الوصف المفصل
- التضخم
النقدي في الفقه الإسلامي
- المقدمـــــة
- الباب التمهيدي حقيقة النقود والتضخم النقدي
- الباب الأول التكييف الفقهي للتضخم النقدي
- الباب الثالث الحكم الشرعي في أساليب معالجة آثار التضخم النقدي
- الخاتمـــــة
التضخم النقدي في الفقه الإسلامي
تأليف
خالد بن عبد الله المصلح
عضو هيئة التدريس في قسم الفقه جامعة القصيم
www. almosleh. com
المقدمـــــة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله, وكفى بالله شهيداً, أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً, وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً, فهدى بنوره من الضلالة, وبصر به من العمى, وأرشد به من الغي, وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً, وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد:
فإن من المشكلات الاقتصادية الكبرى التي تواجه دول العالم على اختلافها التضخم النقدي الذي يتهدد اقتصاديات كثير من الدول ويزعزع استقرارها ويعيق نموها أو يربكه. والذي رشح التضخم النقدي لهذا التأثير الواسع ما يترتب عليه من آثار كثيرة تطال جوانب عديدة من حياة الناس، سواء الدينية والدنيوية: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ولما كان التضخم النقدي بهذه المنزلة فقد تنادى الاقتصاديون وخبراء المال والمختصون في مراكز البحوث والدراسات الاقتصادية في العالم لدراسة التضخم النقدي: حقيقته وأسبابه وآثاره ووسائل معالجته. ولم تكن الدراسات الفقهية والبحوث الشرعية في منأى عن دراسة أحكام التضخم النقدي وبحث المسائل الشرعية المترتبة عليه، فقد تناول جماعة من الباحثين الشرعيين بعض المسائل المترتبة على التضخم النقدي بالدراسة والبحث. بل إن مجمع الفقه الإسلامي بجدة، وهو مجمع علمي فقهي( )، كرر النظر والبحث في بعض مسائل التضخم النقدي عدة مـرات في عـدة دورات: في دورة المجمع الثالثة، والدورة الخامسة، والدورة الثامنة، والدورة التاسعة، وكذلك في دورته الأخيرة الدورة الثانية عشرة المنعقدة في الرياض عام 1421هـ، وهذا مما يبرز أهمية هذا الموضوع، وعناية الباحثين الشرعيين به.
وهذه الدراسة التي نحن في أول منازلها بعنوان التضخم النقدي في الفقه الإسلامي إسهام في بيان الأحكام الفقهية المترتبة على التضخم النقدي وتجليتها، وهي أيضاً إسهام في تقويم الحلول المقترحة لمعالجته وفق النصوص الشرعية وفي ضوء القواعد الفقهية المرعيَّة، فالله أسأل أن يعين ويسهل.
أسباب اختيار الموضوع وأهدافه:
أولاً: مسيس الحاجة إلى بحث المسائل الشرعية المترتبة على التضخم النقدي حتى يكون المسلم على بيِّنة من الأحكام الشرعية المتعلقة بهذا الموضوع، لا سيما وأن التضخم النقدي مشكلة اقتصادية يعاني منها كثير من المجتمعات الإسلامية.
ثانياً: ضرورة دراسة الحلول المقترحة لمعالجة التضخم النقدي من وجهة شرعية؛ لتقويمها وتصحيح مسارها.
ثالثاً: حاجة الموضوع إلى مزيد بحث ودراسة، لا سيما وأن معاملات الناس بشتى صورها تجري بالأوراق النقدية، وهي أكثر أنواع النقود عرضة للتغيرات التضخمية.
رابعاً: استفادة الباحث من بحث هذه المسائل التي هي في عداد النوازل، والاطلاع على كلام أهل العلم فيها.
خامساً: إثراء البحوث العلمية الشرعية بمواضيع حيّة معاصرة تعالج قضايا نازلة ومسائل حادثة.
سادساً: إظهار كمال الشريعة واستيعابها لأحوال الناس على اختلاف العصور وإصلاحها لمعاش الناس وحياتهم.
سابعاً: بيان ما يتصف به الفقه الإسلامي من القوة والسعة والاستيعاب لمعطيات العصر وتقديمه الحلول التي تتحقق بها المصالح وتندفع بها المضار.
الدراسات والبحوث السابقة:
لما كان هذا الموضوع بهذه المـنـزلة والأهمية فقد تتبعت ما كتب حول التضخم النقدي من بحوث ودراسات شرعية، وهذا عرض موجز لأبرز ما وقفت عليه من ذلك:
أولاً: بحوث مجلة مجمع الفقه الإسلامي.
وهـي على النحو التالي:
الأول: أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة.
وذلك في الدورة الثالثة عام 1408هـ. وعدد البحوث المقدمة تسعة بحوث(1). والموضوع الذي تناولته هذه البحوث: هو تغيرات النقود والأحكام المتعلقة بها في الفقه الإسلامي، فذكرت تغيرات النقود الذهبية والفضية، وكذا النقود الاصطلاحية. وتطرقت لتطور النقود، وبعض المسائل العلمية المتعلقة بالأوراق النقدية كتخريجها الفقهي، وهل تجب فيها الزكاة؟ وما أشبه ذلك.
الثاني: تغير قيمة العملـة.
وذلك في الدورة الخامسة عام 1409هـ. وعدد البحوث المقدمة اثنا عشر بحثاً(1). والموضوع الذي تناولته هذه البحوث: هو تقلبات قيمة العملة الورقية، وكذلك بحثت أثر تغير قيمة العملة في كلام الفقهاء المتقدمين، وتناولت أيضاً حكم الربط القياسي بمستوى الأسعار، وتميز أحدها بجمع ما ورد في السنة مما يتصل باضطراب العملة، وما نقل عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في ذلك.
الثالث: الندوة الفقهية الاقتصادية.
وذلك في الدورة الثامنة عام 1415هـ. وعدد البحوث المقـدمـة سـتة عشر بحثاً(2). والموضوع الذي تناولته هذه البحوث: هو حكم ربط الديون والأجور والمستحقات بتغير المستوى العام للأسعار، وكذلك بحث أثر الربط القياسي في التضخم،و أنواع الربط.
الرابع: كساد النقود الورقية.
وذلك في الدورة التاسعة عام 1417هـ. وعدد البحوث المقدمة ثمانية بحوث(3). والموضوع الذي تناولته هذه البحوث: هو أنواع التغيرات الطارئة على النقود،و أثر التضخم في الديون السابقة وبيان أنواعه، ومتى يكون التضخم كساداً ؟و ما هي صلة التضخم بالكساد؟ كما تناول بعضها حكم ربط الحقوق والالتزامات بالمستوى العام للأسعار.
الخامس: البيان الختامي لحلقات الندوة الفقهية الاقتصادية.
وذلــك في الـدورة الثانية عشرة عام 1421هـ.
ثانياً: بحوث ندوة ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار.
وذلك في الندوة التي عقدها المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية بجدة( ). وقد طبعت هذه البحوث في كتاب باسم ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار. وهو من مطبوعات البنك الإسلامي للتنمية.
وهذه البحوث تناولت شرحاً لمعنى الربط وبياناً لبعض أنواعه، ومزايا الربط ومساوئه، أي عيوبه، وحكمه الشريعي، كما تضمنت مناقشات المجتمعين، وتوصياتهم.
ثالثاً: بحوث متفرقة.
أثر التضخم الاقتصادي على الزكاة.
وهو للباحث الأستاذ قاسم الحموري، وهو منشور في مجلة أبحاث اليرموك المجلد 11، العدد 1995م، ص (147-169). وفيه تناول الباحث الآثار الاقتصادية للزكاة، ونصاب الزكاة،و أعطى نبذة عن التضخم الاقتصادي، وأثره على الأموال الزكوية، وأثر الزكاة في الحد منه.
رابعاً: كتب ودراسات مستقلة.
الأول: آثار التضخم على العلاقات التعاقدية في المصارف الإسلامية والوسائل المشروعة للحماية.
وهو من تأليف الأستاذ الدكتور رفيق المصري. طبع عام 1421هـ. وعدد صفحاته (94) صفحة. وأصل هذا الكتاب مجموعة البحوث التي قدمها المؤلف لمجمع الفقه الإسلامي. وقد تناول فيه الباحث نبذة عن التضخم النقدي وآثاره، وأثره على العلاقات التعاقدية في المصارف الإسلامية، ووسائل الحماية منه.
الثاني: أحكام تغير قيمة العملة النقدية وأثرها في تسديد القرض.
وهو من تأليف مضر نزار العاني. وقد طبع عام 1421هـ. وأصل هذا الكتاب بحث تكميلي؛ لنيل درجة الماجستير في قسم الفقه وأصوله من كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، وعدد صفحاته (160)صفحة. وقد تناول فيه الباحث أثر تغير قيمة العملة النقدية على تسديد القرض، وهو نوع من أنواع الديون قصر الباحث دراسته عليه.
الثالث: تغير قيمة النقود وأثره في المعاملات.
وهو رسالة علمية تقدمت بها الباحثة: شاديـة عبد الفتاح؛ لنيل درجة الماجستير من كلية دار العلوم في جامعة القاهرة، عام 1996م، عدد صفحاتها (253) صفحة.
وهي في بابين:
الباب الأول: النقود في الفقه الإسلامي. وفيه أربعة فصول ص (18-114).
الفصل الأول: لمحة تأريخية عن النقود. وقد جعلته الباحثة في محورين:
المحور الأول: لمحة عن النقود في الدولة الإسلامية عرضت فيه نشأة النقود وتأريخها في الدولة الإسلامية.
المحور الثاني: لمحة تأريخية عن النقود في غير البلاد الإسلامية.
الفصل الثاني: آراء الفقهاء في طبيعة الأوراق النقدية. وقد جعلته في خمسة مباحث. عرضت في أربعة مباحث بعض تخريجات الفقهاء المعاصرين للأوراق النقدية.
المبحث الأول: القول إنها سندات دين، ما يترتب على هذا القول ونقده.
المبحث الثاني: القول إنها عروض تجارة، ما يترتب على هذا القول ونقده.
المبحث الثالث: إلحاق الأوراق النقدية بالفلوس، ما يترتب على هذه النظرية ونقدها.
المبحث الرابع: الأوراق النقدية بدل النقدين، مستلزمات هذه النظرية ومناقشتها.
وما ذكرته في هذا الفصل يلاحظ عليه عدم استيعاب التخريجات الفقهية، والتي أوصلها بعض الباحثين إلى سبعة تخريجات( ).
المبحث الخامس: الربا في الأوراق النقدية.
الفصل الثالث: الصرف. وقد عرفت في هذا الفصل الصرف، وما يشترط فيه، وذكرت بعض القواعد في استبدال النقود في الفقه.ولم يتبين لي وجه دخول هذا الفصل في موضوع البحث.
الفصل الرابع: الأحكام المتعلقة بالنقود في حالة الرخص، والغلاء، والكساد، والانقطاع. وقد جعلته في ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الكساد والانقطاع وآراء الفقهاء فيهما.
المبحث الثاني: الرخص والغلاء وآراء الفقهاء فيهما. وقد نقلت الباحثة في هذين المبحثين كلام الفقهاء في هذه الأحوال وكلامهم ـ رحمهم الله ـ في انقطاع الدنانير والدراهم والفلوس وكسادها ورخصها وغلائها. ولم تتناول الباحثة الصور المعاصرة لهذه الأحوال إلا بكلام يسير مقتضب بالغ الاختصار في ثلاث صفحات في المبحث الثالث.
