادكم سِرًّا، فإن الغَيْل يُدرك الفارس فيُدَعْثِرُه عن فرسه». وأخرجه ابن ماجه (4). _________ (1) كذا في الأصل و (هـ)، والصواب: «الأعمش، عن جعفر، عن أبي نضرة»، وذلك لأن لفظ الإسناد في «السنن»: « ... عن الأعمش، عن جعفر، عن شهر، قال: وحدثني أبو نضرة، عن أبي سعيد، وعن جابر»، فالقائل: «وحدثني أبو نضرة» هو جعفر بن أبي وحشية، كما يدل عليه صنيع الحافظ المزي في «تحفة الأشراف» (3/ 453) وفي «تهذيب الكمال» (7/ 226) حيث لم يذكر الأعمش في الرواة عن أبي نضرة العبدي. فكأن المؤلف ــ والله أعلم ــ ظنّ أن القائل هو الأعمش فأثبت الإسناد على ذلك. (2) في «الكبرى» (6684، 6685)، وكذلك أخرجه الترمذي (2068) وحسّنه. وشهر فيه لين، ولكن يشهد له حديث سعد بن أبي وقاص السابق، وحديث رافع بن عمرٍو المزني عند أحمد (15508) بإسناد جيد: «العجوة والشجرة من الجنّة». (3) ما بين الحاصرتين من (هـ). (4) أبو داود (3881)، وابن ماجه (2012)، وكذلك ابن حبان (5984)، كلهم من حديث المهاجر بن أبي مسلم، عن مولاته أسماء. والمهاجر لم يوثّقه غير ابن حبان، وقد تفرّد بالخبر، ولا يُحتمل من مثله ذلك لمعارضته للأحاديث الصحيحة.

(2/634)


477/ 3733 - وعن جُدامة الأسدية - رضي الله عنها - أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لقد هممتُ أن أنهى عن الغِيلَة، حتى ذكرتُ أن الروم وفارسَ يفعلون ذلك فلا يضرُّ أولادَهم». قال مالك (1): «الغِيلة» أن يمسَّ الرجل امرأته وهي ترضع. وأخرجه مسلم والثلاثة (2). قيل: نهى عنه أولًا لِما علم من ضرره على الصبي، ثم رأى أن ترك ذلك قد يضر الرجل بصبره عن (3) المرأة مدة الرضاع، فأمسك عن النهي عنه. وذكر (4) فارس والروم لِكثرتهم، وأنهم أمتان عظيمتان وأولادهم سالمون فرسان، ولأنهم أصحاب طبٍّ وحكمة، فلو كان يضرهم لما فعلوه. والغيل هو وطء المرضع، قيل: حَمَلتْ أو لم تحمل، وقيل: لا يضر ذلك إلا إذا حملت من هذا الوطء، فحينئذ هذا يفسد اللبن على الصبي المرتضع فيضعفه، فيؤثِّر ذلك في بِنْيته وقوَّته حتى إذا صار فارسًا أدركه ذلك الضعف فدَعْثَره عن فرسه وأسقطه عنها (5). _________ (1) في «الموطأ» عقب الحديث (1779). (2) أبو داود (3882)، ومسلم (1442)، الترمذي (2077)، والنسائي (3326)، وابن ماجه (2011). (3) (هـ): «يضر ذلك بصبره على»، والتصحيح من عبارة نحوها في «زاد المعاد» (5/ 135). (4) بعده في (هـ): «أن»، والعبارة مستقيمة بدونها. (5) الكلام على الحديث مثبت من (هـ)، وهو مأخوذ من كلام المنذري في «المختصر» (المخطوط) بزيادة وتصرّف من المؤلف.

(2/635)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى مسلم في «صحيحه» (1) عن سعد بن أبي وقاص: أن رجلًا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني أعزل عن امرأتي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لِمَ تفعل ذلك؟» قال: أُشفِق على ولدها، أو على أولادها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو كان ذلك ضارًّا ضرَّ فارسَ والروم». وهذه الأحاديث أصح من حديث أسماء بنت يزيد، وهو حديث شامي يرويه عمرو بن مهاجر (2)، عن أبيه المهاجر بن أبي مسلم (3) مولى أسماء بنت يزيد ــ يعد في الشاميين ــ عن أسماء بنت يزيد، فإن كان صحيحًا فيكون النهي عنه أولًا إرشادًا وكراهة، لا تحريمًا. والله تعالى أعلم. 5 - باب الرُّقى 478/ 3740 - وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا رُقية إلا من عينٍ أو حُمةٍ أو دم يَرْقأُ» (4). وفي «الصحيحين» (5) عن عائشة - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص في الرقية من كل ذي حُمة. _________ (1) برقم (1443) ولفظه: «عن عامر بن سعد: أن أسامة بن زيد أخبر والدَه سعدَ بن أبي وقاص أن رجلًا ... إلخ، فالحديث من مسند أسامة، لا سعدٍ كما يوهمه سياق المؤلف له. (2) ومن طريقه أخرجه ابن ماجه، وأما رواية أبي داود وابن حبان فمن طريق أخيه محمد بن مهاجر، عن أبيه. (3) في الأصل: «بن أسلم»، والتصويب من مصادر ترجمته وتخريج الحديث. (4) «سنن أبي داود» (3889) من طريق الشعبي عن أنس. وقد اختلف على الشعبي في هذا الحديث اختلافًا كثيرا. انظر: «العلل» للدارقطني (2490). (5) البخاري (5741) ومسلم (2193).

(2/636)


وفي «صحيح مسلم» (1) عن أنس - رضي الله عنه - قال: رخَّص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرقية من العين والحُمة والنملة (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي «الصحيحين» (3) عن عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمرها أن تسترقي من العين. وفي «الصحيحين» (4) عن أم سلمة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لجارية في بيت أم سلمة، رأى بوجهها سَفْعة، فقال: «بها نَظْرة، فاسترقوا لها». يعني بوجهها صفرة. وفي «صحيح مسلم» (5) عن جابر قال: رخَّص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لآل حزم في رقية الحية، وقال لأسماء بنت عميس: «ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة (6)، تصيبهم الحاجة؟» قالت: لا، ولكن العين تسرع إليهم، قال: «ارْقيهم»، قالت (7): فعرضتُ عليه، فقال: «ارْقيهم». وفي «صحيح مسلم» (8) أيضًا عن جابر قال «لَدَغت رجلًا منا عقرب، ونحن جلوس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رجل: يا رسول الله، أرقي له؟ قال: _________ (1) برقم (2196). وأخرجه البخاري (5719) أيضًا. (2) كلام المنذري من (هـ)، وفيه تصرّف يسير من المؤلف. (3) البخاري (5738) ومسلم (2195). (4) البخاري (5739) ومسلم (2197). (5) برقم (2198). (6) ضارعة: أي نحيفة، والمراد أولاد جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه -. (7) في الأصل: «قال»، والتصحيح من «صحيح مسلم». (8) برقم (2199/ 61).

(2/637)


«من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل». وأما ما رواه مسلم في «صحيحه» (1) من حديث جابر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الرقى، فهذا لا يعارض هذه الأحاديث، فإنه إنما نهى عن الرقى التي تتضمَّن الشرك وتعظيمَ غيرِ الله سبحانه، كغالب رقى أهل الشرك. والدليل على هذا ما رواه مسلم في «صحيحه» (2) من حديث عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال: «اعرِضوا علي رُقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك». وفي حديث النهي أيضًا ما يدل على ذلك، فإن جابرًا قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرقى، فجاء آل عمرو بن حزم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا رسول الله، إنه كانت عندنا رقية نَرقي بها من العقرب، وإنك نهيت عن الرقى، قال: «فاعرِضوها عليّ»، فعرضوها عليه، فقال: «ما أرى بأسًا، من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه» رواه مسلم (3). وهذا المسلك في هذه الأحاديث وأمثالها فيما يكون المنهيُّ عنه نوعًا، والمأذون فيه نوعًا آخر، وكلاهما داخل تحت اسم واحد= مَن تفطّن له زال عنه اضطراب كثير. يظنه من لم يُحِط علمًا بحقيقة المنهي عنه من ذلك الجنس والمأذونِ فيه= متعارضًا، ثم يسلك مسلك النسخ، أو تضعيف أحد الأحاديث. _________ (1) برقم (2199/ 62). (2) برقم (2200). (3) برقم (2199/ 63) دون قوله: «فاعرضوها عليَّ»، فإنه عند ابن ماجه (3515) والبيهقي (9/ 349) بنحوه.

(2/638)


وأما هذه الطريقة فلا يحتاج صاحبها إلى ركوب طريق النسخ، ولا تعسُّف أنواع العلل. وقد يظهر في كثير من المواضع، مثل هذا الموضع، وقد يَدِقّ ويلطُف فيقع الاختلاف بين أهل العلم. والله يُسعد بإصابة الحق من يشاء، وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. 6 - باب في الطِّيَرة 479/ 3759 - وعن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا عَدْوَى ولا صَفَرَ ولا هَامَةَ». فقال أعرابي: ما بالُ الإبل تكون في الرَّمْل كأنها الظِّباء، فيخالطها البعير الأجْرَبُ فيُجْربها؟ قال: «فمن أعْدَى الأَوَّلَ؟». قال مَعْمَر: قال الزهري: فحدثني رجل عن أبي هريرة: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لَا يورِدَنَّ مُمرضٌ على مُصِحٍّ»، قال: فراجَعه الرجل فقال: أليس قد حَدَّثتنا أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا عَدْوى، ولا صفر، ولا هامة»؟ قال: لم أُحَدِّثكموه. قال الزهري: قال أبو سلمة: قد حَدَّث به، وما سمعتُ أبا هريرة نسي حديثًا قط غيرَه». وأخرجه البخاري ومسلم مطولًا ومختصرًا (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: ذهب بعضهم إلى أن قوله: «لا يورِد مُمرِض على مُصِحّ» منسوخ بقوله «لا عدوى»، وهذا غير صحيح، وهو مما تقدم آنفًا أن المنهيَّ عنه نوعٌ غيرُ المأذون فيه؛ فإن الذي نفاه النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «لا عدوى ولا صفر» هو ما كان عليه أهل الإشراك من اعتقادهم ثبوت ذلك على قياس شركهم وقاعدة كفرهم. والذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - مِن إيراد _________ (1) أبو داود (3911)، والبخاري (5707، 5717، 5757، 5770 - 5771، 5773 - 5775)، ومسلم (2220، 2221).

(2/639)


الممرض على المصح فيه تأويلان: أحدهما: خشية توريط النفوس في نسبة [ق 211] ما عسى أن يقدره الله تعالى من ذلك إلى العدوى، وفيه التشويش على من يورَد عليه وتعريضُه لاعتقاد العدوى، فلا تنافي بينهما بحال. والتأويل الثاني: أن هذا إنما يدل على أن إيراد الممرض على المصح قد يكون سببًا لخلق (1) الله تعالى فيه المرض، فيكون إيراده سببًا، وقد يصرف الله سبحانه تأثيرَه بأسباب تضاده، أو تمنعه قوةَ السببية، وهذا محض التوحيد، بخلاف ما كان عليه أهل الشرك. وهذا نظير نفيه سبحانه الشفاعة في القيامة بقوله: {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254]، فإنه لا تضاد الأحاديث المتواترة المصرحة بإثباتها، فإنه سبحانه إنما نفى الشفاعة التي كان أهل الشرك يثبتونها، وهي شفاعة يتقدم فيها الشافع بين يدي المشفوع عنده، وإن لم يأذن له. وأما التي أثبتها الله ورسوله فهي الشفاعة التي تكون من بعد إذنه، كقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقوله: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقوله: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]. والله الموفق للصواب. * * * _________ (1) في الطبعتين: «يخلق»، والمثبت أقرب إلى رسم الأصل.

(2/640)


 كتاب العتاق

1 - في المكاتَب يؤدِّي بعض كتابته فيعجِز أو يموت 480/ 3772 - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المُكاتَب عبدٌ ما بقي عليه من مُكاتَبته درهمٌ» (1). فيه إسماعيل بن عيّاش. 481/ 3773 - وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أيُّما عبدٍ كاتَبَ على مِائة أُوقِيَّةٍ، فأدَّاها إلا عشرةَ أواقٍ فهو عبدٌ، وأيُّما عبد كاتَبَ على مائة دينارٍ، فأدَّاها إلا عشرةَ دنانير فهو عبدٌ». وأخرجه النسائي وابن ماجه والترمذي (2)، وقال: غريب. وقال الشافعي (3): لم أعلم أحدًا روى هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عمرو، وعلى هذا فُتيا المفتين (4). _________ (1) «سنن أبي داود» (3926) من طريق إسماعيل بن عيّاش، عن سليمان بن سُليم، عن عمرو بن شعيب به. وإسماعيل بن عيّاش وإن كان فيه لين لكنه صدوق في الرواية عن أهل الشام، وهذه كذلك. (2) أبو داود (3927)، والنسائي في «الكبرى» (5007 - 5009)، وابن ماجه (2519)، والترمذي (1260)، وكذلك الحاكم (2/ 218) والبيهقي (10/ 323 - 324)، من طرق عن عمرو بن شعيب به. (3) في القديم، كما في «السنن الكبرى» (10/ 324) و «معرفة السنن» (14/ 445). وانظر: «الأم» (9/ 385). (4) كلام المنذري على الحديثين من (هـ)، وفيه اختصار وتصرّف من المؤلف.

(3/3)


قال ابن القيم - رحمه الله -: قال الشافعي (1): ونحن نروي عن زيد بن ثابت وابن عمر وعائشة: أنه عبد ما بقي عليه شيء (2). قال البيهقي (3): وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم». وذكر الشافعي (4) عن الشعبي: أن عليًّا قال في المكاتب: «يَعتِق منه بحساب ما أدَّى»، وعن الحارث الأعور عنه: «يَعتِق منه بقدر ما أدَّى، ويرث بقدر ما أدى». قال البيهقي (5): وقد روى حماد بن سلمة، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أصاب المكاتبُ حدًّا أو ميراثًا ورِث بحساب ما عَتَق منه، وأقيم عليه الحدُّ بحساب ما عتَق منه» (6). _________ (1) في «الأم» (8/ 460)، والمؤلف صادر عن «معرفة السنن» (14/ 446). (2) علّقه عنهم البخاري مجزومًا به في كتاب المكاتب، باب بيع المكاتب إذا رضي. ووصلها عبد الرزاق (باب عجز المكاتب، 8/ 405 - 408)، وابن أبي شيبة (20942 - 20949)، والبيهقي في «الكبرى» (10/ 234) وفي «المعرفة» (14/ 446 - 447). (3) في «المعرفة» (14/ 447)، ووصله في «الكبرى» (10/ 325)، وقبله ابن أبي شيبة (20945) بإسناد فيه انقطاع، معبد الجُهَني لم يسمع من عمر. (4) في «الأم» (8/ 458 - 459)، ومن طريقه البيهقي في «المعرفة» (14/ 447 - 448). وأثر عليٍّ صحيح، وقد رُوي من طرق أخرى عن عليّ، من رواية عكرمة وإبراهيم وقتادة، إلا أنها مرسلة لعدم سماعهم منه. (5) «معرفة السنن» (14/ 448). (6) أخرجه أبو داود (4582)، والترمذي (1259) وحسّنه، والنسائي في «الكبرى» (7226)، والحاكم (2/ 218 - 219) وصححه. وقال النسائي: «هذا لا يصح، وهو مختلف فيه». وسيأتي ذكر ما يخالفه.

(3/4)


وبهذا الإسناد قال: «يُودَى المكاتَبُ (1) بحصة ما أدَّى دِيَة حر، وما بقي ديةَ عبدٍ» (2). وفي «المسند» (3) لأحمد عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يُودَى المكاتب بقدر ما أدّى [ديةَ الحرّ]». وقد روي هذا موقوفًا عليه (4). ورواه الترمذي (5) أتم من هذا عن ابن عباس قال: «إذا أصاب المكاتَب حدًّا أو ميراثًا ورث بحساب ما عتق منه، ويُودَى المكاتب بحِصّة ما أدَّى دية حر، وما بقي دية عبد». قال الترمذي: هذا حديث حسن. قال البيهقي (6): ورواه وهيب عن أيوب عن عكرمة [عن علي] مرفوعًا: _________ (1) أي: تُدفَع ديةُ قتله أو الجنايةِ عليه. وتحرّف في ط. المعارف هنا وفي المواضع الآتية إلى: «يؤدي»! (2) أخرجه أحمد (3489)، والترمذي (1259)، والطحاوي في «معاني الآثار» (3/ 110)، والبيهقي (10/ 325)، كلهم من طريق يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن أيوب به. وقد اختلف في هذا الحديث عن عكرمة، وعن أيوب اختلافًا كثيرًا، فقد روي مسندًا عن ابن عباس وعن علي، وروي مرسلًا، وروي موقوفًا. (3) برقم (2356) عن محمد بن عبد الله الأنصاري، عن هشام الدَّستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس. (4) أخرجه البيهقي (10/ 326) من طريق غندر، عن هشام، به. (5) برقم (1259) من طريق حماد بن سلمة، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعًا. (6) في «المعرفة» (14/ 448 - 449)، وما بين الحاصرتين منه.

(3/5)


«يُودَى المكاتب بحصة ما أدّى ديةَ حرّ، وما بقي ديةَ عبد» (1). قال: ورواية عكرمة عن علي مرسلة. ورواه حماد بن زيد وإسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن عكرمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا (2). وروي عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعًا في الدية (3). واختلف فيه على هشام الدستوائي عن يحيى؛ فرفعه عنه جماعة، ووقفه على ابن عباس بعضهم (4). _________ (1) أخرجه أحمد (723)، والنسائي في «الكبرى» (5003)، والبيهقي (10/ 325) وغيرهم، من طرق عن وهيب بن خالد به. (2) رواية حماد بن زيد أخرجها النسائي في «الكبرى» (5005، 6987) والطحاوي في «معاني الآثار» (3/ 110). ورواية إسماعيل بن إبراهيم ابن عليّة أخرجها ابن أبي شيبة (28440)، والنسائي في «الكبرى» (5004)، ولكنها ليست عن عكرمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلةً، بل عن عكرمة عن علي موقوفةً عليه. (3) رواه عن يحيى بن أبي كثير: هشام الدَّستوائي، وعلي بن المبارك (وستأتي روايتهما)، وحجّاج الصوّاف [أحمد (3423) وأبو داود (4581)]، ومعاوية بن سلّام [النسائي في الكبرى (5001)]، وأبان بن يزيد [الحاكم (2/ 218)]؛ كلهم عن يحيى، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعًا. (4) رفعه عن هشام: ابنه معاذ، وابن علية، وأبو داود الطيالسي، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، والنضر بن شميل. أخرجها أحمد (1944، 2356)، وأبو داود (4581)، والنسائي في «الكبرى» (5000)، والدارقطني (4216). ووقفه عن هشام: محمد بن جعفر (غندر)، كما عند البيهقي (10/ 326).

(3/6)


ورواه علي بن المبارك عن يحيى مرفوعًا، ثم قال يحيى: قال عكرمة عن ابن عباس: «يقام عليه حد المملوك» (1). وهذا يخالف رواية حماد بن سلمة في النص، والروايةَ المرفوعة في القياس (2). ولهذا الاضطراب ــ والله أعلم ــ ترك الإمام أحمد القول به، فإنه سئل عن هذا الحديث؟ فقال: أنا أذهب إلى حديث بريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بشرائها، يعني أنها بقيت على الرِّقّ حتى أمر بشرائها (3). وقد اختلف الناس في هذه المسألة على مذاهب: أحدها: أنه لا يعتق منه شيء ما دام عليه شيء من كتابته. وهذا قول الأكثرين، ويُروى عن عمر وزيد وابن عمر وعائشة وأم سلمة (4)، وجماعةٍ من التابعين (5). وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وإسحاق (6). _________ (1) أخرجه ابن أبي عاصم في «الديات» (242)، والطحاوي في «معاني الآثار» (3/ 111)، والحاكم (2/ 218)، وعنه البيهقي (10/ 326). وأخرجه النسائي في «الكبرى» (6983) دون الموقوف. (2) في الأصل والطبعتين: «هي القياس»، والتصويب من «المعرفة»، ومن «السنن الكبرى» حيث العبارة أصرح. وهنا ينتهي النقل عن البيهقي من «المعرفة». (3) نقل هذه الرواية عن أحمد البيهقيُّ في «المعرفة» (14/ 449) وفي «الكبرى» (10/ 326). (4) سبق تخريج آثار عمر وزيد وابن عمر وعائشة، وأما قول أم سلمة فأخرجه عبد الرزاق (15728). (5) كابن المسيب، والزهري، والقاسم، وسالم، وسليمان بن يسار، وقتادة. انظر: «الأوسط» لابن المنذر (11/ 531، 554). (6) انظر: «الموطأ» (2283 - 2285)، و «الأم» (8/ 460، 9/ 385)، و «الأصل» للشيباني (5/ 211)، و «مسائل إسحاق» برواية الكوسج (2/ 481).

(3/7)


وروى سعيد بن منصور في «سننه» (1) عن أبي قلابة قال: «كن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يحتجبن من مكاتب ما بقي عليه دينار». وذكر سعيد في «سننه» (2) أيضًا عن عطاء: أن ابن عمر كاتب غلامًا على ألف دينار، فأدى إليه تسعمائة دينار، وعجز عن مائة، فرده ابن عمر - رضي الله عنه - في الرق (3). قالوا: وهذا هو مقتضى أصول الشريعة، فإنّ عِتقه مشروط بأداء جميع العوض، فلا يقع شيء منه قبل أدائه، كما لو علّق طلاقها على عوض فأدت بعضه. ولأنه لو عَتَق منه شيءٌ لكان هو السبب في إعتاقه، فكان يسري إلى باقيه إذا كان موسِرًا، كما لو باشره بالعتق. وهذا باطل قطعًا، فإنه لا يبقى للكتابة معنى، فإنه يؤدي درهمًا مثلًا ويتنجّز عِتقُه. وهذا لم يقل به أحد، وذلك أن العتق لا يتبعض في ملك الإنسان، فلو عَتَق منه شيء بالأداء سَرَى إلى باقيه؛ ولا سراية، فلا عتق. _________ (1) ومن طريقه أخرجه البيهقي (10/ 325). وإسناده صحيح، وقد روي من وجوه أخرى. (2) وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (21831) والبيهقي (10/ 341)، وعطاء عن ابن عمر مرسل، ولكن صحت القصة من طرق أُخَر، أخرجها عبد الرزاق (15723، 15724)، وابن أبي شيبة (21955)، والبيهقي (10/ 341 - 342). (3) لكنه ما لبث أن أعتقه بعد ذلك، كما صحّ في عدد من الروايات في المصادر السابقة، ولا غرو فإن ابن عمر عُرِف بكثرة الإعتاق. انظر: «الطبقات» لابن سعد (4/ 156)، و «الزهد» لأبي داود (ص 262، 263، 268).

(3/8)


المذهب الثاني: أنه يَعتِق منه بقدر ما أدّى، وكلما أدّى شيئا عَتَق منه بقدره. وهذا مذهب رابع الخلفاء الراشدين، وأحد الأئمة المهديين علي بن أبي طالب. وحجة هذا القول: حديث ابن عباس المتقدم، وهو حديث حسن، قد روي من وجوه متعددة، ورُواته أئمة ثقات لا مطعن فيهم، ولا تَعلُّق عليهم في الحديث سوى الوقف أو الإرسال، وقد روي موقوفًا ومرفوعًا، ومرسلًا ومسندًا، والذين رفعوه ثقات، والذين وقفوه ثقات. وقد أعلَّه قوم بتفرّد حماد بن سلمة به وليس كذلك، فقد رواه وهيب وحماد بن زيد وإسماعيل بن إبراهيم عن أيوب، وله طرق قد ذكرنا بعضها (1). المذهب الثالث: أنه إذا أدَّى شَطر الكتابة فلا رقَّ عليه ويُلزَم بأداء [ق 212] الباقي. وهذا يروى عن عمر بن الخطاب (2)، وعن علي أيضًا (3). _________ (1) هذه المتابعات والطرق هي لحديث: «يُودى المكاتب بقدر ما أدَّى دية الحر»، وأما حديث أن ميراث المكاتَب وحَدَّه بحساب ما عَتَق منه، فقد تفردّ به حماد بن سلمة عن أيوب، كما نصّ عليه البيهقي في «المعرفة» (14/ 448) و «الكبرى» (10/ 325). (2) أخرجه عبد الرزاق (15736)، وابن أبي شيبة (20960)، والبيهقي (10/ 325)، من طريق القاسم بن عبد الرحمن، عن جابر بن سمرة، عن عمر. قال البيهقي: القاسم لا يثبت سماعه من جابر، وهو إن صحّ فكأنه أراد أن الأَولى أن يُمهل حتى يكتسب ما بقي. اهـ باختصار. (3) أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (7/ 502)، من رواية عطاء عن علي، وهي مرسلة.

(3/9)


وهو قول إبراهيم النخعي (1). المذهب الرابع: أنه إذا أدى قيمته فهو حر. قال الشافعي (2) عن حماد بن خالد الخياط، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن أبي الأحوص قال: قال عبد الله: إذا أدى المكاتب قيمته فهو حر. المذهب الخامس: أنه إذا أدى ثلاثة أرباع الكتابة وعجز عن رُبعها عَتَق. وهذا قول أبي بكر عبد العزيز والقاضي وأبي الخطاب (3)، بناءً منهم على وجوب رد ربع كتابته إليه، فلا يُرَد إلى الرق بعجزه عن أداء شيءٍ يجب ردُّه إليه وهو حقه لا حقَّ للسيد فيه. المذهب السادس: أنه إذا ملك ما يؤدي عَتَق بنفس مِلْكه قبل أدائه. وهذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد (4). وعلى هذا: إذا ملك ما يؤدي ثم مات قبل الأداء مات حرًّا، يُدفَع إلى سيِّده مقدار كتابته، والباقي لورثته. واحتج لهذا المذهب بما رواه نَبْهان مكاتب لأم سلمة قال: سمعت أم سلمة تقول: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان لإحداكن مكاتب، فكان عنده ما _________ (1) أخرجه ابن أبي شيبة (20964) ولفظه: إذا أدّى الثلث، أو الربع، أو النصف فليس لهم أن يسترقّوه. (2) في «الأم» (8/ 460)، ومن طريقه البيهقي في «معرفة السنن» (14/ 447). إسناده جيد، وأخرج ابن المنذر في «الأوسط» (7/ 501) نحوه من رواية إبراهيم النخعي عن ابن مسعود. (3) انظر: «المغني» (14/ 453). (4) انظر: «المغني» (14/ 464).

(3/10)


يؤدي، فلتحتجب منه». رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه (1)، وقال الترمذي: حسن صحيح. قال الشافعي في القديم (2): ولم أحفظ عن سفيان أن الزهري سمعه من نبهان، ولم أر من رضيتُ من أهل العلم (3) يثبت واحدًا من هذين الحديثين، والله أعلم. قال البيهقي: أراد هذا وحديث عمرو بن شعيب: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم». قال (4): وحديث عمرو بن شعيب قد رويناه موصولًا، وحديث نبهان قد ذكر فيه معمر سماع الزهري من نبهان (5)، إلا أن صاحِبَي «الصحيح» لم يخرجاه، إما لأنهما لم يجدا ثقةً يروي عنه غيرَ الزهري، فهو عندهما لا يرتفع عنه اسم الجهالة برواية واحد عنه، أو لأنهما لم يثبت عندهما من عدالته ومعرفته ما يوجب قبول خبره. هذا آخر كلامه. وقد ذكر عبد الرحمن بن أبي حاتم في موضعين من «كتابه» (6): أن محمد بن عبد الرحمن مولى طلحة روى عن نبهان. ومحمد بن عبد الرحمن هذا ثقة، احتج به مسلم في «الصحيح». _________ (1) أبو داود (3928)، والترمذي (1261)، والنسائي في «الكبرى» (5011 - 5016)، وابن ماجه (2520)، وصححه الترمذي والحاكم (2/ 219)، مع أن نبهان فيه جهالة حال، وسيأتي الكلام عليه. (2) كما في «معرفة السنن والآثار» (14/ 450). (3) ط. الفقي: «أهل الحديث» خلافًا للأصل ولمصدر النقل. (4) أي البيهقي في الموضع المذكور. (5) أخرجها عبد الرزاق (15729)، ومن طريقه أحمد (26629) والحاكم (2/ 219). وأيضًا ورد ذكر سماع الزهري في رواية ابن عيينة عنه عند الحميدي (291). (6) «الجرح والتعديل» في ترجمتيهما (7/ 318، 8/ 502).

(3/11)


قال الشافعي (1): وقد يجوز أن يكون أَمْرُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أمَّ سلمة ــ إن كان أمرها بالحجاب من مكاتبها إذا كان عنده ما يؤدي ــ على ما عظم الله به أزواجَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمهاتِ المؤمنين وخصّهن منه، وفرّق بينهن وبين النساء إِن اتَّقَينَ، ثم تلا الآيات (2) في اختصاصهن، بأن جعل عليهن الحجاب من المؤمنين وهن أمهات المؤمنين، ولم يجعل على امرأة سواهن أن تحتجب ممن يَحرُم عليه نكاحُها ــ ثم ساق الكلام إلى أن قال ــ: ومع هذا إنّ احتجاب المرأة ممن له أن يراها واسع لها، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ــ يعني سودة ــ أن تحتجب من رجل قضى أنه أخوها، وذلك يشبه أن يكون للاحتياط، وأن الاحتجاب ممن له أن يراها مباح، والله أعلم. فأما حديث أم سلمة فليس صريحًا في أنه يَعتِق بملك الأداء، إنما فيه أمرُ نسائه، أو أمر النساء عامةً، باحتجابهن من مكاتبيهن إذا كان عندهم ما يؤدّون، وهذا لأنهم بملك الأداء قد شارفوا العتق، وقوي سبب الأجنبية بينهم وبين ساداتهم، فاحتجاب النساء ساداتهم منهم أحوط (3). والعبد ليس بمحرم لسيدته في أحد القولين، وفي الآخر هو محرم لسيدته، للحاجة لهما إلى ذلك، وكثرة دخوله وخروجه عليها، ومِلْكها منافعَه واستخدامَه؛ _________ (1) كما في «المعرفة» (14/ 450) و «السنن الكبرى» (10/ 327). (2) هي قوله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ... } [الأحزاب: 32 - 33]، ولعله تلا أيضًا: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ... } الآية [53]. (3) أي احتجاب النساء اللاتي هن سادات المكاتَبين منهم أحوط. وغيّر العبارة في ط. الفقي إلى: «واحتجاب النساء عن عبيدهن أحوط».

(3/12)


وبالكتابة لم يتحقق زوال هذا المعنى، فإذا ملك ما يؤدي، وقد ملك منافعه بالكتابة، ولم يبق في عوده في الرق مطمع غالبًا= قوي جانب الحرّية فيه وتأكد سببُ الاحتجاب. مع أن حديث أم سلمة في سياقه ما يدل على أنها إنما (1) احتجبت منه بعد إذنها في دفع ما عليه لأخيها. قال الشافعي - رحمه الله - (2): أخبرنا (3) سفيان قال: سمعت الزهري يذكر عن نبهان مولى أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه كان معها وأنها سألته: كم بقي عليك من كتابتك؟ فذكر شيئا قد سماه، وأنه عنده، فأمرتْه أن يعطيه أخاها أو ابنَ أخيها، وألقت الحجاب واستترت منه، وقالت: عليك السلام، وذكرت (4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا كان لإحداكن مكاتب، فكان عنده ما يؤدي، فلتحتجب منه». فهذا السياق يدل على ما ذكرنا، إلا أن المرفوع منه دليل على الاحتجاب بنفس ملك الأداء، وهذا وجهه ــ والله أعلم ــ ما تقدم. وإنما الشأن في حديث عمرو بن شعيب وحديث ابن عباس، وفي تقديم أحدهما على الآخر. وفي معارضة الإمام أحمد لحديث ابن عباس بحديث بريرة نظر، فإنه لا تعارض بينهما، فإن بريرة لم تكن قضت من كتابتها شيئًا، هكذا في _________ (1) ط. الفقي: «قد»، وفي الأصل وط. المعارف: «إذا»، ولعله تصحيف ما أثبت. (2) في «القديم»، كما في «معرفة السنن» (14/ 449). (3) في الطبعتين: «حدثنا» خلافًا للأصل، وقد سبق التنبيه على مثله مرارًا. (4) في مطبوعة «معرفة السنن»: «وذكر ابن عباس»، تحريف لا وجه له.

(3/13)


«الصحيحين» (1) عن عائشة، ولو أدَّى المكاتب من كتابته جاز بيعه وبقي عند المشتري كما كان عند البائع، فإذا كمّل (2) إليه ما بقي عليه من الكتابة عَتَق، فلم يتضمن بيعه إبطال ما انعقد فيه من الحرية أو سببها. ولكن حديث ابن عباس يرويه عنه عكرمة، وقد اضطرب فيه اضطرابًا كثيرا: فمرة يرويه عنه قوله، ومرة يرويه عكرمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يذكر ابن عباس، ومرة يقول: عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يقام عليه الحد بحساب ما عتق منه، ومرة يرويه عن علي موقوفًا. وهذا الاضطراب يوجب التوقف في الحديث. وحديث عمرو بن شعيب سالم من مثل هذا الاضطراب، ومعه فتاوى مَن ذكرنا مِن الصحابة، وعليه [ق 213] العمل. فهذا ما أدى إليه الجهد في هذه المسألة، وفوق كل ذي علم عليم. 2 - باب فيمن أعتق نصيبًا له من مملوك 482/ 3779 - عن أبي المليح ــ قال أبو الوليد: عن أبيه ــ أن رجلًا أعتق شِقْصًا له من غُلام فذُكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «ليس للهِ شَريك». زاد ابن كثير في حديثه: فأجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - عتقه. وأخرجه النسائي وابن ماجه (3). وقال النسائي: أرسله سعيد بن أبي عروبة _________ (1) البخاري (2561)، ومسلم (1504/ 6). (2) كذا في الأصل، فإن لم يكن تصحيفًا فهو على تضمينه معنى «أدّى». (3) أبو داود (3933)، والنسائي في «الكبرى» (4951) من طريق همام عن قتادة عن أبي المليح. ولم أجده عند ابن ماجه، ولا عزاه إليه في «تحفة الأشراف» (1/ 65).

(3/14)


وهشام بن [أبي] عبد الله، وساقه عنهما مرسلًا (1)، وقال: هشام وسعيد أثبت من همَّام في قتادة وحديثهما أولى بالصواب، وبالله التوفيق. هذا آخر كلامه. وأبو المليح: اسمه عامر، ويقال: عمير، ويقال: زيد. وهو ثقة محتج به في «الصحيحين»، وأبوه: أسامة بن عمير، هُذَلي بصري، له صحبة، ولا نعلم أن أحدًا روى عنه غير ابنه أبي المليح. 483/ 3780 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلًا أعتق شَقيصًا له من غلام، فأجاز النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عِتقه وغرَّمه بقيَّة ثمنه» (2). 484/ 3781 - وفي رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أعتق مملوكًا بينه وبين آخرَ فعليه خَلاصُه» (3). 485/ 3782 - وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أعتق نصيبًا له في مملوك عَتَق من ماله إن كان له مال» (4). وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (5) بنحوه. _________ (1) برقم (4952، 4953). وأما قوله الآتي فليس في «السنن الكبرى» المطبوعة، وقد نقله المزِّي في «تحفة الأشراف» (1/ 65). (2) «سنن أبي داود» (3934) من طريق همّام عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة. (3) «سنن أبي داود» (3935) من طريق شعبة عن قتادة به. (4) «سنن أبي داود» (3936) من طريق هشام عن قتادة به (5) أخرجه مسلم (1502/ 2) من طريق شعبة، والنسائي في «الكبرى» (4948) من طريقق هشام، كلاهما عن قتادة به دون ذكر السعاية. وأخرجه الباقون بذكر السعاية وسيأتي في الباب القادم تخريجها.

(3/15)


3 - باب من ذكر السعاية في هذا الحديث 486/ 3783 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَن أَعتَق شقيصًا في مملوكِه، فعليه أن يُعتِقَه كُلَّه إن كان له مالٌ، وإلا اسْتُسعِيَ العبدُ غيرَ مَشقُوقٍ عليه». وأخرجه الباقون (1). 487/ 3784 - وعنه - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أعتق شِقْصًا له ــ أو شَقيصًا له ــ في مملوك فخلاصه عليه في ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال قوِّمَ العبد قيمةَ عدل، ثمَّ استُسْعِي لِصاحبه في قِيمَتِه غيرَ مشقوق عليه» (2). قال أبو داود: ورواه رَوحُ بن عُبادة عن سعيد بن أبي عَروبة، لم يذكر السعاية. ورواه يحيى بن سعيد وابن أبي عدي عن سعيد بن أبي عروبة، لم يذكرا فيه السعاية (3). ورواه يزيد بن زُريع عن سعيد فذكر فيه السعاية. _________ (1) أخرجه أبو داود (3937)، والنسائي في «الكبرى» (4946)، من طريق أبان بن يزيد العطار عن قتادة به. وأخرجه البخاري (2492، 2527)، ومسلم (1503)، والترمذي (1348)، والنسائي في «الكبرى» (4943 - 4945)، وابن ماجه (2527)، من طرق عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة به. وأخرجه البخاري (2504، 2526) ومسلم (1503/ 4) من طريق جرير بن حازم عن قتادة به. (2) «سنن أبي داود» (3938) من طريق يزيد بن زريع ومحمد بن بِشر، كلاهما عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة به. (3) كذا في «المختصر»، وظاهر عبارة أبي داود في «السنن» أنهما ذكرا فيه السعاية، وذلك أن أبا داود ذكر روايتهما عقب الحديث السابق ــ وفيه ذكر السعاية ــ ثم قال: «بإسناده ومعناه».

(3/16)


وقال البخاري (1): رواه شعبة (2) عن قتادة، فلم يذكر السعاية. وقال الخطابي (3): اضطرب سعيد بن أبي عروبة في السعاية: مرة يذكرها، ومرة لا يذكرها، فدل على أنها ليست من متن الحديث عنده. وإنما هو من كلام قتادة وتفسيرِه وتقييدِه على ما ذكره همام وبيَّنه (4). ويدل على صحة ذلك حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - (5)، وقد ذكره أبو داود في الباب الذي يليه. وقال الترمذي (6): وروى شعبة هذا الحديث عن قتادة، ولم يذكر فيه أمر السعاية. وقال النسائي (7): أثبتُ أصحاب قتادة: شعبةُ وهشام الدَّسْتُوائي وسعيد بن _________ (1) كما في «العلل الكبير» للترمذي (ص 204 - 205). (2) في مطبوعة «مختصر المنذري»: «سعيد»، تحريف. (3) «معالم السنن» (5/ 398 - 399). (4) يشير إلى ما أخرجه هو في «المعالم» (5/ 396 - 397) من طريق ابن المنذر ــ وهو في «الأوسط» (7/ 515) ــ، والدارقطني (4222)، والبيهقي (10/ 282)، والخطيب في «الفصل للوصل المدرج في النقل» (1/ 358 - 359)، كلهم من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ عن همّام عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة: أن رجلا أعتق شقصًا من مملوك فأجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - عتقه وغرّمه بقية ثمنه. قال همام: فكان قتادة يقول: إذا لم يكن له مال استسعى. (5) وفيه بدل الاستسعاء: «وإلا فقد عَتَق منه ما عَتَق». والحديث متفق عليه، وسيأتي. (6) عقب الحديث (1348). (7) ليس في «السنن الكبرى» المطبوعة، والجملة الأخيرة منه في «تحفة الأشراف» (9/ 302).

(3/17)


أبي عروبة، وقد اتفق شعبةُ وهشام على خلاف سعيد بن أبي عروبة، وروايتهما ــ والله أعلم ــ أولى بالصواب عندنا. وقد بلغني أن همّامًا روى هذا الحديث عن قتادة فجعل الكلام الأخير قوله: «وإن لم يكن له مال استُسعي العبد غير مشقوق عليه» قولَ قتادة. وقال عبد الرحمن بن مهدي (1): أحاديث همَّام عن قتادة أصحُّ مِن حديث غيره، لأنه كتبها إملاء. وقال الدارقطني (2): روى هذا الحديث شعبة وهشام عن قتادة ــ وهما أثبت ــ فلم يذكرا فيه الاستسعاء، ووافقهما همام وفَصَل الاستسعاء من الحديث فجعله من رأي قتادة. وسمعتُ أبا بكر النيسابوري (3) يقول: ما أحسنَ ما رواه همام وضبطه؛ فصَلَ قولَ قتادة. وقال ابن عبد البر (4): والذين لم يذكروا السعاية أثبتُ ممن ذكرها (5). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال الإمام أحمد (6): ليس في الاستسعاء ثبتٌ عن _________ (1) أسنده البيهقي عنه في «السنن الكبرى» (10/ 282). (2) في «التتبّع» برقم (25)، وبنحوه في «السنن» عقب الحديث (4220) وفيه قول شيخه أبي بكر النيسابوري الآتي. (3) هو الحافظ الفقيه عبد الله بن محمد بن زياد بن واصل (ت 324). قال الدارقطني: «لم نر أحفظ منه للأسانيد والمتون، وكان يعرف زيادات الألفاظ في المتون». انظر لترجمته: «تاريخ بغداد» (11/ 339)، و «تاريخ الإسلام» (7/ 491). (4) في «الاستذكار» (7/ 313). (5) كلام المنذري على حديثي الباب من (هـ)، وفيه تصرف يسير من المؤلف. (6) انظر: «مسائله» رواية عبد الله (ص 396)، ورواية أبي داود (ص 293)، والمؤلف صادر عن «المغني» (14/ 359).

(3/18)


النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحديث أبي هريرة يرويه ابن أبي عروبة، وأما شعبة وهشام الدَّسْتُوائي فلم يذكراه (1)، وحدث به معمر (2) ولم يذكر فيه السعاية. وقال أبو بكر المرُّوذي (3): ضعّف أبو عبد الله حديث سعيد. وقال الأثرم (4): طعن سليمان بن حرب في هذا الحديث وضعَّفه. وقال ابن المنذر (5): لا يصح حديث الاستسعاء، وذكر همّام أن ذكر الاستسعاء من فُتيا قتادة، وفرّق بين الكلامين الذي هو من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقول قتادة، قال بعد ذلك: فكان قتادة يقول: «إن لم يكن له مال استُسعِيَ العبد». وقال ابن عبد البر (6) أيضًا: حديث أبي هريرة يدور على قتادة، وقد اتفق شعبة وهشام وهمّام على ترك ذكره، وهم الحجة في قتادة، والقول _________ (1) في الأصل وط. المعارف: «يذكره»، خطأ. (2) كذا في الأصل و «المغني»، والذي عند عبد الرزاق (16717) من رواية معمر عن قتادة، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، أنه ذكر فيها السعاية. فلعل معمرًا اضطرب فيه فذكر السعاية مرة، ولم يذكرها مرة، على أني أخشى أن يكون تصحَّف كلام الإمام أحمد في «المغني» وأن الصواب: «ابن عمر» بدل «معمر». انظر: «مسائل أحمد» برواية عبد الله (ص 396). (3) كما في «المغني» (14/ 360). (4) كما في «المغني» (14/ 359). (5) في «الإشراف» (8/ 85 - 86)، والمؤلف صادر عن «المغني» (14/ 360). (6) ط. الفقي: «ابن المنذر» تحريف. وكلام ابن عبد البر في «التمهيد» (14/ 273، 276)، والمؤلف صادر عن «المغني» (14/ 360).

(3/19)


قولهم فيه عند جميع أهل العلم بالحديث إذا خالفهم غيرهم. وقال الشافعي (1): سمعت بعض أهل النظرِ والقياسِ (2) منهم والعلمِ بالحديث يقول: لو كان حديث سعيد بن أبي عروبة في الاستسعاء منفردًا لا يخالفه غيره ما كان ثابتًا، يعني: فكيف وقد خالفه شعبة وهشام؟ قال الشافعي (3): وقد أنكر الناسُ حِفظ سعيد. قال البيهقي (4): وهذا كما قال، فقد اختلط سعيد بن أبي عروبة في آخر عمره حتى أنكروا حفظه. وقال يحيى بن سعيد القطان: شعبة أعلم الناس بحديث قتادة، ما سمع منه وما لم يسمع، وهشام أحفظ، وسعيد أكثر. قال البيهقي: فقد اجتمع هاهنا شعبة مع فضل حفظه وعلمه بما سمع قتادة (5) وما لم يسمع، وهشام (6) مع فضل حفظه، وهمام مع صحة كتابته وزيادة معرفته بما ليس من الحديث= على خلاف ابن أبي عروبة ومن تابعه في إدراج السعاية في الحديث. وفي هذا ما يُضعِّف ثبوتَ الاستسعاء بالحديث. _________ (1) في «اختلاف الحديث» (10/ 304 - مع الأم)، ونقله البيهقي في «المعرفة» (14/ 393) ــ والمؤلف صادر عنه ــ و «الكبرى» (10/ 281). (2) كذا في الأصل، وفي «المعرفة» و «الكبرى» (21/ 336 - ط. هجر): «والتديّن»، وفي «اختلاف الحديث»: «والدين»، وفي الطبعة الهندية من «الكبرى»: «والتدبّر». (3) في «القديم»، كما في «معرفة السنن» (14/ 393). (4) «معرفة السنن» (14/ 394 - 395). (5) في مطبوعة «معرفة السنن»: «سمع من قتادة»، والظاهر أن «من» مقحمة. (6) من بعد قوله: «هشام» قبل سطرين إلى هنا ساقط من الأصل لانتقال النظر، واستدرك من (هـ).

(3/20)


فهذا كلام هؤلاء الأئمة الأعلام في حديث السعاية. وقال آخرون: الحديث صحيح، وتَرْكُ ذكرِ شعبة وهشام للاستسعاء لا يقدح في رواية من ذكرها، وهو سعيد بن أبي عروبة، ولا سيما فإنه أكبر أصحاب قتادة ومِن أخصّهم به، وعنده عن قتادة ما ليس عند غيره من أصحابه، ولهذا أخرجه أصحاب «الصحيحين» في «صحيحيهما»، ولم يلتفتا إلى ما ذُكر في تعليله. وأما الطعن في رواية سعيد عن قتادة ولو لم يخالَف، فطعن ضعيف، لأن سعيدًا عن قتادة حجة بالاتفاق، وهو من أصح الأسانيد المتلقاة بالقبول التي أكثرَ منها أصحابُ «الصحيحين» وغيرهم، فكيف ولم ينفرد سعيد عن قتادة بالاستسعاء، بل قد رواه عن قتادةَ جريرُ بن حازم، وناهيك به! قال البخاري في «صحيحه» (1): بابٌ إذا أعتق نصيبًا في عبد وليس له مال استُسعي العبدُ غيرَ مشقوق عليه، على نحو الكتابة. حدثني أحمد بن أبي رجاء، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا جرير بن حازم قال: سمعت قتادة، ح (2) وحدثنا مسدد، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نَهِيك، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أعتق نصيبًا ــ أو شقيصًا ــ في مملوك، فخلاصه عليه في ماله إن كان له مال، وإلا قُوِّم عليه فاستُسعِيَ غيرَ مشقوق عليه». قال البخاري: وتابعه _________ (1) مبوّبًا على الحديثين (2526، 2527). (2) هذا التحويل لا يوجد في شيء من روايات البخاري المذكورة في النسخة اليونينية، وإنما فيها إكمال السند عن قتادة وذكر طرف الحديث: «من أعتق شقيصًا من عبد»، ثم الإسناد الثاني: «حدثنا مسدد ... » إلخ. وعليه أُصلح النص في ط. الفقي.

(3/21)


حجاج بن حجاج وأبان وموسى بن خلف عن قتادة، اختصره شعبة. وقال النسائي في «سننه» (1): أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك، حدثنا أبو هشام، حدثنا أبان، حدثنا قتادة، حدثنا النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أعتق شقيصًا له في عبد، فإن عليه أن يُعتِق بقيته إن كان له مال، وإلا استُسْعيَ العبد، غيرَ مشقوق عليه». فقد برئ سعيد من عهدة التفرد به، فهؤلاء خمسة رووه عن قتادة: سعيد، وجرير بن حازم، وأبان، وحجاج بن حجاج، وموسى بن خلف. ثم لو قُدّر تفرد سعيد به لم يضره، وسعيد وإن كان قد اختلط في آخر عمره، فهذا الحديث من رواية يزيد بن زُرَيع وعَبْدة وإسماعيل والجِلَّة عن سعيد (2)، وهؤلاء أعلم بحديثه. ولم يرووا عنه إلا ما كان قبل اختلاطه، ولهذا خرّج أصحاب الصحيح حديثهم عنه. فالحديث صحيح محفوظ بلا شك. وقد رواه مسلم في «صحيحه» (3)، كما ذكره البخاري من رواية _________ (1) «الكبرى» (4946). (2) رواه يزيد بن زريع [البخاري (2527)]، وعبدة بن سليمان [النسائي (4943)]، وإسماعيل ابن عليّة [مسلم (1503/ 3)]، وابن المبارك [البخاري (2492)]، ويحيى بن سعيد القطان [أحمد (10107)]، ويزيد بن هارون [أحمد (7468)]، وعبد الله بن بكر السهمي [الدارقطني (4224)] في آخرين، وعامّة هؤلاء ممن روى عنه قبل الاختلاط. (3) برقم (1503/ 4).

(3/22)


جرير بن حازم. وأما تعليله برواية همام، وأنه ميَّز كلام قتادة من المرفوع، قال أبو بكر الخطيب في كتاب «الفَصْل» (1) له: رواه أبو عبد الرحمن المقرئ عن همام، وزاد فيه ذكر الاستسعاء وجعله من قول قتادة، وميَّزه من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. =فهذا علة لو كان الذي رفعه دون همام، وأما إذا كان مثلَه وأكثر عددًا منه فالحكم لهم. والله أعلم. وقد عورض حديث أبي هريرة في السعاية بحديث عمران بن حصين، وحديث ابن عمر (2). أما حديث عمران، فقال الشافعي (3) في مناظرته لبعض أصحاب أبي حنيفة في المسألة: «ومع حديث نافعٍ حديثُ عمران بن حصين بإبطال الاستسعاء»، ومراده بذلك: أن الرجل لما أعتق الستة المملوكين لم يُكمّل النبي - صلى الله عليه وسلم - عِتقَهم بالسعاية، بل أعتق ثُلُثَهم ولم يَسْتسعِ باقيهم. وهذا لا يعارض حديث الاستسعاء، فإن الرجل أعتق العبيد، وهم كل [ق 214] التركة، وإنما يملك التبرُّع في ثلثها، فكمّل النبي - صلى الله عليه وسلم - الحريةَ في عبدَين مقدارَ الثلث، وكأنهما هما اللذان باشرهما بالعتق؛ والشارع حَجَر _________ (1) (1/ 350). (2) سيأتي حديث ابن عمر في الباب الآتي، وأما حديث عمران فهو ما رواه مسلم (1668) وغيره أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجزأهم أثلاثًا، ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأَرَقَّ أربعة. (3) «اختلاف الحديث» (10/ 304 - مع الأم).

(3/23)


عليه ومنعه من تبعيض الحرية في جميعهم وكمّلها في اثنين، فأي منافاة في هذا لحديث السعاية؟ بل هو حجة على من يبعّض العتق في جميعهم، فإنه إن لم يَقُل بالسعاية نقض أصلَه، وإن قال بها وأعتق الجميع ناقض الحديث صريحًا، ولا اعتراض بمناقضته على حديث أبي هريرة في السعاية. وأما حديث ابن عمر، فهو الذي نذكره في هذا الباب: 4 - باب فيمن روى أنه لا يُستَسعى 488/ 3785 - عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أعتق شِركًا له في مملوك أُقيم عليه قيمة العَدْلِ، فأعطَى شُرَكاءَه حِصَصَهم، وأُعتِق عليه العبدُ، وإلا فقد عَتَق منه ما عَتَق». وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (1). 489/ 3786 - وعن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعناه. قال: وكان نافع ربما قال: «فقد عتق منه ما عتق»، وربما لم يَقُله. 490/ 3787 - وفي رواية: قال ــ يعني أيوب ــ: فلا أدري هو في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو شيء قاله نافع: «وإلا عتق منه ما عتق»؟ وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي (2). 491/ 3788 - وعن عبيد الله ــ وهو ابن عمر ــ عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أعتَقَ شِرْكًا من مملوك له، فعليه عِتقُه كُلِّه، _________ (1) أبو داود (3940)، والبخاري (2522)، ومسلم (1501/ 1)، والنسائي في «الكبري» (4937)، وابن ماجه (2528). وهو في «الموطأ» (2240). (2) أبو داود (3941، 3942)، والبخاري (2491، 2524)، ومسلم (1501/ 49) (ج 3/ 1286)، والترمذي (1346)، والنسائي في «الكبرى» (4935، 4936).

(3/24)


إن كان له ما يبلغ ثمنه، وإن لم يكن له مال عَتَق نصيبُه». وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (1). 492/ 3789 - وعن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بمعنى إبراهيم بن موسى. يعني حديثَ عبيد الله الذي قبله. وأخرجه مسلم والنسائي، وذكره البخاري تعليقًا (2). وفي حديث النسائي: قال يحيى: لا أدري شيئًا كان مِن قِبَله يقوله، أم شيئًا في الحديث: «فإن لم يكن عنده فقد جاز ما صنع»؟ وذكر مسلم أيضًا عن يحيى نحوه. 493/ 3790 - وعن جُويرية ــ وهو ابن أسماء ــ عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بمعنى مالك، ولم يذكر «وإلا فقد عتق منه ما عتق» (3). وقال بعضهم: أيوب قد شَكَّ في قوله: «فقد عتق منه ما عتق» على ما تقدم. قيل له: شكُّ الشاك لا يؤثر في رواية من لم يشك، لاسيما إذا كان الذي لا يشك أحفظَ من الشاك. وقد رواه الإمام مالك - رضي الله عنه - عن نافع، كما قدمناه، ولم يشك. وقد رواه أيضًا عبيد الله بن عمر العمري عن نافع، كما قدمناه، ولم يشك. وقد رواه أيضًا: جرير بن حازم عن نافع، وفيه «وإلا فقد عتق منه ما عتق» ولم _________ (1) أبو داود (3943)، والبخاري (2523)، ومسلم (1501/ 48) (ج 3/ 1286)، والنسائي في «الكبرى» (4925 - 4930). (2) أبو داود (3944)، ومسلم (1501/ 48) (ج 3/ 1286)، والنسائي في «الكبرى» (4938 - 4940)، والبخاري عقب الحديث (2525) معلَّقًا. (3) «سنن أبي داود» (3945). وهو عند البخاري (2503) أيضًا.

(3/25)


يشك. وأخرجه مسلم في «صحيحه» (1). وقال الإمام الشافعي - رضي الله عنه - (2): لا أحسب عالمًا بالحديث ورواتِه يشك في أن مالكًا أحفظ لحديث نافع من أيوب، لأنه كان ألزم له من أيوب. ولمالك فضل حفظه لحديث أصحابه خاصة. ولو استويا في الحفظ فشك أحدهما في شيء لم يشك فيه صاحبه= لم يكن في هذا موضع لأن يُغَلَّط به الذي لم يشك. إنما يغلَّطُ الرجل بخلاف من هو أحفظ منه، أو يأتي بشيء في الحديث يَشْرَكه فيه من لم يحفظ منه ما حفظ منه، ثم هم عدد وهو منفرد. وقد وافق مالكًا في زيادة: «وإلا فقد عتق منه ما عتق» يعني غيره من أصحاب نافع. وقال البيهقي: وقد تابع مالكًا على روايته عن نافع: أثبتُ آل عمر في زمانه وأحفظهم: عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب. هذا آخر كلامه. وقال الإمام الشافعي - رضي الله عنه -: وزاد فيه بعضهم: «ورَقَّ منه ما رَق». وهذا الحديث ــ الذي أشار إليه الإمام الشافعي ــ أخرجه الدارقطني في «سننه» (3). _________ (1) برقم (1501/ 49) (ج 3/ 1286). (2) في «اختلاف الحديث» (10/ 305 - مع الأم)، ونقله البيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 278) و «معرفة السنن» (14/ 395) والمؤلف صادر عنه. (3) برقم (4219) من طريق إسماعيل بن مرزوق الكعبي، عن يحيى بن أيوب الغافقي، عن عبيد الله بن عمر وإسماعيل بن أمية ويحيى بن سعيد، (ثلاثتهم) عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا بلفظ: «ورقَّ ما بقي». وهذه الزيادة لا تصحّ، فإن إسماعيل هذا ليس بالمشهور ولم يوثقه غير ابن حبّان، ويحيى بن أيوب في حفظه شيء، والحديث مروي من طرق كثيرة عن عبيد الله دون هذه الزيادة.

(3/26)


وقال في كتاب «الأفراد» (1): تفرد به إسماعيل بن مرزوق عن يحيى بن أيوب عنه. يعني عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر. هذا آخر كلامه. وإسماعيل هذا مُرادي مصري، كنيته أبو يزيد، روى عنه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم. ويحيى بن أيوب احتج به مسلم واستشهد به البخاري. قال ابن القيم - رحمه الله -: قالوا: وقد قال البخاري (2): أصح الأسانيد كلها: مالك عن نافع عن ابن عمر. وقال أيوب السختياني: كانت لمالك حلقة في حياة نافع (3). وقال ابن المديني: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يقدِّم على مالك أحدًا (4). وقال عثمان بن سعيد الدارمي: قلت ليحيى بن معين: مالك أحب إليك في نافع، أو عبيد الله بن عمر؟ قال: مالك، قلتُ: فأيوب السختياني؟ قال: مالك (5). _________ (1) كما في «أطرافه» لابن طاهر (1/ 582). (2) أسنده عنه الحاكم في «معرفة علوم الحديث» (ص 235)، والخطيب في «الكفاية» (2/ 460 - 461)، والمؤلف صادر عن «معرفة السنن» (14/ 396) هنا وفي النقول الآتية. (3) أسنده البيهقي في «الكبرى» (10/ 279)، وابن عبد البر في «التمهيد» (1/ 64). (4) أسنده يعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» (2/ 138)، والبيهقي (10/ 279). (5) أسنده البيهقي (10/ 279) من طريق أبي الحسن العَنَزي الطرائفي ــ وهو صدوق ــ عن الدارمي. ويخالفه ما رواه ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (5/ 327) عن يعقوب بن إسحاق الهروي قال: أخبرنا عثمان بن سعيد الدارمي قال: قلت ليحيى بن معين: مالك أحب إليك عن نافع أو عبيد الله؟ فقال: كلاهما، ولم يفضّل. وكذا رواه زكريا بن أحمد البلخي عن الدارمي في «تاريخ ابن معين» (ص 151). هذا ما يتعلق برواية عثمان الدارمي عن ابن معين، وإلا فقد ثبت عند ابن أبي حاتم (1/ 16) من رواية أبي بكر بن أبي خيثمة وإسحاق بن منصور عن ابن معين أنه جعل مالكًا أثبت في نافع من أيوب وعبيد الله.

(3/27)


وقال الإمام أحمد ويحيى بن معين: كان مالك من أثبت الناس في حديثه (1). قال الشافعي (2) لمناظره في المسألة ــ وقد احتج عليه بحديث أبي هريرة في الاستسعاء ــ: وعلينا أن نصير إلى أثبت الحديثين؟ قال: نعم، قلت: فمع حديث نافع حديثُ عمران بن حصين بإبطال الاستسعاء. فقال بعضهم نناظرك في قولنا وقولك. فقلت: أوَ للمناظرة موضع مع ثبوت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِطَرْح الاستسعاء في حديث نافع وعمران؟ قال: إنا نقول: إن أيوب قال: إنما قال نافع: «فقد عتق منه ما عتق» وربما لم يقله، وأكبر ظني أنه شيء كان يقوله نافع برأيه. فذكر ما تقدم من حفظ مالك وترجيح حديثه على أيوب. قال أصحاب السعاية: مالك ومن معه رووا الحديث كما سمعوه، ولا ريب أن نافعًا كان يذكر هذه الزيادة متصلةً بالحديث، فأداه أصحابه كما سمعوه يذكرها. _________ (1) أسنده البيهقي (10/ 279). (2) في «اختلاف الحديث» (10/ 304 - 305)، والمؤلف صادر عن «معرفة السنن» (14/ 395).

(3/28)


وأما أيوب فاطلع على زيادة علمٍ لم يذكروها ولا نفوها، وإنما أدَّوا لفظ نافع كما سمعوه يسوق الحديث سياقة واحدة فأدوا ما حفظوه، وأيوب اطلع على تفصيلٍ وتمييزٍ في الحديث، فكلهم صادق في روايته، والحكم لمن فصّل وميّز. وهذا الشك منه هو عين الحفظ، فإنه سمع كما سمعه الجماعة وفصّل الزيادة وميّزها، فقال: «أكبر ظني أنه شيء كان يقوله نافع برأيه»، وسمعه مرة أو مرارًا يذكره متصلًا بالحديث، فشك هل هو من قوله أو من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ وإنما يفيد تقديمُ عبيد الله ومالك عليه في الحفظ أن لو خالفهم، فإذا أدّى ما أدَّوه وروى ما رووه بعينه واطلع على زيادة لم يذكروها، كان الأخذ بروايته أولى، لأنهم لم يقولوا: قال نافع: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وإلا فقد عتق منه ما عتق»، وإنما أدرجوها في الحديث إدراجًا كما سمعوه، وفصل أيوب هذا الإدراج فحفظ شيئًا لم يحفظوه. قالوا: وعلى تقدير الجزم بأنها من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تُناقِض حديث الاستسعاء، فإنّ قوله: «وإلا فقد عتق منه ما عتق» معناه: وإن لم يكن لمعتق البعض مال يبلغ ثمن باقيه عَتَق من العبد بإعتاقه القدرُ الذي أعتقه. وأما الجزء الباقي فمسكوت عنه ولم يذكر حكمه، فجاء بيان ذكر حكمه في حديث أبي هريرة، فتضمَّن حديث أبي هريرة ما في منطوق حديث ابن عمر وزيادة بيان ما سكت عنه، ولا تنافي بين الحديثين. وهذا ظاهر على أحد القولين، لأن باب السعاية أنه لا يَعتِق جميعه بعتق الشريك، وإنما يعتق بعد الأداء بالسعاية بخلاف الجزء الذي قد أعتقه، فإنه قد تنجّز عتقُه، وعِتقُ الجزء الآخر منتظَر موقوف على أداء ما استسعي عليه

(3/29)


كالكتابة. ومعلوم أن قوله: «وإلا فقد عتق منه ما عتق» لا ينافي عتقه بالسعاية على هذا الوجه. فغاية حديث ابن عمر أن يدل بمفهومه، فإن قوله: «عتق ما عتق» منطوقه وقوع العتق في الجزء المباشَر به، ومفهومه انتفاء هذا العتق عن الجزء الآخر، والمفهوم قد يكون فيه تفصيل، فيعتق في حال ولا يعتق في حال. وكذا يقول أصحاب السعاية في أحد قولَيهم (1): يعتق بأداء السعاية ولا يتنجَّز عتقه قبلها. قالوا: وعلى هذا فقد وفَينا جميع الأحاديث مقتضاها، وعملنا بها كلها، ولم نترك بعضها لبعض. قالوا: وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى امتناع الشركة بين الله وعبده في رقبة المملوك بقوله: «ليس لله شريك» (2)، وهذا تعليل لتكميل الحرية، ولهذا أخرج الجزء المملوك عن مالكه قهرًا إذا كان الشريك المُعتِق موسِرًا، لرغبته في تكميل الحرية المنافية للشركة بين الله وعبده في رقبة المملوك. فإيجاب السعاية على العبد لتكميل حريته إذا كان قادرًا عليها أولى، لأن الشارع إذا أوجب على غير مالكه أن يَستفِكَّ بقيّتَه مِن الرق الذي هو أثر الكفر، فلأن يوجِب على العبد أن يستفكّ بقية رقبته مع كسبه وقدرته [ق 215] على تخليص نفسه أولى وأحرى. وهذا في غاية الوضوح، وهو شبه الأسير إذا قَدَر على تخليص نفسه _________ (1) الأصل: «قولهم»، والمثبت موافق للطبعتين. (2) سبق في أحاديث «باب فيمن أعتق نصيبًا له من مملوك».

(3/30)


من الأسر، بل هذا أولى، لأنه قد صار فيه جزء لله لا يملكه أحد، وقد أمكنه أن يُصيّر نفسه عبدًا محضًا لله. والشارع متطلِّع إلى تكميل الأملاك للمالك الواحد، ورفعِ ضرر الشركة، ولهذا جوّز للشريك انتزاعَ الشقص المشفوع من المشتري قهرًا، ليَكْمُل المِلْكُ له، ويزول عنه ضرر الشركة، مع تساوي المالكين، فما الظن إذا كان الخالق سبحانه مالكَ الشقص، والمخلوقُ مالكَ البقية؟ أليس هذا أولى بانتزاع ملك المخلوق وتعويضه منه، ليَكْمُل مِلكُ المالك الحق؟ ولا سبيل إلى إبطال الجزء الذي هو ملك لله، فتعيّن انتزاعُ حصّة العبد وتعويضه عنها. فهذا مأخذ الفريقين في المسألة من جهة الأثر والنظر، والله الموفق للصواب. 5 - باب فيمن ملك ذا رحم مَحْرَم منه 494/ 3794 - عن الحسن ــ وهو البصري ــ عن سَمُرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وقال موسى ــ وهو ابن إسماعيل ــ في موضع آخر: عن سمرة ــ فيما يحسِبُ حَمَّاد ــ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من مَلَك ذا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فهو حُرٌّ». وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (1). وقد تقدم اختلاف الأئمة في سماع الحسن من سمرة. وقال أبو داود: لم يحدِّث هذا الحديث إلا حماد بن سلمة، وقد شك فيه. _________ (1) أبو داود (3949)، والترمذي (1365)، والنسائي في «الكبرى» (4878)، وابن ماجه (2524)، من طرق عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن به.

(3/31)


وقال أبو داود أيضًا: «شعبة (1) أحفظ من حماد بن سلمة»، يعني أن شعبة رواه مرسلًا (2). وقال الخطابي (3): أراد أبو داود من هذا: أن الحديث ليس بمرفوع، أو ليس بمتصل، إنما هو عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه مسندًا إلا من حديث حماد بن سلمة. وقال البيهقي (4): والحديث إذا انفرد به حماد بن سلمة، ثم شك فيه، ثم يخالفه فيه مَن هو أحفظ منه= وجب التوقف فيه. وقد أشار البخاري (5) إلى تضعيف هذا الحديث. وقال علي ابن المديني: هذا عندي منكر. قال ابن القيم - رحمه الله -: هذا الحديث له خمس علل: _________ (1) كذا في «المختصر» المطبوع والمخطوط، وكذا في نسخته التي كانت عند المؤلف لأنه بنى عليه كلامه في بيان علل هذا الحديث، كما سيأتي. والصواب: «سعيد» ــ وهو ابن أبي عروبة ــ، كما في «السنن» (3951، 3952)، و «السنن الكبرى» للبيهقي (10/ 289) من رواية ابن داسة عنه، و «تحفة الأشراف» (4/ 66). وانظر: هامش «السنن» ط. دار التأصيل (6/ 193). (2) كذا قال المنذري، والرواية التي عناها أبو داود هي: عن سعيد (الذي تحرف إلى شعبة)، عن قتادة، عن الحسن قال: من ملك ... إلخ. فهذا ظاهره أنه مقطوع، أي موقوف على الحسن البصري من قوله، والمنذري أطلق عليه «المرسل» من حيث إن الحسن أرسل الحكم الشرعي ولم يسنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وستأتي هذه الرواية برقم (3796) وتعليق المنذري عليها بقوله: «وهذا أيضًا مرسل». (3) «معالم السنن» (5/ 407). (4) «معرفة السنن» (14/ 406 - 407). (5) كما نقله الترمذي في «العلل الكبير» (ص 211).

(3/32)


إحداها: تفرُّد حماد بن سلمة به، فإنه لم يحدث به غيره. الثانية: أنه قد اختَلف فيه حماد وشعبة عن قتادة، فشعبة أرسله وحماد وصله، وشعبة شعبة (1)! الثالثة: أن سعيد بن أبي عروبة خالفهما، فرواه عن قتادة عن عمر بن الخطاب قوله (2). الرابعة: أن محمد بن بشّار رواه عن معاذ عن أبيه عن قتادة عن الحسن قولَه (3). وقد ذكر أبو داود هذين الأثرين. الخامسة: الاختلاف في سماع الحسن من سمرة. 495/ 3795 - وعن قتادة: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: من ملك ذا رحمٍ مَحْرَم فهو حُرّ. وأخرجه النسائي (4)، وهو موقوف. وقتادة لم يسمع من عمر، فإن مولده بعد وفاة عمر بنيِّف وثلاثين سنة. _________ (1) هذا مبني على التصحيف الذي سبق التنبيه عليه، والصواب أن الخلاف بين حماد وسعيد بن أبي عروبة، فحماد يرفعه، وأما سعيد فيرويه على وجهين: عن قتادة عن عمر موقوفًا، وعن قتادة عن الحسن مقطوعًا (أو مرسلًا كما وصفه المنذري وتبعه المؤلف). انظر: «سنن أبي داود» (3949 - 3952)، و «تحفة الأشراف» (4/ 66). (2) أخرجه أبو داود (3950)، وانظر التعليق السابق. (3) أخرجه النسائي في «الكبرى» (4884) من هذا الطريق. وأما أبو داود فأخرجه من طريق آخر عن قتادة عن الحسن، وسيأتي قريبًا. (4) أبو داود (3950)، والنسائي في «الكبرى» (4883).

(3/33)


496/ 3796 - وعن قتادة، عن الحسن قال: من ملك ذا رحم فهو حرّ. وأخرجه النسائي (1). وهذا أيضًا مرسل. 497/ 3797 - وعن قتادة، عن جابر بن زيد والحسن مثلَه. وأخرجه النسائي (2)، وهو أيضًا مرسل. وقد أخرج النسائي وابن ماجه في «سننهما» (3) من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من ملك ذا رحم محرم عَتَق». ولفظ ابن ماجه: «من ملك ذا رحم محرم فهو حرّ». وقال النسائي: هذا حديث منكر، ولا نعلم أحدًا رواه عن سفيان غير ضَمْرة. والله أعلم. وقال الترمذي (4): ولم يُتابَع ضمرة بن ربيعة على هذا الحديث، وهو حديث خطأ عند أهل الحديث. وذكر البيهقي (5) أنه وهم فاحش خطأ، والمحفوظ بهذا الإسناد حديثُ النهي عن بيع الولاء وعن هبته، وضمرة بن ربيعة لم يحتج به صاحبا «الصحيح». هذا آخر كلامه. _________ (1) أبو داود (3951)، والنسائي في «الكبرى» (4885)، من طريق سعيد عن قتادة. (2) أبو داود (3952)، والنسائي في «الكبرى» (4883)، من طريق سعيد عن قتادة أيضًا. (3) النسائي في «الكبرى» (4877)، وابن ماجه (2525) من طريق ضمرة بن ربيعة، عن سفيان الثوري، عن ابن دينار به. (4) في «جامعه» عقب الحديث (1365). (5) «معرفة السنن» (14/ 407).

(3/34)


وضَمْرة بن ربيعة هو: أبو عبد الله الفِلَسطيني، وثّقه يحيى بن معين وغيره (1)، ولم يخرج البخاري ومسلم من حديثه شيئًا كما ذكر، والوهم حصل له في هذا الحديث كما ذكره الأئمة. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال الإمام أحمد (2) عن ضمرة: إنه ثقة، إلا أنه روى حديثين ليس لهما أصل، أحدهما هذا الحديث. وقد روى الإمام البيهقي (3) وغيره من حديث أبي صالح عن ابن عباس قال: جاء رجل يقال له: «صالح» بأخيه فقال: يا رسول الله، إني أريد أن أُعتق أخي هذا، فقال: «إن الله أعتقه حين ملكتَه». ولكن في هذا الحديث بليّتان عظيمتان: العَرْزَمي (4) عن الكلبي؛ كُسَير _________ (1) انظر: «الجرح والتعديل» (4/ 467). (2) كما في «المغني» (14/ 374)، وانظر: «تاريخ أبي زرعة الدمشقي» (1/ 459). (3) «السنن الكبرى» (10/ 290) من طريق الدارقطني في «السنن» (4227)؛ عن العَرْزمي، عن أبي النَّضر، عن أبي صالح به. قال الدارقطني: العَرْزمي تركه ابن المبارك ويحيى القطان وابن مهدي، وأبو النضر هو محمد بن السائب الكلبي، متروك أيضًا، وهو القائل: كل ما حدثت عن أبي صالح كذب. وقال البيهقي في «المعرفة» (14/ 407): هذا مما لا يحلّ الاحتجاج به، الإجماعُ على ترك الاعتماد على رواية الكلبي والعرزمي. (4) زاد في ط. الفقي بعده توضيحًا معترضًا: «وهو عبد الرحمن بن محمد». وهو خطأ، فضلًا عن كونه إقحامًا في النص؛ وذلك أنّ وصفَ الدارقطني للعرزمي بأنه تركه ابن المبارك ويحيى القطان وابن مهدي، ونَقْلَ البيهقي الإجماعَ على ترك الاعتماد على روايته= إنما يصدق على أبيه: محمد بن عبيد الله العرزمي. انظر: «تهذيب التهذيب» (9/ 322 - 324).

(3/35)


عن عُوَير (1)! وفي «صحيح مسلم» (2) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يجزي ولد عن والده إلا أن يجده مملوكًا فيشتريَه فيُعتقه»، وهذا مشترك الدلالة. 6 - باب عتق أمهات الأولاد 498/ 3798 - عن سلامة بنت مَعْقِل ــ امرأة من خارجة قَيس عَيْلان ــ قالت: قَدِمَ بِي عَمِّي في الجاهلية، فباعني من الحُبابِ بن عمرو، أخي أبي اليَسَر بن عمرو، فولدتُ له عبد الرحمن بن الحباب، ثم هلك، فقالت امرأته: الآن والله تُبَاعِينَ في دَيْنه، فأتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، إني امرأةٌ من خارجة قَيسِ عَيْلان، قدم بي عمي المدينة في الجاهلية فباعني من الحباب بن عمرو، أخي أبي اليَسَر بن عمرو، فولدت له عبد الرحمن بن الحباب، فقالت امرأته: الآن والله تُباعين في دَينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ وَلِيُّ الحبَابِ؟» قيل: أخوه أبو اليسر بن عمرو، فبعثَ إليه، فقال: «أعْتِقُوهَا، فإذا سمعتم برَقِيق قَدِمَ عليَّ فائتُوني أُعَوِّضْكم منها». قالت: فأعتقوني، وقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقيقٌ، فعَوَّضهم مني غلامًا» (3). _________ (1) مأخوذ من قولهم: «كُسير وعُوير، وكلٌّ غير خير!»، يُضرب في كل شيئين مكروهَين. وهما تصغير «كَسِير» و «أعور» على خلاف القياس. انظر: «مجمع الأمثال» (2/ 147)، و «اللسان» (عور). (2) برقم (1510). (3) «سنن أبي داود» (3953) من طريق ابن إسحاق، عن خطاب بن صالح مولى الأنصار، عن أمّه، عن سلامة بنت معقل. إسناده ضعيف، تفرد به ابن إسحاق ولم يصرّح بالسماع، وأم خطّاب لا تُعرف.

(3/36)


فيه ابن إسحاق. وقال الخطابي (1): ليس إسناده بذاك. وقال البيهقي (2): إنه أحسن شيء روي في الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: ولكن هذا على جواز بيعهن أدل منه على عدمه، ولا يخفى ذلك. ورواه أحمد في «مسنده» (4)، وزاد في آخره: «فاختلفوا فيما بينهم بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال قوم: أم الولد مملوكة، لولا ذلك لم يعوّضكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال بعضهم: هي حرة أعتقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ففيَّ كان الاختلاف». 499/ 3799 - وعن عطاء ــ وهو ابن أبي رباح ــ، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: بعنا أمهاتِ الأولادِ على عَهْدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، فلما كان عمر نهانا فانتهينا (5). وأخرج النسائي وابن ماجه (6) من حديث أبي الزبير عن جابر قال: كُنَّا نبيع سرارينا أمهات أولادنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - حَيٌّ، ما نرى بذلك بأسًا. وهو حديث حسن. _________ (1) «معالم السنن» (5/ 410). (2) «معرفة السنن» (14/ 469 - 470). (3) كلام المنذري من (هـ)، وفيه تصرّف واختصار عمّا في «المختصر». (4) برقم (27029). (5) «سنن أبي داود» (3954)، وإسناده صحيح. (6) النسائي في «الكبرى» (5021) وابن ماجه (2517) بإسناد صحيح على رسم مسلم، وقد صرّح فيه أبو الزبير بالسماع من جابر، وحكم عليه المنذري بالحسن نظرًا إلى كلام بعض الأئمة في أبي الزبير.

(3/37)


وأخرجه النسائي (1) من حديث زيد العَمِّي، عن أبي الصدِّيق الناجي، عن أبي سعيد في أمهات الأولاد قال: كنا نبيعهن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وزيد العمِّي ضعيف. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى البخاري في «صحيحه» (2) عن أبي سعيد قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنا نصيب سَبْيًا فنحب الأثمان، فكيف ترى في العَزْل؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «[أوَ] إنكم (3) تفعلون؟ لا عليكم أن لا تفعلوا ذلكم، فإنها ليست نَسَمة كتب الله أن تخرج إلا وهي خارجة». وهذا لا يدل على منع بيعهن لوجهين: أحدهما: أن الحمل يؤخر بيعها، فيفوته غرضه من تعجيل البيع. الثاني: أنها إذا صارت أم ولدٍ آثر إمساكها لتربية ولده، فلم يَبِعها لتضرر الولد بذلك. وقد احتُج على منع البيع بحجج كلها ضعيفة، منها: ما رواه الإمام أحمد في «مسنده» وابن ماجه (4) عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من وطئ أمته فولدت له فهي مُعتَقَة عن دبر منه». _________ (1) في «الكبرى» (5023) وقال: «زيد العَمِّي ليس بالقوي». (2) برقم (2229)، وأخرجه مسلم (1438) بنحوه. (3) ما بين الحاصرتين من «الصحيح»، وفي الأصل: «فإنكم»، والمثبت من (هـ). (4) أحمد (2937) وابن ماجه (2515) من طريق حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة، عن ابن عباس به.

(3/38)


وفي لفظ: «أيما امرأة علقت من سيدها فهي معتقة عن دبر منه ــ أو قال: من بعده ــ» (1). وفي لفظ: «فهي حرة من بعد موته» (2). وهذا الحديث مداره على حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس، وهو ضعيف الحديث ضعَّفه الأئمة (3). وكذلك حديث ابن عباس الآخر: ذُكِرت أمُّ إبراهيم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أعتَقَها ولدُها». رواه ابن ماجه (4)، وهو أيضًا من رواية حسين. وكذلك حديث ابن عباس الآخر يرفعه: «أم الولد حُرّة، وإن كان سِقْطًا». ذكره الدارقطني (5)، وهو من رواية الحسين بن عيسى الحنفي، وهو منكر الحديث ضعيفه. والمحفوظ فيه رواية سفيان الثوري عن أبيه عن عكرمة عن عمر أنه قال في أم الولد: «أعتقها ولدُها، وإن كان سقطا» (6). _________ (1) أخرجه أحمد (2910)، ولفظه: «أيّما أمة ولدت ... ». (2) أخرجه الدارقطني (4229)، والحاكم (2/ 19) وصححه، وتعقبّه الذهبي بأن حسينًا متروك. (3) انظر: «تهذيب التهذيب» (2/ 341)، وذكروا أن له أشياء منكرة لا يُتابع عليها، وذكر ابن حبان أنه يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل، وهذا الحديث من ذلك، فالثقات إنما رووا هذا عن عكرمة عن عمر موقوفًا عليه، كما سيأتي. (4) برقم (2516). (5) برقم (4231)، من طريق الحسين بن عيسى الحنفي، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس. (6) أخرجه عبد الرزاق (13244)، وابن أبي شيبة (21894)، وأبو القاسم البغوي في «حديث ابن الجعد» (1748)، ومن طريقه البيهقي (10/ 346). ورواية عكرمة عن عمر وإن كانت مرسلة، ولكن قد صحّ قضاء عمر في تحرير أمهات الأولاد من وجوه عنه، وسيأتي بعضها.

(3/39)


وكذلك رواه ابن عيينة عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن عمر (1). ورواه خُصَيف الجَزَري عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر (2)، فعاد الحديث إلى عمر. قال البيهقي (3): وهو الأصل في ذلك. ومنها ما رواه الدارقطني (4) من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن بيع أمهات الأولاد، وقال: «لا يُبَعْنَ ولا يُوهَبن، ولا يُورَثن، يَستمتع بها سيدُها ما دام حيًّا، فإذا مات فهي حرّة». [ق 216] وهذا لا يصح رفعه، بل الصواب فيه ما رواه مالك في «الموطأ» (5) عن ابن عمر عن عمر قولَه، هكذا رواه عن نافع عبيدُ الله ومالك والناس (6). _________ (1) أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (657 - التفسير)، ومن طريقه البيهقي (10/ 346). وكذلك رواه أبو إسحاق الشيباني، عن عكرمة، عن عمر موقوفًا عليه. أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (2050) ط. الأعظمي. (2) أخرجه سعيد بن منصور (2052)، والبيهقي (10/ 346)، وخُصيف ضعيف، وقد خالف الثقات (سعيدًا الثوري، والحكم بن أبان، وأبا إسحاق الشيباني) بذكر ابن عباس بين عكرمة وعمر. (3) في «معرفة السنن» (14/ 469). (4) برقم (4247، 4250) من طريقين عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. (5) برقم (2248) عن نافع، عن ابن عمر. (6) رواية عبيد الله بن عمر عن نافع أخرجها سعيد بن منصور (2053)، والدارقطني (4246)، والبيهقي (10/ 348). ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع، أخرجه سعيد (2053). ورواه عمر بن محمد بن زيد العُمَري عن نافع، أخرجه البيهقي (10/ 342). ورواه أيوب عن نافع، أخرجه عبد الرزاق (13229).

(3/40)


وكذلك رواه الثوري وسليمان بن بلال وغيرهما عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن عمر (1). قال البيهقي (2): وغلط فيه بعض الرواة عن عبد الله بن دينار فرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو وهم لا تحلّ روايته. ومنها: ما رواه البيهقي وغيره (3) عن سعيد بن المسيب: أن عمر أعتق أمهاتِ الأولاد وقال: «أعتقهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -»، فإنه ضعيف. قال البيهقي (4): يتفرد به عبد الرحمن بن زياد الإفريقي عن مسلم بن يسار عن ابن المسيب، قال: والإفريقي غير محتج به (5). _________ (1) رواية الثوري عن ابن دينار أخرجها عبد الرزاق (13228)، وابن أبي شيبة (22016)، والبيهقي (10/ 343). ورواية سليمان بن بلال أخرجها البيهقي (10/ 342). ورواه أيضًا عبد العزيز بن مسلم القَسْملي وفليح بن سليمان عن عبد الله بن دينار، أخرجهما الدارقطني (4248، 4249). (2) «معرفة السنن» (14/ 467). (3) البيهقي (10/ 344) والدارقطني (4254) من طريق ابن عيينة، عن ابن أنعم الإفريقي، عن مسلم بن يسار، عن ابن المسيب به. (4) «معرفة السنن» (14/ 468). (5) وأيضًا فالإفريقي قد اختلف عليه فيه إسنادًا وإرسالًا، فرواية ابن عيينة عنه كما سبقت مسندة، وخالفه الثوري ــ كما عند عبد الرزاق (13233) ــ فجعل قوله: «أعتقهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» من قول ابن المسيب مرسلًا.

(3/41)


ومنها: ما رواه البيهقي وغيره (1) من حديث خَوَّات بن جبير: أن رجلًا أوصى إليه، وكان فيما ترك أمُّ ولدٍ له وامرأةٌ حرة، فوقع بين المرأة وبين أم الولد بعضُ الشيء، فأرسلت إليها الحرة: لتُباعَنّ رقبتُكِ يا لُكَع! فرفع ذلك خوات بن جبير إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «لا تباع» وأَمَر بها فأُعتِقَت. قال البيهقي (2): وهذا مما يتفرد بإسناده رِشدين بن سعد وابن لَهِيعة، وهما غير محتج بهما. وأحسن شيء روي فيه ... فذكر حديث سلامة بنت معقل، وقد تقدم، وذكرنا أنه لا دلالة فيه. وقد ثبت عن عَبِيدة قال: قال علي: استشارني عمر في بيع أمهات الأولاد، فرأيت أنا وهو أنها عتيقة، فقضى به عمر حياته، وعثمان بعده، فلما وُلِّيتُ رأيت أنها رقيق» (3). وعن عَبِيدة قال: قال علي: اجتمع رأيي ورأي عمر على عِتق أمهات الأولاد، ثم رأيت بعدُ أن أُرِقَّهن في كذا وكذا. قال: فقلت: رأيك ورأي عمر في الجماعة أحبُّ إليَّ مِن رأيك وحدَك في الفُرقة. وفي لفظ: في الفتنة (4). _________ (1) البيهقي (10/ 345) والدارقطني (4241 - 4243). (2) «معرفة السنن» (14/ 469). (3) أخرجه الشافعي في «الأم» (8/ 440)، وابن أبي شيبة (22010)، والبيهقي (10/ 343) بإسناد صحيح. (4) أخرجه عبد الرزاق (13224)، وسعيد بن منصور (2048)، وابن المنذر في «الأوسط» (11/ 606)، والبيهقي في «الكبرى» (10/ 348) وفي «المعرفة» (14/ 468)، وإسناده صحيح.

(3/42)


فهذا يدل على أن منعَ بيعهن إنما هو رأي رآه عمر، ووافقه عليٌّ وغيره، ولو كان عند الصحابة سنة من النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنع بيعهن لم يعزم علي على خلافها، ولم يقل له عبيدة: «رأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلينا»، وأقره علي على أن ذلك رأي. وقال الشافعي (1): ولا يجوز لسيدها بيعُها ولا إخراجها من ملكه بشيء غير العتق، وإنها حرة إذا مات مِن رأس المال ... ثم ساق الكلام إلى أن قال: وهو تقليد لعمر بن الخطاب. وقد سلك طائفة في تحريم بيعهن مسلكًا لا يصح، فادعوا الإجماع السابق قبل الاختلاف الحادث؛ وليس في ذلك إجماع بوجه. قال سعيد بن منصور في «سننه» (2): حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس في أم الولد قال: «بِعها كما تبيع شاتَك أو بعيرك». وباعهن علي، وأباح ابن الزبير بيعهن (3). وقال صالح بن أحمد (4): قلت لأبي: إلى أي شيء تذهب في بيع أمهات الأولاد؟ قال: أكرهه، وقد باع علي بن أبي طالب. وقال في رواية إسحاق بن منصور (5): لا يعجبني بيعهن؛ فاختلف أصحابه على طريقتين: _________ (1) كما في «معرفة السنن» (14/ 467). (2) برقم (2060)، وإسناده صحيح. (3) سبق ما روي عن علي، وأما عن ابن الزبير فأخرجه عبد الرزاق (13228، 13229)، وابن أبي شيبة (22011، 22016)، والبيهقي (10/ 343، 348). (4) كما في «المغني» (14/ 585)، ولم أجده في «مسائله». (5) «مسائل أحمد» برواية إسحاق بن منصور الكوسج (1/ 400 - 401).

(3/43)


إحداهما: أن عنه في المسألة روايتين، وهذه طريقة أبي الخطاب وغيره. والثانية: أنها رواية واحدة، وأحمد أطلق الكراهة على التحريم، وهذه طريقة الشيخ أبي محمد (1)، وغيره. وقول علي: «اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الاختلاف» ليس صريحًا في الرجوع عن قوله: «رأيت أن أُرِقَّهن»، والله أعلم. 7 - باب فيمن أعتق عبدًا له مال 500/ 3806 - عن نافع، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن أعتق عبدًا وله مالٌ فمالُ العبدِ له، إلَّا أن يَشتَرِطَ السَّيِّدُ» (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: قال المنذري في «المختصر» (3): «وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه». وهذا وهم منه، فلم يخرج أحد من أصحاب «الصحيحين» حديث العتق هذا أصلًا، ولا تَعرَّضا له، وإنما رواه النسائي في «سننه» (4) كما رواه أبو داود، من حديث عبيد الله بن أبي جعفر عن نافع عن ابن عمر، ورواه (5) _________ (1) في «المغني» (14/ 585). (2) برقم (3962) من حديث عبيد الله بن أبي جعفر، عن بُكير بن الأشج، عن نافع، عن ابن عمر. (3) (5/ 420). (4) «الكبرى» (4961). (5) برقم (4962).

(3/44)


من حديث عبيد الله بن أبي جعفر أيضًا، عن بكير، عن نافع، عن ابن عمر، ولفظه: «من أعتق عبدًا وله مال فماله له إلا أن يَستثنيه السيد». وهذا الحديث يُعدّ في أفراد عبيد الله هذا، وقد أنكره عليه الأئمة. قال الإمام أحمد ــ وقد سئل عنه (1) ــ: يرويه عبيد الله بن أبي جعفر من أهل مصر، وهو ضعيف في الحديث، كان صاحب فقه، وأما في الحديث فليس هو فيه بالقوي. وقال أبو الوليد: هذا الحديث خطأ. وهذا كما قاله الأئمة، فإن الحديث المحفوظ عن سالم إنما هو في البيع: «من باع عبدًا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع» (2)، هذا هو المحفوظ عنه. وقد تقدم اختلاف سالم ونافع فيه، وأن سالمًا رفعه، وكان البخاري يصححه، ونافع وقفه على عمر، وكان مسلم والنسائي وغيره يحكمون له. وأما قصة العتق: فإنها وَهْم من ابن أبي جعفر، خالف فيها الناس. قال البيهقي في روايته: وهي خلاف رواية الجماعة. وقد روى البيهقي والأثرم وغيرهما (3) عن ابن مسعود أنه قال لغلامه _________ (1) سبق عزوه في «باب في العبد يُباع وله مال»، وكذا ما يأتي من الكلام على الحديث. (2) هذا الحديث هو الذي يصدق عليه قول المنذري: «أخرجه البخاري (2379)، ومسلم (1543/ 80)، والترمذي (1244)، والنسائي (4636)، وابن ماجه (2211)، من حديث سالم عن أبيه». (3) رواه الهيثم بن كليب في «مسنده» (823)، والبيهقي (5/ 326)، كلاهما من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري ــ وهو في «حديثه» (67) ــ، عن عبد الأعلى بن أبي المُساور، عن عمران بن عُمير، عن أبيه، عن ابن مسعود. إسناده ضعيف جدًّا، فإن ابن أبي المساور متروك الحديث. وله طريق أخرى عند ابن ماجه (2530) من رواية إسحاق بن إبراهيم بن عمير المسعودي عن جدّه به، ولكن أعله البخاري في «التاريخ» (1/ 379) بأن إسحاق بن إبراهيم «لا يُتابَع في رفعه». ويدل عليه أن الناس رووه عن عمران بن عمير عن أبيه عن ابن مسعود موقوفًا عليه أنه قال: «مالُك لي ولكن سأدعه لك». أخرجه أبو يوسف في «الآثار» (773)، وعبد الرزاق (14618)، وابن أبي شيبة (21934، 21937)، والطبراني في «الكبير» (9/ 270)، من طرق عن عمران بن عمير به.

(3/45)


عمير: ما مالك؟ فإني أريد أن أعتقك، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من أعتق عبدا فماله للذي أعتقه»، ولفظ الأثرم (1): «أيما رجل أعتق عبده أو غلامه، فلم [ق 217] يخبره بماله فماله لسيده». قال البيهقي (2): وهذا أصح. وهذا قول أنس (3)، والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وأصحابهم، والثوري (4). _________ (1) كما في «المغني» (14/ 398). (2) في «المعرفة» (8/ 127) بعد أن ذكر الرواية الموقوفة، فالظاهر أنه قصدها بكونها أصح. (3) ذكره عنه أحمد في «مسائل الكوسج» (1/ 503) وابن قدامة في «المغني» (14/ 397)، ولكن أخرج عبد الرزاق (14619) وابن أبي شيبة (21935) بإسناد صحيح عن أنس أنه سأل عبدًا عن ماله فأخبره بمال كثير فأعتقه وقال: «مالك لك»، فإن صحّ الأول يكون هذا تفضُّلًا منه وإحسانًا. (4) انظر: «الأم» (9/ 387)، و «الحاوي الكبير» (5/ 268)؛ و «بدائع الصنائع» (5/ 167)، و «مسائل أحمد» برواية الكوسج (1/ 503، 2/ 482) وصالح (1/ 260)، والمغني (14/ 397).

(3/46)


وقال الحسن، والشعبي، وعطاء، والنخعي، وأهل المدينة مع مالك (1): المال للعبد، إلا أن يشترطه السيد. 8 - باب أي الرقاب أفضل؟ 501/ 3809 - عن أبي نَجِيح السُّلَمي قال: حَاصَرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِقَصْر الطائف ــ قال معاذ (وهو ابن هشام): سمعت أبي يقول: بقصر الطائف، بحِصْن الطائف، كل ذلك ــ فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أيُّما رجلٍ مُسلم أعتَقَ رجلًا مسلمًا، فإن الله عز وجل جاعِلٌ وِقَاءَ كُلِّ عَظْمٍ من عِظامِه عظمًا من عِظام مُحَرَّرِه من النَّار، وأيُّما امرأةٍ أعتقت امرأةً مسلمةً، فإن الله عز وجل جاعلٌ وِقاءَ كلِّ عظمٍ من عظامها عظمًا من عظام مُحَرَّرِهَا من النار يوم القيامة». وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (2)، وحديثهم مختصر في ذكر الرمي، وفي طريق النسائي: ذِكر الشَّيب (3)، وقال الترمذي: حسن صحيح. وأبو نجيح: هو عمرو بن عَبَسة السلمي. 502/ 3810 - وعن شُرَحبيل بن السِّمْط، أنه قال لعَمْرو بن عَبَسة: حدِّثنا حديثًا سمعتَه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَن أعتقَ رقبةً مؤمنة كانت فِداءَه من النار». _________ (1) انظر: «مصنف ابن أبي شيبة» (21939 - 21941)، و «الموطأ» (2246 - 2247)، و «المدونة» (7/ 217). (2) أبو داود (3965)، والترمذي (1635، 1638)، والنسائي (3142، 3143، 3145)، وابن ماجه (2812). وأخرجه أحمد (17022) مطوّلًا، وابن حبان (4309)، والحاكم (2/ 95، 3/ 50). (3) وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من شاب شيبةً في سبيل الله كانت له نورًا يوم القيامة».

(3/47)


وأخرجه النسائي (1). وفي إسناده بقية بن الوليد، وفيه مقال. وقد أخرجه النسائي من طرق أخرى (2)، وفيها ما إسناده حسن. 503/ 3811 - وعن شُرحبيل بن السِّمط أنه قال لكعب بن مُرَّة ــ أو مُرَّة بن كعب ــ: حدِّثنا حديثًا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكر معنى معاذ ــ يعني ابن هشام ــ إلى قوله: «أيُّما امرئ أعتق مسلمًا ... وأيما امرأة أعتقت امرأةً ... »، زاد: «وأيُّمَا رَجُل أعتَقَ امرأتين مسلمتين إلا كانتا فِكاكَه من النار، يَجزِي مكان كل عظمَين منهما عظمٌ من عظامه». وأخرجه النسائي وابن ماجه (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى الترمذي (4) عن سالم بن أبي الجعد عن أبي أمامة وغيره من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ــ يعني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ــ قال: «أيما امرئ مسلمٍ أعتق امرأً مسلمًا كان فكاكَه من النار، يَجزي كلُّ عضو [منه عضوًا منه، وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكَه من النار، يَجزي كلُّ عضوٍ] (5) منهما عضوًا منه». قال الترمذي: حسن صحيح. * * * _________ (1) أبو داود (3966)، والنسائي في «المجتبى» (3142) و «الكبرى» (4335). (2) انظر: «السنن الكبرى» (4863 - 4869). (3) أبو داود (3967)، والنسائي في «الكبرى» (4863)، وابن ماجه (2522). (4) برقم (1547) وقال: «حديث حسن صحيح، غريب من هذا الوجه». (5) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل لانتقال النظر، وفيه موضع الشاهد لترجمة الباب. وفي ط. الفقي أصلحه بتغيير: «منهما» الآتي إلى «منه».

(3/48)


كتاب الحمّام 504/ 3857 - وعن زُرعة بن عبد الرحمن بن جَرْهَدٍ، عن أبيه ــ قال: كان جَرْهَد هذا من أصحاب الصُّفَّة ــ أنه قال: جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندنا وفَخذي منكشفةٌ فقال: «أما علمت أن الفخذ عورة؟» (1). أخرجه أبو داود عن القَعْنبي عن الإمام مالك، وهو عند القعنبي خارجَ «الموطأ». وهو في موطأ مَعْن بن عيسى القزاز، ويحيى بن بكير، وسليمان بُرْدٍ، وليس هو عند غيرهم من رواة «الموطأ». هكذا ذكر ابنُ الورد (2). وذكر غيره (3): أن عبد الله بن نافع الصائغ رواه عن مالك فقال فيه: عن زُرعة عن أبيه عن جده، ورواه معن وإسحاق بن الطبّاع وابن وهب وابن أبي أويس عن مالك عن أبي النضر عن زرعة بن عبد الرحمن عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد ذكره البخاري في «التاريخ الكبير» (4) وذكر الاختلاف فيه. وقال في «الصحيح» (5): وحديث أنس أسندُ، وحديث جَرْهَد أحوط. يشير _________ (1) «سنن أبي داود» (4014). (2) هو عبد الله بن جعفر بن الورد (ت 351)، والجوهري (ت 381) أخرج الحديث من طريقه وطريق غيره في «مسند الموطأ» (ص 357). والكلام الذي ذكره المنذري هو للجوهري وليس لابن الورد، ولعله في نسخة «مسند الموطأ» التي نقل منها المنذري تصحّفت «قاله» إلى «قال» فصار كلام الجوهري الآتي عقبها مقولًا لابن الورد. (3) هو أحمد بن خالد الجبَّاب الحافظ (ت 322)، كما في «التعريف بمن ذكر في الموطأ من النساء والرجال» لابن الحذّاء (ص 168). (4) (2/ 248 - 249). (5) كتاب الصلاة، باب ما يُذكر في الفخذ.

(3/49)


إلى حديث أنس قال: حَسَر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن فخذه (1). وذكر ابن الحَذَّاء (2) أن فيه اضطرابًا في إسناده. آخر كلامه. وأخرجه الترمذي (3) من حديث سفيان بن عيينة عن أبي النضر عن زرعة عن جدّه جرهد. وقال: «حديث حسن، ما أرى إسناده بمتصل». وذكره أيضًا من طريقين (4)، وفيهما مقال. 505/ 3858 - وعن عاصم بن ضَمْرة، عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تكشف فخِذك، ولا تنظر إلى فخذ حيٍّ ولا ميِّت». قال أبو داود: هذا الحديث فيه نكارة. وأخرجه ابن ماجه (5). وعاصم بن ضمرة قد وثَّقه يحيى بن معين وابن المديني، وتكلم فيه غير واحد. وقال البخاري في «الصحيح»: ويروى عن ابن عباس وجرهَدٍ ومحمد بن جَحْش عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الفخذ عورة». هذا آخر كلامه. _________ (1) أخرجه البخاري (371) ومسلم (1365/ 84). (2) في «التعريف بمن ذكر في الموطأ» (ص 169). وابن الحذّاء هو: أبو عبد الله محمد بن يحيى بن أحمد التميمي القرطبي (ت 416)، كان بصيرًا بالفقه والحديث، له شرح على الموطأ سماه: «كتاب الاستنباط لمعاني السنن والأحكام من أحاديث الموطأ» ثمانون جزءًا. انظر: «ترتيب المدارك» (8/ 5)، و «السيَر» (17/ 444). (3) برقم (2795). (4) برقم (2797، 2798)، وسيأتي سياق إسنادهما عند المؤلف. (5) أبو داود (4015) وابن ماجه (1460).

(3/50)


فأما حديث ابن عباس، فأخرجه الترمذي (1)، وقال: حسن غريب. وفيه أبو يحيى القَتّات، واسمه عبد الرحمن بن دينار، وقيل: اسمه زاذان، وقيل: عمران، وقيل غير ذلك. وقد تكلم فيه غير واحد. وأما حديث جرهد، فهو هذا الذي تقدَّم. وأما حديث محمد بن جحش، فأخرجه البخاري في «تاريخه الكبير» (2)، وأشار إلى اختلاف فيه (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: وأما الطريقان اللذان ذكرهما الترمذي، فأحدهما (4) من طريق عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أبي الزناد قال: أخبرني ابن جرهد عن أبيه ... فذكره، وقال الترمذي: هذا حديث حسن. والطريق الثانية (5): من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل عن عبد الله بن جرهد الأسلمي عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الفخذ عورة» ثم قال: حسن غريب من هذا الوجه. قال الترمذي: وفي الباب عن علي ومحمد بن عبد الله بن جحش. وحديث علي الذي أشار إليه الترمذي هو الذي ذكره أبو داود في هذا الباب، وقد تقدم. _________ (1) برقم (2796). (2) (1/ 12 - 13). (3) كلام المنذري على الحديثين من (هـ)، وفيه تصرف يسير من المؤلف. (4) برقم (2798). (5) برقم (2797).

(3/51)


وحديث محمد بن جحش قد رواه الإمام أحمد في «مسنده» (1) ولفظه: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على معمر وفخذاه مكشوفتان، فقال: «يا معمر، غطِّ فخذيك، فإن الفخذين عورة». وفي «مسند الإمام أحمد» من حديث عائشة (2) وحفصة (3)، وهذا لفظ حديث عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان جالسًا كاشفًا عن فخذه فاستأذن أبو بكر، فأذن له وهو على حاله. ثم استأذن عمر، فأذن له وهو على حاله، ثم استأذن عثمان فأرخى (4) عليه ثيابَه، فلما قاموا قلت: يا رسول الله، استأذن أبو بكر وعمر فأذِنت لهما وأنت على حالك، فلما استأذن عثمان أرخيت عليك ثيابك؟ فقال: «يا عائشة ألا أستحْيِي من رجل واللهِ إن الملائكة _________ (1) برقم (22495)، وكذا البخاري في «التاريخ الكبير» (1/ 13)، والطبراني في «الكبير» (19/ 345 - 346)، والحاكم (4/ 180) استشهادًا، من طرق عن العلاء بن عبد الرحمن الحُرَقي، عن أبي كثير مولى محمد بن عبد الله بن جحش، عن مولاه محمد. رجاله ثقات، إلّا أبا كثير مولى آل جحش ففيه جهالة حال، وبه أعله ابن حزم، وقولهم: «يقال له صحبة» لا يفيد توثيقًا لأنه قيل بسبب وهم بعض الرواة في إحدى طرق هذا الحديث، ولكن قد روى عنه جمع من الثقات ووثقه ابن حبان، فمثله يُحسَّن حديثه لاسيما في الشواهد، وقد صحح البيهقي إسناده. انظر: «المحلى» (3/ 214)، و «الإصابة» (12/ 567)، و «السنن الكبرى» (2/ 228). (2) برقم (24330)، وهو حديث صحيح رواه مسلم كما سيأتي. (3) برقم (26466، 26467)، وفي إسناده ضعف لجهالة حال التابعي الراوي عن حفصة. (4) في الأصل: «أرخوا» خطأ.

