الوصف المفصل
رسول الله محمد ﷺ والحقوق
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده, أما بعد..
بُعث النبيُّ ﷺ في أشدّ فتراتِ التاريخ ظلامًا واستبدادًا, فالرومُ والفرسُ استعبدوا الناسَ, ونَهَبوا خيراتِ الشعوبِ, وساموهم ويلاتِ العذابِ والقهرِ والطغيان.
أما جزيرة العرب فلم تكن بأفضل حالًا من ذلك, فلم يعرف العربيُّ سوى ما توارثه من عاداتِ الآباءِ والأجدادِ التي كانت تنزعُ غالبًا إلى الاستبداد والفخرِ وحبّ السيطرة والتفردِ, ولو كانت القوةُ هي وسيلتُه لتحقيق ذلك, قال عمرو بن كلثوم مصوِّرًا هذه النظرة البدائية:
ونشربُ إن ورَدْنا الماءَ صفوًا
ويشربُ غيرُنا كَدَرًا وطينًا
كان العربيُّ مطالبًا بالموتِ في سبيل هذه الأعرافِ, بل ـ في كثير من الأحيان ـ دون أن يعرفَ سبب خوض غمارِ الحربِ والتعرض للهلاكِ, شعارُه في ذلك:
لا يسألون أخاهم حين يَنْدُبهم
في النائبات على ما قال برهانًا
السادة في القبيلة يملكون كلّ شيء, والعبيدُ المقهورون لا يتمتعون بأدنى الحقوق الإنسانية.
والمرأة مهيضة الجناح, مكسورةُ الخاطر, لا تملك من أمرها شيئًا, بل هي ملكٌ لأبيها, وزوجها, وورثته من بعدِه.
والعاداتُ الجاهلية لها الصَّدارةُ, بحيث تُخفي ما توارثه العربُ من محاسن الأخلاق كالكرم والنجدةِ والوفاء وغيرها.
ومن تلك العاداتِ الجاهلية: السلبُ والنهبُ, وشيوعُ تجارةِ الرقيق والبغاءِ, ووأدُ البنات, وقتلُ الأبناء بسبب الفقرِ, وظهورُ أنواع منكرةٍ من النكاح كنكاح الاستبضاع, وأعظم من ذلك كله الشركُ بالله عزَّ وجلَّ وعبادةُ الأصنام.
واجه رسول الله محمد ﷺ هذه التراكماتِ الجاهلية, ونقضَ الأسسَ التي أقيم عليها هذا البناءُ العجيبُ وجاء بمنهج شامل للحقوق لم تعرف البشرية له مثيلاً.
فبعد أن دعا إلى التوحيد, قرر مبدأ المساواةِ بين الناس: « يا أيها الناسُ إن ربَّكم واحدٌ, وإن أباءكم واحدٌ, ألا لا فضل لعربي على عجمي, ولا لأحمر على أسودَ إلا بالتقوى » [أحمد].
وقال: « من بطأ به عمله, لم يُسرع به نسبُه » [مسلم].
وبين حقوق الإنسان وغير الإنسان في كافة مجالاتِ الحياةِ, فأعطى العبيد حقوقهم, وحفظ لهم كرامتهم, وانتشلهم من وهْدَةِ الضياع, ورغّب في تحريرهم: « إخوانكم خولكم, جعلهم الله تحت أيديكم, فمن كان أخوه تحت يده, فليُطعِمْه مما يأكل, وليُلبسْه مما يلبسُ, ولا تُكلِّفوهم ما يغلبهم, فإن كلفتموهم, فأعينوهم » [البخاري].
وجعل للمرأة من الحقوق ما لم تكن تطمع في بَعْضِه, فبعد أن كانت تُورثُ كالمتاع, أصبحتْ من جملة الورثة, وأصبح لها ذمتُها المالية المستقلةُ, وأباح لها سُبل الكسبِ والتجارة وشاوَرَها, واحترم رأيَها, واستمع إلى شكاتها, ورفع الظلم عنها, وألزم الرجل برعايتها والإنفاق عليها, وأوصى بها في أكبر المحافل: « استوصوا بالنساء خيرً » [متفق عليه].