المبحث الثالث: التضخم والانكماش.
الباب الثاني: التغير وما يتعلق به. وقد جعلته في ثلاثة فصول.
الفصل الأول: تعريف التغير والقيمة وأنواعها، تناولت في هذا الفصل تعريف كل من هذين المصطلحين وأشارت إلى أنواع القيمة وبينت مخاطر تدهور القيمة الحقيقية للنقود وأهمية استقرار القيمة بوجه عام.
الفصل الثاني: الحلول المطروحة لعلاج التغير، ذكرت في هذا الفصل ثلاث وسائل لعلاج تغير القيمة على وجه العموم سواء كان التغير كساداً أو انقطاعاً أو غلاء أو رخصاً تضخماً أو انكماشاً. وذلك في خمسة مباحث.
المبحث الأول: سياسة تثبيت قيمة النقود، وقد ذكرت في هذا المبحث طرفاً من السياسات الاقتصادية العامة، والتي تساعد في تثبيت قيمة النقود. والكلام في هذا المبحث كلام عام. الجانب الفقهي فيه غير واضح توصيفاً وحكماً.
المبحث الثاني: وسائل تثبيت قيمة الدين، أشارت الباحثة إلى بعض الوسائل المعمول بها لتثبيت قيمة الدين، والجانب الفقهي في عرض هذه الوسائل ليس بالقوي مع أن هذه الوسيلة لمعالجة التغير في القيمة أكثر الوسائل طرحاً وبحثاً في الدراسات والندوات التي تبحث موضوع تغير قيمة النقود.
المبحث الثالث: الربط القياسي ومبرراته بينت في هذا المبحث معنى الربط القياسي عند الاقتصاديين ووجه كونه من الحلول لمعالجة تغير قيمة النقود، لكنها لم تستوعب ذكر أنواع الربط القياسي. بل اقتصرت على نوع واحد منها، وهو الربط بمستوى الأسعار، ولم تذكر الربط بالذهب، ولا الربط بعملة مستمرة أو الربط بسلة عملات.
المبحث الرابع: المبررات العامة لربط المعاملات بمستوى الأسعار، وقد ذكرت في هذا المبحث المبررات الفقهية للربط وكذا المبررات الاقتصادية.
المبحث الخامس: الحجج المعارضة لربط المعاملات بمستوى الأسعار، ذكرت الباحثة الحجج التي تراها مانعة من العمل بهذه الوسيلة الفقهية والاقتصادية، ومالت إلى عدم جواز الربط، وبغض النظر عن النتيجة إلا أن الجانب الفقهي يحتاج إلى تدقيق وتحرير لبيان الجوانب المؤثرة في النتيجة والحكم. وما ذكرته الباحثة في هذا الفصل من حلول لمعالجة تغير قيمة النقود مع كونه لم يختص بمشكلة التضخم النقدي فإنه لم يستوعب الحلول المقترحة المطروحة اقتصادياً وفقهياً. فمن الوسائل التي لم تذكرها الباحثة التحكم في سعر الفائدة، والتسوية القضائية، وتفعيل نظرية الظروف الطارئة. وهذه وسائل مقترحة، وهي بحاجة إلى نظر فقهي وبحث شرعي.
الفصل الثالث: المعاملات التي تتغير فيها قيمة النقود.في هذا الفصل ذكرت الباحثة شيئاً من المعاملات المالية، والتي تتغير فيها قيمة النقود، وذلك في ثمانية مباحث، وهي على الترتيب التالي: القرض، السلم، البيع بأجل، الرهن، الغصب، تقدير الدية، الزكاة، المهر والنفقة. ويلاحظ أن في هذه المباحث ما لا يصح إدراجه في المعاملات لا في الاصطلاح العام ولا الخاص كالزكاة، وتقدير الدية. كما أنها لم تحصر جميع المعاملات التي تتغير فيها قيمة النقود. ويلاحظ أيضاً أن الباحثة لم تفصل في أثر أنواع التغيرات على هذه المعاملات. كما أنها لم تبحث أثر التضخم النقدي، بل اقتصرت على ذكر المعاملات التي تتغير فيها قيمة النقود وبيان التغير على وجه العموم. ومن هذا المنطلق فإن الباحثة لم تذكر شيئاً عن التكييف الفقهي للتضخم النقدي، وغير خافٍ أن التكييف الفقهي له أهمية كبرى في بناء الأحكام ومعرفة الآثار. ولذلك لم تتناول الباحثة أحكام ظاهرة التضخم النقدي وآثارها.
ولبيان بعض أوجه الفرق بين ما في هذه المباحث، وبين ما سأتناوله في هذه الدراسة أذكر النقاط التالية:
أ- المبحث الأول: القرض. تناولت فيه الباحثة التغيرات في قيمة النقود في عقد القرض من خلال ما ذكره الفقهاء المتقدمون. أما ما سأتناوله فهو تأثير التضخم النقدي على جميع أنواع الديون سواء كانت قرضاً أو ثمن مبيع أو رأس مال شركة أو صداقاً مؤخراً أو غيرها، وذلك من خلال المسائل التالية:
1- الواجب رده للدائن، هل هو الثابت في الذمة قبل طروء التضخم النقدي أو قيمته أو يختلف ذلك باختلاف درجة التضخم النقدي؟
2- على القول بأن الواجب القيمة، فهل المعتبر القيمة يوم العقد أو غير ذلك؟
3- هل يفرق بين الدين السابق للتضخم النقدي وغير السابق؟ وهل يفرق بين توقع التضخم النقدي وعدم توقعه؟
4- أثر المماطلة بالدين إلى حصول التضخم؟
ب- المبحث الثاني: السلم. تناولت فيه الباحثة التغير في قيمة النقود في عقد السلم من خلال ما ذكره الفقهاء المتقدمون. أما ما سأتناوله في هذا الإطار فهو أثر التضخم النقدي في العقود الآجلة على وجه العموم. وهي العقود التي لم يسلم فيها أحد المعقود عليه أي: أحد العوضين. وذلك كالسلم وبيوع التقسيط والإجارات الطويلة الأمد وعقود التعهدات كالتوريد والمقاولة. وذلك من خلال المسائل التالية:
1- هل تبقى هذه العلاقات التعاقدية لازمة على حالها أو تعالج بما يناسب حال التضخم النقدي من إثبات خيار للمتضرر أو تعديل القيمة بما يلغي أثر التضخم النقدي؟
2- هل يفرق بين إبرام هذه العقود في ظل التضخم النقدي أو لا؟
3- ما الذي يثبت في حال عدم التمكن من الوفاء بالالتزامات التعاقدية؟
ج- المبحث الثالث: البيع بأجل. وقد تناولت فيه الباحثة تغير قيمة النقود في البيع بأجل، وهو فيما سأتناوله داخل في أثر التضخم النقدي في العقود الآجلة، وقد ذكرت شيئاً من أوجه الفرق قريباً.
د- المبحثان الرابع والخامس: الرهن، والغصب. وقد تناولت فيهما الباحثة بيان تغير قيمة النقود في كل من عقد الرهن والغصب. أما ما سأتناوله فهو أثر التضخم النقدي في الحقوق كالنفقات والرهن أو بدل الغصب وعوض الخلع وما أشبه ذلك. وذلك من خلال بيان ما الذي يثبت لأصحابها في حال التضخم النقدي إذا كانت ثابتة قبله وكذلك ما كان ثابتاً في ظله وزادت نسبته؟ وهل تزاد النفقة ويزاد في الرهن لأجل التضخم النقدي أو لا؟
هـ ـ المبحثان السادس والسابع: تقدير الدية والزكاة. وقد تناولت الباحثة فيهما أثر تغير قيمة النقود على مقدار الدية، وكذلك تغيرها في الزكاة. أما ما سأتناوله مما له صلة بهذين المبحثين فهو أثر التضخم النقدي في المقادير الشرعية كالأموال الزكوية والديات، ونصاب السرقة، وذلك من خلال المسائل التالية:
1- أثر التضخم النقدي في انقطاع الحول؟ وهل يفرّق في ذلك بين التضخم النقدي الجامح وبين التضخم النقدي الطفيف؟
2- أثر التضخّم النقدي فيما إذا أخّر الإنسان إخراج زكاة ماله عن وقتها لسنة أو أكثر ثم طرأ التضخّم النقدي، فما هو المعتبر هل هو ما ثبت وقت الوجوب أو وقت الأداء؟
3- حكم إخراج زكاة غير الأوراق النقديّة ورقاً نقديّاً في حال التضخّم النقدي؟
4- هل يقال بمنع ذلك مراعاة لحظ أهل الزكاة ؟
5- أثر التضخم النقدي في زكاة الدين.
6- أثر التضخم النقدي في تعيين نوع الدية.
7- أثر التضخم النقدي فيما إذا كانت الدية مؤجّلة، وهل المعتبر فيها وقت الوجوب أو وقت الإخراج؟
8- أثر التضخّم النقدي في تعيين الوقت المعتبر للنصاب في السرقة، هل هو وقتها أو وقت الحكم أو تنفيذه؟
و ـ المبحث الثامن: المهر والنفقة. وهذا المبحث كالمباحث السابقة تناولت فيه الباحثة تغير قيمة النقود في كل من المهر والنفقة بوجه عام. أما ما سأتناوله مما يتعلق بهذين الأمرين فقد تقدمت الإشارة إليه في أثر التضخم النقدي في الدين، وكذلك أثر التضخم النقدي في الحقوق فلا حاجة إلى إعادته هنا.
وبهذا يتبين أن هذا البحث لم يتناول التضخم النقدي بدراسة خاصة تناسب أهمية الموضوع والحاجة إلى معرفة الأحكام والآثار المترتبة عليه، وأساليب معالجة هذه المشكلة التي تهدد أكثر المجتمعات فما زالت الحاجة قائمة لمزيد بحث ودراسة تخصصية.
الرابع: تغير القيمة الشرائية للنقود الورقية.
وهو من تأليف الدكتور: هـايل عبد الحفيظ داود. وقـد طبعه المعهد العالمي للفكر الإسلامي عام 1418هـ. وهو في تمهيد وأربعة أبواب:
التمهيد: عرف فيه النقود، وذكر وظائف النقود، وأهميتها، وخصائصها، وجهود العلماء في بيان أحكامها.
الباب الأول: تطور النقود، وهو في فصلين ص (19-84).
الفصل الأول: تناول فيه مراحل تطور النقود ابتداء بالمقايضة ثم النقود السلعية ثم المعدنية ثم الورقية ثم المصرفية.
الفصل الثاني: تناول فيه النقود في العصر الإسلامي من حيث التطور والأنواع المتداولة.
الباب الثاني: مفهوم النقدية في الإسلام، وهو في أربعة فصول ص (85-175).
الفصل الأول: تناول فيه النقود في الكتاب والسنة.
الفصل الثاني: تناول فيه علة الربا في النقود وأقسامه.
الفصل الثالث: تناول فيه هل النقود عرفية اصطلاحية أو أنها محصورة في النقدين.
الفصل الرابع: بحث فيه ثمنية النقود الورقية والمصرفية.
وهذان البابان وما ذكره في التمهيد ليس داخلاً في صلب موضوع التضخم النقدي. ولـذا فإنني سأتناول ما لـه صلة بالموضوع مما يتعلق بالنقود في الباب التمهيدي في الفصل الأول منه تحت حقيقة النقود وتكييفها الفقهي.