(3/52)


لتستحيي (1) منه». وقد رواه مسلم في «صحيحه» (2)، ولفظه عن عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مضطجعًا كاشفًا عن فخذيه ــ أو ساقيه ــ، فاستأذن أبو بكر فأذن له، وهو على تلك الحال ... فذكر الحديث. فهذا فيه الشك هل كان كشْفُه عن فخذيه أو ساقيه؟ وحديث الإمام أحمد فيه الجزم بأنه كان كاشفًا عن فخذه. وفي «صحيح البخاري» (3) من حديث أبي موسى الأشعري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كاشفًا عن ركبتيه ــ في قصة القُفّ ــ، فلما دخل عثمان غطَّاها (4). وطريق الجمع بين هذه الأحاديث ما ذَكَره غير واحد من أصحاب أحمد وغيرهم (5) أن العورة عورتان: مخففة ومغلظة، فالمغلظة: السوأتان، والمخففة: الفخذان. ولا تنافي بين الأمر بغضِّ البصر عنهما لكونهما عورةً، وبين كشفهما لكونهما عورة مخففة، والله تعالى أعلم. 1 - باب التعرِّي 506/ 3860 - وعن بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قلت: يا _________ (1) في الطبعتين: «أستحي ... لتستحي» بياء واحدة، خلافًا للأصل، وهما لغتان، وبالياءين جاء في التنزيل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا} [البقرة: 26]. (2) برقم (2401). (3) برقم (3695)، وهو مختصر من قصة دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - بئر أريس وجلوسه على قُفِّها ــ أي على حافتها ــ مُدْليًا رجليه في البئر، ثم دخول أبي بكر وعمر وعثمان عليه. أخرجها البخاري (3674) ومسلم (2402) بطولها ولكن بلفظ: «وكشف عن ساقيه». (4) ط. الفقي: «غطاهما» خلافًا للأصل وللفظ البخاري. (5) انظر: «المغني» (2/ 286).

(3/53)


رسول الله، عوراتُنا ما نأتي منها وما نَذَرُ؟ قال: «احفظ عَوْرتكَ إلا مِن زوجتك أو ما ملكت يمينُك». قال: قلت: يا رسول الله، إذا كان القومُ بعضُهم في بعضٍ؟ قال: «إن استطَعْتَ أن لا يَرَيَنَّها أحدٌ فلا يَرَيَنَّها». قال: قلت: يا رسول الله، إذا كان أحدُنا خاليًا؟ قال: «الله أحقُّ أن يُسْتَحْيا مِن النَّاس». وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (1). وقال الترمذي: حسن. هذا آخر كلامه. وقد تقدّم الاختلاف في بهز بن حكيم. وجدُّه هو معاوية بن حَيدة القُشَيري، له صحبة. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد حكى الحاكم (2) الاتفاق على تصحيح حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. ونص عليه الإمام أحمد وعلي ابن المديني وغيرهما (3). والله أعلم. * * * _________ (1) أبو داود (4017). والترمذي (2769)، والنسائي في «الكبرى» (8923)، وابن ماجه (1920). وأخرجه أحمد (20034)، والحاكم (4/ 179 - 180) وقال: صحيح الإسناد. (2) في «المدخل إلى كتاب الإكليل» (ص 105)، وانظر: «المستدرك» (1/ 46). (3) كابن معين وأبي داود. انظر: «تهذيب التهذيب» (1/ 498 - 499). وانظر ما سبق في كتاب الزكاة (1/ 266).

(3/54)


 كتاب اللباس

507/ 3863 - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استَجَدَّ ثوبًا سمَّاه باسمه إما قميصًا أو عمامة، ثم يقول: «اللهم لك الحمدُ، أنت كَسَوتَنِيه. أسألك مِن خَيره وخَيرِ ما صُنِع له، وأعوذُ بك من شرِّه وشَرِّ ما صُنِع له». قال أبو نَضْرة: فكان أصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا لبس أحدهم ثوبًا جديدًا قيل له: تُبْلي ويُخْلِفُ الله تعالى (1). قال أبو داود: عبد الوهاب الثقفي لم يذكر فيه أبا سعيد، وحمادُ بن سلمة قال: عن الجُرَيري عن أبي العَلاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، يعني أنهما أرسلاه. وأخرج الترمذي والنسائي (2) المسند منه فقط، وقال الترمذي: حديث حسن. 508/ 3864 - وعن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه - رضي الله عنهما - أن رسول الله _________ (1) «سنن أبي داود» (4020 - 4022) من طرق عن الجُرَيري، عن أبي نضرة العبدي، عن أبي سعيد الخدري. وإسناده ضعيف، فإن الجُرَيري كان قد اختلط، والروايات الثلاث هي عمن روى عنه بعد الاختلاط. وقد أشار أبو داود إلى ذلك عقبه وذكر أن عبد الوهاب الثقفي وحماد بن سلمة ــ وهما ممن روى عنه قبل الاختلاط ــ روياه عن الجُرَيري مرسلًا، على خلاف بين روايتهما في التابعيّ المُرسِل هل هو أبو نضرة العبدي أو أبو العَلاء بن عبد الله بن الشِّخِّير. ورواية حماد أخرجها النسائي في «الكبرى» (10069) عقب حديث أبي سعيد الخدري، وقال: حديث حماد أولى بالصواب. (2) الترمذي (1767)، والنسائي في «الكبرى» (10068)، وأيضًا أخرجه ابن حبان (5420، 5421)، والحاكم (4/ 192).

(3/55)


- صلى الله عليه وسلم - قال: «من أكل طعامًا ثم قال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول منِّي ولا قوة، غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه. ومَن لَبِس ثوبًا فقال: الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر». وأخرجه الترمذي وابن ماجه (1)، وقال الترمذي: حسن غريب، وليس في حديثهما: «وما تأخر». وسهل بن معاذ مصري ضعيف. والراوي عنه: أبو مرحوم عبد الرحيم بن ميمون، مصري أيضًا، لا يحتج به. قال ابن القيم - رحمه الله -: وروى أبو بكر بن عاصم في «فوائده» (2) من حديث عنبسة بن عبد الرحمن، عن رجل (3)، عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استجدّ ثوبًا لبسه يومَ الجمعة. _________ (1) أبو داود (4023)، والترمذي (3458)، وابن ماجه (3285). (2) أبو بكر بن عاصم هو محمد بن إبراهيم بن عليّ بن عاصم، الشهير بابن المقرئ، الحافظ مسنِد أصبهان (ت 381). والحديث ليس في القدر الذي وصلنا من «فوائده» وهو الجزءان الأول والثالث عشر فقط، ولكنه مخرّج أيضًا في «معجمه» (458)، وأخرجه أيضًا أبو الشيخ في «أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -» (257) ــ ومن طريقه البغوي في «شرح السنة» (12/ 43 - 44) ــ، وابن عبد البر في «التمهيد» (24/ 36)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (5/ 225)، ومن طريقه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 193)، كلهم من طريق عنبسة بن عبد الرحمن، وهو متروك منكر الحديث، بل متّهم بالوضع. (3) كذا في الأصل، وفي «معجم ابن المقرئ»: «أبان»، وهو متروك أيضًا، فلعل بعض الرواة في إسناد «الفوائد» أبهمه لضعفه أو للشك في عَينه لأنه في الأسانيد الأخرى عند غير ابن المقرئ: «عبد الله بن أبي الأسود» بدل «أبان».

(3/56)


1 - ما جاء في الأقبية 509/ 3872 - وعن أبي مُنيب الجُرَشي، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من تَشبَّه بقوم فهو منهم» (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وأخرجه الإمام أحمد في «المسند» (2) أتم منه ولفظه: «بعثت بالسَّيْف بين يدي الساعة حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجُعِل رزقي تحت ظل رُمحي، وجُعِل الذلَّةُ والصغارُ على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم». 2 - باب في الحُمرة 510/ 3908 - عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: هَبَطنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ثَنِيَّة، فالتفتَ إليَّ وعليَّ رَيْطَة مُضَرَّجة بالعُصفُر، فقال: «ما هذه الرَّيطة عليك؟» فعرفتُ ما كَره، فأتيتُ أهلي وهم يَسْجُرُون تَنُّورًا لهم فقذَفتُها فيه، ثم أتيته من الغد، فقال: «يا عبد الله، ما فعلَتِ الرَّيطةُ؟» فأخبرته، فقال: «ألا _________ (1) «سنن أبي داود» (4031) من طريق عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن حسّان بن عطية، عن أبي مُنيب الجُرَشي، عن ابن عمر. رجاله ثقات غير عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، فإنه مختلف فيه توثيقًا وتضعيفًا، وخلاصة القول فيه ما قاله يعقوب بن شيبة: «اختلف أصحابنا فيه، فأما ابن معين فكان يضعّفه، وأما ابن المديني فكان حسن الرأي فيه، وكان ابن ثوبان رجل صدق لا بأس به»، وعليه فـ «إسناده صالح» كما قال الذهبي، وصححه العراقي والألباني، وله شواهد لكنها ضعيفة أو مرسلة. انظر: «سير أعلام النبلاء» (15/ 509)، و «المغني عن حمل الأسفار» (1/ 217)، و «المقاصد الحسنة» (1101)، و «الإرواء» (1269، 1270). (2) برقم (5114، 5115، 5667).

(3/57)


كَسَوتَها بعضَ أهْلِك، فإنَّهُ لا بأس به للنساء» (1). وحكى عن هشام بن الغازِ (2) أنه قال: المضرّجة التي ليست بِمُشبَعةٍ، ولا الموَرَّدة. هذا آخر كلامه. وقال غيره (3): ضَرَّجْتُ الثوب، إذا صبغته بالحمرة. وهو دون المُشْبَع، وفوق المورَّد. وأخرجه ابن ماجه (4). 511/ 3909 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليَّ ثوبٌ مصبوغ بعُصْفُر مورَّد، فقال: «ما هذا؟» فانطلقت فأحرقته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما صنعت بثوبك؟» فقلت: أحرقته، قال: «أفلا كسوتَه بعضَ أهلك؟» (5). قال أبو داود: رواه ثور عن خالد، فقال: «مُوَرَّد»، وطاوس قال: «معصفر». فيه إسماعيل بن عيَّاش. وفيه شُرَحبيل بن مسلم الخَولاني، ضعَّفه ابن _________ (1) «سنن أبي داود» (4066) بإسناد صحيح عن عمرو بن شعيب به. وأصل الحديث في «صحيح مسلم»، وسيأتي نصّه في تعليق المؤلف. (2) أسنده عنه أبو داود عقب الحديث، وهو هشام بن الغاز بن ربيعة الجُرشي الشامي، المحدّث المقرئ الثقة، قرين الأوزاعي، توفي بضع وخمسين ومائة. وهو الراوي للحديث المذكور عن عمرو بن شعيب. (3) هو الجوهري في «الصحاح» (1/ 326). (4) برقم (3603). (5) «سنن أبي داود» (4068) من طريق إسماعيل بن عياش، عن شرحبيل بن مسلم، عن شفعة، عن عبد الله بن عمرو. إسناده ضعيف لجهالة حال شُفعة، ولكن ينجبر ويعتضد بالطريق السابق.

(3/58)


معين (1). 512/ 3910 - وعنه - رضي الله عنه - قال: مرَّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ عليه ثوبان أحمران فسَلَّم، فلم يرُدَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه. وأخرجه الترمذي (2)، وقال: حسن غريب من هذا الوجه. وفيه أبو يحيى القتات، وقد اختلف في اسمه، وهو كوفي لا يحتج بحديثه. وهو منسوب إلى بيع القَتِّ (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى مسلم في «صحيحه» (4) عن علي بن أبي طالب قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لباس القَسِّيّ والمُعَصفَر، وعن تختُّم الذهب، وعن قراءة القرآن في الركوع. وروى أيضًا في «صحيحه» (5) عن عبد الله بن عمرو قال: رأى عليَّ _________ (1) إسماعيل بن عيّاش صدوق في حديثه عن الشاميين، وشرحبيل شامي، وهو وإن ضعّفه يحيى فقد وثّقه الإمام أحمد، بل قال: ما روى ابن عياش عن شيخ أوثق من شرحبيل بن مسلم. «سؤلات أبي داود لأحمد» (ص 262). (2) أبو داود» (4069)، والترمذي (2807). (3) كلام المنذري على الحديثين مثبت من (هـ)، وفيه اختصار وتصرّف من المؤلف. (4) برقم (2078). (5) برقم (2077/ 28).

(3/59)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوبين معصفرين، فقال: «أمُّك أمرتك بهذا؟» قلت: أغسِلُهما؟ قال: «بل أحرِقْهما». وروى أيضًا في «صحيحه» (1) عن عبد الله بن عمرو أيضًا قال: رأى عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوبين معصفَرَين، فقال: «إنّ هذه مِن لباس الكفار، فلا تَلبسْها». وهذه الأحاديث صريحة في التحريم، لا معارِضَ لها، فالعجب ممن تركها. وقد عارضها بعض الناس بحديث البراء بن عازب قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حُلَّة حمراءَ، لم أرَ شيئًا قطُّ أحسنَ منه. متفق عليه (2). وكان بعض المنتسبين إلى العلم يخرج إلى أصحابه في الثوب المُشْبَع (3) حمرةً، ويزعم أنه يقصد اتباع هذا الحديث! وهذا وهم وغلط بيِّن، فإن الحلّة هي البرود التي قد صبغ غَزْلها ونُسِج الأحمرُ مع غيره، فهي بُرْد فيه أسود وأحمر، وهي معروفة عند أهل اليمن قديمًا وحديثًا. والحلة إزار ورداء، مجموعهما يُسمَّى حلّةً، فإذا كان البرد [ق 218] فيه أحمر وأسود قيل: برد أحمر، وحلة حمراء. فهذا غير المُضرَّج (4) المُشبَعِ حمرةً. وذهب بعض أهل العلم إلى أن النهي عن المعصفر خاصة. فأما المصبوغ بغيره من الأصباغ التي تحمّر الثوب، كالمَدَر والمَغْرَة (5)، فلا بأس به. قال الترمذي في حديث النهي عن المعصفر (6): معناه عند أهل _________ (1) برقم (2077/ 27). (2) البخاري (3551)، ومسلم (2337). (3) ط. الفقي هنا وفي الموضع الآتي: «المصبغ» تحريف. (4) (هـ): «المصبوغ»، ولعله تصحيف. (5) المدر: قِطَع الطين اليابس، والمَغْرَة: الطين الأحمر. (6) برقم (2807).

(3/60)


الحديث أنه كره المعصفر. قال: ورأوا أن ما صبغ بالحمرة من مَدَر أو غيره فلا بأس به ما لم يكن معصفرًا. 3 - باب ما جاء في إسبال الإزار (1) 513/ 3925 - عن أبي جُرَيٍّ جابر بن سُليم - رضي الله عنه - قال: رأيت رجلًا يَصْدُر الناسُ عن رأيه، لا يقول شيئًا إلا صَدَرُوا عنه، قلت: مَن هذا؟ قالوا: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلت: عليك السلام يا رسول الله، مرتين، قال: «لا تَقُل: عليك السلام؛ عليك السلام تَحيّةُ الميت، قل: السلام عليك». قال: قلت: أنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: «أنا رسولُ الله الذي إذا أصابك ضُرٌّ فدعوتَه كشفَه عنك، وإن أصابك عامُ سَنةٍ فدَعَوتَه أنْبَتَها لك، وإن كنتَ بأرضٍ قَفْرٍ ــ أو فلاةٍ ــ فضَلَّتْ رَاحِلتُك فدعَوتَه رَدَّها عليك». قال: قلت: اعهَدْ إليَّ، قال: «لا تَسُبّنَّ أحَدًا»، قال: فما سببتُ بعده حُرًّا ولا عبدًا، ولا بعيرًا ولا شاة. قال: «ولا تَحقِرَنَّ شيئًا من المعروف، وأن تُكَلِّمَ أخاك وأنت مُنْبَسِط إليه وَجهُك إنَّ ذلك من المعروف، وارْفَعْ إزارَك إلى نصفِ الساق، فإن أَبَيتَ فإلى الكعبين، وإيَّاكَ وإسبَالَ الإزار فإنَّها من المَخِيلة، وإن الله لا يُحِبُّ المخيلة، وإن امرُؤ شَتَمَك وعَيَّركَ بما يعلمُ فيك فلا تُعيِّرْه بما تعلم فيه، فإنما وبالُ ذلك عليه». وأخرجه النسائي والترمذي (2)، وقال: حسن صحيح. _________ (1) في الأصل: «باب في لِبسة الصمّاء» خطأ، فإن هذه الترجمة تسبق هذا الباب بثلاثة أبواب، والتصويب من (هـ) و «السنن» و «المختصر». (2) أبو داود (4084)، والترمذي (2721، 2722)، والنسائي في «الكبرى» (9611 - 9616، 10076 - 10079). وصححه الترمذي، وابن حبان (521)، والحاكم (4/ 186).

(3/61)


وقد أشكل هذا على طائفة، وقالوا: قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في تحيّة الموتى: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين» فقدم السلام على المسلَّم عليه، ثم قالوا: وهذا أصح من حديث أبي جُريّ هذا، فالأخذ به أولى. وهذا ليس بشيء، ولا تعارض بين الحديثين، [فإن] (1) قوله - صلى الله عليه وسلم -: «عليك السلام تحية الموتى» إخبار عن الواقع مقرونًا بالنهي عنه، وليس إخبارًا عن المشروع، [فإنهم كانوا في] عادة الجاهلية في تحية الأموات يقدمون اسم الميت على الدعاء، كقول قائلهم (2): عليك سلامُ الله قيسُ بنَ عاصمٍ ... ورحمتُه ما شاء أن يترحَّما والسنة في السلام تقديم التحية على المدعو له في الأحياء والأموات فيقال: السلام عليكم للميت، كما يقال للحي: سلام عليكم، وكما لا يقال في سلام الأحياء: عليكم السلام، فكذلك لا يقال في سلام الأموات. وكأن الذي تخيّله القوم من الفرق أن المسلِّم على [المرء] لمَّا كان يتوقع الجواب و [أن] يقال له: عليك السلام بدأوا باسم السلام على المدعو له توقعًا لقوله: وعليك السلام. وأما الميت فلما لم يتوقعوا منه ذلك قدّموا المدعو له على الدعاء فقالوا: عليك السلام (3). _________ (1) ما بين الحاصرتين هنا وفي المواضع الآتية كلمات لم تتضح لانتشار الحبر بسبب البلل الذي أصاب (هـ)، فالمثبت إكمال مقترح يستقيم به الكلام. (2) هو عبدة بن الطَّبيب (من مخضرمي الجاهلية والاسلام) في أبيات يرثي بها الصحابي قيس بن عاصم - رضي الله عنه -. انظر: «حماسة أبي تمّام» (1/ 387). (3) الكلام السابق كلّه من (هـ)، ولم يذكره المجرّد وإنما قال: إن المؤلف ذكر «كلام المنذري إلى آخره». وليس كذلك، بل إن الكلام السابق متضمّن لبعض ما ذكره المنذري في «المختصر» (المخطوط) مع زيادة وتهذيب من المؤلف.

(3/62)


قال ابن القيم - رحمه الله - (1): وهذا الفرق إن صح فهو دليل على التسوية بين الأحياء والأموات في السلام، فإن المُسَلِّم على أخيه الميت يتوقع جوابه أيضًا. قال ابن عبد البر (2): ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما من رجلٍ يمرُّ بقبرِ أخيه كان يعرفه في الدنيا فيُسلِّم عليه إلا ردَّ الله عليه روحَه حتى يردَّ عليه السلام». وفيه أيضًا نكتة حسنة، وهي أن الدعاء بالسلام دعاء بخير، والأحسن في دعاء الخير أن يُقدَّم الدعاء على المدعو له، كقوله تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73]، وقوله: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ} [مريم: 15]، وقوله: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 24]، وأما الدعاء بالشر: فيقدَّم فيه المدعو عليه على الدعاء غالبًا، كقوله لإبليس: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي} [ص: 78]، {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ} [الحجر: 35]، وقوله: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة: 98]، وقوله: {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (3)} [الشورى: 16]. وسِرُّه أنه في الدعاء بالخير يُقَدَّم اسم الدعاء المحبوب المطلوب الذي _________ (1) وقد بحث المؤلف هذه المسألة أيضًا في «بدائع الفوائد» (2/ 660 - 663). (2) أخرج الحديث في «الاستذكار» (1/ 185)، وليس فيه تثبيته له. وقد صححه عبد الحق الإشبيلي في «الأحكام الوسطى» (2/ 152 - 153)، وتعقبّه ابن رجب في «أهوال القبور» (ص 141) بأنه غريب، بل منكر. انظر: «السلسلة الضعيفة» للألباني (4493). (3) في الأصل و (هـ): «أليم» سهو.

(3/63)


تشتهيه النفوس فيَبْدَهُ (1) القلبَ والسمعَ ذكرُ الاسمِ المحبوب المطلوب، ثم يتبعه بذكر المدعو له. وأما في الدعاء عليه ففي تقديم المدعو عليه إيذان باختصاصه بذلك الدعاء، كأنه قيل له: هذا لك وحدك، لا يَشْرَكُك فيه السامع (2)، بخلاف الدعاء بالخير، فإن المطلوب عمومه، وكلما عمَّم به الداعي كان أفضل، فلما كان التقديم مؤذنًا بالاختصاص تُرِك، ولهذا يُقدَّم إذا أريد الاختصاص، كقوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] والله أعلم. 514/ 3927 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بينما رجلٌ يُصلِّي مُسْبِلًا إزاره، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اذهب فتوضأْ». فذهب فتوضأ، ثم جاء، ثم قال: «اذهب فتوضأ». فقال له رجل: يا رسول الله، ما لَك أمرتَه أن يتوضأ، ثم سكتَّ عنه؟ فقال: «إنه كان يصلي وهو مُسبِل إزارَه، وإنَّ الله لا يقبلُ صلاةَ رجل مُسبِل» (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: ووجه هذا الحديث ــ والله أعلم ــ أن إسبال الإزار معصية، وكل مَن واقع معصيةً فإنه يؤمر بالوضوء والصلاة، فإن الوضوء _________ (1) ط. المعارف: «فسرَّه» خطأ. و «يبدَه» أي يفجأ، والمراد أن أوّل ما يَطْرق القلب والسمع هو كلمة الدعاء. (2) غير محرر في الأصل، رسمه: «النانع»، فحرّفه ناسخ (ش) إلى: «النافع»! والمثبت من (هـ)، وهو كذلك في ط. المعارف. وفي ط. الفقي: «الداعي ولا غيره». وفي «البدائع»: «السامعون». (3) «سنن أبي داود» (4086) من طريق أبي جعفر عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة. وأبو جعفر هذا مدني لا يُعرف اسمه وتُجهل حاله. انظر: «ضعيف سنن أبي داود ــ الأم» (1/ 218 - 221).

(3/64)


يطفئ حريق المعصية. وأحسن ما حمل عليه حديث الأمر بالوضوء من القهقهة في الصلاة (1) هذا الوجه، فإن القهقهة في الصلاة معصية فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - مَن فعلها بأن يحدث وضوءًا يمحو به أثرها. ومنه حديث علي عن أبي بكر: «ما مِن مُسْلم يذنب ذنبًا ثمّ يتوضأ ويصلي ركعتين إلا غفر الله له ذنبَه» (2). 4 - باب من روى أن لا يُنتفع من الميتة بإهاب 515/ 3964 - عن عبد الله بن عُكَيم قال: قرئ علينا كتابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأرض جُهينة، وأنا غلامٌ شاب: «أن لا تَستمتِعُوا من المَيتةِ بإهابٍ ولا عَصَبٍ». قال أبو داود: فإذا دبغ لا يقال له إهاب، إنما يسمَّى: شَنًّا وقِربة، قال النضر بن شُمَيل: يسمَّى إهابًا ما لم يُدبَغ. وأخرجه الترمذي وحسّنه والنسائي وابن ماجه (3). ويُروى عن ابن عُكَيم عن أشياخٍ له هذا الحديث (4). _________ (1) روي مسندًا من حديث أنس وأبي هريرة وجابر وغيرهم، وكلها واهية. والصواب أنه من مرسل أبي العالية، ومراسيل غيره من التابعين ترجع إليه، فالحديث ضعيف لا يصح. انظر طرق الحديث وعللها في «سنن الدارقطني» (باب أحاديث القهقهة في الصلاة وعللها) (601 - 661)، و «الكامل» لابن عدي (3/ 166 - 170). (2) أخرجه أحمد (2)، وأبو داود (1521)، والترمذي (406) وحسَّنه، والنسائي في «الكبرى» (10175)، وصححه ابن حبان (623)، واختاره الضياء (1/ 82 - 86). (3) أبو داود (4127، 4128)، والترمذي (1729)، والنسائي (4249 - 4251)، وابن ماجه (3613). (4) أخرجه ابن حبان (1279)، والطحاوي في «معاني الآثار» (1/ 468) و «مشكلها» (3241).

(3/65)


وقال الترمذي أيضًا: وسمعت أحمد بن الحسن يقول: كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا الحديث لِما ذُكِر فيه: «قبل وفاته بشهرين»، وكان يقول: كان هذا آخر أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم ترك أحمد بن حنبل هذا الحديث لمّا اضطربوا في إسناده. وقد حكى الخلّال في كتابه أن أحمد توقّف في حديث ابن عكيم لمّا رأى تزلزل الرواة فيه. وقال بعضهم: رجع عنه (1). وقال النسائي (2): أصح ما في هذا الباب ــ في جلود الميتة إذا دبغت ــ حديث الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال أبو الفَرَج ابن الجوزي (3): حديث ابن عكيم مضطرب جدًّا، فلا يقاوم الأول (4). واختلفت مسالك الفقهاء (5) في حديث ابن عُكَيم وأحاديث الدباغ (6)، _________ (1) هذه الفقرة من «الاعتبار» للحازمي (ص 57)، وكان المنذري قد صرّح بنقله عنه، فحذف المؤلف العزو إليه. (2) عقب الحديث (4251). (3) في «إخبار أهل الرسوخ في الفقه والتحديث بمقدار المنسوخ من الحديث» (ص 21). (4) هذا النقل عن ابن الجوزي كان قد نقله المنذري في «المختصر» بأتم منه بين كلام الخلال والنسائي، فلمّا أخَّره المؤلف إلى ما بعد كلام النسائي مراعاةً للترتيب الزمني ظنّ المجرّد أنه من زيادات المؤلف على كلام المنذري، وليس كذلك وإنما اختصره وأخّره فقط. (5) ط. الفقي: «واختلف مالك والفقهاء»، وهو غير محرر في الأصل، وكأن الناسخ كان كتب كذلك ثم أصلحه إلى ما أُثبِت. (6) وقد سبقت أحاديث الدباغ عند أبي داود والمنذري في «باب في أهب الميتة»، منها حديث ابن عباس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا دُبغ الإهاب فقد طَهُر». أخرجه أبو داود (4123) ومسلم (366).

(3/66)


فطائفة قدمت أحاديث الدباغ عليه لصحتها وسلامتها من الاضطراب، وطعنوا في حديث ابن عكيم باضطرابه وبإرساله (1). وطائفة قدَّمت حديث ابن عكيم لتأخُّره وثقةِ رواته، ورأوا أن هذا الاضطراب لا يمنع الاحتجاج به. وقد رواه شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عكيم، فالحديث محفوظ. قالوا: ويؤيده ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن افتراش جلود السباع والنمور، كما سيأتي (2). وطائفة عَمِلت بالأحاديث كلها، ورأت أنه لا تعارض بينها، وحديث ابن عُكَيم إنما فيه النهي عن الانتفاع بأُهُب الميتة ــ والإهاب هو الجلد الذي لم يدبغ، كما قاله النضر بن شميل، وقال الجوهري (3): الإهاب الجلد ما لم يدبغ، والجمع: أُهُب ــ وأحاديث الدباغ تدل على الاستمتاع بها بعد الدباغ، فلا تنافي بينهما. وهذه الطريقة حسنة لولا أن قوله في حديث ابن عكيم: «كنتُ رخَّصتُ _________ (1) وممن طعن فيه ابن معين كما في رواية ابن محرز (1/ 123). (2) عند أبي داود والمنذري في «باب في جلود النمور»، وفيه عدّة أحاديث، منها الحديث الطويل في وفود المقدام بن معديكرب على معاوية وفيه أن المقدام قال لمعاوية: أنشدك بالله، هل تعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لُبْس جلود السباع والركوب عليها؟ قال: نعم. (3) «الصحاح» (1/ 89).

(3/67)


لكم في جلود الميتة، فإذا أتاكم كتابي فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب»، والذي كان رُخِّص فيه هو المدبوغ، بدليل حديث ميمونة (1). وقد يجاب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن هذه الزيادة لم يذكرها أحد من أهل السنن في هذا الحديث، وإنما ذكروا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تنتفعوا من الميتة ... » الحديث، وإنما ذكرها الدارقطني (2)، وقد رواه خالدٌ الحذَّاء وشعبة عن الحَكَم فلم يذكرا: «كنت رخصت لكم»، فهذه اللفظة في ثبوتها شيء. والوجه الثاني: أن الرخصة كانت مطلقةً غير مقيدة بالدباغ، وليس في حديث الزهري ذكر الدباغ، ولهذا كان ينكره ويقول: «يُستمتَع بالجلد على _________ (1) عند أبي داود (4120) ولفظه: عن ابن عباس عن ميمونة قالت: أُهدي لمولاة لنا شاةٌ من الصدقة فماتت، فمرّ بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ألا دبغتُم إهابَها واستنفعتُم به؟» الحديث. وقد أخرجه مسلم (363/ 100) من هذا الوجه. وهو عند البخاري (1492، 2221، 5531، 5532) ومسلم (363/ 101) من مسند ابن عباس بلفظ: «هلّا استمتعتم بإهابها؟» ونحوه دون التقييد بالدباغ، وسيأتي الكلام عليه. (2) لعله ذكرها في «الغرائب والأفراد»، انظر: «أطرافها» (2/ 121). وأخرجها الطبراني في «الأوسط» (104) بإسناده ضعيف، فيه فضالة بن المفضل بن فضالة، قال أبو حاتم في «الجرح والتعديل» (7/ 79): لم يكن بأهل أن يُكتب عنه العلم! وأخرجها أيضًا الخطيب في «تلخيص المتشابه» (665) من طريق قرة بن سليمان الجهضمي، عن هشام بن حسّان، عن مطر الورّاق، عن الحكم، عن عبد الله بن عُكيم. قرّة بن سليمان ضعيف الحديث كما قال أبو حاتم في «الجرح والتعديل» (7/ 131)، ومطر الورّاق ليس ممن يُحتَمَل منه التفرد بهذه الزيادة دون شعبة وخالد الحذّاء.

(3/68)


كل حال» (1). فهذا هو الذي نهى عنه أخيرًا، وأحاديث الدباغ قسم آخر لم يتناولها النهي وليست بناسخة ولا منسوخة، وهذه أحسن الطرق. ولا يعارض ذلك نهيه عن جلود السباع، فإنه نهى عن ملابستها باللُّبس والافتراش كما نهى عن أكل لحومها؛ لِما في أكلها ولبس جلودها [ق 219] من المفسدة. وهذا حكم ليس بمنسوخ، ولا ناسخ أيضًا، وإنما هو حكم ابتدائي رافع لحكم الاستصحاب الأصلي. وبهذه الطريق تتألف السنن، وتستقر كل سنة منها في مستقرها، وبالله التوفيق. * * * _________ (1) قول الزهري أسنده أحمد (3452) وأبو داود (4122) من طريق عبد الرزاق ــ وهو في «مصنفه» (185) ــ، عن معمر، عنه. وقد اختلف عن الزهري في ذكر الدباغ في حديث ابن عباس، فذكره عنه ابنُ عيينة [مسلم (363/ 100)]، وعُقيل، والزُّبَيدي، وسليمان بن كثير [الدارقطني (98، 101، 102)]؛ وخالفهم مالك [النسائي (4235)]، ومعمر [أبو داود (4121)]، ويونس [خ (1492)، م (363/ 101)]، والأوزاعي [ابن حبان (1282)]، وصالح بن كيسان [خ (2221)، م (363/ 101)]، فلم يذكروه عن الزهري، وروايتهم أشبه، فإن الزهري قد أنكره كما سبق.

(3/69)


 كتاب الترجّل

1 - باب في إصلاح الشعر 516/ 4000 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان له شعرٌ فَلْيُكرِمْه» (1). وقال المنذري (2): يعارضه ظاهرُ حديث «الترجُّل إلا غِبًّا» (3) وحديثِ «البذاذة» (4) على تقدير صحتهما، فيَحتمِل أن يُجمَع بينهما بأن يكون النهي عن الترجل _________ (1) «سنن أبي داود» (4163) من طريق ابن أبي الزناد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. ابن أبي الزناد فيه لين، وقد تفرّد به عن سهيل دون أصحابه الثقات الأثبات، ولذا عدّ الذهبي هذا الحديث مِن مناكيره في «الميزان» (2/ 572). وفي الباب حديث عائشة بإسناد ضعيف لعنعنة ابن إسحاق، ومرسل ابن المنكدر، ومرسل سعيد بن عبد الرحمن الجحشي عن أشياخه. أخرجها البيهقي في «شعب الإيمان» (6037 - 6040). (2) هنا صرّح المؤلف بذكر المنذري ونسبة الكلام الآتي إليه بخلاف غالب المواضع، لأنه لم يرتض كلامه وسيردّ عليه. (3) وقد سبق في «السنن» (4159) في أول كتاب الترجل من حديث الحسن عن عبد الله بن المغفّل قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الترجّل إلا غبًّا. وأخرجه أيضًا أحمد (16793)، والترمذي (1756) وقال: «حسن صحيح»، وابن حبان (5484)، كلهم من طريق هشام بن حسان عن الحسن به، وقد خولف فيه هشام، فرواه قتادة وغيره عن الحسن مرسلًا، وهو أشبه، وله شاهد يعتضد به من حديث فضالة بن عبيد عند أبي داود (4160) وغيره. وانظر: «السلسلة الصحيحة» (502). (4) سبق أيضًا في الترجل (4161) من حديث أبي أمامة بلفظ: «إن البذاذة من الإيمان». وأخرجه أحمد (24009/ 58)، وابن ماجه (4118)، والطبراني (1/ 271 - 272)، والحاكم (1/ 9) على اختلاف في إسناده، وبه أعله ابن عبد البر في «التمهيد» (24/ 12)، ولكن الاختلاف فيه ليس قادحًا، وقد صححه الحافظ في «الفتح» (10/ 368). وانظر: «الصحيحة» (341).

(3/70)


إلا غبًّا لمن يتأذّى بإدمان ذلك لمَرَضٍ أو شدّة برد، فنهاه عن تكلف ما يُضِرُّ به. ويحتمل أنه نهى مَن يعتِقد أن ما كان يفعله أبو قتادة مِن دَهْنه مرتين (1) أنه لازم، فأعلمه أن السنة من ذلك الإغباب به ــ لاسيما لمن يمنعه ذلك من تصرفه وشغله ــ، وأن ما زاد على ذلك ليس بلازم، وإنما يعتقد أنه مباح، من شاء فعله ومَن شاء تركه (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: وهذا لا يُحتاج إليه، والصواب أنه لا تعارض بينهما بحال، فإن العبد مأمور بإكرام شعره، ومنهي عن المبالغة والزيادة في الرفاهية والتنعُّم، فيكرم شعره ولا يتخذ الرفاهية والتنعم ديدَنه، بل يترجّل غبًّا. هذا أولى ما حمل عليه الحديثان، وبالله التوفيق. 2 - باب ما جاء في خضاب السواد (3) 517/ 4048 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يكون _________ (1) أخرجه مالك في «الموطأ» (2731) عن يحيى بن سعيد الأنصاري مرسلًا، ويخالفه مرسل ابن المنكدر عند البيهقي في «الشعب» (6040) أنه كان يَدْهنه يومًا ويدعه يومًا، وجاء في مرسل سعيد بن عبد الرحمن الجَحْشي عند معمر في «الجامع» (20516) أنه كان يرجله كل يوم مرّتين. (2) كلام المنذري مثبت من (هـ)، وفيه تصرّف يسير جدًّا من المؤلف عمّا في «المختصر» (6/ 86). (3) في الأصل: «باب الخضاب»، وهو يسبق هذا الباب بباب في «السنن» و «المختصر»، والمثبت من (هـ)، فإن تعليق المؤلف إنما هو عليه.

(3/71)


قوم يَخضِبون في آخر الزمان بالسَّواد كحواصل الحمام، لا يَريحُون رائحةَ الجنة» وأخرجه النسائي (1). في إسناده «عبد الكريم» ولم ينسبه أبو داود ولا النسائي، فذكر بعضهم (2) أنه عبد الكريم بن أبي المخارق أبو أمية، وهو لا يحتجّ بحديثه. وذكر بعضهم أنه عبد الكريم بن مالك الجزري أبو سعيد، وهو من الثقات، اتفقا على الاحتجاج به. وهذا هو الصواب، فإنه قد نسبه بعض الرواة في هذا الحديث وقال: «عن عبد الكريم الجزري». وابن أبي المخارق من أهل البصرة نزل مكة. وأيضًا فإن الذي روى عن عبد الكريم هذا الحديث هو عبيد الله بن عمرو الرقي، وهو مشهور بالرواية عن عبد الكريم الجزري، وهو أيضًا من أهل الجزيرة. وقد تقدّم حديث جابر في «صحيح مسلم» (3) وقوله: «واجتنبوا السواد». وقد اختلف السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم في الخضاب، فرأى بعضهم أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بصبغ الشعر نَدْب، وأن تغييره أولى من تركه. وممن كان يخضب: أبو بكر وعمر والحسن والحسين وأبو عبيدة بن الجرّاح وغيرهم؛ يخضبون بالحنّاء والكتم. _________ (1) أبو داود (4212)، والنسائي (5075) من طريق عبد الكريم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. (2) هو ابن الجوزي في «الموضوعات» (3/ 55). وتعقّبه الذهبي في «تلخيص الموضوعات» (1/ 267) وصحّح الحديث. (3) برقم (2102)، وقد تقدّم عند أبي داود في «باب في الخضاب» برقم (4204)، وهو حديث إسلام أبي قحافة يوم الفتح ورأسه ولحيته كالثغامة بياضًا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «غيروا هذا بشيء، واجتنبوا السواد».

(3/72)


[وروي] عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يخضب بالحنّاء بحتًا. وكان ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن بُسر والمغيرة بن شعبة - رضي الله عنهم - يُصفّرون لحاهم (1). وقال الإمام أحمد: إني لأرى الشيخ مخضوبًا فأفرح به. وذكر رجلًا لم يخضب وأنه يستحيي فقال: سبحان الله سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! قال المروذي: قلتُ يُحكى عن بشر بن الحارث أنه قال: قال لي ابن داود: خضبت؟ قلتُ أنا: لا أفرُغ لغسلها فكيف أتفرّغ لخضابها؟ فقال أحمد: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «غيِّروا الشَّيب»، وأبو بكر وعمر خضبا والمهاجرون؛ هؤلاء لم يتفرغوا لغسلها والنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالخضاب؟! فمن لم يكن على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فليس من الدين في شيء؛ وحديث أبي ذر، وحديث أبي هريرة، وحديث أبي رمثة، وحديث أم سلمة (2). وذهب آخرون إلى أن ترك الشعر أبيض أفضل، وقالوا: توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عَنْفَقته ورأسه الشيبُ ولم يغيّره بشيء، ولو كان تغييره أفضل لكان قد آثر الأفضلَ. قال ابن جرير (3): وممن كان لا يخضب عليٌّ وأبيُّ بن كعب وجماعة من الصحابة والتابعين. قال (4): والصواب عندنا أن الآثار التي رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتغيير الشيب _________ (1) انظر الآثار المتقدمة في «مصنف ابن أبي شيبة» (كتاب اللباس، باب في الخضاب بالحناء، وباب في تصفير اللحية)، و «تهذيب الآثار» للطبري (ص 460 - 492 ــ الجزء المتمم بتحقيق علي رضا). (2) من قوله قال الإمام أحمد إلى هنا مما زاده المؤلف على كلام المنذري نقلًا عن «المغني» (1/ 125 - 126). (3) في «تهذيب الآثار» للطبري (ص 496 وما بعدها ــ الجزء المتمم) مُسنِدًا آثارهم. (4) «تهذيب الآثار» للطبري (ص 516 ــ الجزء المتمم).

(3/73)


وبالنهي عن تغييره كلَّها صحاح، وليس فيها شيء يُبطِل ما خالفه، لكن بعضها عام وبعضها خاص؛ فالمراد بأحاديث التغيير الخصوص مثل ما كان شيبُ أبي قحافة، فأمَّا الشَّمَط ففيه النهي عن التغيير. واختلاف السلف بحسب اختلاف أحوالهم، ولا يصح أن يقال: إن أحدها ناسخ للآخر لعدم دليل النسخ. هذا كلامه. وقال آخرون: ذلك دليل على اختلاف حالين، أحدهما: عادة البلد، والثاني: اختلاف الناس، فرُبَّ شيبةٍ هي أجمل منها مصبوغة، ومنه ما يُستشنَع (1) فالصَّبْغُ فيه أولى. وفي الخضاب فائدتان، أحدهما: تنظيف الشعر مما تعلق به من الغبار ونحوه، والثاني: مخالفة أهل الكتاب (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: والصواب أن الأحاديث في هذا الباب لا اختلاف بينها (3) بوجه، فإن الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من تغيير الشيب أمران، أحدهما: نَتْفه (4)، والثاني: خضابه بالسواد، كما تقدم، والذي أذن فيه صَبْغُه وتغييره بغير السواد، كالحنّاء والصُّفرة، وهو الذي عمله الصحابة - رضي الله عنهم -. قال الحَكَم بن عمرو الغفاري: دخلت أنا وأخي رافع على عمر بن _________ (1) كذا في (هـ)، وفي «المختصر» المخطوط: «يُستبشَع». (2) كلام المنذري من (هـ)، وما كان فيه من سقط وخرم وتصحيف فاستدرك من «المختصر» المخطوط. وقد زاد المؤلف في أثنائه نقلًا عن «المغني» كما سبق التنبيه عليه في موضعه. (3) الأصل: «بينهما»، والمثبت من (هـ). (4) يشير إلى ما سبق في «سنن أبي داود» (4202) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه مرفوعًا: «لا تنتفوا الشيب، ما من مسلم يشيب شَيبة في الإسلام إلا كانت له نورًا يوم القيامة».

(3/74)


الخطاب وأنا مخضوب بالحناء، وأخي مخضوب بالصفرة، فقال عمر: هذا خضاب الإسلام، وقال لأخي: هذا خضاب الإيمان (1). وأما الخضاب بالسواد فكرهه جماعة من أهل العلم، وهو الصواب بلا ريب لما تقدم ــ وقيل للإمام أحمد: تكره الخضاب بالسواد؟ قال: إي والله! (2) وهذه المسألة من المسائل التي حلف عليها، وقد جمعها أبو الحسين (3) ــ، ولأنه يتضمن التلبيسَ بخلاف الصفرة. ورخَّص فيه آخرون، منهم أصحاب أبي حنيفة (4)، وروي ذلك عن الحسن والحسين وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن جعفر وعقبة بن عامر (5)، _________ (1) أخرجه أحمد في «المسند» (20660)، وابن سعد في «الطبقات الكبير» (5/ 117) من طريق عبد الصمد بن حبيب الأزدي، عن أبيه، عن الحكم. وإسناده ضعيف، فإن عبد الصمد لين الحديث، وأباه مجهول. (2) «مسائل أحمد» رواية الكوسج (2/ 598). (3) في الأصل وط. الفقي: «أبو الحسن»، تصحيف. وهو أبو الحسين محمد ابن القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين البغدادي الحنبلي (ت 526). وكتابه مطبوع، وهذه المسألة فيه (ص 32). (4) انظر: «شرح مشكل الآثار» (9/ 313 - 314)، و «حاشية ابن عابدين» (6/ 422). (5) آثار السِّبطين أخرجها ابن أبي شيبة (25520)، والطبري في «تهذيب الآثار» الجزء المتمم بتحقيق علي رضا (ص 468 - 469)، والطبراني في «الكبير» (3/ 22، 98 - 99) من طرق عنهما. وأثر سعد بن أبي وقاص أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (3/ 132، 133)، والطبراني في «الكبير» (1/ 138) من طرق عنه. وأثر عبد الله بن جعفر أخرجه ابن أبي الدنيا في «العُمْر والشَّيب» (ص 52) بإسناد ضعيف. وأثر عُقبة أخرجه ابن أبي شيبة (25529) والطبري في «تهذيب الآثار» (ص 473) بإسناد صحيح.

(3/75)


وفي ثبوته عنهم نظر (1)، ولو ثبت فلا قول لأحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسنَّتُه أحقُّ بالاتباع ولو خالفها من خالفها. ورخص فيه آخرون للمرأة تتزين به لبعلها، دون الرجل. وهذا قول إسحاق بن راهويه (2)، وكأنه رأى أن النهي إنما جاء في حق الرجال، وقد جُوِّز للمرأة من خضاب اليدين والرجلين ما لم يُجوَّز للرجل، والله أعلم. * * * _________ (1) كذا قال المؤلف هنا، ثم تبيَّن له صحتها فقال في «زاد المعاد» (4/ 337): «صحّ عن الحسن والحسين - رضي الله عنهما - أنهما كانا يخضبان بالسواد». (2) بل إنه رخّص للرجل أيضًا أن يتزيّن به لأهله إذا لم يكن فيه غَرَر وخداع. انظر: «مسائله» برواية الكوسج (2/ 557، 598).

(3/76)


 كتاب الخاتم

1 - باب ما جاء في ترك الخاتم 518/ 4057 - عن إبراهيم بن سعد، عن ابن شِهاب، عن أنس - رضي الله عنه -: أنه رأى في يد النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتمًا من وَرِقٍ يومًا واحدًا، فصنع الناسُ فلبسوا، وطرح النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فطرح الناسُ. وأخرجه البخاري ومسلم (1). وقال أبو داود: رواه عن الزهري زيادُ بن سعد وشعيب وابن مسافر، كلهم قال: «من ورِق». وهؤلاء الذين ذكرهم أبو داود قد أشار إليهم البخاري في «صحيحه» (2). وقد أخرجا (3) من حديث يونس بن يزيد عن الزهري وفيه: «من وَرِق»، فهؤلاء خمسة من ثقات أصحاب الزهري رووه عنه كذلك. وقد قيل: إن هذا عند جميع أصحاب الحديث وهمٌ مِن ابن شهاب في (4): «خاتم الذهب» ــ يعني: أن الصواب أن الذي نبذه هو خاتم الذهب ــ (5). _________ (1) أبو داود (4221)، والبخاري (5868)، ومسلم (2093). (2) عقب الحديث (5868). (3) البخاري (5868) من طريق يونس، ومسلم (2093) من طريق إبراهيم بن سعد وزياد بن سعد؛ كلهم عن الزهري به. ولم أجد رواية يونس عند مسلم. (4) كذا في (هـ)، وفي «المختصر»: «من». (5) هذه الجملة التفسيرية من المؤلف، وليست في «المختصر».

(3/77)


قال المُهلَّب (1): وقد يمكن أن يُتأوَّل لابن شهاب ما ينفي عنه الوهم ــ وإن كان الوهم أظهر ــ، وذلك يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عزم على اطِّراح خاتم الذهب اصطنع خاتمًا من فضة بدليل أنه كان لا يستغني عن الختم به على الكتب إلى البلدان والملوك وأجوبة العُمَّال وأمراء الأجناد، فلمّا لبس خاتم الفضة أراد الناس ذلك اليوم أن يصطنعوا مثله، فطرح عند ذلك خاتم الذهب فطرح الناس خواتيم الذهب. والتأليف بين الأحاديث أولى من حملها على التنافي والتضاد (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: ويدل على وهم ابن شهاب: ما رواه البخاري في «صحيحه» (3) من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتمًا من ذهب، فجعل فَصَّه مما يلي كفَّه، فاتخذه الناس، فرمى به واتخذ خاتمًا من ورق أو فضة». فهذا يدل على أن الذي طرحه النبي - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم الذهب. ويدل عليه: أن خاتم الفضة استمر في يده ولم يطرحه، ولبسه بعده أبو بكر وعمر وعثمان صدرًا من خلافته. وقال النسائي (4): أخبرنا محمد بن _________ (1) نقله عنه ابن بطَّال في «شرح صحيح البخاري» (9/ 130). (2) كلام المنذري مثبت من (هـ)، وفيه تصرّف يسير من المؤلف. ونقل المنذري لكلام ابن بطال ساقط من «المختصر» المطبوع، وموجود في مخطوطته (النسخة البريطانية). (3) برقم (5865). (4) في «المجتبى» (5217) و «الكبرى» (9478) وفي إسناده لين من أجل المغيرة بن زياد، وهو مُتكلَّم فيه، ولكن قد تابعه عبيد الله عن نافع بنحوه مختصرًا عند البخاري (5866، 5873) ومسلم (2091/ 54).

(3/78)


معمر، حدثنا أبو عاصم، عن المغيرة (1) بن زياد، حدثنا نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبس خاتمًا مِن ذهب ثلاثة أيام، فلما رآه أصحابه فَشَتْ خواتيمُ الذهب، فرمى به فلا نَدْري ما فعل، ثم أمر بخاتم من فضة فأمر أن يُنقَش فيه: «محمد رسول الله»، وكان في يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى مات، وفي يد أبي بكرٍ حتى مات، وفي يد عمر حتى مات، وفي يد عثمان ست سنين من عمله، فلما كثُرت (2) عليه [الكتب] دفعه إلى رجل من الأنصار فكان يَختِم به، فخرج الأنصاري إلى قَلِيب لعثمان فسقط، فالتُمِسَ فلم يوجد، فأمر بخاتمٍ مثلِه ونَقَش فيه: «محمد رسول الله». وفي «الصحيحين» (3) من حديث الليث عن نافع عن عبد الله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اصطنع خاتمًا من ذهب، وكان يجعل فصه في باطن كفِّه إذا لبسه، فصنع الناس، ثم إنه جلس على المنبر فنزعه وقال: «إني كنت ألبس هذا الخاتم وأجعل فصَّه من داخل»، فرمى به وقال: «والله لا ألبسه أبدًا»، فنبذ الناس خواتيمهم. فهذا الحديث متفق عليه، وله طرق عديدة في الكتابين (4). وقد روي عن البراء بن عازب، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أنهم لبسوا خواتيم _________ (1) الأصل: «المعمر»، وفي (هـ): «المعمري»، كلاهما تصحيف. (2) في الأصل: «كُذِب»، تصحيف، ولم يتضح في (هـ)، والمثبت من لفظ الحديث. (3) البخاري (6651)، ومسلم (2091/ 53). (4) انظر: «صحيح البخاري» (5865 - 5867، 6651، 7298) ومسلم (2091/ 53 - 55).

(3/79)


الذهب (1). وهذا إن صح عنهم فلعلهم لم يبلغهم النهي، وهم في ذلك كمن رخَّص لبس الحرير من السلف، وقد صحت السنة بتحريمهما على الرجال وإباحتهما للنساء. 2 - باب في الذهب للنساء 519/ 4072 - عن رِبْعيِّ بن حِراش، عن امرأته، عن أخت لحذيفة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا معشرَ النساء، أما لكُنَّ في الفضة ما تَحَلَّين به، أما إنه ليس منكن امرأة تَحَلَّى ذهبًا تُظهره إلا عُذِّبت به». وأخرجه النسائي (2). وامرأة ربعي مجهولة، وأخت حذيفة اسمها فاطمة، وقيل: خولة. وفي بعض طرقه: عن ربعي عن امرأة عن أخت حذيفة ــ وكان له أخوات قد أدركن النبي - صلى الله عليه وسلم - ــ (3). وذكرها أبو عمر النَّمَري (4) وسمَّاها: فاطمة. قال: وروي عنها حديث في كراهة تحلّي النساء بالذهب، إن صحّ فهو منسوخ. ولحذيفة أخوات قد أدركن النبي - صلى الله عليه وسلم -. هكذا ذكرها في حرف الفاء. وقال في حرف الخاء (5): خولة بنت _________ (1) أخرج آثار الصحابة ابن أبي شيبة (25660 - 25663) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/ 259)، وأما أبو بكر الحزمي فأسنده عنه ابن سعد في «الطبقات» (7/ 415). (2) أبو داود (4237)، والنسائي (5137، 5138). (3) أخرجه أحمد (27013) وابن سعد في «الطبقات» (10/ 307)، إلا أن لفظ أحمد: «عن امرأته». وانظر: «تحفة الأشراف» (12/ 474). (4) «الاستيعاب» (4/ 1902). (5) (4/ 1834).

(3/80)


اليمان أخت حذيفة، روى عنها أبو سلمة بن عبد الرحمن قالت: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا خير في جماعة النساء إلا عند ميت، فإنهن إذا اجتمعن قلن وقلن» (1). فهما عنده اثنتان خلاف ما تقدّم (2). 520/ 4073 - وعن أسماء بنت يزيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَيُّما امرأةٍ تَقَلَّدَتْ قِلادةً مِن ذهبٍ قُلِّدَت في عُنُقها مِثلَها مِن النَّار يومَ القيامة، وأيُّما امرأةٍ جعلت في أُذُنها خُرْصًا من ذهبٍ جُعِل في أُذُنها مِثلُه من النار يوم القيامة». وأخرجه النسائي (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: قال ابن القطان (4): وعلّة هذا الخبر أن محمود بن عمرٍو راويه عن أسماء مجهول الحال، وإن كان قد روى عنه جماعة. وروى النسائي (5) عن أبي هريرة قال: كنت قاعدًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتته امرأة فقالت: يا رسول الله، [ق 220] سِواران من ذهب؟ قال: «سِواران من نار»، قالت: طوق من ذهب؟ قال: «طوق من نار». قالت: قُرطان من ذهب؟ قال: «قُرطان من نار». قال: وكان عليها سواران من ذهب فرمت بهما (6) _________ (1) أخرجه الطبراني في «الكبير» (24/ 246) و «الأوسط» (7130). قال الهيثمي: فيه الوازع بن نافع وهو متروك. «مجمع الزوائد» (2/ 333). (2) كلام المنذري مثبت من (هـ)، وفيه تصرف واختصار من المؤلف. (3) أبو داود (4238)، والنسائي (5139) من حديث محمود بن عمرو الأنصاري، عن أسماء بن يزيد. (4) «بيان الوهم والإيهام» (3/ 590). (5) في «المجتبى» (5142) و «الكبرى» (9380)، من طريق أبي الجهم، عن أبي زيد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (6) في الأصل و (هـ): «به».

(3/81)


فقالت: يا رسول الله، إن المرأة إذا لم تَزَّيَّنْ لزوجها صَلِفَت عنده. فقال: «ما يمنع إحداكن أن تصنع قُرطين من فضة، ثم تُصفِّره بزعفران أو بعبير؟». قال ابن القطان (1): وعلّته أن أبا زيد راويه عن أبي هريرة مجهول، ولا يُعرف روى عنه غير أبي الجهم، ولا يصح هذا. وفي النسائي (2) أيضًا عن ثوبان قال: جاءت بنت هُبَيرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي يدها فَتَخ (3) [فجعل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يضرب يَدَها] (4)، فدخلت على فاطمة تشكو إليها الذي صنع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانتزعت فاطمة سلسلة في عنقها من ذهب، قالت: هذه أهداها أبو حسن، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسلسلة في يدها. فقال: «يا فاطمة أيغرُّكِ أن يقول الناس: ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي يدها سلسلة مِن نار»، ثم خرج ولم يقعد، فأرسلت فاطمة بالسلسلة إلى السوق فباعتها، واشترت بثمنها غلامًا ــ وقال مرة: عبدًا وذكر كلمة معناها: فأعتقته ــ فحُدِّث بذلك فقال: «الحمد لله الذي أنجى فاطمة من النار». قال ابن القطان (5): وعلته أن الناس قد قالوا: إن رواية يحيى عن زيد بن _________ (1) «بيان الوهم» (3/ 591). (2) «المجتبى» (5140) و «الكبرى» (9378) من طريق يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلَّام، عن جدّه أبي سلَّام، عن أبي أسماء الرَحَبي، عن ثوبان. (3) الفَتَخ جمع فَتَخة، وهي الخاتم الضخم. (4) ما بين الحاصرتين من «المجتبى» و «الكبرى». (5) «بيان الوهم» (3/ 588 - 589).

(3/82)


سلَّام (1) منقطعة، وعلى أن يحيى قد قال: حدثني زيد بن سلّام (2)، وقد قيل: إنه دلس ذلك، ولعله كان أجازه زيد بن سلّام فجعل يقول: حدثنا زيد (3). وفي النسائي (4) أيضًا عن عقبة بن عامر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمنع أهله الحرير والحِلية ويقول: «إن كنتم تحبّون حِلية الجنة وحريرَها فلا تلبسوها في الدنيا». فاختلف الناس في هذه الأحاديث وأشكلت عليهم، فطائفة سلكت بها مسلك التضعيف وعلَّلتْها (5) كلها، كما تقدم. وطائفة ادَّعت أن ذلك كان في (6) أول الإسلام ثم نسخ، واحتجت بحديث أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أُحلَّ الذهب والحرير للإناث من _________ (1) في الأصل و (هـ) والطبعتين: «عن أبي سلام» خطأ، فإن يحيى بن أبي كثير إنما يروي عن زيد بن سلَّام، عن أبي سلَّام، وسيأتي على الصواب بعد سطرين. (2) في الأصل و (هـ): «أبو سلّام» خطأ، وسيأتي على الصواب في السطر التالي. (3) أثبت أبو حاتم سماع يحيى بن أبي كثير من زيد بن سلَّام، ونفاه ابن معين وغيره وقالوا إنما أخذ يحيى كتاب زيد من أخيه معاوية، فدلَّسه عنه ولم يسمع منه، ولكن يشكل عليه روايته بالتحديث، فاستظهر ابن القطان أن زيدًا أجازه أحاديثَه وبلَّغه إجازته أخوه معاوية، فحدَّث يحيى بها عنه قائلًا: «حدثنا»، وكان الأكمل أن يقول: «إجازةً». انظر: «المراسيل» (ص 241)، و «بيان الوهم» (2/ 378 - 379). (4) «المجتبى» (5136) و «الكبرى» (9374) بإسناد صحيح، وقد صححه ابن حبان (5486)، والحاكم (4/ 191). (5) في الأصل: «علّلها»، والتصويب من (هـ). (6) «في» من (هـ).

(3/83)


أمتي، وحُرِّم على ذكورها» (1). قال الترمذي: حديث صحيح، ورواه ابن ماجه في «سننه» من حديث علي (2) وعبد الله بن عمرٍو (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وطائفة حملت أحاديث الوعيد على من لم تُؤَدِّ زكاةَ حُلِيِّها، فأما من أدَّتْه فلا يلحقها هذا الوعيد. واحتجوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن امرأة أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مَسَكتان غليظتان مِن ذهب، فقال لها: «تُعطِين زكاة هذا؟» قالت: لا، قال: «أيسّرك أن يسوِّرَكِ الله بهما يومَ القيامة سوارَين من نار؟»، قال: فخلَعَتْهما فألقتْهما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت: هما لله ولرسوله (4). وبما روى أبو داود (5) عن أم سلمة قالت: كنت ألبس أوضاحًا _________ (1) أخرجه الترمذي (1720)، وفي إسناده انقطاع، ولكنه صحيح بشواهده، وعليه يُحمل قول الترمذي: «حسن صحيح». وانظر: «العلل» للدارقطني (2966)، و «الإرواء» (277). (2) برقم (3595)، وأخرجه أحمد (750)، وأبو داود (4057)، والنسائي (5144 - 5147)، وحسَّنه علي ابن المديني كما في «الأحكام الوسطى» (4/ 184)، وصححه ابن حبان (5434). (3) «سنن ابن ماجه» (3597) بإسناد ضعيف. (4) أخرجه أحمد (6901)، وأبو داود (1563)، والترمذي (637)، والنسائي (2479)، من طرق عن عمرو بن شعيب به. ضعَّفه الترمذي لضعف الراويين عن عمرو بن شعيب، ولعله لم يعلم برواية حسين المعلّم عن عمرو بن شعيب، وهي عند أبي داود والنسائي، وإسنادها جيد. انظر: «بيان الوهم» (5/ 366). (5) برقم (1564)، وأخرجه الدارقطني (1950)، والحاكم (1/ 390) كلهم من طريق ثابت بن عجلان، عن عطاء بن أبي رباح، عن أم سلمة. في إسناده انقطاع، فإن عطاء لم يسمع من أم سلمة شيئًا، قاله علي ابن المديني كما في «المراسيل» لابن أبي حاتم (ص 155).

(3/84)


من ذهب، فقلت: يا رسول الله أكنز هو؟ فقال: «ما بلغ أن تُؤَدَّى زكاتُه فزُكّي فليس بكنز». وهذا من أفراد ثابت بن عجلان (1)، والذي قبله من أفراد عمرو بن شعيب. وطائفة من أهل الحديث حملت أحاديث الوعيد على من أظهرت حِلْيَتَها وتبرّجت بها، دون من تزينت بها لزوجها. قال النسائي في «سننه» (2) وقد ترجم على ذلك: «الكراهة للنساء في إظهار الحلي والذهب»، ثم ساق أحاديث الوعيد. والله أعلم. 521/ 4074 - عن ميمون القَنَّاد، عن أبي قِلابة، عن معاوية بن أبي سفيان: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ركوب النِّمار، وعن لُبس الذهب إلا مقطَّعًا. وأخرجه النسائي (3). وقال الإمام أحمد (4): ميمون القناد قد روى هذا الحديث، وليس بمعروف. وقال البخاري (5): ميمون القنّاد عن سعيد بن المسيب وأبي قلابة مرسل. وقال _________ (1) كذا قاله البيهقي (4/ 140) فتعقبه ابن عبد الهادي في «المحرر» فقال: ولا يضرّ، فإن ثابتًا وثَّقه ابن معين وروى له البخاري. وانظر: «بيان الوهم» (5/ 362 - 363). (2) مبوِّبًا على الأحاديث (5136 - 5143) من «المجتبى»، وعلى الأحاديث (9374 - 9381) من «الكبرى». (3) أبو داود (4239)، والنسائي (5149)، وقال أبو داود عقبه في غير رواية اللؤلؤي: «أبو قلابة لم يلق معاوية». (4) أسنده عنه ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (8/ 236). (5) «التاريخ الكبير» (7/ 340).

(3/85)


أبو حاتم الرازي (1): أبو قلابة لم يسمع من معاوية. فعلى هذا فيه الانقطاع من وجهين. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد رواه النسائي (2) من حديث بَيْهَس (3) بن فهدان، عن أبي شيخ الهُنائي، عن معاوية، وقد تقدم الكلام على هذا الإسناد في الحج (4). ورواه (5) عن أبي شيخ عن أبي حِمَّان (6) عن معاوية. ومرة قال: عن أخيه حمَّان. ومرة قال أبو شيخ: سمعتُ معاوية. ومرة: عن حمَّان أنه سمع معاوية. ورواه النسائي (7) أيضًا من حديث بَيْهس بن فهدان أخبرنا (8) أبو شيخ قال: سمعت ابن عمر قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الذهب إلا مقطَّعًا. _________ (1) «المراسيل» (ص 110). (2) في «المجتبى» (5159) و «الكبرى» (9398) من طريق النضر بن شميل عن بَيْهَس به. (3) في الأصل هنا: «أبي بهس»، وفي الموضع الآتي: «بهس» فقط، والتصويب من (هـ). (4) (1/ 307 وما بعدها). (5) أي النسائي، انظر: «الكبرى» (9390 - 9397) وفيها ألوان أخرى من الاختلاف، ورجّح النسائي منها روايتَي قتادة وبَيهس عن أبي شيخ أنه سمع معاوية. (6) من هنا إلى «عن حمّان» ساقط من الأصل لانتقال النظر، واستدرك من (هـ). (7) في «المجتبى» (5160) و «الكبرى» (9399) من طريق علي بن غُراب عن بيهس به. وعلي بن غُراب فيه ضعف، وقد خالف النضرَ بن شُميل فجعله عن ابن عمر بدل معاوية. ولذا قال النسائي عقبه: حديث النضر بن شُمَيل أشبه بالصواب. (8) ط. المعارف: «أنبأنا» خطأ، إذ في الأصل: «أنا» وهو اختصار «أخبرنا».

(3/86)


وقد روي في حديث آخر احتج به أحمد في رواية الأثرم (1): «من تحلَّى بخَرْبَصِيصة (2) كُوِي بها يوم القيامة» (3)، فقال الأثرم: فقلت: أي شيء خربصيصة؟ قال: شيء صغير مثل الشَّعِيرة، وقال غيرُه: هي (4) عين الجرادة. وسمعتُ شيخ الإسلام يقول: حديث معاوية في إباحة الذهب مقطَّعًا هو في التابع غير المفرد، كالزرِّ والعَلَم ونحوه، وحديث الخربصيصة: هو في الفرد كالخاتم وغيره، فلا تعارض بينهما (5). والله أعلم. * * * _________ (1) كما في «المغني» (4/ 227). (2) ط. الفقي: «بخُرَيصة» هنا وفي الموضعين الآتيين، خلافًا للأصل ولِلَفظ الحديث، ثم فسّره في الهامش بأنه تصغير الخُرْص وهو القُرط الصغير! (3) أخرجه أحمد (17997، 27602) من طريق شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم مرسلًا، وعنه عن أسماء بنت يزيد مطولًا وفيه قصة. (4) في الأصل والطبعتين: «مِن» تصحيف، والتصحيح من (هـ). انظر: «غريب الحديث» للخطابي (1/ 594)، و «تهذيب اللغة» (خربص). (5) كلام شيخ الإسلام بنحوه في «مجموع الفتاوى» (21/ 87 - 88)، وهذا التفسير منه - رحمه الله - بناءً على أن الحديثين في حكم تحلّي الرجال بالذهب، ولكن يُشكل عليه سياق حديث الخربصيصة فإنه صريح في النساء، فليُنظر.

(3/87)


 كتاب الفتن

1 - ذكر الفتن ودلائلها 522/ 4075 - عن حذيفة ــ وهو ابن اليماني - رضي الله عنهما - ــ قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائمًا، فما ترك شيئًا يكون في مَقامه ذلك إلى قيام الساعةِ إلا حَدَّثه؛ حَفِظَه مَن حفظه، ونسيه مَن نسيه، قد عَلِمه أصحابُه هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء فأذكُره كما يذكر الرجل وجهَ الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عَرَفه. وأخرجه البخاري ومسلم (1). (2) قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى مسلم في «صحيحه» (3) من حديث حذيفة قال: والله إني لأعلم الناس بكلِّ فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة. وما بي أن لا (4) يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسرَّ إليَّ في ذلك شيئًا لم يُحدِّثه _________ (1) أبو داود (4240)، والبخاري (6604)، ومسلم (2891/ 23). (2) لم يحدّد المجرد الموضعَ الذي كان فيه تعليقُ المؤلف الآتي المشتمل على ذكر حديثين في الفتن لم يردا عند أبي داود، وقد تابعت ط. الفقي في وضعه هنا بعد الحديث الأول في الباب لقوة صلتهما به، ولأن الثلاثة جميعًا من رواية حذيفة، ولأنها وردت متتالية في «صحيح مسلم» والمؤلف كثيرًا ما يعتمد عليه في ذكر الألفاظ والشواهد والمتابعات. (3) برقم (2891/ 22). (4) كذا في الأصل، وفي «الصحيح»: «وما بي إلا أن»، قال القاضي عياض: «كذا هي الرواية عند جميع شيوخنا». وفي «مسند أحمد» (23460) و «المستدرك» (4/ 471) وغيرهما بدون حرف الاستثناء، ولكليهما وجهٌ. انظر: «إكمال المُعلِم» (8/ 428).

(3/88)


غيري، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو يحدث مجلسًا أنا فيه عن الفتن، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يَعُدُّ الفتن: «منهن ثلاث لا يَكَدْن يذرن شيئًا، ومنهن فِتَن كرياح الصيف; منها صغار، ومنها كبار». قال [ق 221] حذيفة: فذهب أولئك الرهط كلهم غيري. وفي «الصحيحين» (1) عن شقيق عن حذيفة قال: كنا عند عمر فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفتنة كما قال؟ قال: قلت: أنا، قال: إنك لجريء! قال: وكيف؟ قال: قلت: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره يكفِّرُها الصيامُ والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» فقال عمر: ليس هذا أريد، وإنما أريد التي تَمُوج كَمَوج البحر. قال: فقلت: وما لك ولها يا أمير المؤمنين؟ إن بينك وبينها بابًا مغلقًا. قال: أفيُكسر الباب أم يفتح؟ قال قلت: لا، بل يكسر. قال: ذلك أحرى أن لا يُغلَق أبدًا. قال: فقلنا لحذيفة: هل كان عمر يعلم مَن الباب؟ قال: نعم كما يعلم أن دونَ غدٍ ليلة، إني حدَّثْته حديثًا ليس بالأغاليط. قال: فهِبْنا أن نسأل حذيفة مَن الباب، فقلنا لمسروق: سَلْه، فسأله، فقال: عمر. * * * _________ (1) البخاري (525، 1435، 3586، 7096)، ومسلم (144) (ج 4/ 2218).

(3/89)


كتاب المهدي 523/ 4111 - عن جابر بن سَمُرة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يزال هذا الدين عزيزًا إلى اثني عشَرَ خليفة»، قال: فكبَّر الناس وضجُّوا، ثم قال كلمة خَفيَّة، قلت لأبي: يا أبةِ ما قال؟ قال: «كلهم من قريش». وأخرجه مسلم (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: فإن قيل: فكيف الجمع بين هذا وبين حديث سعيد بن جُمهان عن سفينة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الخلافة ثلاثون سنة، وسائِرُهم مُلُوك» رواه أبو حاتم في «صحيحه» (2) وقال في آخره: «والخلفاء والملوك اثنا عشر»؟ (3). قيل: لا تعارض بين الحديثين فإن الخلافة المقدرة بثلاثين سنة هي خلافةُ النبوة (4)، كما في حديث أبي بكرة ووزنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي بكر ورجحانِه _________ (1) أبو داود (4280)، ومسلم (1821). (2) برقم (6657). وأخرجه أحمد (21919)، وأبو داود (4646، 4647)، والترمذي (2226) وقال: حديث حسن، والحاكم (3/ 71، 145)، من طرق عن سعيد بن جُمْهان، عن سفينة. سعيد بن جُمهان مختلف فيه، وقد وثَّقه الإمام أحمد وصحح حديثه هذا. انظر: «المنتخب من العلل للخلال» (ص 217). (3) هذه الفقرة من (هـ)، وفي الأصل لم يذكرها المجرّد بنصّها، وإنما أشار إلى طرف الحديث ثم قال: «قال ابن القيم: فإن قيل فكيف الجمع؟ قيل ... ». (4) وقد جاء ذلك مصرّحًا في حديث سفينة نفسه عند أبي داود والحاكم بلفظ: «خلافة النبوة ثلاثون سنة ... ».

(3/90)


ــ وسيأتي (1) ــ، وفيه: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خلافة نبوة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء». وأما الخلفاء الاثنا عشر فلم يقل في خلافتهم: إنها خلافة نبوة، ولكن أطلق عليهم اسمَ الخلفاء، وهو مشترك، واختُصَّ الأئمةُ الراشدون منهم بخصيصة في الخلافة وهي «خلافة النبوة»، وهي المقدرة بثلاثين سنة: خلافة الصديق سنتين وثلاثة أشهر واثنين وعشرين يومًا، وخلافة عمر بن الخطاب عشر سنين وستة أشهر وأربع ليال، وخلافة عثمان اثنتي عشرة (2) سنة إلا اثني عشر يومًا، وخلافة علي خمس سنين وثلاثة أشهر إلا أربعة عشر يومًا، وقُتِل علي سنة أربعين. فهذه خلافة النبوة ثلاثون سنة. وأما الخلفاء الاثنا عشر، فقد قال جماعة ــ منهم أبو حاتم بن حبان وغيره ــ: إن آخرهم عمر بن عبد العزيز، فذكروا الخلفاء الأربعة، ثم معاوية، ثم يزيد ابنه، ثم معاوية بن يزيد، ثم مروان بن الحكم، ثم عبد الملك ابنه، ثم الوليد بن عبد الملك، ثم سليمان بن عبد الملك، ثم عمر بن عبد العزيز، وكانت وفاته على رأس المائة، وهي القرن المفضل الذي هو خير القرون، وكان الدين في هذا القرن في غاية العزة، ثم وقع ما وقع. والدليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أوقع عليهم اسم الخلافة بمعنى المُلك _________ (1) برقم (4635) في كتاب السنة، باب في الخلفاء. وهو في «المختصر» برقم (4470)، وقال المنذري: «في إسناده علي بن زيد ــ وهو ابن جُدعان القرشي التَّيمي ــ، ولا يحتجّ بحديثه». قلت: وللحديث طريق آخر يعتضد به عند أبي داود (3634) والترمذي (2287) وحسَّنه، إلا أنه ليس فيه تأويل النبي - صلى الله عليه وسلم - للرؤيا بالخلافة. (2) في الأصل و (هـ): «اثني عشر»، خطأ.

(3/91)


في غير خلافة النبوة= قولُه في الحديث الصحيح حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة: «سيكون من بعدي خلفاء يعملون بما يَعلَمُون (1) ويفعلون ما يُؤمرون، وسيكون من بعدهم خلفاء يعملون بما لا يعلمون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن أنكر برئ، ومن أمسك سَلِم، ولكن من رضي وتابع» (2). * * * _________ (1) في الأصل: «يعملون» سبق قلم، وهو على الصواب في (هـ). وفي ط. الفقي هنا وفي الموضع الآتي: «يقولون»! (2) أخرجه ابن حبان في «صحيحه» (6658)، والبيهقي في «الكبرى» (8/ 157 - 158). وأخرجه مسلم (50، 1854) بنحوه من حديث ابن مسعود وأم سلمة - رضي الله عنهما -، ولكن ليس فيه وصفهم بالخلفاء الذي هو موضع الشاهد هنا.

(3/92)


 كتاب الحدود

1 - باب في المحاربة 524/ 4198 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن قومًا من عُكْلٍ، أو قال: من عُرَينة، قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاجْتَوَوا المدينةَ، فأمَر لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِلِقَاحٍ، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا، فلما صحُّوا قتلوا راعيَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستاقوا النَّعَم، فبلغ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خبرهم في أول النهار، فأرسل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في آثارهم، فما ارتفع النهارُ حتى جيء بهم، فأمر بهم فقُطِعت أيديهم وأرجلُهم، وسَمَر أعينَهم. وأُلقُوا في الحَرَّة يَستَسقُون فلا يُسقَون. قال أبو قلابة: فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله. 525/ 4199 - وفي رواية: فأمر بمسامير فأُحْمِيَت، فكحَلَهم، وقطع أيديَهم وأرجلهم، وما حسَمَهم. 526/ 4200 - وفي رواية: فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلبهم قَافةً، قال: فأُتِي بهم، قال: فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} الآية [المائدة: 33]. وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (1). (2) _________ (1) أبو داود (4364 - 4366)، والبخاري (233، 3018، 4192، 5727 وغيرها)، ومسلم (1671)، والنسائي (4024 - 4035). (2) في الباب تسع روايات، أكثرها في قصة العرنيين، ولم يحدّد المجرد موضع تعليق المؤلف منها، ويظهر من (هـ) أنه ذيّل به الباب، فاكتفيت بإثبات الروايات الثلاث الأولى لقوة صلتها بتعليق المؤلف.

(3/93)


قال ابن القيم - رحمه الله -: قد ذكر مسلم في «صحيحه» (1) عن أنس قال: إنما سَمَل النبي - صلى الله عليه وسلم - أعيُنَ أولئك لأنهم سملوا أعين الرِّعَاء. وذكر ابن إسحاق (2): أن هؤلاء كانوا قد مثَّلوا بالراعي، فقطعوا يديه ورجليه، وغرزوا الشوك في عينيه، فأُدخِل المدينة ميتًا على هذه الصفة. وترجمة البخاري في «صحيحه» (3) تدل على ذلك، فإنه ساقه في باب «إذا حرَّق [المشركُ] المسلم، هل يُحرَّق؟» فذكره. وذكر البخاري (4) أيضًا أنهم كانوا من أهل الصُّفَّة، وذكر أنه لم يَحْسِمهم حتى ماتوا. 2 - باب في الحد يُشفَع فيه 527/ 4207 - عن عائشة - رضي الله عنها - أن قريشًا أهمَّهُم شأنُ المخزومية التي سرقتْ فقالوا: مَن يُكلِّم فيها ــ تعني: رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ــ؟ قالوا: ومن يَجترئ إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكلَّمه أسامة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أسامة، أتشفع في حَدٍّ من حدود الله؟!» ثم قام فاختَطب، فقال: «إنما هَلَك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سَرَق فيهم الشريف تَرَكُوه، وإذا سَرقَ فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدَّ؛ وَايمُ اللهِ! لو أن فاطمة بنت محمدٍ سرقت لقطعتُ يدها». وأخرجه الباقون (5). _________ (1) برقم (1671/ 14). (2) كما في «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 641). (3) في كتاب الجهاد والسير، مبوِّبًا على الحديثين (3018، 3019). (4) برقم (6804). (5) أبو داود (4373)، والبخاري (3475)، ومسلم (1688/ 8)، والترمذي (1430)، والنسائي (4899)، وابن ماجه (2547)، كلهم من طريق الليث، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة.

(3/94)


528/ 4208 - وعنها - رضي الله عنها - قالت: «كانت امرأةٌ مخزومية تَستَعير المتاعَ وتَجْحَده، فأمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها ... وقَصَّ نحو حديث الليثِ ــ يعني الحديث الذي قبله ــ، قال: فقطعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يدها. وأخرجه مسلم (1). قال أبو داود: روى ابنُ وهبٍ هذا الحديث عن يونس عن الزهري، وقال فيه كما قال الليث: «إن امرأةً سرقت في غزوة الفتح». وحديث ابن وهب هذا الذي علّقه أبو داود أخرجه البخاري ومسلم والنسائي (2). وقال أيضًا: رواه الليث عن يونس عن ابن شهاب بإسناده، فقال: «استعارت امرأة». وهذا الذي علقه أيضًا قد ذكره البخاري تعليقًا (3) ولم يذكر لفظه. وقال أبو داود: وروى مسعود بن الأسود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا الخبر، قال: «سرقت قطيفة من بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». وهذا الذي علّقه أيضًا قد أخرجه ابن ماجه (4)، وفيه ابن إسحاق. وقال أيضًا: ورواه أبو الزبير عن جابر: «أن امرأة سرقت فعاذَت بزينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (5). _________ (1) أبو داود (4374)، ومسلم (1688/ 10) من طريق معمر عن الزهري به. (2) البخاري (2648) ومسلم (1688/ 9) والنسائي (4902). وأخرجه البخاري (4304) أيضًا من طريق ابن المبارك عن يونس. (3) برقم (2648)، ووصله أبو داود نفسه برقم (4396). (4) برقم (2548). وأخرجه أيضًا أحمد (23479) والحاكم (4/ 379 - 380) وصحح إسناده، مع أن فيه عنعنة ابن إسحاق. (5) هكذا ذكر أبو داود: «بزينب بنت رسول الله» معلّقًا، وأخشى أن يكون قد وقف على رواية مصحّفة، فإن الذي رواه أحمد (15247) والحاكم (4/ 379) من طريق ابن أبي الزناد عن موسى بن عقبة عن أبي الزبير عن جابر: «فعاذت برَبِيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». قال ابن أبي الزناد: «وكان ربيب النبي - صلى الله عليه وسلم - سلمة بن أبي سلمة وعمر بن أبي سلمة، فعاذت بأحدهما». وانظر: «مصنف عبد الرزاق» (18831)، و «فتح الباري» (12/ 94).

(3/95)


وذكر مسلم في «صحيحه» والنسائي في «سننه» (1) من حديث أبي الزبير عن جابر: «فعاذت بأم سلمة». وهذا أولى (2)، وقيل: يحتمل أن تكون عاذت بهما (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: وهذا الحديث قد ذهب إليه الإمام أحمد وإسحاق (4). وأعلَّ بعضُ الناس (5) الحديث بأن معمرًا تفرد من بين سائر الرواة بذكر العارية في هذا الحديث، وأن الليث ويونس وأيوب بن موسى رووه عن الزهري وقالوا: «سرقت»، ومعمر لا يقاومهم. قالوا: ولو ثبت، فذِكرُ وصف جحدِ العارية للتعريف المجرد لا أنه سبب القطع. فأما تعليله بما ذكر فباطل: فقد رواه أبو مالك الجَنْبي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر: _________ (1) مسلم (1689/ 11) والنسائي (4891) من طريق مَعقِل الجزري عن أبي الزبير به. (2) هذا الترجيح من المؤلف، وليس في «مختصر المنذري». (3) الكلام على الحديثين من (هـ)، وفيه زيادة وتصرّف من المؤلف عما في «المختصر». (4) انظر: «مسائلهما» برواية الكوسج (2/ 231). (5) كالبيهقي في «الكبرى» (8/ 281) والمنذري في «المختصر» (6/ 212).

(3/96)


أن امرأة كانت تستعير الحُليَّ للناس ثم تمسكه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لِتَتُبْ هذه المرأة إلى الله ورسوله، وتردّ ما تأخذ على القوم»، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قم يا بلال فخُذ بيدها فاقطَعْها». ذكره النسائي (1). ورواه شعيب بن إسحاق عن عبيد الله عن نافع بنحوه سواء، ذكره النسائي (2) أيضًا وقال فيه: «لتتب هذه المرأة ولتؤدي ما عندها» مرارًا، فلم تفعل، فأَمَر بها فقُطِعت. وهو يبطل قول من قال: إنَّ ذِكر هذا الوصف للتعريف المجرد. ورواه سفيان عن أيوب بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: كانت مخزومية تستعير متاعًا وتجحده، فرُفِعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكُلِّم فيها، فقال: «لو كانت فاطمة لقَطَعتُ يدها». ذكره النسائي (3). ورواه بِشر بن شعيب أخبرني أبي عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: استعارت امرأة على ألسنة أناس يُعرَفون ــ وهي لا تُعْرف ــ حُليًّا، فباعته وأخذت ثمنه، فأُتي بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر الحديث وقال في آخره: ثم قطع تلك المرأة. ذكره النسائي (4) أيضًا. ورواه هشام عن قتادة عن سعيد بن يزيد عن سعيد بن المسيب: أن _________ (1) برقم (4889)، وأبو مالك الجَنْبي فيه لين، وقد توبع، تابعه شعيب بن إسحاق كما سيأتي إلا أنه مرسل، ليس فيه ابن عمر. (2) برقم (4890) عن نافع مرسلًا. (3) برقم (4894) من طريق إسحاق بن راهويه عن سفيان بن عيينة به. أخرجه البخاري (3733) من طريق علي ابن المديني عن سفيان به، ولفظه: «سرقت». (4) برقم (4898) ورجاله ثقات كلهم.

(3/97)


امرأة من بني مخزوم استعارت حليًا على لسان أناس فجحدته، فأمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقطعت. ذكره النسائي (1) أيضًا. فقد صحّ الحديث ولله الحمد. ولا تنافي بين ذكر جحد العارية وبين السرقة، فإن ذلك داخل في اسم السرقة. فإن هؤلاء الذين قالوا: «إنها جحدت العارية»، وذكروا أن قطعها لهذا السبب= قالوا: «إنها سرقت»، فأطلقوا على ذلك اسم السرقة، فثبت لغة أن فاعل ذلك سارق، وثبت شرعًا أن حدَّه قطع اليد. وهذه الطريقة أولى من سلوك طريقة القياس في اللغة، فيُثبَت كون الخائن سارقًا لغة قياسًا على السارق، ثم يثبت الحكم فيه. وعلى ما ذكرناه يكون تناولُ اسم السارق للجاحد لغةً، بدليل تسمية الصحابة له سارقًا. ونظير هذا سواء ما تقدم (2) من تسمية نبيذ التمر وغيره خمرًا لغةً لا قياسًا، وكذلك تسمية النباش سارقًا. وأما قولهم: إن ذكر جحد العارية للتعريف، لا أنه المؤثر؛ فكلام في غاية الفساد، لو صح مثله ــ وحاشا وكلّا ــ لذهب من أيدينا عامة الأحكام المترتبة على الأوصاف. وهذه طريقة لا يرتضيها أئمة العلم، ولا يردّون بمثلها السنن، وإنما _________ (1) برقم (4892)، وأخرجه أيضًا عبد الرزاق (18833) من طريق آخر عن ابن المسيب مرسلًا، وإسناده صحيح. (2) انظر: باب الخمر مما هي؟ (2/ 583 - 586).

(3/98)


يسلكها بعض المقلدين من الأتباع. ولو ثبت أن جاحد العارية لا يسمّى سارقًا لكان قطعه بهذا الحديث جاريًا على وَفْق القياس، فإن ضرره مثل ضرر السارق أو أكثر، إذ يمكن الاحتراز من السارق بالإحراز والحفظ. وأما العارية فالحاجة الشديدة التي تبلغ الضرورةَ ماسَّةٌ إليها، وحاجة الناس فيما بينهم إليها من أشد الحاجات، ولهذا ذهب مَن ذهب [مِن] العلماء إلى وجوبها، وهو مذهب كثير من الصحابة والتابعين (1)، وأحد القولين في مذهب أحمد (2). فترتيب القطع على جاحدها طريق إلى حفظ أموال الناس، وتركِ باب هذا المعروف مفتوحًا. وأما إذا علم أن الجاحد لا يقطع فإنه يُفضي إلى سدّ باب العارية في الغالب. وسر المسألة أن السارق إنما قطع دون المنتهب والمختلس لأنه لا يمكن التحرّز منه، بخلاف المنتهب والمختلس، فإنه إنما يفعل ذلك عند عدم احتراز المالك. وقد ذكرنا أن العارية فيما بين الناس أمر تدعو إليه الحاجة، فلا يمكن سده والاحتراز منه، فكان قطع اليد في جنايته كقطعها في جناية السرقة، وبالله التوفيق. _________ (1) كابن مسعود وابن عباس وأصحابهما، فإنهم فسروا (الماعون) الذي ذم الله مانعيه بأنه العارية التي يتعاورها الناس بينهم كالفأس والقدر والدلو وأشباهها. انظر: «تفسير الطبري» (24/ 671 - 677). (2) وهو اختيار شيخ الإسلام. انظر: «الفروع» (7/ 197).

(3/99)


3 - باب إذا سرق مرارًا 529/ 4248 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: جيء بسارق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «اقْتُلُوه». فقالوا: يا رسول الله، إنما سرقَ، فقال: «اقْطَعُوه». قال: فقُطع، ثم جيء به الثانيةَ فقال: «اقتلوه»، فقالوا: يا رسول الله، إنما سرق، قال: «اقطعوه»، قال: فقطع. ثم جيء به الثالثة فقال: «اقتلوه»، فقالوا: يا رسول الله، إنما سرق، قال: «اقطعوه». ثم أُتي به الرابعةَ فقال: «اقتلوه»، فقالوا: يا رسول الله، إنما سرق، قال: «اقطعوه»، فأتي به الخامسة فقال: «اقتلوه». قال جابر: فانطلقنا به فقتلناه، ثم اجتررناه فألقيناه في بئر، ورمينا عليه الحجارة. وأخرجه النسائي (1) وقال: هذا منكر، ومصعب بن ثابت ليس بالقوي في الحديث. مصعب بن ثابت هذا هو: أبو عبد الله مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام، وقد ضعَّفه غير واحدٍ من الأئمة (2). وقال محمد بن المنكدر لمّا حُدِّث بحديث القتل في الرابعة: وقد تُرِك ذلك؛ قد أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بابن النُّعَيمان فجلده ثلاثًا، ثم أتي به الرابعة فجلده ولم يزد (3). _________ (1) أبو داود (4410)، والنسائي في «المجتبى» (4978) و «الكبرى» (7429)، من طريق مصعب بن ثابت، عن ابن المنكدر، عن جابر. (2) انظر: «تهذيب التهذيب» (10/ 158 - 159). (3) الحديث الذي حُدِّث به ابن المنكدر هو حديث قتل من شرب الخمر في المرّة الرابعة؛ حدَّثه به معمر عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا. أخرجه عبد الرزاق (13549، 17081) ومن طريقه الحاكم (4/ 372). وخبر جلد ابن النعيمان في البخاري (2316) ولكن ليس فيه أنه أتي به مرارًا، وإنما روي ذلك عند النسائي (5284) عقب حديث رواه ابن المنكدر عن جابر مرفوعًا في قتل شارب الخمر في الرابعة، ولم أتبيّن هل هو من قول جابر أو ابن المنكدر. وروي أيضًا من مرسَل الزهري وزيد بن أسلم عند عبد الرزاق (13550، 13552).

(3/100)


قال الشافعي (1): والقتل منسوخ بهذا الحديث وغيره، وهذا ما لا اختلاف فيه عند أهل العلم علمته ــ يريد: حديث قبيصة بن ذؤيب وفيه: «ووَضَع القتلَ، وكانت رخصة» (2) ــ. وقال أيضًا في موضع آخر (3): ثم حفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد الشارب هذا العدد الذي قال يقتل بعده، ثم جيء به فجلده ورفع القتل وصارت رخصة. وقال بعضهم (4): يحتمل أن يكون ما فعله إن صحَّ الحديث فإنما فعله بوحي من الله، ويكون معنى الحديث خاصًّا فيه. قال: وقد يخرَّج على (5) مذاهب بعض الفقهاء أن يُباح دمه، وهو أن يكون من المفسدين في الأرض، فإن للإمام أن يجتهد في تعزيره وإن زاد على مقدار الحدّ، وإن رأى أن يُقتل قتل. وقد يدلّ على ذلك من الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتله لمّا جيء به أول مرة، فيحتمل أن يكون هذا مشهورًا بالفساد معلومًا من أمره أنه سيعود إلى سوء فعله ولا ينتهي حتى تنتهي حياته. _________ (1) في «الأم» (7/ 365). (2) لفظ الحديث بتمامه: عن قبيصة بن ذؤيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه»، فأتي برجل قد شرب فجلده، ثم أتي به الثانية فجلده، ثم أتي به الثالثة فجلده، ثم أتي به الرابعة فجلده ووَضَع القتلَ فكانت رخصة. أخرجه الشافعي في «الأم» (7/ 264) وأبو داود (4485) بإسناد صحيح إلى قبيصة بن ذؤيب، وهو ممن ولد عام الفتح وله رؤية. (3) في «اختلاف الحديث» (10/ 207). (4) هو الخطابي في «المعالم» (10/ 237 - 238). (5) في (هـ): «عن»، والتصويب من «المعالم».

(3/101)


وقال آخرون: الحديث لا يثبت، والسنةُ مصرِّحة بخلافه، والإجماعُ من الأمة على أنه لا يُقتل (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وهذا المعنى قد رواه النسائي من حديث مصعب بن ثابت عن محمد بن المنكدر عن جابر وهو المتقدم. ورواه (2) من حديث النضر بن شميل، حدثنا حماد، أخبرنا يوسف، عن الحارث بن حاطب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتي بلصٍّ فقال: «اقتلوه»، فقالوا: يا رسول الله، إنما سرق [ثم قال: «اقتلوه»، قالوا: يا رسول الله، إنما سرق]، قال: «اقطعوا يده». قال: ثم سرق فقُطِعت رِجُله، ثم سرق على عهد أبي بكر حتى قطعت قوائمه كلها، ثم سرق أيضًا الخامسةَ فقال أبو بكر: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم بهذا حين قال: «اقتلوه»، ثم دفعه إلى فِتْية من قريش ليقتلوه، منهم عبد الله بن الزبير وكان يحب الإمارة فقال: أمِّروني عليكم، فأَمَّروه عليهم، فكان إذا ضرب ضربوه، حتى قتلوه. قال النسائي (3): ولا أعلم في هذا الباب حديثًا صحيحًا. _________ (1) الكلام السابق كلّه من (هـ)، والمجرّد قد أشار إلى طرفه الأخير ونسبه إلى المنذري، وهو كذلك إلا النقل عن ابن المنكدر والشافعي فيمن شرب مرارًا، فإنه ليس في «المختصر» المخطوط، والظاهر أنه مما زاده المؤلف. (2) «المجتبى» (4977) و «الكبرى» (7428)، وما بين الحاصرتين منه، ولعله سقط لانتقال النظر. والحديث رجاله ثقات، وقد استدركه الحاكم (4/ 382) واختاره الضياء (1/ 128)، ولكن الذهبي تعقّب الحاكم فقال: بل منكر! (3) في «الكبرى» عقب الحديث (7429).

(3/102)


وأما ما ذكره مِن قتل شارب الخمر بعد الرابعة، فقد قال طائفة من العلماء: إن الأمر بقتله في الرابعة متروك بالإجماع، وهذا هو الذي ذكره الترمذي (1) وغيره. وقيل: هو منسوخ بحديث عبد الله «حمار» (2) وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتله في الرابعة (3). وقال الإمام أحمد (4) وقد قيل له: لم تركتَه؟ فقال: لحديث عثمان: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث» (5). وفي ذلك كله نظر. أما دعوى الإجماع على خلافه، فلا إجماع. قال عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو: «ائتوني به في الرابعة، فعلي أن أقتله» (6). وهذا مذهب بعض السلف. _________ (1) في «جامعه» عقب الحديث (1444). (2) في الطبعتين هنا وفي الموضع الآتي: «عبد الله بن حمار» خلافًا للأصل، وهو خطأ إذ إن «حمار» لقب له، وليس اسم أبيه. (3) أخرجه البخاري (6780) من حديث عمر، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جَلَده في الشراب فأُتي به يومًا فأمر به فَجُلِد، فقال رجل من القوم: اللهم العَنْه، ما أكثرَ ما يؤتى به! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تلعنوه ... » الحديث. وليس فيه التصريح بعدد مرّات المجيء. (4) في «مسائله» رواية ابن هانئ (2/ 139 - 140). (5) أخرجه أحمد (437، 452)، وأبو داود (4502)، والترمذي (2158) وحسّنه، والنسائي (4019، 4057، 4058) من طرق صحاح. وهو في «الصحيحين» من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. (6) لم أجده عن ابن عمر، وأما قول عبد الله بن عمرو فأخرجه أحمد (6791) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 159)، والطبراني في «الكبير» (14/ 16) من رواية الحسن البصري عنه، وهي مرسلة فإن الحسن لم يسمع منه، كما جزم به علي ابن المديني. انظر: «المراسيل» لابن أبي حاتم (ص 41).

(3/103)


وأما ادعاء نسخه بحديث عبد الله «حمار»، فإنما يتم بثبوت تأخُّرِه، والإتيان به بعد الرابعة (1)، ومنافاته للأمر بقتله. وأما دعوى نسخه بحديث: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث»، فلا يصح، لأنه عام وحديث القتل خاص. والذي يقتضيه الدليل أن الأمر بقتله ليس حتمًا، ولكنه تعزيرٌ بحسب المصلحة، فإذا أكثرَ الناسُ من الخمر، ولم ينزجروا بالحد، فرأى الإمام أن يقتل فيه= قَتَل. ولهذا كان عمر ينفي فيه مرة (2)، ويحلق فيه الرأس [ق 223] مرة (3)، وجلد فيه ثمانين، وقد جلد فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر أربعين. فقَتْله في الرابعة ليس حدًّا، وإنما هو تعزيز بحسب المصلحة، وإنما على هذا يَتَخرَّجُ حديث الأمر بقتل السارق إن صحّ، والله أعلم. 4 - باب الرجم 530/ 4266 - عن عبد الرحمن بن الصامت ابن عمِّ أبي هريرة أنه سمع _________ (1) يشير المؤلف إلى أنه ليس صريحًا أنه أُتي به للمرّة الرابعة، وإنما فيه قول أحد القوم: ما أكثر ما يؤتى به! (2) صحّ عند عبد الرزاق (13557) والبيهقي (8/ 321) أن عمر أُتي بشيخ قد شرب في رمضان فجلده ثمانين ونفاه إلى الشام. وانظر: «مصنف عبد الرزاق» (17040، 17044). (3) انظر: «مصنف عبد الرزاق» (17047، 17048).

(3/104)


أبا هريرة يقول: جاء الأسلمي نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم -، فشهد على نفسه أنه أصاب امرأةً حرامًا أربع مرات، كل ذلك يُعرِض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل في الخامسة فقال: «أنِكْتَها؟» قال: نعم، قال: «حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟» قال: نعم، قال: «كما يغيب المِرْوَد في المُكحُلة والرِّشاءُ في البئر؟» قال: نعم، قال: «فهل تدري ما الزنا؟» قال: نعم، أتيتُ منها حرامًا ما يأتي الرجل من امرأته حلالًا، قال: «فما تريد بهذا القول؟» قال: أريد أن تُطهِّرَني، فأمر به فرُجم، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه، فلم تَدَعْه نفسُه حتى رُجِم رجمَ الكلب، فسكت عنهما، ثم سار ساعةً حتى مرَّ بجيفةِ حمارٍ شائلٍ برجله، فقال: «أين فلان وفلان؟» فقالا: نحن ذان يا رسول الله، قال: «انزلا فكُلا من جيفةِ هذا الحمار»، فقالا: يا نبي الله، مَن يأكل مِن هذا؟ قال: «فما نِلتُما من عِرض أخيكما آنفًا أشدُّ مِن أكلٍ منه، والذي نفسي بيده، إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمِس فيها». وأخرجه النسائي (1)، وقال فيه: «أنكحتَها؟» قلتُ: عبد الرحمن هذا يقال فيه: ابن الصامت، كما تقدّم، ويقال فيه: ابن هضَّاض (2)، وابن الهضهاض، وصحّح بعضهم (3): ابن الهضهاض. وذكره البخاري في «تاريخه» (4)، وحكى الخلاف فيه، وذكر له هذا _________ (1) أبو داود (4428) والنسائي (7126، 7127) من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن عبد الرحمن بن الصامت ابن عم أبي هريرة. (2) في مطبوعة «المختصر»: «ابن هضاد» تصحيف، والتصحيح من مخطوطته. (3) كابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (5/ 297). (4) (5/ 361).

(3/105)


الحديث وقال: حديثه في أهل الحجاز، ليس يُعرف إلا بهذا الحديث الواحد (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى ابن حبان في «صحيحه» (2) من حديث زيد بن أبي أنيسة، عن أبي الزبير، عن عبد الرحمن بن الهضهاض الدوسي، عن أبي هريرة قال: جاء ماعز بن مالك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،فقال له: الأبعد قد زنى، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وما يدريك ما الزنا؟»، ثم أمر به فطُرِد وأُخرِج. ثم أتاه الثانية فقال: يا رسول الله، إن الأبعد قد زنى، فقال: «ويلك، وما يدريك ما الزنا؟» فطرد وأخرج. ثم أتاه الثالثة، فقال يا رسول الله، إن الأبعد قد زنى، قال: «ويلك، وما يدريك ما الزنا؟» قال: أتيتُ امرأة حرامًا مثلَ ما يأتي الرجلُ مِن امرأته، فأمر به فطُرِد وأخرج. ثم أتاه الرابعة فقال: يا رسول الله، إن الأبعد قد زنى، قال: «ويلك، وما يدريك ما الزنا؟» قال: «أدخلت وأخرجت؟» قال: نعم، فأمر به أن يرجم ... فذكر الحديث، وقال فيه: «إنه الآن لفي نهر من أنهار الجنة ينغمس (3)». وهذا صريح في تعدد الإقرار، وأن ما دون الأربع لا يستقل بإيجاب الحد، وفيه حجة لمن اعتبر تعدد المجلس. وقد روى ابن حبان أيضًا في «صحيحه» (4) من حديث أيوب عن أبي _________ (1) في هذا الباب أربع وعشرون حديثًا وجلّها في قصة رجم ماعز، ولم يحدّد المجرد موضع تعليق المؤلف منها، ولعله كان ذيَّل به الباب، فاكتفيت بإثبات هذا الحديث منها (مع تخريج المنذري) لقوّة صلته بتعليق المؤلف. (2) برقم (4400). (3) كذا في الأصل، وفي «صحيح ابن حبان»: «يتقمّص»، وهما بمعنى. (4) برقم (4401)، وكذا أبو عوانة في «المستخرج» (6267)، كلاهما من طريق محمد بن أبي بكر المقدَّمي، عن حماد بن زيد، عن أيوب به. رجاله ثقات، إلا إني أخاف أن يكون ثَمّ وهمٌ من المقدَّمي أو غيره على أبي الزبير بسلوك الجادّة في الرواية حيث جعلها عنه عن جابر، والناس إنما رووها عن أبي الزبير عن عبد الرحمن بن الهضهاض عن أبي هريرة، كما في الحديث السابق. والله أعلم.

(3/106)


الزبير عن جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رجم ماعز بن مالك قال: «لقد رأيته يتخضخض في أنهار الجنة». 5 - باب في المرأة التي أُمِر برجمها من جُهَينة 531/ 4276 - عن عمران بن حصين أن امرأة من جهينة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إنها زنت وهي حُبلى، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - وليًّا لها، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَحسِنْ إليها، فإذا وضعتْ فجئ بها»، فلما أن وضعت جاء بها، فأمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فشُكَّت عليها ثيابُها، ثم أمر بها فرجمت، ثم أمرهم فصلَّوا عليها، فقال عمر: يا رسول الله، تصلي عليها وقد زنت؟ قال: «والذي نفسي بيده، لقد تابت توبةً لو قُسِمت بين سبعين من أهل المدينة لوَسِعَتْهم، وهل وجدتَ أفضلَ مِن أن جادت بنفسها؟». وأخرجه مسلم (1). 532/ 4277 - وعن عبد الله بن بريدة، عن أبيه - رضي الله عنهما - أن امرأة ــ يعني من غامِد ــ أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إنِّي قد فَجرْتُ، فقال: «ارجعي» فرجعتْ، فلما كان الغدُ أتته فقالت: لعلك أن تُردّدني كما رَدَّدْتَ ماعِزَ بن مالك، فوالله إني لحُبْلى، فقال لها: «ارجعي» فرجعت، فلما كان الغَدُ أتته فقال لها: «ارْجِعي حتَّى تَلدي» فرجَعت، فلما ولدت أتته بالصَّبي فقالت: هذا قد ولدتُه، فقال لها: «ارْجعي، فأَرْضِعِيه حتى تَفْطِميه»، فجاءت به وقد فَطَمته، وفي يده شيء يأكله، _________ (1) أبو داود (4440) ومسلم (1696).

(3/107)


فأمر بالصبي فدُفِعَ إلى رجل من المسلمين، وأمرَ بها فحُفِرَ لها، وأمر بها فرُجِمَت، وكان خالد فيمن يرجمها فرجمها بحجر فوقَعَت قطرةٌ من دمها على وَجْنته فسَبَّها، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَهلًا يا خالد، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبةً لو تابها صاحبُ مَكْسٍ لَغُفِر له»، وأمرَ بها فصُلِّي عليها ودفنت. وأخرجه مسلم أتمّ من هذا، و [حديث] النسائي (1) مختصر كالذي هنا. وفي إسناده [بشير بن] مهاجر الغَنَوي الكوفي، وليس له في «صحيح مسلم» سوى هذا الحديث، وقد وثَّقه ابن معين. وقال الإمام أحمد: منكر الحديث، يجيء بالعجائب، مُرْجِئ متَّهم. وقال: في أحاديث ماعزٍ كلِّها أن ترديده إنما كان في مجلس واحد، إلا ذاك الشيخ بشير بن مهاجر. وقال أبو حاتم الرازي: يُكتَب حديثه ولا يُحتج به (2). وغمزه غيرهما. ولا عيب على مسلم في إخراج هذا الحديث، فإنه أتى به في الطبقة الثانية بعدما ساق طرق حديث ماعز، وأتى به آخِرًا، ليُبيِّن اطِّلاعَه على طرق الحديث. وذُكِر أن حديث عمران بن حصين فيه أنه أمر برجمها حين وَضَعت ولم يستأنِ بها. وكذا روي عن علي - رضي الله عنه - أنه فعل بشَراحة (3). وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأصحاب الرأي. _________ (1) أبو داود (4442)، ومسلم (1695/ 23)، والنسائي في «الكبرى» (7159) (2) «الجرح والتعديل» (2/ 378 - 379)، وفيه توثيق ابن معين وبعض كلام أحمد، وبعضه في «الضعفاء» للعقيلي (1/ 409)، ولم أجد كلامه في تعليل هذه الرواية. (3) أخرجه عبد الرزاق (13350)، وابن أبي شيبة (29407)، والدارقطني (3233) من طرق عن الشعبي عن علي. وهو في البخاري (6812) مختصرًا دون موضع الشاهد.

