الوصف المفصل
لماذا يحتاج الناس إلى الدين ؟ ألا تكفي القوانين لضبط حياة الناس !.
الحمد لله
حاجة البشر إلى الدين أعظم من حاجاتهم إلى ما سواه من ضرورات الحياة؛ لأن الإنسان لا بد له من معرفة مواقع رضى الله - سبحانه - ومواقع سخطه, ولابد له من حركة يجلب بها منفعته, وحركة يدفع بها مضرته, والشرع هو الذي يميز بين الأفعال التي تنفع والتي تضر, وهو عدل الله في خلقه, ونوره بين عباده, فلا يمكن للناس أن يعيشوا بلا شرع يميزون به بين ما يفعلونه وما يتركونه.
وإذا كان للإنسان إرادة فلا بد من معرفة ما يريده, وهل هو نافع أو ضار؟ وهل يصلحه أو يفسده؟
وهذا قد يعرفه بعض الناس بفطرهم وبعضه يعرفونه بالاستدلال إليه بعقولهم, وبعضه لا يعرفونه إلا بتعريف الرسل وبيانهم لهم وهدايتهم إياهم - انظر التدمرية, تأليف شخ الإسلام ابن تيمية و ص: 213, 214 , ومفتاح دار السعادة , جـ2 , ص: 383 -.
فمهما استعلت المذاهب المادية الإلحادية وتزخرفت ومهما تعددت الأفكار والنظريات فلن تغني الأفراد والمجتمعات عن الدين الصحيح , ولن تستطيع أن تلبي متطلبات الروح والجسد , بل كلما توغل الفرد فيها ؛ أيقن تمام اليقين أنها لا تمنحه أمناً , ولا تروي له ظمأً , وألا مهرب منها إلا إلى الدين الصحيح , يقول أرنست رينان : ( إن من الممكن أن يضمحل كل شيء نحبه وأن تبطل حياة استعمال العقل والعلم والصناعة , ولكن مستحيل أن ينمحي التدين , بل سيبقى حجة باطلة على بطلان المذهب المادي الذي يريد أن يحصر الإنسان في المضايق الدنيئة للحياة الأرضية ) انظر : الدين , تأليف عبد الله دراز , ص : 87.
ويقول محمد فريد وجدي : ( يستحيل أن تتلاشى فكرة التدين ؛ لأنها أرقى ميول النفس وأكرم عواطفها , ناهيك بميل يرفع رأس الإنسان , بل إن هذا الميل سيزداد , ففطرة التدين ستلاحق الإنسان ما دام ذا عقل يعقل به الجمال والقبح , وستزداد فيه هذه الفطرة على نسبة علو مداركه ونمو معارفه ) المصدر السابق , ص: 87.
فإذا ابتعد الإنسان عن ربه فعلى قدر علو مداركه واتساع آفاق علمه , يدرك عظم جهله بربه وما يجب له , وجهله بنفسه وما يصلحها ويفسدها , ويسعدها ويشقيها , وجهله في جزئيات العلوم ومفرداتها كعلوم الأفلاك والمجرات وعلوم الحاسب والنواة وغيرها ... وحينئذ يتراجع العالم من مرحلة الغرور والكبرياء إلى التواضع والاستسلام , ويعتقد أن وراء العلوم عالماً حكيماً , ووراء الطبيعة خالقاً قادراً , وتلزم هذه الحقيقة الباحث المنصف بالإيمان بالغيب والإذعان للدين القويم , والاستجابة لنداء الفطرة والغريزة الجِبِلََّيَّة ....وإذا تخلى الإنسان عن ذلك انتكست فطرته وتردى على مستوى الحيوان الأعجم .
ونخلص بهذا إلى التدين الحق – الذي يعتمد على إفراد الله بالتوحيد , والتعبد له وفق ما شرع – عنصر ضروري للحياة ليحقق المرء من خلال عبوديته للَّه رب العالمين , ولتحصيل سعادته وسلامته من العطب والنصب والشقاء في الدارين , وهو ضروري لتكتمل القوة النظرية في الإنسان ؛ فبه وحده يجد العقل ما يشبع نهمته , ومن دونه لا يحقق مطامحه العليا .
وهو عنصر ضروري لتزكية الروح وتهذيب قوة الوجدان , إذ العواطف النبيلة تجد في الدين مجالاً ثرياً ومنهلاً لا ينفد معينه تدرك فيه غايتها .
وهو عنصر ضروري لتكتمل قوة الإرادة بما يمدها بأعظم البواعث والدوافع ويدرّعها بأكبر وسائل المقاومة لعوامل اليأس والقنوط .