الباب الثالث: السياسة الاقتصادية الإسلامية وتغير قيمة النقود، وهو في فصلين ص (177-241).
الفصل الأول: تناول فيه مفهوم قيمة النقود وأسباب وآثار تغير قيمتها.
الفصل الثاني: تناول فيه السياسات الاقتصادية الإسلامية وأثرها في ثبات قيمة النقود، وعرض فيها السياسة النقدية والسعرية والإنتاجية والاستهلاكية.
وهذا الباب عبارة عن عرض لبعض الأساليب الاقتصادية العامة والمستخدمة في تثبيت قيمة النقود وهي سياسات تعنى بها الحكومات ممثلة في مؤسساتها المالية.
أما ما سأتناوله فيركز على معالجة آثار التضخم النقدي على المستوى الخاص والذي يحتاجه عموم الناس على مستوى الأفراد والشركات والمؤسسات، وكثير مما ذكره يندرج في الفصل الذي أسميته تنظيم عرض النقود، ومما سأضيفه في هذا الجانب بيان التكييف الفقهي لهذه الأساليب والذي ينبني عليه التوصل إلى الحكم الفقهي فيها. كما أنني لم أقتصر على هذا الجانب من المعالجة بل تناولت جوانب أخرى في المعالجة لم يذكرها الباحث كالتسوية القضائية وتأخير الزكاة ونظرية الظروف الخاصة.
الباب الرابع: أحكام تغير القيمة الشرائية، وهو في ثلاثة فصول ص (243-353).
الفصل الأول: تناول فيه تغير قيمة النقد بين المثل والقيمة، فذكر كلام الفقهاء في أنواع تغير النقود الذهبية والفضية والمعدنية. أما تغير الورق النقدي فبنى بحثه فيه على كلام الفقهاء في تغير النقود المعدنية. والإضافة على ما ذكره الباحث في هذا الجانب هي بحث التكييف الفقهي للتضخم النقدي ومناقشة ما ذكره المعاصرون من تخريجات فقهية تنبني عليها كثير من الأحكام الفقهية.
الفصل الثاني: تناول فيه تثبيت قيمة الدين مفهومه وحكمه الشرعي ووسائله، وذكر خلاف العلماء في ذلك ثم عرض لوسائل التثبيت. وأبرز إضافة في هذا: التكييف الفقهي لهذا الأسلوب والذي يترتب عليه الحكم. ومن جانب آخر توسيع تفعيل هذا الأسلوب في غير الديون من العلاقات التي تتأثر بالتضخم النقدي.
الفصل الثالث: تناول فيه تطبيقات على تغير القيمة الشرائية للنقود. وذكر في ذلك ثلاثة أمور: أثر تغير قيمة النقود في المرتبات والأجور والنفقات، وفي العقود الممتدة، وفي الأنصبة والمقادير الشرعية. والملاحظ في هذا الفصل الاقتضاب في البحث حيث إن بحث ذلك كله لم يتجاوز ثنتي عشرة صفحة.
والإضافة في هذا البحث تتضح بأمرين:
الأمر الأول: أن هذه الدراسة ستتناول جميع الأوجه التي تتأثر بالتضخم النقدي فيما يظهر للباحث وليست مقتصرة على الجوانب التي ذكرت في بحث الأستاذ هايل فقط. من ذلك مثلاً أنني سأتناول أثر التضخم النقدي في الحقوق عدا ما ذكره من النفقات كبدل الغصب، وعوض الخلع على القول بعدم جواز زيادته على المهر، وما أشبه ذلك من الحقوق. ومن ذلك أيضاً أنني سأتناول أثر التضخم النقدي في عقود التوثيقات والتبرعات بأنواعها كالرهن والضمان، وكالهبة والوصية.
الأمر الثاني: أن هذه الدراسة ستضيف مسائل كثيرة في الجوانب التي أشار إليها كتاب تغير القيمة الشرائية للنقود، ولم يتناولها بالبحث. وهذا عرض موجز للإضافات في كل جانب. ولن أكرر ما يندرج تحت الأمر الأول:
أ- أثر تغير قيمة النقود في المرتبات والأجور والنفقات، وفي العقود الممتدة ذكر مؤلف كتاب تغير القيمة الشرائية للنقود نبذاً في هذه الأمور كل موضوع منها في صفحة. أما النفقات فقد سبق الكلام عنها، وأما المرتبات والأجور والعقود الممتدة فسأتناولها ضمن أثر التضخم النقدي في الديون، وذلك أن هذه الأمور في حقيقتها الفقهية من صور الدين وأنواعه سواء كانت أجوراً أو عقوداً ممتدة، ومن الإضافـات في هذه الدراسة مـا يلي:
1- سأبحث أثر التضخّم في الديون المستقرّة كالصداق المؤجّل والودائع البنكيّة وما أشبه ذلك.
2- بيان ما الواجب ردّه للدائن هل هو الثابت في الذمّة قبل التضخّم أو قيمته، وهل يختلف ذلك باختلاف درجة التضخّم؟ وعلى القول بالقيمة هل المعتبر القيمة يوم العقد أو غير ذلك؟ وهل يفرّق بين الدين السابق للتضخم النقدي وغير السابق؟ وهل يفرق بين الدين الذي يكون التضخم النقدي فيه متوقعاً وبين الدين الذي لا يكون التضخم النقدي فيه متوقعاً؟
3- سأبحث حكم اتفاق المتعاقدين على مراعاة التضخّم النقدي عند إنشاء الدين؟ وقد ذكر في كتاب تغير القيمة الشرائية للنقود شيئاً لـه صلة بـهـذا عند بحث تثبيت الدين وما هاهنا أوسع من التثبيت؛ لأن مراعاة حال التضخم تكون بتثبيت قيمة الدين وبغيرها من الوسائل.
4- سأذكر ما الذي يترتـّب على التضخّم النقدي بالنسبة للعلاقات التعاقدية والالتزامات؟ وهل تبقى على ما كانت عليه وقت التعاقد أم تعالج بما يناسب حال التضخم؟
ب- أثر تغير قيمة النقود في الأنصبة والمقادير الشرعية والإضافة في هذا ما يلي:
1 - سأبين أثر التضخم النقدي في انقطاع الحول؟ وهل يفرّق بين التضخّم الجامح والطفيف؟
2 - سأتناول أيضاً أثر التضخّم النقدي فيما إذا أخّر الإنسان إخراج زكاة ماله عن وقتها ثم طرأ التضخّم، فما هو المعتبر هل هو ما ثبت وقت الوجوب أو وقت الأداء؟ وهل يعتبر التضخّم في هذا أولا؟
3 - سأتناول حكم إخراج زكاة غير الأوراق النقديّة ورقاً نقديّاً في حال التضخّم، وهل يقال بمنع ذلك مراعاة لحظ أهل الزكاة؟
4 - سأتناول أثر التضخم النقدي في زكاة الديون وهل المعتبر فيها وقت وجوبها أو وقت إخراجها.
5 - سأبين أثر التضخم في لزوم قبول المجني عليه أو ورثته الدية من الورق النقدي، وهل لهم الامتناع من القبول بسبب التضخّم؟
6 - سأبين أثر التضخم فيما إذا كانت الدية مؤجّلة، وهل المعتبر فيها وقت الوجوب أو وقت الإخراج؟
7 - سأتناول أثر التضخّم النقدي في تعيين الوقت المعتبر للنصاب في السرقة، هل هو وقتها أو وقت الحكم أو تنفيذه؟
الخامس: آثار التغيرات في قيمة النقود وكيفية معالجتها في الاقتصاد الإسلامي. وهو رسالة تقدم بها الباحث موسى آدم عيسى لنيل درجة الماجستير في الاقتصاد الإسلامي من جامعة أم القرى بمكة المكرمة، عام 1405هـ.وقد طبعتها مجموعة دلة البركة، وعدد صفحاتها (445)صفحة، والرسالة في تمهيد وثلاثة أبواب:
التمهيد: تناول فيه حقيقة النقود الورقية الإلزامية، وماهية التغيرات في قيمتها وكيفية قياسها.
الباب الأول: تناول فيه أسباب التغيرات في قيمة النقود.
الباب الثاني: آثار التغيرات في قيمة النقود.
الباب الثالث: منهج معالجة أسباب وآثار التغيرات في قيمة النقود. وهذا البحث دراسة اقتصادية في طابعها العام. والجانب الفقهي فيها ثمان وثمانون صفحة تقريباً. وهو ما يمثل أقل من خمس الرسالة من حيث الحجم، أما من حيث المسائل الفقهية التي تناولها الباحث بالدراسة فقد ذكرها في التمهيد والباب الأخير، ويمكن إجمالها فيما يلي:
1- أحكام النقود المغشوشة ومدى انطباقها على النقود الورقية المعاصرة ص (30-40).
2- أحكام الفلوس ومدى انطباقها على النقود الورقية الإلزامية ص (42-54).
3- الإشارة إلى اشتراط الفقهاء أن يكون رأس مال شركة المضاربة من النقدين، وإلى اشتراط العلم بالأجرة في عقد الإجارة، وأن هذين الشرطين لا يمكن تحقيقهما في ظل تغير قيمة النقود ص (304-306).
4- في إطار الحلول لظاهرة تغير قيمة النقود اقترح المؤلف تعجيل الزكاة أو تأخيرها حسب ما تقتضيه المصلحة العامة وذكر بعض آراء الفقهاء في ذلك ص (325-329).
5- في إطار الحلول أيضاً ذكر فرض الضرائب،وتكلم عن مشروعيته ص (332-336).
6- من الحلول التي ذكرها سياسة الدين العام، وذكر بعض النقولات في جواز اقتراض الدولة لتثبيت قيمة النقد ص (340-341).
7- ذكر بعض النقولات في أن من لم يكفه دخله فإنه يعطى من الزكاة ص (346-347).
8- بيان أن وقت الأجير مستحق كله لرب العمل إلا أوقات الصلاة، وأنه لا يستحق الأجر إذا فشل أو قصر في أداء العمل ص (351-353).
9- حكى كلام أهل العلم في مسألتي كساد الذهب والفضة وكساد الفلوس ص (361-402).
السادس: الاقتصاد الإسلامي وتغير قيمة النقود.
وهو رسالة علمية تقدم بها الباحث عبد المجيد سنكي لنيل درجة الماجستير من جامعة محمد الخامس في الرباط، عام 1995م، عدد صفحاتها (179) صفحة، وهي في تمهيد وثلاثة أبواب.
التمهيد: عرف فيه التغير والقيمة وبعض المصطلحات.
الباب الأول: الاقتصاد الإسلامي وفقه المعاملات المالية، وهو في فصلين:
الفصل الأول: الاقتصاد الإسلامي، وقد جعله في ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تناول فيه نشأته.
المبحث الثاني: طبيعته.
المبحث الثالث: مراحله في عهد النبوة وفي عهد الخلافة الراشدة.
الفصل الثاني: الاقتصاد الإسلامي عند فقهاء الإسلام، وجعله في مبحثين:
المبحث الأول: تناول فيه الباحث كتب الأموال وعلم الفقه بيّن فيه صلة الكتب المؤلفة في الأموال بعلم الفقه.
المبحث الثاني: كتب الأموال وعلم الاقتصاد في سبعة مطالب جعل كل مطلب لعالم من العلماء الذين لهم إسهامات في علم الاقتصاد، كشيخ الإسلام ابن تيمية( )، المقريزي( )، السيوطي( )، ابن عابدين( ).