(3/108)


وقال أحمد وإسحاق: تُترك حتى تضع ما في بطنها ثم تُترك حَولين حتى تفطمه، ويشبه أن يكونا ذهبا إلى هذا الحديث. وحديث عمران أجود، وهذا الحديث راويه بشير بن المهاجر. وقيل: يحتمل أن تكونا امرأتين: إحداهما وجد لولدها كفيل وقبلها، والأخرى لم يوجد لولدها كفيل أو لم يقبل، فوجب إمهالُها حتى يستغني عنها، لئلا يهلك بهلاكها؛ ويكون الحديثان على واقعتين ويرتفع الخلاف (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد اختلف في حديث ماعز، هل حُفِر له أم لا؟ ففي «صحيح مسلم» (2) عن أبي سعيد الخدري قال: لمَّا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نرجُمَ ماعز بن مالكٍ، خرجنا به إلى البقيع، فوالله ما حفرنا له ولا أوثقناه ولكن قام لنا فرميناه بالعظام والخَزَف، فاشتكى، فخرج يشتدّ حتى انتصب لنا في عُرْض الحرة ... الحديث. وفي «صحيح مسلم» (3) أيضًا عن ابن بريدة قال: جاء ماعز بن مالك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إني قد (4) زنيت فأريد أن تطهرني، فرَدَّه، فلما كان من الغد أتاه، فقال: يا رسول الله، إني قد زنيت، فرده الثانية، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهله، فقال: «هل تعلمون بعقله بأسًا؟ تنكرون منه شيئًا؟» فقالوا: ما نعلمه إلا وفيَّ العقل من صالحينا فيما نُرَى، فأتاه الثالثة، _________ (1) كلام المنذري مثبت من (هـ)، وما بين المعكوفات من «المختصر». (2) برقم (1696/ 20) بنحوه، واللفظ لأحمد (11589)، ومن طريقه أخرجه البيهقي (8/ 220) أيضًا، ولعل المؤلف صادر عنه. (3) برقم (1695/ 23) من طريق بَشير بن مهاجر، عن عبد الله بن بُريدة، عن أبيه. (4) «قد» من (هـ).

(3/109)


فأرسل إليهم أيضًا فسأل عنه، فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله، فلما كان الرابعة حَفَر له حُفرةً، ثم أمر به فرُجِم ... فذكر الحديث. وهذا الحديث فيه أمران سائر طرق حديث ماعز تدل على خلافهما: أحدهما: أن الإقرارَ منه وترديدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في مجالس متعددة، وسائر الأحاديث تدل على أن ذلك كان في مجلس واحد. الثاني: ذكر الحفر فيه، والصحيح في حديثه: أنه لم يحفر له، والحفر فيه وهم، ويدل عليه أنه هرب وتبعوه. وهذا والله أعلم من سوء حفظ بشير بن مهاجر، وقد تقدم قول الإمام أحمد: إن ترديده إنما كان في مجلس واحد، إلا ذلك الشيخ بشير بن مهاجر. 6 - باب الرجل يزني بمحارمه 533/ 4291 - عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال: بَينَما أنا أطوف على إبلٍ لي ضَلَّت، إذ أقبل رَكْبٌ ــ أو فَوَارِسُ ــ معهم لواء، فجعل الأعراب يُطيفون بي لمنزلتي من النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ أَتَوا قُبَّةً فاستخرجوا منها رجُلًا فضربوا عنقه، فسألتُ عنه، فذكروا أنه أعرس بامرأة أبيه (1). 534/ 4292 - وعن يزيد بن البراء، عن أبيه، قال: لَقيتُ عَمِّي ومعه رايةٌ، فقلت: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رجل نكح امرأةَ أبيه، فأمرني أن أضربَ عُنقه وآخذَ ماله. _________ (1) «سنن أبي داود» (4456)، وكذا أخرجه أحمد (18608)، والنسائي في «الكبرى» (5466، 7182)، والحاكم (2/ 192)، كلهم من طريق مطرِّف بن طَريف، عن أبي الجهم، عن البراء.

(3/110)


وأخرجه النسائي وابن ماجه والترمذي (1) وقال: حسن غريب. وقد اختُلف في هذا اختلافًا كثيرًا غيرَ مؤثِّر في تعليله (2). فروي عن البراء كما تقدم، وروي عنه عن عمه كما ذكرناه. وروي عنه قال: مرَّ بي خالي أبو بُرْدة بن نِيار ومعه لواء. وهذا لفظ الترمذي فيه. وروي عنه عن خاله، وسماه هشيمٌ في حديثه: الحارث بن عمرو. وهذا لفظ ابن ماجه فيه. وروي عنه قال: مرَّ بنا ناسٌ يَنطلقون (3). وروي عنه: إنِّي (4) لأطوِّف على إبلٍ لي ضلَّتْ في تلك الأحياء في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ جاءهم رهط معهم لواء. وهذا لفظ النسائي (5). _________ (1) أبو داود (4457)، والنسائي في «الكبرى» (5465، 7185)، من طريقين عن عدي بن ثابت عن يزيد بن البراء عن أبيه. وأخرجه الترمذي (1362)، والنسائي في «الكبرى» (5464، 7183، 7184)، وابن ماجه (2607)، وكذا ابن حبان (4112) الحاكم (2/ 191، 192)، من طرق عن عدي بن ثابت عن البراء (دون ذكر ابنه يزيد). يُنظر: «العلل الكبير» للترمذي (ص 208)، و «العلل» لابن أبي حاتم (1207، 1277)، وللدارقطني (951). (2) قوله: «غير مؤثر في تعليله» من قول المؤلف، وليس في «المختصر». (3) وهذا لفظ النسائي في «الكبرى» (7183). (4) (هـ): «أنه» تصحيف. (5) كلام المنذري مثبت من (هـ)، وفيه تصرف يسير من المؤلف وزيادة سبق التنبيه عليها.

(3/111)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وهذا كله يدل على أن الحديث محفوظ، ولا يوجب هذا تَرْكَه بوجه، فإن البراء بن عازب حدَّث به عن أبي بُردة بن نِيار، واسمه الحارث بن عمرو، وأبو بردة كنيته، وهو عمّه وخاله، وهذا واقع في النسب، وكان معه رهط؛ فاقتصر على ذكر الرهط مرة، وعيّن من بينهم أبا بردة بن نِيار باسمه مرّة، وبكنيته أخرى، وبالعمومة تارة، وبالخؤولة أخرى. فأي علة في هذا توجب ترك الحديث؟! والله الموفق للصواب. والحديث له طرق حسان يؤيد بعضُها بعضًا، منها: مُطَرِّف عن أبي الجهم عن البراء. ومنها: شعبة عن الربيع بن الرُّكين عن عدي بن ثابت عن البراء. ومنها: الحسن بن صالح عن السُّدِّي عن عدي عن البراء. ومنها: معمر عن أشعث عن عدي عن يزيد بن البراء عن أبيه. وذكر النسائي في «سننه» (1) من حديث عبد الله بن إدريس: حدثنا خالد بن أبي كريمة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أباه (جدَّ معاوية) إلى رجل عرّس بامرأة أبيه، فضرب عنقه وخمَّسَ ماله. _________ (1) «الكبرى» (7186)، وأيضًا ابن ماجه (2608) والدارقطني (3453)، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (951) من طرق عن عبد الله بن إدريس به. إسناده حسن، وقد أعلّه بعضهم بالإرسال، ولكن صحح ابن معين الرواية الموصولة. انظر: «مسند البزار» (3315)، و «الإصابة» (1/ 328). وقد اختلفت الطرق في ذكر المبعوث، فعند النسائي هو أبو قرّة (جدّ معاوية)، وأُبهِم عند الدارقطني، وعند ابن ماجه وأبي نعيم هو قرّة بن إياس نفسه، وهذا الذي استصوبه أبو نُعيم وقال: إن ذكر جدّ معاوية فيه وهم لا يُتابَع عليه.

(3/112)


 كتاب الديات

1 - باب ترك القَوَد بالقسامة (1) 535/ 4358 - عن سعيد بن عبيد الطائي، عن بُشَير بن يسار، زعم أن رجلًا مِنَ الأنصار يقال له: سَهْل بن أبي حَثْمة أخبره: أن نفرًا من قومه انطلقوا إلى خَيْبرَ فتفرقوا فيها، فوجدوا أحدَهم قتيلًا، فقالوا للذين وجدوه عندهم: قتلتم صاحبنا، فقالوا: ما قتلنا ولا علمنا قاتلًا، فانطلقنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لهم: «تأتوني بالبينة على مَن قتل؟» قالوا: ما لَنا بَيِّنَة، قال: «فيحلفون لكم؟» قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُبْطِلَ دَمَه، فَوَدَاه مائةً من إبل الصدقة. وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (2)، ولم يذكر مسلم لفظ الحديث. قال ابن القيم - رحمه الله -: وذكر النسائي (3) من حديث عبيد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن ابن مُحَيِّصة الأصغر أصبح قتيلًا على أبواب خيبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [ق 224] «أقم شاهدين على من قتله أدفعْه إليك بِرُمَّته»، قال: يا رسول الله: أين أصيب شاهدين؟ وإنما أصبح قتيلًا على أبوابهم، قال: «فتحلف خمسين قسامةً؟» قال: يا رسول الله، وكيف أحلف على ما لا أعلم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فتستحلف منهم خمسين قسامة؟» فقال: يا رسول الله كيف نستحلفهم وهم اليهود؟ فقَسَم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ديته عليهم وأعانهم بنصفها. _________ (1) في الأصل: «باب ترك القسامة بالقَوَد»، مقلوب، والتصحيح من «السنن». (2) أبو داود (4523)، والبخاري (6898)، ومسلم (1669/ 5)، والنسائي (4719). (3) في «المجتبى» (4720)، و «الكبرى» (6896) وفيها قوله الآتي عقب الحديث.

(3/113)


قال النسائي: لا نعلم أحدًا تابع عمرو بن شعيب على هذه الرواية، ولا سعيدَ بن عبيد على روايته عن بُشَير بن يسار، والله أعلم. وقال مسلم (1): رواية سعيد بن عُبَيد غلط ويحيى بن سعيد أحفظ منه (2). وقال البيهقي (3): هذا يحتمل أن لا يخالف رواية يحيى بن سعيد عن بشير، وكأنه أراد بالبينة هنا أيمان المدعِين مع اللَّوْث كما فسره يحيى بن سعيد، أو طالبهم بالبينة كما في رواية سعيد بن عبيد، فلما لم يكن عندهم بينة عرض عليهم الأيمان كما في رواية يحيى بن سعيد، فلما لم يحلفوا ردّها على اليهود كما في الروايتين جميعًا. ويدل على ما ذكره البيهقي حديثُ النسائي عن عمرو بن شعيب. والصواب رواية الجماعة الذين هم أئمة أثبات أنه بدأ بأيمان المدَّعِين، فلما لم يحلفوا ثنَّى بأيمان اليهود. وهذا هو المحفوظ في هذه القصة وما سواه وهْم، وبالله التوفيق. 536/ 4361 - وعن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يَسار، عن رجال من الأنصار: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لليهود ــ وبدأ بهم ــ: «يَحْلِفُ منكم خمسون رجلًا»، فأبَوا، فقال للأنصار: «اسْتَحِقُّوا». قالوا: نحلِفُ على الغَيبِ يا _________ (1) في كتابه «التمييز» (ص 138)، والمؤلف صادر عن «معرفة السنن» (12/ 176). (2) رواية يحيى بن سعيد عن بُشير بن يسار أخرجها البخاري (6142) ومسلم (1669/ 1) وأبو داود (4520)، وفيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ بالمدَّعين أن يقسموا خمسين يمينًا، وليس فيها أنه - صلى الله عليه وسلم - سألهم البيّنة، على خلاف رواية سعيد بن عبيد عن بُشير. (3) في «المعرفة» (12/ 176 - 177)، وبنحوه في «السنن» (8/ 120).

(3/114)


رسول الله؟! فجعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ديةً على يهود لأنه وُجِد بين أظهرهم (1). قال بعضهم: وهذا ضعيف لا يُلتفَت إليه. وقد قيل للإمام الشافعي - رحمه الله - (2): فما منعك أن تأخذ بحديث ابن شهاب؟ قلت: مرسل، والقتيل أنصاري، والأنصاريون بالعناية أولى بالعلم به من غيرهم إذا (3) كان كلٌّ ثقة، وكلٌّ عندنا بنعمة الله ثقة. قال ابن القيم - رحمه الله -: وهذا الحديث له علة، وهي أن معمرًا انفرد به عن الزهري، وخالفه ابن جريج وغيره، فرووه عن الزهري بهذا الإسناد بعينه عن أبي سلمة وسليمان عن رجال من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرّ القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية وقضى بها بين ناس من الأنصار في قتيل ادَّعَوه على اليهود. ذكره البيهقي (4). والقسامة في الجاهلية كانت قسامةَ الدم. وفي قول الشافعي: «إن حديث ابن شهاب مرسل» نظر، والرجال من الأنصار لا يمتنع أن يكونوا صحابة، فإن أبا سلمة وسليمان كل منهما من _________ (1) «سنن أبي داود» (4526). (2) كما في «اختلاف الحديث» (10/ 296 - مع الأم) له، وعنه البيهقي في «المعرفة» (12/ 181) و «السنن» (8/ 121). (3) في مطبوعة «المختصر» و «المعرفة»: «إذ»، ولعل المثبت من «اختلاف الحديث» و «سنن البيهقي» أشبه. (4) في «المعرفة» (12/ 181)، وقد أخرجه مسلم (1670) من طريق ابن جريج وصالح بن كيسان ويونس بن يزيد، ثلاثتهم عن الزهري به. وأخرجه أحمد (16598) والبيهقي في «السنن» (8/ 122) من طريق عُقيل عن الزهري به.

(3/115)


التابعين، قد لقي جماعة من الصحابة، إلا أن الحديث غير مجزوم باتصاله لاحتمال كون الأنصاريين من التابعين والله أعلم. قال البيهقي (1): وأصح ما روي في القتل بالقسامة وأعلاه بعد حديث سهل ما رواه عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: حدثني خارجة بن زيد بن ثابت قال: قَتَل رجل من الأنصار وهو سكران رجلًا آخر من الأنصار من بني النجار في عهد معاوية، ولم يكن على ذلك شهادة إلا لَطْخ وشبهة. قال: فاجتمع رأي الناس على أن يَحلِف ولاة المقتول ثم يُسلَّم إليهم فيقتلوه. قال خارجة بن زيد: فركبنا إلى معاوية وقصصنا عليه القصة، فكتب معاوية إلى سعيد بن العاص ... فذكر الحديث وفيه: فقال سعيد: أنا منفّذ كتابَ أمير المؤمنين، فاغْدُوا على بركة الله، فغدَونا عليه، فأسلمه إلينا سعيد بعد أن حلفنا عليه خمسين يمينًا (2). وفي بعض طرقه (3): وفي الناس يومئذ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن فقهاء الناس ما لا يحصى، وما اختلف اثنان منهم أن يحلف ولاة المقتول ويقتلوا أو يَستَحْيُوا، فحلفوا خمسين يمينًا وقتلوا، وكانوا يخبرون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالقسامة. وأما حديث محمد بن راشد عن مكحول: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقضِ _________ (1) في «معرفة السنن» (12/ 20 - 21). (2) أسنده البيهقي بعد أن ذكره معلّقًا عن ابن أبي الزناد، وأخرجه أيضًا ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (15/ 390)، وأخرجه البخاري في «التاريخ الأوسط» (2/ 741) من وجه آخر عن ابن أبي الزناد مختصرًا. (3) أخرجه البيهقي في «الكبرى» (8/ 127) وعلّقه في «المعرفة» (12/ 21).

(3/116)


في القسامة بِقَوَد (1)، فمنقطع. وأما ما رواه الثوري في «جامعه» (2) عن عبد الرحمن عن القاسم بن عبد الرحمن أن عمر بن الخطاب قال: «القسامة توجب العقل ولا تُشيط الدم»، فمنقطع موقوف. وأما حديث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه استحلف اليهود خمسين يمينًا، ثم جعل عليهم الدية (3)، فلا يحل لأحد معارضة رواية الأئمة الثقات بالكلبي وأمثاله. وأما حديث عمر بن صُبْح (4) عن مقاتل بن حيان عن صفوان عن ابن المسيب عن عمر في قضائه بذلك، وقوله: «إنما قضيت عليكم بقضاء نبيكم - صلى الله عليه وسلم -» (5)، فلا يجوز أيضًا معارضة الأحاديث الثابتة بحديث من أجمع علماء الحديث على ترك الاحتجاج به، وهو ابن صُبْح الذي لم يُسفر صباحُ صِدقه في الرواية. _________ (1) أخرجه أبو داود في «المراسيل» (ص 219)، ومن طريقه البيهقي (8/ 129). (2) كما في «المعرفة» (12/ 22)، ومن طريق الثوري أخرجه عبد الرزاق (18286) والبيهقي في «الكبرى» (8/ 129). وأخرجه ابن أبي شيبة (28409) من طريق وكيع عن عبد الرحمن المسعودي به. (3) أخرجه البيهقي في «الكبرى» (8/ 123)، والكلبي متروك متّهم بالكذب. (4) في الطبعتين هنا وفي الموضع الآتي: «صبيح»، خطأ مخالف للأصل. (5) أخرجه الدارقطني (3354)، ومن طريقه البيهقي في «الكبرى» (8/ 125). قال الدارقطني: «عمر بن صُبح متروك الحديث». وقد رماه إسحاق بن راهويه وابن حبان وغيرهما بالوضع.

(3/117)


وأما حديث سفيان بن عيينة عن منصور عن الشعبي أن عمر بن الخطاب كتب في قتيلٍ وُجِد بين خَيْوان (1) ووَادِعة: أن يقاس ما بين الفريقين، فإلى أيهما كان أقرب أخرج منهم خمسين رجلًا حتى يوافوه بمكة، فأدخلهم الحجر فأحلفهم، ثم قضى عليهم بالدية، فقالوا: ما وَقَتْ أموالُنا أيمانَنا، ولا أيمانُنا أموالَنا، فقال عمر: «كذلك الأمر»، وفي لفظ قال عمر: «حقنتُ (2) بأيمانكم دماءَكم، ولا يُطَلُّ (3) دم امرئ مسلم» (4) = فقال _________ (1) رُسم في الأصل بالراء، فتحرّف في ط. الفقي إلى: «جِيزان» والتصويب من مصادر التخريج. وخيوان ووادعة من مخاليف اليمن. انظر: «المسالك والممالك» لابن خُرْداذْبُهْ (ص 136 - 137). وهما اليوم يتبعان محافظة عَمْران شمال صنعاء. (2) كذا في الأصل والطبعتين وله وجه، وفي مصادر التخريج: «حقنتُم». (3) أي لا يذهب هدَرًا. (4) أخرجه الشافعي في «الأم» (8/ 31 - 32)، ومن طريقه البيهقي في «المعرفة» (12/ 16) و «السنن» (8/ 124). وأخرجه عبد الرزاق (18266، 18267)، وابن أبي شيبة (28391، 28430) من طرق أخرى عن الشعبي مختصرًا. وإسناده منقطع، لأن الشعبي لم يُدرك عمر. وأخرجه ابن أبي شيبة (28390)، والطحاوي في «معاني الآثار» (3/ 201)، من حديث أبي إسحاق عن الحارث بن الأَزْمَع الهَمْداني الوادعي عن عمر، والحارث قد أدرك الواقعة، وهو مخضرم من كبار التابعين، وثقه العجلي وابن حبان. وفي «العلل» لابن المديني ــ كما في «تهذيب التهذيب» (8/ 66) ــ ما يدلّ على أن أبا إسحاق لم يسمعه من الحارث، وإنما سمعه من مجالد عن الشعبي عن الحارث. وعلى هذا صحّت رواية الشعبي المرسلة عن عمر، لأن الواسطة بينهما الحارث بن الأزمع. وأخرجه عبد الرزاق (18266) من رواية الحكم بن عتيبة، عن الحارث بن الأزمع مختصرًا، والظاهر أن الحكم لم يُدرك الحارث، ولعله أخذه عن الشعبي عنه، والله أعلم.

(3/118)


الشافعي (1) وقد قيل له: هذا ثابت عندك؟ قال: لا، إنما رواه الشعبي عن [ق 225] الحارث الأعور (2)، والحارث مجهول، ونحن نروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإسناد الثابت أنه بدأ بالمدَّعِين، فلمَّا لم يحلفوا قال: «فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا»، وإذ (3) قال: «فتبرئكم» لم يكن عليهم غرامة، ولما لم يقبل الأنصار أيمانهم وداه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ولم يجعل على يهود شيئًا والقتيل بين أظهرهم. وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة (4) عن ابن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: سافرت إلى خَيوان ووادِعة (5) ثلاثًا وعشرين سفرة أسألهم عن حكم عمر بن الخطاب في القتيل وأحكي لهم ما روي عنه، فقالوا: إن هذا لشيء ما كان ببلدنا قط. قال الشافعي: والعرب أحفظ شيء لأمرٍ كان. _________ (1) كما في «الأم» (8/ 32)، وعنه البيهقي في «المعرفة» (12/ 16) و «السنن» (8/ 124). (2) كذا في الأصل و «الأم» وفي كتابي البيهقي، ولا إخاله ــ والله أعلم ــ إلا تحريفًا عن «الحارث بن الأزمع»، كما يظهر بالنظر في التخريج المذكور آنفًا، ويؤيده أن الشافعي وصفه هنا بأنه مجهول، وهذا لا يَصدُق على الأعور فإنه من مشاهير أصحاب عليّ - رضي الله عنه - على ضعفٍ فيه، ويستحيل أن يكون الشافعي يجهله، كيف وقد روى في «الأم» من طريقه عن عليٍّ عدة أحاديث، وفي موضع (5/ 217) ضعّف واحدًا منها بأنه: «لا يُثبِت أهلُ الحديث مثلَه»، وهذا إشارة منه إلى ضعف الأعور وطعن أهل العلم فيه. ويظهر أنه تحريف قديم في «الأم» وأنه كان هكذا في نسخته التي وقعت للبيهقي، لأنه راح ينقل عَقِبه طعن الشعبي في الأعور بأنه كان كذّابًا. (3) في الأصل ومطبوعة «الأم»: «وإذا»، والتصويب من «السنن الكبرى» و «المعرفة». (4) كما في «معرفة السنن» (12/ 19). (5) في الأصل: «حيران ووداعة» كلاهما تصحيف.

(3/119)


وأما حديث أبي سعيد الخدري: أن قتيلًا وُجِد بين حيَّين فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقاس إلى أيهما أقرب، فوُجِد أقرب إلى أحد الحيين بشِبْر، فألقى ديته عليهم؛ فرواه أحمد في «مسنده» (1)، وهو من رواية أبي إسرائيل الملائي عن عطية العَوفي، وكلاهما فيه ضعف. ومع هذا فليس فيه ما يضاد حديث القسامة. وقد ذهب إليه أحمد في رواية، حكاه [المرّوذي] في «كتاب الورع» (2) عنه. وأما حديث ابن عباس: «لو يُعطى الناس بدعواهم لادَّعَى رجال دماء رجالٍ وأموالَهم، ولكن اليمين على المُدَّعى عليه» (3)، فهذا إنما يدل على أنه لا يُعطَى أحد بمجرد دعواه دمَ رجل ولا ماله، وأما في القسامة فلم يُعطَ الأولياء فيها بمجرد دعواهم بل بالبينة، وهي ظهور اللَّوث وأيمانُ خمسين، لا بمجرد الدعوى؛ وظهورُ اللَّوث وحلف خمسين بينةٌ بمنزلة الشهادة أو أقوى. وقاعدة الشرع: أن اليمين تكون في جَنْبةِ أقوى المتداعِيَين، ولهذا يُقضَى للمدَّعِي بيمينه إذا نكل المدعى عليه، كما حكم به الصحابة لقوة جَنْبَتِه بنكول الخصم المدعى عليه، ولهذا يحكم له بيمينه إذا أقام شاهدًا واحدًا _________ (1) برقم (11342، 11845) بنحوه، واللفظ للبيهقي (8/ 126)، وأخرجه العقيلي في «الضعفاء» (1/ 246) وابن عدي في «الكامل» (1/ 290) ضمن مناكير أبي إسرائيل المُلائي. قال العقيلي: ما جاء به غيره، وليس له أصل. (2) ما بين الحاصرتين من «زاد المعاد» (5/ 16)، ومكانه بياض في الأصل، ولم أجد النقل في المطبوع منه. (3) أخرجه البخاري (4552)، ومسلم (1711).

(3/120)


لقوة جنبَته بالشاهد، فالقضاء بها في القسامة مع قوة جنبة المدعين باللوث الظاهر أولى وأحرى. وطرد هذا: القضاء بها في باب اللعان إذا لاعن الزوجُ ونكلت المرأة، فإن الذي يقوم عليه الدليل أن الزوجة تُحَدّ، وتكون أيمان الزوج بمنزلة الشهود، كما قاله مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة (1): لا يُقتَل (2) في الموضعين، وقال مالك (3): يُقتَل في الموضعين، وقال أحمد (4): يُقتَل في القسامة دون اللعان، وقال الشافعي (5): يُقتَل في اللعان دون القسامة؛ وقول مالك أرجح وعليه تدل الأدلة. 2 - باب لا يُقاد المسلم بالكافر (6) 537/ 4365 - عن قيس بن عُبَاد، قال: انطلقتُ أنا والأشتر إلى علي - رضي الله عنه - فقلنا له: هل عَهِدَ إليك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا لم يَعْهَدْه إلى الناس عامَّة؟ _________ (1) انظر: «الأصل» (6/ 566)، «مختصر اختلاف العلماء» (2/ 509). (2) أي الشخص المدَّعى عليه بنكوله في القسامة واللعان، وفي الطبعتين: «تُقبَل» تحريف. وانظر: «أعلام الموقعين» (1/ 216). (3) انظر «المدونة» (6/ 112) للعان، وظاهره هو (16/ 416) و «النوادر» (14/ 202 - 203) في القسامة أنه لا يُقتل بالنكول بل يُحبس حتى يحلف أو يُقرّ. (4) انظر: «مسائله» برواية الكوسج (1/ 406) و «الإنصاف» (23/ 426) للعان. وأما القسامة فالذي في «المغني» (12/ 206) و «الإنصاف» (26/ 129 - 130): أنه لا يُقتل بالنكول، قال المرداوي: بلا نزاع. (5) «الأم» (6/ 735) و (7/ 240). (6) هذه الترجمة من المؤلف، وكانت الترجمة في «السنن» و «المختصر»: «أَيُقاد المسلم بالكافر» على الاستفهام.

(3/121)


قال: لا، إلا ما في كتابي هذا ــ قال مسدد: فأخرج كتابًا، وقال أحمد (وهو ابن حنبل): كتابًا من قِرابِ سَيْفه ــ فإذا فيه: «المؤمنون تَكافَأ دماؤهم، وهُم يدٌ على من سواهم، ويسعى بذمَّتهم أدناهم، ألا لا يُقتلُ مؤمن بكافر، ولا ذُو عهدٍ في عهده، من أحدث حدثًا فعلى نفسه، ومن أحدث حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين». وأخرجه النسائي (1). وقد أخرج البخاري في «صحيحه» (2) من حديث أبي جُحَيفةَ وَهب بن عبد الله السُّوائي قال: سألت عليًّا - رضي الله عنه -: هل عندكم شيء مما ليس في القرآن؟ فقال: العقل، وفَكاك الأسير، وأن لا يُقتَل مسلم بكافر. وأخرجه أيضًا الترمذي والنسائي وابن ماجه (3). 538/ 4366 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ــ ثم ذكر نحو حديث علي، زاد فيه ــ «ويُجِيرُ عليهم أقْصَاهم، وَيَرُدُّ مُشِدُّهم على مُضْعِفهم، ومُتَسَرِّيهم على قَاعِدهم». وأخرجه ابن ماجه (4). قال ابن القيم - رحمه الله -: وأما الحديث الذي ذكره أبو داود في كتاب «المراسيل» (5) عن عبد الله بن عبد العزيز الحضرمي قال: قَتَل رسول الله _________ (1) أبو داود (4530) والنسائي (4734). (2) برقم (111، 3047، 6903، 6915). (3) الترمذي (1412)، والنسائي (4744)، وابن ماجه (2658) (4) أبو داود (4531) ــ وسبق عنده (2751) بتمامه ــ، وابن ماجه (2659، 2685)، وأخرجه أيضًا ابن خزيمة (2280) من طرق عن عمرو بن شعيب به. (5) برقم (251).

(3/122)


- صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر مسلمًا بكافر قتله غِيلَةً، وقال: «أنا أولى وأحقُّ من أوفى بذمَّته» = فمرسل لا يثبت. ورواه أيضًا (1) من حديث ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الرحمن ابن البَيلَماني، ولا يصح من الوجهين: الإرسال وابن البيلماني. وقد أسنده بعضهم من حديث ابن البيلماني عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2)، ولا يصح. وهذا الحديث مداره على ابن البيلماني، والبليَّة فيه منه، وهو مُجمَع على ترك الاحتجاج به، فضلًا عن تقديم روايته على أحاديث الثقات الأئمة المخرجةِ في الصحاح كلها. 3 - باب القصاص من اللطمة (3) 539/ 4370 - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: بينما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقْسِمُ قَسمًا أقبل رجلٌ فأكَبَّ عليه، فطعنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعُرْجُونٍ كان معه، فجُرحَ بوجهه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تَعَالَ فاسْتَقِدْ»، فقال: بل عَفَوتُ يا رسول الله. _________ (1) برقم (250)، وأخرجه أيضًا عبد الرزاق (18514)، وابن أبي شيبة (28031)، من طرق عن ربيعة به. (2) أخرجه الدارقطني (3259) والبيهقي (8/ 30) من طريق واهٍ عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن به موصولًا، والثقات إنما رووه عن ربيعة، عن ابن البيلماني مرسلًا. قال الدارقطني: وابن البيلماني ضعيف لا تقوم به حجّة إذا وصل الحديث، فكيف بما يُرسله؟! (3) هذه الترجمة من المؤلف، وكانت الترجمة في بعض نسخ «السنن»: «باب القَوَد من الضربة، وقصّ الأمير من نفسه»، وفي بعضها و «المختصر» اندرج الحديثان تحت الباب الآتي: «باب عفو النساء».

(3/123)


وأخرجه النسائي (1). 540/ 4371 - وعن أبي نَضْرة، عن أبي فِراس قال: خطبنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: إني لم أَبعث عُمَّالي ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فُعِلَ به غير ذلك فَلْيَرفَعه إليَّ أُقِصُّه منه. قال عمرو بن العاص: لو أن رجلًا أدَّبَ بعض رعيته أَتُقِصُّه منه؟ قال: إِي والذي نفسي بيده أُقِصُّه، وقد رأيت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أقَصَّ من نفسه. وأخرجه النسائي (2). وأبو فراس قيل: هو الربيع بن زياد بن أنس الحارثي، وقيل: كنيته أبو عبد الله، وقيل: أبو عبد الرحمن. وسئل أبو زرعة الرازي عن أبي فراس هذا الذي روى عن عمر، وروى عنه أبو نضرة، فقال: لا أعرفه (3). وقال الحافظ أبو أحمد الكرابيسي (4): ولا أعرف أبا نَضْرة روى عن الربيع بن زياد شيئًا، إنما روى عنه أبو مِجْلَز وقتادة، وذكره الشعبي في بعض أخباره. وأبو فراس الذي روى عنه أبو نضرة هو النَّهْدي. هذا آخر كلامه. _________ (1) أبو داود (4536)، والنسائي (4773)، وأخرجه أيضًا أحمد (11229)، وابن حبان (6434)، كلهم من طريق بكير بن الأشج، عن عُبيدة بن مُسافع، عن أبي سعيد. إسناده ضعيف، عُبيدة بن مُسافع لم يوثقه غير ابن حبان، وقال علي ابن المديني: مجهول ولا أدري سمع من أبي سعيد أم لا؟ «تهذيب التهذيب» (7/ 85). (2) أبو داود (4537)، والنسائي (4777). وفي إسناده ضعف لجهالة حال أبي فراس. وأخرج عبد الرزاق (18040) عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عمر بنحوه، وفي إسناده إرسال. (3) «الجرح والتعديل» (9/ 423). (4) هو الحاكم الكبير (ت 378)، وكتابه «الأَسامي والكنى» لم يصلنا كاملًا، وليس «أبو فراس» في القدر المطبوع.

(3/124)


وأبو نضرة ــ بفتح النون وسكون الضاد المعجمة ــ هو المنذر بن مالك العَوَقِيُّ. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال الشافعي في رواية الربيع (1): ورُوي من حديث عمر أنه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعطي القَوَد من نفسه، وأبا بكر يعطي القود من نفسه، وأنا أعطي القود من نفسي (2). احتج به الشافعي في القصاص فيما دون النفس. وقد تقدم (3) حديث النعمان بن بشير وقولُه لمدعي السرقة: إن شئتم أن أضربهم، فإن خرج متاعكُم (4) وإلا أخذت من ظهوركم مثل ما أخذتُ من ظهورهم، فقالوا: هذا حكمك؟ فقال هذا حكم الله ورسوله. وروى النسائي (5) من حديث محمد بن هلال عن أبيه عن أبي هريرة _________ (1) «الأم» (7/ 128). (2) سبق حديث عمر، وليس فيه ذكر أبي بكر. وأخرج عبد الرزاق (18042) عن سعيد بن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقاد من نفسه، وأن أبا بكر أقاد رجلًا من نفسه، وأن عمر أقاد سعدًا من نفسه. (3) في «السنن» (4382) و «المختصر» (4217)، كتاب الحدود، باب في الامتحان بالضرب، وأخرجه أيضًا النسائي (4874)، وإسناده حسن. (4) ط. الفقي: «منه علم»، تحريف. (5) «المجتبى» (4776) و «الكبرى» (6952)، وأخرجه أبو داود (4775)، وفي إسناده ضعف إذ هلال المدني ــ والد محمد ــ لا يُعرَف، وأصل القصة في البخاري (3149) ومسلم (1057) من حديث أنس، إلا أنه ليس فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل الأعرابي الإقادة من نفسه. وهذه الزيادة فيها نكارة إذ إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ينتقم لنفسه.

(3/125)


قال: كنا نقعد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد فإذا قام قمنا، فقام يومًا وقمنا معه حتى إذا بلغ وسط المسجد أدركه أعرابي، فجبذ بردائه من ورائه، وكان رداؤه خَشِنًا فحمَّر رقبته، قال: يا محمد، احمِلْ لي على بعيري هذين، فإنك لا تحمل من مالِك ولا من مال أبيك! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا، وأستغفر الله، لا أحمل لك حتى تُقيدَني مما جبذت برقبتي»، فقال الأعرابي: لا والله لا أقيدك، [فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذاك ثلاث مرّات، كل ذلك يقول: لا والله لا أُقيدك] (1)، فلما سمعنا قول الأعرابي أقبلنا إليه سراعًا فالتفت إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «عزمتُ على من سمع كلامي أن لا يَبرحَ مقامه حتى آذَنَ له»، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل من القوم: «يا فلان احمل له على بعير شعيرًا، وعلى بعيرٍ تمرًا» ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «انصرفوا». ترجم عليه: «القود من الجَبْذَة»، ورواه أبو داود. وروى النسائي (2) أيضًا من حديث سعيد بن جبير أخبرني ابن عباس: أن رجلًا وقع في أبٍ كان له في الجاهلية، فلطمه العباس، فجاء (3) قومَه فقالوا: لنَلْطِمَنَّه كما لطمه، فلبسوا السلاح، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصعد المنبر، فقال: «أيها الناس، أي أهل الأرض تعلمون أكرمُ على الله؟» قالوا _________ (1) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل لانتقال النظر. (2) في «المجتبى» (4775) و «الكبرى» (6951)، وأخرجه أيضًا أحمد (2734)، والبزار (5082)، والحاكم (3/ 329) كلهم من طريق عبد الأعلى بن عامر الثعلبي، عن سعيد بن جبير به. عبد الأعلى فيه لين، وقد قال أحمد إنه منكر الحديث عن سعيد بن جبير، ومع ذلك حسّن إسناده البزّار وصححه الحاكم. وانظر: «الكامل» لابن عدي (5/ 316). (3) في الأصل: «جاوا»، خطأ.

(3/126)


أنت، قال: «فإن العباس مني وأنا منه لا تسبُّوا أمواتَنا فتؤذوا أحياءَنا»، فجاء القوم فقالوا: يا رسول الله، نعوذ بالله من غضبك، استغفر لنا. وترجم عليه: «القود من اللطمة». وروى النسائي أيضًا حديث أبي سعيد المتقدم (1) وقال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم شيئًا إذ أكبَّ عليه رجل فطعنه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بعُرجون كان معه، فصاح الرجل، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تعال فاستَقِد»، فقال الرجل: بل عفوتُ يا رسول الله. وترجم عليه: «القود من الطعنة». وفي «الصحيحين» (2) عن عائشة قالت: لَدَدْنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه فأشار أن لا تَلدُّوني، فقلنا كراهية المريض للدواء، فلما أفاق قال: «لا يبقى أحدٌ منكم إلا لُدَّ وأنا أنظر، إلا العباس فإنه لم يشهد». ومن بعض تراجم البخاري عليه: «باب القصاص بين الرجال والنساء في الجراحات». وفي الباب حديث أسيد بن حضير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طعنه في خاصرته بعود فقال: أَصْبِرْني فقال: «اصطَبِرْ»، قال: إن عليك قميصًا، وليس عليّ قميص، فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قميصه. فاحتضنه وجعل يقبِّل كَشْحَه، قال: إنما أردت هذا يا رسول الله. رواه أبو داود في كتاب الأدب (3)، وسيأتي هناك إن شاء الله تعالى. و «أَصبرني» أي أقدني من نفسك، و «اصطبر» أي استقد، والاصطبار: الاقتصاص، يقال: أصبرته بقتيله: أقدته منه (4). _________ (1) وهو الحديث الأول في الباب. (2) البخاري (4458، 5712، 6886، 6897)، ومسلم (2213). (3) برقم (5224)، وأخرجه أيضًا الحاكم (3/ 228) وقال: صحيح الإسناد. (4) انظر: «النهاية في غريب الحديث» (صبر).

(3/127)


وذكر النسائي (1) من حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا جهم بن حذيفة مُصَدِّقًا، فلاحَّه رجل في صدقته فضربه أبو جهم، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: القَوَد يا رسول الله، فقال: «لكم كذا وكذا» [فلم يرضوا به، فقال: «لكم كذا وكذا»، فرضوا به] (2)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم»، قالوا: نعم، فخطب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «إن هؤلاء أتوني يريدون القَوَد فعرضتُ عليهم كذا وكذا، فرَضُوا»، قالوا: لا، فهمَّ المهاجرون بهم، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكفوا فكفُّوا، ثم دعاهم فقال: «أرضيتم؟» قالوا: نعم، قال: «فإني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم»، قالوا: نعم، فخطب الناس ثم قال: «أرضيتم؟» قالوا: نعم». فصل وقد اختلف الناس في هذه المسألة ــ وهي القصاص في اللطمة والضربة ونحوها مما لا يمكن للمقتص أن يفعل بخصمه مثل ما فعله به من كل وجه، هل يسوغ القصاص في ذلك، أو يعدل إلى عقوبته بجنس آخر، وهو التعزير؟ ــ على قولين: أصحهما: أنه شرع فيه القصاص، وهو مذهب الخلفاء الراشدين، ثبت _________ (1) في «المجتبى» (4778) و «الكبرى» (6954)، وأخرجه أيضًا أحمد (25958)، وأبو داود (4534)، وابن حبان (4487)، كلهم من طريق عبد الرزاق به، وهو في «المصنف» (18032). (2) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل.

(3/128)


ذلك عنهم، حكاه عنهم أحمد وأبو إسحاق الجوزجاني في «المترجم» (1)، ونص عليه الإمام أحمد في رواية الشالَنْجي وغيره (2). قال شيخنا (3): وهو قول جمهور السلف. والقول الثاني: أنه لا يشرع فيه القصاص، وهو المنقول عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة (4)، وقول المتأخرين من أصحاب أحمد، حتى حكى بعضهم الإجماع على أنه لا قصاص فيه. وليس كما زعم، بل حكاية إجماع الصحابة على القصاص أقرب من حكاية الإجماع على منعه، فإنه ثبت عن الخلفاء الراشدين، ولا يعلم لهم مخالف فيه. ومأخذ القولين أن الله تعالى أمر بالعدل في ذلك، فبقي النظر في أي الأمرين أقرب إلى العدل؟ فقال المانعون: المماثلة لا تمكن هنا، فكان العدل يقتضي العدولَ إلى جنس آخر وهو التعزير، فإن القصاص لا يكون إلا مع المماثلة، ولهذا لا يجب في الجرح حتى ينتهي إلى حد، ولا في القطع إلا من مَفْصِل لتُمكن المماثلة، فإذا تعذرت في القطع والجرح صرنا _________ (1) سبق التعريف به (2/ 409)، وقد نقل منه المؤلف الآثار عن الخلفاء بأسانيدها في «أعلام الموقعين» (2/ 119 - 123)، وانظر: «مصنف عبد الرزاق» (18042)، و «مصنف ابن أبي شيبة» (الديات، باب القود من اللطمة)، و «الأوسط» لابن المنذر (13/ 305 - 307). (2) انظر: «الإنصاف» (25/ 245 - 246). (3) في «قاعدة في شمول النصوص للأحكام» ضمن «جامع المسائل» (2/ 260)، وقد أفاد المؤلف منها في مواضع من هذا البحث. (4) انظر: «الأم» (7/ 204) و (9/ 148)، و «المدونة» (16/ 429)، و «بدائع الصنائع» (7/ 299).

(3/129)


إلى الدية، فكذا في اللطمة ونحوها، لما تعذَّرت صرنا إلى التعزير. قال المجوزون: القصاص في ذلك أقرب إلى الكتاب والسنة والقياس والعدل من التعزير. أما الكتاب: فإن الله سبحانه قال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وقال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، ومعلوم أن المماثلة مطلوبة بحسب الإمكان، واللطمة أشد مماثلةً للطمة والضربة للضربة من التعزير لها، فإنه ضَرْب في غير الموضع، غير مماثل لا في الصورة، ولا في المحل، ولا في القدر؛ فأنتم فررتم من تفاوتٍ لا يمكن الاحتراز منه بين اللطمتين، فصرتم إلى أعظمَ تفاوتًا منه، بلا نصٍّ ولا قياس. قالوا: وأما السنة، فما ذكرنا من الأحاديث في هذا الباب، وقد تقدمت، ولو لم يكن في الباب إلا سنة الخلفاء الراشدين لكفى بها دليلًا وحجة. قالوا: فالتعزير لا يعتبر فيه جنس الجناية، ولا قدرها، بل قد يعزِّره بالسوط والعصا ويكون إنما ضربه بيده أو رِجله، فكانت العقوبة بحسب الإمكان في ذلك أقرب إلى العدل الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله. قالوا: وقد دل الكتاب والسنة في أكثر من مائة موضع على أن الجزاء من [ق 227] جنس العمل في الخير والشر، كما قال تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26] أي: وَفق أعمالهم، وهذا ثابت شرعًا وقدرًا. أما الشرع، فلقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ... } إلى قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، فأخبر سبحانه أن الجروح

(3/130)


قصاص، مع أن الجارح قد يشتد عذابُه إذا فُعِل به كما فعل، حتى يُستوفَى منه. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رضخ رأس اليهودي كما رضخ رأس الجارية (1)، وهذا القتل قصاص، لأنه لو كان لنقض العهد أو للحراب لكان بالسيف، لا بِرَضْخ (2) الرأس. ولهذا كان أصح الأقوال: أنه يُفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجنيّ عليه، ما لم يكن محرّمًا لحق الله، كالقتل باللواطة وتجريع الخمر ونحوه؛ فيُحرَّق كما حرَّق، ويُلقَى من شاهق كما فعل، ويخنق كما خنق، لأن هذا أقرب إلى العدل، وحصولِ مسمى القصاص، وإدراك الثأر، والتشفي، والزجرِ المطلوب من القصاص. وهذا مذهب مالك والشافعي، وإحدى الروايات عن أحمد. قالوا: وأما كون القصاص لا يجب في الجرح حتى ينتهي إلى حد، ولا في الطرف حتى ينتهي إلى مَفصِل، لِتحقُّق المماثلة= فهذا إنما اشتُرط لئلا يزيد المُقتضي (3) على مقدار الجناية، فيصير الجاني (4) مظلومًا بذهاب ذلك الجزء، فتعذرت المماثلة فصِرنا إلى الدية. وهذا بخلاف اللطمة والضربة، فإنه لو قُدِّر تعدي المقتضي فيها لم يكن ذلك بذهاب جزء، بل بزيادة ألمٍ وهذا لا يمكن الاحتراز منه، ولهذا توجبون التعزير مع أن أَلمَه يكون أضعافَ ألم اللطمة، ويُبرَد من سنِّ الجاني مقدارُ ما كَسَر من سن المجني عليه مع شدة الألم، وكذلك قَلْعُ سنه وعينه ونحو ذلك لا بد فيه من زيادة ألمٍ ليصل المجنيُّ عليه إلى استيفاء حقه، فهلّا اغتفرتم (5) هذا الألم المقدَّرَ زيادتُه في اللطمة والضربة، _________ (1) أخرجه البخاري (5295) ومسلم (1672) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (2) في الطبعتين: «ولا يرضخ» خلافًا للأصل. (3) كذا في الأصل، وغير محرّر في (هـ)، والمراد: الذي يقتضي ــ أي يأخذ ويستوفي ــ حق المجنيّ عليه من الجاني بالاقتصاص منه. في ط. الفقي: «المقتصّ»، وهو محتمل. (4) في الأصل و (هـ): «المجني عليه»، والظاهر أنه سبق قلم، فإن المعنى على ما أثبت. (5) في الأصل والطبعتين هنا وفي السطر التالي: «اعتبرتم» تحريف، والتصحيح من (هـ).

(3/131)


كما اغتفرتموه فيما ذكرنا من الصور وغيرها؟ قال المانعون: كما عدلنا في الإتلاف المالي إلى القيمة عند تعذّر المماثلة، فكذلك هاهنا، بل أولى لحرمة البشرة وتأكُّدِها على حرمة المال. قال المجوزون: هذا قياس فاسد من وجهين: أحدهما: أنكم لا تقولون بالمماثلة في إتلاف المال، فإذا أتلف عليه ثوبًا لم تجوّزوا أن يُتلف عليه مثلَه مِن كل وجه، ولو قطع يده أو قتله لقُطعت يده وقُتل به، فعلم الفرق بين الأموال والأبشار، ودل على أن الجناية على النفوس والأطراف تُطلب فيها المقاصّة بما لا تُطْلب في الأموال. الثاني: أنه لا يُسَلَّم (1) لكم أن غير المكيل والموزون يُضمَن بالقيمة لا بالنظير، ولا إجماعَ في المسألة ولا نص؛ بل الصحيح أنه يجب المثل في الحيوان وغيره بحسب الإمكان، كما ثبت عن الصحابة في جزاء الصيد أنهم قضوا فيه بمثله من النَّعَم بحسب الإمكان، فقضوا في النعامة ببدنة، وفي بقرة _________ (1) رسمه في الأصل: «أن من سلم»، ولعله تصحيف، والسياق على ما أثبت ويصحّ: «أنّا لا نسلّم». وأصلحه الفقي بجعله استفهامًا هكذا: «أن من هو الذي سلم لكم ... ؟».

(3/132)


الوحش بقرةً (1)، وفي الظبي شاةً، إلى غير ذلك (2). قال المانعون: هذا على خلاف القياس، فيصار إليه اتباعًا للصحابة، ولهذا منعه أبو حنيفة وقدَّم القياس عليه، وأوجب القيمة (3). قال المجوزون: قولكم: إن هذا على خلاف القياس فرع على صحة الدليل الدال على أن المعتبر في ذلك هو القيمة دون النظير، وأنتم لم تذكروا على ذلك دليلًا من كتاب ولا سنة ولا إجماع، حتى يكون قضاء الصحابة بخلافه على خلاف القياس، فأين الدليل؟ قال المانعون: الدليل على اعتبار القيمة في إتلاف الحيوان دون المثل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضمَّن مُعتِقَ الشِّقْص إذا كان موسِرًا بقيمته (4)، ولم يُضمِّنه نصيبَ الشريك بمثله، فدل على أن الأصل هو القيمة في غير المكيل والموزون. قال المجوزون: هذا أصل ما بنيتم عليه اعتبارَ القيمة في هذه المسائل وغيرها، ولكنه بناء على غير أساس، فإن هذا ليس مما نحن فيه في شيء، فإن هذا ليس من باب ضمان المتلفات بالقيمة، بل هو من باب تَمَلُّك مال الغير _________ (1) في الطبعتين: «ببقرة» خلافًا للأصل. (2) انظر: «مصنف عبد الرزاق» (المناسك، باب النعامة يقتلها المحرم ــ إلى ــ باب الوبر والظبي)، و «مصنف ابن أبي شيبة» (المناسك، في رجل أصاب صيدًا فأهدى شاة ــ إلى ــ في الرجل إذا أصاب حمار الوحش)، و «تفسير الطبري» (8/ 681 وما بعدها). (3) انظر: «بدائع الصنائع» (2/ 198). (4) كما في حديث ابن عمر وأبي هريرة المتفق عليهما: «من أعتق شقصًا له من عبد وكان له ما يبلغ ثمنَه بقيمة العدل فهو عتيق»، وقد سبق.

(3/133)


بالقيمة، كتملك الشقص المشفوع بثمنه، فإن نصيب الشريك يُقدَّرُ دخولُه في مُلك المعتِق ثم يَعتِق عليه بعد ذلك، والقائلون بالسراية متفقون على أنه يَعتِق كلُّه على مُلك المعتِق، والولاء له دون الشريك. واختلفوا: هل يسري العتق عقب إعتاقه، أو لا يَعتِق حتى يؤدي الثمن؟ على قولين للشافعي (1)، وهما في مذهب أحمد (2). قال شيخنا (3): والصحيح أنه لا يَعتِق إلا بالأداء. وعلى هذا ينبني إذا أعتق الشريكُ نصيبه بعد عِتق الأول وقبل وزن القيمة، فعلى الأول: لا يَعتِق عليه، وعلى الثاني: يعتق عليه، ويكون الولاء بينهما. وعلى هذا أيضًا ينبني إذا قال أحدهما: إذا أعتقتَ نصيبك فنصيبي حر، فعلى القول الأول لا يصح هذا التعليق، ويَعتِق كله من (4) مال المعتق، وعلى القول الثاني يصح التعليق، ويعتق نصيب الشريك من ماله. فظهر أن استدلالكم بالعتق استدلال باطل، بل إنما يكون إتلافًا إذا قتله، فلو ثبت لكم بالنص أنه ضمّن قاتل العبد بالقيمة دون المثل كان حجةً، وأنى لكم بذلك! قالوا: وأيضًا فالفرق (5) بين أن يكون المتلَف عينًا كاملة أو بعض عين، _________ (1) انظر: «البيان» للعَمراني (8/ 324 - 325). (2) انظر: «الإنصاف» (19/ 30 - 31). (3) «قاعدة في شمول النصوص للأحكام» (2/ 264 - جامع المسائل). (4) في الطبعتين: «في» خلافًا للأصل. (5) كذا في الأصل، وفي «القاعدة» لشيخ الإسلام: «فإنه يفرّق»، وأصلحه الفقي بزيادة «واضح» بعده!

(3/134)


فلو سلمنا أن التضمين كان تضمينَ إتلافٍ لم يجب مثله في العين الكاملة. والفرق بينهما: أن حق الشريك في العين التي لا تمكن [ق 228] قسمتها في نصف القيمة مثلًا أو ثُلُثها، فالواجب له من القيمة بنسبة ملكه، ولهذا يُجبَر شريكه على البيع إذا طلبه ليتوصّل إلى حقه من القيمة. والنبي - صلى الله عليه وسلم - راعى ذلك وقوَّم عليه العبد قيمةً كاملة، ثم أعطاه حقه من القيمة، ولم يقوِّم عليه الشِّقْصَ وحده فيعطيه قيمته، فدل على أن حق الشريك في نصف القيمة. فإذا كان كذلك فلو ضَمَّنّا المُعتِقَ نصيب الشريك بمثله من عبد آخرَ لم نجبره على البيع إذا طلبه شريكه، لأنه إذا لم يكن له حق في القيمة بل حقه في نفس العين فحقُّه باقٍ منها. قالوا: فظهر أنه ليس معكم أصل تقيسون عليه، لا من كتاب ولا سنة ولا إجماع. وقد ثبت في «الصحيح» (1): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اقترض بَكرًا وقضى خيرًا منه. واحتج به من يُجوِّز قرض الحيوان، مع أن الواجب في القرض رد المثل، وهذا يدل على أن الحيوان مِثليٌّ. ومن العجب أن يقال: إذا اقترض حيوانًا ردَّ قيمته، ويقاس ذلك على الإتلاف والغصب، فيُترَك موجَبُ النص الصحيح لقياسٍ لم يثبت أصلُه بنصٍّ ولا إجماع! ومنصوص أحمد: أن الحيوان في القرض يُضمن بمثله. وقال بعض أصحابه: بل بالقيمة طردًا للقياس على الغصب. واختلف أصحابه في موجب الضمان في الغصب والإتلاف على ثلاثة أوجه (2): _________ (1) «صحيح مسلم» (1600) من حديث أبي رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (2) انظر: «الإنصاف» (15/ 254 - 261).

(3/135)


أحدها: أن الواجب القيمة في غير المكيل والموزون. والثاني: الواجب المثل في الجميع. والثالث: الواجب المثل في غير الحيوان، ونص عليه أحمد في الثوب والقصعة ونحوهما. ونصَّ عليه الشافعي (1) في الجدار المهدوم ظلمًا يُعاد مثله. وأَقْوَل الناس بالقيمة أبو حنيفة، ومع هذا فعنده إذا أتلف ثوبًا ثبت في ذمته مثله لا قيمته (2)، ولهذا يُجَوِّزُ الصلحَ عنه بأكثر من قيمته، ولو كان الثابت في الذمةِ القيمةَ لما جاز الصلح عنها بأكثر منها. فظهر أن من لم يعتبر المثل فلا بد مِن تناقضه أو مناقضته للنص الصريح، وهذا ما لا مخلص منه. وأصل هذا كله: هو الحكومة التي حكم فيها داود وسليمان وقصها الله علينا في كتابه (3)، وكانت في الحرث ــ وهو البستان، وقيل: إنه كان أشجار عنب ــ، فنفشت فيه الغنم ــ والنفش إنما يكون ليلًا ــ، فقضى داود لأصحاب البستان بالغنم، لأنه اعتبر قيمة ما أفسدته، فوجده يساوي الغنم فأعطاهم _________ (1) انظر: «روضة الطالبين» (4/ 215). (2) لم أجده في كتب المذهب. (3) قال تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78 - 79]. والمؤلف صادر عن «قاعدة شمول النصوص للأحكام» لشيخ الإسلام (2/ 266 وما بعدها - جامع المسائل).

(3/136)


إياها. وأما سليمان فقضى على أصحاب الغنم بالمثل، وهو أن يَعمُروا البستان كما كان، ثم رأى أن مُغَلَّه إلى حين عوده يفوت عليهم، ورأى أن مُغَلَّ الغنم يساويه، فأعطاهم الغنم يستغلونها حتى يعود بستانهم كما كان، فإذا عاد ردوا إليهم غنمهم (1). فاختلف العلماء في مثل هذه القضية على أربعة أقوال: أحدها: القول بالحكم السليماني في أصل الضمان وكيفيته، وهو أصح الأقوال وأشدُّها مطابقةً لأصول الشرع والقياس، كما قد بينا في كتاب مفرد في الاجتهاد (2). وهذا أحد القولين في مذهب أحمد، نص عليه في غير موضع، ويُذكر وجهًا في مذهب مالك والشافعي. والثاني: موافقته في النفش دون المثل، وهذا المشهور من مذهب الشافعي ومالك وأحمد. والثالث: عكسه، وهو موافقته في المثل دون النفش، وهو قول داود وغيره (3)، فإنهم يقولون: إذا أتلف البستان بتفريطه ضمنه بمثله، وأما إذا انفلتت الغنم ليلًا لم يضمن صاحبها ما أتلفته. والرابع: أن النفش لا يوجب الضمان، ولو أوجبه لم يكن بالمثل بل _________ (1) بنحوه فسّره ابن عباس، ومُرَّة الهمداني (وروي عنه عن ابن مسعود ولا يصحّ)، وشريح القاضي، ومجاهد، وقتادة، والزهري، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. انظر: «تفسير الطبري» (16/ 320 - 327). (2) وقد أحال عليه أيضًا في «مفتاح دار السعادة» (1/ 155). ولعله أفرده بالتأليف أوّلًا ثم ضمّنه في كتابه الحافل «أعلام الموقعين». انظر مقدمة تحقيقه (ص 27 - 28). (3) انظر «المحلى» (8/ 140، 146، 11/ 4 - 5).

(3/137)


بالقيمة، فلم يوافقه لا في النفش ولا في المثل، وهو مذهب أبي حنيفة (1). وهذا من اجتهادهم في القياس والعدل الذي أوجبه الله، فكل طائفة رأت العدل هو قولها، وإن كانت النصوص والقياس وأصول الشرع تشهد بحكم سليمان، كما أن الله تعالى أثنى عليه به، وأخبر أنه فهّمه إياه. وذِكْر مآخذ (2) هذه الأقوال وأدلتها وترجيح الراجح منها له موضع غير هذا أليق به من هذا. والمقصود: أن القياس والنص يدلان على أنه يُفعل به كما فعل، وقد تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رضخ رأس اليهودي كما رضخ رأس الجارية، وأن ذلك لم يكن لنقض العهد ولا للحراب، لأن الواجب في ذلك القتل بالسيف. وعن أحمد في ذلك أربع روايات (3): إحداهن: أنه لا يستوفَى القود إلا بالسيف في العنق، وهذا مذهب أبي حنيفة (4). والثانية: أنه يُفعَل به كما فعل إذا لم يكن محرمًا لحق الله تعالى، وهذا مذهب مالك والشافعي (5). _________ (1) انظر: «بدائع الصنائع» (7/ 168). (2) في الطبعتين: «مأخذ»، ولعل الأولى ما أثبت. (3) انظر «المحرر» (2/ 132 - 133)، و «الإنصاف» (25/ 178 - 185). (4) انظر: «الأصل» للشيباني (6/ 572) و «بدائع الصنائع» (7/ 245). (5) انظر: «المدونة» (16/ 426)، «مختصر المزني» مع شرحه «الحاوي الكبير» (12/ 139 - 144).

(3/138)


والثالثة: إن كان الفعل أو الجرح مُزهِقًا (1) فُعِلَ به نظيره، وإلا فلا. والرابعة: إن كان الجرح أو القطع موجبًا للقود لو انفرد، فُعِل به نظيره، وإلا فلا. وعلى الأقوال كلها إن لم يمت بذلك قُتِل (2). وقد أباح الله تعالى للمسلمين أن يمثّلوا بالكفار إذا مثلوا بهم، وإن كانت المُثْلة منهيًّا عنها، فقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]. وهذا دليل على أن العقوبة بجدع الأنف وقطع الأذن وبقر البطن ونحوِ ذلك هو عقوبة بالمثل ليست بعدوان، والمِثل هو [ق 229] العدل. وأما كون المثلة منهيًّا عنها، فَلِما روى أحمد في «مسنده» (3) من حديث سمرة بن جندب وعمران بن حصين قالا (4): ما خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة. فإن قيل: فلو لم يمت إذا فُعل به نظير ما فَعل، فأنتم تقتلونه، وذلك زيادة _________ (1) كذا في الأصل، وهو صواب، وظنّه محقق ط. المعارف تصحيفًا فأثبت: «موجبًا»، وهو بمعناه. (2) أي بالسيف. (3) برقم (19909) بإسناد فيه إرسال، ولكنه صحّ بنحوه بإسناد متصل في «المسند» أيضًا (19844، 19846)، وقد سبق في باب النذر في المعصية (2/ 407). (4) في الأصل وط. الفقي: «قل»، وفي ط. المعارف: «قال»، كلاهما خطأ، والتصحيح من «المسند».

(3/139)


على ما فعل، فأين المماثلة؟ قيل: هذا ينتقض بالقتل بالسيف، فإنه لو ضربه في العنق ولم يُوجِبْه (1)، كان له أن يضربَه ثانيةً وثالثة حتى يوجبه اتفاقًا، وإن كان الأول إنما ضربه ضربة واحدة. واعتبار المماثلة له طريقان: أحدهما (2): اعتبار الشيء بنظيره ومثله، وهو قياس العلة الذي يُلحَق فيه الشيء بنظيره. والثاني: قياس الدلالة الذي يكون الجمع فيه بين الأصل والفرع بدليل العلة ولازمها. فإن انضاف إلى واحد من هذين عموم لفظي، كان من أقوى الأدلة، لاجتماع العمومين اللفظي والمعنوي، وتظافُر (3) الدليلين السمعي والاعتباري. فيكون موجب الكتاب والميزان والقصاص في مسألتنا هو من هذا الباب، كما تقدم تقريره، وهذا واضح لا خفاء به، ولله الحمد والمنة. 4 - باب عفو النساء 541/ 4372 - وعن حِصْن عن أبي سلمة عن عائشة - رضي الله عنها -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «على المُقتَتِلِين أن يَنْحَجِزُوا الأوَّلُ فالأولُ وإن كانت امرأةً». _________ (1) أي: لم يُمِتْه، وفي الأصل: «لم يوجهْ» تصحيف. (2) في الطبعتين: «إحداهما» خلافًا للأصل. (3) في الطبعتين: «تضافر»، خلافًا للأصل، وهما بمعنى.

(3/140)


وأخرجه النسائي (1). وحصن هذا قال أبو حاتم الرازي (2): لا أعلم روى عنه غير الأوزاعي ولا أعلم أحدًا نسبه. وقال غيره (3): حصن بن عبد الرحمن، ويقال: ابن مِحصَن أبو حذيفة التَّراغِمي، من أهل دمشق، روى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، روى عنه الأوزاعي. وذكر له هذا الحديث. قال أبو داود: «ينحجزوا» يكُفُّوا عن القَوَد. وقيل: تفسيره أن يُقتل رجل وله ورثة رجال ونساء، فأيُّهم عفا ــ وإن كانت امرأة ــ سقط القَوَد وصار ديةً. وقال الخطابي (4): يشبه أن يكون معنى المقتتلين هاهنا أن يطلب أولياء القتيل القود فيمتنع القَتَلة، فينشأ بينهم الحرب والقتال من أجل ذلك، فجعلهم مقتتلين لما ذكرناه، والله أعلم. قال: ويَحتمِل أن تكون الروايةُ «المُقتَتَلين» بنصب التاءين، يقال: اقتُتل فهو مُقتَتَل، غير أن هذا يُستعمل أكثره فيمن قتله الحُبُّ (5). قال ابن القيم - رحمه الله -: وليس في شيء من هذا ما يبين وجهَ الحديث. _________ (1) أبو داود (4538) والنسائي (4788). (2) «الجرح والتعديل» (3/ 305). (3) هو الحافظ ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (14/ 360). (4) «معالم السنن» (6/ 343 - 344)، وفيه سقط يُستَدرك من هنا. (5) ذكر المجرِّد أن المؤلف ساق كلام المنذري على الحديث إلى آخره، فأثبتّه من مخطوطة «المختصر» (ق 4/ 117 - النسخة البريطانية) بتمامه، إلا ما ضمّنه المؤلف في كلامه الآتي مع البسط والتحرير.

(3/141)


وقد رُوي: «الأول فالأول»، ورُوي: «الأَولى فالأَولى» بفتح الهمزة (1)، أي الأقرب فالأقرب، وهو أولى، وبه يتبين معنى الحديث. وأصل الحجز: المنع، ومنه الحاجز بين الشيئين، و «ينحجزوا» مطاوع حجزته فانحجز، وهو يدل على حاجز بينهم، وهو عفوُ مَن له الدم، فإنه إذا عفا وجب عليهم أن ينحجزوا، لأن صاحب الدم قد عفا، وهذا العفو [عن] (2) الحق يستحقه الأولى فالأولى من المقتول وإن كان امرأةً، فإذا عفت وهي أولى بالمقتول فقد حجز عفوُها بينهم، ولا يجوز للرجال الأباعد بعد ذلك الطلب بدمه، وقد عفا عنه الأولى منهم. فقد اتضح بحمد الله وجهه، وأسفر صبحُ معناه. وعلى هذا فيكون «الأولى فالأولى» فاعلُ فعلٍ دلَّ عليه المذكور، أي يحجز بينهم الأولى فالأولى، وإن كان امرأةً. وترجمة أبي داود تشعر بهذا، والله أعلم. 5 - باب الدية كم هي 542/ 4379 - وعن خِشْف بن مالك الطائي، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «في دِيَةِ الخطأ عشرون حِقَّة، وعشرون جَذَعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون ابنةَ لبون، وعشرون بني مخاض ذكر». وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (3)، وقال الترمذي: لا نعرفه مرفوعًا _________ (1) هكذا أخرجه إسحاق بن راهويه في «مسنده» (2/ 492)، وعلّقه البخاري في «التاريخ الكبير» (3/ 118) عن حصن به. (2) زيادة لازمة ليستقيم الكلام. (3) أبو داود (4545)، والترمذي (1386)، والنسائي في «المجتبى» (4802) و «الكبرى» (6977)، وابن ماجه (2631)، كلهم من طريق الحجاج بن أرطاة، عن زيد بن جُبير، عن خشف به. قال النسائي: الحجاج بن أرطاة ضعيف لا يُحتج به.

(3/142)


إلا من هذا الوجه، وقد رُوي عن عبد الله موقوفًا. وقال أبو بكر البزار (1): وهذا الحديث لا نعلمه روي عن عبد الله مرفوعًا إلا بهذا الإسناد. هذا آخر كلامه. وذكر الخطابي (2): أن خشف بن مالك مجهول لا يعرف إلا بهذا الحديث. وعدل الشافعي عن القول به لما ذكرنا من العلة في راويه، ولأن فيه بني مخاض، ولا مدخل لبني مخاض في شيء من أسنان الصدقات؛ وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة القسامة أنه ودَى قتيل خيبر بمائة من إبل الصدقة (3)، وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض. وقال الدارقطني (4): «هذا حديث ضعيف غير ثابت عند أهل المعرفة بالحديث»، وبسط الكلام في ذلك وقال: «لا نعلمه رواه إلا خِشف بن مالك عن ابن مسعود، وهو رجل مجهول لم يروِ عنه إلا زيد بن جبير». ثم قال: «لا نعلم أحدًا رواه عن زيد بن جبير إلا حجاج بن أرطاة، والحجاج فرجل مشهور بالتدليس وبأنه يحدث عمن لم يَلْقَه ولم يسمع منه»، ثم ذكر أنه قد اختلف فيه على الحجاج بن أرطاة. وقال البيهقي (5): وخِشف بن مالك مجهول، واختلف فيه على الحجاج بن _________ (1) عقب الحديث (1922). (2) «معالم السنن» (6/ 346). (3) سبق في «باب ترك القَوَد بالقسامة». (4) عقب الحديث (3364) وما بعده. (5) «معرفة السنن» (12/ 104).

(3/143)


أرطاة، والحجاج غير محتج به. والله أعلم. وقال المَوْصِلي (1): خِشف بن مالك ليس بذاك، وذكر له هذا الحديث. قال ابن القيم - رحمه الله -: وهذا الحديث قد رواه إسرائيل عن أبي إسحاق عن علقمة عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «في الخطأ أخماسًا: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات لبون، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بني مخاض». ذكره البيهقي (2). قال: وكذلك رواه سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن علقمة عن عبد الله (3)، وعن منصور عن إبراهيم عن عبد الله (4). وكذلك رواه أبو مجلز عن أبي عبيدة عن عبد الله (5). _________ (1) هو ابن عمّار (ت 242)، له مؤلف في «العلل ومعرفة الرجال» لم يصلنا. (2) في «المعرفة» (12/ 102 - 104)، والنقل الآتي كله منه. (3) أخرجه وكيع في «مصنفه» ــ كما في «سنن البيهقي» (8/ 74) ــ، وعنه ابن أبي شيبة (27285). وأخرجه الدارقطني (3363) من طريق وكيع عن سفيان به، لكن فيه «بني لبون» مكان «بني مخاض»، فغلّط البيهقي رواية الدارقطني واعتبرها وهمًا منه، ثم ذكر أنه رآه في كتاب ابن خزيمة أيضًا: «بني لبون»، فقال الحافظ: «فانتفى أن يكون الدارقطني غيّره، فلعل الخلاف فيه مِن فوق». «التلخيص» (4/ 21 - 22). (4) أخرجه وكيع في «مصنفه»، وعنه ابن أبي شيبة (27286). وأخرجه الدارقطني (3365) بالخلاف السابق في لفظه. (5) أخرجه الكوسج في «مسائله» (2/ 214) عن الإمام أحمد بإسناده، والبيهقي في «السنن الكبرى» (8/ 75). وأخرجه الطبري في «تفسيره» (7/ 324)، والدارقطني (3361، 3362)، إلا أن فيه: «بنو لبون» بدل «بنو مخاض».

(3/144)


قال البيهقي: فهذا الذي قاله عبد الله بن مسعود في السن أقل مما حكاه الشافعي عن بعض التابعين، واسم الإبل يقع عليه، وهو قول صحابي فقيه، فهو أولى بالاتباع. قال: ومن رغب عنه احتج بحديث سهل بن أبي حثمة في القسامة: «فوداه النبي - صلى الله عليه وسلم - بمائة من إبل الصدقة»، وليس لبني المخاض مدخل في فرائض الصدقات. قال: وحديث القسامة وإن كان في قتل العمد، ونحن نتكلم في دية الخطأ، فكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين لم يثبت ذلك القتل عليهم وداه بدية الخطأ متبرعًا بذلك. وعلَّل حديث ابن مسعود بأنه منقطع، لأن أبا إسحاق لم يسمع من علقمة. قال يعقوب بن سفيان (1): حدثنا بندار، حدثنا أمية بن خالد، حدثنا شعبة قال: كنت عند أبي إسحاق الهمداني فقيل له: إن شعبة يقول: إنك لم تسمع من علقمة شيئًا؟ فقال: صدق. وأما أبو عبيدة فلم يسمع من أبيه، قال شعبة عن عمرو بن مُرَّة: سألت أبا عبيدة تحفظ من أبيك شيئًا؟ قال لا (2). ثم ذكر تعليل حديث خِشْف بن مالك المرفوع. _________ (1) في «المعرفة والتأريخ» (2/ 109، 562)، ومن طريقه أسنده البيهقي في «معرفة السنن» (12/ 103). (2) أسنده أحمد في «العلل» لابنه (456)، والبيهقي من طريقين عن شعبة.

(3/145)


ومراد البيهقي بقولِ (1): «إن ما في حديث ابن مسعود أقل مما حكاه الشافعي عن بعض التابعين، والأخذ به أولى» = أن الشافعي قال في رواية الربيع (2): «وإذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتل عمد الخطأ: «مغلظة، منها أربعون خَلِفة في بطونها أولادها» (3)، ففي ذلك دليل على أن دية الخطأ الذي لا يخلطه عمد مخالِفة لهذه الدية، وقد اختلف الناس فيها، فأُلزِمُ القاتلَ مائةً من الإبل بالسُّنَّة، ثم ما لم يختلفوا فيه، فلا ألزمه من أسنان الإبل إلا أقلَّ ما قالوا يلزمه، لأن اسم الإبل يلزم الصغار والكبار، فدية الخطأ أخماس: عشرون ابنة مخاض، [ق 230] وعشرون ابنة لبون، وعشرون بني لبون ذكور، وعشرون حِقَّة، وعشرون جَذَعة. أخبرنا مالك (4) عن ابن شهاب وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وبلغه عن سليمان بن يسار، أنهم كانوا يقولون ذلك». فهذا الذي ألزمه البيهقي لأجله أن يقول بما قاله ابن مسعود= لوجهين، أحدهما: أنه أقل مما قاله هؤلاء، والثاني: أنه قول صحابي من فقهاء _________ (1) كذا في الأصل، وهو صحيح، أي: بقولِ هذا المقال. (2) «الأم» (7/ 278). (3) أخرجه أحمد (4583، 6533، 15388)، وأبو داود (4588)، والنسائي (4791 - 4800)، وابن حبان (6011)، على أوجه مختلفة في إسناده، واختلف أئمة العلل في الأصح منها، على أن الحديث قد قواه ابن خزيمة في قصة له مع المزني، وصححه ابن حبان وابن القطان وقال: «ولا يضره الخلاف». انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (1389)، وللدارقطني (2874)، و «السنن الكبرى» للبيهقي (8/ 44 - 45)، و «بيان الوهم» (5/ 409 - 410)، و «البدر المنير» (8/ 355 - 360). (4) وهو في «الموطأ» (2467).

(3/146)


الصحابة، فالأخذ به أولى من قول التابعين. وأما تعليله بما ذكر فضعيف، فإنه قد روي من وجوه متعددة عن ابن مسعود، إذا جُمِع بعضُها إلى بعض قوي مجموعُها على دفع العلة التي عُلِّل بها. وقد ثبت عن إبراهيم أنه قال: إذا قلتُ: قال عبد الله، فهو ما حدثني به جماعة عنه، وإذا قلت: حدثني فلان عن عبد الله، فهو الذي سميت (1). وأبو عبيدة شديد العناية بحديث أبيه وفتاويه، وعنده من ذلك من العلم ما ليس عند غيره (2). وأبو إسحاق وإن لم يسمع من علقمة، فإمامته وجلالته وعدم شهرته بالتدليس (3) تمنع أن يكون سمعه من غير ثقة فيعَدَّ إسقاطُه تدليسًا للحديث. وبعد، ففي المسألة مذهبان آخران: أحدهما: أنها خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون بنت لبون؛ أرباعًا. حكاه الشافعي (4) فيما بلغه عن ابن مهدي عن سفيان، عن أبي إسحاق، [عن _________ (1) أسنده ابن سعد في «الطبقات» (8/ 390)، والترمذي في «العلل الصغير» (1/ 277 - شرح ابن رجب)، ويعقوب بن سفيان في «المعرفة والتأريخ» (2/ 609) بإسناد صحيح إلى إبراهيم. (2) انظر: «شرح علل الترمذي» (1/ 298)، و «مجموع الفتاوى» (6/ 404). (3) وهذا لا يعني أنه لم يكن يدلس قط، بل كما قال البيهقي: «ربّما دلس». «السنن الكبرى» (1/ 202). وانظر: «ذكر المدلسين» للنسائي (ص 122)، و «المجروحين» (1/ 86)، و «تعريف أهل التقديس» (المرتبة الثانية). (4) في «الأم» (8/ 444)، وعنه البيهقي في «المعرفة» (12/ 102). وأخرجه أبو داود (4553)، والدارقطني (3374) من طريقين آخرين عن سفيان به.

(3/147)


عاصم] (1) بن ضمرة، عن علي. الثاني: أنها ثلاثون حقة، وثلاثون بنت لبون، وعشرون بنت مخاض، وعشرون ابن لبون ذكر. رواه البيهقي (2) عن عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت. وكل هذا يدل على أنه ليس في الأسنان شيء مقدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والله أعلم. 6 - باب في دية الذمي 543/ 4416 - عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «دِيَةُ المعاهَدِ نصفُ دِيَةِ الحُرِّ». وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (3). وقال الترمذي: حسن، ولفظه: «دية عقل الكافر نصفُ دية عقل المؤمن»، ولفظ النسائي نحوه. ولفظ ابن ماجه: قضى أن عقل أهل الكتابين نصفُ عقل المسلمين، وهم اليهود والنصارى. _________ (1) ساقط من الأصل والطبعتين، مستدرك من مصادر التخريج. (2) «السنن الكبرى» (8/ 74)، وأخرجه ابن أبي شيبة (27289) إلا أن فيه: «جذعة» بدل «حقَّه»، وأخرجه الطبري في «تفسيره» (7/ 326) إلا أن عنده: «جذعة» بدل «بنت لبون»؛ كلهم من حديث أبي عياض عن عثمان وزيد. (3) أبو داود (4583)، والترمذي (1413)، والنسائي (4806، 4807)، وابن ماجه (2644)، وأخرجه أحمد (6692)، وابن خزيمة (2280)، والدارقطني (3359)، من طرق عن عمرو بن شعيب به.

(3/148)


قال ابن القيم - رحمه الله -: هذا الحديث صحيح إلى عمرو بن شعيب، والجمهور يحتجون به، وقد احتج به الشافعي في غير موضع، واحتج به الأئمة كلهم في الديات. قال الشافعي (1): قضى عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان في دية اليهودي والنصراني بثلث دية المسلم، وقضى عمر في دية المجوسي بثمانمائة درهم، ولم نعلم أن أحدًا قال في دياتهم (2) أقل من هذا، وقد قيل: إن دياتهم أكثر من هذا؛ فألزمنا قاتل كلِّ واحدٍ من هؤلاء الأقل مما أُجمِعَ عليه. قال البيهقي (3): حديث عمرو بن شعيب قد رواه حسين المعلم عن عمرو عن أبيه عن جده، قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانمائة دينار= ثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلمين. قال: فكان ذلك حتى استخلف عمر فذكر خطبته في رفع الدية حين (4) غلت الإبل. قال: وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية. قال: فسببه ــ والله أعلم ــ أن يكون قوله: «على النصف من دية المسلمين» راجعًا إلى ثمانية آلاف درهم، فتكون ديتهم في روايته في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعةَ آلاف درهم، ثم لم يرفعها عمر فيما رفع من الدية، فكأنه علم _________ (1) «الأم» (7/ 259)، وعنه البيهقي في «المعرفة» (12/ 142). (2) ط. الفقي: «حياتهم»، تحريف. (3) «المعرفة» (12/ 146 - 147)، وأخرج الحديث أبو داود (4542)، والبيهقي في «الكبرى» (8/ 101). (4) في الأصل: «حتى»، تصحيف.

(3/149)


أنها في أهل الكتاب توقيف، وفي أهل الإسلام تقويم. قال: والذي يؤكد ما قلنا حديثُ جعفر بن عون عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (1): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرض على كل مسلم قتل رجلًا من أهل الكتاب أربعة آلاف (2). وليس في شيء من هذا ما يوجب ترك القول بحديث عمرو بن شعيب. أما المأخذ الأول، وهو الأخذ بأقل ما قيل، فالشافعي - رحمه الله - كثيرًا ما يعتمده، لأنه هو المجمع عليه، ولكن إنما يكون دليلًا عند انتفاء ما هو أولى منه، وهنا النص أولى بالاتباع. وأما المأخذ الثاني فضعيف جدًّا، فإن حديث ابن جريج وحسين المعلّم وغيرهما عن عمرو صريحةٌ في التنصيف، فأحدهما قال: «نصف دية المسلم»، والآخر قال: «أربعة آلاف» مع قوله: «كانت دية المسلم ثمانية آلاف»؛ فالروايتان صريحتان في أن تنصيفها توقيف وسنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكيف يترك ذلك باجتهاد عمر - رضي الله عنه - في رفع دية المسلم؟ ثم إن عمر لم يرفع الدية في القدر، وإنما رفع قيمة الإبل لما غلت، فهو - رضي الله عنه - رأى أن الإبل هي الأصل في الدية، فلما غلت ارتفعت قيمتها، فزاد مقدار الدية من الورِق زيادةَ تقويمٍ لا زيادةَ قدرٍ في أصل الدية. _________ (1) كذا في الأصل: «عن أبيه عن جدّه»، والظاهر أنه وهم أو سبق قلم بسلوك الجادّة، فإن الحديث في «معرفة السنن» وغيره من المصادر: عن عمرو بن شعيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا. (2) وأخرجه أيضًا عبد الرزاق (18474)، والدارقطني (3286)، والبيهقي في «الكبرى» (8/ 101)، كلهم عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب مرسلًا.

(3/150)


ومعلوم أن هذا لا يبطل تنصيف دية الكافر على دية المسلم، بل أقرها أربعة آلاف كما كانت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانت الأربعة آلاف حينئذ هي نصف الدية. وقوله (1): «علم أنها في أهل الكتاب توقيف»، فهو توقيفُ تنصيفٍ كما صرَّحت به الرواية، فعُمَر أداه اجتهاده إلى ترك الأربعة الآلاف كما كانت، فصارت ثلثًا برفعِه ديةَ المسلم لا بالنص والتوقيف. وهذا ظاهر جدًّا، والحجة إنما هي في النص. واختلف الفقهاء في هذه المسألة، فقال الشافعي (2): دية الكتابي على الثلث من دية المسلم في الخطأ والعمد. وقال أبو حنيفة (3): ديته مثل دية المسلم في العمد والخطأ. وقال مالك (4): ديته نصف دية المسلم في العمد [ق 231] والخطأ. وقال أحمد (5): إن قتله عمدًا فديته مثل دية المسلم، وإن قتله خطأ فعنه فيه روايتان، إحداهما: أنها النصف ــ وهي الرواية الصحيحة في مذهبه ــ، والثانية: أنها الثلث. وإن قتله من هو على دينه عمدًا، فعنه فيه أيضًا روايتان، إحداهما: أنها نصف دية المسلم، والثانية: ثلثها. _________ (1) أي البيهقي. (2) انظر: «الأم» (5/ 710، 7/ 259). (3) انظر: «الأصل» (6/ 556). (4) انظر: «المدونة» (16/ 395). (5) انظر: «الإنصاف» (25/ 393 - 395، 450 - 451).

(3/151)


وأما حديث أبي سعد البقَّال عن عكرمة عن ابن عباس قال: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية العامرِيَّين ديةَ الحر المسلم، وكان لهما عهد» (1)، فقال الشافعي (2): لا يثبت مثله، وقال البيهقي: ينفرد به أبو سعد سعيد بن المَرْزُبان البقَّال، وأهل العلم لا يحتجون بحديثه. وأما حديث أبي كُرْزٍ الفهري عن نافع عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ودى ذميًّا ديةَ مسلم (3)، فقال الدارقطني والبيهقي: أبو كُرز هذا متروك الحديث، لم يروه عن نافع غيرُه. 7 - باب لا يُقتصَّ من الجرح قبل الاندمال (4) عن جابر: أن رجلا جُرِح فأراد أن يستقيد، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح. رواه الدارقطني (5). _________ (1) أخرجه الترمذي (1404)، والدارقطني (3358)، والبيهقي في «الكبرى» (8/ 102)، وابن عدي في «الكامل» (3/ 384)، وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا مِن هذا الوجه. (2) في القديم، كما في «معرفة السنن» (12/ 145). (3) أخرجه الدارقطني (3242، 3287)، والبيهقي في «الكبرى» (8/ 102). (4) قال المجرد: «هذا الباب وما يليه زادهما الشيخ شمس الدين»، وسيأتي تنبيه المؤلف نفسه على ذلك عقبهما. ويظهر أن المؤلف اعتمد على «السنن والأحكام» للضياء المقدسي (5/ 369 - 371) في زيادة هذين البابين وما تحتهما من الأحاديث مع إضافة بعض الأحاديث من «الأحكام والوسطى» للإشبيلي. (5) برقم (3115، 3116)، وأخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط» (4068)، والبيهقي (8/ 67)، وفي إسناده عبد الله بن عبد الله الأموي، ويعقوب بن عطاء بن أبي رباح، كلاهما ضعيف.

(3/152)


وذكر أيضًا (1) من حديث مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُقتصَّ من الجرح حتى ينتهي. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رجلًا طعن رجلًا بقَرْنٍ في ركبته فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أَقِدْني، فقال: «حتى تبرأ»، ثم جاء إليه فقال: أقدني، فأقاده، ثم جاء إليه فقال: يا رسول الله، عرجت، فقال: «قد نهيتُك فعصيتَني فأبعدك الله وَبطَل عَرَجُك»، ثم نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُقتَصّ من جرح حتى يبرأ صاحبه. رواه الإمام أحمد (2). ورواه أبو بكر بن أبي شيبة (3) عن إسماعيل ابن عُليَّة عن أيوب عن عمرو بن دينار عن جابر: أن رجلًا طعن رجلًا بقرن في ركبته، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليستقيد، فقيل له: «حتى تبرأ»، فأبى وعجّل واستقاد، عَنِتَتْ رِجله (4) وبرئت _________ (1) «سنن الدارقطني» (3121)، ومسلم بن خالد فيه لين. (2) برقم (7034) من طريق ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب به. وأخرجه الدارقطني (3114) ــ ومن طريقه البيهقي (8/ 67 - 68) ــ من طريق ابن جريج عن عمرو بن شعيب به. رجالهما موثّقون، إلا أن ابن إسحاق وابن جريج مدلسان، ولم يصرّحا بالسماع، ثم إن ابن جريج قد اختلف عليه فيه، فرواه عبد الرزاق (17991) عنه عن عمرو بن شعيب مرسلًا، وهو أشبه. (3) في «المصنف» (28360)، ومن طريقه وطريق أخيه عثمان أخرجه الدارقطني (3117)، وسيأتي الكلام عليه. (4) أي شَلَّت، وفي ط. الفقي: «فيَبِسَتْ» وهو بمعناه، ولكنه خلاف الأصل ولفظ الحديث.

(3/153)


رجل المستقاد منه، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ليس لك شيء؛ إنك أبيت». ولكن لهذا الحديث علة، وهي أن أبان وسفيان روياه عن عمرو بن دينار عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة: أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره مرسلًا (1). قال عبد الحق (2): وهو عندهم أصح، على أن الذي أسنده ثقة جليل، وهو ابن علية. 8 - باب من اطَّلع في بيت قوم بغير إذنهم عن سهل بن سعد: أن رجلًا اطلع في جحر في باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِدْرًى يُرَجِّل به رأسه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو أعلم أنك تنظر طعنت به في عَينك، إنما جعل الإذن من أجل البصر». أخرجاه (3). _________ (1) رواية أبان وسفيان أخرجهما أبو داود في «المراسيل» (252، 253)، وأخرجه أيضًا (254) عن حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار به. وأخرجه عبد الرزاق (17986، 17987) ــ ومن طريقه الدارقطني (3119، 3118) ــ عن ابن جريج عن عمرو بن دينار به، وعن معمر عن أيوب عن عمرو به. فهؤلاء الثقات (أبان، سفيان بن عيينة، حماد بن زيد، ابن جريج، أيوب برواية معمر عنه) كلهم رووه عن عمرو بن دينار، عن ابن ركانة مرسلًا، وهو الصواب. وجاءت رواية ابن علية عن أيوب مخالفةً لهم فسلكت الجادة: عن عمرو بن دينار، عن جابر، وهو وهم إما مِن ابن عليّة كما ذهب إليه أبو داود في «المراسيل»، وإما من ابنَي أبي شيبة الراويَين عن ابن علية، وبه جزم موسى بن هارون الحمّال الحافظ الناقد (ت 294) ــ كما ذكره ابن المنذر في «الأوسط» (13/ 111) ــ والدارقطنيُّ في «السنن» عقب روايته له، وذكر أن أحمد بن حنبل خالفهما في ذلك فرواه عن ابن علية مرسلًا. وانظر: «العلل» لابن أبي حاتم (1391). (2) «الأحكام الوسطى» (4/ 66). (3) البخاري (6241)، ومسلم (2156).

(3/154)


وعن أنس: أن رجلًا اطلع في بعض حُجَر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقام إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بمشقص ــ أو بمشاقص ــ، فكأني أنظر إليه يَخْتِل الرجلَ ليطعنه. أخرجاه (1) أيضًا. وفي «الصحيحين» (2) أيضًا عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فخَذَفته بحصاة ففقأت عينَه ما كان عليك جُناح». وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من اطلع في بيت قومٍ بغير إذنهم، فقد حلَّ لهم أن يفقأوا عينه». رواه مسلم (3). وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من اطلع في بيتِ قومٍ ففقأوا عينَه، فلا دية له ولا قِصاص». رواه النسائي (4). ولم يذكر أبو داود هذا الباب، ولا الذي قبله، ولا أحاديثَهما، فذكرناهما للحاجة. والله أعلم. * * * _________ (1) البخاري (6242)، ومسلم (2157). (2) البخاري (6902)، ومسلم (2158/ 44). (3) (2158/ 43). (4) «المجتبى» (4860) و «الكبرى» (7036)، وأخرجه أيضًا ابن حبان (6004).

(3/155)


 كتاب السنة

1 - باب افتراق الأمة بعد نبيها 544/ 4428 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «افترقت اليهود على إحدى ــ أو ثِنْتينِ ــ وسبعين فرقةً، وتفرَّقَتِ النَّصارى على إحدى ــ أو ثِنْتَين ــ وسبعين فِرقة، وتَفْتَرقُ أُمَّتي على ثلاثٍ وسبعين فرقةً». وأخرجه الترمذي وابن ماجه (1)، وحديث ابن ماجه مختصر، وقال الترمذي: حسن صحيح. 545/ 4429 - وعن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - أنه قام فقال: ألا إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فينا فقال: «ألا إنَّ مَن قبلكم مِن أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملّة، وإن هذه الملَّة ستفترق على ثلاثٍ وسبعين؛ ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي الجماعة». زاد ابن يحيى (وهو محمد) وعمرٌو (وهو ابن عثمان) في حديثيهما: «وإنه سيخرج من أمتي أقوام تَجارى بهم تلك الأهواء كما يَتَجارى الْكَلَبُ لصاحبه ــ وقال عمرو: الكلب بصاحبه ــ، لا يبقى منه عرق ولا مِفصَل إلا دخله» (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: ورواه الترمذي (3) من حديث عبد الله بن عمرو _________ (1) أبو داود (4596)، والترمذي (2640)، وابن ماجه (3991). وأخرجه أيضًا ابن حبان (6247)، والحاكم (1/ 6، 128). (2) «سنن أبي داود» (4597). وأخرجه أيضًا أحمد (16937)، والدارمي (2560)، والحاكم (1/ 128)، وإسناده حسن. (3) برقم (2641)، وأخرجه الحاكم (1/ 129) استشهادًا.

(3/156)


يرفعه: «ليأتينّ على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذوَ النعل بالنعل، حتى لو كان منهم من أتى أمَّه علانيةً لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق (1) أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا واحدة»، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي». قال الترمذي: «حديث غريب (2) لا نعرفه إلا من هذا الوجه»، وفيه الإِفريقي عبد الرحمن بن زياد (3). وقال (4): وفي الباب عن سعد (5)، وعوف بن مالك، وعبد الله بن عمرو. وحديث عوف الذي أشار الترمذي إليه هو: حديث نُعَيم بن حماد عن عيسى بن يونس، عن حَرِيز (6) بن عثمان، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف (7). وهو الذي تُكلِّم في نُعيمٍ لأجله. _________ (1) في الأصل: «وتفرقت» سهو. (2) كذا في الأصل وفي «تحفة الأشراف» (6/ 354)، وفي «نسخة الكروخي» (ق 174): «حسن غريب». (3) هو قاضي إفريقية وعالمها ومحدّثها، على لين في حفظه، له أحاديث لا يُتابع عليها، ضعَّفه يحيى القطان والإمام أحمد والنسائي في آخرين، إلا أن البخاري كان يقوي أمره ويقول: هو مقارب الحديث. انظر: «الجرح والتعديل» (5/ 234)، و «تهذيب التهذيب» (6/ 175). (4) أي الترمذي - رحمه الله - عقب حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (5) أخرجه عبد بن حميد في «مسنده» (148)، والبزار (1199)، وفي إسناده موسى بن عُبيدة الرَّبَذي، ضعيف منكر الحديث. (6) في الطبعتين: «جرير» خطأ. (7) ولفظه: «ستفترق أمتي على بضعٍ وسبعين فرقة أعظمها فتنةً على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحلّون الحرام ويحرّمون الحلال». أخرجه البزار (2755)، وابن عدي في «الكامل» (7/ 17)، والطبراني في «الكبير» (18/ 50)، والحاكم (3/ 547)، وابن عبد البرّ في «جامع بيان العلم» (1673)، كلهم من طريق نعيم بن حمّاد به. هذا الحديث أنكره ابن معين ودحيم وغيرهما من الأئمة على نُعَيم، وقال البزّار: لا يُتابَع عليه، وقال ابن عبد البرّ: هذا عند أهل العلم بالحديث حديث غير صحيح، حملوا فيه على نعيم بن حمّاد. وبالغ ابن حمّاد الدولابي فاتهم نعيمًا بوضعه ــ كما نقله عنه ابن عدي ــ، وهي تهمة مردودة، فإن نعيمًا من أئمة السنّة الأعلام، وقد وثَّقه ابن معين مع أنه حكم على حديثه هذا بأن ليس له الأصل، فقيل له: كيف يُحدّث ثقة بباطل؟ قال: «شُبِّه له». انظر: «تاريخ بغداد» (15/ 420)، و «التنكيل» للمعلمي (1/ 824 - 836).

(3/157)


وفي الباب أيضًا حديث أنس بن مالك يرفعه: «إن بني إسرائيل تفرقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة»، قال: «وهي الجماعة». رواه أبو إسحاق الفزاري (1) عن الأوزاعي عن يزيد [ق 232] الرقاشي عن أنس. ورواه ابن وهب عن عمرو بن الحارث، عن عبد الله بن غزوان، عن عمرو بن سعد، عن يزيد به (2). _________ (1) ومن طريقه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 419). وأخرجه محمد بن نصر المروزي في «السنة» (53)، والطبري (5/ 647)، واللالكائي في «شرح السنة» (1/ 112)، وأبو نعيم في «الحلية» (3/ 52 - 53)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (6/ 287)، من طرق عن الأوزاعي به. وإسناده ضعيف لضعف يزيد الرقاشي، وقد روي من طريق الأوزاعي عن قتادة عن أنس، أخرجه ابن ماجه (3993) وغيره، لكنه وهم من بعض الرواة حيث خالف جماعة من الثقات فجعله عن «قتادة» بدل «يزيد الرقاشي». وللحديث طرق أخرى عن أنس لا يُفرح بها. (2) أخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 419 - 420).

(3/158)


2 - باب النهي عن الجدال 546/ 4435 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المِراءُ في القرآن كُفر» (1). قال ابن القيم - رحمه الله - حديث حسن (2). وفي «الصحيحين» (3) من حديث جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقرأوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبُكم، فإذا اختلفتم فيه (4) فقوموا». وفي «الصحيحين» (5) عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أبغض الرجال إلى الله الأَلَدُّ الخَصِم». وفي «سنن ابن ماجه» (6) من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل»، ثم تلا تلك الآية: {مَا _________ (1) «سنن أبي داود» (4603) من طريق محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) وذلك أن في إسناده محمد بن عمرو بن علقمة، وهو صدوق حسن الحديث، على أنه قد توبع، تابعه أبو حازم سلمة بن دينار عن أبي سلمة به، أخرجه أحمد (7989)، والنسائي في «الكبرى» (8039)، وابن حبان (74)، وبمتابعته يرتقي الحديث إلى الصحة ولله الحمد. (3) البخاري (5060، 5061، 7364، 7365)، ومسلم (2667). (4) في الأصل: «عنه»، ولعله تصحيف ما أثبت، وهو لفظ مسلم (2667/ 3)، ويحتمل أن يكون «عنه» صحيحًا لكنه تقدم سهوًا، فإن لفظ البخاري: «فقوموا عنه». (5) البخاري (2457)، ومسلم (2668). (6) برقم (48)، وأخرجه أحمد (22164)، والترمذي (3253)، والحاكم (2/ 448)، وقال الترمذي: «حسن صحيح».

(3/159)


ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]. 3 - باب في الخلفاء 547/ 4467 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان أبو هريرة يُحَدِّثُ أن رجلًا أتى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنِّي أرى الليلة ظُلَّةً يَنْطِفُ منها السَّمْنُ والعَسَل، فأرى الناسَ يتكفّفون بأيديهم، فالمُستَكثِرُ والمستَقِلُّ، وأرى سببًا واصِلًا من السماء إلى الأرض، فأراك يا رسول الله أخذتَ به فعلوتَ، ثم أخذَ به رجلٌ آخرُ فَعَلا به، ثم أخذ به رجلٌ آخر فَعَلا به، ثم أخذ به رجلٌ آخر فانقطع، ثم وُصِلَ فَعَلا به. قال أبو بكر: بأبي وأمي، لَتَدَعَنِّي فَلأُعَبِّرنَّها، فقال: «اعْبُرها». قال: أما الظُّلةُ فظُلَّة الإسلام، وأما ما يَنْطِف من السمن والعسل فهو القرآن لِينُه وحَلاوته، وأما المستكثر والمستقلُّ فهو المستكثر من القرآن والمستَقلُّ منه، وأما السببُ الواصل من السماء إلى الأرض فهو الحقُّ الذي أنت عليه، تأخذ به فيُعْليك الله، ثم يأخذ به بعدك رجلٌ فيعلو به، ثم يأخذ به رجلٌ آخر فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع، ثم يُوصَل له فيعلو به. أيْ رسولَ الله لَتُحَدِّثَنِّي أصبتُ أم أخطأت؟ فقال: «أصبتَ بعضًا وأخطأت بعضًا»، فقال: أقسمتُ يا رسول الله لتُحَدِّثنِّي ما الذي أخطأتُ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُقْسِم». وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (1). قوله: «ثم يأخذ به بعدك» هو أبو بكر، «ثم يأخذ به رجلٌ آخر» هو عمر، «ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع» هو عثمان ... فجُعِل قتله قطعًا، وقوله: «ثم يوصل» يعني بولاية علي. _________ (1) أبو داود (4632)، ومسلم (2269)، والترمذي (2293)، والنسائي في «الكبرى» (7593)، وابن ماجه (3918). وأخرجه البخاري (7046) أيضًا.

(3/160)


وقيل: الخطأ (1) في قوله: «له»، لأن في الحديث: «ثم وُصِل»، ولم يذكر «له» (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: وهذا يُشكل عليه شيئان: أحدهما: أن في نفس الرؤيا: «ثم وُصِل له فعلا به»، فتفسير الصديق لذلك مطابق لنفس الرؤيا. والثاني: أن قتله - رضي الله عنه - لا يمنع أن يوصل له، بدليل أن عمر قد قُتِل، ومع هذا فأخذ به وعلا به، ولم يكن قتله مانعًا من علوه به. وقد يجاب عنهما: أما الأول فلفظه: «ثم وصل له» لم يذكر هذا البخاري، ولفظ حديثه: «ثم أخذ به رجل آخر، فانقطع به، ثم وُصِلَ» فقط، وهذا لا يقتضي أن يوصل له بعد انقطاعه به، وقال الصديق في تفسيره في نفس حديث البخاري «فينقطع به ثم يوصل له»، فهذا موضع الغلط. وهذا مما يبين فضل معرفة البخاري، وغَورَ علمِه في إعراضه عن لفظة «له» في الأول، وإنما انفرد بها مسلم (3). _________ (1) أي: خطأ أبي بكر في تأويله. (2) للمنذري كلام طويل على هذا الحديث في «المختصر» (ق 4/ 131 - النسخة البريطانية)، ولم يحدد المجرّد موضع التعليق منه، فأوردت القدر الذي يصدق عليه تعليق المؤلف الآتي: «هذا يُشكل عليه شيئان» دون أن يكون فيه تكرار لما سيذكره المؤلف في ثنايا كلامه. (3) أي من بين «الصحيحين»، وإلا فهي عند الترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم أيضًا.

(3/161)


وأما الثاني فيجاب عنه بأن عمر - رضي الله عنه - لم ينقطع به السبب من حيث علا به، وإنما انقطع به بالأجل المحتوم، كما ينقطع الأجل بالسُّم وغيره، وأما عثمان فانقطع به من حيث وصل له من الجهة التي علا بها، وهي الخلافة، فإنه إنما أريد منه أن يخلع نفسه، وإنما قتلوه لعدم إجابتهم إلى خلع نفسه، فخلعوه هم بالقتل ظلمًا وعدوانًا، فانقطع به من الجهة التي أخذ به منها، ثم وصل لغيره - رضي الله عنه -. وهذا سرُّ سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تعيين موضع خطأ الصديق. فإن قيل: فلِمَ تكلَّفتم أنتم بيانه، وقد منع النبي - صلى الله عليه وسلم - الصديق من تَعرُّفه والسؤال عنه؟ قيل: منعه من هذا لما ذكرناه من تعلق ذلك بأمر الخلافة، وما يحصل للرابع من المحنة وانقطاع السبب به، فأما وقد حدث ذلك ووقع، فالكلام فيه كالكلام في غيره من الوقائع التي يُحذَر الكلام فيها قبل وقوعها سدًّا للذريعة ودرءًا للمفسدة، فإذا وقعت زال المعنى الذي سَكت عنها لأجله. 548/ 4487 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتاني جبريل فأخذ بيدي فأراني باب الجنة الذي تدخل منه أمتي». فقال أبو بكر: يا رسول الله، وَدِدتُ أني كنت معك حتى أنظرَ إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما إنك يا أبا بكر أوَّلُ من يدخل الجنة من أمتي» (1). في إسناده أبو خالد الدَّالانيُّ يزيد بن عبد الرحمن، وثَّقه أبو حاتم الرازي، وقال ابن معين: ليس به بأس، وعن الإمام أحمد نحوه (2). _________ (1) «سنن أبي داود» (4652). (2) انظر: «الجرح والتعديل» (9/ 277)، و «تهذيب التهذيب» (12/ 82).

(3/162)


وقال ابن حبان (1): لا يجوز الاحتجاج به إذا وافق الثقات، فكيف إذا انفرد عنهم بالمعضلات؟! قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى ابن ماجه في «سننه» (2) من حديث داود بن عطاء المديني، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أوَّلُ مَن يصافحه الحقُّ عمرُ، وأول من يسلِّم عليه، وأول من يأخذ بيده فيدخله الجنة». وداود بن عطاء هذا ضعيف عندهم (3). وإن صح فلا تعارض بينهما، لأن الأولية في حق الصديق مطلقة، والأوليةَ في حق عمر مقيدة بهذه الأمور في الحديث. 4 - باب في فضل الصحابة 549/ 4492 - عن زُرارة بن أوْفَى، عن عمران بن حصين - رضي الله عنهم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خيرُ أمَّتِي القَرْن الذي بُعِثتُ فيهم، ثم الذين يَلُونَهم، ثم الذين يلونهم ــ والله أعلم أذكر الثالث أم لا؟ ــ ثم يظهر قومٌ يَشهدون ولا يُستَشهَدون، ويَنْذِرُون ولا يُوفون، ويَخونون ولا يُؤتَمَنون، ويفشو فيهم السِّمَنُ». _________ (1) في «المجروحين» (2/ 456). (2) برقم (104). (3) قال أحمد: ليس بشيء لا يُحَدَّث عنه، وقال البخاري والرازيان: منكر الحديث. انظر: «التاريخ الكبير» (3/ 243 - 244)، و «الجرح والتعديل» (3/ 420 - 421). وقد ذكر الذهبي حديثه هذا في ترجمته في «الميزان» (2/ 12) وقال: منكر جدًّا. وللحديث طرق أخرى ولكنها واهية. انظر: «الضعيفة» للألباني (2485).