وبين ﷺ حقوق الأبناء قبل أن يولدوا وذلك باختيار الزوجةِ الصالحةِ التي ستكونُ أمَّا فيما بعدُ, فقال: « فاظفر بذات الدينِ تَربت يداك » [متفق عليه].
وبين حقوقهم في حسن التسميةِ والرعايةِ والتربيةِ والإعدادِ النفسيِّ والاجتماعيِّ والصحيِّ وغير ذلك, وبين حقوق الآباء وبين حقوق المسلم, وبين حقوق غير المسلم على المسلم: « ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصَهُ أو كلَّفَه فوق طاقتِه, أو أخذ منه شيئًا بغير طيبِ نفس, فأنا حَجيجُه يوم القيامة » [أبو داود].
وبيَّن حقوق العمال والأجراء: « أعطوا الأجيرَا أجْره قبل أن يجفَّ عَرقه » [ابن ماجه].
وبين حقوق أرباب العمل: « إن الله يحب إذا عمِلَ أحدُكم عملًا أن يُتقِنَهُ » [البيهقي].
وبين حقوق الخدم: كم أعفو عن الخادم في اليوم يا رسولَ الله! قال: « سبعين مرة!! » [الطبراني].
وبين حقوقَ الفقراء والمساكين وذوي الاحتياجاتِ الخاصةِ: « وهل تُنْصَرون وتُرزقون إلا بضُعَفائكم » [البخاري].
وبين حقوق الأرامل واليتامى: « السّاعي على الأرملة والمسكين كالمجاهدِ في سبيل الله »[متفق عليه], « أنا وكافلُ اليتيم في الجنة هكذ » وأشار بأصبعيه السبابةِ والوسطى. [البخاري].
وبين حقوق ولاةِ الأمورِ على الرعية: « من يُطع الأميرَ فقد أطاعني, ومن يعصي الأميرَ فقد عصاني » [متفق عليه].
وبين حقوق الرعية على ولاة الأمور: « من ولّاه الله عزَّ وجلَّ شيئًا من أمر المسلمين, فاحتَجَبَ دون حاجتهم وخَلّتهم وفقرهم, احتجب الله عنه دون حاجته وخَلَّتِه وفقره » [أبوداود].
وبين حقوق الرجل على زوجته, والزوجة على زوجها, وحقوقَ الصاحب والرفيق, وحقوق العدوِّ المحاربِ, وحقوق المريض والضيفِ والجارِ والغريبِ وكبارِ السنّ.
وبين حقوق البيئة: « ما من إنسانٍ يغرسُ غرسًا أو يزرع زرعًا, فيأكل منه إنسانٌ أو حيوانٌ أو طيرٌ, إلا كان له به صدقة » [متفق عليه].
وحذر من إهمال تأديةِ الحقوق إلى أصحابها: « من كانت عنده مظلمة لأخيه, فليتحلّلْه منها, فإنه ليس ثمَّ دينارٌ ولا درهمٌ, من قبل أن يؤخذ لأخيهِ من حسناته, فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطُرحت عليه » [البخاري].
هذا بعضُ ما جاء به محمد رسول الله ﷺ للبشرية من حقوق هي بأمس الحاجة لتعلمها والعمل بها, فما أحوجنا إلى تعلم ما قرّره النبيُّ ﷺ من حقوق للآخرين, وتأديتها إليهم على أكمل وجْه, والقيام بحملة إعلامية تبين للبشرية الحقوق التي جاء بها رسولنا محمد ﷺ بمختلف الوسائل المطبوعة والمرئية والمسموعة وترجمتها بأهم اللغات العالمية وتقريبها للبشرية عن طريق وضعها في مواقع الإنترنت نصرة لرسول الله محمد ﷺ.
نسأل الله أن يشرفنا جميعًا بنصرته في الدنيا وبمجاورته في الآخرة, وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه.
المقال منشور بجريدة الرياض يوم الخميس الموافق 29/5/2008م
د. أحمد بن عثمان المزيد
أستاذ مشارك بجامعة الملك سعود
Email: dralmazyad@hotmail.com