الباب الثاني: دراسة نظرية للنقود في الاقتصاد الإسلامي، وقد جعله في فصلين:
الفصل الأول: نشأة النقود ووظائفها، وهو في ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: عن نشأة النقود.
المبحث الثاني: عن نشأتها في الاقتصاد الإسلامي.
المبحث الثالث: عن وظائفها في الاقتصاد الإسلامي.
الفصل الثاني: المعاملات المالية في العهد النبوي وبعده، وهو في مبحثين:
المبحث الأول: المعاملات المالية خلال العهد النبوي، عرض فيه صوراً من المعاملات الواردة في السنة من البيع والسلم والإجارة والشركة وغير ذلك.
المبحث الثاني: المعاملات المالية بعد العهد النبوي، وجعله في ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تطور نظر الفقهاء إلى فقه النقود، وأشار إلى بحث الفقهاء للفلوس وإلحاقها بالنقود بإيجاز شديد.
المطلب الثاني: تناول مسألة تغير قيمة النقود في الفقه الإسلامي، وهو عرض موجز لبعض كلام الفقهاء في هذه المسألة.
المطلب الثالث: تغير قيمة النقود خلال العهد النبوي، وفيه الإشارة إلى أن التغير قليل، وأنه كان في الدراهم والدنانير.
الباب الثالث: موقف الفقهاء من ظاهرة تغير قيمة النقود في المعاملات المالية، وهو في فصلين:
الفصل الأول: قيمة النقود بين الثبات والتغير، وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: تغير قيمة النقود، وفيه بين معنى تغير قيمة النقود، وفيه نوع تكرار مع ما تقدم.
المبحث الثاني: العوامل المؤثرة في الأسعار، تناول الأسباب المؤثرة في الأسعار وأثر تغير قيمة النقود عليها.
المبحث الثالث: تغير قيمة النقود في الاقتصاد الإسلامي، تناول فيه أسباب تغير قيمة النقود في الاقتصاد الإسلامي.
المبحث الرابع: أدوات الحفاظ على استقرار قيمة النقود.وهو في مطلبين:
المطلب الأول: على مستوى النقود، وذكر فيه بعض الوسائل التي تؤدي إلى استقرار النقود بوجه عام.
المطلب الثاني: على مستوى المعاملات، وذكر أن مما يحفظ به النقد من التغير تحريم الاكتناز، وتحريم الربا.
الفصل الثاني: موقف الفقهاء من تغير قيمة النقود في المعاملات المالية، وقد جعله في مبحثين:
المبحث الأول: فتاوى الفقهاء في حالة التغير بالغلاء والرخص والكساد، وجعله في مطلبين:
المطلب الأول: فتاوى الفقهاء في حالة التغير بالغلاء والرخص.
المطلب الثاني: فتاوى الفقهاء في حالة الكساد.وقد ذكر الباحث في هذين المطلبين بعض فتاوى أهل العلم في هذه التغيرات.
المبحث الثاني: مقارنة بين فتاوى الفقهاء في حالات التغير، وقد جعل هذا المبحث محلاً للترجيح في مسألتي المبحث السابق.
فهذه الدراسة ليست دراسة فقهية إلا في هذين المبحثين الأخيرين، ويفتقر عرضهما والمناقشات فيهما إلى نظر فقهي متخصص.
السابع: التحليل الاقتصادي لظاهرة التضخم وعلاجها في اقتصاد إسلامي.
وهي رسالة علمية تقدم بها الباحث محمد الزهراني لنيل درجة الماجستير في الاقتصاد الإسلامي من جامعة أم القرى بمكة عام 1410هـ. وهي بحث اقتصادي لظاهرة التضخم جعله الباحث في تمهيد وبابين:
التمهيد: جعله في ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: ماهية التضخم.
المبحث الثاني: أنواع التضخم.
المبحث الثالث: الآثار الاقتصادية للتضخم.
الباب الأول: أسباب التضخم التحليل والتقويم الإسلامي، وهو في ثلاثة فصول:
الفصل الأول: دور الدولة والمصارف التجارية.
الفصل الثاني: دور المؤسسات الإنتاجية والنقابات العمالية والقطاع العائلي.
الفصل الثالث: دور العوامل الخارجية والمراد بها أسعار الصادرات والمستوردات وأسعار الصرف.
الباب الثاني: السياسات الاقتصادية الشرعية لمكافحة التضخم، وهو في أربعة فصول:
الفصل الأول: السياسات المالية والنقدية، وهو في مبحثين:
المبحث الأول: السياسات المالية، وهو في أربعة مطالب:
الأول: تنظيم جباية الزكاة وتوزيعها. الثاني: سياسة القروض العامة المراد ما تقترضه الدولة. الثالث: سياسة التوظيف. الرابع: سياسة الإنفاق العام.
المبحث الثاني: السياسات النقدية، وفيه ثلاثة مطالب:
الأول: تنظيم نمو الرصيد النقدي. الثاني: تنظيم الائتمان المصرفي. الثالث: فعالية السياسة النقدية.
الفصل الثاني: السياسات الإنتاجية والأجرية، وهو في مبحثين:
المبحث الأول:الإنتاجية، وأشار فيه إلى منع الاحتكار.
المبحث الثاني: الأجرية.
الفصل الثالث: السياسات الخارجية،وهو في مبحثين:
المبحث الأول: السياسات التجارية.
المبحث الثاني: سياسة التكامل الاقتصادي.
الفصل الرابع: سياسات التعزيز السلبي والإيجابي للسلوك التضخمي والسلوك غير التضخمي، وكل منها جعله الباحث في مبحث مستقل.
وبهذا يتضح أن غالب هذه الرسالة اقتصادي الروح والمضمون لم يخصصه الباحث لدراسة الأحكام الفقهية المتعلقة بهذه الظاهرة.
هذا أبرز ما وقفت عليه من البحوث والدراسات الشرعية حول موضوع التضخم النقدي. وأود أن أنبه إلى أن هناك دراسات اقتصادية تناولت الموضوع من وجهة نظر اقتصادية ولم تتناول الجانب الفقهي، فلم أذكر شيئاً منها؛ لأنها خارجة عن موضوع الدراسة.
خطة البحث
انتظم عقد هذا البحث في مقدمة، وثلاثة أبواب، وخاتمة. وبيانها فيما يتبع.
المقدمة.
تشتمل على بيان موضوع البحث، وأهمية دراسته، وأسباب اختيار الموضوع، والدراسات السابقة، وخطة البحث، ومنهجه.
الباب التمهيدي: حقيقة النقود والتضخم النقدي.
وفيه فصلان:
الفصل الأول: حقيقة النقود وتكييفها الفقهي.
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعريف النقود وأنواعها.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تعريف النقود.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: تعريفها لغة.
المسألة الثانية: تعريفها اصطلاحاً.
المطلب الثاني: أنواع النقود.
المبحث الثاني: أنواع التغيرات الطارئة على النقود.
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الكســـاد.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: تعريفه لغة.
المسألة الثانية: تعريفه اصطلاحاً.
المطلب الثاني: الانقطاع.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: تعريفه لغة.
المسألة الثانية: تعريفه اصطلاحاً.
المطلب الثالث: الغلاء والرخص.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: تعريفهما لغة.
المسألة الثانية: تعريفهما اصطلاحاً.
المبحث الثالث: التكييف الفقهي للنقود المعاصرة.
التكييف الأول: أن الأوراق النقدية كالفلوس.
التكييف الثاني: أن الأوراق النقدية نقد خاص.
التكييف الثالث: أن الأوراق النقدية نقد قائم بذاته كالذهب والفضة.
التكييف الرابع: أن الأوراق النقدية بدل عن الذهب والفضة.
التكييف الخامس: أن الأوراق النقدية من عروض التجارة.
التكييف السادس: أن الأوراق النقدية سند بدين.
التكييف السابع: أن الأوراق النقدية سند بدين خاص.
التكييف الثامن: أن الأوراق النقدية مستند ودائع.
الفصل الثاني: حقيقة التضخم النقدي وطرق قياسه وآثاره.
وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: تعريف التضخم النقدي.
المبحث الثاني: نشأة التضخم النقدي وتأريخه.
المبحث الثالث: أنواع التضخم النقدي.
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تصنيف التضخم النقدي باعتبار سرعة ارتفاع الأسعار.
النوع الأول: التضخم الزاحف.
النوع الثاني: التضخم المتسارع.
النوع الثالث: التضخم المفرط.
المطلب الثاني: تصنيف التضخم النقدي باعتبار توقع حدوثه.
النوع الأول: التضخم النقدي المتوقع.
النوع الثاني: التضخم النقدي غير المتوقع.
المطلب الثالث: تصنيف التضخم النقدي باعتبار مصادره وأسبابه.
النوع الأول: التضخم النقدي الناشىء عن جذب الطلب.
النوع الثاني: التضخم النقدي الناشىء عن دفع التكاليف.
المبحث الرابع: طرق قياس التضخم النقدي.
المبحث الخامس: آثار التضخم النقدي.
أولاً: إعادة توزيع الدخل.
ثانياً: تقليص حجم الادخار والاستثمار.
ثالثاً: اختلال العلاقات التعاقدية.
الباب الأول: التكييف الفقهي للتضخم النقدي وأثره في الأحكام الشرعية.
وفيه فصلان:
الفصل الأول: التكييف الفقهي للتضخم النقدي.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: تغيرات قيمة النقود عند الفقهاء المتقدمين.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: التغيرات في النقود الخلقية.
وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: تغير النقود الخلقية بالكساد.
المسألة الثانية: تغير النقود الخلقية بالانقطاع.
المسألة الثالثة: تغير النقود الخلقية بالغلاء والرخص.
المطلب الثاني: التغيرات في النقود الاصطلاحية.
وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: تغير النقود الاصطلاحية بالكساد.
المسألة الثانية: تغير النقود الاصطلاحية بالانقطاع.
المسألة الثالثة: تغير النقود الاصطلاحية بالغلاء والرخص.
المبحث الثاني: التخريجات الفقهية للتضخم النقدي.
التخريج الأول: أن التضخم النقدي نوع من رخص النقود الاصطلاحية.
التخريج الثاني: أن التضخم النقدي المفرط نوع من كساد النقود.
التخريج الثالث: أن التضخم النقدي جائحة من جوائح الأموال.
التخريج الرابع: أن التضخم النقدي منه ما هو ضريبة غير مباشرة.
التخريج الخامس: أن التضخم النقدي حادثة جديدة.
الفصل الثاني: أثر التضخم النقدي في الأحكام الشرعية.
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: أثر التضخم النقدي في المقادير الشرعية.
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: أثر التضخم النقدي في زكاة الأموال.
وفيه أربع مسائل:
المسألة الأولى: أثر التضخم النقدي في انقطاع الحول.
المسألة الثانية: أثر التضخم النقدي في الزكاة المؤخرة.
وفيها فرعان:
الفرع الأول: وجوب الزكاة على الفور.
الفرع الثاني: ما يترتب على تأخير الزكاة في ظل التضخم النقدي.
المسألة الثالثة: أثر التضخم النقدي في إخراج القيمة في زكاة غير الأوراق النقدية.
وفيها فرعان:
الفرع الأول: أثر التضخم النقدي في إخراج القيمة في زكاة ما عدا عروض التجارة.
وفيه أمران:
الأمر الأول: إخراج القيمة في زكاة ما عدا عروض التجارة.
الأمر الثاني: إخراج القيمة في زكاة ما عدا عروض التجارة في ظل التضخم النقدي.
الفرع الثاني: أثر التضخم النقدي في إخراج القيمة في زكاة عروض التجارة.