(3/163)


وأخرجه مسلم والترمذي (1). وقد أخرجه البخاري ومسلم والنسائي (2) من حديث زَهدَم بن مُضرِّب عن عمران بن حصين. قال ابن القيم - رحمه الله -: هذا الحديث قد روي من حديث عمران بن حصين، وعبد الله بن مسعود، وأبي هريرة، وعائشة، والنعمان بن بشير. فأما حديث عمران فمتفق عليه، واختلف في لفظه، فأكثر الروايات أنه ذكر بعد قرنه قرنين، ووقع في بعض طرقه في «الصحيح» (3): «ثم الذين يلونهم» ثلاث مرات، ولعل هذا غير محفوظ، فإن عمران قد شك فيه وقال: «لا أدري أقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد قرنه مرتين أو ثلاثًا». وأما حديث عبد الله بن مسعود، فأخرجاه في «الصحيحين» (4) ولفظه: «خير أمتي القرن الذين يَلُوني (5)، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادةُ أحدهم يمينَه، ويمينُه شهادتَه». وفي لفظ لهما (6): سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الناس خير؟ قال: «قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم». _________ (1) أبو داود (4657)، ومسلم (2535/ 214)، والترمذي (2222). (2) البخاري (2561، 3650، 6428، 6695)، ومسلم (2535/ 215)، والنسائي (3809). (3) «صحيح مسلم» (2535/ 214). (4) البخاري (2652)، ومسلم (2533/ 210) واللفظ له. (5) ط. الفقي: «يلونني» خلافًا للأصل و «صحيح مسلم». (6) البخاري (6658)، ومسلم (2533/ 211).

(3/164)


ولم يختلف عليه في ذكر «الذين يلونهم» مرتين (1). وأما حديث أبي هريرة فرواه مسلم في «صحيحه» (2)، ولفظه: «خير أمتي القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم»، والله أعلم: أذكر الثالث أم لا؟ قال: «ثم يخلف قوم يحبون السَّمانة (3)، يَشهدون قبل أن يُستشهَدوا». فهذا فيه قرن واحد بعد قرنه، وشك في الثالث، وقد حفظه عبد الله بن مسعود وعمران وعائشة. وأما حديث عائشة فرواه مسلم (4) أيضًا عنها قالت: سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الناس خير؟ قال: «القرن الذي أنا فيه، ثم الثاني، ثم الثالث». وأما حديث النعمان بن بشير فرواه ابن حبان في «صحيحه» (5)، ولفظه: عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [ق 233] «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم تسبق أيمانهم شهادتهم، وشهادتهم أيمانهم». فقد اتفقت الأحاديث على قرنين بعد قرنه، إلا حديث أبي هريرة فإنه شك فيه. _________ (1) إلا أنه في طريقٍ عند مسلم (2533/ 212) شكَّ الراوي بعد ذكره مرّتين فقال: «فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة قال: ثم يتخلّف من بعدهم خَلْف ... » إلخ. وهو طريق معلّ فضلًا عن كونه مخالفًا لسائر الطرق التي فيها الجزم بذكره مرّتين، ولعله لذا أخرّه مسلم عند سياق طرق الحديث ومتابعاته. انظر: «العلل» للدارقطني (810). (2) برقم (2534/ 213). (3) أي السِّمَن كما في حديث عمران، وتحرّف في ط. الفقي إلى «الشَّماتة»! (4) برقم (2536). (5) برقم (6727)، وأخرجه أحمد (18348) أيضًا.

(3/165)


وأما ذكر القرن الرابع فلم يُذكر إلا في رواية في حديث عمران، لكن في «الصحيحين» (1) له شاهد من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -،قال: «يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس. فيقال لهم: هل فيكم من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم. ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم. ثم يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: هل فيكم من رأى مَن صحب مَن صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولون: نعم، فيفتح لهم». فهذا فيه ذكر قرنين بعده، كما في الأحاديث المتقدمة. ورواه مسلم (2) فذكر ثلاثة بعده، ولفظه: «يأتي على الناس زمان يُبعَث منهم البعثُ فيقولون: انظروا هل تجدون فيكم أحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيوجد الرجل، فيفتح لهم به. ثم يبعث البعث الثاني فيقولون: هل فيكم من رأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيفتح لهم. ثم يبعث البعث الثالث فيقال: انظروا هل ترون فيهم من رأى من رأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيفتح لهم (3). ثم يكون البعث الرابع فيقال: انظروا هل ترون فيهم أحدًا رأى من رأى أحدًا رأى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فيوجد الرجل فيفتح له (4)». _________ (1) البخاري (2897، 3594، 3649)، ومسلم (2532/ 208). (2) برقم (2532/ 209). (3) «فيفتح لهم» ليس في المطبوع من «صحيح مسلم»، ولا فيما وقفت عليه من نُسَخِه الخطية. (4) كذا في الأصل، وهو كذلك في نسخ «صحيح مسلم» الخطية التي وقفت عليها، وفي مطبوعته المتداولة: «فيفتح لهم به».

(3/166)


5 - باب في التخيير بين الأنبياء 550/ 4504 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما ينبغي لعبد أن يقول: إنِّي خَير من يُونُسَ بنِ مَتَّى». وأخرجه البخاري ومسلم (1). 551/ 4505 - وعن عبد الله بن جعفر - رضي الله عنهما -، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما ينبغي لنبيٍّ أن يقول: إني خيرٌ من يونسَ بن مَتَّى» (2). في إسناده: محمد بن إسحاق بن يسار. قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي حديث ابن عباس في بعض طرق البخاري (3) فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه عز وجل: «لا ينبغي لعبد ... » الحديث. ورواه مسلم (4) من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ــ يعني الله عز وجل ــ: «لا ينبغي لعبدٍ لي أن يقول: أنا خير من يونس بن متى». وفي رواية: «لعبدي». وفي حديث ابن عباس: «نَسَبه إلى أبيه» (5). _________ (1) أبو داود (4669)، والبخاري (3395)، ومسلم (2377). (2) «سنن أبي داود» (4670). (3) برقم (7539). (4) برقم (2376)، وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في البخاري (3416) أيضًا إلا أنه ليس إلهيًّا. (5) أي قال ابن عباس عقب الحديث كما في رواية «الصحيحين»: «نسبه إلى أبيه» يعني نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - يونسَ إلى أبيه حين قال: «يونس بن متى».

(3/167)


وفي «صحيح البخاري» (1) عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يقولَنَّ أحدُكم إني خير من يونس بن متى». وعنه أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما ينبغي لعبد أن يكون خيرًا من يونس بن متى» (2). وفي لفظ آخر: «أن يقول: أنا خير من يونس بن متى». ذكره البخاري (3) أيضًا. وفي «صحيح البخاري» (4) عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم [ابن الكريم]: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» ونحوه في «الصحيحين» (5) من حديث أبي هريرة. وخرج البخاري (6) أيضًا عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خُفِّف على داود القرآن، فكان يأمر بدوابّه فتُسرَج فيقرأ القرآن قبل أن تسرج دوابُّه، ولا يأكل إلا من عمل يده». _________ (1) برقم (3412). (2) «صحيح البخاري» (4804). (3) برقم (4603). (4) برقم (3390، 4688)، وما بين الحاصرتين مستدرك منه. (5) البخاري (3353) ومسلم (2378)، ولفظه: قيل: يا رسول الله: مَن أكرم الناس؟ قال: «أتقاهم»، فقالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: «فيوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله»، قالوا: ليس عن هذا نسألك! قال: «فعن معادن العرب تسألون؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فَقُهُوا». (6) برقم (3417).

(3/168)


والمراد بالقرآن هاهنا: الزبور، كما أريد بالزبور القرآن في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]. 6 - باب في رد الإرجاء 552/ 4511 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الإيمانُ بِضْعٌ وسبعون، أفضلُها قولُ لا إله إلا الله، وأدناها إماطَةُ الأذى عن الطريق، والحياء شعبةٌ من الإيمان». وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: ولفظ مسلم (2): «الإيمان بضع وسبعون شعبة». _________ (1) أبو داود (4676)، والبخاري (9)، ومسلم (35)، والترمذي (2614)، والنسائي (5005)، وابن ماجه (57). (2) برقم (35/ 57).

(3/169)


وفي كتاب البخاري: «بضع وستون»، وفي بعض رواياته: «بضع وسبعون»، والمعروف: «ستون» (1). وقد رواه مسلم (2) بالوجهين على الشك عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الإيمان بضع وسبعون ــ أو بضع وستون ــ شعبة». وحديث: «الحياء شعبة من الإيمان» رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، وابن عمر (3)، وأبي مسعود (4)، وعمران بن حصين (5). وفي حديث ابن عمر المتفق عليه (6) في سؤال جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام؟ فقال: «أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيمَ الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجَّ البيتَ إن استطعت إليه سبيلًا». وفي «الصحيحين» (7) حديثُ طلحة بن عبيد الله: جاء رجل من أهل نجدٍ ثائرَ الرأس نسمع دويَّ صوته، ولا نفقه ما يقول حتى دنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هو يسأل عن الإسلام؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خمس صلوات في اليوم والليلة ... » الحديث. وفي «مسند الإمام أحمد» (8) عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، _________ (1) هو كذلك في جميع روايات البخاري التي أثبت فروقَها الحافظ اليونيني في نسخته، وليس في شيء منها: «بضع وسبعون». انظر: الطبعة السلطانية المطبوعة عن فروع النسخة اليونينية (1/ 11). (2) برقم (35/ 58). (3) البخاري (24)، ومسلم (36). (4) أخرجه البخاري (3483) بلفظ: «إذا لم تستَحْيِ فافعل ما شئت». (5) أخرجه البخاري (6117) ومسلم (37) بلفظ: «الحياء لا يأتي إلا بخير». (6) كذا، وحديث جبريل من رواية ابن عمر (عن أبيه) ليس متفقًا عليه، إنما أخرجه مسلم (8) فقط، والمتفق عليه هو من رواية أبي هريرة. أخرجه البخاري (50) ومسلم (9). (7) البخاري (46)، ومسلم (11). (8) لم أقف عليه في «المسند» بهذا اللفظ، وإنما فيه باللفظ المشهور المتفق عليه: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لاإله إلا الله ... ». انظر: «المسند» (4798، 5672، 6015، 6301). وهذا اللفظ الذي ساقه المؤلف ورد في «العلل» لابن أبي حاتم (1961)، و «علل الدارقطني» (3130).

(3/170)


وصوم رمضان، وحج البيت». وفي «الصحيحين» (1) عن عبد الله بن عمرو: أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الإسلام خير؟ قال: «تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف». وفي «الصحيحين» (2) عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه»، وقال مسلم: «حتى يحب لجاره ــ أو قال: لأخيه ــ». وفي «الصحيحين» (3) عن أنس أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين». وقال مسلم (4): «من أهله وماله والناس أجمعين». وفي «صحيح مسلم» (5) عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من رأى منكم منكرًا [ق 234] فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان». وفي «صحيح مسلم» (6) أيضًا عن عبد الله بن مسعود: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - _________ (1) البخاري (12، 28، 6236)، ومسلم (39). (2) البخاري (13، 6041)، ومسلم (45). (3) البخاري (15)، ومسلم (44/ 70). (4) برقم (44/ 69). (5) برقم (49). (6) برقم (50).

(3/171)


قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريُّون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تَخلُف من بعدهم خُلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان حبةُ خردل». وفي الترمذي (1) عن أبي مرحوم (2) عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أعطى لله ومنع لله، وأحب لله وأبغض لله، وأنكح لله، فقد استكمل إيمانَه». وأبو مرحوم وسهل قد ضُعِّفا. 553/ 4524 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَزني الزَّاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يَسرِق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرَب الخمرَ حين يشربها وهو مؤمن، والتوبةُ معروضة بعدُ». وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي (3). _________ (1) برقم (2521)، وقال: هذا حديث منكر، وأغرب الحاكم (2/ 164) حيث جعله على شرط الشيخين! وله شاهد من حديث أبي أمامة عند أبي داود (4681) وابن أبي شيبة (35875)، دون ذكر الإنكاح، وفي إسناده لين مع اختلاف في رفعه ووقفه، وإنما صحّ من قول كعب الأحبار عند ابن أبي شيبة (31077) وغيره، ووهم بعض الجِلَّة فظنه موقوفًا على كعب بن مالك الصحابي. (2) في الأصل هنا وفي الموضع الآتي: «أبي مرقوم» خطأ، وهو عبد الرحيم بن ميمون المدني. (3) أبو داود (4689)، والبخاري (6810)، ومسلم (57/ 104)، والترمذي (2625)، والنسائي (4871).

(3/172)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي لفظ في «الصحيحين» (1): «ولا يَنتهِب نُهبة ذاتَ شرفٍ يرفع إليه (2) الناس فيها أبصارَهم حين ينتهبها وهو مؤمن»، وزاد مسلم (3): «ولا يَغُلّ حين يَغُلّ وهو مؤمن، فإياكم إياكم». وزاد أبو بكر البزار فيه في «المسند» (4): «يُنزَع الإيمان من قلبه، فإن تاب تاب الله عليه». وأخرج البخاري في «صحيحه» (5) عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب حين يشرب وهو مؤمن، ولا يقتل حين يقتل (6) وهو مؤمن». قال عكرمة: قلت لابن عباس: كيف يُنزَع الإيمان منه؟ قال: هكذا (وشبّك بين أصابعه، ثم أخرجها)، فإن تاب عاد إليه هكذا (وشبك بين أصابعه). وروى ابن صخر في «الفوائد» (7) من حديث محمد بن خالد المخزومي، _________ (1) البخاري (5578)، ومسلم (57/ 100). (2) في الأصل: «إليها»، والمثبت من «الصحيحين». (3) برقم (57/ 103). (4) «البحر الزخار» (9027)، وأخرجه أيضًا المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (527، 529) وأبو يعلى (6364)، بإسنادين جيّدين. (5) برقم (6809). (6) «حين يقتل» سهو من المؤلف أو الناسخ، فإنه لا يوجد في البخاري ولا غيره من مصادر الحديث. (7) «المجلس الأول من المجالس الخمسة» لابن صخر (443 هـ) بانتقاء أبي نصر السِّجزي (ق 16 - 17 - نسخة الظاهرية)، وأخرجه أيضًا ابن الأعرابي في «المعجم» (592)، وأبو نعيم في «الحلية» (5/ 34)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (9265)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1364)، كلهم من طريق يعقوب بن حميد بن كاسب، عن محمد بن خالد المخزومي به. قال أبو نصر السجزي: «هذا غريب من وجوه، تفرد به المخزومي عن الثوري عن زُبيد بن الحارث فيما قيل والله أعلم». وأعله ابن الجوزي بضعف يعقوب بن حميد أيضًا. وقال البيهقي: «المحفوظ عن ابن مسعود من قوله غير مرفوع». وانظر: «تغليق التعليق» (2/ 21 - 24).

(3/173)


عن سفيان الثوري، عن زُبَيد، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اليقين الإيمان كله». وذكره البخاري في «صحيحه» (1) موقوفًا على ابن مسعود. وفي «صحيح مسلم» (2) عن أبي قتادة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فيهم فذكر [أن] الجهاد في سبيل الله والإيمانَ بالله أفضلُ الأعمال ... الحديث. وفي «الصحيحين» (3) عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أفضل؟ قال: «الإيمان بالله»، قال: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله»، قال: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور». وفي لفظ (4): «إيمان بالله ورسوله». _________ (1) كتاب الإيمان، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بني الإسلام على خمس»، معلّقًا مجزومًا به. ووصله وكيع في «الزهد» (203)، وسعيد بن منصور (1928 - تفسير)، وعبد الله بن أحمد في «السنة» (792)، والحاكم (2/ 446) بإسناد صحيح. (2) برقم (1885). (3) البخاري (26، 1519)، ومسلم (83). (4) هو لفظ البخاري.

(3/174)


وترجم عليه البخاري: «باب من قال: إن الإيمان هو العمل، لقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72]». قال: «وقال عدة من أهل العلم في قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر]: عن قولِ لا إله إلا الله». وفي «الصحيحين» (1) عن أبي ذر قال: «قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: «الإيمان بالله والجهاد في سبيله ... » الحديث. وروى البزار في «مسنده» (2) من حديث عمار بن ياسر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالَم، والإنفاق من الإقتار». وذكره البخاري في «صحيحه» (3) عن عمّار قوله (4). _________ (1) البخاري (2518)، ومسلم (84). (2) برقم (1396) وأعلّه بالوقف، وكذا قال الحافظان الرازيان: إن الرفع خطأ والصحيح موقوفًا عن عمّار. والموقوف قد أخرجه وكيع في «الزهد» (241)، وعبد الرزاق (19439)، وابن أبي شيبة (31080)، والطبري في «تهذيب الآثار - مسند عمر» (1/ 118، 119)، من طرق عن أبي إسحاق، عن صلة بن زفر، عن عمار. وانظر: «تغليق التعليق» (2/ 36 - 40). (3) كتاب الإيمان، باب: إفشاء السلام من الإسلام، معلّقًا مجزومًا به. وقد سبق تخريجه في التعليق السابق. (4) في الأصل: «عن عائشة قوله» تصحيف، فرام الفقي إصلاحه فأثبت: «عن عائشة من قولها»، فاستحكم التحريف.

(3/175)


وقال البخاري (1): قال معاذ «اجلس بنا نؤمن ساعة». وقال البخاري في «الصحيح» (2): باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام والإحسان، وعلمِ الساعة وبيان النبي - صلى الله عليه وسلم - له، ثم قال: «جاء جبريل يعلمكم دينكم»، فجعل ذلك كلَّه دِينًا؛ وما بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبد القيس من الإيمان؛ وقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]. وفي حديث الشفاعة المتفق على صحته: «أخرِجوا من النار من كان في قلبه مثقالُ ذرةٍ من إيمان» (3). وفي لفظ: «مثقال دينار من إيمان» (4). وفي لفظ: «مثقال شعيرة من إيمان» (5). وفي لفظ: «مثقال خردلة من إيمان» (6). وفي لفظ: «انطلق فأَخرِجْ من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان» (7). _________ (1) في كتاب الإيمان، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بني الإسلام على خمس». وأثر معاذ وصله أبو عبيد في «الإيمان» (20)، وابن أبي شيبة (31000)، وعبد الله بن أحمد في «السنة» (773، 798)، وغيرهم بإسناد صحيح. (2) كتاب الإيمان. (3) البخاري (7439)، ومسلم (183) من حديث أبي سعيد بنحوه. (4) جزء من الحديث السابق، قبل ذكر مثقال الذرة. (5) البخاري (7510)، ومسلم (193/ 326) من حديث أنس. (6) جزء من الحديث السابق بعد ذكر مثقال الشعيرة. وجاء في رواية من حديث أبي سعيد أيضًا عند البخاري (6560) ومسلم (184/ 304). (7) جزء من حديث أنس السابق.

(3/176)


وفي لفظ: «إذا كان يوم القيامة شُفِّعتُ، فقلت: يا رب أَدخِل الجنة من كان في قلبه خردلة، فيدخلون، ثم أقول: أَدخِل الجنة من كان في قلبه أدنى شيء». قال أنس: كأني أنظر إلى أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1). وفي لفظ عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَخْرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة». ثم قال: «يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن بُرَّة. ثم يخرج من النار مَن قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة» (2). وترجم البخاري على هذا الحديث: باب زيادة الإيمان ونقصانه، وقوله تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13]، {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31]، وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] فإذا ترك شيئًا من الكمال فهو ناقص. وكل هذه الألفاظ التي ذكرناها في «الصحيحين»، أو أحدهما. والمراد بالخير في حديث أنس: الإيمان، فإنه هو الذي يخرج به من النار. وكل هذه النصوص صحيحة صريحة لا تحتمل التأويل في أن نفس الإيمان القائم [ق 235] بالقلب يقبل الزيادة والنقصان، وبعضَهم أرجح من بعض. وقال البخاري في «صحيحه» (3): قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من _________ (1) البخاري (7509). (2) البخاري (44، 7410)، ومسلم (193/ 325). (3) كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبَط عملُه وهو لا يَشعُر. وأثر ابن أبي مليكة وصله محمد بن نصر في «تعظيم قدر الصلاة» (688)، والخلّال في «السنّة» (1081)، والحافظ في «تغليق التعليق» (2/ 52).

(3/177)


أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحدٌ يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل. وقال البخاري أيضًا: «بابٌ الصلاة من الإيمان، وقولُه عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]، يعني صلاتكم عند البيت»، ثم ذكر حديث تحويل القبلة (1). وأقدم من روي عنه زيادة الإيمان ونقصانه من الصحابة عمير بن حبيب الخطمي، قال الإمام أحمد (2): حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي جعفر الخَطْمي، عن أبيه عن جده عُمَير بن حَبيب قال: الإيمان يزيد وينقص. قيل: وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله عز وجل وحمدناه وسبّحناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا وضيَّعنا ونسينا فذلك نقصانه. وقال أحمد (3): حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا محمد بن طلحة، عن _________ (1) برقم (40) من حديث البراء بن عازب. (2) في «كتاب الإيمان»، ومن طريقه الخلّال في «السنة» (1141) والآجري في «الشريعة» (2/ 548). وأخرجه ابن أبي شيبة (30963)، وعبد الله بن أحمد في «السنة» (611، 658)، وابن بطّة في «الإبانة الكبرى» بتحقيق عادل آل حمدان (1214) من طرق عن حماد بن سلمة به. إسناده حسن، وعمير بن حبيب صحابي بايع تحت الشجرة. (3) في «كتاب الإيمان»، ومن طريقه أخرجه الخلال في «السنة» (1584)، والآجري في «الشريعة» (2/ 585)، واللالكائي في «السنة» (5/ 1012). وأخرجه ابن أبي شيبة (31003) من طريق آخر عن محمد بن طلحة به. وهو منقطع، فإن ذَرّ بن عبد الله الهمداني لم يُدرك عمر.

(3/178)


زبيد، عن ذَرّ قال: كان عمر بن الخطاب يقول لأصحابه: «هلمُّوا نزدد إيمانًا»، فيذكرون الله تعالى. وقال أحمد (1): حدثنا وكيع عن شريك عن هلال عن عبد الله بن عكيم قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول في دعائه: «اللهم زدني إيمانًا ويقينًا وفقهًا ــ أو قال: فهمًا ــ». وقال أحمد في رواية المرّوذي (2): حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا العوام، حدثنا علي بن مدرك، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: «الإيمان نَزِهٌ، فمن زنى فارقه الإيمان، فإن لام نفسه ورجع راجعه الإيمان». وفي تفسير علي بن أبي طلحة (3) عن ابن عباس في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]، قال: إن الله بعث محمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - بشهادة أن لا إله إلا الله. فلما صدق به المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا بها زادهم الصيام، فلما صدقوا به زادهم الزكاة، فلما صدقوا بها زادهم الحج، فلما صدقوا به (4) زادهم الجهاد، ثم أكمل لهم _________ (1) في «الإيمان»، ومن طريقه أخرجه الخلال في «السنة» (1120)، وعبد الله ابنه في «السنة» (774)، والآجري في «الشريعة» (2/ 585)، واللالكائي في «السنة» (5/ 1013)، وإسناده جيّد. (2) ومن طريقه أخرجه الخلّال في «السنة» (1259)، والآجرّي في «الشريعة» (2/ 596 - 597). وأخرجه أيضًا عبد الله بن أحمد في «السنة» (730) عن أبيه به، وابن أبي شيبة (17936) عن يزيد بن هارون به. وإسناده صحيح. (3) سقط «أبي» من الأصل. وتفسيره أسنده الطبري في «تفسيره» (21/ 246)، والآجري في «الشريعة» (2/ 556). (4) في الأصل: «بهم» خطأ.

(3/179)


دينهم فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]». وقال إسماعيل بن عياش: حدثني صفوان بن عمرو، عن عبد الله بن ربيعة الحضرمي، عن أبي هريرة قال: «الإيمان يزداد وينقص» (1). وقال إسماعيل أيضًا: عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه، عن أبي هريرة وابن عباس قالا: «الإيمان يزداد وينقص» (2). وقال الإمام أحمد في رواية المرُّوذي (3): حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا جرير بن حازم، عن فضيل بن يسار قال: قال محمد بن علي: «هذا الإسلام» ودَوَّر دارةً، ودور في وسطها أخرى وقال: «هذا الإيمان»، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن»، قال: يخرج من _________ (1) أخرجه عبد الله بن أحمد (609)، والخلال (1118) كلاهما في «السنة»، والآجري في «الشريعة» (2/ 581 - 582)، كلهم من طريق إسماعيل بن عياش به. (2) أخرجه ابن ماجه (74)، والآجري في «الشريعة» (2/ 583)، والبيهقي في «الشعب» (52)، كلهم من طريق إسماعيل بن عياش به. إسناده واه، فإن عبد الوهاب بن مجاهد ضعيف متروك الحديث. (3) ومن طريقه أخرجه الخلّال في «السنة» (1280)، والآجري (2/ 592). وأخرجه عبد الله في «السنة» (734) عن أبيه به. وأخرجه هو (703)، والبزار (9436)، وابن المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (563) من طرق أخرى عن فضيل بن يسار به. ومحمد بن علي وهو أبو جعفر الباقر، الإمام الفقيه من سادات التابعين. والأثر طعن فيه المروزي (ص 575) لكون فضيل بن يسار رافضيًّا، وأسند عن موسى بن إسماعيل التبوذكي أنه قال: كان رجلَ سوء.

(3/180)


الإيمان إلى الإسلام ولا يخرج من (1) الإسلام، «فإذا تاب تاب الله عليه»، قال: رجع إلى الإيمان. وقال أحمد في رواية المرُّوذي (2): حدثنا يحيى بن سعيد عن أشعت عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يُنزَع منه الإيمان، فإن تاب أعيد إليه». ورواه يحيى بن سعيد عن عوف عن الحسن قوله (3)، وهو أشبه. وقال محمد بن سليمان لُوَين: سمعت سفيان بن عيينة غير مرة يقول: الإيمان قول وعمل، وأخذناه ممن قبلنا، قيل له: يزيد وينقص؟ قال: فأي شيءٍ إذًا؟! (4) وقال مرة وسئل: الإيمان يزيد وينقص؟ قال: «أليس تقرأون القرآن: {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران: 173]: في غير موضع؟ قيل: ينقص؟ قال: ليس شيء يزيد إلا وهو ينقص (5). وقال عبد الرزاق: سمعتُ سفيان الثوري ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة وابن جريج ومعمرًا يقولون: «الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص» (6). _________ (1) «الإيمان إلى الإسلام ولا يخرج من» ساقط من ط. الفقي، فانقلب المعنى. (2) ومن طريقه أخرجه الخلال في «السنة» (1269)، والآجري في «الشريعة» (2/ 598). وهو مرسل، ولكن سبق نحوه موصولًا في حديث أبي هريرة. (3) «السنة» للخلال (1268)، و «الشريعة» (2/ 599). (4) أسنده عبد الله في «السنة» (716)، والآجري (2/ 604)، وعنه ابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1249). (5) أسنده الآجرّي (2/ 605)، وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1225). (6) أسنده عبد الله في «السنة» (704)، والآجري (2/ 606)، وابن بطة (1192)، واللالكائي (1735 - 1737) من طُرق عن عبد الرزاق به.

(3/181)


وقال الحميدي: سمعت ابن عيينة يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، فقال له أخوه إبراهيم بن عيينة: يا أبا محمد لا تقُل: يزيد وينقص، فغضب وقال: اسكت يا صبي! بلى، حتى لا يبقى منه شيء (1). وقال أبو داود (2): سمعت أحمد بن حنبل يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. [وقال أبو داود (3): حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا سريج بن النعمان، حدثنا عبد الله بن نافع قال: كان مالك يقول: «الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص»] (4). وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: «الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص». ذكره الحاكم في «مناقبه» (5). وقال أبو عمرو الزبيري (6): قال رجل للشافعي: أي الأعمال عند الله _________ (1) أسنده الآجري (2/ 607) ــ وعنه ابن بطة (1237) ـــ، واللالكائي (1745). (2) في «مسائل أحمد» بروايته (ص 364)، وأسنده من طريقه الآجري (2/ 608)، وابن بطة (1193). (3) في «مسائل أحمد» (ص 365)، وأسنده عنه الآجري (2/ 608). (4) ما بين الحاصرتين من (هـ)، وليس فيها قول أحمد بن حنبل في الفقرة السابقة، وهما على التوالي في «الشريعة» للآجري، والمؤلف صادر عنه. (5) وعنه البيهقي في «مناقب الشافعي» (1/ 385) وفي «معرفة السنن» (1/ 192). (6) في الأصل: «أبو عمر النهدي»، وفي «مناقب الشافعي» المطبوع: «أبو محمد الزبيري»، والمثبت من (هـ)، ولم أتبيّن الصواب.

(3/182)


أفضل؟ قال: ما لا يُقبَل عمل إلا به. قال: وما ذاك؟ قال: الإيمان بالله هو أعلى الأعمال درجةً وأشرفها منزلةً وأسناها حظًّا. قال الرجل: ألا تخبرني عن الإيمان: قول وعمل، أو قول بلا عمل؟ قال الشافعي: الإيمان عمل لله، والقول بعض ذلك العمل، ثم احتج عليه. ذكره الحاكم عنه (1). وقال أحمد (2): حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن هشام بن عروة عن أبيه قال: ما نقصت أمانة عبد إلا نقص إيمانه. وقال وكيع: حدثنا إسرائيل، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، قال: ليزداد إيمانًا (3). وقال الإمام أحمد (4): حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن مجاهد: أن أبا ذر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان؟ فقرأ عليه: _________ (1) ومن طريق الحاكم أسنده البيهقي في «مناقب الشافعي» (1/ 387 - 388). (2) رواه عنه ابنه في «السنة» (772)، والخلال (1033)، والآجري (2/ 608 - 609) وابن بطة (1230). وأخرجه ابن أبي شيبة (30959) عن وكيع به. (3) أخرجه عبد الله (775) والخلال (1123) كلاهما في «السنة»، والآجري (2/ 610) كلهم من طريق وكيع به. وأخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 631 - 632) من طرق عن سعيد بن جبير، ولفظ بعضها: «ليزداد يقيني». (4) في «كتاب الإيمان»، ومن طريقه أخرجه الخلّال في «السنة» (1197) والآجري (2/ 616) وابن بطّة (1141)، وهو في «الجامع» لمعمر بن راشد (20110)، وأخرجه الحاكم (2/ 272) من طريق آخر عن عبد الكريم الجزري به، وقال: «صحيح على شرط الشيخين» فتعقبه الذهبي فقال: «كيف وهو منقطع؟!» أي بين مجاهد وأبي ذر. انظر: «المراسيل» لابن أبي حاتم (ص 205).

(3/183)


{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177] حتى ختم الآية. احتج به أحمد في كتاب «الرد على المرجئة» (1). ورواه جعفر بن عون عن المسعودي عن القاسم [ق 236] عن أبي ذر بمثله (2). وقال يحيى بن سليم الطائفي: قال هشام عن الحسن: «الإيمان قول وعمل»، فقلت لهشام: فما تقول أنت؟ فقال: «قول وعمل» (3). وقال الحميدي: سمعت وكيعًا يقول: «أهل (4) السنة يقولون الإيمان قول وعمل، والمرجئة يقولون: الإيمان قول، والجهمية يقولون: الإيمان المعرفة» (5). _________ (1) هو «كتاب الإيمان» كما في «الشريعة» للآجري (2/ 616)، والمؤلف صادر عنه. وهو الذي أورده الخلّال بتمامه في «كتاب السنة» من رواية المرّوذي، وسمّاه «كتاب الإيمان» و «كتاب الإرجاء». انظر: «السنة» (4/ 55، 5/ 80). (2) أخرجه الآجري في «الشريعة» (2/ 616 - 617) وابن بطة (1142) من هذا الطريق. وأخرجه إسحاق بن راهويه ــ كما في «المطالب العالية» (12/ 428) ــ، وعنه المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (408)، من طريقين آخرين عن المسعودي به. قال الحافظ ابن حجر: «هذا منقطع»، وذلك أن القاسم بن عبد الرحمن المسعودي لم يُدرك أبا ذر. (3) أخرجه الآجري في «الشريعة» (2/ 641) وابن بطة (1181). وأخرجه عبد الله في «السنة» (616، 694) وابن بطة (1191) مقتصرًا على قول الحسن. (4) في الطبعتين: «وأهل» خلافًا للأصل، وإنما فيه ضمّة على اللام مِن «يقولُ» فظنّها المحققان واوًا. (5) أسنده الآجري (2/ 640)، وابن بطة (1175)، واللالكائي (1837).

(3/184)


وصح عن الحسن أنه قال: «ليس الإيمان بالتمنّي ولا بالتحلّي، ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل» (1)، ونحوه عن سفيان الثوري (2). وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - العمل تصديقًا في قوله: «والفرج يصدّق ذلك أو يكذّبه» (3). وأما الحديث الذي رواه ابن ماجه في «سننه» (4) من حديث عبد السلام بن صالح عن علي بن موسى الرضا، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان معرفة بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأركان». قال عبد السلام بن صالح: لو قرئ هذا الإسناد على مجنون لبَرَأ= فهذا حديث موضوع ليس من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (5). قال بعض أئمة الحديث: لو قرئ هذا على مجنون لبرأ لو سَلِم من عبد السلام، وهو المتَّهم به. وفي الحق ما يغني عن الباطل، ولو كنا ممن يحتج بالباطل ويستحلّه لروَّجنا هذا الحديث وذكرنا بعض من أثنى على عبد السلام، ولكن نعوذ بالله من هذه الطريقة، كما نعوذ به من طريقة تضعيف الحديث الثابت وتعليله إذا خالف قول إمام معين، وبالله التوفيق. _________ (1) أخرجه ابن أبي شيبة (30988)، والخطابي في «غريب الحديث» (3/ 101) وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1178)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (65) من طرق عن الحسن. (2) أخرجه الآجري (2/ 606) وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1226)، ولفظه: «إن الإيمان ما وقر في الصدر وصدّقه العمل». (3) أخرجه البخاري (6243) ومسلم (2657) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (4) برقم (65). (5) انظر: «الموضوعات» لابن الجوزي (1/ 185).

(3/185)


7 - باب في القدَر 554/ 4526 - عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «القدرية مجوس هذه الأمة: إنْ مَرِضُوا فلا تَعُودوهم، وإن مَاتوا فلا تَشهَدوهم» (1). هذا منقطع، أبو حازم سلمة بن دينار لم يسمع من ابن عمر. وقد روي هذا الحديث من طرق عن ابن عمر ليس فيها شيء يثبت (2). 555/ 4527 - وعن عُمَر مولى غُفْرَةَ، عن رجل من الأنصار، عن حُذيفة ــ وهو ابن اليَمان - رضي الله عنه - ــ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لكلِّ أمةٍ مجوسٌ، ومجوسُ هذه الأمةِ: الذين يقولون لا قَدَرَ، مَن مات منهم فلا تَشهدوا جنازته، ومَن مرض منهم فلا تَعودوهم، وهُم شِيعةُ الدَّجَّال، وحَقٌّ على الله أن يُلحِقهم بالدَّجال» (3). فيه مجهول، وعمر هذا لا يُحتجّ به (4). قال ابن القيم - رحمه الله -: هذا المعنى قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر، وحذيفة، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ورافع بن خديج. _________ (1) «سنن أبي داود» (4691). (2) أي مرفوعًا، وإلا فقد صحّ عن ابن عمر موقوفًا. أخرجه عبد الله في «السنة» (935)، واللالكائي (1292)، والبيهقي في «القضاء والقدر» (410) وصحّحه. وانظر: «العلل» للدارقطني (2983) و «العلل المتناهية» (1/ 144 - 146). (3) «سنن أبي داود» (4692). (4) انظر: «مسند البزار» (2937)، و «العلل المتناهية» (1/ 151).

(3/186)


فأما حديث ابن عمر وحذيفة، فلهما طرق وقد ضُعِّفَت. وأما حديث ابن عباس، فرواه الترمذي (1) من حديث القاسم (2) بن حبيب وعلي بن نزار، عن نزار، عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صِنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: القدرية والمرجئة». قال هذا حديث غريب. ورواه (3) من حديث محمد بن بشر: حدثنا سلَّام بن أبي عمرة (4)، عن عكرمة، عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما حديث جابر، فرواه ابن ماجه في «سننه» (5) عن محمد بن _________ (1) برقم (2149)، وأخرجه ابن ماجه (62)، وابن عدي في «الكامل» (5/ 194)، ومن طريقه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 152) وقال: «هذا حديث لا يصحّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ونزار، وعلي بن نزار، والقاسم بن حبيب، وسلَّام= كلهم ليس بشيء». (2) في الأصل و (هـ): «الحسن» خطأ، والتصويب من مصادر التخريج. (3) أي الترمذي عقب الإسناد السابق. وأخرجه أيضًا ابن حبان في «المجروحين» (1/ 433)، وابن عدي في «الكامل» (3/ 309)، ومن طريقه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 152). إسناده واهٍ؛ سلام بن أبي عمرة قال ابن معين: حديثه ليس بشيء، وقال ابن حبان: يروي عن الثقات المقلوبات، لا يجوز الاحتجاج بخبره. (4) في الأصل و (هـ): «عمرو»، تصحيف. (5) برقم (92)، وأخرجه أيضًا الطبراني في «المعجم الصغير» (615)، وقال: «لم يروه عن الأوزاعي إلا بقية، تفرد به ابن مصفّى». وقد عدّ الذهبي هذا الحديث من مناكير بقية في «الميزان» (1/ 336)، على أن ابن المصفّى أيضًا متكلّم فيه، وقد حدّث ببعض المناكير، واتّهمه أبو زرعة الدمشقي بأنه يدلّس تدليس التسوية.

(3/187)


المُصفَّى: حدثنا بقية، عن الأوزاعي، عن ابن جريج، عن أبي الزبير عن جابر يرفعه، نحو حديث ابن عمر. فلو قال بقية: «حدثنا الأوزاعي» مشى حال الحديث، ولكن عنعنه مع كثرة تدليسه. وأما حديث أبي هريرة: فرواه (1) عبد الأعلى بن حماد: حدثنا معتمر بن سليمان: سمعتُ أبي يحدث عن مكحول، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فذكره. رواه عن عبد الأعلى جماعة (2). وله علتان: إحداهما: أن المعتمر بن سليمان رواه عن أبي الحُرّ (3): حدثني جعفر بن الحارث، عن يزيد بن ميسرة، عن عطاء الخراساني، عن مكحول، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (4). _________ (1) الأصل: «فروى»، والمثبت من (هـ). (2) رواه عن عبد الأعلى الفِريابيُّ في «القدر» (233)، ثم عنه الآجري (2/ 806). (3) هكذا في الأصل، وهو كذلك في مخطوطة «السنة» لابن أبي عاصم، و «القدر» للفريابي، وفي موضع من «الإبانة الكبرى». وفي الموضع الثاني وبقية المصادر: «أبو الحسن». ثم إنه قد سمِّي في بعض الروايات «زيادًا»، وفي بعضها «عليًّا»، ووصف في بعضها بأنه رجل من أهل واسط، فاستظهر الطبراني أنه علي بن عاصم الواسطي، وأغرب ابن عدي فرأى أنه يزيد بن هارون الواسطي وأن معتمرًا أخطأ في كنيته، فإنها «أبو خالد». (4) أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (351)، والفارابي في «القدر» (235) ــ وعنه الآجري (2/ 807) ــ، والطبراني في «مسند الشاميين» (2438، 3464)، وابن عدي في «الكامل» (2/ 137)، وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1631، 1633)، من طرق عن المعتمر به. والإسناد ضعيف لضعف جعفر بن الحارث الواسطي، ولجهالة الراوي عنه، مع الانقطاع بين مكحول وأبي هريرة.

(3/188)


والعلة الثانية: أن مكحولًا لم يسمع من أبي هريرة (1). وأما حديث عبد الله بن عمرو، فيرويه عمرو بن مهاجر عن عمر بن عبد العزيز، عن يحيى بن القاسم، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرٍو يرفعه: «ما هلكتْ أمة قط إلا بالشرك بالله عز وجل، وما أشركت قط إلا كان بَدْءُ إشراكها التكذيب بالقدر» (2). وهذا الإسناد لا يحتج به. وأجود ما في الباب حديث حيوة بن شريح: أخبرني أبو (3) صخر، حدثني نافع، أن ابن عمر جاءه رجل فقال: إن فلانًا يقرأ عليك السلام، فقال: إنه قد بلغني أنه قد أحدث، فإن كان قد أحدث فلا تُقرِئْه مني السلام، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يكون في هذه الأمة ــ أو أمتي (الشك منه) ــ خسف، ومسخ أو قذف في أهل القدر» (4). قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب. _________ (1) انظر: «المراسيل» لابن أبي حاتم (ص 212)، و «علل الدارقطني» (1576). على أنه قد روي الحديث متصلًا من طريق مكحول عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة، أخرجه الطبراني في «مسند الشاميين» (566)، وابن عدي في «الكامل» (6/ 316)، ولكنه واهٍ، في إسناده مسلمة بن علي الخُشني، متروك منكر الحديث. (2) أخرجه يعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» (1/ 252)، وابن أبي عاصم في «السنة» (331)، والآجري (2/ 809)، واللالكائي (1114)، كلهم من طريق محمد بن شعيب بن شابور، عن عمر بن يزيد النَّصْري، عن عمرو بن مهاجر به. إسناده ضعيف، عمر بن يزيد النَّصْري متكلم فيه، وقد أُنكر عليه هذا الحديث، ثم إن يحيى بن القاسم وأباه مجهولان. انظر: «ميزان الاعتدال» (3/ 232)، و «الضعيفة» (3398). (3) في الأصل: «ابن»، والتصحيح من «جامع الترمذي» وكتب الرجال. (4) أخرجه الترمذي (2152) وصححه، وابن ماجه (4061)، والبزار (5953). في إسناده أبو صخر حميد بن زياد المدني، مختلف فيه، وقد تفرّد به عن نافع، وليس يُحتَمل مِن مثله التفرّد بمثل هذا، ولذا عدّه ابن عدي ممّا أُنكِر عليه مع حديث آخر، ثم قال: وسائر حديثه أرجو أن يكون مستقيمًا. تنبيه: الكلام إنما هو على القَدْر المرفوع، وأما براءة ابن عمر من أهل القدر فثابتة من غير وجه، وسيأتي في حديث جبريل الآتي.

(3/189)


والذي صحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذمهم من طوائف أهل البدع: الخوارج، فإنه قد ثبت فيهم الحديث من وجوه كلها صحاح، لأن مقالتهم حدثت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلَّمَه رئيسُهم (1). وأما الإرجاء، والرفض، والقدر، والتجهم، والحلول، وغيرها من البدع، فإنها حدثت بعد انقراض عصر الصحابة (2). وبدعة القدر أدركت آخر عصر الصحابة فأنكرها من كان منهم حيًّا، كعبد الله بن عمر، وابن عباس، وأمثالهما (3). وأكثر ما يجيء من ذمهم فإنما هو موقوف على الصحابة قولهم فيه. ثم حدثت بدعة الإرجاء بعد انقراض عصر الصحابة فتكلم فيها كبار _________ (1) هو ذو الخويصرة التميمي الذي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم مالًا: اتَّقِ الله واعدِلْ! أخرجه البخاري (3344، 3610، 4351، 6163) ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (2) كذا، ولعله سبق قلم، والصواب: «عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -»، إذ سيأتي أن بدعة القدر أدركت عصر الصحابة. (3) أخرجه عن ابن عباس وابن عمر: عبد الله في «السنة» (898 - 903)، وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1720 - 1762) من وجوه صحاح وحسان، وأما عن غيرهما فأخرجه ابن بطة (1763 - 1769) عن عبد الله بن عمرو، وشداد بن أوس، وأبي سعيد الخدري، وفي أسانيدها مقال.

(3/190)


التابعين الذين أدركوها كما حكيناه عنهم. ثم حدثت بدعة التجهُّم بعد انقراض عصر التابعين، واستفحل أمرها، واستطار شَرارها في زمن الأئمة كالإمام أحمد وذويه. ثم حدثت بعد ذلك بدعة الحلول، وظهر أمرها في زمن الحلّاج (1). وكلما ظهرت (2) بدعة من هذه البدع وغيرها أقام الله لها مِن حزبه وجنده من يردها ويُحذِّر المسلمين منها نصيحةً لله ولكتابه ولرسوله [ق 237] ولأهل الإسلام، وجعله ميزانًا ومحكًّا يعرف به حزب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولي سُنّته مِن حزب البدعة وناصرها. وقد جاء في أثر لا يحضرني إسناده: «إن لله عند كل بدعة يُكاد بها الإسلام وليًّا ينطق بعلاماته، فاغتنموا تلك المجالس، وتوكلوا على الله، فإن الرحمة تنزل عليهم» (3). _________ (1) وذلك في المائة الرابعة، فإن الحسين بن منصور الحلّاج قُتِل على الزندقة سنة 309. انظر: «تاريخ بغداد» (8/ 688 - 720)، و «السِّيَر» (14/ 313 - 354)، و «لسان الميزان» (3/ 211 - 212). (2) ط. الفقي: «أظهر الشيطان» خلافًا للأصل. (3) أخرجه العقيلي في «الضعفاء» (4/ 32)، وأبو نعيم في «الحلية» (10/ 400)، والهروي في «ذم الكلام» (675)، كلهم من طريق أبي الصلت عبد السلام بن صالح، عن عباد بن العوام، عن عبد الغفّار المدني، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة مرفوعًا بنحوه. لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، عبد السلام بن صالح ضعيف له مناكير، وعبد الغفّار المدني مجهول إلا إذا كان هو ابن القاسم الأنصاري المتّهم بالوضع. انظر: «ميزان الاعتدال» (2/ 640)، و «الضعيفة» (869). وأخرجه ابن وضاح القرطبي في «البدع والنهي عنها» (ص 4) عن ابن مسعود موقوفًا عليه، وإسناده منقطع معضل.

(3/191)


نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، وأن يُلحِقنا بهم، وأن يجعلنا لهم خلفًا، كما جعلهم لنا سلفًا، بمنه وكرمه. 556/ 4530 - وعن يحيى بن يَعْمَر قال: كان أولَ من تكلَّم في القدر بالبصرة مَعبدٌ الجُهَنيُّ، فانطلقت أنا وحُميد بن عبد الرحمن الحِمْيَري حاجَّيْن أو مُعْتَمرين، فقلنا: لو لَقِينا أحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألناهُ عَمَّا يقول هؤلاء في القدر؟ فوفَّقَ الله لنا عبد الله بن عمر داخلًا في المسجد، فاكْتَنَفْتُه أنا وصاحبي، فظننتُ أنَّ صاحبي سَيَكِلُ الكلامَ إليَّ، فقلت: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظَهَر قِبَلَنا ناسٌ يقرأون القرآن ويتقَفَّرون العلم (1)، يزعمون أن لا قَدَر والأمرَ أنُفٌ، فقال: إذا لقيتَ أولئك فأخبرهم أنِّي بَريءٌ منهم، وهم بُرآءُ مِنِّي، والذي يَحْلِف به عبد الله بن عمر لو أنَّ لأحَدِهم مثلَ أحُدٍ ذهبًا فأنفقه ما قَبِلَهُ الله منه حتى يُؤمن بالقدَرِ، ثم قال: حَدَّثني عمر بن الخطاب، قال: بَيْنا نحنُ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ طَلَع علينا رجلٌ شديدُ بياضِ الثيابِ شديدُ سوادِ الشَّعَر، لا يُرَى عليه أثَرُ السَّفر ولا يَعرفُه منا أحدٌ، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسْنَدَ رُكبتيه إلى رُكبتيه ووضع كَفّيه على فَخِذَيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الإسلام: أن تشهدَ أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيمَ الصلاة، وتؤتيَ الزكاةَ، وتصومَ رمضان، وتَحُجَّ البيتَ إن استطعتَ إليه سبيلًا». قال: صدقتَ، قال: فَعجِبنا له يسألُه ويُصَدِّقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: «أن تؤمنَ بالله وملائكته _________ (1) «يتقفّرون» هكذا في مطبوعة «المختصر» ومخطوطته بتقديم القاف، أي يطلبون العلم ويتتبعونه، يقال: «قفر الأثر، واقتفره، وتقفّره» إذا اقتفاه وتتبّعه. وفي بعض نسخ «السنن» و «صحيح مسلم»: «يتفقّرون» بتقديم الفاء، أي يتعمّقون فيه ويستخرجون غامضه، مِن قولهم: «فَقَر البئرَ» إذا حفرها لاستخراج مائها، و «الفُقرة»: الحفرة في الأرض. انظر: «شرح مسلم» للنووي (1/ 155)، و «عون المعبود» (12/ 301)، و «تاج العروس» (قفر، فقر).

(3/192)


وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدَر خيرِه وشَرِّه». قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: «أن تعبد الله كأنَّك تراه، فإن لم تراه فإنه يراك». قال: فأخبرني عن الساعة، قال: «ما المسؤول عنها بأعلَمَ من السائل». قال: فأخبرني عن أمارَتها، قال: «أن تلدَ الأمةُ رَبَّتَها، وأن تَرَى الحُفاةَ العُراة العالةَ رِعاءَ الشَّاءِ يتطاوَلُون في البنيان». قال: ثم انطلقَ، فلَبِثْتُ مَليًّا، ثم قال: «يا عمر، تَدري مَن السائلُ؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنه جبريلُ أتاكم يُعَلِّمُكم دينَكم». وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (1). 557/ 4531 - وعن يحيى بن يَعْمَر وحُميد بن عبد الرحمن، قالا: لقينا عبد الله بن عمر فذكرنا له القَدَر، وما يقولون فيه ــ فذكر نحوه، زاد ــ قال: وسأله رجلٌ من مُزَينة أو جُهَينة، فقال: يا رسول الله، فيما نعملُ: أفي شيء قد خلا أو مضَى، أو شيءٍ يُستأنف الآن؟ قال: «في شيء قد خلا ومضَى»، فقال الرجل أو بعضُ القوم: ففيمَ العمل؟ قال: «إنَّ أهلَ الجنةِ يُيَسَّرون لعملِ أهلِ الجنة، وإنَّ أهل النار يُيَسَّرون لعمل أهل النار» (2). 558/ 4532 - وعن ابن يعمر بهذا الحديث يزيد وينقص، قال: «فما الإسلام؟ قال: إقامُ الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحَجُّ البيتِ، وصوم شهر رمضان، والاغتسال من الجنابة». قال أبو داود: علقمة مُرْجِئ. هذا آخر كلامه. _________ (1) أبو داود (4695)، ومسلم (8)، والترمذي (2610)، والنسائي (4990)، وابن ماجه (63). (2) «سنن أبي داود» (4696). وأخرجه أيضًا الفريابي في «القدر» (212)، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 383 - 384) وصححه، والضياء في «المختارة» (1/ 328 - 329).

(3/193)


وعلقمة هذا هو راوي هذا الحديث، وهو علقمة بن مَرثَد الحضرمي الكوفي. وقد اتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج بحديثه. قال ابن القيم - رحمه الله -: ورواه أبو جعفر العقيلي (1) من طريقه، وقال فيه: فما شرائع الإسلام؟ قال: «تقيم الصلاة ... » الحديث. وتابعه على هذا اللفظ مرجئ آخر، وهو جراح بن الضحاك، قاله العقيلي (2). وهذه زيادة مرجئ تفرد بها عن الثقات الأئمة فلا تقبل. ورواه ابن حبان في «صحيحه» (3) من حديث سليمان التيمي، عن _________ (1) في «الضعفاء» (3/ 460) من طريق عبد العزيز بن أبي رَوَّاد، عن علقمة بن مرثد به. (2) هذا الاختصار من المؤلف يوهم أن جرّاح بن الضحاك تابع علقمة بن مرثد، وليس كذلك، وإنما اختُلف على علقمة في هذا الحديث، فرواه سفيان الثوري عنه بلفظ: «فما الإسلام؟» كما سبق في حديث الباب، وخالفه ابن أبي رَوَّاد وجرّاح ــ وهو مرجئ ــ فرواه عن علقمة بلفظ: «فما شرائع الإسلام؟»، وهذا اللفظ أوفق لاعتقاد المرجئة حيث لم يُذكر فيه الشهادتين وجُعلت المباني شرائعَ للإسلام، لا أنها هي الإسلام نفسه فينتفي بانتفائها. وأخرج العقيلي هذا الحديث في ترجمة ابن أبي روَّاد بعد أن ذكر طعن الأئمة فيه بالإرجاء، ثم قال: «وتابعه على هذه اللفظة أبو حنيفة وجرّاح بن الضحّاك، وهؤلاء مرجئة». وذكر مسلم في «التمييز» (ص 156) راويًا رابعًا ــ وهو سعيد بن سنان الكوفي ــ تابع هؤلاء المرجئة على زيادة هذه اللفظة، وطعَن مسلم في رواية جميعهم لمخالفتها رواية سفيان الثوري وعطاء بن السائب عن علقمة بلفظ: «ما الإسلام؟». ولكن ظاهر كلام أبي داود الذي تقدّم: «وعلقمة مرجئ» يقتضي أنه جعل الحمل على علقمة نفسه في هذا الاختلاف عنه، فلعله رواه مرة بذكر الشرائع ومرة دونها، وهو الأشبه، فإنه يَبعد أن يكون توارَد كلُّ هؤلاء المرجئة ــ وأكثرهم صدوق ــ على زيادة نفس اللفظة دون أن يكونوا سمعوها من علقمة. والله أعلم. (3) برقم (173)، عن شيخه ابن خزيمة، وهو أول حديث في «صحيحه». وقد أخرجه مسلم (8/ 4) في المتابعات من هذا الطريق، ولكن لم يسُق لفظه بل اكتفى بقوله: «بنحو حديثهم».

(3/194)


يحيى بن يعمر، فذكر فيه ألفاظًا لم يذكرها غيره، فقال في الإسلام: «وتحج، وتعتمر وتغتسل من (1) الجنابة وأن تتم الوضوء»، وقال فيه: فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: «نعم» وقال في الإيمان: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وتؤمن بالجنة والنار والميزان ... » وذكر البعث والقدر، ثم قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال: «نعم»، وقال في الإحسان: وإذا فعلت ذلك فأنا محسن؟ قال: «نعم»، وقال في آخره: «هذا جبريل أتاكم ليعلمكم دينكم، خذوا عنه». قال أبو حاتم: تفرد سليمان التيمي بهذه الألفاظ. 559/ 4544 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ــ وهو الصادق المصدوق ــ: «إنَّ خلق أحدِكم يُجمَع في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون عَلَقةً مثل ذلك، ثم يكون مُضغَةً مثل ذلك، ثم يُبعَث إليه مَلَكٌ فيؤمَر بأربع كلمات: فيَكتب رزقَه وأجله وعمله، ثم يكتب شَقِيٌ أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإنَّ أحدكم ليعملُ بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ــ أو قِيدُ ذراع ــ فيَسبِقُ عليه الكتابُ فيعملُ بعمل أهل النار فيدخلُها، وإنَّ أحدَكم ليعملُ بعمل أهلِ النار حتى ما يكونَ بينه وبينها إلا ذراع ــ أو قِيدُ ذراعٍ ــ فيسبق عليه الكتاب فيعملُ بعملِ أهل الجنة فيدخلها». وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه (2). _________ (1) في الأصل: «عن»، تصحيف. (2) أبو داود (4708)، والبخاري (3332)، ومسلم (2643)، والترمذي (2137)، وابن ماجه (76).

(3/195)


560/ 4545 - وعن عمران بن حُصين قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، أَعُلِمَ أهلُ الجنة من أهلِ النار؟ قال: «نعم»، قال: ففيمَ يعملُ العاملون؟ قال: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِق له». وأخرجاه (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى مسلم في «صحيحه» (2) عن حذيفة بن أُسَيد يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يدخل الملَكُ على النطفة بعد ما تستقرُّ في الرحم بأربعين ــ أو خمس وأربعين ــ ليلةً فيقول: يا رب، أشقي أو سعيد؟ فَيُكتَبان، فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيُكتَبان، ويُكتَب عمله، وأثره، وأجله، ورزقه، ثم تُطْوى (3) الصحف، فلا يُزاد فيها ولا يُنقَص». وفي «الصحيحين» (4) عن أنس بن مالك ــ ورفع الحديث ــ قال: «إن الله قد وكَّل بالرحِم ملَكًا، فيقول: أَيْ ربِّ نطفة، أَيْ رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد الله أن يقضي خلقًا قال الملك: أي ربِّ ذكر أو (5) أنثى؟ شقي أو سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب ذلك في بطن أمه». وهذا مثل حديث ابن مسعود أن كتابة الأجل والشقاوة والسعادة والرزق في الطَّور الرابع. وحديث حذيفة بن أسيد يدل على أن الكتابة في _________ (1) أبو داود (4709)، والبخاري (7551)، ومسلم (2649). (2) برقم (2644). (3) ط. الفقي: «تكتب»، خطأ. (4) البخاري (6595) ومسلم (2646). (5) الأصل: «أم»، والمثبت من (هـ) موافق للفظ مسلم.

(3/196)


الطور الأول. وقد روي حديث حذيفة بلفظ آخرَ يتبين المراد منه وأن (1) الحديثين واحد، وأنهما متصادقان لا متعارضان. فروى مسلم في «صحيحه» (2) عن عامر بن واثلة أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: «الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره»، فأتى رجلًا (3) من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال له حذيفة بن (4) أسيد الغفاري، فحدثه بذلك من قول ابن مسعود فقال: وكيف يشقى بغير عمل؟ فقال الرجل: أتعجب من ذلك؟ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكًا فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب، أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربُّك ما شاء ويكتب الملَك، ثم يقول: يا رب، أجله؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضي ربُّك ما شاء ويكتب الملَك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على ما أُمِر ولا يَنقص». وفي لفظ آخر عنه (5): سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأُذُنَيَّ هاتين يقول: «إن النطفة تقع في الرَّحِم أربعين ليلة، ثم يَتَصوَّر عليها الملك ــ قال زهير بن معاوية: حسبته قال: الذي يُخلِّقُها ــ فيقول: يا رب، أذكر أم أنثى؟ فيجعله الله ذكرًا أو أنثى، ثم يقول: يا رب، أسوِيٌّ أو غير سوِيّ؟ فيجعله الله سوِيًّا، أو غير _________ (1) (هـ): «بيَّن المراد منه بأن». (2) برقم (2645/ 3). (3) في الطبعتين: «رجلٌ»، خطأ. (4) الأصل: «بن أبي»، خطأ. (5) عند مسلم (2645/ 4) أيضًا.

(3/197)


سوِيّ، ثم يقول: يا رب، ما رزقه؟ ما أجله؟ ما خلقه؟ ثم يجعله [اللهُ] شقيًا أو سعيدًا». وفي لفظ آخر (1): «أن ملكًا موكلًا بالرحم إذا أراد الله أن يخلُقَ شيئًا بإذن الله لبضع وأربعين ليلة» ثم ذكر نحوه. فدل حديث حذيفة على أن الكتابة المذكورة وقت تصويره وخَلْقِ جلده ولحمه وعظمه، وهذا مطابق لحديث ابن مسعود، فإن هذا التخليق هو في الطور الرابع، وفيه وقعت الكتابة. فإن قيل: فما تصنع بالتوقيت فيه بأربعين ليلة؟ قلت: التوقيت فيه بيان أنها قبل ذلك لا يتعرّض لها، ولا يتعلّق بها تخليق ولا كتابة، فإذا بلغت الوقت المحدود وجاوزت الأربعين وقعت في أطوار التخليق طبقًا بعد طبق، ووقع حينئذ التقدير والكتابة، وحديث ابن مسعود صريح بأن وقوع ذلك بعد كونه مضغةً بعد الأربعين الثالثة، وحديث حذيفة فيه أن ذلك بعد الأربعين، ولم يُوقِّت البَعْديّة بل أطلقها، ووقّتها في حديث ابن مسعود. وقد ذكرنا أن حديث حذيفة دال أيضًا على ذلك. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن تكون الأربعون المذكورة في حديث [ق 238] حذيفة هي الأربعين الثالثة، وسمّي الحملُ فيها نطفة، إذ هي مبدؤه الأول. وفيه بعد، وألفاظ الحديث تأباه. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن التقدير والكتابة تقديران وكتابتان، فالأول منهما عند ابتداء تعلق التحويل والتخليق في النطفة وهو إذا مضى عليها _________ (1) بالرقم السابق.

(3/198)


أربعون، ودخلت في طور العَلَقة، وهذا أول تخليقه. والتقدير الثاني والكتابة الثانية: إذا كَمُل تصويره وتخليقه، وتقدير أعضائه، وكونه ذكرًا أو أنثى في الخارج، فيُكتَب مع ذلك عَمَلُه ورزقه وأجله، وشقاوته وسعادته. فلا تنافي بين الحديثين، والحمد لله رب العالمين، ويكون التقدير الأول تقديرًا لما يكون للنطفة بعد الأربعين، فيقدر معه السعادة والشقاوة، والرزق والعمل، والتقدير الثاني تقديرٌ (1) لما يكون للجنين بعد تصويره، فيقدّر معه ذلك ويكتب أيضًا، وهذا التقدير أخص من الأول (2). ونظير هذا: أن الله سبحانه قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم يقدر ليلة القدر ما يكون من العام لمثله، وهذا أخص من التقدير العام، كما أن تقدير أمر النطفة وشأنِها يقع بعد تعلقها بالرحم، وقد قدّر أمرها قبل خلق السموات والأرض. ونظير هذا: رفع الأعمال وعرضها على الله تعالى، فإن عمل العام يرفع في شعبان كما أخبر به الصادق المصدوق أنه: «شهر ترفع فيه الأعمال، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم» (3)، ويُعرَض عمل الأسبوع يوم الاثنين والخميس كما ثبت ذلك في «صحيح مسلم» (4)، وعمل اليوم يُرفَع في آخره _________ (1) كذا في الأصل، وفي الطبعتين بالنصب. (2) ذكر المؤلف هذا المعنى أيضًا في «طريق الهجرتين» (1/ 156 - 158)، و «شفاء العليل» (1/ 262 - 263) ط. الصميعي. (3) أخرجه أحمد (21753)، والنسائي (2357)، وابن أبي شيبة (9858) من حديث أسامة بن زيد. حسَّن إسناده البوصيري في «إتحاف الخيرة المهرة» (3/ 84)، واختاره الضياء (4/ 108 - 109). (4) برقم (2565/ 36) من حديث أبي هريرة.

(3/199)


قبل الليل، وعمل الليل في آخره قبل النهار (1). فهذا الرفع في اليوم والليلة أخص من الرفع في العام، وإذا انقضى الأجل رفع عمل العمر كله، وطويت صحيفة العمل. وهذه المسائل من أسرار مسائل القضاء والقدر. فصلوات الله وسلامه على هادي الأمة، وكاشفِ الغمة؛ الذي أوضح به المحجة، وأقام به الحجة؛ وأنار (2) به السبيل، وأوضح به الدليل. ولله درُّ القائل (3): أحيا القلوبَ محمدٌ لما أتى ... ومضى فنابت بعده أنباؤه (4) كالوَرد رَاقَك ريحُه وشَمِيمُه ... وإذا تولى ناب عندك ماؤه (5) وقد روى مسلم في «صحيحه» (6) عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء». وفي «صحيحه» (7) أيضًا عنه: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن قلوب _________ (1) كما ثبت من حديث أبي موسى عند مسلم (179). (2) (هـ): «أبان». (3) «در» من (هـ). ولم أهتد إلى قائله. (4) «فنابت» في الطبعتين: «فناءت» خلافًا لرسم الأصل، وهو يعكس المراد. «أنباؤه» في ط. الفقي: «أمناؤه» خلافًا للأصل. (5) «وشميمه» في ط. الفقي: «فشممته»، وط. المعارف: «وشممته» خلافًا للأصل. «عندك» في الأصل والطبعتين: «عنه»، والمثبت يستقيم به الوزن. (6) برقم (2653). (7) برقم (2654).

(3/200)


بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يُصرِّفُه حيث يشاء»، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم مصرِّفَ القلوب صرِّف قلوبَنا على طاعتك». وفي «صحيحه» (1) أيضًا عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل شيء بقَدَرٍ حتى العجزُ والكَيْس ــ أو الكيس والعجز ــ». وفي «الصحيحين» (2) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله كتب على ابن آدم حظَّه مِن الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تَمنَّى وتشتهي، والفرج يُصَدِّق ذلك أو يكذبه». وفي «صحيح البخاري» (3) عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما استخلف الله خليفة إلا له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضّه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله». وفي «صحيح مسلم» (4) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن القويّ خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرِص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تَعْجِز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلتُ لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن «لو» تفتح عملَ الشيطان». _________ (1) برقم (2655). (2) البخاري (6243)، ومسلم (2657). (3) برقم (6611). (4) برقم (2664).

(3/201)


وفي «صحيحه» (1) أيضًا عن عبد الله بن مسعود قال: قالت أم حبيبة: «اللهم متعني بزوجي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية»، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنك سألت الله لآجال مضروبة، وآثار موطوءة، وأرزاق مقسومة، لا يُعجَّل منها شيء قبل حِلِّه، ولا يؤخَّر منها شيء بعد حله، ولو سألتِ الله أن يعافيك من عذاب في النار وعذاب في القبر كان خيرًا لك». وفي «سنن ابن ماجه» (2) من حديث عبد الأعلى بن أبي المساور عن الشعبي قال: لما قدم عدي بن حاتم الكوفة أتيناه في نفر من فقهاء أهل الكوفة فقلنا له: حدِّثْنا ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا عدي بن حاتم أسلِمْ تسلَم»، قلت: وما الإسلام؟ قال: «تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وتؤمن بالأقدار كلها، خيرِها وشرها، وحُلْوِها ومرها». وفي «سننه» (3) أيضًا من حديث مجاهد عن سُراقة بن جُعْشُم قال: قلت: يا رسول الله، أنعمل فيما جفَّ به القلم وجرت به المقادير، أم في أمر مستقبل؟ قال: «بل فيما جف به القلم وجرت به [ق 239] المقادير، وكلٌّ مُيسَّر لما خلق له». _________ (1) برقم (2663/ 33). (2) برقم (87)، وإسناده ضعيف جدًّا، فيه عبد الأعلى بن أبي المساور متروك منكر الحديث. (3) برقم (91)، وفي إسناده ضعف، ولكن صحّ عند مسلم (2648) من حديث أبي الزبير عن جابر قال: جاء سراقة بن مالك بن جعشم قال: يا رسول الله ... إلخ بنحوه.

(3/202)


وفي «صحيح البخاري» (1) عن الحسن قال: حدثنا عمرو بن تَغلِب قال: أتى النبيَ - صلى الله عليه وسلم - مالٌ، فأعطى قومًا ومنع آخرين، فبلغه أنهم عَتَبوا، فقال: «إني أعطي الرجل وأَدَعُ الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي؛ أعطي أقوامًا لما في قلوبهم من الجزع والهلع، وأَكِل أقوامًا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب»، فقال عمرو: ما أحب أن لي بكلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُمْرَ النعم. وفي «الصحيحين» (2) حديث عمران بن حصين قال: إني عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه قوم من بني تميم فقال: «اقبَلوا البشرى يا بني تميم»، قالوا: بشَّرتَنا فأعطنا، فدخل ناس من أهل اليمن فقال: «اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، إذ لم يقبلها بنو تميم»، قالوا: قبلنا، جئناك لنتفقّه في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان؟ قال: «كان الله ولم يكن شيء قبلَه، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذِّكْر كلَّ شيء ... » الحديث. وعن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأشجِّ عبد القيس: «إن فيك لخَلَّتين يحبهما الله: الحِلْمُ والأناة»، قال: يا رسول الله، خلَّتين تخلّقتُ بهما، أم جُبِلت عليهما؟ قال: «بل جُبلتَ عليهما». قال: الحمد لله الذي جبلني على خلَّتين يحبهما الله (3). _________ (1) برقم (923، 3145، 7535). (2) البخاري (7418)، ولم يُخرجه مسلم. (3) أخرجه مسلم (17/ 25) من حديث ابن عباس مختصرًا. وأخرجه أحمد (24009/ 54) وأبو داود (5225) بأتم منه بنحو اللفظ المذكور من حديث أم أبان هند بنت الوازع بن زارع عن أبيها ــ أو عن جدّها ــ وكان في وفد عبد القيس. وأخرجه ابن حبان (7203) من حديث الأشجّ نفسه. وكلا الإسنادين حسن في المتابعات.

(3/203)


وقال أبو هريرة: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: «جفَّ القلم بما أنت لاقٍ». رواه البخاري تعليقًا (1). وفي «صحيح مسلم» (2) عن طاوس قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل شيء بقَدَر، حتى العجزُ والكيس، ــ أو الكيس والعجز ــ». وذكر البخاري (3) عن ابن عباس في قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61]، قال: «سَبَقت لهم السعادة». وفي «الصحيحين» (4) عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يأتي ابنَ آدم النذرُ بشيءٍ لم يكن قد قدَّرْتُه، ولكن يُلقيه القَدَر، وقد قدرتُه له، أستخرجُ به من البخيل». _________ (1) في كتاب القدر، بابٌ: جفّ القلم على علم الله. وقد وصله البخاري في النكاح (5076) بأطول منه. وانظر: «تغليق التعليق» (4/ 396). (2) برقم (2655)، وقد تقدّم قريبًا. (3) في كتاب القدر، باب: جفّ القلم على علم الله، ووصله الطبري (17/ 72) من رواية علي بن أبي طلحة عنه. (4) البخاري (6609). ولم يخرجه مسلم من رواية همام بن منبّه، وإنما أخرجه (1640) من رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة، ومن رواية الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

(3/204)


وفي لفظ للبخاري (1): «لا يأتي ابنَ آدم النذرُ بشيء لم يكن قُدِّر له، ولكن يلقيه النذر إلى القَدَر قد قُدِّر له (2)، فيَستخرِج الله به من البخيل، فيؤتي عليه ما لم يكن يؤتي عليه من قبل». وفي لفظ في «الصحيحين» (3) عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «النذر لا يُقرِّب من ابن آدم شيئًا لم يكن الله قدَّره له، ولكن النذر يوافق القدر، فيُخرَج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيلُ يريد أن يُخرج». هذه الأحاديث في النذر والقدر أدخلها البخاري في كتاب القدر، وهي إنما تدل على القَدَر الذي لا يتعلق بقدرة العبد ومشيئته، والكلام فيه إنما هو مع (4) غلاة القدرية المنكرين لتقدُّم العلم والكتاب. وأما القدرية المنكرون لخلق الأفعال، فلا يُحتَجُّ عليهم بذلك، والله أعلم. وقد نظرتُ في أدلة إثبات القدر والرد على القدرية المجوسية فإذا هي تقارب خمسمائة دليل، وإن قدر الله تعالى أفردت لها مصنّفًا مستقلًّا (5)، وبالله عز وجل التوفيق. _________ (1) (6694) من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. (2) في الأصل: «قد قدرته»، تصحيف. (3) حديث ابن عمر أخرجه البخاري (6608، 6692، 6693) ومسلم (1639)، ولكن اللفظ المذكور هو لفظ حديث أبي هريرة عند مسلم (1640/ 7). (4) ط. الفقي: «من» خلافًا للأصل. (5) لعله كتاب «شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل»، فإن أدلة إثبات القدر منتشرة في مباحثه.

(3/205)


8 - باب في ذَراريِّ المشركين 561/ 4546 - عن ابن عباس ــ وهو عبد الله ــ - رضي الله عنهما - أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن أولاد المشركين، فقال: «الله أعلمُ بما كانوا عاملين». وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (1). 562/ 4547 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلتُ: يا رسول الله، ذَراريُّ المؤمنين؟ فقال: «مِن آبائهم»، فقلت: يا رسول الله، بلا عمل؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين»، قلت: يا رسول الله، فذرَارِي المشركين؟ قال: «مِن آبَائهِم»، قلت: بلا عمل؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: حديث عائشة: «قلت يا رسول الله ... » من رواية عبد الله بن أبي قَيس مولى غُطَيف (3) عنها، وليس بذاك المشهور (4). _________ (1) أبو داود (4711)، والبخاري (6591)، ومسلم (2660)، والنسائي (1951، 1952). (2) «سنن أبي داود» (4712)، وكذا أخرجه أحمد (24545)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (1/ 58)، من طرق عن عبد الله بن أبي قيس، عن عائشة - رضي الله عنها -. (3) كذا في الأصل، وظنّه محقق ط. المعارف تصحيفًا، وليس كذلك إذ هو هكذا في «المسند» (24545)، و «التاريخ الكبير» للبخاري (5/ 173)، و «الثقات» لابن حبان (5/ 44)، و «العلل المتناهية» (2/ 443)، والأصول الخطية من «الإصابة» (7/ 201 - الهامش)، ولعله هو الصواب. وفي مطبوعة كلٍّ من «الجرح والتعديل» (5/ 140)، و «تهذيب الكمال» (4/ 246)، و «تهذيب التهذيب» (5/ 365): «عطيّة»، وكذا هو في موضعٍ من «الإصابة» (7/ 187). وهو الذي أَثبته محقق ط. المعارف. (4) كذا قاله ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 444)، ولعل المؤلف صادر عنه، وفي إعلال ابن الجوزي الحديثَ به نظر، فإن عبد الله بن أبي قيس وثَّقه العجلي والنسائي وابن حبان، وقال أبو حاتم الرازي: «صالح الحديث»، وأخرج له مسلم.

(3/206)


ورواه عمر بن ذَرّ عن يزيد بن أبي أمية: أن البراء بن عازب (1) أرسل إلى عائشة يسألها عن الأطفال؟ فقالت: ... الحديث. هكذا قال مسلم بن قتيبة عن عمر (2)، وقال غيره: عن عمر بن ذر عن يزيد عن رجل عن البراء (3). وأما ما رواه أبو عَقِيل يحيى بن (4) المتوكل عن بُهَيَّة عنها أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أولاد المسلمين: أين هم؟ قال: «في الجنة»، وسألته عن _________ (1) كذا في الأصل والطبعتين، وكذا في «طريق الهجرتين» (2/ 847) و «أحكام أهل الذمة» (2/ 1095)، وهو وهم وخطأ، والصواب: «عن يزيد بن أمية أن عازبًا»، كما في «التاريخ الكبير» (8/ 319)، و «العلل المتناهية» (2/ 442). وعازب هذا ليس والد البراء، بل والدُ غُطيفٍ مولى عبد الله بن أبي قيس مِن فوق، فهو «غُطَيف بن عازب بن عُفَيف»، وقيل: إن عازبًا وعُفيفًا اسمان لأبيه، فقد روى البخاري في «التاريخ الكبير» (5/ 173) أنه كان اسمه «عازبًا» وسمّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - «عُفيفًا». والظاهر أن قوله: «أن عازبًا أرسل إلى عائشة» أيضًا وهم من بعض الرواة في اسم المرسِل، فإن المرسَل هو عبد الله بن أبي قيس، والذي أرسله هو مولاه غُطيف بن عازبٍ، لا أبوه عازب، والله أعلم. وانظر: «الإصابة» (7/ 201). (2) أخرجه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 442) من هذا الطريق. و «مسلم» هكذا في الأصل و «العلل»، وهو خطأ وصوابه: «سَلْم» كما يتبيّن بمراجعة كتب الرجال، وشرحه يطول. وأخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (8/ 319) من طريق أبي نُعيم (الفضل بن دكين) عن عمر بن ذر به. (3) أخرجه البخاري في «التاريخ» (8/ 320) من طريق عبد الله بن داود الخُرَيبي، عن عمر بن ذر به. قال البخاري: «والأول أصح»، يعني رواية أبي نعيم عن عمر السابقة. (4) في الأصل: «عن ابن»، تصحيف، وهو على الصواب في «أحكام أهل الذمة» (2/ 1092) و «طريق الهجرتين» (2/ 846) للمؤلف.

(3/207)


أولاد المشركين أين هم يوم القيامة؟ قال: «في النار»، فقلت: لم يدركوا الأعمال، ولم تجرِ عليهم الأقلام؟ قال: «ربك أعلم بما كانوا عاملين، والذي نفسي بيده، لو شئتِ أسمعتك تَضاغِيَهم في النار» (1) = فحديث واهٍ، يُعرَف به واهٍ، وهو أبو عَقِيل. 563/ 4548 - وعنها - رضي الله عنها - قالت: أُتِيَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بصَبي من الأنصار يُصلِّي عليه، قلتُ: يا رسولَ الله، طُوبى لهذا، لم يعمل شرًا ولم يدرِ به، فقال: «أَوَ غير ذلكِ يا عائشة؟ إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلًا، وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلًا، وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم». وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه (2). 564/ 4549 - وعن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ مولودٍ يُولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه ويُنصِّرانه، كما تَناتَجُ الإبلُ من بهيمةٍ جَمعاءَ، هل تُحِسُّ فيها مِن جدْعَاءَ؟» قالوا: يا رسول الله أفرأيت مَن يموت وهو صغير؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين». وأخرجه البخاري ومسلم (3) بمعناه من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة. 565/ 4550 - وعن ابن وهب ــ وهو عبد الله ــ قال: سمعت مالكًا قيل له: إن أهل الأهواء يحتجُّون علينا بهذا الحديث، قال مالك: احتجَّ عليهم بآخره: _________ (1) أخرجه أحمد (25743) مختصرًا، وابن عدي في «الكامل» (2/ 71، 7/ 206)، ومن طريقه ابنُ الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 422)، من طرق عن أبي عَقيل به. (2) أبو داود (4713)، ومسلم (2662)، والنسائي (1947)، وابن ماجه (82). (3) أبو داود (4714)، والبخاري (1359)، ومسلم (2658).

(3/208)


«قالوا: أرأيتَ مَن يموت وهو صغير؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين» (1). 566/ 4551 - وعن حجَّاج بن المنهال، قال: سمعت حمَّاد بن سلمة يُفسِّر حديثَ: «كل مولودٍ يولَد على الفطرة» قال: هذا عندنا حيث أخذَ الله عليهم العهد في أصلابِ آبائهم، حيث قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] (2). 567/ 4552 - وعن عامر ــ وهو الشَّعبي ــ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الوائدةُ والموءودة في النار». قال يحيى ــ وهو ابن زكريا بن أبي زائدة ــ قال أبي: فحدثني أبو إسحاق ــ يعني السبيعي ــ: أن عامرًا حدثه بذلك عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (3). 568/ 4553 - وعن أنس ــ وهو ابن مالك - رضي الله عنه - ــ أن رجلًا قال: يا رسول الله، أين أبي؟ قال: «أبوك في النار»، فلما قَفَّى قال: «إن أبي وأباكَ في النار». وأخرجه مسلم (4). _________ (1) «سنن أبي داود» (4715). (2) «سنن أبي داود» (4716). (3) «سنن أبي داود» (4717). وفي إسناده اضطراب واختلاف كما في «علل الدارقطني» (794)، والأشبه: عن الشعبي عن علقمة عن سلمة بن يزيد الجعفي - رضي الله عنه -، كما عند أحمد (15923) والنسائي في «الكبرى» (11585)، وحسَّن ابن كثير إسناده في «تفسيره» (الإسراء: 15)، وقال المؤلف في «طريق الهجرتين» (2/ 849): لا بأس به. وانظر فيه (2/ 862) وفي «أحكام أهل الذمة» (2/ 1121) وجه كون الموءودة في النار. (4) أبو داود (4718) ومسلم (203).

(3/209)


569/ 4554 - وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرَى الدَّم». وأخرجه مسلم (1) بطوله. وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (2) من حديث صفية بنت حُيَيٍّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدم في كتاب الصيام. 570/ 4555 - وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تُجالِسُوا أهل القَدَر ولا تفاتحوهم» الحديث (3)، وقد تقدم. قال ابن القيم - رحمه الله -: هذا ما ذكره أبو داود في الباب. حديث: «كل مولود يولد على الفطرة ... » لفظ «الصحيحين» (4) فيه: «ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، وأبواه يهودانه ... » الحديث. وفي لفظ آخر (5): «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويُشرِّكانه»، فقال رجل: أرأيت يا رسول الله، لو مات قبل ذلك؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين». وفي لفظ آخر (6): «ما من مولود يولد إلا وهو على الملة». _________ (1) أبو داود (4719) ومسلم (2174). (2) البخاري (2038)، ومسلم (2175)، والنسائي في «الكبرى» (3343)، وابن ماجه (1779)، وتقدّم في «سنن أبي داود» (2470) ولم يتقدّم معنا في التجريد. (3) «سنن أبي داود» (4720)، وتقدّم فيه في «باب في القدر» (4710). وإسناده ضعيف، وإنما يصحّ نحوه موقوفًا على بعض التابعين كأبي قلابة وغيره. (4) البخاري (1359، 4775، 6599)، ومسلم (2658/ 22). (5) «صحيح مسلم» (2658/ 23). (6) «صحيح مسلم» (2658/ 23).

(3/210)


وفي لفظ آخر (1): «على هذه الملة حتى يُبِينَ عنه لسانه». وفي لفظ آخر (2): «ليس مِن مولود يولد إلا على هذه الفطرة، حتى يعبّر عنه لسانه». وفي لفظ آخر (3): «من يولد يولد على [هذه] الفطرة». وفي لفظ آخر (4): «كل إنسان تَلِده أمُّه على الفطرة، وأبواه بعدُ يُهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجِّسانه، فإن كانا مسلمين فمسلم». وهذه الألفاظ كلها في «الصحيحين» إلا لفظ «الملة» فهو لمسلم، وكذا لفظ: «يُشرِّكانه» له أيضًا، وكذا قوله: «حتى يُعبّر عنه لسانه»، وكذا لفظ: «فإن كانا مسلمين فمسلم» لمسلم وحده. [ق 240] وإنما سقنا هذه الألفاظ لنبين بها أن الكلام جملتان، لا جملة واحدة، وأن قوله: «كل مولود يولد على الفطرة» جملة مستقلة، وقوله: «أبواه يهودانه ... » إلى آخره جملة أخرى. وهو يبين غلط من زعم أن الكلام جملة واحدة، وأن المعنى: كل مولود يولد بهذه الصفة فأبواه يهودانه، وجعل الخبر عند قوله «يهودانه» إلى آخره. وألفاظ الحديث تدل على خطأ هذا القائل، وتدل أيضًا على أن الفطرة هي فطرة الإسلام، ليست الفطرة العامة التي فُطِر عليها من الشقاوة والسعادة، لقوله: «على هذه الفطرة»، وقولهِ: «على هذه الملة». _________ (1) بالرقم السابق. (2) بالرقم السابق. (3) «صحيح مسلم» (2658/ 24)، وما بين الحاصرتين منه. (4) «صحيح مسلم» (2658/ 25).

(3/211)


وسياقه أيضًا يدل على أنها هي المراد، لإخباره بأن الأبوين هما اللذان يغيّرانها، ولو كانت الفطرة هي فطرة الشقاوة والسعادة في قوله (1): «على هذه الفطرة» لكان الأبوان مقرِّرَين (2) لها. ولأن قراءةَ قوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30] عقب الحديثِ (3) صريحٌ في أن المراد بها فطرةُ الإسلام. ولأن تشبيهَ المولود في ولادته عليها بالبهيمة الجمعاء ــ وهي الكاملة الخلق ــ، ثم تشبيهَه إذا خرج عنها بالبهيمة التي جَدَعها أهلُها فقطعوا آذانها (4) = دليل على أن الفطرة هي الفطرة المستقيمة السليمة، وما يطرأ على المولود من التهويد والتنصير بمنزلة الجدع والتغيير في ولد البهيمة. ولأن الفطرة حيث جاءت مطلقةً معرَّفة باللام لا يراد بها إلا فطرة التوحيد والإسلام، وهي الفطرة الممدوحة، ولهذا جاء في حديث الإسراء لمّا أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - اللبن قيل له: «أصبتَ الفطرة» (5)، ولمّا سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤذن يقول: الله أكبر الله أكبر، قال: «على الفطرة» (6). وحيث جاءت _________ (1) في الأصل والطبعتين: «لقوله»، ولعله تصحيف ما أثبت فإن المعنى عليه. (2) في الطبعتين: «مقدرين» خلافًا للأصل وعكسًا للمعنى المقصود. (3) قرأها أبو هريرة - رضي الله عنه - كما في البخاري (1359، 4775) ومسلم (2658/ 22). (4) في الطبعتين: «أذنها» خلافًا للأصل. (5) أخرجه البخاري (3437) ومسلم (168، 164) من حديث أبي هريرة وحديث أنس - رضي الله عنهما -. (6) أخرجه مسلم (382) من حديث أنس - رضي الله عنه -.

(3/212)


الفطرة في كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالمراد بها فطرة الإسلام لا غير، ولم يجئ قط في كلامه مرادًا بها فطرة الشقاوة وابتداءُ الخِلقة في موضع واحد. ولفظ الحديث يدل على أنه غير منسوخ وأنه يستحيل فيه النسخ كما قال بعضهم، لأنه خبر محض، وليس حكمًا يدخل تحت الأمر والنهي، فلا يدخله نسخ. وأما حديث عائشة في قصة الصبيّ من الأنصار، فرده الإمام أحمد (1) وطعن فيه، وقال: من يشك أن أولاد المسلمين في الجنة؟! وقال أيضًا: إنهم لا اختلاف فيهم. وأما مسلم فأورده في «صحيحه» كما تقدم. ومن انتصر للحديث وصححه يقول: الإنكار من النبي - صلى الله عليه وسلم - على عائشة إنما كان لشهادتها للطفل المعيّن بأنه في الجنة، كالشهادة للمسلم المعين، فإن الطفل تبع لأبويه، فإذا كان أبواه لا يُشهد لهما بالجنة، فكيف يُشهد للطفل التابع لهما؟ والإجماع إنما هو على أن أطفال المسلمين من حيث الجملة مع آبائهم، فيجب الفرق بين المعين والمطلق. _________ (1) كما في «كتاب أهل الملل والردّة» من «الجامع» للخلال (1/ 66 - 68) , و «المنتخب من علل الخلّال» لابن قدامة (ص 53)، وذلك أنه رواه طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله، عن عمته عائشة بنت طلحة، عن عائشة، وطلحة ضعّفه أحمد وأنكر عليه هذا الحديث. وله طريق أخرى ــ كما عند مسلم (2662/ 30) ــ عن عائشة بنت طلحة، ولكن يرى أحمد أن مردّها أيضًا إلى طلحة بن يحيى. انظر: «العلل» برواية عبد الله (1380).

(3/213)


وفي «صحيح أبي حاتم» (1) من حديث عبد الله بن ضمرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ذراريُّ المؤمنين يكفلهم إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - في الجنة». وقد روى البخاري في «صحيحه» (2) عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يكثر أن يقول لأصحابه: «هل رأى أحد منكم رؤيا»، قال: فيَقُصُّ عليه من شاء الله أن يقص، وإنه قال لنا ذات غداة: «أتاني الليلة آتيان ... » فذكر حديث الرؤيا بطوله إلى أن قال: «فأتينا على روضة مُعتَمَّة (3) مِن كل لون الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولًا في السماء، وإذا حولَ الرجل أكثرُ ولدانٍ رأيتهم قط ... »، وقال فيه: «وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، وأما الولدان الذين حوله فكلُّ مولود مات على الفطرة»، قال: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وأولاد المشركين». وفي «الصحيحين» (4) عن ابن عباس: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أولاد المشركين، فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم». _________ (1) برقم (7446)، وأخرجه أيضًا أحمد (8324)، والحاكم (2/ 370) وقال: «صحيح الإسناد»، مع أن في إسناده عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وهو ضعيف، ولكن قد صحّ عن أبي هريرة نحوه من وجه آخر أخرجه ابن أبي شيبة (12052) والحاكم (1/ 384) على اختلاف في رفعه ووقفه، والصواب الوقف كما قال الدارقطني في «العلل» (2211)، ويثبت له حكم الرفع لأنه مما لا مجال للرأي فيه، ويشهد له أيضًا حديث سمرة الآتي. (2) برقم (7047). (3) أي كثيرة النبات وطويلته. (4) البخاري (1383)، ومسلم (2660) واللفظ له.

(3/214)


وفي «الصحيحين» (1) عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرًا، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا». وفي «الصحيحين» (2) عن الصعب بن جثّامة قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدار من المشركين يُبَيَّتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم، فقال: «هم منهم». وفي لفظ (3) لهما: «هم من آبائهم». وهذه الأحاديث لا تَناقض بينها، بل يصدّق بعضها بعضًا. وقد اختلف العلماء في الأطفال على ثمانية أقوال (4): أحدها: الوَقْفُ فيهم وتركُ الكلام في مستقرهم، ويوكل علمهم إلى الله تعالى. قال هؤلاء: وظواهر السنن وأجوبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس وأبي هريرة تدل على ذلك، إذ وَكَل عِلمَهم إلى الله وقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين». قالوا: وقد روى ابن حبان في «صحيحه» (5) من حديث جرير بن حازم _________ (1) البخاري (4301) ومسلم (2661) واللفظ له. (2) البخاري (3012)، ومسلم (1745). (3) البخاري (3013)، ومسلم (1745/ 28). (4) وقد بحث المؤلف هذه المسألة في الطبقة الرابعة عشرة من طبقات المكلفين في كتابه «طريق الهجرتين» (2/ 840 - 877)، كما عقد فصلًا طويلًا في كتابه «أحكام أهل الذمّة» (2/ 1086 - 1158) وذكر فيه لأهل العلم عشرة مذاهب في المسألة. (5) برقم (6724)، ومن طريقه الضياء في «المختارة» (13/ 3)، وأخرجه أيضًا الفريابي في «القدر» (ص 174 - 175)، والحاكم (1/ 33)، والبيهقي في «القدر» (445)، من طرق عن جرير بن حازم به. قال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين ولا نعلم له علّة». بلى له علّة، وهي أنه خالف هؤلاء الرواةَ عن جرير مَن هو أثبت منهم كوكيع وأبي أسامة ويزيد بن هارون، فرووه عن جرير بن حازم فوقفوه على ابن عباس من قوله. ولذا قال البيهقي: إن المرفوع ليس بمحفوظ، وإن الموقوف هو الصحيح. والموقوف قد أخرجه عبد الله في «السنة» (846)، والفريابي (ص 175)، والخطابي في «الغريب» (2/ 465)، والبيهقي في «القدر» (446 - 448).

(3/215)


قال: سمعت أبا رجاء العطاردي قال: سمعت ابن عباس يقول وهو على المنبر: قال [ق 241] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزال أمر هذه الأمة مؤَامًّا (1) ــ أو مقارِبًا ــ، ما لم يتكلموا في الوِلدان والقدر». قال أبو حاتم: الولدان أراد به أطفال المشركين. وفيما استدلت به هذه الطائفة نظر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُجِبْ فيهم بالوقف، وإنما وكل عِلْمَ ما كانوا يعملونه لو عاشوا إلى الله، وهذا جواب عن سؤالهم: «كيف يكونون مع آبائهم بغير عمل؟» وهو طرف من الحديث. _________ (1) كذا في الأصل و (هـ)، وهو الصواب، وفي ط. الفقي: «قوامًا»، وفي ط. المعارف وبعض مصادر التخريج: «مواتيًا»، وفي مطبوعة «صحيح ابن حبان» (الإحسان - ط. الرسالة) وبعض المصادر الأخرى: «موائمًا»، وكلّ ذلك تحريف، وقد جاء رسمه على الصواب في «التقاسيم والأنواع» (4878) ط. ابن حزم، و «المختارة»، والنسخة الخطّية من «السنة» لعبد الله. قال الخطابي: «قوله: مؤامًّا ــ مثقّلة الميم ــ أي مقاربًا، من قولِك: أمر أَمَم: أي قصدٌ قريب، ونظرتُ إليه من أمم: أي مِن قُرب. وقال بعض أهل اللغة: أمم هو ما بين القرب والبُعد». «غريب الحديث» (2/ 465)، وانظر: «الفائق» (1/ 58) و «النهاية» (مأم). قلت: ويتأيّد الصواب برواية الفريابي: «لا يزال أمر هذه الأمة أَمَمًا ... »، أي قصدًا ووسطًا.

(3/216)


ويدل عليه حديث عائشة الذي ذكره أبو داود في أول الباب، والنبي - صلى الله عليه وسلم - وَكَل العلمَ بعملهم إلى الله، ولم يقل: «الله أعلم حيث يستقرون وأين يكونون». فالدليل غير مطابق لمذهب هذه الطائفة. وأما حديث ابن عباس في المنع من الكلام فيهم، ففي القلب من رفعه شيء (1)، وبالجملة فإنما يدل على ذم من تكلّم فيهم بغير علم، أو ضَرَب الأحاديث فيهم بعضها ببعض، كما فعل الذين أنكر عليهم كلامَهم في القَدَر. وأما من تكلم فيهم بعلمٍ وحقٍّ فلا يُذم. القول الثاني: إن أطفال المشركين في النار. وهذا مذهب طائفة، وحكاه القاضي أبو يعلى روايةً عن أحمد (2)، قال شيخنا (3): وهو غلط منه على أحمد، وسبب غلطه أن أحمد سئل عنهم فقال: هم على الحديث، قال القاضي: أراد حديث خديجة إذ سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أولادها الذين ماتوا قبل الإسلام فقال: «إن شئتِ أسمعتك تضاغيهم في النار» (4). قال شيخنا (5): _________ (1) زاد المؤلف في «أحكام أهل الذمة» (2/ 1090) فقال: «والناس إنما رووه موقوفًا عليه، وهو الأشبه»، وقد سبق تفصيل ذلك في التخريج. (2) واختارها وبالغ ابنُه القاضي أبو الحسين فضمّن هذا القول في جزئه في «الاعتقاد» (ص 34)! (3) انظر: «مجموع الفتاوى» (24/ 372)، و «درء التعارض» (8/ 398). (4) هذا لفظ حديث بُهيّة عن عائشة، وقد سبق، وأما حديث خديجة فلفظه: «هما في النار». أخرجه عبد الله في زيادات «المسند» (1131)، ولا يصح، في إسناده جهالة وانقطاع. وأخرجه أبو يعلى (7077) من طريق آخر، وفيه انقطاع أيضًا. انظر: «تفسير ابن كثير» (الإسراء: 15)، و «سير أعلام النبلاء (2/ 113)، و «الضعيفة» (5791). (5) انظر: «منهاج السنة» (2/ 306)، و «درء التعارض» (8/ 398 - 399).

(3/217)


وهذا حديث موضوع، وأحمد أجلّ من أن يحتج بمثله، وإنما أراد حديث عائشة: «الله أعلم بما كانوا عاملين». والقول الثالث: إنهم في الجنة. واحتج هؤلاء بحديث سمرة الذي رواه البخاري. واحتجوا بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وبقوله: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك: 8 - 9]، فهذا دليل على أن كل فوج يُلقى فيها لا بد وأن يكونوا قد جاءهم النذير وكذبوه، وهذا ممتنع في حق الأطفال. واحتجوا بقوله تعالى لإبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85]، قالوا: فإذا امتلأت منه ومن أتباعه لم يبق فيها موضع لغيرهم. واحتجوا بقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، قالوا: فالله تعالى لا يعذب أحدًا إلا بذنبه، فالنار دار عدله لا يُدخِلها أحدًا إلا بعمل، وأما الجنة فدار فضله يُدخِلها بغير عمل، ولهذا ينشئ للفضل الذي يبقى فيها أقوامًا يُسكِنُهموه. وأما الحديث الذي ورد في بعض طرق البخاري (1): «وأما النار فينشئ الله لها خلقًا يسكنهم إياها» فغلط من الراوي انقلب عليه لفظه، وإنما هو: _________ (1) برقم (7449) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

(3/218)


«وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا»، وقد ذكره البخاري (1)، وسياق الحديث يدل على ذلك. قالوا: وأما حديث عائشة والصعب بن جَثَّامة (2)، فليس فيه أنهم في النار، وإنما فيه أنهم «من آبائهم» تبع لهم في الحكم وأنهم إذا أصيبوا في البيات لم يُضمَنوا بديةٍ ولا كفارة، وهذا ظاهر في حديث الصعب (3). وأما حديث عائشة فقد ضعفه غير واحد (4). قالوا: وحديث خديجة باطل لا يصح. والقول الرابع: إنهم بين الجنة والنار، إذ لا معصية لهم توجب دخول النار، ولا إسلام يوجب لهم دخول الجنة. وهذا أيضًا ليس بشيء، فإنه لا دار للقرار إلا الجنة والنار، وأما الأعراف فإن مآل أصحابها إلى الجنة، كما قاله الصحابة (5). والقول الخامس: إنهم تحت المشيئة، يجوز أن يعذبهم وأن ينعمهم، _________ (1) برقم (4850) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وأخرجه مسلم (2846/ 36) أيضًا. وأخرجاه أيضًا من حديث أنس؛ البخاري (7384)، ومسلم (2848). (2) في الأصل و (هـ) وط. الفقي: «الأسود بن سريع»، وهو سبق قلم كما نبّه عليه محقق ط. المعارف، لأن الذي سبق بهذا اللفظ هو حديث الصعب بن جثّامة المتفق عليه، وأما حديث الأسود فهو في الامتحان يوم القيامة، وسيأتي في كلام المؤلف. (3) الأصل و (هـ) وط. الفقي: «الأسود»، وهو سبق قلم كما سبق. (4) ضعّفه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» كما سبق بيانه والنظر فيه. (5) كحذيفة وابن عباس وعبد الله بن الحارث. انظر: «تفسير الطبري» (10/ 212 وما بعدها).

(3/219)


وأن يعذب بعضًا وينعم بعضًا. وهذا قول كثير من المثبتين للقدر، وقول الجبرية ونفاة التعليل والحكم. والقول السادس: إنهم ولدان أهل الجنة وخَدَمهم، وقد روي في ذلك حديث لا يثبت (1). والقول السابع: إن حكمهم حكم الآباء في الدنيا والآخرة، فلا حكم لهم غير حكم آبائهم. فكما هم معهم تبع في الدنيا فكذلك (2) في الآخرة. والقول الثامن: إنهم يُمتحنون في الآخرة، فمن أطاع منهم أدخله الجنة، ومن عصى عذّبه. وقد روي في هذا من حديث الأسود بن سريع وأبي هريرة وغيرهما مرفوعًا (3)، وهي أحاديث يشد بعضُها بعضًا. _________ (1) عن أنس وسمرة بن جندب. أما حديث أنس فأخرجه البزار (7466، 7467)، وأبو يعلى (4090)، والطبراني في «الأوسط» (5355) من طريقين؛ من طريق يزيد الرقاشي، ومن طريق زيد بن علي بن جدعان، كلاهما عن أنس. والحديث بمجموعهما محتمل للتحسين. وله طريق ثالث عن أنس عند الطبراني في «الأوسط» (2972) لكنه واهٍ بمرة. وأما حديث سمرة فأخرجه البزار (4516) والطبراني في «الكبير» (7/ 244) و «الأوسط» (2045)، من طريق عباد بن منصور، عن أبي رجاء، عن سمرة. وعبّاد ضعيف، والمحفوظ حديث عوف الأعرابي، عن أبي رجاء، عن سمرة في رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - إبراهيمَ في روضة وحوله الولدان الذين ماتوا على الفطرة، فقيل: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال: «وأولاد المشركين». أخرجه البخاري، وقد سبق. (2) الأصل: «كذلك»، والمثبت من (هـ). (3) «مرفوعًا» من (هـ). ولفظ حديث الأسود وأبي هريرة: «أربعة يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئًا، ورجل أحمق، ورجل هَرِم، ورجل مات في فترة ... » ثم ذكر احتجاجهم على الله، فامتحانه إياهم. أخرجه أحمد (16301، 16302) ــ ومن طريقه الضياء في «المختارة» (4/ 255) ــ من طريق معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود؛ وقال معاذ: وحدثني أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة. حديث الأسود صححه ابن حبان (7356)، على أن فيه انقطاعًا بين قتادة والأحنف. وحديث أبي هريرة صحح البيهقي إسناده في «الاعتقاد» (ص 185) و «القضاء والقدر» (645). وروي عن أبي هريرة من وجه آخر موقوفًا عليه. أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (1/ 374) بإسناد صحيح. وفي الباب حديث أنس ومعاذ وأبي سعيد الخدري، وفي حديثهم ذكر المولود الهالك صغيرًا، وهو الشاهد لما نحن فيه، ولكن أسانيدها ضعيفة، وأمثلها حديث أبي سعيد. انظر: «طريق الهجرتين» (2/ 867 - 872)، و «السلسلة الصحيحة» (2468).

(3/220)


وهذا أعدل الأقوال، وبه يجتمع شمل الأدلة وتتفق الأحاديث في هذا الباب. وعلى هذا فيكون بعضهم في الجنة كما في حديث سمرة، وبعضهم في النار كما دل عليه حديث عائشة. وجواب النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على هذا، فإنه قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم». ومعلوم أن الله لا يعذبهم بعلمه فيهم ما لم يقع معلومه، فهو إنما يعذب من يستحق العذاب على معلومه، وهو متعلَّق علمه السابق فيه، لا على علمه المجرّد، وهذا العلم يظهر معلومه في الدار الآخرة. وفي قوله: «الله أعلم بما كانوا عاملين» إشارة إلى أنه سبحانه كان يعلم ما كانوا عاملين لو عاشوا، وأن من يطيعه وقت الامتحان [ق 242] كان يطيعه لو عاش في الدنيا، ومن يعصيه حينئذ كان ممن يعصيه لو عاش في الدنيا. فهو دليل على تعلُّق علمِه بما لم يكن لو كان كيف كان يكون.

(3/221)


وقيل: إنما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يُعلِمه الله بمصيرهم ومستقرهم؛ وليس بشيء، فإنه لا تعرض في هذا للمستقر، كما تقدم. وقيل معناه الله أعلم على أي دين يميتهم لو عاشوا وبلغوا العمل، فأما إذا عدم فيهم العمل فهم في رحمة الله؛ وهذا بعيد من دلالة اللفظ عليه، والله أعلم. 9 - باب في الرد على الجهمية 571/ 4558 - وعن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -، قال: كنتُ في البَطْحاء في عِصابة، فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمرَّتْ بهم سَحابة فنظر إليها فقال: «ما تُسَمُّون هذه؟» قالوا: السحاب، قال: «والمُزْن»، قالوا: والمزن، قال: «والعَنان»، قالوا: والعَنان ــ قال أبو داود: لم أتقن «العَنان» جيدًا ــ قال - صلى الله عليه وسلم -: «هل تَدْرُون ما بُعْدُ ما بين السماء والأرض؟» قالوا: لا ندري، قال: «إن بُعْدَ ما بينهما إمَّا واحدة، أو اثنتان، أو ثلاث وسبعون سنة، ثم السماء فوقها كذلك ــ حتى عَدَّ سَبْع سماوات ــ ثم فوق السابعة بَحْرٌ بين أسفله وأعلاه مثلُ ما بين سماءٍ إلى سماء، ثم فوقَ ذلك ثمانية أوعالٍ، بين أظلافهم ورُكَبهم مثلُ ما بين سماء إلى سماءٍ، ثم على ظهورهم العرش، بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم الله تبارك وتعالى فوقَ ذلك». وأخرجه ابن ماجه والترمذي (1)، وقال: حسن غريب، وروى شريك بعض _________ (1) أبو داود (4723)، وابن ماجه (193)، والترمذي (3320)، وأخرجه ابن خزيمة في «التوحيد» (172، 173)، وابن منده في «التوحيد» (1/ 114)؛ من طرق عن سماك بن حرب، عن عبد الله بن عميرة، عن الأحنف بن قيس، عن العباس. قال الترمذي: حسن غريب، وصححه الجَورقاني والضياء وابن تيمية، وأعلّه الذهبي وغيره بجهالة حال عبد الله بن عميرة وبقول البخاري فيه: «لا نعلم له سماعًا من الأحنف». انظر: «الأباطيل والمناكير» (1/ 209 - 211)، و «مجموع الفتاوى» (3/ 192)، و «العلو للعلي العظيم» (1/ 501 - 502)، و «ميزان الاعتدال» (2/ 469)، «الضعيفة» (1247). وأعل الحديث أيضًا بما لا يقدح، وسيأتي ذلك والرد عليه في كلام المؤلف.