وعلى هذا فإذا كان هناك من يقول : إن الإنسان مدني بطبعه , فينبغي أن نقول : ( إن الإنسان متدين بفطرته ) انظر السابق ص : 84 , 98, لأن للإنسان قوتين : قوة علمية نظرية , وقوة علمية إرادية , وسعادته التامة موقوفة على استكمال قوته العلمية والإرادية , ولا يتحقق استكمال القوة العلمية إلاّ بمعرفة ما يلي :
1- معرفة الإله الخالق الرازق الذي أوجد الإنسان من عدم وأسبغ عليه النعم .
2- معرفة أسماء الله وصفاته , وما يجب له – سبحانه - , وأثر هذه الأسماء على عباده .
3- معرفة الطريق التي توصل إليه سبحانه .
4- معرفة المعوقات والآفات التي تحول بين الإنسان وبين معرفة هذا الطريق وما توصل إليه من النعيم العظيم .
5- معرفة نفسك معرفة حقيقية , ومعرفة ما تحتاج إليه , وما يصلحها أو يفسدها , ومعرفة ما تشتمل عليه من المزايا والعيوب .
فبهذه المعارف الخمس يستكمل الإنسان قوته العلمية , واستكمال القوة العلمية والإرادية لا يحصل إلاّ بمراعاة حقوقه سبحانه على العبد , والقيام بها إخلاصاً وصدقاً ونصحاً ومتابعةً , وشهوداً لمنته عليه ولا سبيل إلى استكمال هاتين القوتين إلاّ بمعونته فهو مضطر إلى أن يهديه الصراط المستقيم الذي هدى أولياءه إليه . انظر: الفوائد, ص : 18-19 .
بعد أن عرفنا أن الدين الصحيح هو المدد الإلهي لقوى النفس المختلفة, فإن الدين – أيضاً – هو الدرع الواقي للمجتمع , ذلك لأن الحياة البشرية لا تقوم إلاّ بالتعاون بين أعضائها , ولا يتم هذا التعاون إلاّ بنظام ينظم علاقاتهم , ويحدد واجباتهم , ويكفل حقوقهم , وهذا النظام لا غنى له عن سلطان نازع وازع يردع النفس عن انتهاكه , ويرغبها في المحافظة عليه , ويكفل مهابته في النفوس ويمنع انتهاك حرماته , فما هو هذا السلطان ؟ فأقول : ليس على وجه الأرض قوة تكافئ قوة التدين أو تدانيها في كفالة احترام النظام , وضمان تماسك المجتمع واستقرار نظامه , والتئام أسباب الراحة والطمأنينة فيه .
والسر في ذلك أن الإنسان يمتاز عن سائر الكائنات الحية بأن حركاته وتصرفاته الاختيارية يتولى قيادتها شيء لا يقع عليه سمع ولا بصر, وإنما هو عقيدة إيمانية تهذب الروح وتزكي الجوارح, فالإنسان مقود أبداً بعقيدة صحيحة أو فاسدة, فإذا صلحت عقيدته صلح فيه كل شيء, وإذا فسدت فسد كل شيء .
والعقيدة والإيمان هما الرقيب الذاتي على الإنسان وهما – كما يلاحظ في عموم البشرية – على ضربين :
- إيمان بقيمة الفضيلة وكرامة الإنسانية وما إلى ذلك من المعاني المجردة التي تستحي النفوس العالية من مخالفة دواعيها حتى ولو أعفيت من التبعات الخارجية والجزائية المادية .
- وإيمان بالله سبحانه وتعالى وأنه رقيب على السرائر , يعلم السر وأخفى , تستمد الشريعة سلطانها من أمره ونهيه , وتلتهب المشاعر بالحياء منه إما محبة له أو خشية منه أو بهما معاً ... ولا ريب أن هذا الضرب من الإيمان هو أقوى الضربين سلطاناً على النفس الإنسانية , وهو أشدهما مقاومة لأعاصير الهوى وتقلبات العواطف , وأسرعها نفاذاً في قلوب العامة والخاصة .
من أجل ذلك كان الدين خير ضمان لقيام التعامل بين الناس على قواعد العادلة والإنصاف , وكان لذلك ضرورة اجتماعية , فلا غرو إن حل الدين من الأمة محل القلب من الجسد . _ انظر : الدين , ص : 98 , 102 _ . وإذا كان الدين عموماً بهذه المنزلة , فالمشاهد اليوم تعدد الأديان والملل في هذا العالم , وتجد كل قوم بما لديهم من الدين فرحون مستمسكون به , فما الدين الصحيح الذي يحقق للنفس البشرية ما تصبو إليه ؟ وما ضوابط الدين الحق ؟ .
من كتاب الإسلام أصوله ومبادؤُه تأليف د . محمد بن عبد الله بن صالح السحيم.