وفيه أمران:
الأمر الأول: إخراج القيمة في زكاة عروض التجارة.
الأمر الثاني: إخراج القيمة في زكاة عروض التجارة في ظل التضخم النقدي.
المسألة الرابعة: أثر التضخم النقدي في زكاة الدين.
المطلب الثاني: أثر التضخم النقدي في الديات.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: أثر التضخم النقدي في نوع الدية.
المسألة الثانية: أثر التضخم النقدي إذا كانت الدية مؤجلة.
المطلب الثالث: أثر التضخم النقدي في وقت اعتبار النصاب في السرقة.
المبحث الثاني: أثر التضخم النقدي في الديون والحقوق.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: أثر التضخم النقدي في الديون.
وفيه أربع مسائل:
المسألة الأولى: تعريف الديون وأنواعها وأسبابها.
وفيها فرعان:
الفرع الأول: تعريف الديون.
الفرع الثاني: أنواع الديون وأسبابها.
المسألة الثانية: أثر التضخم النقدي في وفاء الديون.
المسألة الثالثة: اتفاق المتعاقدين على مراعاة التضخم النقدي عند إنشاء الدين.
المسألة الرابعة: أثر المماطلة في وفاء الدين إذا طرأ التضخم النقدي.
المطلب الثاني: أثر التضخم النقدي في الحقوق.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: المراد بالحقوق وصورها.
المسألة الثانية: أثر التضخم النقدي في أداء الحقوق.
وفيه أربعة فروع.
الفرع الأول: أثره في تقدير النفقات.
وفيه أمران:
الأمر الأول: أثر تغير الأسعار في النفقات.
الأمر الثاني: تقدير النفقات في ظل التضخم النقدي.
الفرع الثاني: أثر التضخم النقدي في رد المغصوب.
الفرع الثالث: أثر التضخم النقدي في الأخذ بالشفعة.
الفرع الرابع: أثر التضخم النقدي في عوض الخلع.
المبحث الثالث: أثر التضخم النقدي في عقود التوثيقات والتبرعات.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: أثر التضخم النقدي في عقود التوثيقات.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: أثره في عقد الرهن.
المسألة الثانية: أثره في عقد الضمان.
المطلب الثاني: أثر التضخم النقدي في عقود التبرعات.
وفيه أربع مسائل:
المسألة الأولى: أثر التضخم النقدي في التعديل بين الأولاد في الهبة.
المسألة الثانية: أثر التضخم النقدي في حساب الثلث في عطية من مرضه مخوف.
المسألة الثالثة: أثر التضخم النقدي في نوع الصدقة.
المسألة الرابعة: أثر التضخم النقدي في الوصية.
الباب الثالث: الحكم الشرعي في أساليب معالجة آثار التضخم النقدي.
وفيه تمهيد وستة فصول:
الفصل الأول: الربط القياسي.
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: حقيقة الربط القياسي.
وفيه تمهيد ومطلبان:
المطلب الأول: تعريف الربط القياسي.
المطلب الثاني: طرق الربط القياسي.
المبحث الثاني: أنواع الربط القياسي.
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: الربط بمستوى الأسعار.
المطلب الثاني: الربط بالذهب.
المطلب الثالث: الربط بعملة أو سلة عملات.
المطلب الرابع: الربط بسعر الفائدة.
المبحث الثالث: التكييف الفقهي للربط القياسي وبيان حكمه.
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: التكييف الفقهي للربط القياسي بمستوى الأسعار وحكمه.
المطلب الثاني: التكييف الفقهي للربط القياسي بالذهب وحكمه.
المطلب الثالث: لتكييف الفقهي للربط القياسي بعملة أو سلة عملات وحكمه.
المطلب الرابع: التكييف الفقهي للربط القياسي بسعر الفائدة وحكمه.
الفصل الثاني: تفعيل نظرية الظروف الطارئة.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: حقيقة نظرية الظروف الطارئة.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: معنى الظروف الطارئة.
المطلب الثاني: بيان نظرية الظروف الطارئة.
المبحث الثاني: التكييف الفقهي لتفعيل نظرية الظروف الطارئة وحكمه.
الفصل الثالث: التسوية القضائية.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: حقيقة التسوية القضائية.
المبحث الثاني: التكييف الفقهي للتسوية القضائية وبيان حكمها.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: التكييف الفقهي للتسوية القضائية بالصلح.
المطلب الثاني: التكييف الفقهي للتسوية القضائية بقضاء الحاكم.
الفصل الرابع: التسعير.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: حقيقة التسعير.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تعريف التسعير.
المطلب الثاني: التسعير والتضخم النقدي.
المبحث الثاني: التكييف الفقهي للعمل بالتسعير في معالجة آثار التضخم النقدي.
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الأصل في التسعير.
المطلب الثاني: التسعير للمصلحة.
المطلب الثالث: التسعير والتضخم النقدي.
الفصل الخامس: تفعيل إخراج الزكاة.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: حقيقة تفعيل إخراج الزكاة.
المبحث الثاني: التكييف الفقهي لتفعيل إخراج الزكاة وبيان حكمه.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تفعيل تأخير إخراج الزكاة في معالجة التضخم النقدي.
المطلب الثاني: حكم تخصيص صرف الزكاة ببعض الأصناف.
الفصل السادس: تنظيم عرض النقود.
وفيه تمهيد وأربعة مباحث:
المبحث الأول: التحكم في سعر الفائدة (معدل الربا).
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حقيقة التحكم في سعر الفائدة.
المطلب الثاني: التكييف الفقهي للتحكم في سعر الفائدة وحكمه.
المبحث الثاني: تنظيم إصدار النقود.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حقيقة تنظيم إصدار النقود.
المطلب الثاني: التكييف الفقهي لتنظيم إصدار النقود.
المبحث الثالث: تنظيم توليد النقود.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حقيقة تنظيم توليد النقود.
المطلب الثاني: التكييف الفقهي لتنظيم توليد النقود.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: حكم توليد النقود.
المسألة الثانية: حكم تنظيم توليد النقود.
المبحث الرابع: التوظيف والإنفاق العام.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: التوظيف.
وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: حقيقة التوظيف.
وفيها ثلاثة فروع:
الفرع الأول: تعريفه في اللغة.
الفرع الثاني: تعريفه في الاصطلاح.
الفرع الثالث: أثر التوظيف في معالجة التضخم النقدي.
المسألة الثانية: التكييف الفقهي للتوظيف.
المسألة الثالثة: حكم تفعيل التوظيف في معالجة التضخم النقدي.
المطلب الثاني: الإنفاق العام.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: حقيقة الإنفاق العام.
وفيها فرعان:
الفرع الأول: تعريفه.
الفرع الثاني: أثر الإنفاق العام في معالجة التضخم النقدي.
المسألة الثانية: التكييف الفقهي للإنفاق العام.
الخاتمة.
فيها سأبين ما أتوصل إليه من نتائج وتوصيات أو اقتراحات.
الفهارس.
تشتمل على فهرس للآيات، والأحاديث، والآثار، والأعلام، والمصطلحات، والمحتويات.
منهج البحث
سلكت في دراسة وكتابة هذا البحث المنهج التالي. وقد اجتهدت في الالتزام به.
1- صورت المسائل التي سأبحثها تصويراً دقيقاً قبل بيان حكمها.
2- إذا كانت المسألة من مواضع الاتفاق فقد بينت ذلك مع التوثيق. أما إن كانت من مسائل الخلاف فقد حررت محل النزاع قبل حكاية الأقوال فيما يحتاج إلى تحرير.
3- اقتصرت في مسائل البحث على ذكر أقوال المذاهب المشهورة ومذهب الظاهرية. وقد أذكر قول بعض السلف، أو أن هذا القول اختيار أحد أهل العلم من أهل التحقيق.
4- عند ذكر القول في المسألة ذكرت أقوال المذاهب الأربعة مرتبة حسب تأريخها الزمني، فبدأت بمذهب الحنفية ثم المالكية ثم الشافعية ثم الحنابلة. فإن كان هذا القول لبعض أتباع هذه المذاهب، فإنني سأذكره بعد ذكر المذاهب.
5- وثقت كل مذهب من المذاهب بالإحالة إلى كتبه الأصيلة دون نقل كلامهم، إلا إن دعت إلى ذلك حاجة.
6- راعيت في عرض الأقوال تقديم الراجح، وهكذا أفعل في ذكر الأدلة.
7- عند ذكر الأدلة ذكرت وجه الدلالة إلا إن كان جلياً.
8- بعد ذكر الأقوال، والأدلة، والمناقشات، والإجابات عليها بينت ما ترجح لي ذاكراً وجه الترجيح.
9- عزوت الآيات القرآنية بذكر السورة ورقم الآية.
10- خرجت الأحاديث والآثار الواردة في البحث، فإن كانت في الصحيحين أو أحدهما لم أذكر غيرهما. وإن كانت في الكتب الخمسة فسأخرّجها منها أو ممن أخرجه منها، وسأبين ما قاله أهل العلم فيها. فإن لم تكن في شيء مما تقدم فسأخرجها من كتب السنة حسب الطاقة مع بيان درجتها.
11- ترجمت للأعلام الوارد ذكرهم في صلب البحث مع عزوها إلى مصادرها، غير أني لم أترجم للأحياء.
12- شرحت الألفاظ الغريبة، والمصطلحات الخفية.
13- ذيلت البحث بفهارس تُسهّل الوصول إلى المعلومة وتعين على الاستفادة كفهارس الآيات، والأحاديث، والآثار، والأعلام، والمصطلحات والكلمات الغريبة، والمصادر والمراجع، والمحتويات.
كلمة شكر
هذا وفي ختام هذه المقدمة أتقدم بجزيل الشكر لكل من أعان أو أشار في إعداد هذه الدراسة، فإنه(( لا يشكر الله من لا يشكر الناس))( ).
وأخص بالشكر أستاذيَّ الكريمين فضيلة الأستاذ الدكتور الشيخ صالح ابن محمد الحسن، وسعادة الأستاذ المشارك الدكتور محمد بن سعود العصيمي؛ اللذين تفضلا بقبول الإشراف على هذه الرسالة، ولقد كانا نعم المشرفان؛ متابعة للدراسة، وتوجيهاً للبحث منذ الشروع فيها إلى أن تكامل عِقْدُها، فجزاهما الله خيراً، فقد وجدت منهما التشجيع والحث الدائم على الاجتهاد والجد، بارك الله فيهما وجعل ذلك في ميزان حسناتهما.
كما أشكر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية على ما تقدمه من عون وجهد في سبيل نشر العلم النافع بين الناس، وأخص بالشكر كلية الشريعة فيها على ما تبذله من خدمات جليلة وأعمال شريفة في سبيل تأصيل الدراسات الشرعية، والبحوث الفقهية والأصولية.
ثم بعد هذا كله أحمد الله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً على نعمه العظيمة وخيراته الكثيرة، وأساله ـ عزَّ جنابه ـ أن يمن علينا جميعاً بالفقه في الدين، وأن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
الباب التمهيدي حقيقة النقود والتضخم النقدي
وفيه فصلان:
الفصل الأول: حقيقة النقود وتكييفها الفقهي.
الفصل الثاني: حقيقة التضخم النقدي وطرق قياسه وآثاره.
الفصل الأول حقيقة النقود وتكييفها الفقهي
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعريف النقود وأنواعها.
المبحث الثاني: أنواع التغيرات الطارئة على النقود.
المبحث الثالث: التكييف الفقهي للنقود المعاصرة.