(3/222)


هذا الحديث عن سماك فوقفه. قال ابن القيم - رحمه الله -: قد رُدَّ هذا الحديث بشيئين: أحدهما بأن فيه الوليد بن أبي ثور، ولا يحتج به (1). والثاني بما رواه الترمذي (2) من حديث قتادة عن الحسن عن أبي هريرة قال: بينما نبي الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في أصحابه إذ أتى عليهم سحاب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هل تدرون ما هذا؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «هذا العنان، هذه روايا الأرض، يسوقها الله تعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه»، ثم قال: «هل تدرون ما فوقكم؟» قالوا الله ورسوله أعلم، قال: «إنها الرقيع، سقف محفوظ، ومَوج مكفوف». ثم قال: «هل تدرون كم بينكم وبينها؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «بينكم وبينها [مسيرة] خمسمائة سنة»، ثم قال: «هل تدرون ما فوق ذلك؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «فإن فوق ذلك سماءين ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة»، حتى عد سبع سماوات، ما بين كل سماءين كما بين السماء والأرض، ثم قال: «هل تدرون ما فوق ذلك؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «فإن فوق ذلك العرش، وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين»، ثم قال: «هل تدرون ما الذي تحتكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، _________ (1) به أعله المنذري في «المختصر» (7/ 93)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 10). (2) برقم (3298) وضعّفه، وسيذكر المؤلف نصّ كلامه.

(3/223)


قال: «فإنها الأرض»، ثم قال: «هل تدرون ما الذي تحت ذلك؟»، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «فإن تحتها أرضًا أخرى، بينهما مسيرة خمسمائة سنة» حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة، ثم قال: «والذي نفس محمد بيده لو أنّكم دَلَّيتم بحبل إلى الأرض السُّفلى لهبط على الله»، ثم قرأ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]. قالوا: هذا خلاف حديث العباس في موضعين: في ذكر بُعد المسافة بين السماوات، وفي نفي اختصاص الرب بالفوقية. قال المثبتون: أما ردُّ الحديث الأول بالوليد بن أبي ثور، ففاسد، فإن الوليد لم ينفرد به بل تابعه عليه إبراهيم بن طَهمان، كلاهما عن سِماك، ومن طريقه رواه أبو داود (1). ورواه أيضًا عمرو بن أبي قيس عن سِماك، ومن حديثه رواه الترمذي (2) عن عبد بن حُميد: حدثنا عبد الرحمن بن سعد، عن عمرو بن أبي قيس. قال الترمذي: قال عبد بن حميد: سمعت يحيى بن معين يقول: ألا يريدُ (3) عبد الرحمن بن سعد أن يحجَّ حتى نسمع منه هذا الحديث؟ ورواه الوليد بن أبي ثور عن سماك، ومن حديثه رواه ابن ماجه في «سننه»، فأي ذنب للوليد في هذا؟ وأي تعلُّق عليه؟ وإنما ذنبه روايته (4) ما _________ (1) برقم (4725)، وإبراهيم بن طهمان ثقة من رجال الشيخين. (2) وهو عند أبي داود (4724) أيضًا، وعمرو بن أبي قيس صدوق لا بأس به يهم قليلًا. (3) في الأصل و (هـ): «يريد بن»، وفي ط. الفقي: «تريدون»، وكلاهما تصحيف. (4) في الأصل والطبعتين: «راويته»، تصحيف، وهو على الصواب في (هـ).

(3/224)


يخالف قول الجهمية، وهي علته المؤثرة عند القوم! وأما معارضته بحديث (1) الحسن عن أبي هريرة ففاسدة (2) أيضًا، فإن الترمذي ضعّف حديث الحسن هذا، وقال فيه: «غريب» فقط، قال: ويُروى عن أيوب، ويونس بن عبيد، وعلي بن زيد قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة. قال الترمذي: ففسّر بعض أهل العلم هذا الحديث فقالوا: إنما معناه: هبط على علم الله وقدرته وسلطانه، [وعلمُ الله] (3) وقدرته وسلطانه في كل مكان، وهو على العرش كما وصف في كتابه. وهذا التفسير الذي ذكره الترمذي يشبه التفسير الذي حكاه البيهقي عن أبي حنيفة - رحمه الله - في قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، فإنه قال (4): أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه، أخبرنا أبو محمد بن حيان (5)، أخبرنا أحمد بن جعفر بن نصر، حدثنا يحيى بن مُعَلَّى (6) قال: سمعت _________ (1) في الطبعتين: «لحديث»، ورسم الأصل محتمل، والمثبت من (هـ) أوفق للسياق. (2) الأصل: «ففاسد» وله وجه، والمثبت من (هـ). (3) ساقط من الأصل و (هـ)، واستدركته من «الجامع». (4) في كتابه «الأسماء والصفات» (2/ 337 - 338). (5) رسمه في الأصل يشبه: «حباب»، وفي ط. الفقي: «الحباب» خطأ، وهو على الصواب في (هـ). وهو الحافظ أبو الشيخ عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيّان الأصبهاني (ت 369). (6) في الأصل و (هـ) والطبعتين: «بن يعلى»، وكذا في مطبوعة «الأسماء والصفات»، وهو تصحيف لأنه لا يوجد في هذه الطبقة أحد بهذا الاسم، ولأنه ذكر المزّي في ترجمة ابن معلَّى أنه يروي عن نعيم بن حماد (ت 228)، وأنه روى عنه بلديّه أحمد بن جعفر بن نصر أبو العبّاس الجمّال (ت 314). «تهذيب الكمال» (8/ 88) ..

(3/225)


نُعَيم بن حماد يقول: سمعت نوح بن أبي مريم يقول: كنا عند أبي حنيفة أوَّل ما ظهر، إذ جاءته امرأة من تِرمِذَ كانت تجالس جهمًا، فدخلت الكوفة ــ فأظنني أقلُّ ما رأيت عليها عشرة آلاف من الناس ــ تدعو إلى رأيها، فقيل لها: إن هاهنا رجلًا نظر في المعقول يقال له: أبو حنيفة فأْتِيه، فأتته وقالت: أنت الذي تعلّم الناس المسائل، وقد تركتَ دينك؟! أين إلهك الذي تعبده؟ فسكت عنها، ثم مكث سبعة أيام لا يجيبها ثم خرج إلينا وقد وضع كتابًا: إن الله تعالى في السماء دون الأرض، فقال له رجل: أرأيت قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ}؟ قال: هو كما تكتب إلى الرجل: إني معك، وأنت غائب عنه (1). قال البيهقي: فقد أصاب أبو حنيفة - رحمه الله - فيما نفى عن الله تعالى من الكون في الأرض، وفيما ذكر من تأويل الآية، وتبع [ق 243] مطلقَ السمع في _________ (1) رواة إسناده ثقات عدا نوح بن أبي مريم، وهو وإن كان متروكًا ذاهب الحديث يقلب الأسانيد ويروي المناكير إلا أنه من خواص أصحاب أبي حنيفة، والحنفية لا يتهمونه فيما ينقل عن إمامهم بل يذكرون أنه أول من جمع فقهه، وأنه كان له مجلس لأقاويل أبي حنيفة، وأنه أحد الاثني عشر من أصحاب الإمام الذين أشار إليهم أنهم يصلحون للقضاء، ولمّا استقضي على مَرْوٍ في حياة شيخه كتب إليه بكتاب فيه موعظة وشروط القضاء. قلت: وعليه فروايته هذه عن شيخه ــ لاسيما وقد تضمّنت قصةً ــ مظنة الصدق والضبط، والله أعلم. انظر: «تهذيب التهذيب» (10/ 486)، و «الجواهر المضية في طبقات الحنفية» (1/ 176)، و «بدائع الصنائع» (1/ 270).

(3/226)


قوله: إن الله عز وجل في السماء. هذا لفظه في كتاب «الأسماء والصفات». قالوا: وأما اختلاف مقدار المسافة في حديثَي العباس وأبي هريرة، فهو مما يشهد بتصديق كل منهما للآخر، فإن المسافة يختلف تقديرها بحسب اختلاف السير الواقع فيها، فسير البريد مثلًا يُقطَع بقدر سير ركاب الإبل سبع مرات، وهذا معلوم بالواقع، فما تَسِيره الإبل سيرًا قاصدًا في عشرين يومًا يقطعه البريد في ثلاثة، فحيث قدَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسبعين أراد به السير السريع سير البريد، وحيث قدَّر بالخمسمائة أراد به السير الذي يعرفونه سير الإبل والركاب، فكل منهما يصدِّق الآخر ويشهد بصحته، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا. 572/ 4559 - وعن جُبير بن محمد بن جبير بن مُطْعِم، عن أبيه، عن جده قال: أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أعرابيٌّ فقال: يا رسولَ الله، جَهِدَتِ الأنفُس، وضاعت العيالُ، ونُهِكَت الأموالُ، وهَلكت الأنعامُ، فاسْتَسْقِ الله لنا، فإنَّا نَسْتَشْفِعُ بك على الله، ونستشفع بالله عليك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وَيْحَك! أتدري ما تقول؟» وسَبَّح رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فما زال يُسبح حتى عُرِف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: «وَيحَك! إنه لا يُسْتَشْفَعُ بالله على أحدٍ مِن خَلقه، شأنُ الله أعظمُ من ذلك، ويحك! أتدري ما الله؟ إنَّ عرشه على سماواته لَهكذا ــ وقال بأصابعه مثلَ القُبَّة عليه ــ وإنه لَيَئِطُّ به أَطِيط الرَّحل بالراكب». قال ابن بشَّار في حديثه: «إن الله فوقَ عرشه، وعَرْشُه فوق سمواته ... » وساق الحديث (1). _________ (1) «سنن أبي داود» (4726)، وأخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (577، 578)، والبزار (3431، 3432)، وابن خزيمة في «التوحيد» (175)، وأبو عوانة في «المستخرج» (2517)، والطبراني في «الكبير» (2/ 128)، والآجري في «الشريعة» (3/ 1091)، والدارقطني في «الصفات» (38)، وابن منده في «التوحيد» (3/ 188) كلهم من طريق ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة عن جبير بن محمد به، إلا أنه ورد في بعض الطرق: «يعقوب بن عتبة وجبير بن محمد»، وخطّأه أبو داود والبزار والدارقطني، وقالوا: الصواب «يعقوب بن عتبة عن جبير بن محمد». قال ابن منده: «هو إسناد صحيح متصل من رسم أبي عيسى والنسائي»، وقال الذهبي في «العلو» (1/ 413 - 416): «هذا حديث غريب جدًّا فرد، وابن إسحاق حجّة في المغازي إذا أسند، وله مناكير وعجائب، فالله أعلم أقال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا أم لا ... وإنما سقناه لما فيه ممّا تواتر من علو الله تعالى فوق عرشه مما يوافق آيات الكتاب».

(3/227)


قال أبو بكر البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يُروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه من الوجوه، إلا من هذا الوجه. ولم يقل فيه محمد بن إسحاق: «حدثني يعقوب بن عتبة». هذا آخر كلامه. وقد أُعِلَّ هذا الحديث بوجوه: أحدها: أن ابن إسحاق مدلس، وقد عنعن الحديث ولم يصرِّح بالسماع، والمدلس إذا لم يذكر سماعه لم يُحتجّ براويته. الثاني: أنه لو صرَّح بالسماع، فابن إسحاق لا يحتجُّ بحديثه، وقد كذَّبه مالك وغيره. الثالث: أنه قد تفرَّد به يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس الثقفي، ولم يروِ عنه أحد من أهل «الصحيح» (1). الرابع: أنه رواه عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، ولم يروِ عنه أحد من _________ (1) بهذين الوجهين (الثاني والثالث) أعلَّه البيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 319)، وقد نقل المنذري كلامه في «المختصر». وأعله بهما أيضًا الحافظ ابن عساكر مع الوجه الآتي، كما نقله عنه المنذري، ولعله من جزء له في «حديث الأطيط». انظر: «سير أعلام النبلاء» (20/ 560).

(3/228)


أصحاب «الصحيح» أيضًا. الخامس: أن الحديث اضطُرب فيه على ابن إسحاق، فقال عبد الأعلى ومحمد بن المُثنَّى ومحمد بن بشَّار: حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، سمعتُ محمد بن إسحاق يحدِّث عن يعقوب بن عتبة و جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جدِّه. وقال أحمد بن سعيد الرِّباطي: حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، سمعتُ محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده (1). السادس: أنه اختُلف عليه في لفظه، فرواه يحيى بن معين وغيره فلم يذكروا: «به»، وقالوا: «إنه لَيَئِطُّ أَطِيطَ الرَّحل» (2). ورواه جماعة فقالوا: «ليئطُّ به» (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: قال أهل الإثبات: ليس في شيء من هذا مُستراح لكم في رد الحديث! أما حملكم فيه على ابن إسحاق، فجوابه أن ابن إسحاق بالموضع الذي _________ (1) كلا الطريقين عند أبي داود في حديث الباب. (2) رواية ابن معين أخرجها الدارقطني في «الصفات» (41) وابن منده في «التوحيد» (3/ 188). وممن أخرج الحديث دون هذه اللفظة ابنُ أبي عاصم في «السنة» (587) من رواية عبد الأعلى النَّرْسي ومحمد بن المثنى، كلاهما عن وهب بن جرير، عن أبيه، عن ابن إسحاق به. (3) الكلام السابق من (هـ)، وقد لخّص ورتَّب وعدَّد فيه المؤلف وجوه الإعلال التي ذكرها المنذري في «المختصر» (ق 4/ 146 ــ النسخة البريطانية) ضمن كلام طويل له على الحديث من لفظه ونقلًا عن غيره. إلا الوجه الخامس، فليس عند المنذري بل هومما زاده المؤلف.

(3/229)


جعله الله من العلم والأمانة (1) وثناءِ أكابر الأئمة عليه، وردّهم على من طعن عليه واستنكارهم له، وشهادتهم له بالصدق والحفظ والإمامة. قال علي ابن المديني: حديثه عندي صحيح (2). وقال شعبة: ابن إسحاق أمير المؤمنين في الحديث (3)، وقال أيضًا: هو صدوق (4). وقال علي ابن المديني أيضًا: لم أجد له سوى حديثين منكرين (5). وهذا في غاية الثناء والمدح إذ لم يجد له على كثرة ما روى إلا حديثين منكرين. وقال علي أيضًا: سمعت ابن عيينة يقول: ما سمعت أحدًا يتكلم في ابن إسحاق إلا في قوله في القدر (6). ولا ريب أن أهل عصره أعلم به ممن تكلم فيه بعدهم. وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: قال الزهري: لا يزال بهذه الحَرَّة علم ما دام بها ذلك الأحوَل، يريد ابن _________ (1) في (هـ): «والإمامة»، والمثبت من الأصل، وسقط منه ما بعدها إلى آخر الفقرة، فاستُدرك من (هـ). (2) أسنده الخطيب في «تاريخ بغداد» (2/ 27) بإسناد صحيح. (3) أسنده الخطيب (2/ 26) من طرق عنه. (4) أسنده ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (1/ 152، 7/ 192). (5) ذكره يعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» (2/ 27 - 28)، ومن طريقه أسنده الخطيب (2/ 28). (6) أسنده العقيلي في «الضعفاء» (5/ 197).

(3/230)


إسحاق (1). وقال يعقوب بن شيبة: سألت يحيى بن معين: كيف ابن إسحاق؟ قال: ليس بذاك، قلت: ففي نفسك من حديثه شيء؟ قال: لا، كان صدوقًا (2). وقال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: لو كان لي سلطان لأمّرتُ ابن إسحاق على المحدثين (3). وقال ابن عدي (4): قد فتشت أحاديث ابن إسحاق الكثير (5)، فلم أجد في حديثه ما يتهيأ أن يُقطع عليه بالضعف، وربما أخطأ أو وهم كما يخطئ غيره، ولم يتخلف في الرواية عنه الثقاتُ والأئمة، وهو لا بأس به. وقال أحمد بن عبد الله العجلي (6): ابن إسحاق ثقة. وقد استشهد مسلم بخمسة أحاديث ذكرها لابن إسحاق في «صحيحه» (7). _________ (1) أسنده ابن عدي في «الكامل» (6/ 105). (2) «الكامل» (6/ 106). (3) «الكامل» (6/ 107)، وأسنده الخطيب (2/ 26) بلفظ: «لو سُوِّد أحد في الحديث، لسُوِّد محمد بن إسحاق». (4) «الكامل» (6/ 112)، وكأن المؤلف صادر عن «الميزان» (3/ 474). (5) كذا في الأصل و «الميزان»، وفي مطبوعة «الكامل»: «الكثيرة». (6) «معرفة الثقات» (2/ 232). (7) كذا في «الأسماء والصفات» (2/ 320)، و «ميزان الاعتدال» (3/ 475)، وقد وجدت أنه استشهد به في سبعة أحاديث متابعةً، وهي: (480/ 213)، (830/ 292)، (873/ 52)، (1172/ 6)، (1199/ 78)، (1656/ 28)، (1703/ 31).

(3/231)


وقد روى الترمذي في «جامعه» (1) من حديث ابن إسحاق: حدثنا سعيد بن عُبَيد بن السبّاق، عن أبيه، عن سهل بن حُنَيف قال: «كنت ألقى من المذي شدة فأكثِر الاغتسال منه [فسألت عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «فيه الوضوء»، قلتُ: فكيف بما يصيب ثوبي منه؟ قال: «يكفيك أن تأخذ كفًّا من ماءٍ فتَنْضحَ به ثوبَك حيث ترى أنه أصابه»] (2). قال الترمذي: «هذا حديث صحيح، لا نعرفه إلا من حديث ابن إسحاق». فهذا حكم قد تفرد به ابن إسحاق في الدنيا (3)، وقد صححه الترمذي. فإن قيل: فقد كذّبه مالك ويحيى القطان وهشام بن عروة وغيرهم (4)، فقال أبو قِلابة الرَّقاشي: حدثني أبو داود سليمان بن داود قال: قال يحيى القطان (5): أشهد أن محمد بن إسحاق كذّاب، قلت: وما يدريك؟ قال: قال لي وهيب (6)، فقلت لوهيب: وما يدريك؟ قال: قال لي مالك بن أنس، فقلت لمالك: وما يدريك؟ قال: قال لي هشام بن عروة، قال: قلت لهشام: _________ (1) برقم (115)، وأخرجه أيضًا أحمد (15973)، وأبو داود (210)، وابن خزيمة (291)، وابن حبان (1103)؛ كلهم من طريق ابن إسحاق به. (2) ما بين الحاصرتين من (هـ)، وفي الأصل: « ... الحديث» اختصارًا من المجرّد. (3) المراد بالحكم المتفرَّد به هو أن ينضح ثوبه حيث يرى أنه أصابه المذي. وأما الأمر بالوضوء من المذي فليس مما تفرد به، فإنه ثابت في حديث عليٍّ المتفق عليه. (4) «ويحيى القطان» إلى هنا ساقط من الأصل، واستدرك من (هـ). (5) الأصل: «بن القطان»، والمثبت من (هـ). (6) في الطبعتين هنا وفي الموضع الآتي: «وهب»، خطأ مخالف للأصل، وإنما هو وهيب بن خالد البصري.

(3/232)


وما يدريك؟ قال: حَدَّث عن امرأتي فاطمة بنت المنذر، وأُدخِلتْ عليَّ (1)، وهي بنت تسع، وما رآها رجل حتى لقيتِ الله (2). قيل: هذه الحكاية وأمثالها هي التي غرَّت من اتهمه بالكذب، وجوابها من وجوه: أحدها: أن سليمان بن داود (راويها عن يحيى) هو الشاذَكُوني (3)، وقد اتُّهم بالكذب، فلا يجوز القدح في الرجل بمثل رواية الشاذكوني. الثاني: أن في الحكاية ما يدل على أنها كذب، فإنه قال: أُدخلتْ عليّ وهي بنت تسع، وفاطمة أكبر من هشام بثلاث عشرة سنة، ولعلها لم تُزَفّ إليه إلا وقد زادت على العشرين، ولمّا أَخَذ عنها ابنُ إسحاق كان لها نحو بضع وخمسين سنة. الثالث: أن هشامًا إنما نفى رؤيته لها، ولم ينف سماعه منها، ومعلوم أنه لا يلزم من انتفاء الرؤية انتفاء السماع. قال الإمام أحمد: لعله سمع منها في _________ (1) في الأصل والطبعتين: «أُدخلتُ عليها» ولعله سبق قلم، والتصحيح من «الكامل»، وسيأتي على الصواب في الوجه الثاني من أوجه الرد على الحكاية. (2) أسنده العقيلي في «الضعفاء» (5/ 193) وابن عدي في «الكامل» (6/ 103). (3) وكذا جزم به الذهبي في «السير» (7/ 49) فقال: «هذه الخرافة من صنعة سليمان، وهو الشاذكوني ــ لا صبَّحه الله بخير ــ، فإنه مع تقدّمه في الحفظ متَّهم عندهم بالكذب، وانظر كيف قد سلسل الحكاية!». ويشكل على هذا أن الشاذكوني كنيته: «أبو أيوب»، والذي ذكر المؤلف في الحكاية: «أبو داود»، وكذا في «الميزان» (3/ 471)، وهذه كنية الطيالسي الإمام الحافظ صاحب «المسند» (ت 204)، ولكن لعل ذكر الكنية وهمٌ، فإنها لم ترد في «الكامل» ولا في «الضعفاء».

(3/233)


المسجد، أو دخل عليها فحدثَّتْه من وراء حجاب، فأي شيء في هذا؟ وقد كانت امرأة قد كَبِرت وأسنَّت (1). وقال يعقوب بن شيبة (2): سألت ابن المديني عن ابن إسحاق؟ قال: حديثه عندي صحيح، قلت: فكلام مالك فيه؟ قال: مالك لم يجالسه ولم يعرفه، وأي شيء حدّث بالمدينة؟! قلت: فهشام بن عروة قد تكلم فيه؟ قال: الذي قال هشام ليس بحجة، لعله دخل على امرأته وهو غلام فسمع منها، فإن حديثه ليتبين فيه الصدق؛ يروي مرة: حدثني أبو الزناد، ومرة: ذكر أبو الزناد، ويقول: حدثني الحسن بن دينار عن أيوب عن عمرو بن شعيب في سلف وبيع، وهو أروى الناس عن عمرو بن شعيب (3). فصل وأما قولكم: إنه لم يُصرّح بسماعه من يعقوب بن عتبة، فعلى تقدير ثبوت العلم بهذا النفي لا يخرج الحديث عن كونه حسنًا، فإنه قد لقي يعقوب وسمع منه، وفي «الصحيح» قطعة من الاحتجاج بعنعنة المدلس، كأبي الزبير عن جابر، وسفيان عن عمرو بن دينار، ونظائر [ق 244] كثيرة لذلك. وأما قولكم: تفرد به يعقوب بن عتبة، ولم يرو عنه أحد من أصحاب _________ (1) ذكره الذهبي في «الميزان» (3/ 470) بأتم منه. (2) أسنده عنه الخطيب في «تاريخه» (2/ 27 - 28). (3) يعني أنه لو لم يكن من أهل الصدق لأسقط الواسطتين ــ لاسيما الحسن بن دينار فإنه متروك ــ وجعله عن عمرو بن شعيب مباشرة.

(3/234)


«الصحيح»؛ فهذا ليس بعلة باتفاق المحدثين، فإن يعقوب ثقة لم يضعّفه أحد، وكم من ثقة قد احتُجّ به وهو غير مخرَّج عنه في «الصحيحين». وهذا هو الجواب عن تفرد محمد بن جبير به (1)، فإنه ثقة (2). وأما قولكم: إن ابن إسحاق اضطرب فيه ... إلى آخره، فقد اتفق ثلاثة من الحفاظ ــ وهم: عبد الأعلى وابن المُثنَّى وابن بشّار ــ على وهب بن جرير عن أبيه عن ابن إسحاق أنه حدّث به عن يعقوب بن عتبة وجبير بن محمد عن أبيه، وخالفهم أحمد بن سعيد الرِّباطي (3) فقال: عن وهب بن جرير عن أبيه: سمعتُ محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عتبة عن جبير= فإما أن يكون الثلاثة أولى، وإما أن يكون يعقوب رواه عن جبير بن محمد، فسمعه منه ابن إسحاق، ثم سمعه من جبير نفسه، فحدث به على الوجهين. وقد قيل (4): إن الواو غلط، وإن الصواب: «عن يعقوب بن عتبة، عن جبير بن محمد، عن أبيه»، والله أعلم. وأما قولكم: إنه اختلف لفظُه، فبعضهم قال: «ليئط به»، وبعضهم لم _________ (1) في الأصل والطبعتين: «عنه»، خطأ. (2) الذي سبق في الوجه الرابع من وجوه الإعلال: تفرُّد جُبير بن محمد بن جُبير بن مطعم به، وهو ابن المذكور هنا، فإنه قد تفرّد به عن أبيه. ولم أجد مَن وثَّقه سوى ابن حبان، إلا إذا اعتبرنا أن إيراد ابن خزيمة له في «التوحيد» توثيق له بناء على ما رسم لنفسه في مقدمة كتابه. (3) في الأصل والطبعتين: «الدمياطي»، تحريف. (4) قاله أبو داود والبزار والدارقطني، كما سبق في تخريج حديث الباب.

(3/235)


يذكر لفظة «به»؛ فليس في هذا اختلافٌ يوجب رد الحديث، فإذا زاد بعض الحفاظ لفظةً لم ينفِها غيرُه ولم يرو ما يخالفها، فإنها لا تكون موجبةً لردّ الحديث. فهذا جواب المنتصرين لهذا الحديث. قالوا: وقد روي هذا المعنى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير حديث ابن إسحاق، فقال محمد بن عبد الله الكوفي المعروف بمُطَيَّن: حدثنا عبد الله بن الحكم وعثمان قالا: حدثنا يحيى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر قال: أتت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - امرأة فقالت: ادعُ الله أن يُدخلني الجنة، فعظَّم أمرَ الرب ثم قال: «إن كرسيَّه فوقَ السماوات والأرض، وإنه يقعُد عليه، فما يفضل منه مقدارُ أربع أصابع ــ ثم قال بأصابعه فجمعها ــ وإن له أطيطا كأطيط الرحل ... » الحديث (1). _________ (1) أخرجه من طريق مطيّن: ابن بطة في «الإبانة الكبرى» (2718) ــ ومن طريقه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 4) والدَّشتي في «إثبات الحدّ لله» (36) ــ، والضياء في «المختارة» (1/ 264 - 265). وأخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (586)، وعبد الله في «السنة» (570، 571)، والبزار (325)، وابن خزيمة في «التوحيد» (181)، والضياء في «المختارة» (1/ 263 - 265)، من طرق عن أبي إسحاق به، على اختلاف في رفعه ووقفه وإرساله، والموقوف أشبه. والحديث صححه الإمام أحمد موقوفًا وحدّث به ابنَه محتجًّا به كما في «السنة» لعبد الله، وصححه الضياء مرفوعًا، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 159): رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن خليفة الهمداني وهو ثقة. وأعله ابن خزيمة بالإرسال، وابن الجوزي بأمور لا تقدح (وسيأتي الرد على بعضها)، وابن كثير في «تفسيره» (آية الكرسي) بأن عبد الله بن خليفة ليس بذاك المشهور وأن في سماعه من عمر نظرًا.

(3/236)


فإن قيل: عبد الله بن الحكم وعثمان لا يُعرفان (1). قيل: بل هما ثقتان مشهوران عثمان بن أبي شيبة، وعبد الله بن الحكم القطواني، وهما من رجال الصحيح (2). وفي «الصحيحين» (3) من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لمّا قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق عرشه: إن رحمتي غلبت غضبي». وفي لفظ البخاري (4): «وهو وَضْعٌ عنده على العرش». وفي لفظ له (5) أيضًا: «فهو مكتوب فوق العرش». و «وضْع» بمعنى موضوع، مصدر بمعنى المفعول، كنظائره. وفي «صحيح البخاري» (6) أيضًا من حديث حماد بن زيد عن ثابت البُناني عن أنس قال: كانت زينب تفخَر على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقول: زوجكنّ أهاليكنّ وزوجني الله من فوق سبع سماوات! وفي لفظ للبخاري (7): كانت تقول: أنكحني الله في السماء. _________ (1) قاله ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 6). (2) عثمان بن أبي شيبة من رجال «الصحيحين»، وأما عبد الله بن الحكم فروى عنه ابن خزيمة في «صحيحه» وأصحاب السنن عدا النسائي. (3) البخاري (3194) ومسلم (2751). (4) برقم (7404). (5) برقم (7554). (6) برقم (7420). (7) برقم (7421).

(3/237)


وفي «الصحيحين» (1) من حديث أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من تصدّق بعدل تمرةٍ من كسب طيب، ــ ولا يصعَد إلى الله إلا الطيب ــ فإن الله يتقبّلها بيمينه، ثم يُربّيها لصاحبها كما يُربّي أحدكم فَلُوَّه، حتى تكون مثل الجبل»، لفظ البخاري. وفي «الصحيحين» (2) من حديث مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر، ثم يَعرُج الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون». ورواه البيهقي (3) بإسناد الصحيح وقال: «ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم»، وقال: أخرجاه في «الصحيح». _________ (1) البخاري (7430)، ومسلم (1014). (2) البخاري (555، 7429، 7486)، ومسلم (632). (3) في «الأسماء والصفات» (2/ 332) من طريق موسى بن عقبة عن أبي الزناد به، ثم قال: «أخرجاه في «الصحيح» من وجهٍ آخر عن أبي الزناد». قلتُ: وهذا اللفظ: «ثم يَعرُج إليه» ــ أي بزيادة «إليه» ــ صحيح ثابت في هذا الحديث، فقد صحّ من رواية همام بن منبّه عن أبي هريرة، كما في «صحيفته» (8)، ومن طريقه عند أحمد (8120) وابن حبان (1736) والبيهقي في «الصفات» (1/ 520)؛ وثبت أيضًا من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، رواها عنه ثلاثة: شعيب بن أبي حمزة عند البخاري (3223)، وموسى بن عقبة عند النسائي في «الكبرى» (11872) والبيهقي كما سبق، وابن أبي الزناد عند أبي يعلى (6342).

(3/238)


وفي «الصحيحين» (1) قصة سعد بن معاذ وحكمِه في بني قريظة، وقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لقد حكمتَ فيهم بحكم المَلِك». ورواه البيهقي (2) من حديث سعد بن إبراهيم عن عامر بن سعد عن أبيه، وفيه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لقد حكم فيهم اليوم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سماوات». وقال ابن إسحاق (3) في حديثه: «لقد حكمت فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبعة أرقعة». والرقيع من أسماء السماء، وقد تقدم. وروى الترمذي والإمام أحمد (4) من حديث الحسن عن عمران بن _________ (1) البخاري (3043) ومسلم (1768) من حديث أبي سعيد الخدري. (2) «الأسماء والصفات» (2/ 321) عن شيخه أبي عبد الله الحاكم، وهو عنده في «المستدرك» (2/ 124)، ومن قبلهما النسائي في «الكبرى» (5906)؛ من طريق محمد بن صالح التمّار عن سعد بن إبراهيم به. محمد بن صالح التمّار ثقة ولكن ليس بذاك القوي، وقد خالفه شعبة في إسناده ومتنه فرواه عن سعد بن إبراهيم، عن أبي أمامة بن سهل، عن أبي سعيد الخدري، وهي رواية «الصحيحين» السابقة، قال أبو حاتم: وهو أشبه وذلك خطأ. «العلل» لابنه (971). وانظر: «العلل» للدارقطني (573، 605). (3) في «المغازي» (2/ 240 - سيرة ابن هشام) ــ ومن طريقه إبراهيم الحربي في «الغريب» (3/ 1030) والطبري في «تفسيره» (19/ 78 - 79) ــ، قال: ثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن علقمة بن وقاص الليثي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا مرسل جيّد، رواته ثقات وعلقمة من كبار التابعين. (4) أخرجه الترمذي (3483)، وكذلك البزار (3579)، والطبراني في «الكبير» (18/ 174) و «الأوسط» (1985)، كلهم من طريق شبيب بن شيبة، عن الحسن به. شبيب فيه لين، وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب، وقد روي هذا الحديث عن عمران بن حُصَين من غير هذا الوجه». وأخرجه ابن أبي خيثمة في «تاريخه ــ السفر الثاني» (570) بإسناد صحيح إلى الحسن قال: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... إلخ. وأما أحمد فلم يُخرجه من رواية الحسن، وإنما أخرجه هو (19992)، والنسائي في «الكبرى» (10764 - 10766)، وابن حبان (899)، والحاكم (1/ 510)، من طرق عن منصور بن المعتمر، عن رِبْعي بن حراش، عن عمران بقصة إسلام أبيه وتعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه الدعاء، وليس فيه موضع الشاهد.

(3/239)


حُصَين قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي: «يا حُصَين كم تعبد اليوم إلهًا؟» قال أبي: سبعة، ستة في الأرض وواحدًا في السماء، قال: «فأيهم تُعدّ لرغبتك ورهبتك؟» قال: الذي في السماء، قال: «يا حصين أما إنك لو أسلمتَ علّمتك كلمتين تنفعانك». قال: فلما أسلم حصين قال: يا رسول الله علِّمْني الكلمتين اللَّتَين وعدتني، قال: «قُل: اللهم ألهمني رشدي، وأَعِذني مِن شرّ نفسي». وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه شهد للجارية بالإيمان حيث أقرت بأن الله في السماء، وحديثها في «صحيح مسلم» (1). وثبت عنه في «الصحيح» (2) أنه جعل يشير بإصبعه إلى السماء في خطبته في حجة الوداع ويَنْكُتها إلى الناس ويقول: «اللهم اشهد»، وكان مستشهدًا بالله حينئذ، لم يكن داعيًا حتى يقال: السماء قبلة الدعاء (3). _________ (1) برقم (537) من حديث معاوية بن حكم السُّلمي. وانظر لتخريجه الموسّع والرد على الطاعنين في صحته: «تكحيل العين بجواز السؤال عن الله بأين» لصادق بن سَليم بن صادق. (2) «صحيح مسلم» (1218/ 147) ضمن حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (3) يشير المؤلف إلى قول نفاة العلو من الجهمية وأفراخهم الذين إذا احتجّ عليهم بأن الناس على اختلاف مللهم ونحلهم يتوجّهون بقلوبهم ووجوههم وأيديهم إلى السماء عند الدعاء= أجابوا بأن السماء قبلة الدعاء. انظر لقولهم: «الاقتصاد في الاعتقاد» للغزالي (ص 44)، و «أساس التقديس» للرازي (ص 97 - 98)، وللرد الموسّع عليه: «بيان تلبيس الجهمية» لشيخ الإسلام (4/ 529 - 560).

(3/240)


وفي «الصحيحين» (1) من حديث عبد الرحمن بن أبي نُعْم قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله صلى الله [ق 245] عليه وسلم من اليمن بذُهَيبةٍ في أَدِيم مقروظٍ لم تُحَصَّل من ترابها، فقسمها بين أربعة نفر، بين عُيَينةَ بن بدر، والأقرع بن حابس، وزيد الخيل، والرابع إما علقمة بن عُلاثة وإما عامر بن الطفيل، فقال رجل من أصحابه: كنا أحقَّ بهذا من هؤلاء، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -: فقال: «ألا تأمنوني، وأنا أمين مَن في السماء، يأتيني خبر السماء صباحًا ومساء». وسيأتي إن شاء الله (2) حديث أبي الدرداء: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ربنا الله الذي في السماء، تقدّس اسمك، أمرُك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء ... » الحديث. رواه أبو داود في الطب (3). _________ (1) البخاري (4351) ومسلم (1064/ 144). (2) كذا، وكتاب الطب متقدم على هذا الموضع، ولعل المؤلف هذّب هذا الباب وعلق عليه قبل الأبواب المتقدمة عليه، ومما قد يدل على هذا قوله في البيوع (2/ 502) بصيغة الماضي: «وقد استوفينا الكلام عليه [يعني ابن إسحاق] في الرد على الجهمية من هذا الكتاب». (3) برقم (3892)، وأخرجه النسائي في «الكبرى» (10809)، وابن حبان في «المجروحين» (1/ 386)، وابن عدي في «الكامل» (3/ 197)، والحاكم (4/ 218 - 219)، وإسناده ضعيف، فيه زيادة بن محمد الأنصاري منكر الحديث، وأغرب الحاكم فقال: صحيح الإسناد! وأخرجه أحمد (23957) من حديث فضالة بن عُبَيد، والنسائي في «الكبرى» (10807) من حديث رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي كلا الإسنادين لين، ولكن بمجموعهما يرتقي الحديث إلى درجة الحسن إن شاء الله.

(3/241)


وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس مولى لعبد الله بن عمرو بن العاص، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ارحموا مَن في الأرض يَرحمْكم من في السماء». رواه الترمذي (1) وقال: حديث حسن صحيح. وسيأتي في كتاب الأدب. وفي «صحيح ابن حبان» (2) عن أبي عثمان النَّهدي عن سلمان الفارسي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن ربكم حَييّ كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردّهما صفرًا». وقد روى الترمذي والبيهقي (3) من حديث حماد بن سلمة عن يعلى بن _________ (1) برقم (1924)، وأبو داود (4941). (2) برقم (876، 880)، وأخرجه أحمد (23714)، وأبو داود (1488)، والترمذي (3556)، وابن أبي شيبة (30170)، ووكيع في «الزهد» (504)، والحاكم (1/ 496)، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (1/ 220 - 223) من طرق عن أبي عثمان النهدي به، إلا أنه اختُلف فيه رفعًا ووقفًا، والموقوف أشبه. (3) الترمذي (3109)، والبيهقي في «الصفات» (2/ 235 - 236، 303). وأخرجه أحمد (16188)، وابن ماجه (182)، وابن أبي عاصم (625) وعبد الله (431) كلاهما في «السنة»، وابن حبان (6140). قال الترمذي: «حديث حسن»، وكذا حسّن إسناده الذهبي في «العلو» (1/ 274)، وصححه ابن حبان، وضعَّفه ابن قتيبة وغيره بجهالة حال وكيع بن حُدُس ــ ويقال: عُدُس ــ، وتُعقِّب بأن ابن حبان قال عنه في «مشاهير علماء الأمصار» (ص 200): «مِن الأثبات»، وصحّح له هو والترمذي وابن خزيمة والحاكم كما في «التذييل على كتب الجرح والتعديل» (ص 339 - 340)، وعليه فمثله لا ينحط حديثه عن درجة الحسن إن شاء الله.

(3/242)


عطاء عن وكيع بن حُدُس (1) عن أبي رَزِين العُقَيلي قال قلت: يا رسول الله أين كان ربنا تبارك وتعالى قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: «كان في عَمَاءٍ (2) ما فوقه هواء وما تحته هواء، ثم خلق العرش ثم استوى عليه». هذا لفظ البيهقي. وهذا الإسناد صححه الترمذي في موضع وحسنه في موضع، فصحّحه في الرؤيا (3): حدثنا الحسن بن علي (4) الخلال، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا (5) شعبة عن، يعلى بن عطاء، عن وكيع بن عُدُس، عن عمه أبي رَزِين العُقَيلي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءًا من النبوة، وهي على رِجلِ طائرٍ ما لم يتحدّث بها فإذا تحدّث بها _________ (1) في الطبعتين: «عدس» خلافًا للأصل، وقد نصَّ الترمذي عقب الحديث أن حماد بن سلمة يقول: «حُدُس»، ويقول شعبة وغيره: «عدس». والحديث هنا من طريق حماد، وسيأتي من طريق شعبة. (2) فسّره يزيد بن هارون (وهو الراوي عن حماد) فقال: العماء: أي ليس معه شيء. وفسّره إسحاق بن راهويه وأئمة اللغة: الأصمعي وأبو عبيد والأزهري بأنه السحاب. قال الأزهري: ويقوي هذا القول قولُ الله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ}. انظر: «كتاب السنة من مسائل حرب» (350)، و «تهذيب اللغة» (عمى). (3) برقم (2278، 2279) واللفظ المذكور لأوّلهما والإسناد للثاني .. وأخرجه أيضًا أحمد (16182، 16183، 16191)، وأبو داود (5020)، وابن حبان (6049)، والحاكم (4/ 390)، من طرق عن يعلى بن عطاء به. (4) «علي» سقط من الأصل، واستدرك من (هـ). (5) في الطبعتين: «حدثنا» خلافًا للأصل ولجامع الترمذي.

(3/243)


سقطت»، قال: وأحسبه قال: «لا تحدّث بها إلا لبيبًا أو حبيبًا». قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. قال ابن القطان (1): فيلزمه تصحيح الحديث الأول أو الاقتصار على تحسين الثاني؛ يعني لأن الإسناد واحد. قال: فإن قيل لعله حسّن الأول لأنه من رواية حماد بن سلمة، وصحح الثاني لأنه من رواية شعبة، وفَضْل ما بينهما في الحفظ بيّن= قلنا: قد صحح من أحاديث حماد بن سلمة ما لا يُحصى، وهو موضع لا نظر فيه عنده ولا عند أحد من أهل العلم، فإنه إمام، وكان عند شعبة من تعظيمه وإجلاله ما هو معلوم. وروى البيهقي (2) عن الحاكم، عن الأصم، عن محمد بن إسحاق الصَّغاني (3)، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا جرير بن حازم، عن أبي يزيد _________ (1) في «بيان الوهم والإيهام» (3/ 618 - 619). (2) «الأسماء والصفات» (2/ 322)، وأخرجه عثمان بن سعيد الدارمي في «الرد على الجهمية» (ص 54) وفي «الرد على بشر المريسي» (1/ 316 - 317) من طريق موسى بن إسماعيل التبوذكي عن جرير بن حازم به. قال الذهبي في «العلو» (1/ 610): هذا إسناد صالح فيه انقطاع، أبو يزيد لم يلحق عمر. وبنحوه قال ابن كثير في «التفسير» (المجادلة: 1). (3) في الأصل وط. الفقي: «الصنعاني» تصحيف، وأصلحه محقق ط. المعارف إلى: «الصاغاني»، وهو وجه صحيح أيضًا في النسبة إلى «صغانيان» (ولاية عظيمة بما وراء النهر) التي منها محمد بن إسحاق هذا، وهو الإمام الحافظ أبو بكر محمد بن إسحاق بن جعفر الصَّغاني ثم البغدادي (ت 270). انظر: «معجم البلدان» (3/ 409) و «السير» (12/ 592).

(3/244)


المديني: أن عمر بن الخطاب مرّ في ناس من أصحابه فلقيتْه عجوزٌ واستوقفته فوقف عليها فوضع يده على منكبيها حتى (1) قضت حاجتها، فلما فرغت قال له رجل: حبستَ رجالات قريش على هذه العجوز! قال: ويحك! تدري من هذه؟ هذه عجوز سمع الله عز وجل شكواها من فوق سبع سماوات، والله لو استوقفتني إلى الليل لوقفتُ عليها إلا أن آتي صلاة ثم أعود إليها (2)». قال البيهقي (3): وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو عبد الله محمد بن علي الجوهري، حدثنا إبراهيم بن الهيثم، حدثنا محمد بن كثير المِصّيصي قال: سمعتُ الأوزاعي يقول: كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته. وقال البخاري في «الصحيح» (4): قال أبو العالية: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} _________ (1) في الأصل و (هـ): «ثم»، تصحيف. (2) في الأصل: «عليها»، تصحيف، والتصحيح من (هـ). (3) «الأسماء والصفات» (2/ 304)، ومن طريقه الجورقاني في «الأباطيل والمناكير» (1/ 212)، والذهبي في «تذكرة الحفّاظ» (1/ 181 - 182) و «السير» (7/ 120 - 121). إسناده مسلسل بأئمة أعلام، على لين في حديث بعضهم؛ وقد صحح إسناده شيخ الإسلام في «الفتوى الحموية» (5/ 39 - مجموع الفتاوى»، والذهبي في «التذكرة» (1/ 136)، والمؤلف في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 186)، وجوّده الحافظ في «الفتح» (13/ 406). (4) كتاب التوحيد، باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}. وقول أبي العالية وصله ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 75)، وقول مجاهد وصله الفريابي في «تفسيره» ــ كما في «التغليق» (5/ 345) ــ عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه.

(3/245)


[البقرة: 29] ارتفع، {فَسَوَّى}: (1) خَلَقهنّ، وقال مجاهد: {اسْتَوَى} علا. وقال أبو الحسن علي بن مهدي (2) الطبري من كبار أصحاب أبي الحسن الأشعري: «والله في السماء فوقَ كل شيء، مستوٍ على عرشه بمعنى أنه عالٍ عليه، ومعنى الاستواء الاعتلاء، كما تقول: استويتُ على ظهر الدابة، واستويتُ على السطح بمعنى علوتَه، واستوت الشمسُ على رأسي واستوى الطيرُ على قمة رأسي بمعنى علا، تعني علا في الجو فوُجِد فوق رأسي؛ فالقديم سبحانه عالٍ على عرشه، لا قاعد ولا قائم ولا مماسّ ولا مباين عن العرش». هذا كلامه حكاه عنه البيهقي (3). قال (4): وروى [أبو] الحسن بن مهدي الطبري عن أبي عبد الله نِفطويه _________ (1) كذا في الأصل بالاقتصار على الفعل دون ضمير النصب من قوله تعالى: {فَسَوَّاهُنَّ}، وهكذا هو في «الصحيح» برواية أبي ذر عن الحَمُّويي والمستملي، وفي باقي روايات «الصحيح»: {فَسَوَّاهُنَّ}. (2) ط. الفقي: «محمد» خلافًا للأصل، وهو هنا منسوب إلى جده فإنه علي بن محمد بن مهدي الطبري، الفقيه المتكلم، ألف «كتاب تأويل الأحاديث المشكلات الواردات في الصفات». انظر: «طبقات الشافعية الكبرى» (3/ 466). وقد أورد البيهقي في مواضع من كتابه «الأسماء والصفات» (2/ 172، 412، 421 وغيرها) كلامًا لأبي الحسن الطبري في تأويل (= تحريف) أحاديث الصفات من كتابه المذكور، ولعل النقل الآتي منه أيضًا، وإنما نقله المؤلف لما فيه من موافقة الحق. (3) «الأسماء والصفات» (2/ 308). (4) أي البيهقي في كتابه (2/ 314). وأخرجه اللالكائي في «السنة» (3/ 442 - 443) من طريق نفطويه ومن طريق آخر أيضًا عن ابن الأعرابي، وإسناد كليهما صحيح.

(3/246)


قال: أخبرني أبو سليمان قال: كنا عند ابن الأعرابي (1) فأتاه رجل فقال يا أبا عبد الله ما معنى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] قال: إنه مستوٍ على عرشه كما أخبر، فقال الرجل: إنما معنى {اسْتَوَى} استولى، فقال له ابن الأعرابي: ما يُدريك؟ العربُ لا تقول: استولى على الشيء فلانٌ حتى يكون له فيه مُضاد، فأيهما غلب قيل: قد استولى عليه، والله تعالى لا مضاد له، فهو على عرشه كما أخبر. وقال يحيى بن إبراهيم الطُّلَيطِلي (2) في كتاب «سِيَر الفقهاء»: حدثني عبد الملك بن حبيب، عن عبد الله بن المغيرة، عن الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: «كانوا يكرهون قول الرجل: يا خيبة الدهر، وكانوا يقولون الله هو الدهر؛ وكانوا يكرهون قول الرجل: رَغِم أنفي لله، وإنما يرغم أنف الكافر؛ وكانوا يكرهون قول الرجل: لا والذي [ق 246] خاتمه على فمي، وإنما يختم على فم الكافر؛ وكانوا يكرهون قول الرجل: واللهِ حيث كان، أو: إن الله بكل مكان» (3)، قال أصبغ: «وهو مستوٍ على عرشه، وبكلّ مكان علمه _________ (1) أبو سليمان هو داود بن علي الظاهري، كما جاء مصرّحًا في رواية اللالكائي، وابن الأعرابي هو إمام اللغة في زمانه محمد بن زياد ابن الأعرابي (ت 231). (2) هو المعروف بابن مُزَين، من أهل «طُلَيطِلة» بلدة عظيمة بالأندلس، كان حافظًا للموطأ فقيهًا فيه، وله حظ من علم العربية، وله «تفسير الموطأ» وغيره من التآليف الحسان، توفي سنة 259. انظر: «ترتيب المدارك» (4/ 238). وقد وصف المؤلفُ كتابَه «سِيَر الفقهاء» في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 202) بأنه «كتاب جليل غزير العلم». (3) إسناده ضعيف لضعف عبد الملك بن حبيب القرطبي وعبد الله بن المغيرة. انظر: «لسان الميزان» (5/ 255، 20)، وقد رويت الجملة الأخيرة عند ابن أبي شيبة (12539) من طريق آخر عن إبراهيم بلفظ: «كان يكره أن يقول: وإني سآتيك واللهِ حيث كان، قال: فإن الله بكل مكان». وعلى هذا يكون ما هنا تصحيفًا، ويؤيّده أن إبراهيم أعقب كل مكروه بذكر علة الكراهة، فتكون الجملة الأخيرة كذلك، وأيضًا فإن ابن مُزَين أعقبه بذكر قول شيخه أصبغ بن الفَرَج (ت 225) لتأويل كلام إبراهيم بأن معنى كونه في كل مكان: علمُه وإحاطتُه. والله أعلم.

(3/247)


وإحاطته». وقال ابن عبد البر في «التمهيد» و «الاستذكار» (1): قال مالك: «الله في السماء وعلمه في كل مكان». وقال القاضي أبو بكر بن الطيب المالكي الأشعري (2) في رسالته المشهورة التي سماها «رسالة الحُرَّة (3)»: «وأن الله سبحانه شاءٍ مريدٌ كما قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] و: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ _________ (1) لم أجده في «الاستذكار»، وإنما أسنده في «التمهيد» (7/ 138) من طريق عبد الله بن الإمام أحمد ــ وهو عنده في «السنة» (11) ــ عن أبيه، عن سريج بن النعمان، عن عبد الله بن نافع، عن مالك. وإسناده صحيح مسلسل بالأئمة إلى عبد الله. ورواه أيضًا صالح (2/ 397) وأبو داود (ص 253) في «مسائلهما» عن الإمام أحمد به، ومن طريق أبي داود أخرجه الآجُرِّي في «الشريعة» (3/ 1077). (2) هو الباقلّاني (ت 403)، قال شيخ الإسلام: هو أفضل المنتسبين إلى الأشعري، ليس فيهم مثلُه، لا قبلَه ولا بعده. «مجموع الفتاوى» (5/ 98). (3) رسمه في الأصل: «الحده»، وفي ط. الفقي: «الحيدة»، والتصحيح من ط. المعارف. وهذه الرسالة مطبوعة باسم «الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به»، وهذا النقل فيه (ص 24)، وإنما سُمّيت «رسالة الحرّة» لأنه ألّفها استجابةً لِما «التمستْه الحرّةُ الفاضلة الديّنة ... مِن ذكر جُمَلِ ما يجب على المكلّفين اعتقادُه ولا يسع الجهل به ... ». (ص 13).

(3/248)


بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]، وأن الله مستوٍ على عرشه ومستول على جميع خلقه، كما قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، بغير مماسة ولا كيفية ولا مجاورة». وقال حافظ الغرب إمامُ السنة في وقته أبو عمر ابنُ عبد البرِّ في كتابيه (1) «التمهيد» و «الاستذكار» في شرح حديث مالك عن ابن شهاب عن الأغرِّ وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا ... » الحديث، قال أبو عمر ــ وهذا لفظه في «الاستذكار» (2) ــ: فيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش من فوق سبع سماواتٍ كما قالت الجماعة، وهو مِن حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم: إن الله تعالى في كل مكان وليس على العرش. والدليل على صحة ما قاله أهل الحق في ذلك قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [السجدة: 4] (3)، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11]، وقوله تعالى: {إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42]، وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} _________ (1) في الأصل: «كتابه»، والمثبت من ط. الفقي. (2) بل هذا لفظه في «التمهيد» (7/ 129 - 134)، وإليه عزاه المؤلف في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 204 - 213) ثم قال: «وذكر هذا الكلام أو قريبًا منه في كتاب الاستذكار»، قلتُ: هو فيه (8/ 148 - 151) مختصرًا. (3) هذه الآية ساقطة من الأصل، واستُدركت من (هـ) و «التمهيد» ..

(3/249)


[فاطر: 10]، وقوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143]، وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [الملك: 16]، وقال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وهذا من العلو، وكذلك قوله: {الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]، {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 9]، {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر: 15]، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]. وقال جل ذكره: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5]، وقوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، وقوله لعيسى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]، وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]، وقال: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [فصلت: 38]، وقال: {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأنبياء: 19]، وقال: {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} [المعارج: 2 - 3]، والعروج هو الصعود. وأما قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]، فمعناه: مَن على السماء، يعني على العرش، وقد تكون «في» بمعنى «على»، ألا ترى إلى قوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} [التوبة: 2] أي: على الأرض، وكذلك قوله: {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] أي: على جذوع النخل. وهذا كله يعضده قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] وما كان مثلَه مما تلونا من الآيات في هذا الباب. وهذه الآيات كلها واضحة في إبطال قول المعتزلة.

(3/250)


وأما ادعاؤهم المجازَ في الاستواء، وقولُهم: {اسْتَوَى} بمعنى استولى= فلا معنى له، لأنه غير ظاهر في اللغة، ومعنى الاستيلاء في اللغة: المغالبة، والله لا يغالبه ولا يعلوه أحد، وهو الواحد الصمد. ومِن حقِّ الكلام أن يحمَل على حقيقته، حتى تتفق الأمة (1) أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أُنزِل إلينا من ربِّنا إلا على ذلك، وإنما يوجَّه كلام الله إلى الأشهر والأظهر من وجوهه ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم. ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدّعٍ ما ثبت شيء من العبارات، وجلّ اللهُ أن يخاطِب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين. والاستواء في اللغة معلوم مفهوم، وهو العلو والارتفاع على الشيء، والاستقرار والتمكن فيه. قال أبو عبيدة (2): في قوله تعالى {اسْتَوَى}، قال: علا، وتقول العرب: استويتُ فوق الدابة، واستويت فوق البيت. قال أبو عمر: و [الاستواء:] (3) الاستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله عز وجل في كتابه فقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف: 13]، وقال: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44]، وقال: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28]. _________ (1) ط. الفقي: «حتى يكون اتفاق من الأمة» خلافًا لما في الأصل و «التمهيد»، ولهذا التغيير نظائر في هذا النص المنقول لا نُمِلُّ القارئ بذكرها. (2) انظر: «مجاز القرآن» له (1/ 273، 2/ 15). (3) ساقط من الأصل و (هـ)، واستدركته من «التمهيد».

(3/251)


وقال الشاعر (1): فأوردتُهم ماءً بفَيفاءَ قفرةٍ ... وقد حلّق النجمُ اليماني فاستوى وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد: استولى، لأن النجم لا يستولي. وقد ذكر النَّضْر بن شُمَيل ــ وكان ثقةً مأمونًا جليلًا في علم الديانة واللغة ــ، قال: حدثني الخليل ــ وحسبك بالخليل ــ قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي، وكان مِن أعلم مَن رأيتُ، فإذا هو على سطح، فسلَّمنا فردَّ علينا السلام وقال لنا: استووا، فبَقِينا متحيّرين ولم ندرِ ما قال، فقال لنا أعرابي إلى جنبه: أمركم أن ترتفعوا، قال الخليل: هو مِن قول الله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11]، فصعدنا إليه. وأما من نزع منهم بحديث عبد الله بن واقد الواسطي بإسناده (2) عن ابن عباس: «{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي: استولى على جميع بريَّته، فلا يخلو منه مكان» = فالجواب أن هذا حديث منكر ونَقَلَته مجهولون ضعفاء، وهم لا يقبلون أخبار الآحاد العدول، فكيف يسوغ لهم الاحتجاج بمثل هذا من الحديث لو عقلوا أو أنصفوا؟! أما سمعوا الله عز وجل حيث يقول: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ _________ (1) البيت بلا نسبة في «تهذيب اللغة» (4/ 265) ومنه في «اللسان» (صبح)، والرواية فيهما: «وصَبَّحْتُهم» أي أوردتهم صباحًا. (2) إسناده كما في «التمهيد» (7/ 132): عبد الله بن واقد الواسطي، عن إبراهيم بن عبد الصمد، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عباس.

(3/252)


[ق 247] كَاذِبًا} [غافر]، فدلَّ على أن موسى كان يقول إلهي في السماء، وفرعون يظنه كاذبًا. وقال أمية (1): فسبحان من لا يقدر الخلقُ قدرَه ... ومن هو فوق العرش فرد موحَّدُ مليك على عرش السماء مهيمن ... لعزته تعنو الوجوهُ وتسجدُ قال أبو عمر: وإن احتجوا بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]، وبقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 3]، وبقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} الآية [المجادلة: 7] = قيل لهم: لا خلاف بيننا وبينكم وبين سائر الأمة أنه ليس في الأرض دون السماء، فوجب حمل هذه الآية على المعنى الصحيح (2) المجمع عليه، وذلك أنه في السماء إله معبود من أهل السماء، وفي الأرض إله معبود مِن أهل الأرض، وكذلك قال أهل العلم بالتفسير، وظاهر التنزيل يشهد أنه على العرش، والاختلاف في ذلك ساقط، وأسعدُ الناس به من ساعده الظاهر. وأما قوله: {وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ}، فالإجماع والاتفاق قد بيَّن المراد أنه معبود مِن أهل الأرض، فتدبّر هذا فإنه قاطع. _________ (1) في داليته المعروفة، في «ديوانه» (ص 367 - 374)، و «روائع التراث» لشيخنا محمد عزير شمس (ص 232). (2) في الأصل: «صحيح» دون لام التعريف، سبق قلم.

(3/253)


ومن الحجة أيضًا على أنه تبارك وتعالى على العرش فوق السماوات: أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمرٌ أو نزلت بهم شدة، رفعوا أيديهم ووجوههم إلى السماء فيستغيثون ربهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر عند العامة والخاصة من أن يُحتاج فيه إلى أكثر من حكايته، لأنه اضطرار لم يُوقفهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأمة (1) التي أراد مولاها عتقَها، فاختبرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن كانت مؤمنة، فقال لها: «أين الله؟» فأشارت إلى السماء، ثم قال لها: «من أنا؟» قالت: رسول الله، قال: «أَعْتِقْها فإنها مؤمنة»، فاكتفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برفعها رأسها إلى السماء واستغنى بذلك عما سواه. هذا لفظ أبي عمر في «الاستذكار»، وذكره في «التمهيد» أطول منه (2). وقال البيهقي (3) أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا هارون بن سليمان، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زِرّ، عن عبد الله قال: «بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء _________ (1) بعده في (هـ): «السوداء»، وليس في الأصل و «التمهيد». (2) سبق التنبيه على أن هذا لفظ «التمهيد» وأنه في «الاستذكار» بأخصر منه. (3) «الأسماء والصفات» (2/ 290)، وأخرجه الدارمي في «الرد على الجهمية» (ص 55) و «الرد على بشر المريسي» (1/ 422)، وابن خزيمة في «التوحيد» (178)، وابن أبي الزمنين في «أصول السنة» (39)، والطبراني في «الكبير» (9/ 228)، من طرق عن حماد بن سلمة به. قال الذهبي في «العلو» (1/ 617): إسناده صحيح, وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 86): رجاله رجال الصحيح.

(3/254)


خمسمائة عام، وبين [السماء] السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي وبين الماء خمسمائة عام، والكرسي (1) فوق الماء، والله عز وجل فوق الكرسي ويعلم ما أنتم عليه». قال (2): ورواه عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة عن عاصم بن بهدلة، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود قال: «ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، ثم بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام، وغِلَظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام، ثم ما بين السماء السابعة وبين الكرسي مسيرة خمسمائة عام، وما بين الكرسي والماء خمسمائة عام، والكرسي (3) فوق الماء والله فوق العرش، ولا يخفى عليه شيء من أعمالكم». وقال الشافعي ــ في كتاب «الأم»، ورُوِّيناه في «مسنده» (4) ــ: أخبرنا _________ (1) هكذا في الأصل وكتاب البيهقي هنا وفي الجملة التالية، والصواب أن العرش هو الذي فوق الماء، والله سبحانه وتعالى فوق العرش، كما هو في سائر مصادر هذا الحديث. (2) البيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 291 - 292). وإسناده إلى عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة المسعودي ضعيف، وممّا يدل على ضعفه قوله: «عن أبي وائل عن عبد الله» فإنه خطأ، والصواب: «عن زرّ عن عبد الله»، كما في رواية حماد بن سلمة السابقة، وكما في رواية المسعودي نفسه عند ابن خزيمة في «التوحيد» (787) وأبي الشيخ في «العظمة» (2/ 565) من طريقين عنه. (3) كذا في الأصل وكتاب البيهقي، والصواب: العرش، وسبق التنبيه على نظيره. (4) «الأم» (2/ 432 - 433)، و «مسند الشافعي» بترتيب سنجر (461) وبترتيب السندي (374). وإسناده ضعيف جدًّا، إبراهيم بن محمد الأسلمي متروك الحديث، وموسى بن عبيدة الرَّبَذي ضعيف يحدّث بمناكير.

(3/255)


إبراهيم بن محمد، قال: حدثني موسى بن عبيدة، قال: حدثني أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة، عن عبد الله (1) بن عبيد بن عمير، أنه سمع أنس بن مالك يقول: «أتى جبريلُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بمرآةٍ بيضاء فيها نكتة (2)، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما هذه؟ فقال: هذه الجمعة فُضِّلت بها أنت وأمتك، والناس لكم فيها تبع: اليهود والنصارى، ولكم فيها خير، وفيها ساعة لا يوافقها مؤمن يدعو الله بخير إلا استجيب له، وهو عندنا يوم المزيد. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا جبريل وما يوم المزيد؟ فقال: إن ربك اتخذ في الفردوس واديًا أفيح فيه كُثُب من مسك، فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله تبارك وتعالى ما شاء من ملائكته وحوله منابرُ من نور عليها مقاعدُ للنبيين، وحَفَّ تلك المنابر بمنابرَ من ذهبٍ مُكلَّلة بالياقوت والزبرجد، عليها الشهداء والصديقون، فجلسوا من ورائهم على تلك الكُثُب، فيقول الله عز وجل: أنا ربكم قد صدَقتُكم وعدي فسلوني أُعطِكم، فيقولون: ربنا نسألك رضوانك، فيقول قد رضيت عنكم، ولكم ما تمنيتم ولدي مزيد. فهم يحبون يوم الجمعة لِما يعطيهم فيه ربهم من الخير، وهو اليوم الذي استوى فيه ربك تبارك وتعالى على العرش، وفيه خلق آدم، وفيه تقوم الساعة». قال الشافعي (3): «وأخبرنا إبراهيم قال: حدثني أبو عمران إبراهيم بن _________ (1) في الأصل و (هـ): «عبيد الله»، تصحيف. (2) كذا في الأصل والكتب الأخرى للمؤلف كـ «اجتماع الجيوش» (ص 115) و «زاد المعاد» (النسخ الخطية)، والذي في «الأم» و «مسند الشافعي» و «معرفة السنن والآثار» (4/ 426): «وَكْتة»، وهما بمعنى، وقد ورد في بعض الطرق الأخرى للحديث: «نكتة سوداء». (3) في «الأم» (2/ 433)، وإسناده واهٍ أيضًا، فيه علاوة على إبراهيم بن محمد الأسلمي: أبو عمران إبراهيم بن الجعد، قال أبو حاتم: شيخ ضعيف الحديث. «الجرح والتعديل» (2/ 91).

(3/256)


الجعد، عن أنس بن مالك شبيهًا به». احتج به الشافعي في فضل الجمعة، وكان حسنَ القول في إبراهيم بن محمد شيخه، والحديث له طرق عديدة (1). ورواه أبو اليمان الحكم بن نافع (2)، حدثنا صفوان قال: قال أنس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أتاني جبريل ... » فذكره. ورواه محمد بن شعيب عن عمر مولى غُفْرة (3) عن أنس بن مالك عن النبي [ق 248]- صلى الله عليه وسلم - (4). _________ (1) أكثرها واهية أو معلّة، وأجودها طريقُ خالد بن مخلد القطواني، عن عبد السلام بن حفص المدني، عن أبي عمران الجَوني، عن أنس. أخرجه الطبراني في «الأوسط» (2084)، ومن طريقه اختاره الضياء (6/ 272). وقال الذهبي في «العلو» (1/ 347، 365 ــ بتصّرف يسير): «هذا حديث مشهور وافر الطرق، وهي يعضد بعضها بعضًا، رزقنا الله وإياكم النظر إلى وجهه الكريم». آمين! (2) وعنه محمد بن خالد بن خَلِيّ، كما في «حادي الأرواح» (2/ 657) للمؤلف، ولم أجد من أخرج الحديث من هذا الطريق. وفي إسناده انقطاع، صفوان ــ وهو ابن عمرو السكسكي ــ لم يسمع من أنس. (3) في الطبعتين: «عفرة» بالعين المهملة، خطأ. (4) من هذا الطريق أخرجه الدارمي في «الرد على الجهمية» (ص 90) و «الرد على المريسي» (1/ 420)، والدارقطني في «الرؤية» (65)، وابن منده في «التوحيد» (3/ 41)، وإسناده ضعيف، عمر مولى غُفرة فيه لين، وقال أبو حاتم: «لم يلقَ أنس بن مالك». «المراسيل» (ص 137).

(3/257)


ورواه أبو طيبة عن عثمان بن عمير عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (1). وقد جمع أبو بكر بن أبي داود طرقه وقال (2): أبو طَيبة اسمه رجاء بن الحارث ثقة، وعثمان بن عمير يكنى أبا اليقظان. وقد تواترت الأحاديث الصحيحة التي أجمعت الأمة على صحتها وقبولها بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عُرج به إلى ربه، وأنه جاوز السماوات السبع، وأنه تردد بين موسى وبين الله عز وجل مرارًا في شأن الصلاة وتخفيفها (3). وهذا من أعظم الحجج على الجهمية، فإنهم لا يقولون: عُرج به إلى ربه، وإنما يقولون: عرج به إلى السماء. وقد تواترت الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الله عز وجل ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا يقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ رواه بضعة وعشرون صحابيًا (4). _________ (1) من هذا الطريق أخرجه عبد الله بن أحمد في «السنة» (442)، والبزّار (7527)، والآجري في «الشريعة» (2/ 1022 - 1026)، وابن منده في «التوحيد» (399)، وغيرهم. وأخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (5560)، وابن أخيه في «العرش» (88)، والدارقطني في «الرؤية» (59، 60، 62، 63)، وابن منده في «التوحيد» (397) من طرق أخرى عن عثمان بن عمير به. وعثمان هذا مُجمَع على ضعفه، وقيل: إنه لم يسمع من أنس. انظر: «تهذيب التهذيب» (7/ 145). (2) كما في «الشريعة» للآجري (2/ 1027)، والمؤلف صادر عنه. (3) أخرجه البخاري (349، 3887) ومسلم (263، 264) من حديث أبي ذر وحديث مالك بن صعصعة - رضي الله عنهما -. (4) المراد بهذا العدد جملة مَن روي عنه حديثٌ في النزول سواء كان ذلك كل ليلة، أو في ليلة النصف من شعبان، أو عشية عرفة. وهو ظاهر إطلاق الذهبي في «كتاب العرش» (2/ 82)، وذكر أنه أفرد لذلك جزءًا، وقد خرَّجه محقق الكتاب محمد بن خليفة التميمي في الهامش عن واحد وعشرين صحابيًّا، اثنا عشر منها في النزول كل ليلة. وانظر: «النزول» للدارقطني، فإنه أتى على جلّ ما في الباب.

(3/258)


وفي «مسند الإمام أحمد» و «سنن ابن ماجه» (1) من حديث محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بينا أهل الجنة في نعيمهم، إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب تبارك وتعالى قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة». قال: «وذلك قوله تعالى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]»، قال: «فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم». وفي «الصحيحين» (2) عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمس كلمات فقال: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفَع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه». قال أبو عبد الله الحاكم في «علوم الحديث» (3) في النوع العشرين: _________ (1) لم أجده في «المسند» ولا في «أطرافه»، وإنما أخرجه ابن ماجه (184)، وأيضًا الآجري في «الشريعة» (2/ 1028)، والعقيلي في «الضعفاء» (3/ 269)، وابن عدي في «الكامل» (6/ 13)، كلهم من طريق الفضل بن عيسى الرقاشي، عن محمد بن المنكدر به. وإسناده واهٍ، فإن الفضل ضعيف منكر الحديث، وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» (3/ 592)، وهو بـ «العلل المتناهية» أشبه. (2) كذا، وإنما أخرجه مسلم (179) فقط. (3) (ص 285 - 286).

(3/259)


سمعت محمد بن صالح بن هانئ يقول: سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: من لم يُقرّ بأن الله تعالى على عرشه قد استوى فوق سبع سماواتٍ فهو كافر به، يستتاب فإن تاب وإلا ضُرِبت عنقه وأُلقي على بعض المزابل حيث لا يتأذّى المسلمون ولا المعاهدون بنتن ريح جيفته، وكان ماله فيئًا لا يرثه أحد من المسلمين، إذ المسلم لا يرث الكافر كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان عن الضحاك: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7]، قال: «هو الله عز وجل على العرش وعلمه معهم». ذكره البيهقي (1). وبهذا الإسناد قال مقاتل بن حيَّان: «بلغنا ــ والله أعلم ــ في قوله عز وجل: {هُوَ الْأَوَّلُ ... } [الحديد: 3]: {الْأَوَّلُ} قبل كل شيء، {وَالْآخِرُ} بعد كل شيء، {وَالظَّاهِرُ} فوق كل شيء، {وَالْبَاطِنُ} أقرب من كل شيء، وإنما يعني بالقرب: بعلمه وقدرته، وهو فوق عرشه، {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}». ذكره البيهقي (2) أيضًا. _________ (1) في «الأسماء والصفات» (2/ 341 - 342) بإسناده. وأخرجه أيضًا عبد الله في «السنة» (577)، والطبري في «التفسير» (22/ 468)، والآجري في «الشريعة» (3/ 1079)، وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (2619). قال الذهبي: إسناده جيّد. «العلو» (2/ 918). (2) «الأسماء والصفات» (2/ 342) من طريق أبي خالد يزيد بن صالح اليشكري، عن بكير به. وإسناده جيّد ولم يُصب محققه في تضعيفه بناءً على تجهيل أبي حاتم ليزيد بن صالح، فقد وثَّقه غيره، وكان ورعًا كبير القدر، وصحح له ابن حبان والحاكم. انظر: «سير النبلاء» (10/ 479)، و «لسان الميزان» (8/ 498).

(3/260)


قال (1): وبهذا الإسناد عن مقاتل بن حيان في قوله: {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة: 7]، يقول: علمه، وذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، فيعلم نجواهم ويسمع كلامهم ثم ينبئهم يوم القيامة بكل شيء، وهو فوق عرشه وعلمه معهم. وقال الحاكم: سمعت أبا جعفر محمد بن صالح بن هانئ يقول: سمعت محمد بن نعيم يقول: سمعت الحسن بن الصباح البزار يقول: سمعت علي بن الحسن بن شقيق يقول: سألت عبد الله بن المبارك قلت: كيف نعرف ربنا؟ قال: «في السماء السابعة على عرشه». قال الحاكم: وأخبرنا أبو بكر محمد بن داود الزاهد، حدثنا محمد بن عبد الرحمن السَّامي، حدثني عبد الله بن أحمد بن شبّويه المروزي قال: سمعت علي بن الحسن بن شقيق [يقول]: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: نعرف ربنا فوق سبع سماوات على العرش استوى، بائن من خلقه ولا نقول كما قالت الجهمية: إنه هاهنا ــ وأشار إلى الأرض ــ (2). _________ (1) البيهقي في الموضع السابق. (2) أخرجه البيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 335 - 336) عن الحاكم بالإسنادين المذكورين. وأخرجه أيضًا الدارمي في «الرد على الجهمية» (ص 47) وعبد الله في «السنة» (22، 202)، وابن المقرئ في «معجمه» (291)، وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (2694، 2695)، وابن منده في «التوحيد» (3/ 308)، والثعلبي في «تفسيره» (9/ 231)، من طرق عن علي بن الحسن بن شقيق به. إسناده في غاية الصحة، علي بن الحسن بن شقيق هو الإمام الحافظ شيخ خراسان، لزم ابن المبارك وروى عنه تصانيفه، واحتج الشيخان بروايته عن ابن المبارك، وقد صححه شيخ الإسلام في مواضع من مؤلفاته، والذهبي في «العلو» (2/ 986)، و «العرش» (2/ 188 - 189).

(3/261)


وقال عبد الله بن سعيد بن كُلَّاب فيما حكاه عنه أبو بكر بن فُورَك (1): «وأخرج من النظر والخبر قولُ من قال: لا هو داخل العالم ولا خارجه فنفاه نفيًا مستويًا، لأنه لو قيل له: صِفْه بالعدم، ما قدر أن يقول فيه أكثر منه، ورَدَّ أخبارَ الله نصًّا، وقال في ذلك بما لا يجوز في خبر ولا معقول، وزعم أن هذا هو التوحيد الخالص، والنفي الخالص عندهم هو (2) الإثبات الخالص، وهم (3) عند أنفسهم قَيَّاسُون». هذا حكاية لفظه. وقال الخطَّابي في كتاب «شعار الدين» (4): القول في أن الله تعالى مستوٍ على العرش: هذه المسألة سبيلها التوقيف المحض ولا يصل إليها الدليل من غير هذا الوجه، وقد نطق به الكتاب في غير آية ووردت به الأخبار الصحيحة فقبوله من جهة التوقيف واجب، والبحث عنه وطلب الكيفية غير _________ (1) في كتابه «المجرّد» الذي جمع فيه مقالات ابن كلّاب، كما في «اجتماع الجيوش الإسلامية» للمؤلف (ص 433)، وهو غير «مجرّد مقالات أبي الحسن الأشعري» له، بل ألّفه بعده على غراره، كما في خطبة كتابه التي نقلها شيخ الإسلام في «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 69 - 75). (2) في الأصل وط. الفقي: واو العطف، والتصحيح من (هـ) و «اجتماع الجيوش». (3) في الأصل: «وهو» تصحيف، والتصحيح من (هـ) و «اجتماع الجيوش». (4) ذكر هذا التأليف للخطابي أبو عمرو ابن الصلاح في «طبقات الفقهاء الشافعية» (1/ 469 - 470) وذكر أنه صرح فيه بأن الله في السماء. ونقل هذا الموضع منه شيخ الإسلام في «بيان تلبيس الجهمية» (4/ 491 - 494) بأطول مما هنا. ونقل في «مجموع الفتاوى» (3/ 262) و «بيان التلبيس» (1/ 172)، (3/ 388)، (4/ 283) موضعًا آخر منه في أن الله تعالى على عرشه بائن من جميع خلقه.

(3/262)


جائز، وقد قال مالك: «الاستواء معلوم والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة»، فمن التوقيف الذي جاء به الكتاب قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]. وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 59]. وقال: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر: 15]. وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك: 16 - 17]. وقال: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]. وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]. وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]. وقال حكاية عن فرعون أنه قال: {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ (1) إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر: 36 - 37]، فوقع قصد الكافر إلى الجهة التي أخبره موسى عنها، ولذلك لم يطلبه في طول الأرض وعرضها، ولم ينزل إلى طبقات الأرض سفلًا. فدل ما تلوناه من هذه الآي على أن الله سبحانه في السماء مستوٍ على _________ (1) في الأصل و (هـ): «لعلي أطلع إلى إله موسى» سهو، كأن المؤلف أو الناسخ اشتبهت عليه هذه الآية بآية سورة القصص: {فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)}.

(3/263)


العرش، ولو كان بكلّ مكان لم يكن لهذا التخصيص معنى ولا فيه فائدة، وقد جرت عادة المسلمين خاصّتهم وعامّتهم (1) بأن يدعوا ربهم عند الابتهال والرغبة إليه ويرفعوا أيديهم إلى السماء، وذلك لاستفاضة العلم عندهم بأن المدعو في السماء سبحانه (2). ثم ذكر قول من فسّر الاستواء بالاستيلاء وبيّن فساده. وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب «مقالات المصلين» (3) له في باب ترجمته: «باب اختلافهم في الباري هل هو في مكان دون مكان، أم لا في مكان، أم في كل مكان؟ وهل حملة العرش ثمانية أملاك أم ثمانية أصناف من الملائكة؟ اختلفوا في ذلك على سبع عشرة مقالة». ثم قال: وقال أهل السنة والحديث: ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وإنه على العرش كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، فلا نتقدم بين يدي الله في القول، بل نقول: استوى بلا كيف، وإن له وجهًا كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27]، وإن له يدين كما قال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، وإن له عينين كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]، وإنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، وإنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث، ولم يقولوا شيئًا إلا ما وجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقالت المعتزلة: إن الله استوى على عرشه بمعنى استولى. _________ (1) الأصل: «خاصّهم وعامّهم»، والمثبت من (هـ). (2) هنا ينتهي النقل من «شعار الدين» للخطابي. (3) (ص 210 - 211) تحقيق هلموت ريتر.

(3/264)


وقال بعد ذلك في حكاية قول أهل السنة والحديث (1): هذه حكاية جملة قول (2) أصحاب الحديث وأهل السنة. جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة: الإقرارُ بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يردون من ذلك شيئًا، وأنه تعالى إله واحد أحد فرد صمد، لا إله غيره، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله تعالى على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وأن له يدين بلا كيف كما قال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، وأن له عينين بلا كيف كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}، وأن له وجهًا كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27]. ثم ذكر مذهبَ عبد الله بن سعيد بن كُلَّاب (3) فقال (4): «كان يقول: إن القرآن كلام الله ... » وساقه إلى أن قال: «وإنه مستوٍ على عرشه كما قال، وإنه تعالى فوق كل شيء». هذا كله لفظه في «المقالات». _________ (1) «مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين» (ص 290). (2) في الأصل و (هـ): «قول جملة»، لعله انقلب سهوًا، وسيأتي على الصواب قريبًا. (3) كذا في الأصل وهو محض الصواب، وزعم محقق ط. المعارف أنه سهو شديد فغيّر «بن كلّاب» إلى «بن القطّان» وقال: «شتّان ما بينهما»، وليس كما زعم، بل هو هو، فعبد الله بن سعيد هو «القطّان»، وهو المشهور بـ «ابن كلّاب». انظر: «سير النبلاء» (11/ 174)، و «لسان الميزان» (4/ 486). (4) «مقالات الإسلاميين» (ص 298 - 299).

(3/265)


وقال أبو الحسن الأشعري - رحمه الله - أيضًا في كتاب «الموجز» (1): فإن قالوا: أفتزعمون أن الله في السماء؟ قيل له: قد نقول: إن الله عال فوق العرش مستوٍ عليه، والعرش فوق السماء، ولا نَصِفه بالدخول في الأمكنة والمباينة لها. وأما قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]، فإن معناه أنه إله أهل الأرض وأهل السماء، وقد جاءت الأخبار أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا، فكيف يكون (2) فيها وهو ينزل إليها؟! كما جاءت الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا. فهذا الذي استقر عليه مذهب أبي الحسن في كل كتبه كـ «الموجز» و «المقالات» و «المسائل» و «رسالته إلى الثغر» (3) و «الإبانة»: أن الله تعالى فوق عرشه مستوٍ عليه. ولا يُطلِق عليه لفظ المباينة لأنها عنده من لوازم الجسم والله تعالى منزّه عن الجسمية، فظن بعض أتباعه أنَّ نفيه للمباينة نفي للعلو والاستواء بطريق اللزوم، فنسبه إليه وقوّله ما هو قائل بخلافه، وهذا بيِّن لكل منصف تأمل كلامه وطالع كتبه. [وختم أبو داود (4) هذا الباب بحديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - عن _________ (1) مفقود، ذكره ابن عساكر في «تبيين كذب المفتري» (ص 129)، ولم أجد هذا النقل منه في كتب شيخ الإسلام المطبوعة. (2) في الأصل: «يقول» سبق قلم. (3) كذا في الأصل، وفي الطبعتين: «إلى أهل الثغر»، وعلى كلا الوجهين وسمها شيخ الإسلام في تآليفه. وانظر (ص 232 - 234) منها لكلامه في إثبات العلو. (4) برقم (4727)، وصححه الذهبي وابن كثير وابن حجر في آخرين.

(3/266)


النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أُذِن لي أن أُحدِّث عن ملَك من ملائكة الله من حملة العرش، إن ما بين شَحمة أذنه إلى عاتقه مسيرةُ سبعمائة عام»] (1). وفي كتاب «السنة» (2) لعبد الله بن أحمد من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله، فإن بين السماوات السبع إلى كرسيّه سبعة آلاف نور، وهو فوق ذلك». وفي «مسند الحسن بن سفيان» (3) من حديث ابن أبي مليكة عن ذكوان: استأذن ابن عباس على عائشة، فقالت: لا حاجة لي بتزكيته، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: يا أختاه (4) إن ابن عباس من صالحي بَنِيك جاء يعودك، قالت: فأذنْ له، فدخل عليها، فقال: يا أُمَّهْ أبشري، فوالله ما بينكِ _________ (1) ما بين الحاصرتين من (هـ)، ولم يذكره المجرّد. (2) لم أجده فيه، وقد ذكره عن عبد الله: ابن قدامة في «العلو» (64) وساق إسناده، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة في «العرش» (16)، وأبو الشيخ في «العظمة» (1/ 212، 241)، وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (2690)، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 46)، كلهم من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير به. وحسّن الذهبي إسناده في «العرش» (2/ 134)، وجوّده الحافظ في «الفتح» (13/ 383). (3) ومن طريقه أخرجه ابن حبان في «صحيحه» (7108) وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (2/ 45)، إلا أنه لم يذكرا فيه ذكوان حاجب عائشة. وأخرجه أيضًا أحمد (2496، 3262) وأبو يعلى (2648) من طرق عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيم عن ابن أبي مُلَيكة بطوله، وإسناده جيد. وأخرجه البخاري في «صحيحه» (4753) من طريق آخر عن ابن أبي مليكة مختصرًا، ولفظ الشاهد فيه: «ونزل عُذرك من السماء». (4) ط. المعارف: «أمتاه»، خطأ.

(3/267)


وبين أن تلقَي محمَّدًا والأحبة إلا أن يفارق روحُك جسدَك، كنتِ أحبَّ نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه، ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب إلا طيِّبًا. قالت: أيضًا (1). قال: هلكت قلادتُك بالأبواء فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلتقطها، فلم يجدوا ماءً فأنزل الله عز وجل: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]، وكان ذلك بسببك وبركتك ما أنزل (2) الله تعالى لهذه الأمة من الرخصة (3)، وكان من أمر مِسطَحٍ ما كان فأنزل الله تعالى براءتك من فوق سبع سماوات، فليس مسجد يذكر الله فيه إلا وبراءتك تُتلى فيه آناءَ الليل وأطراف النهار. وقال أبو عمر بن عبد البر (4): رُوينا من وجوه عن عمر بن الخطاب أنه خرج ومعه الناس [فمرَّ بعجوزٍ فاستوقفته، فوقف لها وجعل يحدِّثها وتحدِّثه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين حبستَ الناس على هذه العجوز، قال: ويلك! تدري من هذه؟ هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سموات ــ وذكر الحديث ــ] (5). _________ (1) كذا في الأصل و (هـ) و «صحيح ابن حبان» و «الحلية»، وأخشى أن يكون تصحيفًا عن «إيهًا» أي كُفَّ عنّي هذا الثناء ودعني منه. ويدل عليه أنها قالت في آخر القصة: «يا ابن عباس دعني منك ومن تزكيتك، فواللهِ لوددتُ أني كنت نسيًا منسيًّا». (2) في الأصل و (هـ): «فأنزل»، والمثبت من «صحيح ابن حبان» و «الحلية». (3) في الأصل والطبعتين: «الرخص»، والمثبت من المصدرين السابقين. (4) في «الاستيعاب» (4/ 1830)، وقد سبق (ص 244 - 245) نقل القصة بتمامها من «الأسماء والصفات» للبيهقي، فانظر تخريجها ثَمّ. (5) هذه الفقرة سقطت من الأصل ــ ولعله بانتقال النظر ــ، واستُدرك طرفها الأول من (هـ)، وكان في آخر الورقة، والتي تليها ساقطة، فما بين الحاصرتين من «اجتماع الجيوش» (ص 167) للمؤلف، وفيه النقلان عن ابن عبد البر على التوالي أيضًا.

(3/268)


وقال أبو عمر بن عبد البر (1): رُوينا من وجوه صحاح (2) أن عبد الله بن رواحة مشى ليلة إلى أَمةٍ له فنالها، فرأته امرأته فلامته فجحدها، فقالت (3): إن كنتَ صادقًا فاقرأ القرآن، [ق 250] فإن الجنب لا يقرأ القرآن، فقال: شهدتُ بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طافٍ ... وفوق العرش رب العالمينا فقالت امرأته: آمنت بالله وكذّبتُ عيني! وكانت لا تحفظ القرآن. وفي «تاريخ البخاري» (4): حدثنا (5) محمد بن فضيل، عن فضيل بن _________ (1) في «الاستيعاب» (3/ 900 - 901). (2) ولكنها كلها مرسلة، أخرجها ابن أبي شيبة (26547)، والدارمي في «الرد على الجهمية» (ص 56)، وابن عساكر في «تاريخه» (28/ 112 - 118) من مرسل نافع، ويزيد بن الهاد، وقدامة بن إبراهيم بن محمد بن حاطب، وعن عبد العزيز بن الماجشون بلاغًا. وأخرجه الدارقطني (432) وابن عساكر (28/ 116 - 118) من مرسل عكرمة، ولكن ليس في أبياته موضع الشاهد. وضعّف القصة عبد الحق الإشبيلي والنووي. «الأحكام الوسطى» (1/ 205)، و «المجموع» (2/ 183). (3) في الأصل: «فقال»، خطأ. (4) (1/ 201 - 202)، وأخرجه ابن أبي شيبة (38176) ــ وعنه الدارمي في «الرد» (ص 53) و «النقض» (1/ 518 - 519) ــ، والبزار (103)، من طرق عن محمد بن فضيل به. إسناده جيد، رواته ثقات من رجال الجماعة، وقد صححه الذهبي في «العلو» (1/ 600)، والقصة في «صحيح البخاري» من حديث ابن عباس وعائشة، إلا أنه ليس فيها الشاهد: «في السماء». (5) كذا، والذي في «التاريخ الكبير» أن محمد بن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى هو الذي سمعه من محمد بن فضيل به. والبخاري لم يُدرك ابن فضيل (ت 195) بله أن يكون قد سمع منه.

(3/269)


غزوان، عن نافع، عن ابن عمر قال: لما قُبِض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل أبو بكر فأكبّ عليه وقبّل جبهته، وقال: «بأبي أنت وأمي، طِبتَ حيًّا وميتًا»، وقال: «من كان يعبد محمَّدًا فإن محمَّدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله في السماء حي لا يموت». وفي «مغازي الأموي» (1) عن البَكَّائي، عن ابن إسحاق، حدثني يزيد بن سنان، عن سعيد بن الأجيرد (2) الكندي، عن العُرْس بن قيس الكندي، عن عدي بن عميرة قال: خرجتُ مهاجرًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر حديثًا طويلًا وفيه: فإذا هو ومن معه يسجدون على وجوههم، ويزعمون أن إلههم في السماء، فأسلمتُ وتبعتُه. وفي «مسند أحمد» (3) عن يزيد بن هارون: حدثنا المسعودي، عن عون بن عبد الله، عن أخيه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة أن _________ (1) ومن طريقه أخرجه ابن قدامة في «العلو» (7)، ثم من طريقه الذهبي في «العلو» (1/ 373). وهو «حديث غريب» كما قال الذهبي (1/ 325)، فإن في إسناده من لا يُعرف: يزيد بن سنان، وسعيد بن الأجيرد. (2) في الأصل: «الأجرد»، والتصويب من كتابي «العلو». (3) برقم (7906) وما بين الحاصرتين منه، وأخرجه أيضًا أبو داود (3284)، وابن خزيمة في «التوحيد» (220)، والطبراني (2598)، من طرق عن المسعودي به. إسناده حسن كما قال الذهبي في «العلو» (1/ 260)، والمسعودي وإن كان قد اختلط ولكن فيمن رواه عنه من سمع منه قبل الاختلاط. وله طريق آخر عند ابن خزيمة (219) والطحاوي في «بيان المشكل» (4991) من حديث محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة بنحوه، وإسناده حسن أيضًا.

(3/270)


رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بجارية سوداء أعجمية فقال: يا رسول الله، إن عليَّ رقبة مؤمنة، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أين الله؟» فأشارت بإصبعها إلى السماء، فقال لها: «من أنا؟» فأشارت بإصبعها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى السماء، [أي:] أنت رسول الله، فقال: «أعتقها» ــ وهذه غير قصة معاوية بن الحكم التي في «صحيح مسلم» ــ، فقد شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإيمان لمن شهد أن الله في السماء، وشهد عليه الجهمية بالكفر! وقال أحمد في «مسنده» (1): حدثنا حسين بن محمد، حدثنا ابن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الميّت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قالوا: اخرُجي أيتها النفس الطيّبة (2)، اخرجي حميدة، وأبشري برَوحٍ وريحان، وربٍّ غير غضبان، فلا يزال يُقال لها ذلك حتى تخرُج، ثم يُعرَج بها إلى السماء، فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان، فيقولون: مرحبًا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب _________ (1) برقم (8769)، وأخرجه أيضًا ابن ماجه (4262)، والنسائي في «الكبرى» (11378، 11925)، والطبري في تفسير (الأعراف: 40)، وابن خزيمة في «التوحيد» (214)، وابن منده في «الإيمان» (2/ 968)، وقوام السنّة في «الحجّة» (2/ 98)، من ثمانية طرق عن ابن أبي ذئب به، كلها بلفظ: «حتى يُنتهى بها إلى السماء التي فيها الله» ــ وهو الشاهد هنا ــ، إلا رواية ابن وهب عن ابن أبي ذئب عند النسائي من طريقين عنه، فلفظها: «إلى السماء السابعة»، فالظاهر أنها رواية بالمعنى. والحديث صححه على شرط الشيخين: أبو نعيم الأصبهاني ــ كما في «شرح حديث النزول» لابن تيمية (5/ 445 - الفتاوى) ــ، والذهبي في «العرش» (2/ 36). (2) الأصل وط. الفقي: «المطمئنة»، تصحيف ويأتي على الصواب بعد ثلاثة أسطر.

(3/271)


غير غضبان، فلا يزال يقال ذلك حتى تنتهي إلى السماء التي فيها الله ... » وذكر الحديث. وفي «صحيح مسلم» (1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها». وفي «مسند الحارث بن أبي أسامة» (2) من حديث عبادة بن نُسيّ عن عبد الرحمن بن غَنْم (3) عن معاذ بن جبل يرفعه: «إن الله ليكره في السماء أن يُخطّأ أبو بكر في الأرض». ولا تعارض بين هذا وبين تخطئة النبي - صلى الله عليه وسلم - له في بعض تعبيره الرؤيا (4) _________ (1) برقم (1436/ 121) من طريق يزيد بن كيسان، عن أبي حازم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. والحديث عند البخاري (3237) ومسلم (1436/ 122) من طرق عن الأعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة بلفظ: «لعنتها الملائكة حتى تُصبح»، وهذا اللفظ أشبه، فإن الأعمش أحفظ وأثبت من يزيد بن كيسان، ولأنه تابعه عليه قتادة عن زُرارة بن أوفى عن أبي هريرة عند مسلم (1436/ 120). (2) كما في «بغية الباحث» (956) و «المطالب العالية» (3861)، وإسناده تالف، فيه محمد بن سعيد المصلوب في الزندقة، ولذا قال الذهبي في «العلو» (1/ 546) بعد أن أخرجه من طريق الحارث: «الخبر غير صحيح، وعلى باغض الصديق اللعنة». وله طريق آخر عند الطبراني في «الكبير» (20/ 67)، ولكنه تالف أيضًا. انظر: «الضعيفة» (3136). (3) في الأصل: «عبد الرحمن بن نسي عن عبادة بن غنم» مقلوبًا، وفي الطبعتين مثله مع تحريف «غنم» إلى «تميم». (4) أخرجه البخاري (7046) ومسلم (2269)، وقد سبق (ص 160).

(3/272)


لوجهين: أحدهما: أن الله يكره تخطئة غيره من آحاد الأمة له، لا تخطئة الرسول له في أمر ما، فإن الصواب والحق مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - قطعًا، بخلاف غيره من الأمة فإنه إذا خطأ الصديق لم يتحقق أن الصواب معه، بل ما تنازع الصديق وغيره في أمرٍ إلا كان الصواب مع الصديق. الثاني: أن التخطئة هنا من نسبته إلى «الخِطْء» (1) الذي هو الإثم، دون «الخطأ» الذي هو ضد التعمد، والله أعلم. وروى شعبة عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس يرفعه: «إن العبد لَيُشْرِف على حاجة من حاجات الدنيا، فيذكره الله من فوق سبع سماوات، فيقول: ملائكتي إن عبدي هذا قد أشرف على حاجة من حاجات الدنيا، فإن فتحتُها له فتحتُ له بابًا من أبواب النار، ولكن ازْوُوها عنه، فيصبح العبد عاضًّا على أنامله يقول: من دهاني؟ من سبقني؟ وما هي إلا رحمة رحمه الله بها». ذكره أبو نعيم (2). _________ (1) تحرّفت العبارة في ط. الفقي إلى: «أن التخطئة هنا مرة منسوبة إلى الخطأ». (2) في «الحلية» (3/ 304 - 305) ــ ومن طريقه ابن قدامة في «العلو» (ص 100 - 101) ــ، وأخرجه أيضًا ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 317)؛ من طريق صالح بن بيان عن شعبة به. وإسناده واهٍ، صالح بن بيان قال عنه الدارقطني: متروك، وقد تفرّد به عن شعبة، ولذا قال أبو نعيم: «غريب من حديث شعبة». وقد روي نحوه عن ابن مسعود موقوفًا عليه، أخرجه أبو داود (191) وهنّاد (404) كلاهما في «الزهد»، واللالكائي في «السنة» (4/ 739)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (9971)، وفي إسناده إرسال، خيثمة لم يسمع من ابن مسعود.

(3/273)


وفي «الثقفيّات» (1) من حديث جابر بن سليم أبي جُرَيّ قال: ركبت قَعُودًا لي فأتيت المدينة فأنخت بباب المسجد ــ فذكر حديثا طويلًا وفيه: ــ فقال رجل: يا رسول الله ذكرتَ إسبال الإزار، فقد يكون بالرجل القَرْح (2)، أو الشيء فيستخفي (3) منه. قال: «لا بأس إلى نصف الساق أو إلى الكعبين، إن رجلًا ممن كان قبلكم لبس بُردَين فتبختر فيهما، فنظر [الله] إليه من فوق عرشه فمَقَتَه، فأمر الأرض فأخذته، فهو يتجلجل في الأرض، فاحذروا وقائعَ الله» (4). _________ (1) ط. الفقي: «التعقبات»، تحريف. و «الثقفيات» هي «الفوائد العوالي المنتقاة من أصول سماعات القاسم بن الفضل بن أحمد الثقفي (ت 489)» برواية أبي طاهر السِّلَفي عنه، وهي في عشرة أجزاء ولا تزال مخطوطة. انظر: «سير أعلام النبلاء» (19/ 8 - 11)، «برنامج ابن جابر الوادي آشي» (ص 240)، «تجريد أسانيد الكتب» لابن حجر (ص 252). (2) في الطبعتين: «العَرَج»، خطأ. (3) كذا في الأصل، وفي مصادر التخريج: «يستحيي». (4) أخرجه الدارمي في «النقض» (ص 336 - 337)، والطبراني في «الكبير» (6384)، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (1532)، وقوام السنة في «الحجّة» (2/ 125 - 126). وإسناده ضعيف، فيه أبو الخليل عبد السلام بن عجلان، قال أبو حاتم: شيخ يُكتب حديثه، وقال ابن حبان: يخطئ ويخالف؛ وقد تفرّد بزيادة قصة المتبختر في حديث أبي جُرَي - رضي الله عنه -، فإن حديثه الطويل في وفوده على النبي - صلى الله عليه وسلم - مروي من طرق، وليس في شيء منها هذه الزيادة إلا هذا الطريق. انظر طرق الحديث وألفاظه في «المسند» (20632 - 20636) مع تخريج المحققين عليه، و «سنن أبي داود» (4084) وقد سبق معنا برقم (3925)، و «المعجم الكبير» للطبراني (6383 - 6390)، و «معجم الصحابة» للبغوي (467 - 475).

(3/274)


وقال ابن أبي شيبة (1): حدثنا عَبْدة بن سليمان عن أبي حيّان (2) عن حبيب بن أبي ثابت أن حسان بن ثابت أنشد النبي - صلى الله عليه وسلم -: شهدت بإذن الله أنّ محمدًا ... رسول الذي فوق السماوات من علُ وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما ... له عمل في دينه متقبَّلُ وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهم ... يقول بذات الله فيهم ويعدلُ وفي حديث الشفاعة الطويل من رواية زائدة بن أبي الرُّقاد، عن زياد النُّمَيري، عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر الحديث وفيه: «فأدخل على ربي عز وجل [ق 251] وهو على عرشه» (3). وفي لفظ للبخاري (4): «فأستأذن على ربي في داره». وفي لفظ آخر: «فآتي تحت العرش فأخر ساجدًا لربي» (5). وفي حديث عبد الله بن أنيس الذي رحل إليه جابر شهرًا حتى سمعه _________ (1) في «مصنفه» (26540)، وأخرجه أبو يعلى (2653) أيضًا من طريق عبدة به، وهو مرسل. وأخرجه ابن سعد في الطبقات» (4/ 323)، والأزرقي في «أخبار مكة» (1/ 128 - 129) من مرسل عبد الملك بن عمير. (2) ط. الفقي: «أبي جناد»، ورسمه في الأصل يشبه: «أبي حباب»، والتصحيح من مصادر التخريج. (3) أخرجه ابن قدامة في «العلو» (ص 111)، ومن طريقه الذهبي في «العلو» (1/ 381) وقال: «زائدة ضعيف، والمتن بنحوه في «الصحيح» للبخاري من حديث قتادة عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... »، فذكر لفظ البخاري الآتي. (4) برقم (7440). (5) أخرجه البخاري (4712) ومسلم (194) عن أبي هريرة في حديث الشفاعة.

(3/275)


منه في القِصاص: «ثم يناديهم الله تعالى وهو قائم على عرشه ... » وذكر الحديث (1). واستشهد البخاري ببعضه (2). وفي «سنن ابن ماجه» و «مسند أحمد» (3) من حديث الفضل الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب تبارك وتعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة»، قال: «وذلك قوله: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]» قال: «فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم». وروى الوليد بن القاسم عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي _________ (1) أخرجه الخطيب في «الرحلة في طلب الحديث» (ص 115) وابن قدامة في «العلو» (ص 112) بإسنادين واهيين عن مقاتل بن حيان، عن أبي الجارود عن جابر. أبو الجارود لم أهتد إليه، وقال الحافظ في «الفتح» (1/ 174): «وفي إسناده ضعف». وقد روي الحديث من طريقين آخرين عن جابر، وليس فيهما موضع الشاهد. أخرجه أحمد (16042)، والبخاري في «الأدب المفرد» (970)، والحاكم (2/ 437 - 438) من أحدهما، والطبراني في «مسند الشاميين» من الآخر. (2) في موضعين من «صحيحه»، أولهما في العلم (باب الخروج في طلب العلم): «ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد»، والثاني في التوحيد (باب قول الله تعالى: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}): «ويُذكر عن جابر عن عبد الله بن أنيس قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعُد كما يسمعه من قرُب: أنا الملك، أنا الديّان». (3) ابن ماجه (184)، وليس في «المسند»، وقد سبق تخريجه (259).

(3/276)


هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما قال عبد: لا إله إلا الله مخلصًا إلا صَعِدت لا يردّها حجاب، فإذا وصلت إلى الله نظر إلى قائلها، وحقٌّ على الله أن لا ينظر إلى مُوحِّدٍ إلا رحمه» (1). وفي «مسند الحسن بن سفيان» (2) من حديث أبي جعفر الرازي عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما ألقي إبراهيمُ عليه السلام في النار قال: اللهم أنت واحد في السماء، وأنا في _________ (1) أخرجه الترمذي (3590)، والنسائي في «الكبرى» (10601)، وابن بشران في «الأمالي» (398، 563) وهذا لفظه، ومن طريقه الخطيب في «تاريخه» (13/ 331) وابن قدامة في «العلو» (ص 127 - 128)، ثم من طريقه الذهبي في «معجم شيوخه» (1/ 352) و «العلو» (1/ 398). ولفظ الترمذي والنسائي: « ... إلا فتحت له أبواب السماء حتى تُفضي إلى العرش ما اجتنب الكبائر»، وهو أشبه. قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه، وقال الذهبي: حديث غريب تفرد به الوليد هذا وما هو بالقوي. وانظر: «الضعيفة» (919، 6617). (2) وأخرجه الدارمي في «الرد على الجهمية» (ص 52)، والبزار (9047)، ومن طريق الحسن بن سفيان أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (1/ 19)، ثم من طريقه ابن قدامة في «العلو» (ص 139)، والذهبي في «الميزان» (4/ 68)؛ كلهم من طريق محمد بن يزيد الرفاعي، عن إسحاق بن سليمان، عن أبي جعفر الرازي به. إسناده لين لضعف محمد بن يزيد الرفاعي، وقد أورد الذهبي الحديث في ترجمته وقال: غريب جدًّا، ولكنه حسّن إسناده في «العلو» (1/ 290) وقال: رواه جماعة عن إسحاق. قلتُ: لم أجده من غير طريق الرفاعي، وقد قال البزار: لم نسمعه إلا منه. وأخرج الطبري (16/ 306)، وابن أبي حاتم (9/ 3047 - 3048) في «تفسيريهما» نحوه عن السدّي فيما جمعه من التفسير عن أشياخه: عن أبي مالك الغفاري، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.

(3/277)


الأرض واحدٌ أَعبدُك». ولمَّا أُنشِدَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - شعر أمية بن أبي الصلت (1): مَجِّدوا الله فَهْوَ للمجد أهل ... ربّنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء الأعلى الذي سبق الخلـ ... ـق وسوى فوق السماء سريرا شرجع ما يناله بصر العَيْـ ... ـنِ ترى دونه الملائكَ صُوْرا (2) قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «آمن شعره وكفر قلبه» (3). وروى عاصم عن زر عن _________ (1) شعره في «تأويل مختلف الحديث» للقُتَبي (ص 119، 396)، و «المجالسة وجواهر العلم» (1221)، و «ديوانه» المجموع (ص 399 - 400). (2) الشرجع: الطويل، والمراد هنا العالي المرتفع، وهو وصف للسرير، ولذا ورد منصوبًا في المصادر. وصُوْر: جمع أصور، وهو المائل العنق، والمراد حملة العرش، فقد روي عن عكرمة أنه قال: حملة العرش كلهم صور. أخرجه عبد بن حميد كما في «الدر المنثور» (13/ 20). (3) لم أجده هكذا ـــ أي بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك لمّا أُنشِد هذه الأبيات بعينها ــ إلا عند الذهبي في «العلو» (1/ 443) و «العرش» (2/ 59 - 60) معلقًا، وتبعه المؤلف، وهو وهم منشؤه أن ابن قدامة ذكر في «العلو» (ص 147) ــ وعنه صدر الذهبي ــ هذه الأبيات الثلاثة على أنها مما اشتهر من شعر أمية ثم قال: «وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: آمن شعره وكفر قلبه»، ولم يَقُل ابن قدامة: إن هذه الأبيات بعينها أُنشِدها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما استدل بعموم مدحه - صلى الله عليه وسلم - لشعره الذي منه هذه الأبيات، وهو استدلال لطيف، لكنه أوهم من بعده فيما ترى. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «آمن شعره ... » مطلقًا دون ذكرٍ لأبيات معيّنة أُنشِدها النبي - صلى الله عليه وسلم -= أخرجه الفاكهي في «أخبار مكة» (3/ 203) وابن عبد البرّ في «التمهيد» (4/ 7) بإسنادين واهيين بمرّة. وقد صحّ عند مسلم (2255) وغيره استحسانُ النبي - صلى الله عليه وسلم - لشعر أمية واستنشاده حتى أنشده الشريد بن سويد - رضي الله عنه - مائة بيت منه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن كاد ليُسلم» أو «فلقد كاد يُسلم في شعره».