المبحث الأول: تعريف النقود وأنواعها
المطلب الأول: تعريف النقود
المسألة الأولى: تعريفها لغة
النقود: جمع نقد( )، وهذه المادة: ((النون، والقاف، والدال أصل صحيح يدل على إبراز شيء وبروزه))( ).
والنقد يطلق في اللغة على معان عديدة منها ما يأتي:
الأول: ((خلاف النسيئة ))( )، فنقد الثمن إعطاؤه نقداً معجلاً( ). ومنه قول جابر( ) في قصة بيعه الجمل لرسول الله : ((فنقدني ثمنه))( ).
الثاني: ((تمييز الدراهم( )، وإخراج الزيف( )منها))( ). فالنقد ((أن يكشف عن حاله في جودته أو غير ذلك))( ). ومن هذا قولهم: ((درهم نقد: وزان جيد، كأنه قد كشف عن حاله فعلم))( ).
الثالث: ((العملة من الذهب أو الفضة وغيرهما مما يتعامل به))( ). وهذا هو المعنى المراد بالنقد والنقود في هذه الدراسة.
هذه بعض معاني النقد عند أهل اللغة، مما له اتصال بموضوع الدراسة.
المسألة الثانية: تعريفها اصطلاحاً
للفقهاء عدة اتجاهات في إطلاق كلمة النقد واستعمالها، وهي كما يأتي:
الأول: إطلاق النقود على المضروب من الذهب والفضة فقط( ).
الثاني: إطلاق النقود على الذهب والفضة سواء كانا مضروبين أو غير مضروبين( ).
الثالث: إطلاق النقود على الذهب والفضة، وعلى كل ما يقوم مقامهما في معاملات الناس ومبادلاتهم من أي نوع كان( ). قال الإمام مالك( ) ~: ((لو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى تكون لها سكة( ) وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة))( ). وقال أيضاً: ((لا يجوز فلس بفلسين, ولا تجوز الفلوس بالذهب والفضة ولا بالدنانير نظرة))( ). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ~: ((وما سماه الناس درهماً وتعاملوا به تكون أحكامه أحكام الدرهم من وجوب الزكاة فيما يبلغ مائتين منه والقطع بسرقة ثلاثة دراهم منه إلى غير ذلك من الأحكام, قل ما فيه من الفضة أو كثر))( ).
وبالنظر إلى هذه الاتجاهات يتبين أن الاتجاه الأخير هو الذي يسير عليه الفقهاء المتأخرون في دراساتهم واستعمالاتهم لكلمة النقد والنقود( ).
فالنقد هو ((كل ما نال ثقة الناس في التعامل به، وأصبح ثمناً ومعياراً للأموال))( ). وبعبارة أخرى هو ((كل شيء يلقى قبولاً عاماً كوسيط للتبادل مهما كان ذلك الشيء وعلى أي حال يكون))( ).
وبهذا التعريف للنقد يلتقي اصطلاح الفقهاء مع اصطلاح الاقتصاديين( )الذين يعرفون النقود بأنها ((أية وسيلة أو واسطة متداولة للتبادل مقبولة على نطاق واسع كمعيار أو مقياس لقيمة الأشياء))( ).
المطلب الثاني: أنواع النقود
تعدُّ النقود منذ أزمنة بعيدة هي الوسيلة الرئيسة للتبادل بين الناس في معاملاتهم وتحصيل حوائجهم. وقد تنوعت أشكال النقود وصورها وأنماطها نتيجة تطور الاقتصاد وتوسع الاحتياجات الإنسانية وتزايد التبادلات وتسارعها، وكذلك نتيجة لاختلاف الأعراف والأموال المستخدمة. ولذلك فالنظام النقدي منذ نشأته في تطور مستمر، وهو لا يزال كذلك، بل هو مرشح لمزيد من التطور.
وهناك اعتبارات عديدة يمكن تقسيم أنواع النقود وفقها إلا أن أشهرها وأكثرها انتشاراً تقسيمها باعتبار تطورها التأريخي( ).
النوع الأول: النقود السلعية
وهي عبارة عن سلع معينة يتعارف عليها الناس تستعمل وسيطاً بينهم في مبادلاتهم ومعاملاتهم( ).
ومن أمثلة هذا النوع من أنواع النقود: الماشية بأنواعها، والقمح، والملح، والتمر. ومنه أيضاً المعادن النفيسة: كالذهب، والفضة.
ومن أهم الخواص التي يتصف بها هذا النوع من النقود أنه يكون نافعاً بذاته، كما أنه سهل النقل والتقسيم( ).
ومما يجدر ذكره هنا أن هذا النوع من النقود هو أول أنواع النقود ظهوراً واستعمالاً. وذلك أن التبادل في المجتمعات الأولى كان يجري بواسطة السلع، وهو ما يُعرف بنظام المقايضة( ). فلما كثرت التبادلات وتطورت الاحتياجات وتوسعت المعاملات صارت المقايضة لا تفي بحوائج الناس ومعاملاتهم، فانتقلوا إلى النقود السلعية وصارت وسيطاً للتبادل بينهم( ). وصار قبول بعض أنواع السلع ليس الغرض منه عينها، بل لمبادلتها فيما بعد بسلع استهلاكية( ) مقصودة( ).
النوع الثاني: النقود المعدنية
وهي عبارة عن قطع معدنية تستعمل وسيطاً للتبادل إما وزناً، وإما عدَّاً( ).
ولما كان الذهب والفضة تميزا عن غيرهما من النقود السلعية بالقبول الواسع؛ لما يتمتعان به من الخصائص فإنهما قد صيغا بأشكال معينة؛ ليسهل التعامل بهما ولتتساوى كميتهما في جميع النقد المضروب. فسُكّت النقود من معدني الذهب والفضة، واستعملا في التبادلات والمعاملات بالعدِّ( ).
لكن نظراً لتوسع المعاملات وتزايد الحاجة إلى النقود والندرة النسبية التي يتميز بها هذان المعدنان وصعوبة نقلهما وحفظهما نشأت الحاجة إلى نوع من النقود يلبي الحاجات الاجتماعية والاقتصادية المستجدة( ).
فقام بعض التجار بإيداع نقودهم المعدنية عند الصيارفة مقابل الحصول على صكوك ورقية بهذه الإيداعات، تتضمن تعهداً بدفع المبلغ المحرر في الصك لصاحبه لدى الطلب، ومع تزايد الثقة بجهات إصدار هذه الصكوك الورقية اكتفى بها التجار في معاملاتهم، فاستعملوها وسيطاً في التبادلات التجارية، فكانت هذه الفكرة هي الخطوة الأولى لنشأة الأوراق النقدية المعاصرة( ).
النوع الثالث: النقود الورقية
وهي عبارة عن أوراق تطرح للتداول وتستخدم في تبادل السلع والخدمات وسائر المعاملات( ).
وقد مرَّ هذا النوع من أنواع النقود بعدَّة مراحل يمكن إجمالها في ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: النقود الورقية النائبة.
كان استعمال الأوراق النقدية في أول الأمر مستنداً إلى الذهب أو الفضة، فكانت هذه العملات الورقية كاملة الغطاء، أي إنها مغطاة مائة في المائة من الذهب أو الفضة. فكل ورقة نقدية تمثّل كمية من الذهب أو الفضة لدى جهة الإصدار تتعهد هذه الجهة بدفع قيمة هذه الأوراق النقدية عند الطلب ذهباً أو فضة. ولذلك أطلق الاقتصاديون على هذا النوع من النقود: النقود الورقية النائبة، وأُطلق عليها أيضاً النقود الورقية الكاملة التمثيل.
ومن الملاحظ في هذه المرحلة أن النقود الورقية لم تُحدث تغيراً في النظام النقدي حيث بقي مستنداً إلى قاعدة المعدن، إذ إن النقود الورقية لم تعدُ كونها سنداً بما يملكه حامل هذه النقود الورقية من الذهب أو الفضة تلتزم به جهة إصدارها.
المرحلة الثانية: النقود الورقية الإلزامية.
شاع قبول النقود الورقية النائبة وانتشر استخدامها في التبادلات وزاد الطلب عليها، فأغرى ذلك الجهات المصدرة لهذه الأوراق، فتوسعت في إصدار النقود الورقية دون أن تكون مغطاة تغطية كاملة، فصارت هذه النقود الورقية نقوداً بذاتها لا سيما وأنه قلَّ أن يلجأ حاملو هذه النقود الورقية إلى استبدال قيمتها بها.
فأدى هذا التطور والتحول النوعي في إصدار النقود الورقية إلى تدخل الحكومات في إصدار النقود الورقية؛ لضبط ذلك وجني المكاسب الناتجة من إصدارها. ومن هنا أصبح إصدار هذه الأوراق النقدية من أعمال المصرف المركزي( ) في الدول. بل إن ذلك يُعدُّ من أهم وظائف البنوك المركزية وأعمالها( ).
وبهذا صارت الأوراق النقدية تستمد قوتها وقبولها من القانون( ) والإلزام الحكومي بها، ولهذا أُطلق عليها النقود الإلزامية أو القانونية( ).
المرحلة الثالثة: النقود الورقية الائتمانية( )
استمرت البنوك المركزية في إصدار النقود الإلزامية القانونية مع تواصل الانخفاض في غطائها من الذهب شيئاً فشيئاً. فلما حدثت الحروب والأزمات وطالب الناس بما تمثله هذه الأوراق النقدية لم تفِِِِِِِِ جهات الإصدار بدفع ذلك، ولم يمنع عدم دفع البنوك المركزية لغطاء الأوراق النقدية من الذهب الناس من استمرار التعامل بالأوراق النقدية وقبولها وسيطاً في التبادل.
وتبين بذلك أن هذه النقود لا تستمد قيمتها من مجرد غطاء الذهب أو الفضة، بل إنها تكتسب ذلك من ثقة الناس بها وقبولهم لها وسيطاً في التبادلات والتعاملات. ومع اتساع دائرة التعامل بهذه الأوراق النقدية وحصول ثقة الناس بها أدى ذلك تدريجياً إلى فك الارتباط بين الغطاء المعدني وبين إصدار النقود الورقية. ولقد كان آخر ذلك وقف الحكومة الأمريكية لالتزام تحويل الدولار إلى ذهب عام 1391هـ، الموافق 1971م.
فصارت النقود بعد ذلك إنما تستمد قوتها من الثقة في قبولها وسيطاً في التبادلات، ومن الثقة في اقتصاد الحكومة المصدرة لها وقوته واستقراره، ومن الشروط والقيود التنظيمية التي تضعها الدول لإصدار النقود الورقية( ).
ولذلك يطلق على هذا النوع من النقود الورقية: النقود الائتمانية؛ لكون هذه النقود مبناها على الأمانة والثقة بين الأطراف المتعاملة بها( ). ويظهر عنصر الائتمان في هذه الأوراق النقدية في أن قيمتها القانونية تقل عن قيمتها السلعية وقوتها الشرائية( )، إذ إنها لا تمثل بذاتها قيمة مقصودة كالنقود السلعية( ).
النوع الرابع: النقود المصرفية
وهي الودائع المصرفية القابلة للسحب بالطرق المختلفة( ). ويعرف هذا النوع من النقود باسم الودائع تحت الطلب، وسبب هذه التسمية أن هذه الودائع يمكن لصاحبها سحبها من المصرف أو سحب جزء منها دون إشعار مسبق للمصرف( ).
وحقيقة هذا النوع من النقود أنها قيد كتابي في دفاتر المصرف، وهذا القيد يعبر عن قدر الأوراق النقدية التي أودعت في المصرف وأسماء أصحابها. ولذلك يسمى هذا النوع من النقود بالنقود الكتابية، ويتم تداولها بواسطة الشيكات( )، وأوامر الصرف الأخرى( ).
ومن هذا يتبين أن النقود المصرفية ليس لها وجود خارجي إلا عندما تتحول إلى أوراق نقدية عند طلب سحب الودائع بالشيكات وشبهها( ).
وهذا النوع من النقود يكثر استعماله في البلدان ذات النشاط الاقتصادي القوي. وذلك لما فيه من تسهيل التبادلات التجارية وسرعة الدفع، ومع هذا فإن هذه النقود المصرفية لا تُعدُّ نوعاً مستقلاً عن الأوراق النقدية، بل هي في الحقيقة نمط جديد من أنماط التعامل بها دون إلغائها أو تغييرها( ).
وبعد هذا العرض لأنواع النقود يمكن القول إن هذه الأنواع من النقود ترجع إلى صنفين:
الصنف الأول: النقود الخَلقية
وهي النقود التي لها قيمة ذاتية( )، كالنقود السلعية: البر والشعير والملح وغير ذلك، إلا أن أبرز هذه الأنواع معدنا: الذهب والفضة، فهما الأشهر بين النقود السلعية، والأكثر رواجاً في الاستخدام كالنقود( ).
وهذا يفسر ما ذهب إليه بعض أهل العلم من أن الذهب والفضة خلقا؛ ليكونا أثماناً للأشياء( ). بل قصر جماعة من أهل العلم النقود الخلقية على الذهب والفضة فقط دون غيرهما من أنواع النقود السلعية( ).
وهذا القول فيه نظر ظاهر، حيث إن الدراسات التأريخية لتطور النقود ترده، فإن استعمال الناس للذهب والفضة في التبادل جاء نتيجة التطور في النظام النقدي والانتقال من نظام المقايضة إلى النقود السلعية( )، كما أنه لا دليل من الكتاب ولا من السنة على هذا القصر( ). قال شيخ الإسلام ابن تيمية ~: ((وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا شرعي بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح; وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به; بل الغرض أن يكون معياراً لما يتعاملون به. والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها، بل هي وسيلة إلى التعامل بها، ولهذا كانت أثماناً; بخلاف سائر الأموال فإن المقصود الانتفاع بها نفسها; فلهذا كانت مقدرة بالأمور الطبعية أو الشرعية. والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيفما كانت))( ).
ومما يؤيد أن النقود ليست مقصورة على الذهب والفضة فقط ما نُقل عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب( ) أنه قال: هممت أن أجعل الدراهم من جلود الإبل. فقيل له: إذاً لا بعير، فأمسك( ). فهذا يدل على أن عمر لم يكن يرى قصر النقد في الذهب والفضة فقط. ولعل هذا هو عمدة الإمام مالك ~ فيما ذهب إليه من توسيع مفهوم النقد ليشمل كل ما قبله الناس وسيطاً للتعامل، ولو لم يكن ذهباً ولا فضة، حيث قال ~: ((ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى تكون لها سكة وعين( ) لكرهتها أن تباع بالذهب والورق( ) نظرة( )))( )، فأعطى الجلود حكم بيع الذهب بالفضة في عدم جواز تأخير وتأجيل القبض مما يفيد أنه أجرى عليها حكم النقود من الذهب والفضة.
الصنف الثاني: النقود الاصطلاحية
وهي ما تعارف الناس على استخدامه وسيطاً للتبادل، وليس لقيمتها العينية أو الذاتية أثر في ذلك غالباً.
وقد كان الفقهاء يمثلون للنقود الاصطلاحية بالفلوس؛ لأنها المستعملة في زمانهم لا يعرف غيرها( ).
ومما يدخل في النقود الاصطلاحية أيضاً النقود الائتمانية بأنواعها كالنقود الورقية؛ لأنه ليس لها قيمة استعمالية ذاتية.
فالورق النقدي مثلاً ليس له قيمة في ذاته تكسبه القبول، ولو قُدِّر أن له قيمة فهو شيء لا يذكر إزاء قيمته التبادلية الشرائية( ).
المبحث الثاني: أنواع التغيرات الطارئة على النقود
تتعرض النقود لعدة أنواع من التغيرات تطرأ عليها تؤثر في قوتها الشرائية التبادلية. وهذه التغيرات هي:
النوع الأول: الكساد.
النوع الثاني: الانقطاع.
النوع الثالث: الغلاء والرخص.
هذا ما تكلم عنه الفقهاء المتقدمون من أنواع التغيرات التي تعتري النقود.
أما التضخم النقدي فلم يتكلموا عنه بهذا اللفظ، وسأتناوله في الفصل الثاني من هذا الباب.
المطلب الأول: الكســـاد
المسألة الأولى: تعريفه لغة
الكساد مصدر ((كسد: الكاف، والسين، والدال أصل صحيح يدل على الشيء الدون لا يُرغب فيه))( ).
فالكساد ((خلاف النَّفَاق ونقيضه))( ).
ومنه قول الله :{وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ} ( )، فإن المراد بالكساد في الآية الكريمة ((نقصان القيمة))( ).
المسألة الثانية: تعريفه اصطلاحاً
الكساد عند الفقهاء: هو أن يبطل التداول بنوع من العملة، ويسقط رواجها في جميع البلدان( ).
وقد ذهب بعض فقهاء الحنفية إلى أن ما ترك التعامل به من النقود في بلد من البلدان يطلق عليه بأنه الكساد ولو كان رائجاً في غيره( ).
والذي يظهر أن معنى الكساد: هو ترك التعامل بالنقود في جميع البلاد؛ لأن بطلان النقود وترك التعامل بها في بلد دون غيره لا يسقط عنها وصف الثمنية.
والذي يظهر أيضاً أنه لا فرق في ثبوت وصف الكساد للنقود بين أن يكون ترك التعامل بها أو بطلانه لأجل منع السلطان التعامل بها أو غير ذلك من الأسباب لارتفاع وصف الثمنية عنها بذلك( ).
المطلب الثاني: الانقطاع
المسألة الأولى: تعريفه لغة
الانقطاع مصدر الفعل انقطع، على وزن انفعل، وهو ((أصل صحيح واحد، يدل على صرم وإبانة شيء من شيء))( ). ((وانقطع الشيء ذهب وقته))( ).
المسألة الثانية: تعريفه اصطلاحاً
انقطاع النقد عند الفقهاء هو ((أن يُفقد من أيدي الناس، ولا يتوفر في السوق لمن يريده، ولو كان موجوداً في البيوت أو في أيدي الصيارفة))( ).
المطلب الثالث: الغلاء والرخص
المسألة الأولى: تعريفهما لغة
الغلاء: مصدر الفعل غلا، وهو ((ضد الرخص))( ). وهو ((أصل صحيح في الأمر يدل على ارتفاع ومجاوزة قدر))( ).
وأما الرخص: فهو مصدر الفعل رخص، وهو ((ضد الغلاء))( ).
المسألة الثانية: تعريفهما اصطلاحاً
غلاء النقود عند الفقهاء: هو أن تزيد قيمة النقود وترتفع بالنسبة للدراهم والدنانير.
أما رخص النقود عند الفقهاء: فهو أن تنـزل قيمة النقود وتنقص بالنسبة للدراهم والدنانير ( ).
المبحث الثالث: التكييف الفقهي للنقود المعاصرة
تدرجت النقود منذ استعمالها وسيطاً للتبادل في أطوار عدة وأشكال متنوعة حتى انتهت إلى الأوراق النقدية التي هي أبرز أنواع النقود في وقتنا الحاضر، وقد عم استعمالها جميع العالم.
ولما كان هذا النمط من النقود حديث الظهور فقد بحث الفقهاء التكييف الفقهي للأوراق النقدية؛ لمعرفة أحكامها وما يثبت لها.
وقد اختلف أهل العلم في التكييف الفقهي للأوراق النقدية على أقوال هي:
الأول: أن الأوراق النقدية كالفلوس( ).
الثاني: أن الأوراق النقدية نقد خاص.
الثالث: أن الأوراق النقدية نقد قائم بذاته كالذهب والفضة.
الرابع: أن الأوراق النقدية بدل عن الذهب والفضة.
الخامس: أن الأوراق النقدية من عروض التجارة( ).
السادس: أن الأوراق النقدية سند بدين.
السابع: أن الأوراق النقدية سند بدين خاص.
الثامن: أن الأوراق النقدية مستند ودائع.
هذا غاية ما وقفت عليه مما قيل في تكييف الأوراق النقدية. وقد أفاض الباحثون في بيان مسوغات هذه التكييفات، وما يترتب عليها من أحكام، وما يرد عليها من مناقشات وانتقادات( ).
التكييف الأول: أن الأوراق النقدية كالفلوس( )
ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الأوراق النقدية كالفلوس فتأخذ حكمها.
ووجه هذا التكييف: أن الأوراق النقدية عملة رائجة بها تُقوّم الأشياء، وليست ذهباً ولا فضة، وأقرب الأشياء شبهاً بها الفلوس، فكلاهما نقد اصطلاحي.
نوقش هذا التكييف: بأن الأوراق النقدية تفارق الفلوس في أمر مهم، وهو أن الفلوس لا يتعامل بها إلا في شراء المحقرات دون النفيس من الأموال( ).
يجاب على هذا بما يأتي:
الأول: أن هذا الفرق غير مؤثر ولا مانع من إلحاق الأوراق النقدية بالفلوس؛ لاتفاقهما في كونهما ثمناً للأشياء ثبت بالاصطلاح، فموجِب إلحاق الأوراق النقدية بالفلوس هو الاشتراك في صفة الثمنية الاصطلاحية، وكون هذه الصفة متفاوتة في القوة لا يمنع من الإلحاق.
الثاني: أن القول بأن الفلوس لا يتعامل بها إلا ثمناً للمحقرات من الأشياء فقط فهذا غير مسلَّم، فإن هذا ليس وصفاً ملازماً للفلوس، بل هو وصف لبعض مراحل استخدامها، فذلك يصدق عليها في أول وقت ظهورها، لكن مع مضي الوقت وقبول الناس للتعامل بها؛ صارت الفلوس في بعض الجهات قائمة مقام الذهب والفضة من كل وجه، فهي ثمن في المبيعات كلها شريفها وحقيرها.