(3/278)


عبد الله بن مسعود قال: «ما بين السماء القصوى وبين الكرسي ... » إلى قوله: «والله فوق ذلك»، وقد تقدم. وقال إسحاق بن راهويه (1): حدثنا إبراهيم بن حكم بن أبان عن أبيه عن عكرمة في قوله تعالى: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17]، قال: [قال ابن عباس:] (2) «لم يستطع أن يقول: من فوقهم، عَلِم أن الله من فوقهم». وقال علي بن الأقمر: كان مسروق إذا حدث عن عائشة قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله، المبرّأةُ من فوق سبع سماوات (3). _________ (1) في «مسنده» كما في «المطالب العالية» (3011)، ومن طريقه اللالكائي في «السنة» (3/ 440)، ثم من طريقه ابن قدامة في «العلو» (ص 155). ذكره الذهبي في «العرش» (2/ 137 - 138) وقال: رواه إبراهيم بن الحكم بن أبان، وهو ضعيف. قلتُ: وقد تابعه حفص بن عمر العدني ــ وهو ضعيف أيضًا ــ، عن الحكم به، إلا أنه قال: « ... لأن الرحمة تنزل من فوقهم». أخرجه الطبري (10/ 101). (2) ساقط من الأصل، وهو في جميع مصادر التخريج. (3) أخرجه الطبراني في «الأوسط» (5411)، وابن قدامة في «العلو» (ص 160) ومن طريقه الذهبي في «السير» (2/ 181) و «التاريخ» (2/ 508 - 509)؛ من طريقين ضعيفين عن علي بن الأقمر به. وصححه الذهبي في «العلو» (2/ 868). وصحّ نحوه من وجهين آخرين عن مسروق، إلا أنه ليس فيهما موضع الشاهد. أخرجهما سعيد بن منصور (1556، 1557 - التفسير)، وابن سعد في «الطبقات» (10/ 64، 66) وغيرهما.

(3/279)


وقال سلمة بن شبيب: حدثنا إبراهيم بن الحكم، حدثني أبي، عن عكرمة قال: «بينما رجل مستلقٍ على مُثُلِه (1) في الجنة، فقال في نفسه لم يحرّك شفتيه: لو أن الله يأذن لي لزرعت في الجنة، فلم يعلم إلا والملائكة على أبواب جنته قابضين على أكفّهم، فيقولون: سلام عليك، فاستوى قاعدًا فقالوا له: يقول لك ربك: تمنيتَ شيئًا في نفسك فقد علمتُه، وقد بعث معنا هذا البَذْر يقول: ابذُرْ، فألقى يمينًا وشمالًا وبين يديه وخلفه، فخرج أمثال الجبال على ما كان تمنى وأراد، فقال له الرب من فوق عرشه: كُلْ يا ابن آدم، فإن ابن آدم لا يشبع» (2). وأصله في «صحيح البخاري» (3). وفي «تفسير سُنَيد» (4) شيخ البخاري (5) عن مقاتل بن حيَّان عن الضحاك: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]، قال: _________ (1) المُثُل: جمع المِثال، وهو الفراش. انظر: «النهاية» (مثل). (2) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (3/ 334) ومن طريقه ابن قدامة في «العلو» (ص 160 - 161). في إسناده إبراهيم بن الحكم بن أبان وهو ضعيف كما سبق قريبًا، ولذا قال الذهبي في «العلو» (2/ 895): إسناده ليس بذاك. (3) برقم (2348، 7519) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وليس فيه موضع الشاهد. (4) عزاه إليه ابن عبد البرّ في «التمهيد» (7/ 139)، عن ابن عبد البر نقله ابن قدامة في «العلو» (ص 163). وأخرجه عبد الله في «السنة» (577)، والطبري في «التفسير» (22/ 468)، والآجري (3/ 1079)، من طريق بكير بن معروف، عن مقاتل به. إسناده جيّد، كما قال الذهبي في «العلو» (2/ 918) و «العرش» (2/ 158). (5) كذا، ولعله بناءً على ما ورد في بعض نسخ «صحيح البخاري» في حديث لابن عباس برقم (4584)، وأكثر النسخ على خلافه. انظر: «تهذيب الكمال» (3/ 319). أو لأنه رأى في بعض الكتب رواية «محمد بن إسماعيل» عن سُنيد فظنّه البخاري، كما وقع له في «الأعلام» (1/ 117)، وإنما هو الصائغ المكي.

(3/280)


هو على عرشه، وعلمه معهم أينما كانوا. وفي «تاريخ ابن أبي خيثمة» (1): حدثنا هارون بن معروف حدثنا ضمرة عن صدقة التيمي (2) قال: سمعت سليمان التيمي يقول: لو سئلتُ أين الله؟ لقلت: في السماء. وقال حنبل (3): قلت لأبي عبد الله: ما معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4]، {هُوَ رَابِعُهُمْ}؟ قال: علمه، عالم الغيب والشهادة، علمه محيط بكل شيء، يعلم الغيب وهو على العرش. _________ (1) ليس في القدر المطبوع، ومن طريقه أخرجه اللالكائي في «شرح السنة» (3/ 444 - 445)، ثم من طريقه ابن قدامة في «العلو» (ص 165)، وعلّقه البخاري في «خلق أفعال العباد» (ص 41) عن ضمرة به. قال الذهبي في «العرش» (2/ 159): إسناده صحيح. (2) كذا جاءت نسبته في الأصل: «التيمي»، ولم يُنسب في شيء من مصادر التخريج، وفي شيوخ ضمرة بن ربيعة اثنان بهذا الاسم: صدقة بن يزيد الخراساني ثم الدمشقي، صدوق له مناكير؛ وصدقة بن المنتصر أبو شُعبة الشيباني، ثقة. ويترجّح هنا أنه صدقة بن يزيد، لأن سليمان بن طرخان التيمي بصريٌّ، وقد ذكروا في ترجمة صدقة بن يزيد روايته عن بصريين من طبقته، كقتادة وأيوب وأبان بن أبي عياش، بخلاف صدقة بن المنتصر فجلُّ روايته عن أهل الشام، ولم يروِ عن أحد من البصريين من تلك الطبقة. (3) في «كتاب السنة» ــ كما في «شرح حديث النزول» (5/ 496 - الفتاوى) ــ، وذكره عن حنبل: اللالكائي (3/ 446)، وابن قدامة في «العلو» (ص 167)، والذهبي في «العلو» (2/ 1116) و «العرش» (2/ 246).

(3/281)


وقال يوسف بن موسى (1): قيل لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: الله فوق السماء السابعة على عرشه بائنٌ من خلقه، وقدرته وعلمه بكل مكان؟ قال نعم، على العرش، لا يخلو منه مكان (2). وقال الأثرم (3): حدثني محمد بن إبراهيم القيسي قلتُ لأحمد بن حنبل: يُحكى عن ابن المبارك أنه قيل له: كيف نعرف ربَّنا؟ قال: في السماء السابعة على عرشه، قال أحمد: هكذا هو عندنا. وذكر أبو [محمد] عبدُ الرحمن بن أبي حاتم في «كتاب السنة» (4) عن _________ (1) أخرجه عنه الخلّال في «السنة» ــ كما في «اجتماع الجيوش» للمؤلف (ص 302) ــ، وذكره عن يوسف بن موسى: ابنُ بطة في «الإبانة الكبرى» (2697)، واللالكائي (3/ 445)، وابن أبي يعلى في «طبقات الحنابلة» (2/ 568)، وابن قدامة (ص 167) والذهبي (2/ 1113) كلاهما في «العلو». (2) كذا في الأصل وأكثر النسخ الخطية من «العلو» لابن قدامة، والمقصود واضح، وعند اللالكائي: «وعلمه لا يخلو منه مكان»، وهو أوضح، وفي بقية المصادر و «اجتماع الجيوش»: «لا يخلو شيء من علمه». (3) أسنده عنه ابن بطة في «الإبانة الكبرى» (2695) ــ ومن طريقه الدَّشتي في «إثبات الحد» (15) ــ، وابن قدامة في «العلو» (ص 171). وروي نحوه من طرق أخرى عن الإمام أحمد. انظر: «إثبات الحد» (16 - 19). (4) وهو المعروف أيضًا بكتاب «الرد على الجهمية»، وصفه الذهبي في «التاريخ» (7/ 534) بأنه «في مجلد كبير يدل على تبحّره في السنّة». وفي كون مقولة الشافعي فيه= نظر لأمرين، الأول: أن ابن قدامة أسنده في «العلو» (ص 180) إلى ابن أبي حاتم من طريق أبي الحسن الهكّاري (ت 486)، وهو في كتابه «اعتقاد الإمام الشافعي» (ص 16 - 18). والهكّاري على زهده وفضله وكونه معروفًا بـ «شيخ الإسلام» = مغموز في روايته، ولذا قال الذهبي بعد أن عزاه إليه في «العلو» (2/ 1055 - 1057): إسناده واهٍ. الثاني: الذهبي كان قد اطلع على «كتاب السنة» لابن أبي حاتم، كما يدل عليه ما في «سير النبلاء» (13/ 264)، وهو ينقل منه آثارًا في «العلو» بأسانيدها، فلو كانت مقولة الشافعي فيه، لما عزاها إلى الهكّاري ووهّى إسنادها. ولعل المؤلف نظر في كتاب ابن قدامة فظن أن ابن أبي حاتم ذكره في «السنة» فأسنده إليه.

(3/282)


الإمام أبي عبد الله الشافعي ــ قدس الله روحَه، ورضي عنه ــ قال: «السنّة التي أنا عليها، ورأيت أصحابنا عليها (1) ــ أهل الحديث الذين رأيتهم فأخذت (2) عنهم مثل سفيان ومالك وغيرهما ــ: الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن الله على عرشه في سمائه، يَقْرُب من خلقه كيف يشاء، وأن الله ينزل إلى سماء الدنيا كيف يشاء ... » وذكر كلامًا طويلًا. وقال عبد الرحمن (3) أيضًا: سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدون من ذلك؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازًا وعراقًا ومصرًا وشامًا ويمنًا، فكان من مذاهبهم: أن الإيمان قول وعمل، يزيد [ق 252] وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته، والقدَر خيره وشره من الله، وأن الله تعالى على عرشه بائن من خلقه، كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بلا كيف، أحاط بكل شيء علمًا، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ _________ (1) «عليها» ساقطة من ط. المعارف، ومُزَحْلَقة في ط. الفقي إلى ما بعد: «رأيتهم» الآتية. (2) في الأصل والطبعتين: «فأحلف» تصحيف، والتصحيح من كتاب الهكّاري و «العلو» لابن قدامة. (3) ابن أبي حاتم، وأسنده عنه اللالكائي (1/ 197 - 201) مطوّلًا، وابن قدامة (ص 182 - 184) والذهبي (2/ 1155 - 1158) كلاهما في «العلو» مختصرًا، بأسانيد صحيحة.

(3/283)


شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. وقال أبو القاسم الطبري (1) في كتاب «شرح السنة» له: وجدت في كتاب أبي حاتم الرازي: مذهبنا واختيارنا اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين مِن بعدهم، والتمسكُ بمذاهب أهل الأثر مثلِ أبي عبد الله أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد القاسم، والشافعي رحمهم الله، ولزومُ الكتاب والسنة ... ونعتقد أن الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. وفي كتاب «الإبانة» (2) لأبي الحسن الأشعري - رحمه الله - ــ ذكره أبو القاسم ابن عساكر (3) وعدَّه (4) من كتبه، وحكى كلامه فيه مبيّنًا عقيدته والذب عنه ــ قال: «ذِكرُ الاستواء على العرش. إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قال نقول له: إن الله مستو على عرشه، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، [وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]] (5)، وقال: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} _________ (1) هو هبة الله اللالكائي (ت 418)، ساقه في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة» (1/ 202 - 204) مطوّلًا، واقتصر المؤلف على نقل موضع الشاهد منه. (2) (ص 105 - 109) ت. فوقية حسين. (3) في «تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري» (ص 28، 152 - 163، 389). (4) في الأصل وط. المعارف: «في عدة»، ولعله تصحيف، والمثبت من ط. الفقي أشبه. (5) هذه الآية ساقطة من الأصل و (هـ)، واستدركتها من «الإبانة»، وهي موجودة عند المؤلف في هذا النقل عن الأشعري في «اجتماع الجيوش» (ص 451).

(3/284)


[السجدة: 5]، وقال حكاية عن فرعون: {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37] كذَّب موسى في قوله إن الله فوق السماوات. وقال عز وجل: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [الملك: 16]، فالسماوات فوقها العرشُ، فلما كان العرشُ هو فوقَ السماوات، وكل ما علا فهو سماء= فالعرش أعلى السماوات، وليس إذا قال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} يعني جميع السماوات، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات؛ ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السماوات فقال: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 16] ولم يُرِد أن القمر يملؤهن جميعًا؟ ورأينا المسلمين جميعًا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحوَ السماء، لأن الله تعالى مستوٍ على العرش الذي هو فوق السماوات، فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يحطّونها إذا دعوا نحو الأرض». ثم قال: «فصل: وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية: إن معنى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أنه استولى وملك وقهر، وأن الله في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة. ولو كان هذا كما قالوا لكان لا فرق بين العرش والأرض السابعة، لأن الله قادر على كل شيء، والأرض فالله قادر عليها، وعلى الحشوش وعلى كل ما في العالم، فالله تعالى لو كان مستويًا على العرش بمعنى الاستيلاء فهو ــ

(3/285)


علا وعز ــ مستوٍ على الأشياء كلها، على العرش، وعلى الأرض، وعلى السماء، وعلى الحشوش، وعلى الأقذار ــ تعالى الله ــ، لأنه قادر على الأشياء مستولٍ عليها. وإذا كان قادرا على الأشياء كلها، ولم يَجُز عند أحد من المسلمين أن الله مستوٍ على الحشوش والأخلية= لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاءَ الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص العرش دون الأشياء كلها». ثم ذكر دلالات من القرآن والحديث والعقل والإجماع». وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الأشعري في «كتاب الإبانة» (1) له أيضًا: فإن قال قائل: أتقولون: إنه في كل مكان. قيل له: معاذ الله، بل هو مستوٍ على عرشه، كما أخبر في كتابه فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [الملك: 16]. قال: ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه والحشوش والمواضع التي يُرغَب عن ذكرها، ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خُلِق منها ما لم يكن، وينقصَ بنقصانها إذا بطل منها ما كان، ولصحَّ (2) أن نرغب إليه نحوَ الأرض، وإلى خلفنا، وإلى يميننا، وإلى شمالنا؛ وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه. _________ (1) ونقله منه شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (5/ 98 - 99)، و «بيان تلبيس الجهمية» (4/ 486 - 487)، و «درء التعارض» (6/ 206 - 207)، والذهبي في «العلو» (2/ 1298)، والمؤلف في «اجتماع الجيوش» (ص 465 - 466) باختصار. (2) الطبعتين: «يصحّ»، ورسم الأصل محتمل، والمثبت موافق لكتب شيخ الإسلام.

(3/286)


وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في «عقيدته» (1): طريقتنا طريقة المتبعين لكتاب الله والسنة وإجماع الأمة فيما اعتقدوه أن الأحاديث التي ثبتت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العرش واستواء الله يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه، وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه، ولا يحُلُّ فيهم ولا يمتزج بهم، وهو مستوٍ على عرشه في سمائه دون أرضه وخلقه. وقد تقدم حكاية كلام أبي عمر بن عبد البر في «كتاب الاستذكار» (2). وقال في «التمهيد» (3) لما ذكر حديث النزول: «هذا حديث ثابت النقل من جهة الإسناد ولم يختلف أهل الحديث في صحته، وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش من فوق سبع سماوات كما قال الجماعة، وهو من حجّتهم على المعتزلة في قولهم: إن الله بكل مكان». ثم ذكر الاحتجاج لقول الجماعة وأطال. [ق 253] وفي «كتاب السنة» (4) لعبد الرحمن بن أبي حاتم عن سعيد بن _________ (1) نعتها شيخ الإسلام بـ «المشهورة عنه» ونقل منها هذا النص في «درء التعارض» (6/ 252)، كما نقله في «الحموية الكبرى» (5/ 60 - الفتاوى)، و «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 212)، ونقله الذهبي في «العلو» (2/ 1305) بأطول منه. (2) ما تقدَّم بطوله هو من «التمهيد»، وقد سبق التنبيه على وهم المؤلف في عزوه إلى «الاستذكار». (3) (7/ 128 - 129). (4) ساق الذهبيّ في «العلو» (2/ 1033) إسناده: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حُدِّثتُ عن سعيد بن عامر الضُّبَعي. وعلّقه البخاري في «خلق أفعال العباد» (ص 26) عن سعيد.

(3/287)


عامر الضُّبَعي ــ إمام أهل البصرة علمًا ودينًا، من شيوخ الإمام أحمد (1) ــ أنه ذكر عنده الجهمية فقال: هم شرٌّ قولًا من اليهود والنصارى، قد أجمع اليهود والنصارى مع المسلمين أن الله على العرش. وقالوا هم: ليس عليه (2) شيء. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم أيضًا في «كتاب الرد على الجهمية» (3): قال عبد الرحمن بن مهدي: أصحاب جهم يعتقدون أن الله لم يكلم موسى، ويريدون أن يقولوا: ليس في السماء شيء، وأن الله ليس على العرش، أرى أن يُستتابوا، فإن تابوا وإلا قتلوا. وحكي عن عاصم بن علي ــ شيخ الإمام أحمد والبخاري (4) ــ قال: ناظرت جهميًّا فتبين من كلامه أنه لا يؤمن أن في السماء ربًّا (5). _________ (1) وحدّث عنه أيضًا ابن المديني، وإسحاق، وابن معين، وأئمة آخرون. كان ثقة مأمونًا صالحًا زاهدًا، روى له الجماعة، توفي سنة 208 عن نيّفٍ وثمانين سنة. انظر: «تهذيب الكمال» (3/ 176)، و «سير النبلاء» (9/ 385). (2) الطبعتين: «على العرش» خلافًا للأصل. (3) نقله منه شيخ الإسلام في «الحموية» (5/ 53 - الفتاوى)، وفي «درء التعارض» (6/ 261 - 262) وصحح إسناده، وقال الذهبي في «العلو» (2/ 1038) و «العرش» (2/ 200): رواه غير واحدٍ بإسناد صحيح. قلتُ: ومنهم عبد الله بن أحمد في «السنة» (130) بنحوه. (4) هو عاصم بن علي بن عاصم الواسطي، من أئمة المحدّثين، كان ممّن ذبّ عن الإسلام في محنة الجهمية. توفي بواسط سنة 221 هـ. انظر: «سير النبلاء» (9/ 262). (5) أخرجه ابن أبي حاتم في كتاب «الرد على الجهمية»، كما في «الحموية» (5/ 53) و «بيان تلبيس الجهمية» (3/ 525 - 526). وعلّق البخاري نحوه عن والده (علي بن عاصم بن صهيب) في «خلق أفعال العباد» (ص 28) إلا أن فيه مناظرته لجهم بن صفوان نفسه لا لأحد أتباعه. ووقع في «السنة» لعبد الله (176): «علي بن عاصم بن علي»، فإما أنه مقلوب عن اسم الابن (عاصم بن علي بن عاصم)، أو خطأ في اسم جدّ أبيه (علي بن عاصم بن صهيب). والله أعلم.

(3/288)


10 - باب في الرؤية 573/ 4561 - عن جرير بن عبد الله البَجَلي - رضي الله عنه -، قال: كُنَّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جُلوسًا فنظر إلى القمر ليلة أربعَ عشرة فقال: «إنّكُم سَتَرَون ربَّكم كما ترون هذا، لا تُضَامُونَ (1) في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغْلَبوا على صلاةٍ قبلَ طلوع الشمس وقبلَ غروبها فافعلوا». ثم قرأ هذه الآية: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130]. وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (2). 574/ 4562 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال ناس: يا رسول الله، أنَرى ربَّنا يوم القيامة؟ قال: «هل تُضَارُّونَ في رؤية الشمس في الظَّهيرة، ليست في سحابة؟» قالوا: لا، قال: «هل تُضَارُّون في رؤية القمر ليلة البدر، ليس فيه سحابة؟» قالوا: لا، قال: «والذي نفسي بيده لا تضَارُّون في رؤيته إلا كما تُضارون في رؤية أحدهما». _________ (1) أي لا يلحقكم ضيم ــ وهو الظلم ــ من كثرة الزحام فيراه بعضكم دون بعض. ويضبط أيضًا بتشديد الميم، من «الضمّ»، وفيه وجهان: ضمّ التاء وفتحها، على تُفاعِلون وتتفاعلون (بحذف إحدى التاءين تخفيفًا)، أي لا تُزاحِمون أو لا تتزاحمون. انظر: «النهاية» (ضمم)، و «فتح الباري» لابن رجب (4/ 321). (2) أبو داود (4729)، والبخاري (554 ومواضع أخرى)، ومسلم (633)، والترمذي (2551)، والنسائي في «الكبرى» (11267)، وابن ماجه (177).

(3/289)


وأخرجه مسلم (1). 575/ 4563 - وعن أبي رَزين العقيلي - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، أكلُّنا يرى ربَّه؟ ــ قال ابنُ معاذ (وهو عبيد الله):مُخْلِيًا به يوم القيامة ــ وما آيةُ ذلك في خَلْقه؟ قال: «يا أبا رَزِين، أليس كُلُّكم يرى القمر؟» ــ قال ابن معاذ: «ليلة البدر مُخْلِيًا به؟» ثم اتفقا ــ قلت: بلى، قال: «فالله أعظم». قال ابن معاذ: قال: «فإنما هو خَلْقٌ من خلقِ الله، فالله أعظم» ــ. وأخرجه ابن ماجه (2). 576/ 4564 - وعن سُلَيم بن جُبير مولى أبي هريرة قال: سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} إلى قوله تعالى: {سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضعُ إبهامه على أُذنه، والتي تليها على عينه، قال أبو هريرة: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها ويضع إصبعيه. قال ابن يونس (وهو محمد النسائي): قال المُقرئ (وهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد): وهذا رد على الجهمية (3). _________ (1) أبو داود (4730)، ومسلم (182، 2968). وهو عند البخاري (6573) أيضًا. (2) أبو داود (4731)، وابن ماجه (180) من طريق يعلى بن عطاء عن وكيع بن حُدُس عن أبي رزين به. وإسناده حسن، وقد سبق الكلام عليه في التعليق على حديث العَماء في الباب السابق. (3) «سنن أبي داود» (4728). والحديث أخرجه ابن خزيمة في «التوحيد» (49، 50)، وابن حبان (265)، والحاكم (1/ 24) وصححه على شرط مسلم، وكذا الحافظ أبو محمد الخلّال (ت 439) والحافظ ابن حجر. انظر: «إبطال التأويلات» (ص 383) و «الفتح» (13/ 373).

(3/290)


قال ابن القيم - رحمه الله -: قد أخرجا في «الصحيحين» (1) عن أبي موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «جنتان من فضّةٍ آنيتهُما وما فيهما، وجنتان من ذهبٍ آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم تبارك وتعالى إلا رداءُ الكبرياء على وجهه في جنة عدن». وفي «صحيح مسلم» (2) عن صهيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال الله تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تُبيّض وجوهنا؟ ألم تُدخِلْنا الجنة وتُنْجِنا من النار؟» قال: «فيكشف الحجاب، فما أُعطُوا شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل»، ثم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]. وفي «الصحيحين» (3) عن أبي هريرة أن ناسًا قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربَّنا يوم القيامة؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هل تُضارُّون في القمر ليلة البدر؟» قالوا: لا يا رسول الله، قال: «هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب (4)؟» قالوا: لا، قال: «فإنكم ترونه كذلك». وفي «الصحيحين» (5) مثله من حديث أبي سعيد. _________ (1) البخاري (4878، 7444)، ومسلم (180). (2) برقم (181). (3) البخاري (6573، 7437)، ومسلم (182). (4) في الأصل والطبعتين: «حجاب»، تصحيف. والمثبت من «الصحيحين». (5) البخاري (4581، 7439)، ومسلم (183).

(3/291)


وقد روى الترمذي في «جامعه» (1) من حديث إسرائيل عن ثوير (2) قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن أدنى أهل الجنة منزلةً لَمَن ينظر إلى جِنانه وأزواجه وخَدَمه وسُرُره مسيرةَ ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غَدوةً وعشيةً»، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]. قال: هذا حديث حسن غريب (3)، وقد رواه غير واحد مثل هذا عن إسرائيل مرفوعًا. وروى عبد الملك بن أبجر عن ثوير عن ابن عمر قولَه، ولم يرفعه (4). وروى عبيد الله (5) الأشجعي عن سفيان عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر قولَه لم يرفعه (6). وقد روى أحاديث الرؤية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من أصحابه، منهم: جرير بن عبد الله، وأبو رزين العقيلي، وأبو هريرة، وأبو سعيد، وصهيب، وجابر، وأبو موسى، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وأنس بن _________ (1) برقم (2553، 3330)، وأخرجه أحمد (5317)، وأبو يعلى (5712)، من طرق عن إسرائيل به. وإسناده ضعيف لضعف ثُوير بن أبي فاختة، ولذا قال الترمذي: «حديث غريب» ولم يحسّنه، وضعَّفه الدارقطني والذهبي والهيثمي. انظر: «العلل» (2851)، و «تلخيص المستدرك» (2/ 509)، و «مجمع الزوائد» (10/ 410). (2) في الأصل: «ثور»، تصحيف. وسيأتي على الصواب قريبًا. (3) كذا، والتحسين ليس في مطبوعة الترمذي، ولا نسخة الكروخي الشهيرة. (4) اختلف فيه على ابن أبجر، فرواه بعضهم عنه فلم يرفعه كما عند ابن أبي شيبة (35134)، ورواه بعضهم فرفعه كما عند أحمد (4623) والحاكم (2/ 509). وانظر: «العلل» للدارقطني (2851). (5) في الأصل وط. الفقي: «عبد الله»، خطأ. (6) أخرجه الترمذي عقب الحديث السابق، والطبري في «تفسيره» (23/ 509).

(3/292)


مالك، وعدي بن حاتم، وعمار بن ياسر، وزيد (1) بن ثابت الأنصاري، وابن عمرو (2). وروى إسرائيل عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد عن أبي بكر الصديق في قول الله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، قال: «الزيادة النظر إلى الله عز وجل» (3). ورواه أبو إسحاق عن مسلم بن يزيد عن حذيفة (4). _________ (1) في الأصل وط. الفقي: «عمرو»، وهو سبق قلم، فإن عمرو بن ثابت بن وَقْش الأنصاري استشهد بأُحُد ولم يروِ شيئًا، والتصويب من «حادي الأرواح» للمؤلف (2/ 625). (2) سقطت الواو الفارقة من الأصل وط. الفقي، وابن عمر قد سبق اسمه. انظر: أحاديث هؤلاء الصحابة وغيرهم مع تخريجها في «حادي الأرواح» للمؤلف (2/ 625 - 685)، وجلُّها مخرجة في «الرؤية» للدارقطني. (3) أخرجه ابن أبي عاصم (483) وعبد الله (454) كلاهما في «السنة»، والطبري في «تفسيره» (12/ 156)، وابن خزيمة في «التوحيد» (371) من طريق إسرائيل به. وإسرائيل تابعه عليه غير واحد عن أبي إسحاق به، وخالفهم شعبة وسفيان فروياه عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد مقطوعًا من قوله، والأشبه أن ذكر أبي بكر فيه محفوظ، كما قال الدارقطني في «العلل» (73). ورواية عامر عن أبي بكر مرسلة لأنه لم يُدركه، ولعله سمعه من سعيد بن نِمْران ــ وهو من المخضرمين ــ عن أبي بكر، كما صحّ ذلك في أثر آخر في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قال أبو بكر: هم الذين لم يشركوا بالله شيئًا. أخرجه الطبري (20/ 422 - 423). وانظر: «العلل» للدارقطني (65، 73)، و «الإصابة» (4/ 587). (4) أخرجه ابن أبي شيبة (35952)، وابن أبي عاصم (482) وعبد الله (456) كلاهما في «السنة»، والطبري (12/ 157)، وإسناده حسن.

(3/293)


قال الحاكم أبو عبد الله (1): وتفسير الصحابي عندنا مرفوع. قال الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد (2)، قال: سمعتُه وبلغه عن رجل أنه قال: إن الله لا يُرى في الآخرة، فغضب غضبًا شديدًا، ثم قال: من قال: إن الله لا يُرى في الآخرة فقد كفر، فعليه لعنة الله وغضبُه مَن كان من الناس، أليس الله عز وجل يقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة]، وقال: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]؟ فهذا دليل على أن المؤمنين يرون الله. وقال حنبل بن إسحاق (3): سمعت أبا عبد الله يقول: قالت الجهمية: إن الله لا يُرى في الآخرة، وقال الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}، فلا يكون هذا إلا أن الله عز وجل يُرى، وقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، فهذا النظر إلى الله، والأحاديث التي رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنكم ترون ربكم» صحيحة، وأسانيدها غير مدفوعة، والقرآن شاهد أن الله يُرى في الآخرة. _________ (1) في «المستدرك» (2/ 345) ولفظه: « ... فإن الصحابي إذا فسّر التلاوة فهو مسند عند الشيخين». ونحوه في (1/ 27، 123) ومواضع أخرى. وانظر: «معرفة علوم الحديث» (النوع الخامس) له، فإن ظاهر كلامه فيه أنه خاص بما كان من قبيل أسباب النزول. (2) وأسنده عنه الآجري في «الشريعة» (2/ 986). (3) وأسنده عنه الآجري في «الشريعة» (2/ 986 - 987).

(3/294)


وقال أبو داود (1): سمعتُ أحمد بن حنبل وذُكِر (2) عنده شيء في الرؤية فغضب وقال: من قال: إن الله لا يُرى، فهو كافر. وقال العباس الدُّوري: سمعت أبا عبيد القاسم يقول وذُكِر عنده هذه الأحاديث في الرؤية فقال: هذه عندنا حق، نقلها الناس بعضهم عن بعض (3). وقال عبد الله بن وهب: قال مالك بن أنس: الناس ينظرون إلى الله يوم القيامة بأعينهم (4). وقال المزني: سمعت ابن هَرِم القرشي يقول: سمعت الشافعي يقول في قول الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] قال: فلما حجبهم في السخط كان في هذا دليل على أنهم يرونه في الرضا، قال: فقال له أبو النجم القزويني: يا أبا إبراهيم (5)، به [ق 254] تقول؟ قال: نعم، وبه أدين الله، فقام إليه عصام، فقبل رأسه، وقال: يا سيد الشافعيين، اليوم بيَّضتَ وجوهنا. ذكره الحاكم في «مناقب الشافعي» (6). _________ (1) في «مسائله» (ص 353)، ومن طريقه الآجري في «الشريعة» (2/ 987). (2) ط. المعارف: «يذكر»، ورسم الأصل محتمل، والمثبت موافق للمصدرين المذكورين. (3) أسنده الآجري في «الشريعة» (2/ 988). (4) أسنده الآجري (2/ 984) بإسناد مسلسل بأئمة أعلام. (5) هو المُزَني. (6) وعن الحاكم أسنده البيهقي في «معرفة السنن» (1/ 191 - 192)، وعن غيره في «مناقب الشافعي» (1/ 420)، وإسناده صحيح. وابنُ هَرِم هو محمد بن إبراهيم بن هرم، ترجمته في «طبقات الشافعية الكبرى» (2/ 81). ونقل هذا الاستدلال عن الشافعي أيضًا صاحباه: الربيع بن سليمان، وابن عبد الحكم؛ أسنده من طريقهما اللالكائي في «شرح السنة» (810، 883) وغيره.

(3/295)


577/ 4566 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلةٍ إلى سماء الدنيا حين يبقى ثُلثُ الليل فيقول: مَن يدعوني فأستجيبَ له؟ مَن يسألُني فأعطيَه؟ مَن يستغفرني فأغفرَ له؟». وأخرجه الباقون (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي لفظ لمسلم (2) فيه: «ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلثُ الليل الأول فيقول: أنا المَلِك، أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيبَ له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيَه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفرَ له؟ فلا يزال كذلك حتى يُضيءَ الفجر». وفي لفظ آخر لمسلم (3): «إذا مضى شَطْرُ الليل ــ أو ثلثاه ــ ينزل الله تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا فيقول: هل من سائل يُعطى؟ هل من داع فيستجاب له؟ هل من مستغفر فيغفر له؟ حتى ينفجر الصبح». وفي لفظ آخر لمسلم (4): «من يدعوني فأستجيبَ له؟ أو يسألني فأعطيه؟ ثم يقول: مَن يُقرض غير عديم ولا ظلوم؟». _________ (1) أبو داود (4733)، والبخاري (1145)، ومسلم (758)، والترمذي (446، 3498)، والنسائي في «الكبرى» (7720)، وابن ماجه (1366). (2) برقم (758/ 169). (3) برقم (758/ 170). (4) برقم (758/ 171).

(3/296)


وفي لفظ آخر له (1): «ثم يبسط يديه تبارك وتعالى (2): مَن يُقرض غير عديم (3) ولا ظلوم». وفي «صحيح مسلم» (4) أيضًا عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى يُمهل حتى إذا ذهب ثلث الليل الأول ينزل (5) إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر؟ هل من تائب؟ هل من سائل؟ هل من داع؟ حتى ينفجر الفجر». قال الترمذي (6): وفي الباب عن علي، وأبي سعيد، ورفاعة الجهني، وجبير بن مطعم، وابن مسعود، وأبي الدرداء، وعثمان بن أبي العاص (7). وحديث أبي هريرة حديث حسن صحيح، وقد روي هذا الحديث من أوجه كثيرة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (8) أنه قال: «ينزل الله عز وجل حين يبقى _________ (1) بالرقم السابق. (2) زاد محقق ط. المعارف بعده بين الحاصرتين: «يقول» من مطبوعة «صحيح مسلم»، ولا يوجد في أكثر نسخه الخطية، لاسيما «نسخة ابن خير» الشهيرة، والعبارة مستقيمة بدونه. (3) في مطبوعة «الصحيح» وما وقفت عليه من نسخه الخطية: «عَدُوم»، قال النووي في «شرحه» (6/ 38): «هكذا في الأصول»، إلا أنه أُثبت في هامش بعض النسخ الخطية المتأخرة: «عديم» إشارةً إلى أنه هكذا في بعض الأصول المقابَل عليها. (4) برقم (758/ 172). (5) في الطبعتين: «نزل» خلافًا للأصل، والمثبت منه موافق لبعض نسخ مسلم. (6) عقب الحديث (446)، ولفظه: « ... حين يمضي ثلث الليل الأول». (7) انظر أحاديث هؤلاء في «النزول» للدارقطني، و «نزهة الألباب في قول الترمذي: وفي الباب» للوائلي (2/ 898 وما بعدها). (8) بعده في الأصل و (هـ): «وروي عنه»، وليس في «جامع الترمذي»، والعبارة مستقيمة بدونه، بل إثباته يوهم خلاف المعنى المقصود.

(3/297)


ثلث الليل الآخر»، وهو أصح الروايات. آخر كلامه. وفي الباب عن عبادة بن الصامت (1) ... (2). قال عبّاد بن العوّام: قدم علينا شريكٌ واسطَ، فقلنا له: إن عندنا قومًا ينكرون هذه الأحاديث أن الله عز وجل ينزل إلى سماء الدنيا، فقال شريك: إنما جاءنا بهذه الأحاديث من جاءنا بالسنن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الصلاة والصيام والزكاة والحج، وإنما عرفنا الله عز وجل بهذه الأحاديث (3). قال الشافعي في رواية الربيع (4): وليس في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا _________ (1) أخرجه الطبراني في «الأوسط» (6079) والآجري في «الشريعة» (3/ 1143)، وفي إسناده انقطاع. انظر: «مجمع الزوائد» (10/ 157) و «فتح الباري» (13/ 468). (2) بياض في الأصل قدر نصف سطر، وكتب في الهامش: «بياض» إشارة إلى أنه كان هكذا في كتاب المؤلف، ولعل المؤلف أراد تعداد أسماء الصحابة الذين روي عنهم حديث النزول ممن لم يذكرهم الترمذي فلم يستحضرهم حينها فترك بياضًا ليملأه فيما بعد. فهاكموها: جابر بن عبد الله، وابن عباس، وعقبة بن عامر، وعمرو بن عبسة، وسلمة الأنصاري؛ وأحاديثهم مخرّجة عند الدارقطني في «كتاب النزول»، عدا حديث ابن عباس فأخرجه الدارمي في «الرد على الجهمية» (ص 79) وابن أبي عاصم في «السنة» (525) بإسناد حسن. (3) أسنده عبد الله في «السنة» (493)، والآجري في «الشريعة» (3/ 1126) واللفظ له، وابن منده في «التوحيد» (523). (4) أسنده من طريقه الآجري (3/ 1127)، وهو في «الأم» (3/ 286)، وفي سياقه تحريف يُصحّح من «الشريعة».

(3/298)


اتباعها بفرض الله عز وجل، والمسألة بكيف في شيء قد ثبتت فيه السنة ما لا يَسَع عالمًا. وقال مُطرِّف: سمعت مالكًا يقول إذا ذُكر عنده الزائغون في الدين: قال عمر بن عبد العزيز: «سنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولاةُ الأمور بعده سُنَنًا، الأخذُ بها اتباع لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله، ليس لأحدٍ من الخلق تغييرُها ولا تبديلها، ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها فهو مهتدٍ، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولَّاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا» (1). وقال إسحاق بن منصور (2): قلت لأحمد بن حنبل: «ينزل ربنا كل ليلة حين (3) يبقى ثلث الليل الآخر إلى سماء الدنيا»، أليس تقول بهذه الأحاديث: «ويرون أهل الجنة ربهم»، و «لا تقبّحوا الوجه» (4)، و «اشتكت _________ (1) أسنده الآجري (1/ 408، 3/ 1128) وعنه ابن بطة في «الإبانة الكبرى» (620)، وإسناده صحيح. ورواه أيضًا عبد الرحمن بن مهدي عن مالك، أسنده عبد الله (743) والخلال (1329) كلاهما في «السنة» عن الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي به. ورواه أيضًا ابن القاسم عن مالك، أسنده ابن بطة في «الإبانة الكبرى» (242). (2) في «مسائله» (2/ 535)، وأسنده عنه الآجري (3/ 1127). (3) في الأصل والطبعتين: «حتى»، تصحيف. (4) وتمامه: «فإن الله خلق آدم على صورته»، وفي لفظ: «على صورة الرحمن». أخرجه ابن أبي عاصم (530) وعبد الله (482) كلاهما في «السنة»، والطبراني في «الكبير» (12/ 430)، والحاكم (2/ 319) من حديث عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر. وقد اختلف فيه، فصححه إسحاق بن راهويه والحاكم، وأعله غيره بالإرسال. انظر: «المنتخب من علل الخلال» (168)، و «علل الدارقطني» (3077). ويُغني عنه حديث أبي هريرة عند مسلم (2612): «إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته».

(3/299)


النار إلى ربها» (1)، و «أن موسى لَطَم عين مَلَك الموت» (2)؟ فقال أحمد: هذا كله صحيح. قال إسحاق: ولا يدعه إلا مبتدع أو ضعيف الرأي. فإن قيل: فكيف تصنعون فيما رواه النسائي (3): أخبرني إبراهيم بن يعقوب، حدثني عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثنا أبو إسحاق، حدثنا أبو مسلم الأغر قال: سمعت أبا هريرة وأبا سعيد الخدري يقولان: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يُمهل حتى يمضي شطرُ الليل الأول، ثم يأمر مناديًا ينادي ويقول: هل من داعٍ يستجاب له؟ هل من مستغفر _________ (1) تمامه كما في «المسائل» و «الشريعة»: «حتى يضع الله فيها قدمه»، وهو المعنيّ بالسؤال. أخرجه البخاري (7449) ومسلم (2846) من حديث أبي هريرة، وأخرجاه (خ 4848، م 2848) أيضًا من حديث أنس. تنبيه: حديث أنس أوله: «لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد ... »، حديث أبي هريرة أوله عند البخاري: «اختصمت الجنة والنار إلى ربّهما ... »، وعند مسلم: «تحاجّت النار والجنة ... »، فاللفظ الذي ذكره إسحاق في سؤاله (اشتكت النار ... ) هو من باب الرواية بالمعنى، وليس مراده البتة حديث: «اشتكت النار إلى ربها فقالت: رب أكل بعضي بعضًا فأذنْ لي بنفَسَين ... » كما توهّمه محقق ط. المعارف في التخريج. (2) أخرجه البخاري (1339) ومسلم (2372) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (3) في «الكبرى» (10243)، وأخرجه أبو يعلى (5936) من طريق آخر عن حفص بن غياث به، وفي لفظه نكارة، وهي قوله: «ثم يأمر مناديًا ينادي»، فإنه مخالف لما في سائر الطرق عن أبي إسحاق عن الأغر، ومخالف لسائر الطرق عن أبي هريرة. انظر: «الضعيفة» للألباني (3897).

(3/300)


يغفر له؟ هل من سائل يعطى؟» ــ وهذا الإسناد ثقات كلهم ــ؟ قلنا: وأي منافاة بين هذا وبين قوله: «ينزل ربنا، فيقول»؟ وهل يسوغ أن يقال: إن المنادي يقول: «أنا الملِك»، ويقول: «لا أسأل عن عبادي غيري» (1)، ويقول: «من يستغفرني فأغفر له»؟ وأي بُعد في أن يأمر الله مناديًا ينادي: «هل من سائل فيستجاب له» ثم يقول هو سبحانه: «من يسألني فأستجيب له»؟ وهل هذا إلا أبلغُ في الكرم والإحسان أن يأمر مناديه يقول ذلك، ويقول سبحانه بنفسه! وتتصادق الروايات كلها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا نصدّق بعضَها ونكذّب ما هو أصح منه، وبالله تعالى التوفيق (2). 11 - باب في القرآن 578/ 4571 - وعن عبد الله ــ وهو ابن مسعود - رضي الله عنه - ــ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا تكلم الله بالوحي سمعَ أهلُ السماء صَلْصَلةً كجَرِّ السِّلسِلة على الصَّفا، فيُصْعَقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريلُ، حتى إذا جاءهم جبريل فُزِّعَ عن قلوبهم»، قال: «فيقولون: يا جبريل، ماذا قال ربُّك؟ فيقول: الحق، فيقولون: الحقَّ الحقَّ» (3). _________ (1) جاء هذا في حديث النزول من رواية رفاعة الجهني - رضي الله عنه -. أخرجه أحمد (16215)، وابن ماجه (1367)، والنسائي في «الكبرى» (10236)، وابن حبان (212). (2) وانظر: «شرح حديث النزول» لشيخ الإسلام (5/ 372 - الفتاوى). (3) «سنن أبي داود» (4738)، ورواته ثقات وأخرجه ابن حبّان في «صحيحه» (37)، إلا أنه قد اختلف في وقفه ورفعه، والموقوف هو المحفوظ كما قال الدارقطني في «العلل» (852)، على أن له حكم الرفع لكونه مما لا مجال للرأي فيه.

(3/301)


وأخرجه البخاري (1) والترمذي وابن ماجه بنحوه (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: ورواه البخاري والترمذي (3) أيضًا من حديث الحميدي عن سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خُضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحَقّ، وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، [ق 255] ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض ... » وذكر الحديث. وقد رواه أبو معاوية عن الأعمش، عن مُسْلم بن صُبَيح، عن مسروق (4)، عن عبد الله قوله: «إن الله إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماء للسماء صَلصَلة كجرّ السلسلة على الصفا فيُصعقون، فلا يزالون كذلك حتى _________ (1) علّقه في كتاب التوحيد (باب قول الله تعالى: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}) عن مسروق عن ابن مسعود موقوفًا عليه. ولم أجده عند الترمذي وابن ماجه، وانظر التعليق الآتي. (2) لفظ التخريج من (هـ)، وفيه اختصار وتصرّف من المؤلف، فلفظ «المختصر» (7/ 128): « ... نحوه من حديث عكرمة مولى ابن عباس عن أبي هريرة»، وهو الحديث الآتي في تعليق المؤلف. وحذفُ المؤلف لطرف الإسناد ظاهرُه أنهم أخرجوا حديث ابن مسعود السابق، ويدل على أن ذلك مقصود للمؤلف أنه قال في الحديث الآتي: «ورواه البخاري والترمذي أيضًا من حديث ... ». (3) البخاري (4800) عن الحميدي به، والترمذي (3223) عن ابن أبي عمر العدني عن سفيان به. (4) «عن مسروق» ساقط من الأصل، واستدركته من (هـ) ومصادر التخريج.

(3/302)


يأتيهم جبريل، فإذا جاءهم جبريل فُزِّع عن قلوبهم، قال: فيقولون: يا جبريل، ماذا قال ربك؟ قال: فيقول: الحقَّ، قال فينادون: الحق، الحق» (1). وقد روي هذا مرفوعًا، وليس فيه: «سمع أهل السماء للسماء» (2)، وهو الحديث الذي ذكره أبو داود. وروى البيهقي (3) من حديث نعيم بن حماد: حدثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن [ابن] أبي زكريا، عن رجاء بن حَيْوة، عن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أراد الله أن يوحي بأمره تكلم بالوحي، وإذا تكلم بالوحي أخذت السماوات رَجفة ــ أو قال: رَعدة ــ شديدة خوفًا من الله عز وجل، فإذا سمع بذلك أهل السماوات صَعِقوا وخرُّوا لله سُجّدًا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من _________ (1) أخرجه سعيد بن منصور (1766 - تفسير)، وعبد الله في «السنة» (521)، وابن خزيمة في «التوحيد» (281)، من طرق عن أبي معاوية به. وأخرجه عبد الله (520، 521)، وابن خزيمة في «التوحيد» (282 - 286) من طرق أخرى عن الأعمش به. وعلّقه البخاري كما سبق عن مسروق عن ابن مسعود. (2) زيادة «للسماء» ليست في «المختصر»، ولكنه ثابت في مطبوعة «السنن» وأكثر نسخه الخطية. انظر: طبعة دار التأصيل (7/ 243). (3) في «الأسماء والصفات» (1/ 511 - 512)، وأخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (527)، والطبري في «تفسيره» (19/ 278)، وابن خزيمة في «التوحيد» (279)، كلهم من طريق نعيم بن حمّاد به. رجال إسناده ثقات، إلا أن نُعيمًا على جلالته له أوهام وأشياء منكرة، وهذا الحديث منها، فقد قال دُحَيم وأبو حاتم: لا أصل له عن الوليد بن مسلم. انظر: «تاريخ أبي زرعة» (1/ 621)، و «تفسير ابن كثير» (سبأ: 23).

(3/303)


وحيه بما أراد، فيمضي جبريل على الملائكة، كلما مرَّ بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال الحق وهو العلي الكبير، قال: فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي حيث أمره سبحانه من السماء والأرض». وقال أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح (1)، عن العلاء بن الحارث، عن زيد بن أرطاة، عن جبير بن نفير، عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه» يعني القرآن (2). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. وقد رواه عبد الله بن صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن زيد بن أرطاة، عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (3). قال البيهقي: يحتمل أن يكون جبير بن نفير رواه عنهما جميعًا. _________ (1) في الأصل و (هـ) والطبعتين: «بن أبي صالح» خطأ، وسيأتي على الصواب في الإسناد التالي. (2) أخرجه الحاكم (1/ 555)، وعنه البيهقي في «الصفات» (1/ 575) وقال بعد حكاية تصحيح الحاكم: «ورواه غيره عن أحمد بن حنبل دون ذكر أبي ذر في إسناده». يعني: مرسلًا، وهكذا أخرجه عبد الله بن أحمد في «السنة» (91، 1120) عن أبيه. وكذلك أخرجه الترمذي (2912) عن إسحاق بن منصور، وأبو داود في «المراسيل» (538) عن محمد بن يحيى الذهلي، كلاهما عن عبد الرحمن بن مهدي به مرسلًا. كل ذلك يدّل على أن ذكر «أبي ذر» في الإسناد وهم والحديث مرسل، وقد قال البخاري في «خلق أفعال العباد» (ص 197 - 198): «هذا الخبر لا يصحّ لإرساله وانقطاعه». (3) أخرجه الحاكم (2/ 441) وعنه البيهقي في «الصفات» (1/ 575)، وفيه عبد الله بن صالح المصري كاتب الليث، وهو صدوق يخطئ ويخالف، وقد خالف هنا جبل الحفظ والإتقان عبد الرحمن بن مهدي في رواية هذا الحديث عن معاوية بن صالح، فجعله عن جبير بن نفير عن عقبة بن عامر، وابن مهدي يرويه من حديث جبير بن نفير مرسلًا، وهو الصواب.

(3/304)


وروى علقمة بن مرثد عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه، وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه، وذلك أنه منه». رواه البيهقي (1) من طريقين: أحدهما: من حديث الحِمّاني عن إسحاق بن سليمان الرازي، حدثنا الجراح عن علقمة. والثاني: من حديث يعلى بن المنهال السكوني عن إسحاق بن سليمان به. والجراح: هو الجراح بن الضحاك الكندي (2). ورواه (3) أيضًا من حديث حامد بن محمود عن إسحاق به. _________ (1) في «الأسماء والصفات» (1/ 579 - 580)، وكلا الطريقين ضعيف، ففي الثاني يعلى بن المنهال، ذكره ابن أبي حاتم في كتابه (9/ 305) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، فهو مجهول الحال؛ وفي الأول يحيى الحمّاني، وهو مجروح متّهم بسرقة الحديث، وقد أخذ هذا الحديث من يعلى بن المنهال، كما قال الحافظ أبو جعفر مطيّن. انظر «الفصل للوصل المدرج في النقل» (1/ 252 - 253). والحديث صحيح من غير هذين الطريقين، ولكن دون قوله: «وفضل القرآن ... » إلخ، فإنه مدرج في الحديث، ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل من كلام أبي عبد الرحمن السُّلَمي. (2) وهو صدوق صالح الحديث. انظر: «تهذيب الكمال» (1/ 441). (3) «الأسماء والصفات» (1/ 578)، وحامد بن محمود المقرئ ثقة كما قال الخطيب في «المتفق والمفترق» (1/ 739)، وقد فصل في روايته بين الحديث المرفوع وبين قول أبي عبد الرحمن السُّلَمي.

(3/305)


ورواه يحيى بن أبي طالب عن إسحاق بن سليمان فجعل آخره من قول أبي عبد الرحمن مبيّنًا (1)، وتابعه على ذلك غيره. وقد روى عمرو بن قيس عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيتُه أفضلَ ثواب السائلين، وفضلُ القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه» (2). وقد روي هذا المعنى ــ وهو: «فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه» ــ من حديث أبي هريرة، ولكن في إسناده عمر الأَبحّ، وقد ضُعّف (3). _________ (1) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (2019) والخطيب في «الفصل» (1/ 256). وتابعه على فصل كلام أبي عبد الرحمن من الحديث المرفوع الحافظان الحجّتان إسحاق بن راهويه وأبو مسعود أحمد بن الفرات. أخرجه عنهما الفريابي في «فضائل القرآن» (15، 16)، ومن طريقه الخطيب في «الفصل» (1/ 256 - 257). (2) أخرجه الترمذي (2926) والدارمي (3399) وغيرهما من طريق محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني عن عمرو بن قيس به. قال أبو حاتم: هذا حديث منكر، ومحمد بن الحسن ليس بالقوي. «العلل» (1738). وانظر: «الضعيفة» (1335). (3) أخرجه أبو يعلى في «معجمه» (294)، وابن عدي في «الكامل» (5/ 48)، ومن طريقه البيهقي في «الصفات» (1/ 583)، من طريق عمر بن سعيد الأبح، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الأشعث الحُدّاني، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. عمر بن سعيد الأبح ضعيف حدّث عن ابن أبي عروبة بمناكير، وغيره يرويه عن ابن أبي عروبة عن الأشعث (لا يذكر قتادة). وقد اختلف في إسناد هذا الحديث عن سعيد وعن الأشعث على أوجه، قال الدارقطني في «العلل» (2099): أشبهها بالصواب من رواه عن الأشعث عن شهر مرسلًا. قلتُ: من هذا الوجه أخرجه الدارمي (3400) وأبو داود في «المراسيل» (537).

(3/306)


12 - باب في الشفاعة 579/ 4572 - عن أشْعث الحُدَّاني، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «شفاعتي لأهل الكبائر من أُمَّتي» (1). وأخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (2) بإسناد حديث أبي داود. وأشعث وثّقه يحيى بن معين، وقال أحمد: ما به بأس، وقال أبو حاتم الرازي: شيخ. وقال العُقيلي: في حديثه وهم (3). وقد روي هذا من حديث زياد النُّميري عن أنس (4)، وزياد لا يُحتجّ بحديثه (5). قال ابن القيم - رحمه الله -: ورواه أبو حاتم بن حبان في «صحيحه» (6) من _________ (1) «سنن أبي داود» (4739). وأخرجه أحمد (13222)، وابن خزيمة في «التوحيد» (528)، والحاكم (1/ 69) استشهادًا، والضياء في «المختارة» (4/ 382). وللحديث طرق أخرى عن أنس، أكثرها لا تخلو من ضعف. انظر: «المقاصد الحسنة» (597) و «الشفاعة» لمقبل الوادعي (56). (2) (2/ 126). (3) انظر: «الجرح والتعديل» (2/ 274)، و «الضعفاء» للعقيلي (1/ 135). (4) أخرجه أبو يعلى (4304) وابن عدي في «الكامل» (3/ 187). (5) كلام المنذري مثبت من (هـ)، وفيه تصرّف واختصار من المؤلف. (6) برقم (6467)، وأخرجه الترمذي (2623)، وابن ماجه (4310)، وابن خزيمة في «التوحيد» (530، 531)، والحاكم (1/ 69) من طريقين ضعيفين عن جعفر بن محمد به. قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه يُستغرب من حديث جعفر بن محمد.

(3/307)


حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي». 580/ 4573 - وعن عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يخرج قوم من النار بشفاعة محمدٍ فيدخلون الجنة ويُسمَّون الجهنَّميين». وأخرجه البخاري (1). 581/ 4574 - وعن جابر قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون». وأخرجه مسلم (2). (3) قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد وردت (4) أحاديث الشفاعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أنس، وأبي سعيد، وجابر، وأبي هريرة، وعوف بن مالك الأشجعي، وأبي ذر، وابن الجدعاء، ويقال: ابن أبي الجدعاء، وعتبة بن عبد السلمي، وعمران بن حصين، وحذيفة، وكلها في «الصحيح» (5). _________ (1) أبو داود (4740)، والبخاري (6566). (2) أبو داود (4741)، ومسلم (2835). (3) الحديثان وردا في (هـ)، ولم يُشر إليهما المجرّد، فكلام المؤلف الآتي متصل عنده بما سبق. (4) (هـ): «رويت». (5) لعل المؤلف رحمه الله يقصد بـ «الصحيح» ما هو أعم من «الصحيحين»، فيشمل «صحيح ابن خزيمة» و «صحيح ابن حبان» و «مستدرك الحاكم»؛ لأن أحاديث بعض هؤلاء الصحابة المذكورين ــ وهم عوف بن مالك، وأبو ذر، وعتبة بن عبدٍ السُّلمي، وابن الجدعاء ــ ليست في «الصحيحين»، بل عند ابن حبان (211، 6462، 7247، 7376) ولاءً، وعند الحاكم (1/ 66 - 67)، (2/ 424)، (1/ 70 - 71) أيضًا عدا حديث عتبة بن عبدٍ. وانظر للكلام على أسانيدها: تخريج شعيب الأرنؤوط على «صحيح ابن حبان» (الإحسان)، وكتاب «الشفاعة» للوادعي.

(3/308)


ففي «الصحيحين» (1) عن أنس أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لكل نبي دعوة دعاها لأمته، وإني اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة». وفي «الصحيحين» (2) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجّل كل نبي دعوتَه، وإني اختبأتُ دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئًا»، ولفظه لمسلم. ورواه مسلم (3) من حديث جابر بنحوه. وفي «صحيح البخاري» (4) عن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: «لقد ظننتُ يا أبا هريرة أن لا يسألُني عن هذا الحديث [أحدٌ] أوّل (5) منك لِما رأيتُ من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قِبَل نفسه». _________ (1) البخاري (6305)، ومسلم (200) واللفظ له. (2) البخاري (6304، 7474)، ومسلم (199). (3) برقم (201). (4) برقم (6570). (5) «أحد» ساقط من الأصل، و «أول» تصحّف في الأصل إلى: «أولى».

(3/309)


وفي «صحيح البخاري» (1) عن أنس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا كان يومُ القيامة شفعتُ فقلت: يا رب، أَدخِل الجنةَ من في قلبه خردلةٌ، فيدخلون، ثم أقول (2): يا رب أدخل الجنة من في قلبه أدنى شيء»، قال أنس: كأني أنظر إلى أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي «صحيح البخاري» (3) عن عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَخرج قومٌ من النار بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فيدخلون الجنة، ويُسمَّون الجهنميين». وفي «الصحيحين» (4) عن حماد بن زيد قال: قلت لعمرو بن دينار: أسمعت جابر بن عبد الله [ق 256] يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يخرج قومًا من النار بالشفاعة»؟ قال: نعم. وفي «الصحيحين» (5) عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يجمع الله الناسَ يومَ القيامة فيهتمون لذلك فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا حتى يُريحَنا من مكاننا هذا ... » فذكر الحديث وفيه: «ثم أشفع فيَحُدّ لي حدًّا، فأخرجهم من النار وأُدخِلهم الجنة، ثم أعود فأقع ساجدًا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال لي: ارفع رأسك يا محمد، قل تُسمع، وسَلْ تُعطَه، واشفع تُشفَّعْ، فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلّمنيه ثم أشفع، فيحدّ لي حدًّا، فأخرجهم _________ (1) برقم (7509). (2) في الأصل: «يقول» خطأ، وهو على الصواب في (هـ). (3) برقم (6566). (4) البخاري (6558) ومسلم (191/ 318). (5) البخاري (4476، 6565، 7410، 7440)، ومسلم (193/ 322) واللفظ له.

(3/310)


من النار وأدخلهم الجنة ... » وذكر باقي الحديث. وفي «الصحيحين» (1) أيضًا من حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض، فيأتون آدم ... » وذكر الحديث، وقال: «فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقال: انطلق، فمن كان في قلبه مثقال حبة من بُرّةٍ أو شعيرةٍ من إيمان فأخرجْه منها، فأنطلق فأفعل، ثم أرجع إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ثم أخِرُّ له ساجدًا، فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك، وقل يُسمعْ لك، وسل تُعطَه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال لي: انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها، فأنطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدًا، فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال لي: انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل، ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدًا، فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، قال: ليس ذلك لك، ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي وجِبريائي لأُخرجنّ من قال: لا إله إلا الله». وفي «الصحيحين» (2) عن أبي هريرة قال: أُتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما بلحم فرُفع إليه الذراع وكانت تعجبه ... فذكر الحديث إلى أن قال: «فأنطلق فآتي تحت العرش، فأقع ساجدًا لربي، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده _________ (1) البخاري (7510)، ومسلم (193/ 326). (2) البخاري (4712)، ومسلم (194).

(3/311)


وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه لأحد قبلي، ثم قال: يا محمد، ارفع رأسك، سل تُعطَه، اشفع تشفَّع، فأرفع رأسي فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقال: يا محمد، أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من باب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب». وفي «صحيح مسلم» (1) عن حذيفة وأبي هريرة قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يجمع الله تبارك وتعالى الناس، فيقوم المؤمنون حتى تُزْلَف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا، استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أَخرَجكم من الجنة إلا خطيئةُ أبيكم آدم؟ لست بصاحب ذلك ... » فذكر الحديث إلى أن قال: «فيأتون محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فيقوم فيؤذَن له، وترسل الأمانة والرحم ... » الحديث. وفي «صحيح مسلم» (2) عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا أول الناس يشفع في الجنة ... » الحديث. وفي «الصحيحين» (3) عن أبي سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذُكر عنده عمه أبو طالب فقال: «لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيُجعل في ضَحضاح من النار يبلغ كعبَيه يغلي منه دماغُه». وفي «الصحيحين» (4) عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: يا _________ (1) برقم (195). (2) برقم (196/ 330). (3) البخاري (3885، 6564)، ومسلم (210). (4) البخاري (3883، 6208)، ومسلم (209).

(3/312)


رسول الله، هل نفعتَ أبا طالب بشيء فإنه كان يَحُوطك ويغضب لك؟ قال: «نعم، هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار». فقد تضمنت هذه الأحاديث خمسةَ أنواع من الشفاعة: أحدها: الشفاعة العامة التي يرغب فيها الناس إلى الأنبياء، نبيًّا بعد نبي حتى يريحَهم الله من مقامهم. النوع الثاني: الشفاعة في فتح باب الجنة لأهلها. النوع الثالث: الشفاعة في دخول من لا حساب عليهم الجنة. النوع الرابع: الشفاعة في إخراج قوم من أهل التوحيد من النار. النوع الخامس: في تخفيف العذاب عن بعض أهل النار. ويبقى نوعان يذكرهما كثير من الناس: أحدهما: في قوم استوجبوا النار فيشفع فيهم أن لا يدخلوها. وهذا النوع لم أقف إلى الآن على حديث يدل عليه، وأكثر الأحاديث صريحة في أن الشفاعة في أهل التوحيد من أرباب الكبائر إنما تكون بعد دخولهم النار، وأما أن يَشفع فيهم قبل الدخول فلا يدخلون. فلم أظفر فيه بنص. والنوع الثاني: شفاعته - صلى الله عليه وسلم - لقوم من المؤمنين في زيادة الثواب ورفعة الدرجات. وهذا قد يستدل عليه بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي سلمة وقوله: «اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين» (1)، وقوله في حديث أبي موسى: «اللهم اغفر لعبيد أبي عامر، واجعله يوم القيامة فوق كثير من _________ (1) أخرجه مسلم (920) من حديث أم سلمة - رضي الله عنها -.

(3/313)


خلقك» (1). وفي قوله في حديث أبي هريرة: «أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله» سِرّ من أسرار التوحيد، وهو أن الشفاعة إنما تنال بتجريد التوحيد، فمن كان أكمل توحيدًا كان أحرى بالشفاعة، لا أنها تنال بالشرك بالشفيع كما عليه أكثر المشركين، وبالله التوفيق. 13 - [ق 257] باب الحوض 582/ 4578 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أمامَكم حَوْضًا ما بين ناحِيتَيه كما بين جَرْبَا وأذْرُحَ (2)». وأخرجه مسلم (3). 583/ 4579 - وعن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: كُنَّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلنا منزلًا، فقال: «ما أنتم جُزءٌ من مائة ألف جزءٍ ممن يَرِدُ عليَّ الحوضَ». قال: قلت: كم كنتم يومئذ؟ قال: سبعمائة، أو ثمانمائة (4). 584/ 4580 - وعن أنس بن مالك قال: أَغْفَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إغفاءة، فرفعَ _________ (1) أخرجه البخاري (4323، 6383)، ومسلم (2498). (2) جربا وأذرح قريتان متجاورتان في أطراف الشام، كما في «معجم البلدان» (1/ 129). وقال الحافظ ضياء الدين المقدسي ــ كما في «الفتح» (11/ 472) ــ في الجزء الذي جمعه في الحوض: إنه وقع في حديث ابن عمر حذف واختصار من بعض الرواة تقديره: «كما بين مقامي وبين جربا وأذرح»، وساق بإسناده من حديث أبي هريرة ما يدلّ على ذلك. (3) أبو داود (4745)، ومسلم (2299). وأخرجه البخاري (6577) أيضًا. (4) «سنن أبي داود» (4746). وأخرجه أحمد (19268) والحاكم (1/ 76 - 77).

(3/314)


رأسَه مُتَبسِّمًا، فإمَّا قال لهم، وإمّا قالوا له: يا رسول الله مِمَّ ضحكتَ؟ فقال: إنه أُنزلت عليَّ آنِفًا سورةٌ، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} حتى ختمها، فلما قرأها قال: «هل تَدرون ما الكوثر؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنه نَهرٌ وعَدَنِيه ربي عز وجل في الجنة، وعليه خيرٌ كثير، عليه حوضٌ يَرِدُ عليه أمتي يوم القيامة، آنيَتُه عدد الكواكب». وأخرجه مسلم والنسائي (1). وقد تقدم في كتاب الصلاة. 585/ 4581 - وعنه - رضي الله عنه - قال: لما عُرِجَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجنة ــ أو كما قال ــ عَرض له نهرٌ حافتاه الياقوتُ المُجَيَّبُ ــ أو قال: المجوَّفُ ــ، فضرب الملكُ الذي معه يَدَه فاستخرجَ مِسكًا، فقال محمد - صلى الله عليه وسلم - للمَلك الذي معه: «ما هذا؟» قال: هذا الكوثرُ الذي أعطاك الله عز وجل. وأخرجه الترمذي والنسائي (2)، وقال الترمذي: حسن صحيح. 586/ 4582 - وعن عبد السلام بن أبي حازم أبي طالوتَ، قال: شهدت أبا بَرْزَة دخل على عبيد الله بن زياد، فحدثني فلان ــ سمَّاه مسلم (يعني ابن إبراهيم) ــ وكان في السِّماط: فلما رآه عبيد الله قال: إن مُحَمَّدِيَّكم هذا لَدَحْدَاحٌ (3)، ففهِمَها الشيخُ فقال: ما كنتُ أحسبُ أنِّي أبَقى في قوم يُعَيِّروني بصحبة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقال له عبيد الله: إن صحبةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - لك زَيْنٌ غير شَيْنٍ، قال: إنما بَعثتُ إليك لأَسألك عن الحوض، سمعتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرُ فيه شيئًا؟ _________ (1) أبو داود (4747)، ومسلم (400)، والنسائي (904). (2) أبو داود (4748)، الترمذي (3359، 3360)، والنسائي في «الكبرى» (11469، 11642). وهو عند البخاري (4964، 6581) أيضًا. (3) السماط: الصف، أي الذي كان حول عبيد الله. والدحداح: القصير السمين.

(3/315)


فقال أبو برزة: نعم، لا مرَّةً، ولا ثِنتين، ولا ثلاثًا، ولا أربعًا، ولا خمسًا، فمن كَذَّب به فلا سقاه الله منه، ثم خرج مُغْضَبًا (1). في إسناده رجل مجهول. قال الشيخ ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى أحاديث الحوض أربعون من الصحابة، وكثير منها أو أكثرها في «الصحيح» (2): عمر بن الخطاب، وأنس، وجابر بن عبد الله، وجابر بن سمرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعقبة بن عامر، وكعب بن عجرة، وحارثة بن وهب الخزاعي، _________ (1) «سنن أبي داود» (4749). وأخرجه عبد الرزاق (20852) مطولًا، وابن سعد في «الطبقات» (5/ 204)، وأحمد (19763)، من طريقين عن عبد الله بن بريدة عن أبي برزة. رواتهما ثقات. وقد رويت قصة عبيد الله بن زياد في استدعائه لأبي برزة وغيره من الصحابة في شأن الحوض من غير وجه. انظر: «الأنيس الساري» (7/ 5438 وما بعدها). (2) في «الصحيحين» عن واحدٍ وعشرين صحابيًّا، اتفق البخاري ومسلم على حديث أربعة عشر منهم، وهم: أبو هريرة، وعقبة بن عامر، وأنس، وأُسَيد بن حُضَير، وعبد الله بن زيد المازني، وعبد الله بن مسعود، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وسهل بن سعد، وأبو سعيد الخدري، وجندب بن عبد الله، وحارثة بن وهب، ومستورد بن شدّاد، وأسماء. وانفرد مسلم بحديث سبعة، وهم: عائشة، وأم سلمة، وحذيفة بن اليمان، وأبو ذر، وثوبان، وجابر بن سمرة، وسعد بن أبي وقاص. انظر: «صحيح البخاري» (3792، 4330، وباب في الحوض)، و «صحيح مسلم» (248، 1061، 1845، وباب إثبات حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم -). وانظر تخريج باقيها في «جزء ما روي في الحوض والكوثر» لبقي بن مخلد، و «ذيله» لابن بشكوال، و «المستدرك عليه» تحقيق واستدراك عبد القادر صوفي.

(3/316)


والمستورِد بن شدّاد، وأبو بَرْزة الأسلمي، وحذيفة بن اليمان، وحذيفة بن أُسَيد، وأبو أمامة الباهلي، وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن زيد، وسهل بن سعد، وسويد بن جَبَلة (1)، وأبو سعيد الخدري، وعبد الله الصُّنابِحيّ (2)، وأبو هريرة، وأبو الدرداء، وأبو بَكْرة، والبراء بن عازب، وسمرة بن جندب، وعبد الله بن عمرو، وأبو ذر، وثوبان، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسمرة العدوي، وجندب بن سفيان (3)، وعائشة، وأم سلمة، وأسماء بنت أبي بكر، وخولة بنت قيس، والعِرباض بن سارية، ولَقِيط بن صَبِرة، وعتبة بن عبد السلمي، ورواه غيرهم أيضًا. وهل الحوض مختص بنبينا - صلى الله عليه وسلم - أم لكل نبي حوض؟ فالحوض الأعظم مختص به لا يشركه فيه نبي غيره. وأما سائر الأنبياء، فقد قال الترمذي في «الجامع» (4): حدثنا أحمد بن _________ (1) الفَزاري، مختلف في صحبته، والأشبه أنه تابعي، وحديثه في الحوض مرسل، انظر: «الإصابة» (5/ 54). (2) ط. المعارف: «الصنابجي» بالجيم، خطأ. وقد اختلف في اسم هذا الصحابي، والصواب أنه: الصُّنابِح ــ وقيل: الصُّنابحيّ ــ بن الأعسر الأحمسي البَجَلي، وهو غير عبد الله ــ أو أبي عبد الله ــ الصُّنابحي فإن ذلك ليست له صحبة. انظر: «الإصابة» (5/ 289)، (6/ 429)، (8/ 151)، (12/ 499). وحديثه في الحوض أخرجه أحمد (19069، 19083)، وابن ماجه (3944)، وابن حبان (5985) بإسناد صحيح. (3) هو جندب بن عبد الله البجلي، نسبه المؤلف إلى جدّه. (4) برقم (2443) وإسناده ضعيف، فإن سعيد بن بشير فيه لين، وقد خولف في وصل الحديث، كما سيأتي في كلام الترمذي.

(3/317)


محمد (1) بن نَيزك البغدادي، حدثنا محمد بن بكار الدمشقي، حدثنا سعيد بن بَشير، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن لكل نبي حوضًا، وإنهم يتباهَون أيُّهم أكثرُ واردةً، وإني لأرجو أن أكون أكثرَهم واردة». قال الترمذي: هذا حديث غريب، وقد روى الأشعث بن عبد الملك هذا الحديث عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم -،مرسلًا ولم يذكر فيه: «عن سمرة»، وهو أصح. وفي «مسند البزار» (2) من حديث عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن لي حوضًا ما بين بيت المقدس إلى الكعبة، أبيضَ من اللبن، فيه عدد الكواكب آنية، وأنا فرطكم على الحوض، ولكل نبي حوض، وكل نبي يدعو أمته، فمنهم من يَرِد عليه فئام من الناس، ومنهم من يَرِد عليه ما هو دون ذلك، ومنهم من يرد عليه العِصابة، ومنهم من يرد عليه الرَّجُلان والرجل، ومنهم من لا يَرِد عليه أحد فيقول: اللهم قد بلغت، اللهم قد بلغت ثلاثًا» وذكر الحديث. _________ (1) في الأصل زيادة: «بن علي» بعده، وليس في «الجامع» ولا سِيق في نسبه المسطور في كتب الرجال. (2) لم أجده فيه، ولا في غيره من حديث ابن عمر، وقد روي هذا اللفظ من حديث زكريا بن أبي زائدة عن عطية العَوفي عن أبي سعيد الخدري. أخرجه هشام بن عمّار في حديثه (59)، واللالكائي في «شرح السنة» (6/ 1196)، وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» (1/ 110) من طرق عن زكريا به. وأخرجه ابن أبي شيبة (32339) ــ وعنه ابن ماجه (4301) وأبو يعلى (1028) وغيرهما ــ مختصرًا دون موضع الشاهد. في إسناده ضعف من أجل عطية العَوفي.

(3/318)


14 - باب في المسألة وعذاب القبر 587/ 4586 - وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القَبْر ولمَّا يُلْحَدْ، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلسنا حوله كأنَّما على رؤوسنا الطَّير، وفي يده عودٌ يَنْكُت به الأرض، فرفع رأسه فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر ــ مرتين أو ثلاثًا ــ». زاد في حديث جرير ــ وهو ابن عبد الحميد ــ هاهنا: وقال: «وإنه لَيَسْمَعُ خَفْق نعالهم إذا ولَّوا مُدبِرين، حين يقال له: يا هذا، من رَبك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟». قال هنّاد ــ وهو ابن السري ــ: «ويأتيه مَلَكان فيُجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ قال: فيقول: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقولان له: وما يُدريكَ؟ فيقول: قرأتُ كتابَ الله فآمنت به وصدَّقت». زاد في حديث جرير: «فذلك قول الله عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ... } الآية [إبراهيم: 27]». ثم اتفقا ــ يعني جرير بن عبد الحميد وأبا معاوية الضرير (1) ــ قال: «فينادي منادٍ من السماء: أن صَدَق عَبدِي، فَأَفرِشُوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، وألبسوه من الجنة، قال: فيأتيه من رَوْحِها وطيبها، قال: ويُفتح له فيها مَدَّ بَصَره. قال: وإن الكافر ــ فذكر موته ــ، قال: وتُعاد روحُه في جسده، ويأتيه ملكان، فيُجلسانه فيقولان: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي منادٍ من السماء: أن كذب عبدي، فأفرِشُوه من النار، وألبِسوه من _________ (1) كذا فسّر المنذري ثاني الاثنين في قول أبي داود: «اتفقا»، والظاهر من صنيع أبي داود في ذِكر اختلاف الألفاظ في الحديث أنه قصد: جريرًا وهنَّادًا، وإن كانت رواية هنّاد هي عن أبي معاوية الضرير. وانظر إسناد الحديث عند تخريجه.

(3/319)


النار، وافتحوا له بابًا إلى النار. قال: فيأتيه من حَرِّها وسَمومها. قال: ويُضيَّق عليه قبرُه حتى تختلف فيه أضلاعه». زاد في حديث جرير: قال: «ثم يُقيَّضُ له أعمَى أبْكَم معه مِرْزَبةٌ (1) من حديد، لو ضُرب بها جبلٌ لصار تُرابًا، قال: فيضربه بها ضربةً يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلَين، فيصير ترابًا، قال: ثم تعاد فيه الروح» (2). وأخرجه النسائي وابن ماجه مختصرًا، وقد تقدم في كتاب الجنائز مختصرًا (3). وفي إسناده المِنْهال بن عمرو، وقد أخرج له البخاري في «صحيحه» حديثًا واحدًا (4)، وقال يحيى بن معين: ثقة، وقال الإمام أحمد: تَرَكه شعبة على عمد (5)، وغمزه يحيى بن سعيد وحكى عن شعبة أنه تركه (6). وقال ابن عدي (7): والمنهال بن عمرو هو صاحب حديث القبر ــ الحديثَ الطويل ــ، رواه _________ (1) المرزبة (بتخفيف الباء أو تشديدها»: المطرقة الكبيرة التي تكون للحدّاد. (2) «سنن أبي داود» (4753)، قال: نا عثمان بن أبي شيبة نا جرير ح ونا هناد بن السَّري نا أبو معاوية ــ وهذا لفظ هنّاد ــ؛ عن الأعمش، عن المنهال، عن زاذان، عن البراء. (3) النسائي في «المجتبى» (2001) و «الكبرى» (2139)، وابن ماجه (1548، 1549)، وأبو داود (3212). (4) أي مرفوعًا، برقم (3371)، وإلا فقد أخرج له حديثًا آخر موقوفًا على ابن عباس في التفسير (سورة حم السجدة)، وأخرج له في متابعة معلقة عقب الحديث (5515). (5) انظر: «الجرح والتعديل» (8/ 357). (6) انظر: «الكامل» (6/ 330)، و «التعديل والتجريح» للباجي (2/ 760) والمنذري صادر عنه. (7) «الكامل» (6/ 330).

(3/320)


عن زاذان عن البراء، ورواه عن منهال جماعة. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقال أبو حاتم البُسْتي (1): خبر الأعمش عن المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء سمعه الأعمشُ عن الحسن بن عُمَارة (2) عن المنهال بن عمرو، وزاذان لم يسمع من البراء، فلذلك لم أخرجه. فذكر له علتين: انقطاعه بين زاذان والبراء، ودخول الحسن بن عمارة بين الأعمش والمنهال. وقال أبو محمد بن حزم (3): ولم يروِ أحد في عذاب القبر أن الروح تُردّ إلى الجسد، إلا المنهال بن عمرو وليس بالقوي، وقد قال تعالى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28]، فصحّ أنهما حياتان وموتتان فقط، ولا تُردّ الروح إلا لمن كان ذلك آية له كمن أحياه (4) عيسى عليه السلام، وكل من جاء فيه بذلك نص. ولم أعلم أحدًا طعن في هذا الحديث إلا أبا حاتم البستي وابن حزم، ومجموع ما ذكراه ثلاث علل، إحداها: ضعف المنهال، والثانية: أن الأعمش لم يسمعه من المنهال، والثالثة: أن زاذان لم يسمعه من البراء. وهذه علل واهية جدًّا. _________ (1) في «صحيحه» عقب الحديث (3117). (2) وهو ساقط متروك الحديث. (3) في «المحلّى» (1/ 22). (4) في الأصل وط. المعارف: «أحيا» بدون ضمير النصب، والمثبت من ط. الفقي موافق للمحلَّى.

(3/321)


فأما المنهال بن عمرو فروى له البخاري في «صحيحه»، وقال يحيى بن معين والنسائي: المنهال ثقة، وقال الدارقطني: صدوق، وذكره ابن حبان في «الثقات» (1). والذي اعتمده أبو محمد بن حزم في تضعيفه أن ابن أبي حاتم (2) حكى عن شعبة أنه تركه، وحكاه أحمد عن شعبة. وهذا لو لم يذكر (3) سبب تركه لم يكن موجِبًا لتضعيفه، لأن مجرد ترك شعبة له لا يدل على ضعفه، فكيف وقد قال ابن أبي حاتم: إنما تركه شعبة لأنه سمع في داره صوتَ قراءةٍ بالتطريب. ورُوي عن شعبة قال: أتيت منزل المنهال فسمعتُ صوتَ الطنبور فرجعت (4). فهذا سبب جرحه، ومعلوم أن شيئًا من هذا لا يقدح في روايته، لأن غايته أن يكون عالمًا به مختارًا له، ولعله متأول فيه، فكيف وقد يمكن أن لا يكون ذلك بحضوره ولا إذنه ولا علمه؟! وبالجملة فلا يُردّ حديثُ الثقات بهذا وأمثاله. وأما العلة الثانية، وهي أن بين الأعمش فيه وبين المنهال: الحسن بن _________ (1) انظر «تهذيب الكمال» (7/ 239)، وترجمته ساقطة من مطبوعة «الثقات». (2) «الجرح والتعديل» (8/ 357). (3) في الطبعتين: «نذكر»، ولا يساعده السياق. (4) أسنده العقيلي في «الضعفاء» (6/ 102) بإسناد صحيح عن وهب بن جرير عن شعبة، وفيه أن وهبًا قال له: «هلّا سألتَه؟ فعسى كان لا يعلم».

(3/322)


عمارة، فجوابها: أنه قد رواه عن المنهال جماعة، كما قاله ابن عدي (1)؛ فرواه عبد الرزاق (2) عن معمر عن يونس بن خَبّاب (3) عن المنهال، ورواه حماد بن سلمة عن يونس عن المنهال (4) = فبطلت العلة من جهة الحسن بن عمارة، ولم يضرّ دخول الحسن شيئًا. وأما العلة الثالثة: وهي أن زاذان لم يسمعه من البراء، فجوابها من وجهين: أحدهما: أن أبا عوانة الإسفراييني رواه في «صحيحه» (5) وصرح فيه بسماع زاذان له من البراء فقال: «سمعت البراء بن عازب» فذكره. _________ (1) وقد سبق كلامه عند المنذري، وبنحوه قال أبو نعيم الأصبهاني كما نقله شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (5/ 439). (2) في «المصنف» (6735)، وعنه أحمد (18614)، ثم من طريقه الحاكم (1/ 39)، وفيه ذكر أن الملائكة يعرجون بالروح فيقول الله تعالى: «ارجعوه .. ». وإسناده لا بأس به في المتابعات، فإن يونس بن خبّاب صدوق على لين فيه، ومن كذّبه فلرأيه فإنه كان شيعيًّا غاليًا. (3) في الطبعتين: «حباب» بالحاء المهملة، خطأ. (4) لم أجده من هذا الطريق، والظاهر أن قوله: «حماد بن سلمة» سهو أو سبق قلم، والصواب «حمّاد بن زيد»، فإن عبد الله أخرجه في «مسند أبيه» (18615) وفي «السنة» (1422) من طريق حمّاد بن زيد عن يونس به، وأخرجه أيضًا ابن ماجه (1548) والروياني (389) من طريق حماد بن زيد عن يونس به مختصرًا بذكر طرف منه، ولم يُذكر في ترجمة يونس بن خباب أن حماد بن سلمة روى عنه. وقد روي من طرق أخرى عن المنهال، وفي أكثرها نظر. انظرها في «المعجم الأوسط» للطبراني (3499، 7417، 9474)، و «مستدرك الحاكم» (1/ 39 - 40). (5) ليس في القدر المطبوع منه، وجاء التصريح بالسماع أيضًا عند أحمد (18535) وأبي داود (4754) والحاكم (1/ 38، 39).

(3/323)


والثاني: أن ابن منده (1) رواه عن الأصمّ: حدثنا الصَّغاني (2) حدثنا أبو النضر، حدثنا عيسى بن المسيب، عن عدي بن ثابت، عن البراء، فذكره. فهذا عدي [ق 258] بن ثابت قد تابع زاذان. قال ابن منده: ورواه أحمد بن حنبل، ومحمود بن غيلان، وغيرهما عن أبي النضر. ورواه ابن منده (3) أيضًا من طريق محمد بن سلَمة عن خُصَيف الجزَري، عن مجاهد، عن البراء. قال أبو موسى الأصبهاني (4): «هذا حديث حسن مشهور بالمنهال عن زاذان»، وصححه أبو نعيم (5) والحاكم وغيرهما. _________ (1) في «كتاب الروح والنفس»، كما في «مجموع الفتاوى» (5/ 442 - 444) لشيخ الإسلام و «كتاب الروح» للمؤلف (1/ 130 - 133)، وأخرجه أيضًا الطبري في «تهذيب الآثار» (2/ 500 - مسند عمر)، وابن الأعرابي في «معجمه» (788)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (391) كلهم من طريق الصَّغاني به. وفيه: «ثم يُصعد به إلى السماء فيفتح له ... فيقول الرب عز وجل ردوا عبدي إلى مضجعه». وإسناده لا بأس به في المتابعات، فإن عيسى بن المسيب صدوق ليس بالقوي. (2) في الأصل وط. الفقي: «الصنعاني» خطأ، وفي ط. المعارف: «الصاغاني»، وهو وجه صحيح في هذه النسبة، وقد سبق تقريره. (3) في «كتاب الروح والنفس»، كما في «كتاب الروح» للمؤلف (1/ 134 - 136) وساق لفظه، وفيه: «ثم عرجا به إلى الجنة فتفتح له أبواب السماء ... فيقول الله عز وجل: رُدُّوا روح عبدي إلى الإرض ... ». وإسناده لا بأس به في المتابعات، فإن خصيفًا صدوق يُعتبر به على سوء حفظه. (4) نقله عنه المنذري في «المختصر» (7/ 144). (5) انظر: «مجموع الفتاوى» (5/ 439)، وممن صححه ابن منده في «كتاب الإيمان» له (2/ 965).

(3/324)


وأما ما ظنه أبو محمّد من معارضة هذا الحديث لقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} الآية [البقرة: 28]، وأنهما حياتان وموتان (1) لا غير= فجوابه: أنه ليس في الحديث أنه يحيا حياة مستقرة في قبره، والحياتان المذكورتان في الآية هما اللتان ذُكرا (2) في قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11]، وهاتان حياتان مستقرتان، وأما رد الروح إليه في البرزخ للسؤال فردٌّ عارض لا يتّصل به حياةٌ تُعَدّ حياةً ثالثة (3)، فلا معارضة بين الحديث والقرآن بوجه من الوجوه، وبالله التوفيق. وفي «الصحيحين» (4) عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أحدكم إذا مات عُرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك، حتى يبعثك الله يوم القيامة». وفي «صحيح مسلم» (5) عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لولا أن لا تَدافنوا لدعوتُ الله أن يُسمعكم من عذاب القبر». وفي «صحيحه» (6) أيضًا عن زيد بن ثابت قال: بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن معه، إذ حادت به فكادت تُلقيه. وإذا أَقْبُرٌ ستة ــ أو خمسة أو أربعة ــ فقال: _________ (1) في الطبعتين: «موتتان» خلافًا للأصل. (2) كذا في الأصل، والوجه: «ذُكرَتا». (3) في الطبعتين: «بعد حياة ثالثة»، تحريف أضاع المعنى وأفسد الكلام. (4) البخاري (1379) ومسلم (2866). (5) برقم (2868). (6) برقم (2867).

(3/325)


«من يعرف أصحاب هذه الأَقْبُر؟» فقال رجل: أنا، قال: «فمتى مات هؤلاء؟» قال: ماتوا في الإشراك، فقال: «إنّ هذه الأمة تُبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله عز وجل أن يُسمعكم عذابَ القبر الذي أسمع منه»، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: «تعوذوا بالله من عذاب النار»، فقالوا: نعوذ بالله من عذاب النار، قال: «تعوّذوا بالله من عذاب القبر»، قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال: «تعوّذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن»، قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قال: «تعوّذوا بالله من فتنة الدجال»، قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال. وفي «الصحيحين» (1) عن أبي أيوب قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدما غربت الشمس فسمع صوتًا فقال: «يهودُ تُعَذّب في قبورها». وفي «صحيح مسلم» (2) عن أم خالد أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يتعوّذ من عذاب القبر. وقد تقدم حديث أبي هريرة المتفق عليه: «إذا تشهد أحدكم في صلاته فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب القبر، وعذاب جهنم ... » الحديث. وفي «الصحيحين» (3) عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرّ بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان ... » الحديث. _________ (1) البخاري (1375) ومسلم (2869). (2) كذا، وهو سهو أو سبق قلم، فإن الحديث ليس فيه، بل في «صحيح البخاري» (6364). (3) البخاري (218، 1361، 1378، 6052)، ومسلم (292).

(3/326)


وفي «الصحيحين» (1) عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو بهذه الدعوات: «اللهم إني أعوذ من فتنة النار وعذاب النار، وفتنة القبر وعذاب القبر ... » الحديث. وفي «الصحيحين» (2) عن أنس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اللهم إني أعوذ بك من العَجْز والكسل، والجُبْن والهَرَم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، ومن شرِّ فتنة المحيا والممات». وفي «الصحيحين» (3) عن عمرة أن يهودية أتت عائشة تسألها. فقالت: أعاذك الله من عذاب القبر، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله يُعذَّب الناس في القبور؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عائذا بالله ... » فذكر الحديث، وفيه: ثم رفع وقد تجلّت الشمس فقال: «إني رأيتكم تفتنون في القبور كفتنة الدجال»، فكنتُ أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك يتعوذ من عذاب النار وعذاب القبر. وفي لفظ للبخاري: فرجع ضحًى ... فقال ما شاء الله أن يقول، ثم أمرهم أن يتعوّذوا من عذاب القبر. وفي «الصحيحين» (4) عن أسماء بنت أبي بكر قالت: خَسفت الشمسُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخلتُ على عائشة وهي تصلي، فقلت: ما شأن الناس يصلون؟ فأشارت برأسها إلى السماء، فقلت: آية؟ قالت: نعم، فأطال _________ (1) البخاري (6368، 6375 - 6377)، ومسلم (589) (ج 4، ص 2078). (2) البخاري (2823، 6367)، ومسلم (2706/ 50). (3) البخاري (1049، 1055)، ومسلم (903). (4) البخاري (86، 184، 922، 1053)، ومسلم (905).

(3/327)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القيام جدًّا، حتى تجلّاني الغَشْي، فأخذت قِربةً من ماء، فجعلت أصب على رأسي ــ أو على وجهي ــ من الماء. قالت: فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد تجلت الشمس، فخطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد، ما من شيء لم أكن رأيته إلا قد رأيتُه في مقامي هذا حتى الجنةَ والنار، وإنه قد أوحي إلي (1): أنكم تُفتنون في قبوركم قريبًا ــ أو مثل ــ فتنة المسيح الدجال ــ لا أدري أيّ ذلك قالت أسماء؟ ــ فيُؤتى أحدكم (2) فيقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو المُوقن ــ لا أدري أيّ ذلك قالت أسماء ــ فيقول: هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا وأطعنا (ثلاث مرات)، فيقال له: قد كنّا (3) نعلم أنك تؤمن به، فنَمْ صالحًا، وأما المنافق أو المرتاب ــ لا أدري: أي ذلك قالت أسماء ــ فيقول: لا أدري، سمعتُ الناس يقولون شيئًا فقلتُ». وفي «صحيح ابن حبان» (4) من حديث أبي عبد الرحمن الحُبُليّ عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله [ق 259] عليه وسلم ذكر فتَّانَي القبر، فقال عمر - رضي الله عنه -: أتُردُّ علينا عقولنا يا رسول الله؟ فقال: «نعم كهيئتكم _________ (1) في الأصل: «إليكم»، وفي الهامش: «لعله: إلي»، وهو على الصواب في (هـ). (2) الأصل: «أحدهم»، والتصحيح من (هـ) و «الصحيحين». (3) «كنّا» من (هـ) و «الصحيحين». (4) برقم (3115)، وأخرجه أحمد (6603) وابن عدي في «الكامل» (2/ 450)، والطبراني في «الكبير» (14/ 81)، كلهم من طريق حُيي بن عبد الله المعافري، عن أبي عبد الرحمن الحبلي به. وإسناده لا بأس به في الشواهد والمتابعات، وإلا فحُيَي ليس بالقوي. انظر: «ميزان الاعتدال» (1/ 623 - 624).

(3/328)


اليوم»، قال: فبِفِيه الحجر! (1). وفي «صحيحه» (2) أيضًا من حديث سعيد المَقْبُري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا قُبِر أحدكم ــ أو الإنسان ــ أتاه ملَكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما: المنكر والآخر: النكير، فيقولان له: ما كنتَ تقول في هذا الرجل (لمحمد - صلى الله عليه وسلم -)؟ فهو قائل ما كان يقول، فإن كان مؤمنًا قال: هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فيقولان له: إنّ كنا لنعلم إنك لتقول (3) ذلك، ثم يُفسَح له في قبره سبعون ذراعًا في سبعين ذراعًا، ويُنوّر له فيه، فيقال له: نَمْ نومة العروس لا يوقظه إلا أحبُّ أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجَعه ذلك. وإن كان منافقًا قال: لا أدري، كنت أسمع الناس يقولون شيئًا فكنت أقوله، فيقولان له: إن كنا لنعلم أنك تقول ذلك، ثم يقال للأرض: الْتَئِمي عليه، فتلتَئِم عليه حتى تختلف فيها أضلاعُه، فلا يزال معذّبًا حتى يبعثه الله _________ (1) بفِيه الحجر: دعا عليه بالسوء، والمراد هنا استعظام تيك الحال التي يُفتن فيها الميت. (2) برقم (3117)، وأخرجه الترمذي (1071)، وابن أبي عاصم في «السنة» (890)، كلهم من طريق عبد الرحمن بن إسحاق المدني، عن سعيد المقبري به. الحديث صحيح، وهذا إسناد حسن، فإن عبد الرحمن بن إسحاق من رجال مسلم، لكن فيه كلام يسير من قِبل حفظه، ولذا قال الترمذي: «حسن غريب»، وقد توبع، تابعه محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة بنحوه، وسيأتي. (3) ط. الفقي: «أنك تقول» سقطت اللام، وفي ط. المعارف: «أنك لتقول» استُدركت اللام ولكن بقيت همزة «إنك» مفتوحة، وهو خطأ، فإن أفعال القلوب إذا عُلّق عنها باللام وجب كسر «إن» بعدها نحو قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ}.

(3/329)


من مضجَعه ذلك». وفي «صحيحه» (1) أيضًا عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124]، قال: «عذاب القبر». وفي «صحيحه» (2) أيضًا عن أبي سفيان عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا دخل الميت القبر مُثِّلَت له الشمس عند غروبها، فيقول: دَعُوني أصلي». وفي «صحيحه» (3) أيضًا عن أم مُبشِّر قالت: دخل عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - _________ (1) برقم (3119)، وأخرجه الحاكم (1/ 381) موقوفًا، والبيهقي في «إثبات عذاب القبر» (57، 58) مرفوعًا؛ كلهم من طريق حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. إسناده حسن، وهو مختصر من حديث طويل مروي من طرق عن محمد بن عمرو به، وفيه: «ثم يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، وتلك المعيشة الضنك التي قال الله عز وجل ... »، وسيأتي بتمامه. (2) برقم (4272)، وأخرجه ابن ماجه (4272)، وابن أبي عاصم في «السنة» (893)، والضياء في «المختارة» ــ كما في «سير النبلاء» (13/ 280 - 281) ــ، كلهم من طريق إسماعيل بن حفص الأُبُلِّي، عن أبي بكر بن عياش، عن الأعمش، عن أبي سفيان به. تفرّد به إسماعيل وليس مشهورًا بالثقة، بل امتنع أبو حاتم أن يقول فيه: لا بأس به، وغيره يروي حديث فتنة القبر عن أبي بكر بن عياش فلا يذكرون فيه تمثّل الشمس للميت، كما عند أحمد (14547) وابن أبي عاصم في «السنة» (892) وأبي يعلى (2316)، وكذلك لم يذكره أبو الزبير عن جابر، كما عند عبد الرزاق (6744) وأحمد (14722)، وإنما ثبت ذلك من حديث أبي هريرة (وسيأتي)، فلعل إسماعيل وهم فيه فقلب إسناده. (3) برقم (3125)، وأخرجه أحمد (27044)، وابن ابي شيبة (12159)، وابن أبي عاصم في «السنة» (901) كلهم من طريق الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن أم مبشّر. إسناده جيّد، إلا أن أبا سفيان خالفه أبو الزبير فرواه عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا يذكر فيه أم مبشّر، أخرجه أحمد (14152) وغيره، وأيًّا ما كان فالحديث صحيح على كلا التقديرين.

(3/330)


وأنا في حائط من حوائط بني النجار، فيه قبور منهم، وهو يقول: «استعيذوا بالله من عذاب القبر»، فقلت: يا رسول الله، وللقبر عذاب؟ قال: «وإنهم لَيعذَّبُون في قبورهم (1)، تسمعه البهائم». وفي «صحيحه» (2) أيضًا عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن المؤمن في قبره لفي روضةٍ خضراءَ، ويُرْحَب له في قبره سبعين ذراعًا، ويُنوّر له كالقمر ليلة البدر، أتدرون فيما أنزلت هذه الآية: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}؟ أتدرون ما المعيشة الضنك؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده إنه ليُسلّط عليه تسعة وتسعون تِنِّينًا، أتدرون ما التنين؟ سبعون حيّة لكل حية سبع (3) رؤوس يَلْسَعونه ويَخدِشونه إلى يوم يبعثون». فيه دراج أبو السَّمْح عن ابن (4) _________ (1) بعده في (هـ): «عذابًا»، وليس في «صحيح ابن حبّان». (2) برقم (3122)، وأخرجه الطبري (16/ 198)، وابن أبي حاتم (كما في تفسير ابن كثير)، من طريقين عن درّاج، عن عبد الرحمن بن حُجَيرة، عن أبي هريرة. درّاج ليس بالقوي وروى مناكير كثيرة، ولذا قال الحافظ ابن كثير: رفعه منكر جدًّا. وأخرجه البزار (9407) من طريق آخر عن ابن حجيرة، إلا أن فيه الواقدي وهو ساقط متروك الحديث. (3) في الطبعتين: «تسع» تصحيف. (4) في الأصل و (هـ): «أبي» تصحيف.

(3/331)


حجيرة عن أبي هريرة. وذكر أبو حاتم (1) أيضًا قصة التسعة والتسعين تِنِّينًا من حديث درّاج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي «صحيحه» (2) أيضًا من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الميت إذا وضع في قبره إنه يَسمع خَفْق نعالهم حين يُولّون عنه، فإن كان مؤمنًا كانت الصلاة عند رأسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الزكاة عن شماله، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة (3) والمعروف والإحسان إلى الناس عند رِجلَيه، فيؤتى من قِبَل رأسه فتقول الصلاة: ما قِبَلي مدخل، ثم يؤتى عن يمينه فيقول الصيام: ما قِبَلي _________ (1) في «صحيحه» (3121)، وأخرجه أحمد (11334)، والدارمي (2857)، وغيرهم من طريق سعيد بن أبي أيوب عن درّاج به، فإما أن درّاجًا اضطرب فيه فرواه مرّة عن ابن حُجيرة عن أبي هريرة (كما سبق)، ومرّة عن أبي الهيثم عن أبي سعيد، أو أن سعيد بن أبي أيوب وهم بسلوك الجادّة عن درّاج، فإن أكثر روايته هي عن أبي الهيثم عن أبي سعيد، وعلى كلٍّ فالحديث ضعيف لضعف درّاج. والذي صحّ عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال في تفسير المعيشة الضنك: عذاب القبر، يُضيَّق عليه حتى تختلف أضلاعه. أخرجه الطبري (16/ 197) موقوفًا. (2) برقم (3113)، وأخرجه ابن أبي شيبة (12188)، وهشام بن عمّار في «حديثه» (6)، والطبري في «تفسيره» (13/ 662)، والطبراني في «الأوسط» (2630)، والحاكم (1/ 379 - 381)، والبيهقي في «إثبات عذاب القبر» (67)، من طرق عن محمد بن عمرو به، إلا أنهم اختلفوا في رفعه ووقفه، والخطب يسير فإنه مما لا مجال للرأي فيه، فالموقوف منه في حكم المرفوع. (3) في الأصل و (هـ): «الصلاة»، تصحيف، وسيأتي على الصواب بعد أسطر.

(3/332)


مدخل، ثم يؤتى عن يساره فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من قبل رجليه فيقول فِعْلُ الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس: ما قبلي مدخل. فيقال (1) له: اجلس، فيجلس قد مُثِّلت له الشمس وقد أُدنيت للغروب، فيقال له: أرأيتَك هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقول فيه؟ وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: دعوني حتى أصلي، فيقولون: إنك ستفعل، أخبِرْنا عما نسألك عنه، أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقول فيه؟ وماذا تشهد عليه؟ قال: فيقول: محمد أشهد أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه جاء بالحق من عند الله، فيقال له: على ذلك حَيِيتَ، وعلى ذلك متّ، وعلى ذلك تُبعث إن شاء الله، ثم يفتح له باب من أبواب الجنة، فيقال: هذا مقعدك منها وما أعد الله لك فيها، فيزداد غبطة وسرورًا، [ثم يُفتح له باب من أبواب النار فيقال له: هذا مقعدك منها وما أعدّ الله لك فيها لو عصيتَه، فيزداد غبطة وسرورًا] (2)، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعًا وينوّر له فيه، ويعاد الجسد لِما بُدِئ منه (3)، فتُجعل نسمته في النَّسَم الطيب، وهي طير تَعْلُقُ في شجر الجنة (4)». قال: «فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]». _________ (1) في الأصل: «فيقول» تصحيف، وهو على الصواب في (هـ) .. (2) ما بين الحاصرتين سقط من الأصل لانتقال النظر. (3) بعده عند ابن أبي شيبة والطبري: «مِن التراب». (4) أي: تأكل من ثمارها. يقال: عَلَقت البهائمُ من الشجر، تَعْلُق، عَلْقًا وعُلوقًا، إذا تناولت بأفواهها من ورق الشجر، وكذلك الطير من الثَّمَر. انظر: «التاج» (26/ 185).

(3/333)


قال: «وإن الكافر إذا أتي من قِبَل رأسه لم يوجد شيء، ثم أُتي عن يمينه فلا يوجد شيء، ثم أُتي عن شماله فلا يوجد شيء، ثم أُتي من قبل رجليه فلا يوجد شيء، فيقال له: اجلس، فيجلس خائفًا مرعوبًا، فيقال له: أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ماذا تقول فيه؟ وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: أي رجل؟ فيقال: الذي كان فيكم، فلا يهتدي لاسمه حتى يقال له: محمد، فيقول: ما أدري، سمعت الناس قالوا قولًا فقلتُ كما قال الناس، فيقال له: على ذلك حييت، وعلى ذلك مت، وعلى ذلك تبعث إن شاء الله، ثم يُفتح له باب من أبواب النار، فيقال له: هذا مقعدك من النار وما أعد الله لك فيها، فيزداد حسرةً وثُبورًا، ثم يفتح له باب من أبواب الجنة [ق 260] فيقال له: ذلك مقعدك من الجنة، وما أعد الله لك فيها لو أطعتَه، فيزداد حسرةً وثُبورًا، ثم يُضيَّق عليه قبرُه حتى تختلف فيه أضلاعه، وتلك المعيشة الضنك التي قال الله عز وجل: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]». 15 - باب الميزان 588/ 4587 - عن الحسن ــ وهو البصري ــ عن عائشة - رضي الله عنها - أنها ذكرت النارَ فبكت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما يبكيك؟» قالت: ذكرتُ النار فبكَيتُ، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمَّا في ثلاثة مواطِنٍ فلا يذكرُ أحدٌ أحدًا: عند الميزان حتى يعلم أيَخِفُّ ميزانه أو يثقل؟ وعند الكتاب حين يقال: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] حتى يَعلم أين يقع كتابُه، أفي يمينه أم في شِماله أم من وراء ظهره؟ وعند الصراط إذا وُضِعَ بين ظَهْري جهنم» (1). _________ (1) «سنن أبي داود» (4755). وأخرجه الحاكم (4/ 578) وقال: حديث صحيح إسناده على شرط الشيخين لولا إرسال فيه بين الحسن وعائشة.

(3/334)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد أخرجا في «الصحيحين» (1) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم». وفي «جامع الترمذي» (2) من حديث النضر بن أنس بن مالك عن أبيه قال: سألتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: «أنا فاعل»، قال: قلت: يا رسول الله فأين أطلبك؟ قال: «اطلُبْني أولَ ما تطلبني على الصراط»، قال قلت: فإن لم ألقَك على الصراط؟ قال: «فاطلبني عند الميزان»، قال قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: «فاطلبني عند الحوض، فإني لا أخطئ هذه الثلاث المواطن». قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وروى الليث بن سعد عن عامر بن يحيى المعافري، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي أنه قال: سمعتُ عبد الله بن عمرو يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يُصاح برجلٍ من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فيُنشَر له تسعة وتسعون سجلًّا، كل سجل منها مدَّ البصر، ثم يقول الله تبارك وتعالى له: أتنكر من هذا شيئًا؟ فيقول: لا يا رب، [فيقول عز وجل: ألك عُذر _________ (1) البخاري (6406، 6682، 7563)، ومسلم (2694). (2) برقم (2433)، وأخرجه أحمد (12825)، والضياء في «المختارة» (7/ 246 - 249) من طرق عن حرب بن ميمون الأنصاري، عن النضر به. قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وصححه الضياء على رسم مسلم، وفيه نظر فإن حرب بن ميمون لم يُخرج له مسلم سوى حديثٍ واحد عن النضر في المتابعات، وقال الدارقطني في «تعليقاته على المجروحين» (ص 79): حرب بن ميمون يحدّث عن النضر بن أنس بنسخة لا يتابَع عليها.

(3/335)


أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا يا رب،] (1) فيقول عز وجل: بلى إن لك عندنا حسنات، وإنه لا ظلم عليك، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلّات؟ فيقول: إنك لا تُظلَم، قال: فتُوضَع السجلات في كِفّة والبطاقةُ في كِفّة، فطاشت السجلات وثَقُلت البطاقة» (2). قال حمزة الكناني (3): لا أعلم روى هذا الحديث غير الليث بن سعد، وهو من أحسن الحديث. قال أبو طاهر السِّلَفي: أخبرنا أبو الحسن علي بن عمر بن محمد الحَرَّاني (4) قال: أنا حضرتُ رجلًا في المجلس، وقد زَعَق عند هذا _________ (1) ما بين الحاصرتين سقط من الأصل لانتقال النظر، واستدركته من «جزء البطاقة». (2) أخرجه أحمد (6994)، والترمذي (2639)، وابن ماجه (4300)، وابن حبان (225)، وحمزة الكناني في «جزء البطاقة» (2) ــ واللفظ له ــ، والحاكم (1/ 6، 529)، من طرق عن الليث به. إسناده صحيح، رجاله ثقات من رجال مسلم، وقال الترمذي: حسن غريب، وصححه ابن حبان، والحاكم على شرط مسلم، وقال الذهبي في «معجم الشيوخ» (1/ 114): إسناده جيد. (3) هو الإمام الحافظ أبو القاسم حمزة بن محمد بن علي الكناني المصري المتوفى سنة 357، محدث الديار المصرية، صاحب «جزء البطاقة»، وقوله هذا فيه عقب الحديث. (4) ثم المصري، المعروف بابن حِمِّصَة (ت 441)، راوي «جزء البطاقة» عن حمزة الكناني، ولم يروِ شيئًا غيره. وقوله هذا فيه عقب الحديث. وأبو طاهر السِّلَفي (ت 576) لم يُدركه، فما هنا وهم أو فيه سقط، وإنما يرويه أبو طاهر عن أبي صادق مرشد بن يحيى (ت 517) وأبي عبد الله الرازي المعروف بابن الحطّاب (ت 525)، كلاهما عنه. انظر: «تاريخ الإسلام» (9/ 626، 11/ 282، 436)، و «مشيخة ابن الحطّاب» (17).

(3/336)


الحديث ومات، وشهدت جنازته وصليت عليه. قال أبو القاسم الطبراني (1): لا يروى هذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بهذا الإسناد، تفرد به عامر بن يحيى. آخر كلامه. ورواه أبو عبد الرحمن المُقرئ عن عبد الرحمن بن زياد بن أَنعُم الإفريقي، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو. رواه عن المقرئ جماعة (2). والحديث أخرجه ابن حبان في «صحيحه» والترمذي (3)، وقال: حديث حسن غريب. وروى حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن زرّ بن حبيش: أن عبد الله بن مسعود كان يجتني (4) لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواكًا من أراك، وكان في _________ (1) في «الأوسط» عقب الحديث (4725). وقوله: «تفرّد به عامر بن يحيى» فيه نظر، إذ أخرج هو نفسه في «الكبير» (14/ 51) متابعة ابن أنعُم الإفريقي له عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد الحُبُلي به، وسيذكرها المؤلف. (2) أخرجه عبد بن حُميد في «مسنده» (339)، والطبراني في «الكبير» (14/ 51)، والكلاباذي في «معاني الأخبار» (610)، والخطيب في «الموضح» (2/ 203)، من طرق عن المقرئ. وأخرجه الطبري في «تفسيره» (10/ 71) من طريق آخر عن الإفريقي به، إلا أنه موقوف على عبد الله بن عمرو. (3) أي من طريق الليث، وقد سبق تخريجه. (4) ط. الفقي: «يجزّ» تصحيف، وفي ط. المعارف: «يجني»، والمثبت أقرب إلى رسم الأصل، وهو الموافق لما في هامش بعض نسخ «الإحسان» و «التقاسيم»، وفي صلبهما: «يحتزّ»، أي يقطع.

(3/337)


ساقَيه دقة، فضحك القوم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما يُضحككم من دِقّة ساقَيه؟ والذي نفسي بيده إنهما أثقل في الميزان من أُحُد». رواه أبو حاتم في «صحيحه» (1). 16 - باب في قتال الخوارج (2) 589/ 4595 - عن عَبِيدة ــ وهو السَّلْماني ــ أن عليًّا ذكر أهل النَّهْرَوان فقال: «فيهم رجل مُودَن اليد ــ أو مُخْدَج اليد، أو مَثدُون اليد (3) ــ، لولا أن تَبطَروا لنبَّأتكم ما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -»، قال: قلت: أنت سمعتَ هذا منه؟ قال: قال: إي وربِّ الكعبة! وأخرجه مسلم وابن ماجه (4). 590/ 4596 - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: بعث عليٌّ - رضي الله عنه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بذُهَيبة في تُربتها، فقسمها بين أربعة: بين الأقرع بن حابس الحنظلي ثم المُجاشعي، وبين عُيَينة بن بدر الفَزاري، وبين زَيد الخيل الطائي ثم أحدِ بني _________ (1) «التقاسيم» (3406) و «الإحسان» (7069)، وأخرجه أيضًا أحمد (3991)، وأبو يعلى (5310، 5365)، وغيرهم من طرق عن حماد بن سلمة به. إسناده جيّد، وله طرق وشواهد. انظر: «الصحيحة» (2750). (2) قال المجرّد في الأصل: «باب الخوارج. ذكر أحاديث الباب إلى آخرها ثم ذيل عليه»، وهي ترجمة الباب السابق لهذا في «السنن» و «المختصر»، والترجمة المثبتة من (هـ)، ويؤيدها ما ذكره المؤلف في آخر تعليقه أنه صح الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخوارج من عشرة أوجه وأنه ذكرها كلَّها، وهذا لا يكون إلا باعتبار أحاديث هذا الباب، دون الباب السابق الذي ليس فيه حديث صريح في الخوارج. (3) مُودَن اليد ومخدج اليد: أي ناقصها، ومثدون اليد: أي صغير اليد مُجتمِعها. (4) أبو داود (4763)، ومسلم (1066/ 155)، وابن ماجه (167).

(3/338)


نَبهان، وبين علقمة بن عُلاثة العامري ثم أحدِ بني كلاب، قال: فغضبت قريش والأنصار وقالت: يُعطي صناديدَ أهلِ نجدٍ ويَدَعُنا؟! فقال: «إنما أنا أتألَّفهم». قال: فأقبل رجل غائِرُ العَينين، مُشرِف الوَجْنَتين، ناتئ الجبين، كثُّ اللحية، محلوق، قال: اتَّقِ الله يا محمد! فقال: «من يطيع الله إذا عصيتُه، أيأمَنُني على أهل الأرض ولا تأمنوني؟! ‍» قال: فسأل رجل قَتْلَه ــ أحسبه خالدَ بن الوليد ــ، قال: فمنعه، قال: فلمَّا ولى قال: «إن من ضِئضِئ هذا ــ أو في عقب هذا ــ قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام مُروقَ السهم من الرميَّة، يقتلون أهل الإسلام ويَدَعون أهل الأوثان، لئِن أنا أدركتهم لأقتُلَنَّهم قتلَ عاد». وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (1). 591/ 4597 - وعن قتادة، عن أبي سعيد الخدري وأنس بن مالك - رضي الله عنهما -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «سيكون في أمتي اختلاف وفُرقة، قوم يُحسنون القِيل ويُسيئون الفعل، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروقَ السهم من الرمية، لا يرجعون حتى يرتدَّ على فُوقِه (2)، هم شر الخلق والخليقة، طوبى لمن قتلهم وقتلوه، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء، من قاتلهم كان أولى بالله منهم» قالوا: يا رسول الله ما سيماهم؟ قال: «التحليق» (3). قتادة لم يسمع من أبي سعيد الخدري، وسمع من أنس بن مالك. _________ (1) أبو داود (4764)، والبخاري (3344)، ومسلم (1064/ 144)، والنسائي (2578). (2) فُوق السهم: موضِع وَتَر القوس منه، والمعنى: حتى يرجع السهم إلى القوس الذي رمي عنه، وهو من باب التعليق بالمُحال. (3) «سنن أبي داود» (4765)، وأخرجه أحمد (13338) والحاكم (2/ 148) من طرق عن الأوزاعي عن قتادة به.

(3/339)


592/ 4598 - وعن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... نحوه، قال: «سيماهم التحليق والتَّسْبِيد، فإذا رأيتموهم فأَنِيموهم» (1). 593/ 4599 - وعن سُويد بن غفلة قال: قال علي - رضي الله عنه -: إذا حدَّثتكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثًا فَلَأَنْ أَخِرَّ من السماء أحبُّ إليَّ من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خَدْعة، سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يأتي في آخر الزمان قوم حُدَثاء الأسنان، سفهاءُ الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانُهم حناجرَهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنَّ قتلهم أجرٌ لمن قتلهم يوم القيامة». وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (2). 594/ 4600 - وعن زيد بن وهب الجُهَني أنه كان في الجيش الذين ساروا إلى الخوارج، فقال علي - رضي الله عنه -: أيُّها الناس، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يخرج قوم من أمتي يقرأون القرآن، ليست قراءتُكم إلى قراءتهم شيئًا، ولا صلاتكم إلى صلاتهم شيئًا، ولا صيامكم إلى صيامهم شيئًا، يقرأون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قُضِي لهم على لسان نبيهم - صلى الله عليه وسلم - لنَكَلوا عن العمل، وآيةُ ذلك أن فيهم رجلًا له عَضُد، وليست له ذراع، على عضده مثل حَلَمة الثدي، عليه شَعَرات بيض».أفتذهبون إلى معاوية وأهل _________ (1) «سنن أبي داود» (4766)، وأخرجه أحمد (13036) والحاكم (2/ 147) من طرق عن معمر عن قتادة عن أنس. والتسبيد: التحليق واستئصال الشعر، وأنيموهم: أي اقتلوهم. (2) أبو داود (4767)، والبخاري (3611، 5057، 6930)، ومسلم (1066/ 154)، والنسائي (4102).

(3/340)


الشام وتتركون هؤلاء يَخلفونكم في ذراريِّكم وأموالكم؟! والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم، فإنهم قد سفكوا الدم الحرام، وأغارُوا في سَرْحِ الناس، فسِيروا على اسم الله. قال سلمة بن كهيل: فنزَّلني زيد بن وهب منزلًا منزلًا حتى مرَّ بنا على قنطرة، قال: فلما التقينا وعلى الخوارج عبد الله بن وهبٍ الرَّاسبي، فقال لهم: ألقُوا الرِّماح وسُلُّوا السيوف من جفونها، فإني أخاف أن يُناشدوكم كما ناشدوكم يوم حَرُوراء، قال: فوحَّشوا برماحهم وسَلُّوا السيوف، وشَجَرهم الناس برماحهم، قال: وقُتِلوا بعضُهم على بعضهم، قال: وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان، فقال علي - رضي الله عنه -: التمسوا فيهم المُخْدَج، فلم يجدوا، قال: فقام علي - رضي الله عنه - بنفسه حتى أتى ناسًا قد قتل بعضهم على بعض، فقال: أخرجوهم، فوجدوه ممَّا يلي الأرض، فكبَّر وقال: صدق اللهُ وبلَّغ رسوله، فقام إليه عَبِيدة السَّلْماني فقال: يا أمير المؤمنين، واللهِ الذي لا إله إلا هو لقد سمعتَ هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: إي واللهِ الذي لا إله إلا هو، حتى استحلفه ثلاثًا وهو يحلف. وأخرجه مسلم (1). 595/ 4601 - وعن أبي الوضيء ــ وهو عبّاد بن نُسيب القيسي (2) البصري ــ قال: قال علي - رضي الله عنه -: اطلبوا المُخدَج ــ فذكر الحديث ــ، فاستخرَجوه من تحت القتلى في طين. قال أبو الوضيء: فكأنني أنظر إليه حبشي عليه قُرَيطِقٌ له، إحدى يديه مثل ثدي المرأة، عليها شعيرات مثل شعيرات التي تكون على ذَنَب اليربوع» (3). _________ (1) أبو داود (4768)، ومسلم (1066/ 156). (2) في «المختصر» المطبوع: «العيشي»، وفي المخطوط: «العبسي»، والمثبت من مصادر ترجمته. (3) «سنن أبي داود» (4769)، وإسناده صحيح.

(3/341)


596/ 4602 - عن أبي مريم ــ وهو قيس الثقفي المدائني، وقد سمع من علي - رضي الله عنه - ــ قال: إن كان ذلك المُخدَج لَمَعنا يومئذ في المسجد، نجالسه بالليل والنهار، وكان فقيرًا، ورأيته مع المساكين يشهد طعام علي - رضي الله عنه - مع الناس وقد كسوتُه بُرنسًا لي. قال أبو مريم: وكان المخدج يسمَّى نافعًا ذا الثُدَيَّة، وكان في يده مثل ثدي المرأة، على رأسه حَلَمةٌ مثل حلمة الثدي وعليه شعيرات مثل سِبالة السِّنَّور» (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى مسلم في «صحيحه» (2) عن جابر بن عبد الله قال: أتى رجل [رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -] بالجعرانة مُنصرَفَه من حنينٍ، وفي ثوب بلال فضة ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقبض منها ويُعطي الناس، فقال: يا محمد اعدِلْ، فقال: «ويلك! ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خِبْتَ وخسرتَ إن لم أكن أعدل»، فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - دعني يا رسولَ الله أقتلْ هذا المنافق، فقال: «معاذَ الله أن يتحدث الناسُ أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابَه يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرميّة». وروى البخاري (3) هذا الحديث مختصرًا، قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم غَنِيمة بالجِعْرانة، إذ قال له رجل: اعدل، فقال: «لقد شَقِيتَ إن لم أعدل!». والصواب في هذا فتحُ التاء من: «خبت وخسرت»، والمعنى: أنك إذن خائب خاسر، إن كنتَ تقتدي في دِينك بمن لا يعدل، وتجعله بينك وبين الله، ثم تزعم أنه ظالم غير عادل. ومن رواه بضم التاء لم يفهم معناه هذا. _________ (1) «سنن أبي داود» (4770)، وإسناده لا بأس به في المتابعات والشواهد. (2) برقم (1063)، وما بين الحاصرتين منه. (3) برقم (3138).

(3/342)


وفي «الصحيحين» (1) عن أبي سعيد قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم قَسْمًا، أتاه ذو الخُوَيصِرة ــ وهو رجل من بني تميم ــ فقال: يا رسول الله اعدل، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ويلَك! من يعدل إذا لم أعدل؟! قد خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل!»، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، ائذن لي فيه أضربْ عنقه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دعه، فإن له أصحابًا يَحْقِر أحدكم صلاتَه مع صلاتهم، [ق 261] وصيامَه مع صيامهم، ويقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، يُنظَر إلى نَصْله فلا يوجد فيه شيء، ثم يُنظَر إلى رِصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نَضِيِّه فلا يوجد فيه شيء ــ وهو القِدْح ــ، ثم يُنظَر إلى قُذَذِه (2) فلا يوجد فيه شيء، سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عَضُدَيه مثل ثَدْي المرأة ــ أو مثل البَضْعة ــ تَدَرْدَر، يخرجون على حين فُرقة من الناس». قال أبو سعيد: «فأَشهد أني سمعتُ هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أنّ علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه فأمر بذلك الرجل فالتُمِس، فوجد فأتي به، حتى نظرتُ إليه على نعتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي نعت». زاد البخاري (3) فنزلت: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58]. وفي رواية المستملي (4): «على خَيرِ فِرْقة من الناس». _________ (1) البخاري (3610، 6163، 6933)، ومسلم (1064/ 148). (2) نَصْل السهم: حديدته. والرِّصاف: جمع «رَصَفة»، وهي العَصَب التي تُلوى وتُشد على مدخل النصل في السهم. والنضيُّ: هو القِدْحُ، أي القضيب الذي يُجعل فيه النصل. والقُذَذ: ريش السهم، واحدتها: «قُذَّة». (3) برقم (6933). (4) لصحيح البخاري، وذلك في الحديث (6933)، وأما في الموضعين السابقين (3610، 6163) فهذه اللفظة هي في رواية الكُشمِيهني. انظر: الطبعة السلطانية (4/ 200، 8/ 38، 9/ 17)، و «إرشاد الساري» للقسطلاني (6/ 59، 9/ 99، 10/ 88).

(3/343)


وفي «الصحيحين» (1) عن أبي سعيد أيضًا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر قومًا يكونون في أمته يخرجون في فُرقة من الناس، سيماهم التحالق، قال: «هم شرُّ الخلق (2) ــ أو من شر الخلق ــ يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق»، قال: فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم مثلًا أو قال قولًا: «الرجل يرمي الرمية ــ أو قال: الغرض ــ فينظر في النَّصْل فلا يرى بصيرة، وينظر في النَّضِيّ فلا يرى بصيرة، وينظر في الفُوق فلا يرى بصيرة». وفي لفظ آخر عنه في هذا الحديث: «تكون في أمتي فِرقتان، فتخرج بينهما مارقةٌ يلي قتلَهم أولاهم بالحق» (3). وفي آخر: «تَمرُق مارقة في فُرقة من الناس، يلي قتلهم أولى الطائفتين بالحق» (4). وفي آخر: «تمرق مارقة عند فُرقة من المسلمين، يقتلها أولى الطائفتين بالحق» (5). وفي آخر: «يخرجون على فُرقة مختلفة، يقتلهم أقرب الطائفتين من الحق» (6). _________ (1) مسلم (1064/ 149)، وليس في البخاري حديث أبي سعيد من هذا الوجه، بل من أوجه أخرى، سيأتي بعضها. (2) الأصل: «الناس»، والمثبت من (هـ) موافق للفظ مسلم. (3) مسلم (1064/ 151). (4) مسلم (1064/ 152). (5) مسلم (1064/ 150). (6) مسلم (1064/ 153).

(3/344)


وفي «صحيح البخاري» (1) عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يخرج ناس من قِبَل المشرق، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيَهم، يمرُقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه، حتى يعود السهم إلى فُوقه»، قيل: فما سيماهم؟ قال: «التحليق» أو قال: «التسبيد» (2). وفي «الصحيحين» (3) ــ واللفظ لمسلم ــ عن عبيد الله بن أبي رافع أن الحَرورية لما خرجت ــ وهو مع علي بن أبي طالب ــ قالوا: لا حُكْمَ إلا لله، قال علي: كلمة حق أريد بها باطل، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصف ناسًا ــ إني لأعرِف صفتهم في هؤلاء ــ يقولون الحق بألسنتهم لا يجوز هذا منهم (وأشار إلى حلقه)، مِن أبغض خلق الله إليه، منهم أسود إحدى يديه طُبْيُ شاةٍ (4)، أو حَلَمة ثدي. فلما قتلهم علي، قال: انظروا، فنظروا فلم يجدوا شيئًا، فقال: ارجعوا، فوالله ما كَذَبت ولا كُذِبت ــ مرتين أو ثلاثًا ــ، ثم وجدوه في خَرْبة، فأتوا به حتى وضعوه بين يديه، قال عبيد الله: وأنا حاضر ذلك من أمرهم، وقول علي فيهم. وفي «صحيح مسلم» (5) عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذرّ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن بعدي من أمتي ــ أو سيكون بعدي من أمتي ــ قوم يقرأون _________ (1) برقم (7562). (2) ط. الفقي: «التسبيل»، تحريف. والتسبيد: التحليق. (3) مسلم (1066/ 157)، ولم يُخرج البخاري حديث علي في الخوارج من هذا الوجه، وإنما أخرجه (3611، 5057، 6930) من حديث سويد بن غفلة عن علي. (4) الطُّبْي (بضم الطاء وكسرها): هو موضع يد الحالب من ضرع الشاة والبقرة، كالخِلْف من ضرع الناقة، وبمنزلة الحَلَمة من ثدي المرأة، جمعه: أطْباء. (5) برقم (1067).

(3/345)


القرآن لا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه، هم شر الخلق والخليقة». قال ابن الصامت: فلقيت رافع بن عمرو الغفاري أخا الحكم الغفاري، قلت: ما حديثٌ سمعتُه من أبي ذر كذا وكذا ــ فذكرت له هذا الحديث ــ؟ فقال: وأنا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي «الصحيحين» (1) عن يُسَير بن عمرو قال: سألت سهل بن حُنَيف: سمعتَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الخوارج؟ فقال: سمعته يقول وأشار بيده نحو المشرق: «قوم يقرأون القرآن بألسنتهم لا يعدو تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرُق السهم من الرمية». وفي لفظ آخر عنه: «يَتِيه قوم من قبل المشرق محلّقةٌ رؤوسُهم» (2). وفي «صحيح البخاري» (3) عن ابن عمر وذكر الحرورية فقال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية». قال الإمام أحمد (4): صح الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخوارج من عشرة أوجه. وهذه هي العشرة التي ذكرناها، وقد استوعبها مسلم في «صحيحه»، والله أعلم. * * * _________ (1) البخاري (6934)، ومسلم (1068/ 159). (2) مسلم (1068/ 160). (3) برقم (6932). (4) أسنده الخلّال في «السنة» (1/ 145) و «العلل» (ص 259 - المنتخب) عن حرب بن إسماعيل الكرماني عنه.

(3/346)


 كتاب الأدب

1 - باب في الحلم وأخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - 597/ 4605 - عن إسحاق ــ يعني ابنَ عبد الله بن طلحة ــ قال: قال أنس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِن أَحسنِ الناس خُلقًا، فأرسلني يومًا لحاجةٍ فقلتُ: والله لا أذهبُ ــ وفي نفسي أن أذهبَ لِما أمرني به نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - ــ قال: فخرجتُ حتى أَمُرَّ على صِبيانٍ وهم يلعبون في السُّوق فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قابضٌ بِقَفايَ من ورائي، فنظرتُ إليه وهو يضحكُ، فقال: «يا أُنَيسُ، اذهب حيث أمرتُك». قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله. قال أنس: والله لقد خَدَمْتُهُ سبعَ سنين ــ أو تِسْعَ سنين ــ ما علمتُ قال لشيء صنعتُ: لِمَ فعلتَ كذا وكذا؟ ولا لشيء تركتُ: هَلَّا فعلت كذا وكذا؟ وأخرجه مسلم (1)، وفيه «تسع سنين» من غير شك. 598/ 4606 - وعن ثابت ــ وهو البُناني ــ عن أنس - رضي الله عنه - قال: خدمت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين بالمدينة، وأنا غلامٌ ليس كل أمرِي كما يَشتهي صاحبي أن أكونَ عليه، ما قال لي أُفٍّ قطُّ، وما قال لي: لِمَ فعلتَ هذا؟ أم: ألَّا فعلتَ هذا؟ (2). 599/ 4607 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجلسُ معنا في المجلس يُحدِّثنا، فإذا قام قمنا قيامًا حتى نراه قد دخل بعض بيوت أزواجه، فحدَّثَنا يومًا، فقُمنا حين قامَ، فنظرنا إلى أعرابي قد أدرَكَه، فجَبَذَه بردائه فحمَّر رقبتَه ــ قال أبو هريرة: وكان رداءً خَشِنًا ــ، فالتفتَ، فقال الأعرابي: احمِل لي على _________ (1) أبو داود (4773)، ومسلم (2310/ 54). (2) «سنن أبي داود» (4774). وأخرجه البخاري (6038) ومسلم (2309/ 51).

(3/347)


بعيرَيَّ هذين، فإنك لا تحملُ لي من مالِك ولا مِن مالِ أبيك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا وأستغفرُ الله، لا وأستغفر الله، لا وأستغفر الله، لا أحملُ لك حتَّى تُقيدَني من جَبْذَتِك التي جَبَذتَني»، فكُلُّ ذلك يقول له الأعرابي: والله لا أُقيدُكها ــ فذكر الحديث ــ قال: ثم دعا رجلًا، فقال له: «احمل له على بَعِيرَيه هذين، على بعيرٍ شعيرًا، وعلى الآخر تمرًا»، ثم التفت إلينا فقال: «انصرفُوا على بركة الله تعالى». وأخرجه النسائي (1). وقال الدارقطني (2): تفرد به محمد بن هلال عن أبيه عن أبي هريرة. وسئل الإمام أحمد بن حنبل عن محمد بن هلال الذي يروى عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ثقة، وقال مرة: ليس به بأس، قيل: أبوه؟ قال: لا أعرفه. وسئل أبو حاتم الرازي عن محمد بن هلال؟ قال: صالح، وأبوه ليس بمشهور (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد أخرجا في «الصحيحين» (4) من حديث أنس قال: كنت أمشي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذةً شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء. وفي «الصحيحين» (5) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس _________ (1) أبو داود (4775)، والنسائي (4776). (2) في «الأفراد والغرائب»، كما في «أطرافه» (2/ 334). (3) انظر: «الجرح والتعديل» (8/ 116). (4) البخاري (5809، 6088)، ومسلم (1057). (5) البخاري (6114)، ومسلم (2609).

(3/348)


الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب». وفي «الصحيحين» (1) عن أبي هريرة أن رجلًا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أوصني، قال: «لا تغضب»، فردد مرارًا، قال: «لا تغضب». وفي «الصحيحين» (2) عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله [ق 262] عليه وسلم قال: «الحياء لا يأتي إلا بخير». وفيهما (3) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الحياء شعبة من الإيمان». وفي «الصحيحين» (4) عن أبي سعيد قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه. 2 - باب في حسن الخلق (5) 600/ 4630 - وعن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن المؤمن لَيُدرِك بحسن خُلُقه درجةَ الصائم القائم» (6). _________ (1) البخاري (6116)، ولم يخرجه مسلم. (2) البخاري (6117)، ومسلم (37). (3) البخاري (9)، ومسلم (35). (4) البخاري (3562، 6102)، ومسلم (2320). (5) هذا الباب بأحاديثه ثابت في نسخة (هـ)، ولم يُشر إليه المجرد في الأصل فصار كلام المؤلف الآتي فيه متصلًا بما سبق، فأحدث لبسًا كما في ط. الفقي (7/ 160) وط. المعارف (5/ 2309) حيث اتصل تعليق المؤلف الآتي على حديث أبي الدرداء: «وزاد الترمذي ... » بحديث أبي سعيد المتقدم آنفًا. (6) «سنن أبي داود» (4798)، وأخرجه أحمد (24355)، وابن حبان (480)، والحاكم (1/ 60)، من حديث المطلب بن عبد الله بن حنطب عن عائشة. في إسناده انقطاع، قال أبو حاتم: المطلب لم يُدرك عائشة. و له شواهد تعضده وتُقوِّيه. انظر: «العلل» للدارقطني (2841)، و «السلسلة الصحيحة» (522، 794)، و «الأنيس الساري» (5/ 4649 - 4653).

(3/349)


601/ 4631 - وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من شيء في الميزان أثقلُ من حسن الخلق». وأخرجه الترمذي (1) وقال: حسن صحيح. قال ابن القيم - رحمه الله -: وزاد الترمذي: «وإن الله يبغض الفاحش البذيء». 602/ 4632 - عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا زعيم بِبَيتٍ في رَبَض الجنة لمن ترك المِراء وإن كان مُحقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكَذِب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسَّنَ خُلُقَه» (2). [قال ابن القيم - رحمه الله -: وهو حديث صحيح] (3). 603/ 4633 - عن حارثة بن وهب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يدخل الجنة الجَوَّاظُ ولا الجَعْظَرِيُّ». قال: والجوَّاظ: الغليظ الفظُّ. وأخرجه البخاري ومسلم بنحوه أتم منه، وليس في حديثهما: «الجعظري». وقيل: «الجواظ» الكثير اللحم المختال في مِشيته، وقيل: الجموع المنوع، وقيل: القصير البَطِن، وقيل: الجافي القلب، وقيل: الفاجر، وقيل: الأكول. و «الجعظري»: الفظ الغليظ المتكبر، وقيل: هو الذي لا يُصدَّع رأسه، وقيل: هو _________ (1) أبو داود (4799)، والترمذي (2002). وأخرجه أيضًا أحمد (27496) وابن حبان في «صحيحه» (481). (2) «سنن أبي داود» (4800). (3) قوله: «وهو حديث صحيح» ليس في الأصل، واستدركته من (هـ).

(3/350)


الذي يتمدَّح وينتفخ بما ليس عنده، وفيه قِصَر (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: [وفي «صحيح مسلم» (2) عن عبد الله بن عمرو قال: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحشًا ولا مُتفحِّشًا، وكان يقول: «إن مِن خياركم أحاسِنَكم أخلاقًا». ورواه البخاري] (3). وفي «صحيح مسلم» (4) عن النواس بن سمعان قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البر والإثم فقال: «البِرُّ: حسنُ الخلق، والإثم: ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس». وروى الترمذي (5) عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: «الفم والفرج»، وقال: حديث حسن صحيح (6). وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خيركم لنسائكم». رواه الترمذي (7) وقال: حسن صحيح. _________ (1) هذه الفقرة من كلام المنذري تصرَّف فيها المؤلف يسيرًا، كما في نسخة (هـ)، ولكن لم يتبيّن أكثره للبلل الذي أصابه، فأثبتها على ما هي عليه في «المختصر». (2) برقم (2321). وأخرجه البخاري (3559، 6029، 6035). (3) هذه الفقرة ليست في الأصل، وإنما استدركتها من (هـ). (4) برقم (2553). (5) برقم (2004) وصححه، وأخرجه أحمد (7907)، وابن ماجه (4246)، وابن حبان (476)، والحاكم (4/ 324). (6) كذا في الأصل، وفي «مستخرج الطوسي» (1585) مثله بزيادة «غريب» في آخره، وفي مطبوعة «الجامع» ونسخة الكروخي (ق 135) و «تحفة الأشراف» (10/ 423): «صحيح غريب». (7) برقم (1162)، وأخرجه أيضًا أحمد (7402)، وابن حبان (4176). وأخرجه أبو داود (4682)، والحاكم (1/ 3) مختصرًا دون شطره الأخير.

(3/351)


وفي الترمذي (1) أيضًا عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن مِن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يومَ القيامة أحاسِنَكم أخلاقًا، وإن أبغضَكم إلي وأبعدَكم مني الثَّرثارون والمتشدقون والمُتفَيهِقون»، قالوا يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدّقون، فما المتفيهقون؟ قال: «المتكبرون». قال الترمذي: حديث حسن. والثرثار هو الكثير الكلام تكلفًا، والمتشدّق المتطاول على الناس بكلامه الذي يتكلم بمِلء فيه تفاصُحًا وتفخيمًا وتعظيمًا لكلامه، والمتفيهق أصله من الفَهَق وهو الامتلاء، وهو الذي يملأ فمه بالكلام، ويتوسع فيه تكثّرًا وارتفاعًا وإظهارًا لفضله على غيره. قال الترمذي (2): قال عبد الله بن المبارك: حُسن الخلق: طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكفّ الأذى. وقال غيره: حسن الخلق قسمان: أحدهما: مع الله عز وجل، وهو أن يعلم أن كل ما يأتي منك يوجِب عذرًا، وكل ما يأتي من الله يوجب شكرًا، فلا تزال شاكرًا له معتذرًا إليه، _________ (1) برقم (2018)، وإسناده حسن كما قال الترمذي، وله شاهدان من حديث أبي هريرة وأبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنهما -، فالأول أخرجه أحمد (8822) والبخاري في «الأدب المفرد» (1308)، وفي إسناده لين، والثاني أخرجه أحمد (17732) وابن حبان (482)، من رواية مكحول عن أبي ثعلبة، وهو مرسل. (2) برقم (2005). وروي أنه اجتمع السفيانان وفضيل بن عياض وابن المبارك فتذاكروا معنى حسن الخلق فاتفقوا على هذه الثلاث. انظر: «شعب الإيمان» (7708).

(3/352)


سائرًا إليه بين مطالعة منّته وشهود عيب نفسك وأعمالك. والقسم الثاني: حسن الخلق مع الناس، وجِمَاعه أمران: بذل المعروف قولًا وفعلًا، وكف الأذى قولًا وفعلًا. وهذا إنما يقوم على أركان خمسة: العلم، والجود، والصبر، وطِيب العُود، وصحة الإسلام. أما العلم فلأنه به يَعرف معالِيَ الأخلاق وسَفْسافَها، فيمكنه أن يتصف بهذا ويتحلّى به، ويتركَ هذا ويتخلّى عنه. وأما الجود فسماحة نفسه وبذلُها وانقيادُها لذلك إذا أراده منها. وأما الصبر فلأنه إن لم يصبر على احتمال ذلك والقيام بأعبائه (1) لم يتهيأ له. وأما طِيب العُود فأن يكون الله تعالى خَلَقه على طبيعة منقادة سهلة القياد، سريعةِ الاستجابة لداعي الخيرات. والطبائع ثلاثة: طبيعة حجرية صلبة قاسية، لا تلين ولا تنقاد؛ وطبيعة مائية هوائية سريعةُ الانقياد، مستجيبةٌ لكل داع، كالغصنِ أيُّ نسيمٍ مرّ يعطفه ــ وهاتان منحرفتان؛ الأولى لا تقبل، والثانية لا تحفظ ــ؛ وطبيعة قد جمعت اللين والصلابة والصفاء (2)، فهي تقبل بلينها، وتحفظ بصلابتها، وتدرك حقائق الأمور بصفائها، فهذه الطبيعة الكاملة التي ينشأ عنها كل خُلُق صحيح. _________ (1) الأصل: «بأعبائها»، والمثبت من (هـ). (2) وهي الطبيعة الزجاجية، انظر: «كتاب الروح» (2/ 677) و «الوابل الصيب» (ص 120 - 122) كلاهما للمؤلف.

(3/353)


وأما صحة الإسلام فهو جماع ذلك والمصحّح لكل خلق حسن، فإنه بحسب قوة إيمانه وتصديقه بالجزاء وحسنِ موعود الله وثوابِه= يسهُل عليه تحمّل ذلك، ويَلَذُّ له الاتصاف به، والله الموفق المعين. 3 - باب في الرجل يقوم للرجل عن مجلسه 604/ 4661 - عن أبي الخَصِيب، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام له رجلٌ عن مجلسه، فذهبَ ليجلس فيه، فنهاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (1). قال أبو داود: أبو الخصيب: زياد بن عبد الرحمن. هذا آخر كلامه. وهو بفتح الخاء المعجمة وكسر الصاد المهملة وسكون الياء آخر الحروف وبعدها باء بواحدة. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد أخرج الترمذي (2) من حديث حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يقيمُ أحدكم أخاه من مجلسه ثم يجلس فيه». قال (3): وكان الرجل يقوم لابن عمر فما يجلس. قال: هذا حديث حسن صحيح. _________ (1) «سنن أبي داود» (4828). وأبو الخصيب مجهول الحال، ولكنه توبع، تابعه نافع وسالم عن ابن عمر بنحوه. رواية سالم أخرجها مسلم (2177/ 29)، ورواية نافع في «الصحيحين» وستأتي في كلام المؤلف. (2) برقم (2749). (3) القائل هنا ليس نافًعا، بل هو سالم عقب حديثه عن أبيه مرفوعًا، برقم (2750) عند الترمذي، ولفظه بمثل حديث نافع السابق. ولعله حصل سقط في الأصل لانتقال النظر.

(3/354)


وحديث ابن عمر هذا في «الصحيحين» (1)، ولفظه: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه، ولكن تفسّحوا وتوسعوا. وفي «صحيح مسلم» (2) عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقيم أحدكم أخاه يومَ الجمعة (3) ثم يخالفه إلى مقعده، ولكن ليقل: افسحوا». 4 - باب الهدي في الكلام 605/ 4673 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كلُّ كلامٍ لا يُبْدأ فيه بالحمد لله فهو أجْذَم» (4). وقال فيه: «زعم الوليد عن الأوزاعي»، وذكر جماعةً رووه عن الزهري مرسلًا (5). وأخرجه النسائي (6) مسندًا ومُرسلًا. وأخرجه ابن ماجه (7) وقال فيه: «أقطع». _________ (1) البخاري (6270)، ومسلم (2177/ 28). (2) برقم (2178) بنحوه، واللفظ لأحمد (14143). (3) تحرّف في الأصل إلى: «يوم القيامة»! (4) «سنن أبي داود» (4840) من طريق أبي توبة قال: زعم الوليد عن الأوزاعي عن قُرّة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. ولا يصحّ رفعه، فقُرَّة بن عبد الرحمن المعافري ضعيف يروي المناكير، وقد خالفه أصحاب الزهري الثقات فرووه عن الزهري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا كما ذكره أبو داود عقب الحديث. وانظر: «سنن الدارقطني» (883)، و «الإرواء» (2). (5) لفظ أبي داود عقب الحديث: «رواه يونس وعُقَيل وشعيب وسعيد بن عبد العزيز عن الزهري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا». (6) برقم (10255 - 10258). (7) برقم (1894) من طريق الأوزاعي عن قرّة به.

(3/355)


وفي إسناده قُرَّة، وهو ابن عبد الرحمن بن حَيْوِيل المَعافري المصري، كنيته أبو محمد، ويقال: أبو حيويل. قال الإمام أحمد (1): منكر الحديث جدًّا. قال ابن القيم - رحمه الله -: وأخرجه ابن حبان في «صحيحه» (2). 5 - باب في تنزيل الناس منازلهم 606/ 4676 - عن أبي كنانة، عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من إجلال الله إكرامَ ذي الشَّيبة المُسلم، وحاملِ القرآن غيرِ الغالي فيه والجافي عنه، وإكرامَ ذِي السُّلطان المُقسِط» (3). أبو كنانة هذا هو القُرَشي، ذكر غير واحد أنه سمع من أبي موسى الأشعري (4). قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي الترمذي (5) عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما أكرم شاب شيخا لسنّه إلا قيّض الله له من يكرمه عند سنه». قال: هذا حديث غريب. _________ (1) كما في «أحوال الرجال» للجوزجاني (ص 284). (2) برقم (1، 2) من طريق الأوزاعي عن قُرّة به. (3) «سنن أبي داود» (4843). أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (357)، وحسّنه العراقي في «المغني عن حمل الأسفار» (1/ 491)، وأعلّهَ ابن القطّان في «بيان الوهم» (4/ 371) بجهالة أبي كنانة فإنه لا تُعرَف حاله. (4) لم يُشر المجرّد إلى هذا الباب والحديث، ولا بدّ من إثباته فإن تعليق المؤلف الآتي متعلق به لا بالباب السابق. (5) برقم (2022)، وإسناده ضعيف كما أشار إليه الترمذي، فيه أبو الرحَّال الأنصاري وهو ضعيف منكر الحديث.

(3/356)


6 - باب كفارة المجلس 607/ 4690 - عن سعيد بن أبي سعيد المقبُري، عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أنه قال: كلماتٌ لا يتكلم بهنَّ أحَدٌ في مجلسه عند قيامه ثلاث مرَّاتٍ إلا كُفِّرَ بِهنَّ عنه، ولا يقولهن في مجلس خيرٍ ومجلس ذكرٍ إلا خُتِم له بهنَّ عليه، كما يُخْتَم بالخاتَم على الصحيفة: سُبحانَك اللهمَّ وبحمدِك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوبُ إليك (1). 608/ 4691 - وعنه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله (2). وقد أخرجه الترمذي (3)، وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه (4). _________ (1) «سنن أبي داود» (4857)، وأخرجه أيضًا ابن حبان (593)، من طريق سعيد بن أبي هلال، عن سعيد المقبري به. وهو إسناد جيّد. وأخرجه محمد بن فضيل الضبي في «كتاب الدعاء» (107) عن حصين بن عبد الرحمن، عن مجاهد، عن عبد الله موقوفًا بنحوه دون قوله: «ثلاث مرات» ودون الشطر الثاني في مجالس الذكر والخير، وإسناده صحيح. وهو عند الطبراني في «الكبير» (13/ 439) وابن بشران في «الأمالي» (290) من هذا الوجه مرفوعًا، ولا يصحّ. (2) «سنن أبي داود» (4858)، وأخرجه أيضًا ابن حبان (593)، من طريق عبد الرحمن بن أبي عمرو، عن المقبُري، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وإسناده ضعيف، عبد الرحمن بن أبي عمرو مجهول، وقال الذهبي في «الميزان» (2/ 580): «له ما يُنكر»، وقد خالف غيرَه فسلك الجادة: «عن سعيد المقبُري عن أبي هريرة» مرفوعًا، وإنما هو عن سعيد المقبُري عن عبد الله بن عمرو موقوفًا كما في الحديث السابق. (3) برقم (3433)، وأخرجه أيضًا النسائي في «الكبرى» (10157)، ابن حبان (594) والحاكم (1/ 536)، كلهم من طريق ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن سهيل بن أبي صالح به. وسيأتي كلام المؤلف عليه. (4) تخريج الحديث من (هـ)، وفيه اختصار من المؤلف عمّا في «مختصر المنذري».

(3/357)


609/ 4692 - وعن أبي بَرْزة الأسْلَمي - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بأخَرَةٍ إذا أراد أن يقوم من المجلس: «سُبحانَكَ اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك»، فقال رجل: يا رسول الله، إنك لتقولُ قولًا ما كنتَ تقوله فيما مضَى، قال: «كفَّارة لِما يكون في المجلس». وأخرجه النسائي (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: هذه ثلاثة أحاديثَ ذكرها أبو داود في كفارة المجلس. فأما حديث عبد الله بن عمرو فموقوف عليه. وأما حديث أبي هريرة فهو معروف بموسى بن عقبة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة. قال الحاكم أبو عبد الله (2): «هذا حديث من تأمّله لم يشك أنه من شرط الصحيح؛ وله علة فاحشة: حدثني أبو نصر الوراق قال: سمعت أبا [حامد] أحمد القصّار يقول: سمعت مسلم بن الحجاج وجاء إلى محمد بن إسماعيل البخاري فقبَّل [ق 263] بين عينيه وقال: دعني حتى أُقبّل رِجلَيك يا أستاذ الأستاذين، وطبيبَ الحديث في عِلَله، حدَّثك محمد بن سلام، حدثنا مخلد بن يزيد الحرّاني، _________ (1) أبو داود (4859)، والنسائي في «الكبرى» (10187) من طريق الحجاج بن دينار، عن أبي هاشم، عن أبي العالية، عن أبي برزة. وسيأتي الكلام عليه. (2) في «معرفة علوم الحديث» (النوع السابع والعشرين) وما بين الحاصرتين مستدرك منه، وحكاية مسلم مع البخاري أسندها الحاكم أيضًا في «تاريخ نيسابور» عن أبي محمد المخلدي عن أبي حامد أحمد بن حمدون القصّار به. ومِن طريقَي الحاكم أسندها الحافظ في «تغليق التعليق» (5/ 428 - 430) وصحّح إسنادها.

(3/358)


أخبرنا ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن سهيل عن [أبيه عن] أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في كفارة المجلس، فما عِلّته؟ قال محمد بن إسماعيل: هذا حديث مليح، ولا أعلم في الدنيا في هذا الباب (1) غير هذا الحديث، إلا أنه معلول؛ حدثنا به موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب، حدثنا سهيل، عن عون بن عبد الله قولَه. قال محمد بن إسماعيل: هذا أولى، فإنه لا يُذكر لموسى بن عقبة سماع من سهيل». وأما الحديث الذي رواه أبو داود من حديث أبي بَرْزة الأسلمي فإسناده حسن، رواه عن عثمان بن أبي شيبة والجَرْجَرائي (2) عن عبدة بن سليمان، عن الحجاج بن دينار، عن أبي هاشم، عن أبي العالية عن أبي برزة؛ والحجاج بن دينار صدوق وثّقه غيرُ واحد، وأبو هاشم: هو الرُّمّاني، من رجال «الصحيحين» (3). _________ (1) ليس المراد بالباب هنا المعنى المشهور المتبادر؛ إذ فيه بذلك المعنى عدّة أحاديث لا تخفى على البخاري، وإنما المراد هنا أنه لم يُروَ بهذه الترجمة (موسى بن عقبة عن سهيل ... ) غير هذا الحديث، ويدل عليه أنه روي قوله بلفظ: «لا أعلم بهذا الإسناد ... ». ولعل من استعمال «الباب» بهذا المعنى أو قريب منه قولُ ابن المديني: «الباب إذا لم تُجمع طرقه لم يتبيّن خطؤه». وأما الحافظ ابن حجر فيرى أن لفظة «الباب» خطأ، وأن البخاري لم يُعبِّر بهذه العبارة بل باللفظ الآخر: «لا أعلم بهذا الإسناد ... ». انظر: «التغليق»، و «هُدى الساري» (ص 489)، و «النكت على ابن الصلاح» (2/ 715 - 720). (2) في الأصل و (هـ) والطبعتين: «وأخرجه»، وهو تحريف غريب، والتصحيح من «السنن»، فإن أبا داود يرويه عن شيخين: عثمان بن أبي شيبة، ومحمد بن حاتم الجَرجَرائي، كلاهما عن عبدة بن سليمان ... إلخ. (3) وقد اختُلِف على أبي العالية في وصل الحديث وإرساله، فروي موصولًا كما سبق، وروي مرسلًا، أخرجه النسائي في «الكبرى» (10189 - 10191) من طرق عن زياد بن حصين عن أبي العالية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال أبو حاتم والدارقطني: هو أشبه. «العلل» لابن أبي حاتم (2060) وللدارقطني (1161).

(3/359)


وفي الباب حديث عائشة، رواه الليث عن ابن الهاد، عن يحيى بن سعيد عن زرارة عن عائشة قالت: ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم من مجلس إلا قال: «لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك»، فقلت: يا رسول الله ما أكثر ما تقول هؤلاء الكلمات إذا قمت؟ فقال: «إنه لا يقولهن أحد حين (1) يقوم من مجلسه إلا غُفر له ما كان في ذلك المجلس». رواه الحاكم في «المستدرك» (2) وقال: صحيح الإسناد. ورواه النسائي (3) عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن شعيب (4) عنه. ولهذا الحديث أيضًا علة، وهي أن قُتيبة خالف شعيبًا فيه، فقال: عن الليث، عن يحيى، عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري، عن رجل من أهل الشام، عن عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من مجلس يُكثر أن يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت ... » وساق الحديث. ذكره النسائي (5). _________ (1) في الأصل: «حتى» تصحيف، وهو على الصواب في (هـ). (2) (1/ 496 - 497) من طريق يحيى بن عبد الله بن بُكَير، عن الليث به. (3) في «الكبرى» (10158). (4) رسمه غير محرّر في الأصل، وفي الطبعتين: «شعبة»، خطأ، وسيأتي على الصواب في السطر التالي. وشعيب هو ابن الليث بن سعد، ثقة، إمام ابن إمام (ت 199). (5) «الكبرى» (10159)، وكذا رواه عبد الله بن وهب، عن الليث وعن عمرو بن الحارث، كلاهما عن يحيى بن سعيد به. انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (2568).

(3/360)


ورواه من حديث خالد بن أبي عمران عن عروة عن عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جلس مجلسًا، أو صلى صلاةً تكلم بكلمات، فسألتُ عائشة عن الكلمات فقالت (1): إن تكلّم بخير كان طابعًا عليهن إلى يوم القيامة، وإن تكلم بغير ذلك كان كفّارة له: «سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك». رواه (2) عن أبي بكر بن إسحاق، أخبرنا أبو سلمة الخُزاعي، [عن خلّاد بن سليمان]، عن خالد به. ورواه في «الكبير» (3) من حديث خالد بن أبي عمران أيضًا عن عروة عن عائشة قالت: ما جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسًا قطّ، ولا تلا قرآنًا ولا صلّى إلا ختم ذلك بكلمات، [قالت: فقلتُ: يا رسول الله، أراك ما تجلس مجلسًا، ولا تتلوا قرآنًا، ولا تصلّي صلاةً إلّا ختمتَ بهؤلاء الكلمات؟] (4) قال: «نعم، من قال خيرًا خُتِم له طابع على ذلك الخير، ومن قال شرًّا كنّ له كفارةً: سبحانك (5) وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك». _________ (1) كذا في الأصل، وفي مطبوعات «الكبرى»: «فسألتْ عائشةُ ... فقال» أي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويدل عليه ما في رواية أخرى في «المجتبى» (1344) و «الكبرى» (1268): «فسألتْه عائشة». (2) أي النسائي في «الكبرى» (10160)، وما بين الحاصرتين مستدرك منه، وأخرجه أيضًا أحمد (24476) عن أبي سلمة الخزاعي به، قال الحافظ في «النكت على ابن الصلاح» (2/ 733): «إسناده صحيح». (3) برقم (10067) عن محمد بن سهل بن عسكر، عن ابن أبي مريم، عن خلّاد بن سليمان به، وهو صحيح كسابقه. (4) ما بين الحاصرتين سقط من الأصل لانتقال النظر. (5) في الطبعتين بعده: «اللهم»، وليس في الأصل ولا عند النسائي.

(3/361)


7 - باب الرجل يضع إحدى رجليه على الأخرى 610/ 4698 - وعن جابر ــ وهو ابن عبد الله - رضي الله عنهما - ــ قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يَضَع ــ وقال قتيبة: يَرْفَعَ ــ الرجلُ إحدى رجليه على الأخرى. وزاد قتيبة: وهو مُسْتَلقٍ على ظهره. وأخرجه مسلم (1) مختصرًا ومطولًا. 611/ 4699 - وعن عَبَّاد بن تميم، عن عمه ــ وهو عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري المازني ــ أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَلْقِيًا ــ قال القَعْنَبي: في المسجد ــ واضعًا إحْدَى رجليه على الأخرى. وأخرجاه والنسائي (2). 612/ 4700 - وعن سعيد بن المسيَّب أن عمر وعثمان كان يفعلان ذلك. وذكره البخاري (3) عقب حديث عباد بن تميم فقال: وعن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب قال: كان عمر وعثمان يفعلان ذلك. هذا آخر كلامه. وسعيد بن المسيب لم يصح سماعه من عمر، وأدرك عثمان ولا يحفظ له عنه رواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4). _________ (1) أبو داود (4865)، ومسلم (2099). (2) أبو داود (4866)، والبخاري (475، 5969، 6287)، مسلم (2100)، والنسائي (721). (3) أبو داود (4867)، والبخاري (475) من طريق مالك عن ابن شهاب عن سعيد، وهو في «الموطأ» (478). (4) تخريج الأحاديث الثلاثة من (هـ)، وفيه اختصار من المؤلف عمّا في «المختصر». وقد سبق (2/ 401 - 402) تعقيب المؤلف على تعليل المنذري لروايات سعيد عن عمر بالانقطاع، وسيأتي أيضًا (ص 384 - 385).

(3/362)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وأما الحديث الذي رواه الحاكم (1) عن الأصم، عن محمد بن إسحاق الصَّغاني، عن إبراهيم بن المنذر الحِزامي، عن محمد بن فليح، عن أبيه، عن سعيد بن الحارث، عن عبيد بن حنين قال: بينما أنا جالس في المسجد إذ جاءه (2) قتادة بن النعمان فجلس فتحدث فثاب إليه أناس، ثم قال: انطلق بنا إلى أبي سعيد الخدري، فإني قد أُخبرت أنه قد اشتكى، فانطلقنا حتى دخلنا على أبي سعيد الخدري فوجدناه مستلقيًا واضعًا رِجله اليمنى على اليسرى، فسلّمنا وجلسنا، فرفع قتادة يده إلى رِجل أبي سعيد الخدري فقرصها قرصةً شديدة، فقال أبو سعيد: سبحان الله يا ابن أم أوجعتَني! قال: [ق 264] ذلك أردتُ ــ فذكر حديث الاستلقاء ــ وقال فيه: «لا ينبغي لأحدٍ من خلقي أن يفعل مثل هذا». فهذا الحديث له علتان (3): _________ (1) ليس في «المستدرك»، وإنما أخرجه البيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 198 - 199) عن الحاكم بالإسناد المذكور. وأخرجه أيضًا ابن أبي عاصم في «السنة» (580)، والخلال في «السنة» ــ ومن طريقه أبو يعلى في «إبطال التأويلات» (179، 183) ــ، والطبراني في «الكبير» (19/ 13) ــ ومن طريقه أبو موسى المديني في «جزء في حديث الاستلقاء» ثم من طريقه الدَّشْتي في «إثبات الحدّ» (53) ــ، من طرق عن إبراهيم بن المنذر الحِزامي به. (2) في (هـ) ومطبوعة «الأسماء والصفات»: «جاء»، والمثبت من الأصل موافق «للسنة» لابن أبي عاصم، ولفظ الطبراني: «جاءني». (3) المؤلف صادر عن البيهقي فيهما، وإلا فقد صحّح إسناده على شرط البخاري في «اجتماع الجيوش» (ص 127). وقال ابن رجب في أثناء نقده للحديث إسنادًا ومتنًا: ومن قال إنه على شرط الشيخين فقد أخطأ. «فتح الباري» (2/ 573 - 577).

(3/363)


إحداهما: انفراد فليح بن سليمان به، وقد قال عباس الدُّوري (1): سمعتُ يحيى بن معين يقول: فليح بن سليمان لا يحتجّ بحديثه، وقال في رواية عثمان الدارمي (2): فليح بن سليمان ضعيف. وقال النسائي (3): ليس بالقوي (4). العلة الثانية: أنه حديث منقطع، فإن قتادة بن النعمان مات في خلافة عمر وصلّى عليه عمر (5)، وعبيد بن حنين مات سنة خمس ومائة، وله خمس وسبعون سنة في قول الواقديّ وابن بكير (6)، فتكون روايته عن قتادة بن النعمان منقطعة، والله أعلم. 8 - باب مَن ردّ عن مسلم غيبة 613/ 4716 - وعن جابر بن عبد الله، وأبي طلحة بن سهل الأنصاري _________ (1) «تاريخ ابن معين» رواية الدوري (3/ 258)، وأسنده عنه البيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 199). (2) (ص 190)، وعنه البيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 200). (3) في «الضعفاء والمتروكين» (ص 226). (4) وكذا قال أبو حاتم كما في «الجرح والتعديل» (7/ 85)، ومع ذلك فقد أخرج له البخاري في «صحيحه» في مواضع، ومسلم في المتابعات. (5) وذلك في سنة ثلاث وعشرين. انظر: «معجم الصحابة» للبغوي (4/ 205)، و «معرفة الصحابة» لأبي نعيم (4/ 2338)، و «الاستيعاب» (3/ 1276). (6) كذا نقله المزِّي عنهما في «تهذيب الكمال» (5/ 72). والذي نقله ابن سعد في «الطبقات» (7/ 281) عن الواقدي أنه توفي وهو ابن خمس وتسعين سنة، وكذا في بعض نسخ «الثقات» لابن حبان (5/ 133)، وصوّبه الحافظ في «تهذيب التهذيب» (7/ 63). وهذا يعني أنه ولد سنة عشر من الهجرة، ويكون عمره حين توفي قتادة بن النعمان ثلاث عشرة سنة، ثم إن لفظ الحديث صريح ــ إن كان فليح ضبطه ــ أنه انطلق مع قتادة إلى أبي سعيد الخدري.

(3/364)


قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من امرئ يَخذُل امرأً مُسلمًا في موضع تُنْتَهك فيه حرمتُه ويُنتقَص فيه من عِرضه إلا خذله الله في مَوطنٍ يُحبُّ فيه نصرتَه، وما من امرئ ينصر مسلمًا في موضع يُنتَقص فيه من عِرضه وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب نُصرتَه» (1). 614/ 4717 - وعن أبي عبد الله الجُشَمي، عن جُنْدُب ــ وهو ابن عبد الله البجَلي - رضي الله عنه - ــ قال: جاء أعرابي فأناخَ راحلته ثم عَقَلها، ثم دخل المسجدَ فصلى خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما سَلَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتَى راحلتَه، فأطلقها ثم ركبَ، ثم نادى: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا تُشرك في رحمتنا أحدًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتقولون هو أضلُّ أم بعيرُه؟ ألم تسمعوا إلى ما قال؟» قالوا: بلى (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: وإدخال أبي داود هذا الحديث هنا يريد به أنّ ذِكر الرجل بما فيه في موضع الحاجة ليس بغيبة مثل هذا. ونظيره ما تقدم (3) من حديث عائشة المتفق عليه (4): «ائذنوا له فبئس أخو العشيرة». بوّب عليه البخاري: «باب غيبة أهل الفساد والريب» (5). _________ (1) «سنن أبي داود» (4884). في إسناده ضعف لجهالة بعض رواته. انظر: «السلسلة الضعيفة» (6871). (2) «سنن أبي داود» (4885)، وأخرجه أحمد (18799) بأطول منه، وإسناده ضعيف، أبو عبد الله الجُشَمي مجهول. وله أصل من حديث أبي هريرة في «صحيح البخاري» (6010) بلفظ: «لقد حجَّرتَ واسعًا!»، وليس فيه قوله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: «هو أضل أم بعيره ... » إلخ. (3) في «السنن» (4792)، و «المختصر» (4624)، ولم يتقدم في كتابنا. (4) البخاري (6054)، ومسلم (2591). (5) لفظه في «الصحيح»: «باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والرِّيَب».

(3/365)


وذكر (1) في الباب عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أظن فلانًا وفلانًا يعرفان من ديننا شيئًا». وفي الباب حديث فاطمة بنت قيس لمّا خطبها معاوية وأبو جهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أما معاوية فصعلوك، وأما أبو الجهم: فلا يضع العصا عن عاتقه» (2). وقالت هند للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن أبا سفيان رجل شحيح» (3). وقال الأشعث بن قيس للنبي - صلى الله عليه وسلم - في خصمه: «إنه امرؤ فاجر» (4). وقال الحضرمي بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في خصمه: «إنه رجل فاجر لا يبالي ما حلف عليه، وليس يتورّع من شيء» رواه مسلم (5). وقد رد النبي - صلى الله عليه وسلم - غيبة مالك بن الدُّخْشُن وقال للقائل: إنه منافق لا يحب الله ورسوله: «لا تقل ذاك» (6). وردَّ معاذُ بن جبل غيبةَ كعب بن مالك لما قال الرجل فيه عند النبي _________ (1) برقم (6067)، وليس هو في الباب السابق، بل أورده البخاري تحت باب «ما يجوز من الظنّ». (2) أخرجه مسلم (1480/ 36). (3) أخرجه البخاري (2211، 5364، 5370، 7180)، ومسلم (1714). (4) أخرجه أحمد (21848) بإسناد حسن، وأصل الحديث في البخاري (2416) ومسلم (138). (5) برقم (139). (6) أخرجه البخاري (425) ومسلم (33/ 263) (ج 1/ 455).

(3/366)


- صلى الله عليه وسلم -: حَبَسه بُرداه والنظر في عِطفَيه، فقال معاذ: «بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا»، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1). والحديثان متفق عليهما. وقد أخرج الترمذي (2) عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من ردَّ عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة». قال: هذا حديث حسن. 9 - باب النهي عن سب الموتى 615/ 4731 - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مات صَاحِبُكم فَدَعُوهُ، لا تَقَعُوا فيه» (3). 616/ 4732 - وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اذكروا محاسنَ موتاكم، وكُفُّوا عن مَساويهم». وأخرجه الترمذي (4) وقال: غريب، سمعت محمدًا ــ يعني البخاري ــ يقول: _________ (1) أخرجه البخاري (4418) ومسلم (2769/ 53). (2) برقم (1931)، وأخرجه أحمد (27536، 27543)، وعبد بن حميد (206)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (7228 - 7231) من طرق يشد بعضها بعضًا. (3) «سنن أبي داود» (4899)، وأخرجه الترمذي (3895)، وأبو داود الطيالسي (1549)، وابن حبان (3018، 3019)، والبيهقي في «الشعب» (8344)، من طرق عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. إسناده صحيح على رسم الصحيحين، إلا أن قوله: «لا تقعوا فيه» مدرج فيه، فإنه لم يقع في مُعظم الروايات، وفي بعضها: «يعني: لا تقعوا فيه»، فهو تفسير من بعض الرواة لكلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. (4) أبو داود (4900)، والترمذي (1019)، عن عمران بن أنس المكي، عن عطاء، عن ابن عمر.

(3/367)


عمران بن أنس منكر الحديث. هذا آخر كلامه. وقال أبو جعفر العُقَيلي (1): لا يتابع على حديثه، وذكر له حديث الربا. وقال أبو أحمد الكرابيسي (2): حديثه ليس بالمعروف. وذكر له حديث الربا أيضًا. وحديث الربا هو: «لَدِرهمُ ربًا أعظم حُوبًا عند الله من سبعة وثلاثين زنية». وذكر البخاري (3) حديثه في الربا، وقال: هذا لا يتابع عليه. قال الشيخ ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى البخاري في «صحيحه» (4) عن عائشة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضَوا إلى ما قدَّموا». وأخرج النسائي (5) من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تسبوا أمواتَنا فتؤذوا أحياءنا»، وفي الحديث قصة وقد تقدم والله أعلم. 10 - باب الحسد 617/ 4735 - عن إبراهيم بن [أبي] أَسِيد، عن جده، عن أبي هريرة _________ (1) في «الضعفاء» (4/ 351). (2) هو الحاكم الكبير في كتابه «الأسامي والكنى» (1/ 423 - 425). (3) كما في المصدر السابق. (4) برقم (1393، 6516). (5) برقم (4775)، وفيه لين، وقد تقدم عند المؤلف (3/ 121 - 127) في باب القصاص من اللطمة.

(3/368)


- رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إيَّاكم والحسدَ، فإنّ الحسدَ يأكُلُ الحسناتِ كما تأكُلُ النَّارُ الحطبَ ــ أوقال: العُشْب ــ» (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي «سنن ابن ماجه» (2) من حديث أبي الزناد عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والصلاة نور المؤمن، والصيام جُنَّة من النار». ولما كان الحاسد يكره نعمة الله على عباده، والمتصدّق يُنعم عليهم، كانت صدقة هذا ونعمته تطفئ خطيئته وتُذهبها، وحسدُ هذا وكراهته نعمةَ الله على عباده تُذهب حسناتِه. _________ (1) «سنن أبي داود» (4903). قال المنذري: «جدّ إبراهيم لم يُسمَّ، وذكر البخاري إبراهيم هذا في «التاريخ الكبير» [1/ 272 - 273]، وذكر له هذا الحديث وقال: لا يصح». ولم يرد كلام المنذري في (هـ)، وهذا ظاهره أن المؤلف لم يُثبته، فلعله رأى أنه يعتضد بما أورد له من الشاهد من حديث أنس. (2) برقم (4210)، وفي إسناده عيسى بن أبي عيسى الحنّاط، متروك منكر الحديث. وأصلح منه ــ على ضعفه ــ رواية يزيد الرّقاشي، عن أنس مرفوعًا: «إن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب». أخرجه ابن أبي شيبة (27126). وقوله: «الصدقة تطفئ الخطيئة» روي من حديث جابر عند أحمد (14441)، وابن حبان (1723)، والحاكم (4/ 127)، وهو صحيح بشواهده. وقوله: «الصلاة نور» ففي «صحيح مسلم» (223) من حديث أبي مالك الأشعري. وقوله: «الصيام جنة من النار» أخرجه أحمد (16278) وابن خزيمة (1891، 2125) من حديث عثمان بن أبي العاص بإسناد صحيح، وهو في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة دون قوله: «من النار».

(3/369)


ولمّا كانت الصلاة مَرْكَب الإيمان (1)، وأصلَ الإسلام، ورأسَ العبودية، ومحلّ المناجاة والقربةِ إلى الله، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو مصلٍّ، وأقرب ما يكون منه في صلاته وهو ساجد= كانت الصلاةُ نورَ المسلم. ولمّا كان الصوم يسد عليه باب الشهوات، ويضيّق مجاري الشيطان، ولا سيما باب الأجوفين: الفم والفرج، اللذين منهما ينشأ معظم الشهوات= كان كالجُنّة من النار، فإنه يتترَّس به من سهام إبليس. وفي «الصحيحين» (2) عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث» (3). 11 - باب اللعن 618/ 4737 - عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ العبد إذا لَعَن شيئًا صَعِدَت اللَّعنةُ إلى السَّماء، فتُغْلَقُ أبوابُ السماءِ دُونها، ثُمَّ تَهبِطُ إلى الأرض فتُغلَقُ أبوابُها دُونَها، ثُمَّ تَأخُذُ يمينًا وشِمالًا، فإذا لم تَجِد مَساغًا رَجَعَت إلى الذي لُعِنَ، فإن كانَ لِذلك أهلًا، وإلَّا رَجَعت إلى قائلها» (4). _________ (1) في الطبعتين: «مركز الإيمان»، والمثبت أقرب إلى رسم الأصل، وله نظائر في كتب المؤلف، ففي «طريق الهجرتين» (1/ 480): «إن الإرادة هي مركب العبودية وأساس بنائها ... »، وانظر: «روضة المحبين» (ص 442)، و «بدائع الفوائد» (1/ 1148). (2) البخاري (6065، 6076)، ومسلم (2558، 2559). (3) هذا الحديث ورد في (هـ) في مطلع تعليق المؤلف. (4) «سنن أبي داود» (4905)، وفي إسناده لين لجهالة أحد رواته.

(3/370)


619/ 4738 - وعن الحسن ــ وهو البصري ــ عن سَمُرة بن جُندُب - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تَلاعنوا بلعنة الله، ولا بغضب الله، ولا بالنار». وأخرجه الترمذي (1) وقال: حسن صحيح. هذا آخر كلامه. وقد تقدم اختلاف الأئمة في سماع الحسن من سَمُرة. 620/ 4739 - وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يكون اللَّعَّانُون شُفعاءَ ولا شُهداء». وأخرجه مسلم (2). 621/ 4740 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رجلًا لعن الريح ــ وقال مسلم (وهو ابن إبراهيم): إن رجلًا نازعَتْه الريحُ رداءَه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلعنها ــ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَلعَنْها فإنها مأمورة، وإنَّه من لعن شيئًا ليس له بأهل رَجَعت اللعنةُ عليه». وأخرجه الترمذي (3) وقال: غريب، لا نعلم أحدًا أسنده غير بِشر بن عمر. هذا آخر كلامه. بشر بن عمر هذا هو الزهراني، احتجّ به البخاري ومسلم. _________ (1) أبو داود (4906)، والترمذي (1976). وصححه الحاكم (1/ 48). (2) أبو داود (4907)، ومسلم (2598). (3) أبو داود (4908)، والترمذي (1978) من طريق بشر بن عمر عن أبان بن يزيد، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس. رجاله ثقات، وصححه ابن حبان (5745) والضياء (10/ 28)، ولكن أعلّ بالإرسال كما أشار إليه الترمذي، فإن مسلم بن إبراهيم رواه عن أبان عن قتادة عن أبي العالية مرسلًا، أخرجه أبو داود (4908). وكذا رواه سعيد بن أبي عروبة وهشام الدستوائي كلاهما عن قتادة عن أبي العالية مرسلًا، ذكره البزّار عقب الحديث (5330).

(3/371)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي «الصحيحين» (1) عن ثابت بن الضحاك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لعن المؤمن كقتله». وفي «صحيح مسلم» (2) عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ينبغي لصِدّيق أن يكون لعّانًا». وفي الترمذي (3) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس المؤمن بالطعّان، ولا اللعّان، ولا الفاحش، ولا البذيء» وقال: حديث حسن. 12 - باب في تغيير الأسماء 622/ 4781 - عن عبد الله بن أبي زكرياء، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّكُم تُدْعَون يومَ القيامة بِأَسمائِكم وأَسماءِ آبائِكم، فَأَحسِنُوا أَسماءَكم» (4). عبد الله بن أبي زكرياء لم يسمع من أبي الدرداء (5). _________ (1) البخاري (6105، 6652)، ومسلم (110). (2) برقم (2597). (3) برقم (1977)، وأخرجه أحمد (3839، 3948)، والبخاري في «الأدب المفرد» (312، 332)، وابن حبان (192)، والحاكم (1/ 12)، من طريقين، أحدهما صحيح، والآخر معلّ وبه أخرجه الترمذي، ولذا قال: «حسن غريب، وقد روي عن عبد الله من غير هذا الوجه». وانظر: «بيان الوهم» (5/ 300 - 303). (4) «سنن أبي داود» (4948)، وأخرجه ابن حبان في «صحيحه» (5818). قال أبو داود في رواية ابن الأعرابي: «ابن أبي زكريا لم يدرك أبا الدرداء»، وكذا قال أبو حاتم في «المراسيل» (ص 113)، والبيهقي في «الكبرى» (9/ 306). (5) كلام المنذري من (هـ)، وقد اختصره المؤلف عمّا في «المختصر».

(3/372)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي هذا الحديث ردّ على من قال: إن الناس يوم القيامة إنما يُدعَون بأمهاتهم، لا بآبائهم. وقد ترجم البخاري في «صحيحه» (1) لذلك فقال: «باب ما يدعى الناس بآبائهم»، وذكر فيه حديث نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الغادر يُرفَع له لواء يوم القيامة يقال: هذه غدرة فلان بن فلان». واحتج من قال بالأوّل بما رواه الطبراني في «معجمه» (2) من حديث سعيد بن عبد الله الأودي قال: شهدتُ أبا أمامة وهو في النزع، قال: إذا متُّ فاصنعوا بي كما أمرَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، [أن نصنع بموتانا؛ أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] فقال: «إذا مات أحد من إخوانكم فسوَّيتم الترابَ على قبره، فليَقُم أحدُكم على رأس قبره، ثم ليقل: يا فلان بن فلانة، فإنه يسمعه ولا يُجيبه، ثم يقول: يا فلان بن فلانة، [فإنه يستوي قاعدًا، ثم يقول: يا فلان بن فلانة،] فإنه يقول: أرشِدْنا رحمك الله ... » فذكر الحديث وفيه: فقال رجل: يا رسول الله، فإن لم يعرف أمَّه، قال: «فلينسِبْه إلى أمه حوّاء: فلان بن حواء». ولكن هذا الحديث متفق على ضعفه فلا تقوم به حجة فضلًا عن أن يعارَض به ما هو أصح منه. وفي «الصحيحين» (3) عن أبي موسى قال: «وُلد لي غلام فأتيت به _________ (1) كتاب الأدب، وحديث ابن عمر فيه برقم (6177). (2) الكبير (8/ 298 - 299)، وما بين الحاصرتين مستدرك منه، ولعله سقط لانتقال النظر. والحديث ضعيف كما سينصّ عليه المؤلف، وضعفه ابن الصلاح والنووي في آخرين. انظر: «المقاصد الحسنة» (346)، و «إرواء الغليل» (753). (3) البخاري (5467، 6197)، ومسلم (2145).

(3/373)


النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسمّاه إبراهيم وحنَّكه بتمرة»، زاد البخاري: «ودعا له بالبركة، ودفعه إلي»، وكان أكبرَ ولدِ أبي موسى. 13 - باب في حفظ المنطق 623/ 4809 - عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يقولنَّ أحدُكم: الكَرْم، فإنَّ الكَرْمَ الرَّجلُ المسلم، ولكن قولوا: حَدائقُ الأعناب» (1). وقد أخرجه مسلم في «صحيحه» (2) من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تُسمُّوا العنبَ الكرم، فإن الكرمَ الرجلُ المسلم». وأخرجه البخاري ومسلم في «صحيحيهما» (3) من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بمعناه. وأخرج مسلم (4) من حديث وائل بن حُجر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقولوا: الكرم، ولكن قولوا: العنب والحَبْلة». قال ابن القيم - رحمه الله -: العرب سَمَّت شجر العنب كَرْمًا لكرَمه، والكرَم: كثرة الخير والمنافع والفوائدِ وسهولةُ تناولها من الكريم، ومنه قوله تعالى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [لقمان: 10]، وفي آية أخرى: {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5]، فهو كريم في مخبره، بهيج في منظره، وشجر العِنَب قد جمع وجوهًا من ذلك: _________ (1) «سنن أبي داود» (4974). (2) برقم (2247/ 8). (3) البخاري (6183) ومسلم (2247/ 7). (4) برقم (2248).

(3/374)


منها: تذليل ثمره لقاطفه. ومنها: أنه ليس دونه شوك يؤذي مُجتنيه. ومنها: أنه ليس بممتنع على من أراده لعلوّ ساقه وصعوبته [ق 265] كغيره. ومنها: أن الشجرة الواحدة تَحمل منه مع ضَعْفها ودقّة ساقها أضعافَ ما تحمله غيرُها. ومنها: أن الشجرة منه إذا قُطِع أعلاها أخلفت من جوانبها وفروعها، والنخلة إذا قطع أعلاها ماتت ويَبِست جملةً. ومنها: أن ثمره يؤكل قبل نضجه، وبعد نضجه، وبعد يُبْسه. ومنها: أنه يُتخذ منه من أنواع الأشربة الحُلْوة والحامضة كالدِّبْس والخَل ما لا يُتّخذ من غيره، ثم يُتّخذ من شرابه من أنواع الحلاوة والأطعمة والأقوات ما لا يتخذ من غيره، وشرابُه الحلال غذاءٌ وقُوت ومنفعة وقوة. ومنها: أنه يُدّخر يابسه قوتًا وطعامًا وأُدمًا. ومنها: أن ثمره قد جمع نهاية المطلوب من الفاكهة من الاعتدال، فلم يُفْرط إلى البرودة كالخَوخ وغيره، ولا إلى الحرارة كالتمر، بل هو في غاية الاعتدال، إلى غير ذلك من فوائده. فلما كان بهذه المنزلة سمَّوه كَرْمًا، فأخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الفوائد والثمراتِ والمنافعَ التي أودعها الله قلب عبده المؤمن مِن البر وكثرة الخير= أعظمُ من فوائد كَرْم العنب، فالمؤمن أولى بهذه التسمية منه.

(3/375)


فيكون معنى الحديث على هذا: النهي عن قَصْر اسم الكرم على شجر العنب، بل المسلم أحقُّ بهذا الاسم منه. وهذا نظير قوله: «ليس الشديد بالصُّرَعة، ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب» (1)، أي مالك نفسه أولى أن يُسمّى شديدًا من الذي يصرع الرجال. وكقوله: «ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي تردّه اللُّقمة واللقمتان والأَكْلة والأكلتان، ولكنّه الذي لا يسأل الناس ولا يُفْطَن له فيُتصدّق عليه» (2)، أي هذا أولى بأن يقال له مسكين من الطوّاف الذي تسمونه مسكينًا. ونظيره في المُفْلِس (3) والرَّقُوب (4) وغيرهما. _________ (1) أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609) من حديث أبي هريرة. وعلّقه البخاري أيضًا في «باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما الكرم قلب المؤمن» ليفسّر به الحديث على نحو ما هنا، وعلّق في الباب أيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما المفلس الذي يفلس يوم القيامة»، وسيذكره المؤلف لاحقًا. (2) أخرجه البخاري (1476، 1479، 4539)، ومسلم (1039) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (3) يشير إلى حديث: «أتدرون ما المفلس؟ ... إن المفلس من أمتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا ... » الحديث. أخرجه مسلم (2581) عن أبي هريرة، وعلّقه البخاري مختصرًا في باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الكرم قلب المؤمن». (4) وهو حديث ابن مسعود مرفوعًا: «ما تَعدّون الرقوب فيكم؟» قلنا: الذي لا يُولَد له، قال: «ليس ذاك بالرَّقوب، ولكنه الرجل الذي لم يقدّم من ولده شيئًا». أخرجه مسلم (2608).

(3/376)


ونظيره قوله: «ليس الواصلُ بالمكافئ ولكنّه الذي إذا قُطِعَت رَحِمُه وصلها» (1)، وإن كان هذا ألطف من الذي قبله. وقيل في معنى النهي وجه آخر، وهو: قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - سلب هذا الاسم المحبوب للنفوس التي يلذ لها سماعه عن هذه الشجرة التي تُتّخذ منها أم الخبائث، فيسلُبها الاسم الذي يدعو النفوس إليها، ولا سيما فإن العرب قد تكون سمَّتها كرْمًا لأن الخمر المتخذةَ منها تحث على الكرَم وبذل المال، فلما حرّمها الشارع نفى اسم المدح عن أصلها، وهو «الكَرْم» كما نفى اسم المدح عنها، وهو «الدواء»، فقال: «إنها داء، وليست بدواء» (2). ومَن عرف سرّ تأثير الأسماء في مسمّياتها نُفرةً وميلًا عرف هذا، فسلبها النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الاسم الحسن، وأعطاه من هو أحق به منها، وهو قلب المؤمن. ويؤكد المعنى الأول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبّه المسلم بالنخلة (3) لما فيها من المنافع والفوائد، حتى إنها كلَّها منفعة، لا يذهب منها شيء بلا منفعة حتى شوكها، ولا يسقط عنها لباسُها وزينتها كما لا يسقط عن المسلم زينته، فجذوعها للبيوت والمساكن والمساجد وغيرها، وسَعَفها للسقوف وغيرها، وخُوصها للحُصُر والمكاتل والآنية وغيرها، ومَسَدُها للحِبال وآلات الشد والحلّ وغيرها، وثمرها يؤكل رطبا ويابسًا، ويُتخذ قوتًا وأُدمًا، وهو أفضل المخرج في زكاة الفطر تقرّبًا إلى الله وطهرةً للصائم، ويتخذ منه ما يتخذ _________ (1) أخرجه البخاري (5991). (2) أخرجه أحمد (18859) ــ واللفظ له ــ، ومسلم (1984) من حديث وائل بن حُجْر - رضي الله عنه -. (3) في حديث ابن عمر المتفق عليه. البخاري (61، 2209، 6122) ومسلم (2811).

(3/377)


من شراب الأعناب، ويزيد عليه بأنه قُوت وحده بخلاف الزبيب، ونواه علف للإبل التي تحمل الأثقال إلى بلدٍ لا يُبْلَغ إلا بشقّ الأنفس، ويكفي فيه أن نواه يُشترى به العنب، فحَسْبك بثَمَرٍ (1) نواه ثَمَن لغيره! وقد اختلف الناس في العنب والنخل: أيهما أفضل وأنفع؟ واحتجت كل طائفة بما في أحدهما من المنافع (2). والقرآن قد قدّم النخيل على الأعناب في موضع (3)، وقدم الأعناب عليه في موضع (4)، وأفرد النخل عن الأعناب (5)، ولم يفرد العِنَب عن النخيل (6). وفصل الخطاب في المسألة أن كلَّ واحد منهما في الموضع الذي يكثر فيه ويقلّ وجودُ الآخر أفضل وأنفع، فالنخيل بالمدينة والعراق وغيرهما أفضل وأنفع من _________ (1) في الأصل والطبعتين: «بتمرٍ»، والمثبت أوفق للسياق. (2) وقد ذكر المؤلف هذه المسألة أيضًا في «طريق الهجرتين» (2/ 808) و «مفتاح دار السعادة» (2/ 656). (3) وذلك في سور: البقرة (266)، والأنعام (99)، والنحل (11، 67)، والإسراء (91)، والمؤمنون (19)، ويس (34). (4) وذلك في سور: الرعد (4)، والكهف (32)، وعبس (28 - 29). (5) وذلك في سور: الأنعام (141)، والشعراء (148)، وق (10)، والرحمن (11، 68). (6) أي في سياق ذكر ما يكون في الدنيا، وإلا ففي نعيم الآخرة قد أُفرِد العنب عن النخيل بالذكر؛ قال تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا}.

(3/378)


الأعناب فيها، والأعناب في الشام ونحوها أفضل وأنفع من النخيل بها. ولا يقال: فما تقولون إذا استويا في بلدة؟ فإن هذا لا يوجد، لأن الأرض التي يطيب (1) [فيها] النخيل، ويكون سلطانه ووجوده بها= لا يكون للعنب بها سلطان، ولا تقبله تلك الأرض، وكذلك أرض العنب لا تقبل النخيلَ ولا يطيب فيها. والله سبحانه قد خص كل أرض بخاصية من النبات والمعدن والفواكه وغيرها، فهذا في موضعه أفضل وأطيب وأنفع، وهذا في موضعه كذلك. 14 - باب صلاة العَتَمة 624/ 4819 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تغلبنَّكم الأعرابُ على اسم صلاتكم، ألا وإنها العشاء، ولكنّهم يُعْتِمُون بالإبل (2)». وأخرجه مسلم (3). وفي رواية (4): «فإنها في كتاب الله سبحانه وتعالى العشاء، وإنها تُعتِم بحلاب الإبل». وفي «الصحيحين» (5) من حديث مالك عن أبي هريرة مرفوعًا: «لو يعلم _________ (1) في الأصل وط. المعارف: «تطلب»، ولعل المثبت من ط. الفقي هو الصواب، لاسيما وسيأتي نظيره قريبًا. (2) أي: يؤخرّون حلاب الإبل إلى العَتَمة وهي ظلمة الليل، فيسمّون العشاء باسم وقت الحلاب. انظر: «معالم السنن» (7/ 276)، و «النهاية» (عتم). (3) أبو داود (4984)، ومسلم (644/ 228). (4) مسلم (644/ 229). (5) البخاري (615) ومسلم (437)، كلاهما من حديث مالك عن سُمَيٍّ عن أبي صالح عن أبي هريرة.

(3/379)


الناس ما في النِّداء والصفِّ الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوًا». ورواه أحمد (1) عن عبد الرزاق عن مالك وزاد فيه: فقلتُ لمالك: أما يُكره أن يقول: العتمة؟ قال: هكذا قال الذي حدَّثني. وقد اختلف في كراهة تسميتها بالعتمة [على قولين] (2)، هما روايتان عن أحمد. وسلكت طائفة في هذين الحديثين مسلك النسخ، [ولا يصحّ] لعدم معرفة المتقدم منهما، ولو قابل مُدَّعٍ دعواهم بنقيضها [لكانت نظير دعواهم]. وسلكت طائفة مسلكًا آخر فقالت: أرشدهم إلى اسمها في الـ[ـكتاب وهو العشاء]، وسمَّاها عتمةً بيانًا للإباحة (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: [ق 266] وسلكت طائفة مسلكًا آخر فقالت: النهي صريح، لا يمكن فيه رواية بالمعنى، وأما حديث: «لو يعلمون ما في الصبح _________ (1) برقم (7738). (2) طمس في طرف الورقة أتى على كلمتين أو أكثر آخر كل سطر، وما بين الحاصرتين هنا وفي المواضع الآتية قراءة ظنية أو إكمال مقترح. والله المستعان. (3) الكلام السابق كلّه من (هـ)، وقد كان المنذري ذكر هذين المسلكين (النسخ والجمع) في «المختصر» (ق 4/ 178 ب - النسخة البريطانية)، فنقلهما المؤلف بتصرُّف، وزاد قبلهما ذكر رواية مسلم لحديث الباب، وكلام عبد الرزاق مع مالك، وأن في المسألة روايتين عن أحمد. والمجرّد لم ينقل شيئًا من تلك الزيادات ولا أشار إليها، وإنما اقتصر على قوله: «ذكر [المؤلف] حديث: لا تغلبنكم، وذكر تأويلين ذكرهما المنذري ثم زاد».

(3/380)


والعتمة»، فيجوز أن يكون تغييرًا من الراوي عنها باسم العتمة، ولم يَعلم بالنهي فرواه بمعناه، وهذا الاحتمال لا يتطرق إلى حديث النهي. وقالت طائفة: النهي إنما هو من غلبة الأعراب على اسم العشاء بحيث يهجر بالكلية، كما دل عليه قوله: «لا تغلبنكم»، فأما إذا سمّيت بالعشاء تسميةً غالبة على العتمة لم يمتنع أن تُسمّى بالعتمة أحيانًا، وهذا أظهر الأقوال. 15 - باب من الرخصة في ذلك 625/ 4823 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان فَزَع بالمدينة فركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسًا لأبي طلحة، فقال: «ما رأينا شيئًا ــ أو ما رأينا من فزع ــ، وإنْ وجدناه لبحرًا». وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: لم يذكر أبو داود في هذا الباب إلا هذا الحديث، ولا تعلّق له في تسمية العشاء عتمةً، وإنما تعلّقه بالتوسّع في العبارة، واستعارةِ اسم البحر للفرس الجَوَاد الكثير الجَرْي، فكأنه راجع إلى قوله: باب في حفظ المنطق. 16 - باب في المزاح 626/ 4833 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، احْمِلْني، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّا حامِلُوكَ على وَلَدِ ناقةٍ». قال: ما أصنعُ _________ (1) أبو داود (4988)، والبخاري (2627)، ومسلم (2307)، والترمذي (1685)، والنسائي في «الكبرى» (8770).

(3/381)


بولدِ الناقة؟! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وهل تَلِدُ الإبلَ إلَّا النُّوقُ؟!». وأخرجه الترمذي (1)، وقال: صحيح غريب. 627/ 4834 - وعن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال: استأذن أبو بكر ــ رحمة الله عليه ــ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسَمِع صوتَ عائشة عاليًا، فلما دخل تناولها لِيَلْطِمها، وقال: ألا أرَاكِ ترفعين صوتك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يَحجُزه، وخرج أبو بكر مُغضَبًا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين خرج أبو بكر: كيف رأيتِني أنقذتُك من الرجل؟ قال: فمكث أبو بكر أيامًا، ثم استأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجدهما قد اصطلحا، فقال لهما: أَدخِلاني في سِلْمِكما كما أدخلتماني في حَرْبكما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نعم، قد فعلنا، قد فعلنا». وأخرجه النسائي (2)، وليس في حديثه ذكر أبي إسحاق السبيعي. 628/ 4835 - وعن عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه - قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك وهو في قُبَّة من أَدَمٍ فسلمتُ، فردَّ وقال: «ادْخُل». فقلت: أكُلِّي يا رسول الله؟ قال: «كُلَّك» فدخلت. وأخرجه البخاري وابن ماجه (3) مطولًا. وليس في حديث البخاري قصة الدخول. 629/ 4836 - وعن عثمان بن أبي العاتِكة قال: إنما قال: «أدخل كلي؟» _________ (1) أبو داود (4998) والترمذي (1991)، وأخرجه أحمد (13817) والبخاري في «الأدب المفرد» (268)، والضياء في «المختارة» (5/ 269 - 270). (2) أبو داود (4999)، والنسائي في «الكبرى» (8441، 9110). والحديث صحيح، انظر: «الصحيحة» (2901). (3) أبو داود (5000)، والبخاري (3176)، وابن ماجه (4042).

(3/382)


من صِغَرِ القُبَّة (1). وعثمان هذا فيه مقال. 630/ 4837 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا ذا الأُذُنَين». وأخرجه الترمذي (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي «الصحيحين» (3) عن أنس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: «يا أبا عمير، ما فعل النغير؟». وقد أخرج الترمذي (4) من حديث أسامة بن زيد عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قالوا يا رسول الله، إنك تداعبنا، قال: «إني لا أقول إلا حقًّا». قال الترمذي: حديث حسن. 17 - باب ما جاء في الشِّعر 631/ 4848 - وعن سعيد ــ وهو ابن المسيَّب ــ قال: مرَّ عمر - رضي الله عنه - بحسّانٍ وهو يُنْشِدُ في المسجد فلَحَظ إليه، فقال: قد كنتُ أنشدُ فيه مَن هو خيرٌ منك. _________ (1) أبو داود (5001). (2) أبو داود (5002)، والترمذي (1992، 3828)، وقال في الموضع الثاني: «هذا حديث حسن غريب صحيح». واختاره الضياء (6/ 288 - 290)، (7/ 254). (3) البخاري (6129) ومسلم (2150). (4) برقم (1990)، وإسناده حسن، وله طريق آخر عن سعيد المقبري عند أحمد (8481) يصحّ به الحديث.

(3/383)


وأخرجه النسائي (1). وسعيد بن المسيب لم يصح سماعه من عمر، فإن كان سمع ذلك من حسان فيتصل. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد تكرر له في هذا الكتاب في مواضع، وبه يُعلِّل ابنُ القطان وغيره حديث سعيد عن عمر، وهو تعليل باطل أنكره الأئمة، كأحمد بن حنبل ويعقوب بن سفيان وغيرهما. قال أحمد (2): إذا لم يُقبل سعيد بن المسيب عن عمر فمن يُقبل؟ سعيد عن عمر عندنا حجة. وقال حنبل في «تاريخه» (3): حدثنا أبو عبد الله ــ يعني أحمد بن حنبل ــ، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة (4)، عن إياس بن معاوية قال: قال سعيد بن المسيب: ممن أنت؟ قلتُ: من مُزَينة، قال: إني لأذكر يومَ نَعى عمرُ بن الخطاب النعمانَ بن مُقَرِّن المُزَني على المنبر. وهذا صريح في الرد على من قال: إنه ولد لسنتين بَقِيتا من خلافة عمر. وقال يحيى بن سعيد الأنصاري (5): كان سعيد بن المسيب يُسَمَّى _________ (1) أبو داود (5013)، والنسائي (716). وأخرجه أيضًا البخاري (3212) هكذا، وأخرجه مسلم (2485) عن سعيد عن أبي هريرة. (2) أسنده عنه ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (4/ 61). (3) ومن طريقه أخرجه البيهقي في «معرفة السنن» (12/ 144 - 145). وأخرجه ابن أبي شيبة (34610) عن غندر ــ وهو محمد بن جعفر ــ به. (4) في الطبعتين: «سعيد»، خطأ، ورسم الأصل غير محرّر. (5) أسنده عنه ابن سعد في «الطبقات» (2/ 328، 7/ 121)، والمؤلف صادر عن «معرفة السنن والآثار» (12/ 145).

(3/384)


راوِيَة (1) عمر بن الخطاب، لأنه كان أحفظَ الناس لأحكامه. وقال مالك (2): بلغني أن عبد الله بن عمر كان يرسل إلى ابن المسيب يسأله عن بعض شأن عمر وأمره. هذا، ولم يحفظ عن أحد من الأئمة أنه طعن في رواية سعيد عن عمر، بل تلقَّوها كلهم بالقبول والتصديق (3)، ومن لم يقبل المرسل قَبِل مرسلَه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الحاكم في «علوم الحديث» (4): سعيد بن المسيب أدرك عمر وعليًّا وطلحة، وباقي العشرة، وسمع منهم. والمقصود أن تعليل الحديث برواية سعيد له عن عمر تعنّت بارد، والصحيح أنه وُلد لسنتين مضتا من خلافة عمر، فيكون له وقت وفاة عمر ثمان سنين. فكيف يُنكر سماعه منه (5) ويُقدح في اتصال روايته عنه؟ والله الموفق للصواب. _________ (1) في الطبعتين: «رواية» تحريف. (2) أسنده عنه يعقوب بن سفيان (1/ 468)، وأبو زرعة الدمشقي (1/ 404)، كلاهما في «تاريخه». وذكره البيهقي في «معرفة السنن والآثار» (12/ 145). (3) ومن ذلك أن مالكًا أوردها محتجًّا بها في «الموطأ» في مواضع، وقال أبو حاتم: سعيد بن المسيب عن عمر مرسل يدخل في المسند على المجاز. «المراسيل» (ص 71). (4) (النوع الثامن من علوم الحديث). (5) «منه» ساقطة من الطبعتين.

(3/385)


وقد أخرجا في «الصحيحين» (1) ــ وذكره أبو داود عقب هذا الحديث ــ عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ... فذكر الحديث بمعنى ما تقدم دون ذكر الزيادة. 632/ 4849 - وعن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بمعناه، زاد: فخشي أن يرميه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجازه (2). 18 - باب الرؤيا 633/ 4852 - عن زُفَر بن صَعصَعة، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا انصرف من صلاة الغداة يقول: «هل رأى أحدٌ منكم الليلةَ رُؤيا؟» ويقول: «إنّهُ ليس يَبْقَى بعدي من النُّبُوَّة إلا الرُّؤيا الصالحة» (3). وأخرجه النسائي (4) من حديث زفر بن صعصعة عن أبي هريرة من غير ذكر صعصعة، والمحفوظ من حديث الإمام مالك بن أنس إثبات صعصعة في إسناده. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد روى البخاري في «صحيحه» (5) من حديث الزهري: حدثني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لم يبقَ من النبوة إلا المبشِّرات»، قالوا: وما المبشرات؟ قال: «الرؤيا _________ (1) البخاري (3212) ومسلم (2485)، وليس في رواية البخاري: «عن أبي هريرة»، وإنما هو عن سعيد قال: مرّ عمر ... إلخ. (2) «سنن أبي داود» (5014). (3) «سنن أبي داود» (5017)، وأخرجه مالك (2748)، وأحمد (8313)، وابن حبان (6048)، والحاكم 4/ 390 - 391) وقال: صحيح الإسناد. (4) في «الكبرى» (7574). وانظر: «العلل» للدارقطني (1581). (5) برقم (6990).

(3/386)


الصالحة». وأخرجه مسلم (1) من حديث ابن عباس. 634/ 4858 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَن رَأَىني في المنام فَسَيَراني في اليَقَظَة ــ أو لكأنَّما رآني في اليقَظَة ــ، ولا يَتَمثّلُ الشيطانُ بي». وأخرجاه (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: ولم يشك البخاري فيه، بل قال: «من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي (3)». وفي «الصحيحين» (4) من حديث أبي قتادة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من رآني في المنام فقد رأى الحق». وأخرجه البخاري (5) من حديث أبي سعيد وزاد: «فإن الشيطان لا _________ (1) برقم (479). (2) أبو داود (5023)، والبخاري (6993)، ومسلم (2266/ 11)، كلهم من طريق يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (110) من رواية أبي صالح، ومسلم (2266/ 10) من رواية محمد بن سيرين، كلاهما عن أبي هريرة بلفظ: «من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي»، ولفظ مسلم: «لا يتمثّل بي». (3) «بي» سقط من الأصل، واستُدرك من (هـ). (4) البخاري (6996) ومسلم (2267)، وليس عندهما قوله: «في المنام»، وهو عند الدارمي (2186) وغيره. (5) برقم (6997).

(3/387)


يتكوّنني». وفي لفظ له (1) في حديث أبي قتادة: «فإن الشيطان لا يتراءى (2) بي». وفي «صحيح مسلم» (3) عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من رآني في النوم فقد رآني، فإنه لا ينبغي للشيطان أن يتمثّل في صورتي»، وفي لفظ آخر: «فإنه لا ينبغي للشيطان أن يتشبه بي». 19 - باب ما جاء في تشميت العاطس (4) 635/ 4866 - عن هلال بن يِساف قال: كنا مع سالم بن عبيد فعَطَس رجل من القوم فقال: السلام عليكم، فقال سالم: وعليك وعلى أُمِّك، ثم قال بعد: لعلَّك وجدتَ مما قلت لك؟ قال: لوددت أنك لم تذكر أمي بخير ولا بِشرٍّ، قال: إنما قلت لك كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إنا بينا نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ عطس رجل من القوم فقال: السلام عليكم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وعليك وعلى أمك»، ثم قال «إذا عطس أحدكم فليحمد الله ــ قال: فذكر بعض المحامد ــ، وليقل له من عنده يرحمك الله وليَرُدَّ ــ يعني عليهم ــ: يغفر الله لنا ولكم». وأخرجه الترمذي والنسائي (5)، وقال الترمذي: هذا حديث اختلفوا في _________ (1) برقم (6995). (2) رسمه في الأصل: «يترايا» مهملًا، وهو يحتمل ما أثبتناه وفاقًا لرواية أبي ذر لـ «صحيح البخاري»، ويحتمل: «يتزايا» بالزاء المعجمة، كما في بقية روايات «الصحيح». انظر: الطبعة السلطانية (9/ 33) و «إرشاد الساري» (10/ 135). (3) برقم (2268/ 12، 13). (4) في الأصل: باب العُطاس، وهو الباب السابق لهذا، والذي يظهر من تذييل المؤلف أنه على هذا الباب، لا الذي قبله. (5) أبو داود (5031)، والترمذي (2740)، والنسائي في «الكبرى» (9982)، من طريق منصور بن معتمر عن هلال بن يساف به. وإسناده ضعيف، لأن هلالًا لم يسمعه من سالم، وإنما بينهما رجل مجهول أو رجلان، كما سيأتي.

(3/388)


روايته عن منصور، وقد أدخلوا بين هلال وبين سالم رجلًا. 636/ 4867 - وعن هلال بن يساف، عن خالد بن عَرْفَجة، عن سالم بن عبيد الأشجعي بهذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه النسائي (1). وأخرجه النسائي (2) أيضًا عن منصور عن رجل عن خالد بن عُرفُطَة عن سالم. وأخرجه (3) أيضًا عن منصور عن هلال بن يساف عن رجل [عن] آخر. وقال: هذا الصواب عندنا، والأول: خطأ. هذا آخر كلامه. وقد رواه علي ابن المديني عن يحيى بن سعيد القطان عن سفيان عن منصور عن هلال عن رجل عن رجل عن سالم. ورواه مسدَّد عن يحيى القطان عن سفيان عن منصور عن هلال عن رجل من آل خالد بن عُرفُطة عن آخر منهم قال: كنا مع سالم. ورواه زائدة عن منصور عن هلال عن رجل من أشجع عن سالم. ورواه عبد الرحمن بن مهدي عن أبي عَوانة عن منصور عن هلال عن رجل من آل عُرْفُطة عن سالم. _________ (1) أبو داود (5032)، والنسائي في «الكبرى» (9988). (2) «الكبرى» (9987)، وفي مطبوعتها: «عن منصور عن هلال عن رجل ... »، وفي «تحفة الأشراف» (3/ 253) كما هنا دون ذكر «هلال». (3) في «الكبرى» (9986)، وما بين الحاصرتين منه.

(3/389)


واختُلِف على وَرْقاء فيه، فقال بعضهم: خالد بن عَرْفجة، وقال بعضهم: خالد بن عُرفطة، أو عَرْفَجة. ويشبه أن يكون خالدٌ هذا مجهولًا، فإن أبا حاتم الرازي قال (1): لا أعرف أحدًا يقال له: خالد بن عُرفطة إلا واحدًا: الذي له صحبة. 637/ 4868 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله على كل حال، وليقُل أخوه ــ أو صاحبه ــ: يرحمك الله، ويقول هو: يهديكم الله ويصلح بالكم». وأخرجه البخاري والنسائي (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: [ق 267] وقد أخرج الترمذي (3) عن نافع أن رجلًا عطس إلى جنب ابن عمر، فقال: الحمد لله والسّلامُ على رسول الله، قال ابن عمر: «وأنا أقول: الحمد لله والسلام على رسول الله، وليس هكذا علَّمَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن نقول، علّمنا أن نقول: الحمد لله على كل حال»، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث زياد بن الربيع. وفي الترمذي (4) أيضًا من حديث سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: _________ (1) «الجرح والتعديل» (3/ 340). (2) أبو داود (5033)، والبخاري (6224)، والنسائي في «الكبرى» (9989)، وليس عندهما: «على كل حال». (3) برقم (2738) من طريق زياد بن الربيع، عن حضرمي مولى آل الجارود، عن نافع به. في إسناده ضعف لجهالة حال حضرمي مولى آل الجارود، وقد تفرد به عن نافع، ولذا قال الترمذي: «حديث غريب». (4) برقم (3368)، وأخرجه أيضًا النسائي في «الكبرى» (9975)، وابن حبّان (6167)، والحاكم (1/ 64)، كلهم من طريق الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب، عن سعيد المقبري به. الحارث بن أبي ذباب ليس بالقوي، وخطّأ النسائي روايته هذه وقال: إن الصواب ما أخرجه (9976) من طريق آخر عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن عبد الله بن سلام موقوفًا، وإسناده جيد. وقصة السلام منه متفق عليها من حديث همام بن منبّه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وسيأتي ذكرها.

(3/390)


قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال: الحمد لله، فحمد الله بإذنه، فقال له ربه: رحمك الله يا آدم، اذهب إلى أولئك الملائكة ــ إلى ملأ منهم جلوس ــ فقل: السلام عليكم، قالوا: وعليك السلام ورحمة الله، ثم رجع إلى ربّه، فقال: إن هذه تحيتك وتحية ذريتك بينهم ... » وذكر الحديث. قال: «هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقد روي من غير وجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواه زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة» (1). وقصة السلام منه مخرجة في «الصحيحين» (2) عن أبي هريرة. 20 - بابٌ كم يشمَّت العاطس 638/ 4869 - عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «سَمِّت أخاك ثلاثًا، فما زاد فهو زُكام» (3). _________ (1) إنما الذي روي بهذا الطريق هو الجزء الأخير من هذا الحديث ــ ولم يسقه المؤلف هنا ــ الذي فيه عرض ذرية آدم عليه، ووهبه سنين من عمره لداود ثم جحده إياه عند حضور أجله «فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته». أخرجه الترمذي (3076) والحاكم (2/ 325) من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم به. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. (2) البخاري (3326، 6227)، ومسلم (2841). (3) «سنن أبي داود» (5034) من طريق يحيى القطان، عن محمد بن عجلان، سعيد بن أبي سعيد المقبُري به. وهو موقوف على أبي هريرة، وكذا أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (939) من رواية ابن عيينة عن ابن عجلان به موقوفًا. ورواه قوم من الثقات عن ابن عجلان فرفعوه، كالليث بن سعد في الرواية الآتية. انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (2376).

(3/391)


639/ 4870 - وفي رواية عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال ــ لا أعلمه إلا أنه رفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ــ بمعناه (1). قال أبو داود: رواه أبو نعيم عن موسى بن قيس عن محمد بن عجلان عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2). موسى بن قيس هذا الذي رفعه هو: موسى بن قيس الحضرمي الكوفي، ويقال له: عصفور الجنة. قال يحيى بن معين: ثقة، وقال أبو حاتم الرازي: لا بأس به (3). وقال أبو جعفر العُقيلي (4): يحدث بأحاديث رديَّة بواطيل، وذكر أيضًا أنه من الغلاة في الرفض. 640/ 4871 - وعن حُميدة ــ أو عُبيدة ــ بنت عبيد بن رِفاعة الزُّرَقي، عن أبيها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يُسَمَّتُ العاطس ثلاثًا، فإن شئت فسَمِّتْه، وإن شئتَ فكُفَّ» (5). هذا مرسل. عبيد بن رفاعة ليست له صحبة، فأما أبوه وجده فلهما صحبة. _________ (1) «سنن أبي داود» (5035) من طريق الليث عن ابن عجلان به. (2) من هذا الطريق الذي ذكره أبو داود أخرجه الطبراني في «الدعاء» (1998)، إلا أنه تحرف فيه «موسى بن قيس الحضرمي» إلى «موسى بن موسى الأنصاري». (3) انظر: «الجرح والتعديل» (8/ 158). (4) «الضعفاء» (5/ 450 - 452). (5) «سنن أبي داود» (5036).

(3/392)


قال عبد الرحمن بن أبي حاتم (1): سمعت أبي يقول: عبيد بن رفاعة ليست له صحبة. وذكره البخاري في «تاريخه» (2) فقال: روى عن أبيه. وقال أبو القاسم البغوي (3): يقال: إنه أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وولد على عهده. وفي إسناده: يزيد بن عبد الرحمن، وهو أبو خالد المعروف بالدَّالاني، وقد تقدم الاختلاف في الاحتجاج به. 641/ 4872 - وعن إياس بن سَلَمة بن الأكْوَع، عن أبيه - رضي الله عنه - أن رجلًا عطس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: «يرحمك الله»، ثم عطس فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الرجل مزكوم». وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (4). قال ابن القيم - رحمه الله -: هذا لفظ أبي داود، ولفظ مسلم: «ثم عطس أخرى ... ». ولفظ النسائي (5): ثم عطس الثانية، فقال: «إنه مزكوم». وأما ابن ماجه فلفظه: «يشمت العاطس ثلاثًا فما زاد فهو مزكوم»، رواه _________ (1) في «الجرح والتعديل» (5/ 406)، وانظر أيضًا «المراسيل» له (ص 135). (2) (5/ 447). (3) لم أجده في الموجود من «معجم الصحابة» له، وبمثله قال أبو نعيم في «معرفة الصحابة» (4/ 1902). (4) أبو داود (5037)، ومسلم (2993)، والترمذي (2743)، والنسائي في «الكبرى» (9980)، وابن ماجه (3714). (5) في الأصل: «مسلم» سهو أو سبق قلم، وقد سبق لفظ مسلم والآتي لفظ النسائي.

(3/393)


عن علي بن محمد، حدثنا وكيع، عن عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (1). وهذا يوافق رواية أبي هريرة، وعبيد بن رفاعة في حدّ ذلك بالثلاث. وأما الترمذي فلفظه فيه: عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: عطس رجل عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنا شاهد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يرحمك الله»، ثم عطس الثانية أو الثالثة (2)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هذا رجل مزكوم». رواه من حديث سويد عن ابن المبارك عن عكرمة بن عمار. ثم قال: حدثنا محمد بن بشّار حدثنا يحيى بن سعيد (3) حدثنا عكرمة بن عمار عن إياس بن سلمة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه إلا أنه قال له في الثالثة: «إنك مزكوم». قال الترمذي: وهذا أصح من حديث ابن المبارك، وقد روى شعبة عن عكرمة بن عمار هذا الحديث نحو رواية يحيى بن سعيد. 21 - باب فيمن عطس ولم يحمد الله 642/ 4874 - عن أنس - رضي الله عنه - قال: عطس رجلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فشمَّتَ أحدَهما وترك الآخرَ، قال: فقيل: يا رسول الله، رجلان عَطَسَا فَشَمَّتَّ أحدهما ــ قال أحمد (وهو ابن يونس): فَسَمَّتَّ أحدهما ــ وتركت الآخر؟ فقال: «إنَّ هذا _________ (1) رواته ثقات، ولكن متنه مخالف لسائر الروايات عن عكرمة بن عمّار في تكرار التشميت وفي جعله كله من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر: «الفتح» (10/ 605). (2) «أو الثالثة» ليس في نسخة الكروخي الخطية، ولا في النسخة التي كانت عند الحافظ ابن حجر كما في «الفتح» (10/ 605)، وأشار محقق ط. دار الصديق أن في بعض النسخ الخطية زيادة: «والثالثة»، وكذلك عند المؤلف في «زاد المعاد» (2/ 402). (3) تحرّف الإسناد في ط. الفقي إلى: «محمد بن يسار، عن يحيى بن يسار، عن يحيى بن سعيد»!

(3/394)


حَمِدَ الله، وإنَّ هذا لم يحمَد الله». وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد تقدم (2) حديث أبي هريرة وفيه: «فإذا عطس أحدكم وحمد الله كان حقًّا على كلّ مسلم سمعه أن يقول: يرحمك الله». وترجم الترمذي على حديث أنس: «باب ما جاء في إيجاب التشميت بحمد العاطس»، وهذا يدل على أنه واجب عنده، وهو الصواب للأحاديث الصريحة والظاهرة في الوجوب من غير معارض والله أعلم: فمنها: حديث أبي هريرة، وقد تقدم. ومنها: حديثه الآخر: «خمس تجب للمسلم على أخيه»، وقد تقدم. ومنها: حديث سالم بن عبيد، وفيه: «وليقل له من عنده: يرحمك الله» (3). ومنها: ما رواه الترمذي (4) عن علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «للمسلم _________ (1) أبو داود (5039)، والبخاري (6221، 6225)، ومسلم (2991)، والترمذي (2742). (2) لم يتقدم معنا، فلعل المؤلف كان قد ذكره في التعليق على بعض الأحاديث ففات المجرِّد نقله. وهو مخرّج في البخاري (6226). (3) أخرجه أحمد (23852)، وأبو داود (5031)، والترمذي (2740)، والنسائي في «الكبرى» (9982 - 9988)، وابن حبان (599)، والحاكم (4/ 267)، وفي إسناده اختلاف واضطراب وجهالة، وقد تقدّم في باب ما جاء في تشميت العاطس (ص 388 - 390). (4) برقم (2736)، وأخرجه أحمد (673)، والدارمي (2675)، وابن ماجه (1433) كلهم من طريق أبي إسحاق، عن الحارث الأعور، عن علي. والحارث يضعّف في الحديث على كثرة ملازمته لعلي وسعة روايته عنه، وحسّن الترمذي حديثه هذا لما له من الشواهد.

(3/395)


على المسلم ست بالمعروف: يُسلّم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، ويشمّته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويتبع جنازته إذا مات، ويحب له ما يحب لنفسه». قال هذا حديث حسن، قد روي من غير وجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد تكلم بعضهم في الحارث الأعور، وفي الباب عن أبي هريرة، وأبي أيوب، والبراء، وأبي مسعود. ومنها: ما رواه الترمذي (1) عن أبي أيوب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله (2) على كل حال، وليقل الذي يرد عليه: يرحمك الله، وليقل هو: يهديكم الله ويصلح بالكم». فهذه أربع طرق من الدلالة: أحدها: التصريح بثبوت وجوب التشميت بلفظه الصريح الذي لا يحتمل تأويلًا. الثاني: إيجابه بلفظ الحق. الثالث: إيجابه بلفظة «على» الظاهرة في الوجوب. _________ (1) برقم (2741)، وأخرجه أيضًا أحمد (23557)، والنسائي في «الكبرى» (9970)، والحاكم (4/ 266)، كلهم من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أخيه عيسى، عن أبيه عبد الرحمن عن أبي أيوب. وأعله الترمذي والنسائي والدارقطني في «العلل» (403) والحاكم بمحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى فإنه سيئ الحفظ وقد اضطرب في إسناده فتارة يقول: عن أبي أيوب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتارة يقول: عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (2) بعده في الأصل و (هـ) والطبعتين: «وليقل»، وهي مقحمة تفسد السياق.

(3/396)


الرابع: الأمر به. ولا ريب في إثبات واجبات كثيرة بدون هذه الطرق، والله تعالى أعلم. 22 - باب ما يقول إذا أصبح وأمسى 643/ 4903 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول إذا أصبح: «اللهم بكَ أصْبَحنا، وبك أمسينا، وبك نَحْيَا وبك نموتُ، وإليك النشور. وإذا أمسَى قال: اللهم بك أمسينا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك النشور». وأخرجه النسائي وابن ماجه والترمذي (1)، وحسنّه. قال ابن القيم - رحمه الله -: [لفظ الترمذي: عن أبي هريرة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلِّم أصحابه يقول: «إذا أصبح أحدكم فليقل: اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك المصير، وإذا أمسى فليقل: اللهم بك أمسينا وبك أصبحنا (2) وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور». وقال: حسن صحيح (3). وإسناده على شرط مسلم، رواه جماعة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة] (4). ولفظ النسائي فيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا أصبح: «اللهم بك _________ (1) أبو داود (5068)، والترمذي (3391)، والنسائي في «الكبرى» (9752، 10323)، وابن ماجه (3868). (2) «وبك أصبحنا» سقط من (هـ)، وواستُدرك من «الجامع». (3) الذي في «جامع الترمذي» المطبوع، ونسخة الكروخي الخطية، و «تحفة الأشراف» (9/ 408): «حسن» فقط. (4) ما بين الحاصرتين من (هـ)، ولم يذكره المجرّد ولا أشار إليه.

(3/397)


أصبحنا، وبك أمسينا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك النشور» فقط (1). ورواه أبو حاتم بن حبان في «صحيحه» (2) وقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا أصبح: «اللهم بك أصبحنا، وبك أمسينا، [ق 268] وبك نحيا، وبك نموت، وإليك النشور»، وإذا أمسى قال: «اللهم بك أمسينا، وبك أصبحنا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك المصير». فرواية أبي داود فيها «النشور» في المساء والصباح (3). ورواية الترمذي فيها «النشور» في المساء و «المصير» في الصباح. ورواية ابن حبان فيها «النشور» في الصباح و «المصير» في المساء (4)، _________ (1) هذا في الموضع الأول في «الكبرى» برقم (9752)، وفي الموضع الثاني (10323) أتم منه بذكر ما كان يقوله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمسى. (2) (965 - الإحسان) ولكن سقط منه ذكر المساء، وهو ثابت في «التقاسيم والأنواع» (6586) و «موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان» (2354)، وذِكر الصباح فيهما بلفظ: «وإليك المصير وإليك النشور» بالجمع بينهما، وفي «الإحسان»: «وإليك المصير» فقط، ولعله بسبب انتقال النظر إلى آخِر ذِكر المساء ولذا سقط ذكر المساء منه، وأما الجمع بينهما فأخشى أن يكون الأول كان عليه علامة الضرب أو كتب في الهامش إشارة إلى أنه في بعض النسخ فأقحمه الناسخ في المتن. (3) هكذا كتبه ناسخ الأصل أوّلًا وهو الصواب، ثم غيّر واو العطف إلى «في» وزاد في الهامش: «والمصير» فصارت العبارة كما في الطبعتين: «و (المصير) في الصباح»، وهو خطأ مخالف لرواية أبي داود. وفي (هـ) على الصواب ولكن بتقديم وتأخير: «في الصباح والمساء». (4) وهكذا أيضًا رواية البخاري في «الأدب المفرد» (1199)، والنسائي في «الكبرى»، في الموضع الثاني.

(3/398)


وهي أولى الروايات أن تكون محفوظة، لأن الصباح والانتباه من النوم بمنزلة النشور وهو الحياة بعد الموت، والمساء والصيرورة إلى النوم بمنزلة الموت والمصير إلى الله. ولهذا جعل سبحانه النومَ (1) والانتباهَ بعده دليلًا على البعث والنشور، لأن النوم أخو الموت، والانتباه نشور وحياة؛ قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [الروم: 23]. ويدل عليه أيضًا ما رواه البخاري في «صحيحه» (2) عن حذيفة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استيقظ قال: «الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، وإليه النشور». 644/ 4912 - وعن أبي عَيَّاش - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن قال إذا أصبحَ: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كان له عَدْلُ رقبةٍ مِن وَلَدِ إسماعيل، وكُتِبَ له عَشرُ حسنات، وحُطَّ عنه عشرُ سيئاتٍ، ورُفع له عشر درجات، وكان في حِرزٍ من الشيطان حتى يُمسي، وإن قالها إذا أمسى كان له مثلُ ذلك حتى يصبح». قال في حديث حماد بن سلمة: فرأى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرى النائم، فقال: يا رسول الله، إن أبا عَيَّاش يُحَدِّثُ عنك بكذا وكذا؟ قال: «صَدَقَ أبو عياش» (3). _________ (1) كتب الناسخ أوّلًا «الموت» ثم صححه في الهامش بما هو مثبت، وفي ط. الفقي: «جعل الله سبحانه في النوم الموت»! (2) برقم (6312)، وأخرجه مسلم (2711) أيضًا. (3) «سنن أبي داود» (5077) من طريق حمّاد بن سلمة ووهيب، كلاهما عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، ثم اختلفا فقال وهيب: «عن ابن أبي عائش»، وقال حمّاد: «عن أبي عيّاش».

(3/399)


قال أبو داود: رواه إسماعيل بن جعفر عن سهيل عن أبيه عن ابن عائش. وقال الخطيب: عند القاضي أبو عمر الهاشمي (1) ــ يريد شيخَه ــ: «عن ابن أبي عائش»، وكذا عند غيره. وأخرجه النسائي وابن ماجه (2)، وفي حديثهما: عن أبي عياش الزُّرَقي. واسمه زيد بن الصامت، وقيل: غير ذلك. وقال أبو أحمد الكرابيسي (3): «له صحبة» وذكر له هذا الحديث، وقال: «وليس حديثه من وجه صحيح» (4). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد أخرجا في «الصحيحين» (5) عن أبي أيوب _________ (1) هو القاضي مسند العراق القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي العبّاسي (ت 414)، روى «السنن» عن أبي علي اللؤلؤي عن أبي داود، قال الخطيب في «التاريخ» (14/ 462): سمعت منه «سنن أبي داود» بالبصرة. ورواية المنذري «للسنن» من طريق الخطيب. (2) النسائي في «الكبرى» (9771)، وابن ماجه (3867)، كلاهما من طريق حمّاد بن سلمة به. (3) هو أبو أحمد الحاكم الكبير (ت 378)، وكتابه «الأسامي والكنى» لم يصلنا كاملًا، وليس «أبو عيّاش» في القدر المطبوع. (4) كلام المنذري مثبت من (هـ)، وفيه اختصار من المؤلف عمّا في «المختصر». (5) البخاري (6404)، ومسلم (2693)، ولفظ البخاري: «كمن أعتق رقبةً من ولد إسماعيل» وسيأتي، ولفظ مسلم: «أربعة أنفس» لا «عشرة أنفس» على ما ذكره المؤلف، وإنما جاء ذلك من طرق أخرى للحديث عند أحمد (23516، 23546، 23567)، والنسائي في «الكبرى» (9768)، وغيرهما.

(3/400)


الأنصاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات كان كمن أعتق عشرة أنفس من ولد إسماعيل». وقال البخاري: «رقبة من ولد إسماعيل» رواه تعليقًا (1). وفي «الصحيحين» (2) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائةَ مرةٍ كانت له عَدل عشر رقاب، وكتبت له مائةٌ حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حِرزًا من الشيطان يومَه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك، ومن قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حُطّت خطاياه وإن كانت مثلَ زبد البحر». فهذا الحديث يدل على أن كلَّ رقبة يعدلها عشرُ مرات تهليلًا، وهو يوافق رواية البخاري في الحديث الذي قبله. وحديث أبي عيّاش (3) يدل على أن كل مرة برقبة، ويوافقه حديث أبي أيوب الذي رواه مسلم (4)، ولكن حديث أبي أيوب قد اختَلَف فيه البخاري ومسلم كما ذكرناه. وحديث أبي هريرة صريح بأن المائة مرّةً تعدل عشر رقاب ولم يُختلف فيه، فيترجح من هذا الوجه على خبر أبي أيوب، وتترجح رواية مسلم في حديث أبي أيوب _________ (1) بل هو موصول، ولكن حصل في رواية أبي ذر للبخاري تقديم وتأخير بين الأسانيد، فتأخر هذا الإسناد الموصول عن بعض الروايات المعلّقة مما أوهم أنه معلّق أيضًا. انظر: «الفتح» (11/ 202 - 203). (2) البخاري (6403، 6405)، ومسلم (2691). (3) ط. الفقي هنا وفي الموضعين الآتيين: «ابن عباس»، تحريف. (4) سبق التنبيه على أن لفظ مسلم: «أربعة أنفس» لا «عشرة».

(3/401)


بحديث أبي عيّاش المتقدم، فقد تقابل الترجيحان. وقد يقال: خبر أبي عيّاش قد تكلِّم فيه وأنه لا يصح، وخبر أبي أيوب قد اختلف في لفظه، وخبر أبي هريرة صحيح لا علة فيه ولا اختلاف فوجب تقديمه، والله أعلم. وقد روى الترمذي (1) من حديث زيد بن أبي أنيسة [عن شَهر بن حَوشب] عن عبد الرحمن بن غَنْم عن أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قال في دبر صلاة الفجر وهو ثان رجلَيه قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات، كتبت (2) له عشر حسنات، ومُحي عنه عشرُ سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان يومه ذلك كله في حِرزٍ من كلّ مكروه وحرس من الشيطان، ولم ينبغِ لذنب أن يدركه ذلك اليوم إلا الشرك بالله». قال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وأما الحديث الذي رواه الترمذي في «جامعه» عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كُتب له ألفُ ألفِ حسنة، ومحي عنه ألفُ ألفِ سيئة، ورُفع له ألفُ ألفِ درجة» = فهو حديث معلول لا يثبت مثله. وذكر له الترمذي طرقًا: _________ (1) برقم (3474)، وما بين الحاصرتين مستدرك منه. وهو ضعيف لاضطراب شهر بن حوشب في إسناده. انظر: «العلل» للدارقطني (966). (2) في الطبعتين: «كتب» خلافًا للأصل ولفظ الترمذي.

(3/402)


أحدها: أحمد بن منيع: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا أزهر بن سنان، حدثنا محمد بن واسع قال: قدمت مكة فلقيني أخي سالم بن عبد الله بن عمر، فحدثني عن أبيه عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... » فذكره، وقال هذا حديث غريب (1). والثاني: رواه عمرو بن دينار قَهْرَمان آل الزبير (2) عن سالم نحوه. قال الترمذي (3): حدثنا أحمد بن عبدة (4)، حدثنا حماد بن زيد والمعتمر بن سليمان قالا: حدثنا عمرو بن دينار ــ وهو قَهْرَمان آل الزبير ــ عن سالم عن أبيه عن جده وقال: «وبُني له بيت في الجنة» ولم يقل «ألف ألف درجة». والثالث: رواه يحيى بن سليم الطائفي عن عمران بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر عمر. ذكره الترمذي (5) تعليقًا عن يحيى. فأما الطريق الأولى فهي أمثل طرقه، وأزهر بن سنان لا بأس به، وقد _________ (1) «جامع الترمذي» (3428)، وأخرجه أيضًا الدارمي (2734)، والحاكم (1/ 538)، والضياء في «المختارة» (1/ 297، 298)، كلهم من طريق أزهر بن سنان به. (2) «القَهْرَمان» هو القائم بأمور الرجل كالوكيل ونحوه، ولذا يقال لعمرو بن دينار هذا «وكيل آل الزبير» أيضًا، وهو مجمع على ضعفه. انظر: «الجرح والتعديل» (6/ 232)، و «لسان العرب» (قهرم). (3) في «جامعه» (3429). وأخرجه من هذا الطريق أيضًا أحمد (327)، وابن ماجه (2235). (4) بعده في الأصل: «حماد بن عبدة» سهو من الناسخ. (5) عقب الحديث (3429)، ووصله في «العلل الكبير» (ص 363)، وأخرجه أيضًا البزار (6140)، والحاكم (1/ 539).

(3/403)


تكلم فيه بعض الأئمة (1)، وقد ذكر حديثه هذا الحافظ أبو عبد الله المقدسي في «المختارة». وأما [ق 269] الطريق الثانية: ففيها عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير، قال البخاري في «التاريخ» (2): فيه نظر. وذكر هذا الإسناد بعينه ولم يذكر له متنًا فقال: قال موسى بن عبد الرحمن: حدثنا زيد بن حُباب (3)، حدثنا سعيد بن زيد عن عمرو بن دينار مولى الأنصار عن سالم عن أبيه عن عمر. وقال الترمذي (4): تكلم فيه بعض أصحاب الحديث وقد روى عن سالم أحاديث لا يتابع عليها. وأما الطريق الثالثة: ففيها عمران بن مسلم، وليس هو عمران بن مسلم القَصِير فإن ذاك من رجال الصحيح، وهذا منكر الحديث، قاله البخاري وغيره (5). وقد قيل: إنه القصير (6)، والله أعلم. _________ (1) قال ابن عدي: أرجو أن لا يكون به بأس، ولكن ضعَّفه ابن معين وابن المديني جدًّا. انظر: «تهذيب التهذيب» (1/ 203). (2) (6/ 329). (3) في الطبعتين: «خباب» بالخاء المعجمة، خطأ. (4) عقب الحديث. (5) انظر: «العلل الكبير» للترمذي (ص 363)، و «التاريخ الكبير» (6/ 419)، و «الجرح والتعديل» (6/ 305). (6) قاله ابن أبي حاتم والدارقطني، وجعلا الحمل فيه على يحيى بن سليم حيث رواه عن عمران فقلب اسم «عمرو بن دينار» إلى «عبد الله بن دينار» وأسقط سالمًا من الإسناد، وغير يحيى يرويه عن عمران عن عمرو بن دينار عن سالم به على الصواب. انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (2038) وللدارقطني (2812).

(3/404)


23 - باب في الصبي يولد فيؤذَّن في أذنه 645/ 4944 - وعن أم حميد، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «هَل رُئِيَ ــ أو كلمةً غيرها ــ فِيكُم المُغَرِّبُون؟» قلت: وما المغربون؟ قال: «الذين يشتركُ فيهم الجِنُّ» (1). أم حميد لم تُنسب، ولم يُعرف اسمها. والمُغرِّبون معناه: جاءوا من نسبٍ بعيد لانقطاعهم عن أصولهم وبُعد نسبهم، ومنه سمّي الغريب لبُعده وانقطاعه عن وطنه وأهله (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد تكلّم في نكاح الجن للإنس الإمام أحمد وغيره (3)، والكلام فيه في أمرين: في وقوعه، وفي حكمه. أما وقوعه فهذا الحديث يدل عليه، وقد جرى ذلك كثيرًا. وأما حكمه فمنع منه أحمد، ذكره القاضي أبو يعلى. 24 - في الوسوسة 646/ 4947 - عن أبي زُمَيل قال: سألتُ ابن عباس فقلت: ما شيءٌ أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قلت: واللهِ لا أتكلَّم به، قال: فقال لي: أشيء من شَكٍّ؟ قال: وضحك، قال: ما نجا من ذلك أحد، قال: حتى أنزل الله عز وجل: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} الآية [يونس: 94]، قال: فقال لي: فإذا وجدتَ في نفسك شيئًا فقل: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3] (4). _________ (1) «سنن أبي داود» (5107)، وإسناده ضعيف لجهالة حال أم حميد. (2) كلام المنذري من (هـ)، وفيه اختصار وتصرف من المؤلف. (3) انظر: «الفروع» (2/ 462). (4) «سنن أبي داود» (5110). قال النووي في «الأذكار»: إسناده جيّد، واستنكر الحافظ ابن حجر متنه في «نتائج الأفكار» (4/ 137) لأنه يخالف ما صحَّ عن ابن عباس من غير وجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشكّ ولم يسأل. قلتُ: وفي هذا الاستنكار نظر، إذ الحديث ليس صريحًا في مخالفة ذلك.

(3/405)


أبو زُميل هو سِماك بن الوليد الحنفي، وقد احتج به مسلم. 647/ 4948 - وعن سُهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: جاءه أُناسٌ من أصحابه فقالوا: يا رسول الله، نَجِد في أنفسنا الشيءَ نُعظِمُ أن نتكلَّم به ــ أو الكلامَ به ــ، ما نُحبُّ أنَّ لنا وأنَّا تكلمنا به، قال: «أَوَقَد وجدْتُمُوهُ؟» قالوا: نعم، قال: «ذاكَ صَريح الإيمان». وأخرجه مسلم والنسائي (1). 648/ 4949 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن أحدَنا يَجِدُ في نفسه ــ يُعَرِّضُ بالشيء ــ لأَن يكونَ حُمَمَةً أحبُّ إليه من أن يتكلم به، فقال: «الله أكبر! الله أكبر! الحمد لله الذي ردَّ كَيْدَه إلى الوسوسة». قال ابن قدامة ــ وهو محمد ــ: «رد أمره» مكان «ردَّ كيده». وأخرجه النسائي (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: في «الصحيحين» (3): «إن الله تجاوز لأمتي عمّا حدثت به أنفسها، ما لم يتكلموا أو يعملوا به». _________ (1) أبو داود (5111)، ومسلم (132)، والنسائي في «الكبرى» (10426). (2) أبو داود (5112)، والنسائي في «الكبرى» (10435). وصححه ابن حبان (147)، واختاره الضياء (11/ 83 - 86)، وقال العراقي في «تخريج الإحياء» (2/ 935): إسناده جيّد. (3) البخاري (2528، 5269، 6664) ومسلم (127) من حديث أبي هريرة.

(3/406)


25 - في التفاخر بالأحساب 649/ 4953 - عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله عز وجل قد أذهبَ عنكم عُبِّيَّةَ الجاهلية وفخرَها بالآباء؛ مؤمِنٌ تقِيٌّ، وفاجرٌ شَقي، أنتم بنو آدمَ وآدمُ من تراب، لَيَدَعَنَّ رجالٌ فَخْرَهم بأقوامٍ إنما هم فحمٌ من فحم جهنم، أو لَيَكُونُنَّ أهوَنَ على الله من الجُعْلان التي تَدْفَعُ بأَنْفِها النَّتن». وأخرجه الترمذي (1)، وقال: حسن صحيح. قوله: «عُبِّيَّة الجاهلية» بضم العين المهملة وكسرها. قال الخطابي (2): «العبية الكبر والنَّخْوة، وأصله من العِبْء، وهو الثقل». وأنكر بعضهم أن يكون من العبء. وقال غيره (3): إن كانت بالضم فهي من التعبئة، لأن المتكبر ذو تكلف وتعبئة بخلاف من يسترسل على سَجيَّته، وإن كانت بالكسر فهو من عُباب الماء، وهو زخيره وارتفاعه. وقوله: «مؤمن تقي، وفاجر شقي» معناه: أن الناس رجلان: مؤمن تقي، فهو الخيّر الفاضل وإن لم يكن حسيبًا؛ وفاجر شقي، فهو الدنيّ وإن كان في أصله شريفًا رفيعًا. الفحْم معروف ــ الواحدة: فحمة ــ، وقد يحرَّك مثل: نهْر ونهَر. ويقال أيضًا للفحم: فُحَيم. الأنف للإنسان وغيره، والجمع: آنُف، وأنوف، وآناف. الجُعَل: دُويبة معروفة، وجمعها: جُعلان (4). _________ (1) أبو داود (5116)، والترمذي (3955). (2) في «معالم السنن» (8/ 15). (3) كالزمخشري في «الفائق» (عبب). (4) لم يعيّن المجرّد القدر الذي نقله المؤلف من كلام المنذري، فرأيت إثباته كلَّه من مخطوطة «المختصر» (النسخة البريطانية)، وفي النسخة المطبوعة (8/ 16) بعض النقص مع تقديم وتأخير في شرح الغريب على خلاف ترتيبها في الحديث.

(3/407)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد أخرج الترمذي (1) من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس يوم فتح مكة فقال: «يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية وتعاظُمَها بآبائها، فالناس رجلان: مؤمن تقي كريم على الله، وفاجر شقي هيّن على الله، والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]». قال: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث عبد الله بن دينار إلا من هذا الوجه، وعبد الله بن جعفر ــ والد علي ــ يُضعّف، ضعفه يحيى وغيره (2). وفي الترمذي (3) أيضًا من حديث الحسن عن سمرة يرفعه: «الحسب _________ (1) برقم (3270) من طريق عبد الله بن جعفر (والد علي ابن المديني)، عن عبد الله بن دينار به. (2) ولكنه توبع، تابعه الإمام الثقة موسى بن عقبة عن عبد الله بن دينار به. أخرجه ابن حبان (3828). (3) برقم (3271)، وأخرجه أيضًا ابن ماجه (4219)، والحاكم (2/ 163)، كلهم من طريق سلَّام بن أبي مطيع عن قتادة عن الحسن به. ولإسناده علّتان: الأولى: أن سلّام بن أبي مطيع، وإن كان ثقة من رجال الصحيحين، إلا أنه ليس بمستقيم في قتادة خاصة، ينفرد عنه بأشياء لا يُتابع عليها، وهذا منها، وقد قال الترمذي: «حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث سلَّام بن أبي مطيع». وانظر: «الكامل» (3/ 308). الثانية: الخلاف في سماع الحسن من سمرة، وقد تقدم الكلام فيه.

(3/408)


المال، والكرم التقوى». قال: هذا حديث حسن صحيح غريب. 26 - باب إخبار الرجل بمحبته 650/ 4961 - عن حبيب بن عبيد ــ وهو الرَّحَبِي الشامي ــ عن المِقدام بن معديْكَرب وقد كان أدركه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أحَبَّ الرجلُ أخاه فليُخبِرْه أنه يحبُّه». وأخرجه النسائي والترمذي (1)، وقال: حسن صحيح غريب. آخر كلامه. وقد روي من حديث أبي سعيد الخدري (2)، وفيه مقال. ورواه منصور بن المعتمر، عن عبد الله بن مرّة، عن عبد الله بن عمر (3). وقد _________ (1) أبو داود (5124)، والترمذي (2392)، والنسائي في «الكبرى» (9963)، وأخرجه أيضًا البخاري في «الأدب المفرد» (542)، وابن حبان (570)، والحاكم (4/ 171). (2) أخرجه القضاعي في «مسند الشهاب» (766) والذهبي في «معجم شيوخه» (2/ 379)، وقال: «إسناده صالح». وفي إسناده كثير بن زيد الأسلمي، وهو صدوق فيه لين كما قال أبو زرعة، وقال الإمام أحمد: ما أرى به بأسًا، وقال أبو حاتم: صالح ليس بالقوى يكتب حديثه، وقال النسائي: ضعيف. (3) أخرجه الخرائطي في «اعتلال القلوب» (471)، والطبراني في «الكبير» (13/ 207)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (8595)، كلهم من طريق عبد الله الحَجَبي عن أبي عوانة عن منصور به. ظاهر إسناده الصحة، ولكنه معلول، أخطأ فيه الحجبي فقلب إسناده، وقد أخبر هو بذلك ــ كما في «اعتلال القلوب» (472) ــ وذكر أن الصواب عن أبي عوانة عن أبي بَلْجٍ عن عمرو بن ميمون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا.

(3/409)


روي عن ابن عمر من وجوه، هذا أصحُّها، وهو على شرط «الصحيحين» ولم يُخرجاه. وأخرجا (1) بإسناده حديثًا في النذور، وهو ما رواه منصور عن عبد الله مرّة عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن النذر وقال: «إنه لا يردُّ شيئًا، ولكنه يُستخرج به من البخيل» (2). 651/ 4962 - وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رجلًا كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمرَّ به رجلٌ، فقال: يا رسول الله، إني لأحِبُّ هذا، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَعلَمْتَه؟» قال: لا، قال: «أَعلِمْه»، قال: فلحِقَه فقال: إنِّي أحبُّك في الله، فقال: أحبَّك الذي أحببتَني له (3). فيه المبارك بن فَضالة أبو فضالة القرشي العدوي مولاهم البصري، وثقه عفان، واستشهد به البخاري، وضعَّفه الإمام أحمد وابن معين والنسائي، وتكلم فيه غيرهم (4). _________ (1) البخاري (6608) ومسلم (1639/ 2، 4). (2) الكلام السابق مثبت من (هـ)، أصله للمنذري في «المختصر» (8/ 22 - 23)، وقد تصرّف فيه المؤلف وزاد نص الحديث في النذر الذي كان المنذري أشار إليه نقلًا عن أبي الفضل المقدسي أنه مخرَّج في «الصحيحين» بالإسناد المذكور. (3) «سنن أبي داود» (5125) من طريق مبارك بن فَضالة، عن ثابت، عن أنس. ومبارك فيه لين، ولكن تابعه عليه الحسين بن واقد عند أحمد (12430) وابن حبان (571). وخالفهما حمّاد بن سلمة فرواه عن ثابت عن حبيب بن أبي سُبَيعة عن الحارث عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه النسائي في «الكبرى» (9940، 9941). ورواية حمّاد هي الصحيحة، كما قال أبو حاتم والنسائي والدارقطني، وأما غير حمّاد فوهم ولزم الطريق المشهورة: ثابت عن أنس. انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (2237) وللدارقطني (2361). (4) انظر: «تهذيب التهذيب» (10/ 28 - 31).

(3/410)


قال ابن القيم - رحمه الله - (1): أخرج الترمذي (2) عن يزيد بن نَعامة الضبّي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا آخى الرجلُ الرجلَ فليسألْه عن اسمِه واسمِ أبيه وممن هو، فإنه أَوصَل للمودة». قال: هذا حديث غريب (3). 652/ 4963 - وعن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه قال: يا رسول الله، الرجلُ يحبُّ القوم ولا يستطيع أن يعمل بعملهم، قال: «أنت يا أبا ذر مع من أحببت»، قال: فإني أحبُّ الله ورسوله، قال: «فإنك مع من أحببت»، قال: فأعادها أبو ذر، فأعادها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4). وفي «الصحيحين» (5) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، كيف ترى في رجلٍ أحبَّ قومًا ولمَّا يلحق بهم؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المرءُ مع مَن أحبَّ». 653/ 4964 - وعن ثابت، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ما رأيت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَرِحُوا بشيءٍ أشدَّ منه، قال رجلٌ: يا رسول الله، الرجلُ _________ (1) لم يحدّد المجرد موضع تعليق ابن القيم من الباب، وساق هذا التعليق مع الذي يأتي بعده مساقًا واحدًا، والتحديد والفصل مستفاد من (هـ). (2) برقم (2392) وقال: «هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ولا نعرف ليزيد بن نعامة سماعًا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويُروى عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا ولا يصحّ إسناده». (3) لم يحدّد المجرد موضع تعليق ابن القيم في الباب، بل وساق هذا التعليق مع التعليق الآتي مساقًا واحدًا، والتحديد والفصل مستفاد من (هـ). (4) «سنن أبي داود» (5126). وأخرجه أيضًا أحمد (21379)، والبخاري في «الأدب المفرد» (351)، وابن حبان (556)، وسيأتي تصحيحه المؤلف له. (5) البخاري (6168، 6169) ومسلم (2640).

(3/411)


يحبُّ الرجلَ على العمل من الخير يعمل به ولا يعمل بمثله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المرءُ مع من أحبَّ». وأخرجه البخاري ومسلم (1) بمعناه وأتم منه. قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي «الصحيحين» (2): عن أنس أن أعرابيًّا قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: متى الساعة؟ قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أعددت لها؟» قال: حُبَّ الله ورسوله، قال: «أنت مع من أحببت». وفي رواية (3): «ما أعددتُ لها من كثير صوم ولا صلاة ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله». وفي «الصحيحين» (4) عن أبي موسى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المرء مع من أحب». وروى الترمذي (5) من حديث زِرّ بن حُبَيش عن صفوان بن عسّال قال: جاء أعرابي جَهْوَرِيُّ الصوت قال: يا محمد، الرجل يحب القوم ولمّا يلحقْ بهم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المرء مع من أحب». قال الترمذي: حديث حسن صحيح. _________ (1) أبو داود (5127)، والبخاري (6127)، ومسلم (2639). (2) البخاري (3688) ومسلم (2639/ 161). (3) البخاري (6171) ومسلم (2639/ 164). (4) البخاري (6170) ومسلم (2641). (5) برقم (2387)، وأخرجه أيضًا أحمد (18091)، والنسائي في «الكبرى» (11114)، وابن حبان (562).

(3/412)


وفي «صحيح مسلم» (1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابُّون بجلالي؟ اليوم أُظلّهم في ظلي يوم لا ظِلَّ إلا ظلّي». وفي الترمذي (2) عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «قال الله تعالى: المتحابُّون في جلالي لهم منابر من نور، يغبطهم النبيون والشهداء». قال: وفي الباب عن أبي الدرداء، وابن مسعود، وعبادة بن الصامت، وأبي هريرة، وأبي مالك الأشعري (3)، وهذا حديث حسن صحيح. وفي «الصحيحين» (4): عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاث من كنّ فيه وجد بهنّ حلاوةَ الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرءَ لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار». وفي «الصحيحين» (5) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سبعة يظلهم _________ (1) برقم (2566). (2) برقم (2390)، وأخرجه أيضًا أحمد (22002، 22064)، وابن حبان (577)، والحاكم (1/ 168 - 170). (3) انظر لهذه الأحاديث وتخريجها: «نزهة الألباب في قول الترمذي: وفي الباب» للوائلي (5/ 3204 - 3211). وأخرج أكثرَها ابنُ أبي الدنيا في أوائل كتاب «الإخوان». (4) البخاري (16، 21، 6941) ومسلم (43). (5) البخاري (660) ومسلم (1031).

(3/413)


الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلّق في المساجد، ورجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل دعتْه امرأةٌ ذات منصِب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه». وفي «صحيح مسلم» (1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم». وروى مالك في «الموطأ» (2) بإسناد صحيح عن أبي إدريس الخولاني قال: دخلتُ مسجد دمشقَ فإذا فتًى برّاقُ الثنايا وإذا الناس معه، وإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه وصدروا عن رأيه، فسألت عنه؟ فقيل: هذا معاذ بن جبل، فلما كان من الغد هجّرت، فوجدته قد سبقني بالتهجير، ووجدته يصلي، فانتظرته [ق 270] حتى قضى صلاته، ثم جئته من قِبَل وجهه فسلّمت _________ (1) برقم (54). (2) برقم (2744)، ومن طريقه أحمد (22030)، وابن حبان (575)، والحاكم (4/ 168 - 169). وأخرجه أحمد (22002)، والطبراني في «الكبير» (20/ 81)، والحاكم (4/ 169 - 170) من طرق عن أبي إدريس الخولاني بأطول منه، وفيه أن معاذًا إنما حدّثه بحديث أن المتحابين على منابر من نور يغبطهم النبيون ... إلخ، ثم لقي عبادةَ بن الصامت فحدّثه عبادةُ بالحديث القدسي: «حَقّت محبتي للمتحابين فيّ ... » إلخ. وأخرجه أحمد (22064) وابن حبان (577) إلا أن فيه أبا مسلم الخولاني بدل أبي إدريس. وانظر: «العلل» للدارقطني (986).

(3/414)


عليه، ثم قلت: والله إني لأحبك، فقال: آلله؟ قلت: آلله، فقال: آلله؟ قلت (1): آلله، فأخذ بحبوة ردائي فجبذني إليه فقال: أبشر، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذلين في». وفي «صحيح مسلم» (2) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أن رجلًا زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله على مَدْرَجَته مَلَكًا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربُّها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه». وحديث: «المرء مع من أحب» رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنس بن مالك، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري، وعلي بن أبي طالب، وأبو سعيد الخدري، وأبو ذر، وصفوان بن عسّال، وعبد الله بن يزيد الخطمي، والبراء بن عازب، وعروة بن مُضرِّس، وصفوان بن قُدامة الجُمَحي، وأبو أمامة الباهلي، وأبو سريحة الغفاري، وأبو هريرة، ومعاذ بن جبل، وأبو قتادة الأنصاري، وعبادة بن الصامت، وجابر بن عبد الله، وعائشة، - رضي الله عنهم -. فحديث أنس متفق عليه، وحديث ابن مسعود متفق عليه أيضًا، وكذلك حديث أبي موسى، وقد تقدّمت. _________ (1) في الأصل: «قال» خطأ. (2) برقم (2567).

(3/415)


وأما حديث علي - رضي الله عنه -، فرواه أبو داود الطيالسي (1) عن شعبة عن مسلم الأعور عن حبّة العُرَني عن علي: أن رجلًا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: الرجل يحب القوم ولا يستطيع أن يعمل بعملهم؟ قال: «المرء مع مَن أحب». وأما حديث أبي سعيد الخدري، فرواه ابن أبي ليلى عن عطية العَوفي عنه مختصرًا: «المرء مع مَن أحب» (2). وأما حديث أبي ذر، فذكره أبو داود وإسناده صحيح. وأما حديث صفوان بن عسّال، فرواه الترمذي وصححه، وقد تقدم. وأما حديث عبد الله بن يزيد الخطمي، فرواه جماعة عن مسلم الأعور عن موسى بن عبد الله بن يزيد عن أبيه أن رجلًا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكره (3). وأما حديث البراء بن عازب، فرواه حسين بن منصور عن علي بن يزيد _________ (1) برقم (154)، وأخرجه البزار (746) أيضًا، وإسناده ضعيف لضعف مسلم بن كيسان الأعور واضطرابه، فقد روي الحديث عنه من مسند عبد الله بن يزيد الخطمي أيضًا، وسيأتي. (2) لم أجده، على أن ابن أبي ليلى على سوء حفظه قد خولف فيه، خالفه حجاج بن أرطاة فرواه عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن ابن مسعود. أخرجه البزار (1439) والطبراني في «الكبير» (10/ 13) وأبو نعيم في «ذكر أخبار أصبهان» (1/ 221) وفي «كتاب المحبّين» كما في «الفتح» (10/ 558). (3) أخرجه أبو القاسم البغوي في «معجم الصحابة» (2243)، وابن قانع في «معجم الصحابة» (2/ 114)، وأبو نعيم في «ذكر أخبار أصبهان» (1/ 66)، من طرق عن مسلم الأعور به. وإسناده ضعيف لضعف مسلم الأعور، وقد اضطَرب في إسناده كما سبق.

(3/416)


الصُّدائي عن العَرْزَمي عن أبي إسحاق عن البراء (1). وأما حديث عروة بن مُضرّس، فرواه زيد بن الحريش عن عمران بن عيينة أخي سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي عنه مرفوعًا: «المرء مع مَن أحب» (2). وأما حديث صفوان بن قدامة، فرواه الطبراني في «المعجم الكبير» (3) من حديث موسى بن ميمون المَرَإيّ (4) عن أبيه ميمون بن موسى، عن أبيه، _________ (1) لم أجده، وأخرجه الروياني في «مسنده» (313 ــ وفي إسناد المطبوع سقط وتصحيف)، وابن عساكر في «التاريخ» (5/ 483) من طريق الحسين بن علي بن يزيد الصُّدائي، عن أبيه، عن زكريا بن أبي زائدة (بدل العرزمي)، عن أبي إسحاق، عن البراء. إسناده ضعيف لضعف علي بن يزيد الصدائي، ولعل الاضطراب في تعيين اسمِ شيخه منه. (2) أخرجه الطبراني في «الكبير» (17/ 154)، و «الأوسط» (2206)، و «الصغير» (59) من طريق زيد بن الحريش به. وأخرجه ابن جُمَيع الصَّيداوي في «معجم شيوخه» (ص 299)، والخطيب في «التاريخ» (13/ 78) من طريق آخر عن عمران بن عيينة به. وإسناده لا بأس به في الشواهد. (3) (8/ 85)، وأخرجه أيضًا في «الأوسط» (2001) و «الصغير» (133) من هذا الطريق. وأخرجه أبو عوانة في «مستخرجه» (678) ــ ومن طريقه الضياء في «المختارة» (8/ 48) ــ من طريق سليمان بن كرّاز، عن مهدي بن موسى بن عبد الرحمن بن صفوان عن أبيه به. وكلا الإسنادين ضعيف لجهالة حال غير واحد من الرواة، فضلًا عن ضعف ميمون بن موسى في الأول وسليمان بن كرّاز في الثاني. (4) ط. المعارف: «المرائي» خطأ، وفي ط. الفقي: «المرئي» وهو صواب، ولكن رسمه في الأصل كما أثبتُّ، وهو كذلك في «الجرح والتعديل» (8/ 236)، وقد نصّ عبد الغني بن سعيد الأزدي في «مشتبه النسبة» (ص 73) أن الناس يكتبونه بالألف بين الراء والياء، وهو منسوب إلى امرئ القيس.

(3/417)


عن جده عبد الرحمن بن صفوان بن قدامة قال: هاجر أبي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعه على الإسلام وقال: إني أحبك يا رسول الله، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المرء مع مَن أحب». قال الفلاس (1): ميمون صدوق ضعيف. وأما حديث أبي أمامة الباهلي، فرواه محمد بن عرعرة وطالوت بن عبّاد عن فضَّال بن جبير عنه يرفعه: «لا يحب عبد قومًا إلا بعثه الله معهم» (2). وأما حديث أبي سَرِيحة، فمن رواية عبد الغفار بن القاسم ــ متروك ــ عن عمرو بن مُرّة عن عبد الله بن الحارث عن حبيب بن حِمَاز (3) عنه مرفوعًا: «المرء مع مَن أحب» (4). _________ (1) رسمه غير محرّر في الأصل، فتحرّف في (ش) والطبعتين إلى: «العلاء بن»، فصارت العبارة في ط. الفقي: «قال: العلاء بن ميمون صدوق ضعيف»، وفي ط. المعارف: «قال العلاء بن ميمون: صدوق ضعيف»! وكلام عمرو بن علي الفلّاس في ميمون بن موسى المرَإي نقله الذهبي في «الميزان» (4/ 234) بلفظ: «صدوق لكنه ضعيف الحديث». وهو بنحوه في «تهذيب الكمال» للمزي (7/ 296)، و «التكميل في الجرح والتعديل» لخَتَنه (1/ 304). (2) من طريق طالوت بن عبّاد أخرجه الطبراني في «الكبير» (8/ 315)، وإسناده واه، فضال بن جبير منكر الحديث يروي عن أبي أمامة ما ليس من حديثه. (3) في الطبعتين: «حماد» تصحيف. انظر: «الإكمال» لابن ماكولا (2/ 547). (4) أخرجه الطبراني في «الكبير» (3/ 183)، والخطيب في «المتفق والمفترق» (3/ 1621). قال الهيثمي (10/ 284): «فيه عبد الغفار بن القاسم الأنصاري وهو كذّاب».

(3/418)


وأما حديث أبي هريرة، فرواه غسّان بن الربيع عن موسى بن مُطَير عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا: «العبد عند ظنه بالله، وهو مع أحبابه يوم القيامة» (1). وأما حديث معاذ بن جبل، فروي عنه بإسناد لا يثبت مرفوعًا: «المرء مع مَن أحب» (2). وأما حديث أبي قتادة الأنصاري، فمن رواية ابن لهيعة حدثني أبو صخر عن يحيى بن النضر عن أبي قتادة (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو حديث أنس (4). وأما حديث عبادة بن الصامت، فرواه عبد القدوس بن محمد بن شعيب، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا همّام عن قتادة عن أنس عن عبادة بن الصامت مرفوعًا: «المرء مع مَن أحب» (5). _________ (1) أخرجه ابن عدي في «الكامل» (6/ 338) في ترجمة موسى بن مُطير، وهو متروك ذاهب الحديث، وكذّبه ابن معين. (2) أخرجه الطبراني في «الكبير» (20/ 74)، وفي إسناده الخَصِيبُ بن جَحْدَر، وهو كذّاب. (3) في الأصل: «أبي هريرة»، سهو. (4) أخرجه الطبراني في «الكبير» (3/ 242) و «الأوسط» (107)، وإسناده ضعيف من أجل ابن لهيعة، ولأن الراوي عنه عبد الله بن عبّاد العبّاداني، قال الهيثمي: لم أعرفه. «مجمع الزوائد» (10/ 283). (5) لم أقف عليه، وفي إسناده وهم من بعض الرواة فالحديث أخرجه البخاري (6167) قال حدثنا عمرو بن عاصم، نا همّام، عن قتادة عن أنس؛ وليس فيه عبادة بن الصامت. وقد روي الحديث من طرق عن همّام به، ومن طرق عن قتادة، ومن طرق عن أنس، وليس في شيء منها ذكر عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -. ولعل أحد الرواة اشتبه عليه إسناد هذا الحديث بحديث: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ... »، فإنه رواه الشيخان وغيرهما من طريق همام عن قتادة عن أنس عن عبادة بن الصامت.

(3/419)


وهو في البخاري عن عمرو بن عاصم [عن همّام] عن قتادة عن أنس من حديثه. وعبد القدوس هذا روى عنه البخاري. وأما حديث جابر، فرواه الحارث بن أبي أسامة (1) من حديث عكرمة بن عمار، حدثني سعيد، حدثني جابر بن عبد الله، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، متى تقوم الساعة؟ قال: «فما أعددت لها؟» قال: والله يا رسول الله ما أعددتُ لها، إني لضعيف العمل، وإني أحب الله ورسوله، قال: «فأنت مع من أحببت». وسعيد إن كان ابنَ المسيب فمنقطع (2)، وإن كان ابنَ مِينا فقد أدرك جابرًا. وأما حديث عائشة، فقال عبد الله: حدثنا هُدبة بن خالد، حدثنا همام _________ (1) في «مسنده» ــ كما في «بغية الباحث» (1106) ــ فقال: نا عبد الله بن الرومي، نا عُبادة بن عمر (في المخطوط والمطبوع: عُمارة بن عمير، تحريف)، نا عكرمة ... إلخ. في إسناده لين، عُبادة بن عمر لم يوثّقه أحد، ولذا قال الحافظ: «مقبول». وللحديث طريق آخر، أخرجه أحمد (14604) من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر مختصرًا بلفظ: «العبد مع من أحب». (2) كذا، ولم يتبيّن وجه كونه منقطعًا فإن ابن المسيب قد أدرك جابرًا وسمع منه، ففي البخاري (4153) أنه قال: حدثني جابر.

(3/420)


عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن شَيبة الخُضْري (1) عن عروة، عن عائشة مرفوعًا: «لا يحب أحدٌ قومًا إلا حُشر معهم يوم القيامة» (2). ورواه [ق 271] الطبراني في «معجمه» (3) أطول منه من حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة ترفعه: «ثلاث أحلف عليهن، والرابعة لو حلفت لرجوت أن لا آثم: ما جعل الله ذا سهم في الإسلام كمن لا سهم له، ولا يتولّى اللهَ عبد في الدنيا فيولّيه غيرَه يوم القيامة، والمرء مع من أحب، والرابعة لو حلفت عليها لرجوت أن لا آثم: لا يستر الله على عبد في الدنيا إلا ستره يوم القيامة». فقال عمر بن عبد العزيز: إذا سمعتم بمثل هذا الحديث عن عروة عن عائشة فاحفظوه. _________ (1) في الأصل والطبعتين: «الحضرمي» تصحيف. انظر: «مشتبه النسبة» (ص 26)، و «الإكمال» (3/ 161، 252)، و «تهذيب التهذيب» (4/ 378). (2) لم أجد رواية عبد الله ابن الإمام أحمد عن هدبة، وقد أخرجه أبو يعلى (4566) عن هدبة به مطولًا باللفظ الآتي. وأخرجه أيضًا أحمد (25121، 25271) وابن راهويه (863) والحاكم (1/ 19) من طرق عن همّام به مطوّلًا. وفي إسناده لين لجهالة شيبة الخُضْري فإنه لا يُعَرف. وقد صحّ مثله مطولًا عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، أخرجه معمر في «الجامع» (20318) ــ ومن طريقه البيهقي في «شعب الإيمان» (8597) ــ، وأبو داود في «الزهد» (135)، وأبو يعلى (4567)، والطبراني في «الكبير» (9/ 176)، من طرق جياد بعضها مرفوع وسائرها موقوف، وهو أشبه. (3) لم أجده عند الطبراني، وقد أخرجه أبو نعيم في «أخبار أصبهان» (1/ 268) ــ ولعله في «كتاب المحبين» أيضًا ــ من هذا الطريق، وليس بمحفوظ من حديث الزهري عن عروة، وإنما يُعرف من حديث شيبة الخُضْري عن عروة.

(3/421)


27 - باب في برّ الوالدين 654/ 4975 - وعن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن أبيه - رضي الله عنهم - قال: كانت تحتي امرأة وكنت أحبها وكان عمر يكرهها فقال لي: طلِّقْها، فأبيت فأتى عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «طَلِّقْها». وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (1)، وقال الترمذي: حسن صحيح، إنما نعرفه من حديث ابن أبي ذئب. 655/ 4976 - وعن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنهم - قال: قلت: يا رسول الله، مَنْ أَبَرُّ؟ قال: «أُمَّك، ثم أُمَّك، ثم أُمَّك، ثُمَّ أباك، ثم الأقربَ فالأقرب»، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَسأَلُ رجلٌ مولاه من فضلٍ هُو عندَه فيمنعه إيَّاه إلَّا دُعِيَ له يوم القيامة فَضْلُه الذي منعه شُجَاعٌ أقرع». وأخرجه الترمذي (2)، وقال: حسن. هذا آخر كلامه. وقد تقدم الكلام على بهز بن حكيم. 656/ 4977 - وعن كُلَيب بن مَنفعة عن جده - رضي الله عنهما - أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، مَنْ أَبَرُّ؟ قال: «أمَّكَ وأباك، وأختك وأخاك، ومولاك الذي يلي _________ (1) أبو داود (5138)، والترمذي (1189)، والنسائي في «الكبرى» (5631)، وابن ماجه (2088)؛ وأخرجه أيضًا أحمد (4711)، وابن حبان (427)، والحاكم (2/ 197)، كلهم من طريق ابن أبي ذئب عن خاله الحارث، عن حمزة به. (2) أبو داود (5139)، والترمذي (1897). وأخرجه أيضًا أحمد (20020، 20028، 20047، 20048)، والنسائي (2566)، والحاكم (4/ 150) من طرق عن بهز به حكيم به.

(3/422)


ذاك، حقٌّ واجب ورحمٌ موصولةٌ» (1). ذكره البخاري في «تاريخه الكبير» (2) تعليقًا. وقال ابن أبي حاتم (3): كليب بن منفعة الحنفي بصري، قال: أتى جَدِّي النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ــ مرسل ــ فقال: مَن أبَرُّ؟». وأخرج البخاري (4) من حديث أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة قال: جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، مَن أحقُّ بحُسْن صحابتي؟ قال: «أمُّك». قال: ثُمَّ من؟ قال: «ثم أمك». قال: ثم مَن؟ قال: «ثم أمك». قال: «ثم أبوك». وأخرجه مسلم وابن ماجه (5) بنحوه، وفي حديثيهما: «ثم أمُّك» مرتين. (6) قال ابن القيم - رحمه الله -: قال الإمام أحمد: للأم ثلاثة أرباع البر (7). وقال أيضًا: الطاعة للأب والبر للأم، واحتج بحديث ابن عمر: «أطع _________ (1) «سنن أبي داود» (5140). وهذا ظاهر الوصل، وروي عن كليب بن منفعة قال: أتى جدّي ... إلخ مرسلًا. قال أبو حاتم في «العلل» (2124): المرسل أشبه. (2) (7/ 230). (3) في «الجرح والتعديل» (7/ 167). (4) برقم (5971). (5) مسلم (2548)، وابن ماجه (2706، 3658). (6) أخرج أبو داود في هذا الباب تسعة أحاديث، ولم يعيّن المجردُ موضع تعليق المؤلف منها، وقد يكون ذكره في آخر الباب تذييلًا عليه. ونظرًا لطول الباب اقتصرنا على ذكر هذه الأربعة لقوة صلتها بتعليق المؤلف. (7) نقله المؤلف أيضًا في «الأعلام» (5/ 380)، ولم أجده في مسائله المطبوعة. وقد صحّ عن المنصور بن المعتمر (ت 132) أنه قال: كان يُقال: للأم ثلاثة أرباع البر. أخرجه هنّاد في «الزهد» (2/ 476) ومن طريقه أبو نعيم في «الحلية» (5/ 42).

(3/423)


أباك» لمّا أمره بطلاق زوجته (1). وقد روى ابن ماجه في «سننه» (2) من حديث القاسم عن أبي أمامة أن رجلًا قال: يا رسول الله، ما حق الوالدين على ولدهما؟ قال: «هما جنتك ونارك». وأخرج أيضًا (3) عن أبي الدرداء سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الوالد أوسط أبواب الجنة، فأَضِعْ ذلك الباب أو احفظه». 28 - باب فضل من عال يتيمًا وحق الجار (4) 657/ 4984 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: _________ (1) أخرجه أحمد (4711)، وابن حبان (426)، وسبق في أحاديث الباب بلفظ آخر. (2) برقم (3662) من طريق علي بن يزيد الألهاني عن القاسم به. إسناده ضعيف، فإن علي بن يزيد ضعيف منكر الحديث، لاسيما في النسخة التي يرويها عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعًا. (3) برقم (3663)، وأخرجه أحمد (21726، 27511، 27552)، والترمذي (1900) وقال: صحيح، وابن حبان (425)، والحاكم (2/ 197، 4/ 152). وقوله: «فأضع ... » هل هو تتمة الحديث المرفوع أو من قول أبي الدرداء؟ اختُلف فيه. انظر: «شرح ابن ماجه» للسيوطي (ص 260)، و «السلسلة الصحيحة» للألباني (914). (4) في «السنن» و «المختصر» ثلاثة أبواب: «باب في فضل من عال يتيمًا»، ويليه: «بابٌ في ضم اليتيم»، ثم: «باب في حق الجار». فلا أدري دمج تراجم الأبواب في باب واحد من المؤلف أو من المجرّد، ثم الذي يظهر أن المجرّد قد دمج بين تعليقات المؤلف على أحاديث مختلفة وسردها سردًا متتاليًا، وقد ميّزنا بينها ــ وهي ثلاثة تعليقات في هذا الباب، كل واحد منها مبدوء بقوله: «وقد أخرج ... » ــ ووضعنا كل واحد منها عقب الحديث الذي يتعلّق به.

(3/424)


«من عال ثلاث بناتٍ فأدَّبهُنَّ وزَوَّجهُنَّ وأحسَنَ إليهن فله الجنَّة». 658/ 4985 - وفي رواية، قال: «ثلاث أخوات، أو ثلاث بنات، أو بنتان، أو أختان». وأخرجه الترمذي (1). واختُلِف في إسناده، فأخرجه أبو داود من حديث سُهيل بن أبي صالح عن سعيد بن عبد الرحمن بن مُكْمِلٍ الأعشى عن أيوب بن بشير الأنصاري المعاوي عن أبي سعيد الخدري. وأخرجه الترمذي من حديث سهيل عن سعيد بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري، وقال: وقد زادوا في هذا الإسناد رجلًا. وأخرجه أيضًا من حديث سفيان بن عيينة عن سهيل عن أيوب بن بشير عن سعيد بن عبد الرحمن عن أبي سعيد. وقال البخاري في «تاريخه» (2): وقال ابن عيينة عن سهيل عن أيوب عن سعيد الأعشى، ولا يصح. قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد أخرج مسلم في «صحيحه» (3) عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من عال جاريتين حتى تَبلُغا جاء يوم القيامة أنا وهو، ــ وضم أصابعه ــ». _________ (1) أبو داود (5147، 5148)، والترمذي (1912، 1916). وفي إسناده ضعف لجهالة حال سعيد بن عبد الرحمن بن مُكمِل، ولكنه صحيح بشواهده التي سيورد المؤلف بعضها في تعليقه. (2) (3/ 491)، وقع في مطبوعته: «أبيه» بدل «أيوب»، والظاهر أنه تصحيف. (3) برقم (2631).

(3/425)


وفي «الصحيحين» (1) عن عائشة قالت: «جاءتني امرأة ومعها ابنتان لها، فسألتني فلم تجد عندي شيئًا غيرَ تمرة، فأعطيتها إياها، فأخذتها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها شيئًا، ثم قامت فخرجت وابنتاها، فدخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحدثته حديثها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من ابتُلي من البنات بشيء فأحسن إليهن كنّ له سِترًا من النار». 659/ 4987 - عن سهل ــ وهو ابن سعد الساعدي - رضي الله عنهما - ــ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة ــ وقرن بين إصبعيه: الوسطى والتي تلي الإبهام ــ». وأخرجه البخاري والترمذي (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد أخرج ابن ماجه في «سننه» (3) عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «[من عال ثلاثةً من الأيتام] كان كمن قام ليله وصام نهاره، وغدا وراح شاهرًا سيفَه في سبيل الله، وكنت أنا وهو في الجنة أخوَين (4) كهاتين [أختان]ــ وألصق إصبعَيه السبابة والوسطى ــ». وأخرج أيضًا (5) عن أبي هريرة يرفعه: «خير بيت في المسلمين بيتٌ فيه _________ (1) البخاري (1418، 5995)، ومسلم (2629). (2) أبو داود (5150)، والبخاري (5304، 6005)، والترمذي (1918). (3) برقم (3680) وما بين الحاصرتين منه، وهو مستدرك أيضًا على هامش (ش). وإسناده ضعيف، ولكن يشهد لأوله حديث أبي هريرة المتفق عليه: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وكالقائم لا يَفتُر وكالصائم لا يُفطر»، ويشهد لآخره حديث سهل بن سعد السابق وحديثُ أبي هريرة عند مسلم بنحوه. (4) في الأصل والطبعتين: «أخوان»، والتصحيح من «السنن». (5) برقم (3679)، وإسناده ضعيف، فيه يحيى بن أبي سليمان، قال عنه البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، مضطرب الحديث، يُكتب حديثه.

(3/426)


يتيم يُحسَن إليه، وشرُّ بيتٍ في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه». 660/ 4988 - عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى قلت: ليُورِّثَنَّه». وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه (1). 661/ 4989 - عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أنه ذبح شاة فقال: أهديتم لجاري اليهودي، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيُوَرِّثه». وأخرجه الترمذي (2) وقال: حسن غريب من هذا الوجه، وقد روي هذا الحديث عن مجاهد عن عائشة وأبي هريرة أيضًا، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (3). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد أخرجا في «الصحيحين» (4) عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه». _________ (1) أبو داود (5151)، والبخاري (6014)، ومسلم (2624)، والترمذي (1942)، وابن ماجه (3673). (2) أبو داود (5152)، والترمذي (1943). (3) أخرجهما أحمد (24600، 8046) وغيره. قال يحيى القطّان والحافظان الرازيّان والدارقطني إن أشبهها: حديث مجاهد عن عائشة، على أن أبا حاتم يقول أيضًا: ولا أُبعِد أن يكون مجاهد روى عن جميعهم. انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (2221) وللدارقطني (1538، 3689). (4) البخاري (6015)، ومسلم (2625/ 141).

(3/427)


وفيهما (1) عن أبي شريح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن»، قيل: يا رسول الله، ومَن؟ قال: «الذي لا يأمن جاره بوائقه» لفظ البخاري. وفي «صحيح مسلم» (2) عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أبا ذر إذا طبخت مرقةً فأكثِرْ [ماء] ها وتعاهد جيرانك». وفي لفظ له (3): إن خليلي أوصاني: «إذا طبختَ مرقًا فأكثر ماءَه، ثم انظر أهلَ بيت من جيرانك فأَصِبْهم منها بمعروف». وفي «صحيح البخاري» (4) عن أبي هريرة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يا نساء المسلمات لا تحقرنَّ جارةٌ لجارتها ولو فِرْسِنَ شاة». 29 - باب في حق المملوك 662/ 4993 - عن أم موسى، عن علي - رضي الله عنه - قال: «كان آخر كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الصَّلَاةَ، الصَّلَاةَ، اتقُوا الله فِيما مَلَكَتْ أَيمانُكم». وأخرجه ابن ماجه (5)، وليس فيه «اتقوا الله» ولفظه: «الصلاة، وما ملكت أيمانكم». _________ (1) البخاري (6016) واللفظ له، ومسلم (48). (2) برقم (2625/ 142)، وما بين الحاصرتين منه. (3) برقم (2625/ 143). (4) برقم (6017)، وهو عند مسلم (1030) أيضًا. (5) أبو داود (5156)، وابن ماجه (2698). إسناده حسن، وأخرجه أحمد (693) والبخاري في «الأدب المفرد» (156) والبزار (3886) من طريقين آخرين فيهما ضعف.

(3/428)


وأم موسى هذه قيل: اسمها حبيبة (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد أخرج ابن ماجه في «سننه» (2) من حديث مُرَّة الطيّب عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يدخل الجنة سَيِّئُ المَلَكة» قالوا: يا رسول الله أليس أخبرتَنا أن هذه الأمة أكثر الأمم مملوكين ويتامى؟ قال: «نعم، أكرموهم كرامةَ أولادكم، وأطعموهم مما تأكلون». قالوا: فما ينفعنا في الدنيا؟ قال: «فرس ترتبطه تقاتل عليه في سبيل الله، مملوكك يكفيك، فإذا صلّى فهو أخوك». وفي «الصحيحين» (3) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا صنع لأحدكم خادمُه طعامَه ثم جاءه به، وقد ولي حرَّه ودخانه، فليُقْعِدْه معه، فليأكل، فإن كان الطعام مشفوهًا قليلًا فليضَعْ في يده منه أُكلةً أو أُكلتَين» لفظ مسلم. وفي «صحيح مسلم» (4) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: _________ (1) أخرج أبو داود في هذا الباب ثلاثة عشر حديثًا، واكتفينا بذكر الحديث الأول منها، فإن المجرّد لم يعيِّن موضع تعليق المؤلف، ولعله كان ذيّل به الباب بذكر أحاديث أُخَر لم يوردها أبو داود. (2) برقم (3691)، وأخرجه أيضًا أحمد (75)، والترمذي (1946) مقتصرًا على طرفه الأول، وأبو يعلى (94) كلهم من طريق فَرْقَد السَّبَخي عن مُرَة الطيِّب به. قال الترمذي: «حديث غريب، وقد تكلم أيوب السختياني وغير واحد في فرقد السبخي من قِبل حفظه». وبه أعله البوصيري في «مصباح الزجاجة» (4/ 108) والهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 239). (3) البخاري (2557) ومسلم (1663). (4) برقم (1662).

(3/429)


«للمملوك طعامه وكسوته، ولا يُكلَّف من العمل إلا ما يطيق». 30 - باب ما جاء في المملوك إذا نصح (1) 663/ 5006 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن العبد إذا نصح لسيِّده وأحسن عبادةَ الله فله أجرُه مرتين». وأخرجه البخاري ومسلم (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: وأخرجا عن ابن عمر (3) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أدّى العبد حقَّ الله وحق مواليه كان له أجران»، زاد مسلم: فحدثت به كعبًا فقال كعب: ليس عليه حساب ولا على مؤمن مُزْهِد (4)». وفي «الصحيحين» (5) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «للعبد المملوك المصلح أجران»، والذي نفس أبي هريرة بيده، لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبِرُّ أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك. زاد مسلم عن ابن المسيب (6): وبلغَنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمُّه لِصُحبتها. _________ (1) لم يذكر المجرّد هذا الباب، بل ساق تعليق المؤلف الآتي مع كلامه في الباب السابق، والذي يظهر من تعليقه أنه متعلق بهذا الباب وحديثه، ولذا أثبتناه. (2) أبو داود (5169)، والبخاري (2546)، ومسلم (1664). (3) كذا في الأصل، وهو سهو، فالحديث عن أبي هريرة عند مسلم (1666)، وبنحوه عن أبي موسى الأشعري عند البخاري (2547). (4) ط. الفقي: «من هذا» تحريف، والمزهد: قليل المال. (5) البخاري (2548)، ومسلم (1665). (6) لم يُصرَّح باسم القائل عند مسلم، والظاهر أنه الزهري كما في «البر والصلة» للحسين المروزي (29). وانظر: «الفتح» (5/ 176).

(3/430)


وأخرج البخاري (1) عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «للمملوك الذي يُحسِن عبادة ربه، ويؤدّي إلى سيده الذي له عليه من الحق والنصيحة والطاعة= أجران». ولمسلم (2) بمعناه. وفي «الصحيحين» (3) عن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد، والعبد المملوك إذا أدّى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت له [ق 272] أمة فأدّبها فأحسن تأديبها وعلّمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها، فله أجران». 31 - باب في إفشاء السلام 664/ 5029 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنَّة حتى تؤمنوا، ولا تُؤمنون حتى تَحابُّوا، أفلا أدُلُّكُم على أمرٍ إذا فعلتموه تَحاببتم؟ أفشُوا السلام بينكم». وأخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه (4). 665/ 5030 - وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن رجلا سألَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الإسلام خير؟ قال: «تُطعمُ الطعامَ، وتقرأُ السلام على مَن عرفت ومَن لم تعرِف». وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (5). _________ (1) برقم (2551). (2) وهو الحديث الآتي. (3) البخاري (97)، ومسلم (154). (4) أبو داود (5193)، ومسلم (54)، والترمذي (2688)، وابن ماجه (68). (5) أبو داود (5194)، والبخاري (12)، ومسلم (39)، والنسائي (5000)، وابن ماجه (3253).

(3/431)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد أخرجا في «الصحيحين» (1) عن البراء بن عازب قال: «أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ونصر الضعيف، وعون المظلوم، وإفشاء السلام، وإبرار القسم». وفي «جامع الترمذي» (2) عن عبد الله بن سلام قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصَلُّوا والناس نيام= تدخلوا الجنة بسلام». قال الترمذي: حديث صحيح. وفي «الموطأ» (3) بإسناد صحيح عن الطُّفَيل بن أبي بن كعب أنه كان يأتي عبد الله بن عمر، فيغدو معه إلى السوق، [قال:] فإذا غدونا إلى السوق لم يَمرّ عبد الله على سَقّاط (4) ولا صاحب بيعة ولا مسكين ولا أحدٍ إلا سلّم عليه. قال الطفيل: فجئت عبد الله بن عمر [يومًا] فاستتبعني إلى السوق، فقلت له: ما تَصنعُ بالسوق، وأنت لا تقف على البَيِّع، ولا تسأل عن السلع، ولا تسوم بها، ولا تجلس في مجالس السوق؟ وأقول: اجلسْ بنا هاهنا نتحدث، فقال: «يا أبا بَطْن ــ وكان الطفيل ذا بطن ــ إنما نغدو من أجل _________ (1) البخاري (1239، 2445، 5175، ومواضع)، ومسلم (2066). وهذا لفظ البخاري في الاستئذان، باب إفشاء السلام، برقم (6235)، ولفظ سائر الروايات: «نصر المظلوم وإجابة الداعي» بدل «نصر الضعيف وعون المظلوم». (2) برقم (2485)، وأخرجه أيضًا أحمد (23784)، وابن ماجه (1334، 3251)، والحاكم (3/ 13)، والضياء في «المختارة» (9/ 431 - 433). (3) برقم (2763) وما بين الحاصرتين منه، ومن طريقه أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (1006). (4) هو الذي يبيع السَّقَط من المتاع، أي رَديئَه وحقيره.

(3/432)


السلام، نُسلّم على من لقيناه». 32 - باب السلام على أهل الذمة 666/ 5043 - وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن اليهود إذا سَلَّم عليكم أحَدُهم، فإنَّما يقول: السَّامُ عليكم، فقُولوا: وعَلَيْكم» (1). قال أبو داود: وكذلك رواه مالك (2) عن عبد الله بن دينار. ورواه الثوري عن عبد الله بن دينار قال فيه: «وعليكم». وأخرجه الترمذي والنسائي (3)، ولفظ الترمذي وفي لفظ لمسلم والنسائي (4): «فقل: عليك» بغير واو. وحديث مالك الذي أشار إليه أبو داود أخرجه البخاري في «صحيحه» (5). _________ (1) كذا في «المختصر» المطبوع والمخطوط وأكثر الأصول الخطية «للسنن»، منها نسخة من رواية المنذري بإسناده إلى اللؤلؤي. وفي نسخة بخط الحافظ ابن حجر: «عليكم» بدون الواو، وهو الصواب على ما يبدو من كلام أبي داود الآتي وتنظيره لهذه الرواية برواية مالك وهي بدون الواو. (2) في «الموطأ» برواية يحيى الليثي (2759)، وبرواية الشيباني (913)، وبرواية أبي مصعب الزهري (2021)؛ بإسقاط الواو. (3) أبو داود (5206) من طريق عبد العزيز بن مسلم، والترمذي (1603) والنسائي في «الكبرى» (10138) كلاهما من طريق إسماعيل بن جعفر، والنسائي (10139، 10140) أيضًا من طريق السفيانين، كلهم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر. (4) مسلم (2164/ 8) والنسائي (10138)، كلاهما من طريق إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار به. (5) برقم (6257) عن عبد الله بن يوسف التنّيسي عن مالك بلفظ: «فقل: وعليك». وأخرجه (6928) مقرونًا مع رواية سفيان الثوري من رواية يحيى بن سعيد القطّان عنهما بإسقاط الواو. وأخرجه أيضًا الدارمي (2677)، والجوهري في «مسند الموطأ» (478)، والبيهقي (9/ 203) من طرق عن مالك بإسقاط الواو.

(3/433)


وحديث سفيان الثوري أخرجه البخاري ومسلم (1). وأخرجه النسائي (2) من حديث سفيان بن عيينة بإسقاط الواو. وقال الخطابي (3): هكذا يرويه عامة المحدثين «وعليكم» بالواو. وكان سفيان بن عيينة يرويه «عليكم» بحذف الواو، وهو الصواب. وذلك أنه إذا حذف الواو: صار قولُهم الذي قالوه بعينه مردودًا عليهم، وبإدخال الواو يقع الاشتراك معهم والدخولُ فيما قالوه، لأن الواو حرف العطف والاجتماع بين الشيئين. قال ابن القيم - رحمه الله - (4): قلت: معنى ما أشار إليه الخطابي أن الواو في مثل هذا تقتضي تقرير الجملة الأولى وزيادة الثانية عليها، كما إذا قلت: زيد كاتب، فقال المخاطَب: وشاعر وفقيه، اقتضى ذلك تقريرَ كونه كاتبًا وزيادةَ كونه شاعرًا وفقيهًا، وكذلك إذا قلت لرجل: فلان أخوك، فقال: وابن عمي، _________ (1) البخاري (6928) مقرونًا برواية مالك بإسقاط الواو، ومسلم (2164/ 9) بإثبات الواو. وأخرجه أيضًا أحمد (5221، 5938)، وابن أبي شيبة (26276)، والنسائي (10140)، والبيهقي (9/ 203)، من طرق عن سفيان الثوري بإثبات الواو. (2) «الكبرى» (10139). (3) «معالم السنن» (8/ 75). (4) وقد تكلم المؤلف على هذه المسألة في «بدائع الفوائد» (2/ 665 - 668) بنحو ما هنا ثم قال في آخره: «وقد ذكرنا هذه المسألة مستوفاة بما أمكننا في كتاب تهذيب السنن».

(3/434)


كان تقريرًا لكونه أخاه وزيادةَ كونِه ابنَ عمّه. ومن هاهنا استنبط أبو القاسم السُّهَيلي (1) أن عدة أصحاب الكهف سبعة، قال: لأن الله تعالى حكى قول من قال: ثلاثة، وخمسة، ولم يذكر الواو في قوله: {رَابِعُهُمْ} (2) و {سَادِسُهُمْ} وحكى قول من قال: سبعة، ثم قال: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}. قال: لأن الواو عاطفة على كلام مضمر، تقديره: نعم وثامنهم كلبهم، وذلك أن قائلًا لو قال: إن زيدًا شاعر، فقلت له: وفقيه، كنتَ قد صدَّقته، كأنك قلت: نعم هو كذلك وفقيه أيضًا. وفي الحديث: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ فقال: «وبما أفضلت السباع»، يريد: نعم وبما أفضلت السباع. خرَّجه الدارقطني (3). وفي التنزيل: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ} [البقرة: 126] هو من هذا الباب. وفيما قاله السهيلي نظر، فإن هذا إنما يتم إذا كان حرف العطف بين كلامين لمتكلِّمَين، وهو نظير ما استشهد به. وأما إذا كان مِن متكلم واحدٍ لم يلزم ذلك، كما إذا قلت: زيد فقيه وكاتب وشاعر. والآية ليس فيها أن _________ (1) في «الروض الأُنُف» (2/ 62). (2) في الأصل: «ورابعهم» خطأ. (3) برقم (175 - 177) من طريقين ضعيفين عن داود بن الحُصين، عن أبيه، عن جابر - رضي الله عنه -. والحصين والد داود أيضًا ضعيف، ضعّفه البخاري والرازيّان في آخرين. وانظر: «البدر المنير» (1/ 467).

(3/435)


كلامهم انتهى إلى قوله: {سَبْعَةٌ} ثم قررهم الله على ذلك: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}، بل سياق الآية يدل على أن الجملتين من كلامهم، وأن جميعه داخل تحت الحكاية، فهو كقول مَن قبلهم مع اقترانه بالواو. وأما هذا الحديث فإدخال الواو فيه لا يقتضي اشتراكًا معهم في مضمون هذا الدعاء، وإن كانا كلامين لمتكلمين، بل غايته التشريك في نفس الدعاء (1). هذا لأن الدعاء الأول قد وجد منهم، وإذا رد عليهم نظيره حصل الاشتراك في نفس الدعاء. ولا يستلزم ذلك الاشتراك معهم في مضمونه ومقتضاه، إذ غايته: أنّا نرد عليكم كما قلتم لنا. وإذا كان «السام» معناه الموت ــ كما هو المشهور فيه ــ فالاشتراك ظاهر، والمعنى: أنا لسنا نموت دونكم، بل نحن نموت وأنتم أيضًا تموتون، فلا محذور في دخول الواو على كل تقدير، وقد تقدم أن أكثر الأئمة رواه بالواو. 33 - باب في المصافحة 667/ 5048 - عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا التقى المُسلمانِ فتصافحا، وحَمِدا الله عز وجل، واستغفرا= غُفِرَ لهما» (2). _________ (1) أي: ونحن أيضًا ندعو عليكم بما دعوتم به علينا. «بدائع الفوائد». (2) «سنن أبي داود» (5211) من طريق أبي بَلْج، عن أبي الحَكَم زيد بن أبي الشعثاء العَنَزي، عن البراء. إسناده ضعيف لجهالة حال زيد بن أبي الشعثاء وللاضطراب في إسناده، فإن بعضهم يجعل في الإسناد رجلًا بين زيد وبين البراء. انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (2318). وللحديث متابعات وشواهد تعضده وتقوّيه. انظر: «الصحيحة» (525)، و «أنيس الساري» (7/ 4761 - 4765).

(3/436)


في إسناده اضطرابٌ. وفي إسناده: أبو بَلْج، ويقال: أبو صالح يحيى بن سليم، ويقال: يحيى بن أبي سليم، ويقال: يحيى بن أبي الأسود الفزاري الواسطي، ويقال: الكوفي. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم الرازي: لا بأس به (1). وقال البخاري (2): فيه نظر. وقال السعدي (3): غير ثقة. وضعَّفه الإمام أحمد وقال: روى حديثًا منكرا. هذا آخر كلامه. وبلج: بفتح الباء الموحدة، وسكون اللام، وبعدها جيم. 668/ 5049 - وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غُفِرَ لهما قبل أن يَفْترقا». وأخرجه الترمذي وابن ماجه (4)، وقال الترمذي: حسن، غريب من حديث أبي إسحاق عن البراء. هذا آخر كلامه. وفي إسناده الأجْلَح، واسمه: يحيى بن عبد الله، أبو حُجَيَّة الكندي. قال ابن معين: ثقة، وقال مرة: صالح، ومرة: ليس به بأس (5). _________ (1) انظر: «الجرح والتعديل» (9/ 153). (2) أسنده عنه ابن عدي في «الكامل» (7/ 229). (3) هو الجوزجاني في «أحوال الرجال» (ص 198). (4) أبو داود (5212)، والترمذي (2727)، وابن ماجه (3703)، من طريق الأجلح، عن أبي إسحاق، عن البراء. (5) انظر: «تاريخ ابن معين» برواية الدوري (1276، 2232)، «الجرح والتعديل» (2/ 347، 9/ 164).

(3/437)


وقال ابن عدي (1): يُعد في شيعة الكوفة، وهو عندي مستقيم الحديث صدوق. وقال أبو زرعة الرازي: ليس بقوي. وقال أبو حاتم الرازي: ليس بقوي كان كثير الخطأ، مضطرب الحديث، يكتب حديثه، ولا يحتج به. وقال الإمام أحمد: رُوي عنه غير حديث منكر (2). وقال السعدي (3): الأجلح مُفْتَرٍ. وقال ابن حبان (4): لا يدري ما يقول، يجعل أبا سفيان أبا الزبير، ويقلب الأسامي. 669/ 5050 - وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: لما جاء أهلُ اليمن قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قد جاءكم أهلُ اليمن، وهم أوَّلُ من جاء بالمُصافَحَة» (5). رجال إسناده اتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج بحديثهم، سوى حماد بن سلمة، فإن مسلمًا انفرد بالاحتجاج بحديثه. وقد أخرج البخاري في «الصحيح» (6) عن قتادة. قال: قلت لأنس بن مالك - رضي الله عنه -: أكانت المصافحة في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: نعم. _________ (1) «الكامل» (1/ 428). (2) انظر: «الجرح والتعديل» (9/ 163 - 164). (3) في «أحوال الرجال» (ص 52). (4) في «المجروحين» (1/ 197). (5) «سنن أبي داود» (5213). ويظهر من بعض طرق الحديث عند أحمد (12582، 13624) وابن حبان (7193) أن قوله: «وهم أول من جاء بالمصافحة» من قول أنس، وليس مرفوعًا. وانظر: «الصحيحة» (527). (6) برقم (6263).

(3/438)


وقد أخرج البخاري ومسلم (1) حديث كعب بن مالك وفيه: دخلت المسجد فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقام إليَّ طلحةُ بن عبيد الله يُهَرْوِل حتى صافحني وهنَّأني. وقال البخاري (2): وصافح حمادُ بن زيدٍ ابنَ المبارك بيديه. وقال غيره (3): المصافحة حسنة عند عامة العلماء، وقد استحسنها مالك بعد كراهة، وهي مما يُثبت الوُدّ ويؤكد المحبة ــ واستشهد بموقِع فعل طلحة عند كعب بن مالك وسروره بذلك وقولِه: «لا أنساها لطلحة»، وذَكَر ما رواه قتادة عن أنس أن المصافحة كانت في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ــ، وقال: وهم الحجة والقدوة الذين يلزم اتباعهم (4). قال ابن القيم - رحمه الله -: وروى الترمذي في «جامعه» (5) عن أنس قال: قال رجل: يا رسول الله، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقَه أينحني له؟ قال: لا، قال: أفيلتزمه ويقبّله؟ قال: «لا»، قال: فيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: «نعم». _________ (1) البخاري (4418) ومسلم (2769) في قصة توبة كعب بن مالك وصاحبيه لمّا تخلفوا عن جيش العسرة. (2) في الاستئذان، باب الأخذ باليدين. (3) هو ابن بطّال في «شرح البخاري» (9/ 44). (4) لم يحدّد المجرّد موضع تعليق المؤلف من الباب، ولعله كان تذييلًا عليه، ولذا رأيت إثبات الباب بتمامه من «المختصر». (5) برقم (2728)، وأخرجه أحمد (13044)، وابن ماجه (3702)، وابن عدي في «الكامل» (2/ 422)، من طرق عن حنظلة السدوسي عن أنس. إسناده ضعيف لضعف حنظلة، وقد عدَّ الإمام أحمد هذا الحديث من مناكيره كما في «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (3/ 241). وله متابعات لكنها واهية لا يُفرح بها. انظر: حاشية محققي «مسند أحمد» ط. الرسالة (20/ 340).

(3/439)


قال الترمذي: هذا حديث حسن. وله (1) عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مِن تمام التحية: الأخذ باليد»، وله علتان: إحداهما: رواية يحيى بن سليم له. والثانية: أن راويه عن ابن مسعود رجل مجهول. قال الترمذي: وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فلم يعدّه محفوظًا (2). وأخرج الترمذي (3) أيضًا من حديث عبيد الله (4) بن زَحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تمام عيادة المريض أن يضع أحدكم يده على جبهته أو على يده، فيسأله: كيف هو؟ [ق 273] وتمام تحياتكم بينكم: المصافحة». _________ (1) أي للترمذي في «الجامع» (2730) من طريق يحيى بن سُليم، عن سفيان، عن منصور، عن خيثمة، عن رجل، عن ابن مسعود. (2) وذكر أن المحفوظ إنما هو: عن منصور، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي أو غيره من التابعين موقوفًا عليه من قوله. أخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبير» (8/ 211)، وابن أبي شيبة (26236، 26237)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (8546)، على اختلاف في قائليه من التابعين. وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (968) عن البراء موقوفًا عليه، وإسناده حسن. (3) برقم (2731). (4) في الأصل: «عبد الله» تصحيف، وسيأتي على الصواب قريبًا.

(3/440)


قال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بذاك (1)، قال محمد: عبيد الله بن زحر ثقة، وعلي بن يزيد ضعيف، والقاسم بن عبد الرحمن يكنى أبا عبد الرحمن شامي ثقة. 34 - باب ما جاء في القيام 670/ 5052 - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن أهل قُرَيظة لمَّا نزلوا على حُكم سعدٍ أرسل إليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فجاء على حمار أقْمَر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قُومُوا إلى سَيِّدِكُم ــ أو إلى خيركم ــ»، فجاء حتى قعد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 671/ 5053 - وفي رواية: فلما كان قريبًا من المسجد قال للأنصار: «قوموا إلى سيدكم». وأخرجه البخاري ومسلم (2). 672/ 5054 - وعن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: ما رأيتُ أحدًا كان أشبه سمتًا وهديًا ودلًّا ــ وقال الحسن (وهو الحلواني): حديثًا وكلامًا، ولم يذكر الحسن: السمتَ والهدي والدَّلَّ ــ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فاطمة - رضي الله عنها -، كانت إذا دخلت عليه قام إليها، فأخذ بيدها وقبَّلها وأجلسها في مجلسه، وكانت إذا دخل عليها قامت إليه وأخذت بيده، وقبلته وأجلَسته في مجلسها. وأخرجه الترمذي والنسائي (3)، وقال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه. _________ (1) لفظ الترمذي: «بالقوي». (2) أبو داود (5215، 5216)، والبخاري (3034)، ومسلم (1768). (3) أبو داود (5217)، والترمذي (3872)، والنسائي في «الكبرى» (8311). وأخرجه أيضًا البخاري في «الأدب المفرد» (947، 971)، وابن حبان (6953)، والحاكم (3/ 154، 160)، (4/ 272).

(3/441)


قال ابن القيم - رحمه الله -: وأخرج الترمذي (1) عن عائشة قالت: «قدم زيد بن حارثة المدينة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي، فأتاه فقرع الباب، فقام إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - يجر ثوبه فاعتنقه وقبّله». وقال: حديث حسن. وأخرج أيضًا (2) بإسناد على شرط مسلم عن أنس قال: لم يكن شخص أحبَّ إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لِما يعلمون من كراهيته لذلك. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وأخرج أيضًا (3) من حديث سفيان عن حبيب بن الشهيد عن أبي مِجْلَز قال: خرج معاوية فقام عبد الله بن الزبير وابن صفوان حين رأوه، فقال: _________ (1) برقم (2732) من طريق إبراهيم بن يحيى بن محمد بن عبّاد الشجري، عن أبيه، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة. قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه من حديث الزهري إلا من هذا الوجه. قلتُ: وهو وجه منكر، عدّه العقيلي والذهبي من مناكير يحيى بن محمد الشجري، وهو وابنه ضعيفان، وفي متنه لفظة منكرة جدًّا لم يذكرها المؤلف. (2) برقم (2754)، وأخرجه أيضًا أحمد (12345) والبخاري في «الأدب المفرد» (946) من طريق حماد بن سلمة عن حميد عن أنس. (3) أي الترمذي في «الجامع» (2755)، وأخرجه أحمد (16830، 16845)، وأبو داود (5229) وسيأتي، والبخاري في «الأدب المفرد» (977) من طرق عن حبيب بن الشهيد به، وفي كلّها عدا طريق الترمذي أن ابن الزبير لم يقم، والذي قام هو ابن عامر (بدل ابن صفوان). قال أبو زرعة: هو أصح، كما في «العلل» لابن أبي حاتم (2531). والحديث حسَّنه الترمذي، وصححه المؤلف كما سيأتي. وانظر: «الصحيحة» (357).

(3/442)


اجلسا، سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من سرَّه أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار». قال: «هذا حديث حسن. حدثنا هناد حدثنا أبو أسامة عن حبيب بن الشهيد عن أبي مجلز عن معاوية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله». وهذا الإسناد على شرط الصحيح. قال: «وفي الباب عن أبي أمامة» (1). وفيه رد على من زعم أن معناه أن يقوم الرجل للرجل في حضرته وهو قاعد، فإن معاوية روى الخبر لمّا قاما له حين خرج. وأما الأحاديث المتقدمة فالقيام فيها عارض للقادم، مع أنه قيام إلى الرجل لِلُّقَى لا قيامًا له، وهو وجه حديث فاطمة. فالمذموم: القيام للرجل، وأما القيام إليه للتلقي إذا قَدِم فلا بأس به، وبهذا تجتمع الأحاديث. والله أعلم. 35 - في قُبلة [اليد] 673/ 5060 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - ــ وذكر قصة ــ قال: فَدَنَونا ــ يعني من النبي - صلى الله عليه وسلم - ــ فقَبَّلنا يدَه. وأخرجه الترمذي وابن ماجه (2)، وقال الترمذي: حسن، لا نعرفه إلا من حديث يزيد ــ يعني ابن أبي زياد ــ هذا آخر كلامه. وقد تقدم في كتاب الجهاد أتمَّ من هذا (3). _________ (1) أخرجه أبو داود (5230) وسيأتي. (2) أبو داود (5223)، والترمذي (1716)، وابن ماجه (3704). وإسناده ضعيف لضعف يزيد بن أبي زياد. (3) في «السنن» (2647)، وفي «المختصر» (2532)، ولم يتقدم في التجريد.

(3/443)


وقد روى عمرو بن مُرَّة الجَمَلِيُّ عن عبد الله بن سَلِمة ــ وهو أبو العالية الكوفي، وهو بكسر اللام ــ عن صفوان بن عَسّال - رضي الله عنهم - أن يهوديًّا قال لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي، قال: فقبَّلا يَدَه ورِجْله. أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه (1) مطولًا ومختصرًا. وأخرجه الترمذي في موضعين من كتابه، وصححه في الموضعين. وقال: وفي الباب عن يزيد بن الأسود، وابن عمر، وكعب بن مالك. وقال النسائي (2) في حديث صفوان: وهذا حديث منكر. قال ابن القيم - رحمه الله - (3): وحُكي عن شعبة قال: سألت عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة فقال: تَعرِف وتُنكر. آخر كلامه. وهذا الحديث يرويه شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن صفوان بن عسال. وفي نفس الحديث ما يدل على أنه منكر جدًّا، فإن فيه أنهم سألوه عن تسع آيات بينات؟ فقال لهم: «لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تَسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ... » إلى آخره. والآيات التسع التي أرسل بها موسى إلى فرعون إنما كانت آياتِ نبوته ومعجزاتِ صدقه، كالعصا واليد وباقي الآيات، ولهذا قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ _________ (1) الترمذي (2733، 3144)، والنسائي في «المجتبى» (4078) و «الكبرى» (3527، 8602)، وابن ماجه (3705). (2) «السنن الكبرى» عقب الحديث (3527). (3) ناقلًا بقية كلام النسائي، الذي ذكر المنذري طرفًا منه.

(3/444)


آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} إلى قوله: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 101 - 102]، فهذه آيات النبوة قبل نزول آيات الحكم والشرع، وهذا بيّن بحمد الله تعالى. 36 - باب جعلني الله فداك 674/ 5063 - عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أبَا ذَرٍّ»، فقلت: لبَّيك وسَعْدَيك يا رسول الله، وأنا فِداؤك (1). قال الطبري (2): في هذا الحديث ــ يعني حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «ارْمِ فداك أبي وأمي» (3) ــ دلالة على جواز تفدية الرجل الرجلَ بأبويه ونفسه، وفساد قول منكري ذلك. فإن ظن ظان أن تفدية الرسول - صلى الله عليه وسلم - مَن فَدَّاه بأبويه إنما كان لأنَّ أبويه كانا مشركين، فأما المسلم فغير جائز أن يُفَدِّي مسلمًا ولا كافرًا بنفسه ولا بأحد سواه من أهل الإسلام، واعتلالًا بما روى أبو سلمة قال: أخبرني مبارك عن الحسن قال: دخل الزبير على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو شاكٍ فقال: كيف تجدكَ ــ جعلني الله فداءك ــ؟ فقال: «ما تركتَ أعرابيتك بعد؟!». قال الحسن: لا ينبغي أن يُفَدِّي أحدٌ أحدًا. ورواه المنكدر عن أبيه قال: دخل الزبير ... فذكره. _________ (1) «سنن أبي داود» (5226) من طريق حمّاد بن أبي سليمان الكوفي، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر. وأخرجه البخاري (6268) من طريق الأعمش عن زيد بن وهب عن أبي ذر دون قوله: «وأنا فداؤك»، وهذه الزيادة فيها ضعف لأن حمّادًا فيه لين ولم يُتابَع عليها. (2) «تهذيب الآثار ــ مسند علي» (3/ 111 - 113). (3) أخرجه البخاري (2905) ومسلم (2411) من حديث علي - رضي الله عنه -.

(3/445)


= قيل: أخبار واهية، لا يثبت بمثلها حجة في الدين، لأن مراسيل الحسن أكثرها صُحُف غير سماع، وإذا وصل الأخبارَ فأكثرُ روايته عن مجاهيل لا يعرفون، والمنكدر بن محمد عند أهل النقل لا يعتمد على نقله. ولو صحَّت هذه الأخبار لم تكن فيها حجة في إبطال حديث علي ــ يعني حديثَ سعدٍ فإنه من رواية علي ــ، إذ لا بيان في حديث الزبير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاه عن قول ذلك، بل إنما قال له فيه: «ما تركت أعرابيتك بعد»، والمعروف من قول القائل إذا قال: فلان لم يترك أعرابيته، إنما نسبه إلى الجفاء، لا إلى فعل ما لا يجوز فِعلُه، وأعلمه أن غيره من القول والتحية ألطفُ وأرقُّ منه (1). قال ابن القيم - رحمه الله -: وقد أخرجا في «الصحيحين» (2) عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلس على المنبر. فقال: «إنّ عبدًا خيّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده»، فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا ... الحديث. وهذا كان بعد إسلام أبي قُحافة، فإنه خطب بهذه الخطبة قُبَيل وفاته بقليل. وهذا أصح من حديث الزبير وأولى أن يؤخذ به منه. والله أعلم. 37 - في الرجل يقوم للرجل 675/ 5067 - عن أبي مِجلَز، قال: خرج معاوية على ابن الزبير وابن عامر، فقَامَ ابنُ عامرٍ وجلس ابنُ الزبير، فقال معاوية لابن عامر: اجلس، فإني سَمِعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَن أحبَّ أن يتمثَّل له الرِّجالُ قيامًا فليتَبَوّأ مقعده من النّار». _________ (1) كلام المنذري في نقله عن الطبري وقع في هامش مطبوعة «المختصر» (8/ 91 - 92)، وهو كذلك في المخطوط (النسخة البريطانية)، وقد ذكر المجرّد أن المؤلف ساقه إلى آخره. (2) البخاري (466، 3904)، ومسلم (2382).

(3/446)


وأخرجه الترمذي (1)، وقال: حسن. هذا آخر كلامه. وقد تقدّم الكلام على هذا الحديث في الورقة التي قبل هذه. 676/ 5068 - وعن أبي أمامة ــ وهو الباهلي - رضي الله عنه - ــ قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُتَوَكِّئًا على عصًا، فقمنا إليه، فقال: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم، يُعَظِّمُ بعضُها بعضًا». وأخرجه ابن ماجه (2). وفي إسناده: أبو غالب، واسمه: حَزَوَّر، ويقال: نافع، ويقال: سعيد بن الحزوّر. قال يحيى بن معين: صالح الحديث، وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالقوي (3). وقال ابن حبان (4): لا يجوز الاحتجاج به إلا فيما يوافق الثقات. وقال ابن سعد في «الطبقات» (5): وسمعت مَن يقول: اسمه: نافع، وكان ضعيفًا منكر الحديث. وقال النسائي (6): ضعيف. وقال الدارقطني: لا يعتبر به، وقال مرة: ثقة (7). هذا آخر كلامه. _________ (1) أبو داود (5229)، والترمذي (2755)، وقد سبق ذكره وتصحيح المؤلف له قريبًا. (2) أبو داود (5230)، وابن ماجه (3836)، وإسناده ضعيف. (3) انظر: «الجرح والتعديل» (3/ 316). (4) في «المجروحين» (1/ 329). (5) (9/ 236). (6) في «الضعفاء» (ص 255). (7) انظر: «سؤالات البَرقاني» (ص 26).

(3/447)


وحَزَوّر: بفتح الحاء المهملة، وبعدها زاي مفتوحة، وواو مشَدّدة مفتوحة وبعدها راء مهملة. وهو مذكور في الأسماء المفردة. وقد أخرج مسلم في «صحيحه» (1) من حديث أبي الزبير عن جابر أنهم لما صلَّوا خلفه قعودًا، قال: فلما سَلَّم قال: «إن كِدْتُم آنفًا أن تفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا». قال ابن القيم - رحمه الله -: وحمل أحاديث النهي عن القيام على مثل هذه الصورة ممتنع، فإن سياقها يدل على خلافه، وأنه نهى عن القيام له إذا خرج عليهم، ولأن العرب لم يكونوا يعرفون هذا، وإنما هو من فعل فارس والروم، ولأن هذا لا يقال له: قيام للرجل، إنما هو قيام عليه. ففرق بين القيام للشخص المنهي عنه، والقيام عليه المُشْبِه لفعل فارس والروم، والقيام إليه عند قدومه الذي هو سنة العرب، وأحاديث الجواز تدل عليه فقط. 38 - باب في قتل الأوزاغ 677/ 5101 - عن عامر بن سعد ــ وهو ابن أبي وقاص ــ عن أبيه - رضي الله عنه - قال: أمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الوَزَغ وسمّاه: «فُوَيسقا». وأخرجه مسلم (2). قال ابن القيم - رحمه الله -: وفي «صحيح البخاري» (3) عن أم شريك أن النبي _________ (1) برقم (413). (2) أبو داود (5262)، ومسلم (2238). (3) برقم (3359).

(3/448)


- صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الوزغ، قال: «كان يَنفُخ على إبراهيم». وفي «الصحيحين» (1) عنها أنها استأمرت النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتل الأوزاغ، فأمر بقتلها. * * * تمَّ الكتاب بحمد الله ومنِّه، ورأيتُ في النسخة المنقول منها هذه النسخةُ ما صورته: قال كاتبه محمد بن أحمد السعودي [ق 274]: هذا آخر ما كتبته مما زاده الشيخ الإمام العلامة الحافظ الحجة إمام الدنيا شمس الدين أبو عبد الله محمد، الشهير بابن قيِّم الجوزيَّة، تغمدَّه الله تعالى بغفرانه، وأسكنه بَحْبُوحة جِنانِه. ولستُ أدَّعي الإحاطةَ بجميع ما كتبه، بل الغالب والأكثر. وقد سقط منه القليل جدًّا لتعذُّر كتابته، فعساه زاد لفظةً أو لفَظاتٍ في أثناء كلام، فلم يمكنِّي إفرادُها لاتصالها بكلام كثير للمنذري، ولم يمكن كتْب ذلك الكلام الذي للحافظ المنذري كله، فحذفت الزيادة قصدًا لذلك. وكلُّ ما كان عليه علامة «م» فهو من كلام المنذري. ولا أذكر من كلام المنذري إلا ما قوي اتصاله بكلام الحافظ ابن القيم، فلم يمكن فهمه إلا بذكره عُقباه. وكلُّ ما كان عليه «ش» فهو إشارة إلى الشيخ شمس الدين، لأنّ أول _________ (1) البخاري (3307)، ومسلم (2237).

(3/449)


لقبه الشين، ولو استقبلتُ من أمري ما استدبرت لأعلمت له «ق»، إذ هو مشهور بأبيه، ولم أكتب هذا إلا في الجزء الثاني لمّا طال اسمهما وتكرَّر (1). وقد تعبتُ في تجريد هذه الزوائد لكني استفدت بها مقصدَين من أعظم المقاصد، أحدهما: مطالعة الكتاب، والثاني: تسهيل هذه الزيادات على الطلاب. واعْلم أنّ هذا التجريد أفاد أمرًا حسنًا وفضلًا بيِّنًا، وذلك أنّ الناظر في كتاب الحافظ المنذري لا يستغني عمّا زاده عليه الحافظ ابن القيم، والناظر في كلام الحافظ ابن القيم لا يستغني عن كتاب الحافظ المنذري، لأنّ الشيخ ابن القيم لم يكتب في كتابه جميع ما حشّى به الإمام المنذري، بل كثيرًا ما يحذف منه فوائد لا تُعَدّ ولا تُحصَى لكثرتها= فإذا كان عند الإنسان كتاب المنذري وهذا التجريد استغنى به عن طُول النظر في كتاب الحافظ ابن القيم. ثم ولو نظر في كتاب ابن القيم لا يقدر على التمييز بين كلامه وكلام المنذري حتى يقابل البابَين اللذَين ينظر فيهما معًا ــ كما فعل كاتبه ــ فتتبيَّنَ له الزيادة، فيحتاج إلى طول زمان والعمرُ قصير، والشغل كثير، والأجل في مسير! ثم إنّ الإمام الحافظ أبا عبد الله محمدًا شمس الدين ختم كتابَه بألفاظ تروق الأسماع والأبصار، ويحصل بها لناظرها وسامعها اتِّعاظ واعتبار، فقال: _________ (1) أما نحن في طبعتنا هذه فقد أثبتنا كلام المنذري بخط مسوّد تمييزًا له، وكلام ابن القيم مُصدَّرًا بـ «قال ابن القيم - رحمه الله -»، هكذا من أول الكتاب إلى آخره.

(3/450)


«ووقع الفراغ منه في الحِجْر ــ شرَّفه الله تعالى ــ تحت مِيزاب الرحمة في بيت الله، آخرَ شوال سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة (1)، وكان ابتداؤه في رجب من السنة المذكورة. وتضرَّع كاتبه إلى الله تعالى في بيته أن يجعله زادًا له ولإخوانه من أهل السنة إلى جنَّته، وبلاغًا له ولهم إلى مرضاته، وعونًا لهم على طاعته، وسببًا لنيل مغفرته ورحمته، وأن يجعلهم من المؤتَمِّين به، المقدِّمين له على غيره، المحكِّمين له المتحاكِمين إليه عند التنازع، التاركين غيرَه له، ولا يجعلهم من التاركين له لغيره، إنّه سميع الدعاء وأهل الرجاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وصلى الله على فاتح باب الهُدى ومُخرِج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم وهاديهم إلى صراط العزيز الحميد، الذي أبان الله به المحجَّة، وأقام به الحجَّة، وأنار به السبيل، وأوضح به الدليل، وهدى به من الضلالة، وعلَّم به من الجهالة، وأرشد به من الغيّ، وفتح به أعينًا عُميًا وآذانًا صُمًّا وقلوبًا غُلفًا، فلم يدَع بابًا من أبواب الهدى والعلم إلا فتحه، ولا مُشكِلًا إلا أوضحه، ولا طريقًا تقرِّب إلى الجنة وتباعد من النار إلا بيَّنها، وأرشد أمَّته إليها ودلَّهم عليها، فاستغنى به الموفَّقون المهديُّون من أمته عن كل ما سواه، ولم يكن بهم إلى أحد سواه حاجة، ومن جاءهم بشيء من العلم عرضوه على قوله وسنته، فإن زكّاه قبِلوه وارتضَوه، وإن لم يزكِّه اطَّرحوه وتركوه، فهم الأغنياء به، المفتقرون إلى ما جاء به أشدَّ (2) من افتقار الجسد والروح _________ (1) تحرّف في ط. المعارف إلى: «وتسع مائة». (2) ط. المعارف: «إلى ما حباه الله»، تحريف.

(3/451)


إلى حياتها (1)، قد انتسبوا إليه وإلى سنته بأقرب نسب، وتمسكّوا منها بأقوى سبب. غيرُهم في هذا النسب دعِيٌّ زَنِيم، ومن التعلُّق بهذا السبب عديم؛ قد استمسك من الباطل بغير العروة الوثقى، وهبط به إلى الحضيض الأدنى من حيث ظنَّ أنه يصعد به ويرقى؛ قد أنفق أنفاسه وأوقاته في غير زاد، ووصل صِفر اليدَين مُزْجَى البضاعة إلى المعاد، طاف عمرَه في أبواب الآراء والمذاهب، ففاز منها بأدنى المراتب وأخس المطالب؛ لم تثبت قدمُه في العلم حيث ثبتت أقدام الراسخين، ولا نفَذت بصيرتُه إلى حيث نفَذت بصائر المستبصرين، ولا أحسن ظنًّا بغيره ممَّن هو على خلاف قوله من الأئمة المجتهدين، بل أحسن الظنَّ بنفسه وبطائفته من المقلِّدين؛ فتولَّد من بين ذلك الخُذلان والحِرمان، والحميَّة والعصبيَّة لأقوال وآراءٍ ما أنزل الله بها من سلطان؛ فيا له من سعيٍ ضائع، وعلمٍ غير نافع؛ ستبدو له حقيقته [ق 275] إذا بُعثِر ما في القبور، وحُصِّل ما في الصدور؛ وانجلى الغبار، وعُرِف أفرسٌ تحته أم حِمار؛ وبالله المستعان وعليه التُّكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم». فرغ مجرِّده من تجريده يوم الأربعاء النصف من شهر ربيعٍ الأول سنة تسعين وسبعمائة، ختم الله له بالحسنى وزيادة، آمين. صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وكاتبه يلتمس من إخوانه المؤمنين أن يدعوا له بالموت على الإسلام والسنة، وبعد موته بالرحمة والرضوان. * * * _________ (1) ط. الفقي: «حياتهما»، والمثبت موافق للأصل.

(3/452)