ويشهد لهذا ما ذكره المقريزي ~، وهو من أكثر المؤرخين عناية بالنقود وتأريخها وما مرت به من أطوار وأحوال، حيث قال ~: ((الذي استقر أمر الجمهور بإقليم مصر عليه في النقد الفلوس خاصة، يجعلونها عوضاً عن المبيعات كلها من أصناف المأكولات وأنواع المشروبات وسائر المبيعات، ويأخذونها في خراج الأرضين( )، وعشور أموال التجارة( )، وعامة مجابي السلطان، ويصيرونها قيماً عن الأعمال جليلها وحقيرها، لا نقد لهم سواها، ولا مال إلا إياها))( ). وقد بين في كتابه السلوك لمعرفة دول الملوك تسلسل ذلك فقال ~: ((وكانت الفلوس أولاً إنما هي برسم شراء المحقرات التي تبلغ قيمتها درهماً))، ثم ذكر كيف تغيرت حالها فقال ~: ((حتى صارت هي النقد الرائج بديار مصر وقلّت الدراهم...، وكادت الدراهم الفضة المعاملة التي تقدم ذكرها أن تعدم، وصارت تباع كما تباع البضائع، فبلغت كل مائة درهم منها إلى ثلاثمائة وستين درهماً من الفلوس...)). ومضى في وصف تغير الحال فقال ~: ((وصارت تباع قيم الأعمال، وثمن المبيعات كلها جليلها وحقيرها، وأجرة البيوت والبساتين وسجلات الأراضي كلها، ومهور النساء وسائر إنعامات السلطان إنما هي بالفلوس. وصار النقدان اللذان هما الذهب والفضة ينسبان إلى هذه الفلوس، فيقال: كل دينار بكذا وكذا من الفلوس، وكل درهم من الفضة، إن وجد ولا يكاد يوجد، بكذا من الفلوس. فلم يبق للناس بديار مصر نقد سوى الفلوس...)). ومثل هذا ما ذكره بعض فقهاء الحنفية من وصف بعض أنواع الفلوس بأنها أعز النقود في جهتهم وأنها بمنزلة الدنانير والفضة( ). وهذا الوصف منطبق تماماً على حال النقود الورقية المعاصرة. وهذا يوضح أن الفلوس قد استعملت كما تستعمل الأوراق النقدية في هذا العصر أي: بقوة إبرائية نهائية من الديون والحقوق والالتزامات( ). وأنها قد بلغت في الثمنية والرواج والقبول مبلغ الأوراق النقدية في ذلك، وبهذا يبطل ما احتج به من منع تخريج الأوراق النقدية على الفلوس؛ لضعف وصف الثمنية في الفلوس، كما هو قول جماعة من الفقهاء والباحثين( ).
الثالث: أن الفلوس المستعملة في زمن الفقهاء لم تكن على درجة واحدة في الثمنية بل كانت متفاوتة( )، ولم يمنع ذلك من إثبات نفس الحكم لها جميعاً.
التكييف الثاني: أن الأوراق النقدية نقد خاص( )
ذهب بعض أهل العلم إلى أن الأوراق النقدية نقد خاص من نوع جديد لا تأخذ أحكام الذهب والفضة ولا أحكام الفلوس، بل لها أحكام تخصها تناسب طبيعتها ووظائفها وخصائصها.
ووجه هذا التكييف: أن الأوراق النقدية لها شبه بالذهب والفضة من حيث الثمنية( ). لكنها تفارقهما من وجوه عديدة كما تقدم، ولهذا يمتنع إلحاق الورق النقدي بالذهب والفضة من كل وجه.
وأما الفلوس فإن للأوراق النقدية شبهاً بها، بل شبهها بها أقرب من حيث إنه ليس للأوراق النقدية قيمة ذاتية مقصودة( )، إلا أن الأوراق النقدية تفارق الفلوس في أن الورق النقدي يقوم مقام الذهب والفضة في المبادلات والتعاملات؛ أما الفلوس فإنه لا يتعامل بها إلا في المحقرات فقط( )، وهذا في الحقيقة يمنع من إلحاق الأوراق النقدية بالفلوس من كل وجه.
ولأجل تنازع الأشباه بين الورق النقدي وبين الذهب والفضة من جهة، وبينها وبين الفلوس من جهة أخرى فإنه يثبت للأوراق النقدية أحكام ملفَّقة من أحكام الذهب والفضة ومن أحكام الفلوس، والمرجع في ذلك هو قوة الشبه.
يناقش هذا التكييف: بأن الأوراق النقدية وإن كانت تفارق الذهب والفضة من عدة أوجه، وكذلك تفارق الفلوس من عدة أوجه إلا أن الواجب إلحاق الأوراق النقدية بأقرب الأشياء شبهاً من حيث الجملة. ولا يلزم من هذا أن يثبت لها جميع أحكام ما ألحقت به.
التكييف الثالث: أن الأوراق النقدية نقد قائم بذاته( )
ذهب أكثر أهل العلم المعاصرين إلى أن الأوراق النقدية نقد مستقل بذاته يجري عليه ما يجري على الذهب والفضة، ويعتبر كل نوع منها جنساً مستقلاً، فتتعدد الأجناس بتعدد جهات الإصدار.
وهذا هو الذي أفتت به هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية( )، وصدر به قرار مجلس المجمع الفقهي بمكة المكرمة( )، وكذلك قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي بجدة( ).
ووجه هذا التكييف: أن الأوراق النقدية تؤدي وظائف النقدين الذهب والفضة في كونها أثماناً للأشياء، وأن النقدية في الذهب والفضة ليست مقصورة عليهما، بل هي ثابتة لكل شيء يتخذه الناس مما يؤدي وظائف النقود.
نوقش هذا التكييف: بأن الأوراق النقدية وإن كانت تؤدي وظيفة النقدين: الذهب والفضة لكنها تفارقهما في أمور عديدة( ).
ومن أبرز ما تفارق الأوراق النقدية فيه الذهب والفضة الأمور التالية:
أولاً: أن قيمة الأوراق النقدية اصطلاحية، أما الذهب والفضة فقيمتهما ذاتية.
ثانياً: أن الأوراق النقدية أكثر تغيراً غلاء ورخصاً من النقود الخلقية من الذهب والفضة، كما أن تغيرها أعظم أثراً حيث إنه قد يفضي إلى إلغائها بالكلية بخلاف النقود من الذهب والفضة فثمنيتها باقية مهما اعتراها من تغيرات.
ثالثاً: أن الأوراق النقدية قاصرة في الرواج والقبول زماناً ومكاناً؛فقد تروج في زمان دون زمان باختلاف العوامل المؤثرة في قبولها، وكذلك قد تروج في مكان دون مكان باختلاف البلدان وجهات الإصدار، أما النقود من الذهب والفضة فرواجها وقبولها لا يختلف كثيراً زماناً ومكاناً.
التكييف الرابع: أن الأوراق النقدية بدل عن الذهب والفضة( )
ذهب بعض أهل العلم إلى أن الأوراق النقدية قامت مقام الذهب والفضة، وحلت محلهما فهي بدل عنهما.
ووجه هذا التكييف: أن الأوراق النقدية تكتسب قيمتها مما استندت إليه من غطاء الذهب أو الفضة، فهذه الأوراق قائمة مقام الذهب أو الفضة، نائبة منابها.
نوقش هذا التكييف: بأن الغطاء من الذهب أو الفضة ألغي منذ زمن بعيد، ولم يعد إصدار الأوراق النقدية وقبولها مستنداً إليه. وإنما تستمد قوتها من قوة اقتصاد الدولة المصدرة لها وملكيتها لمختلف وسائل الإنتاج وتنوع ثروتها.
التكييف الخامس: أنها من عروض التجارة( )
ذهب بعض أهل العلم إلى أن الأوراق النقدية أعيان مالية مقومة كسائر ما يعرض للبيع والشراء، فحكمها حكم عروض التجارة لا ربا في بيع بعضها ببعض، ولا في بيعها بالذهب أو الفضة.
ووجه هذا التكييف: أن الأوراق النقدية ليست ذهباً ولا فضة، وليست بمكيلة ولا موزونة، إنما هي أعيان معتبرة القيمة ليس لها جنس تلحق به، فلا يجري فيها الربا.
نوقش هذا التكييف بما يأتي:
أولاً: أن الأوراق النقدية ليس لها قيمة ذاتية، بل قيمتها اصطلاحية، وهذا يلحقها بالذهب والفضة بجامع الثمنية في كل منهما.
ثانياً: أن عروض التجارة هي ما أعد للبيع والشراء من أجل الربح، والأوراق النقدية لا تعد لذلك.
التكييف السادس: أن الأوراق النقدية سند بدين
ذهب بعض أهل العلم إلى أن الأوراق النقدية سند بدين يمثله الرقم المكتوب عليها، تتعهد الجهة المصدرة لها بدفع قيمتها من الذهب أو الفضة حسب نوع غطاء هذه الأوراق.
ووجه هذا التكييف: أن الأوراق النقدية نائبة عن قيمتها من الذهب والفضة التي تعهدت جهة الإصدار بدفعهما عند الطلب. فالمنظور إليه في هذه الأوراق هو ما تحمله من قيمة غطائها لا إلى ذاتها.
نوقش هذا التكييف: بأن الأوراق النقدية في أول ظهورها كان لابد لإصدارها من غطاء كامل قيمتها بالذهب لدى جهة الإصدار ثم إنه تقلص هذا الغطاء تدريجياً حتى ألغي تماماً. ولم يعد إصدارها مرتبطاً بغطائها، ولا يستحق حاملها على جهة إصدارها شيئاً من الذهب أو الفضة. وصار ما يكتب على النقود الورقية من تعهد الجهة المصدرة بدفع قيمتها لحاملها عند طلبه تعهداً صورياً لا واقع له. وبهذا يتبين أن هذا التكييف للأوراق النقدية غير مسلم.
التكييف السابع: أن الأوراق النقدية سند بدين خاص( )
هذا التكييف لا يختلف عن التكييف السابق من حيث وجهه، وما نوقش به. لكنه يفارقه في أنه لا يلحق الأوراق النقدية بالدين من كل وجه، بل هو ((نوع آخر مستحدث لا ينطبق عليه حقيقة الدين وشروطه المعروفة عند الفقهاء))( )، وذلك أن الدين المعروف عند الفقهاء لا ينمو مادام في ذمة المدين ولا ينتفع به ربه، أما هذه الأوراق النقدية فإنها نامية ينتفع بها ربها انتفاعه بالأموال الحاضرة.
التكييف الثامن: أن الأوراق النقدية مستند ودائع( )
هذا التكييف ذكره بعض الباحثين بناء على أن غطاء هذه الأوراق النقدية من الذهب أو الفضة وديعة لدى الجهة المصدرة.
ونوقش هذا بما يأتي:
أولاً: أن غطاء الأوراق النقدية من الذهب أو الفضة قد ألغي، وليس له وجود منذ زمن ليس بالقريب كما تقدم.
ثانياً: أن جهة إصدار هذه الأوراق النقدية تتصرف في غطائها تصرف المالك مما ينفي عنها وصف الوديعة( ).
الترجيــح
وبالنظر إلى هذه التكييفات الفقهية للأوراق النقدية يمكن تصنيفها في مجموعتين من حيث القوة:
المجموعة الأولى: وهي التكييفات الفقهية التي زال موجِِب القول بها بعد تطور هذه الأوراق النقدية.
ويندرج تحت هذه المجموعة التكييفات الفقهية التالية:
أولاً: تكييف الأوراق النقدية بأنها سند بدين.
ثانياً: تكييف الأوراق النقدية بأنها سند بدين خاص.
ثالثاً: تكييف الأوراق النقدية بأنها مستند ودائع.
رابعاً: تكييف الأوراق النقدية بأنها عروض تجارة.
خامساً: تكييف الأوراق النقدية بأنها بدل عن الذهب والفضة.
المجموعة الثانية: وهي التكييفات الفقهية التي يمكن تخريج الأوراق النقدية عليها بعد ما جرى عليها من تطور.
ويندرج تحت هذه المجموعة التكييفات الفقهية التالية:
أولاً: تكييف الأوراق النقدية بأنها كالفلوس.
ثانياً: تكييف الأوراق النقدية بأنها نقد خاص.
ثالثاً: تكييف الأوراق النقدية بأنها نقد قائم بذاته كالذهب والفضة.
والذي يترجح للباحث من هذه التكييفات الفقهية أن الأوراق النقدية حكمها حكم الفلوس.
الفصل الثاني حقيقة التضخم النقدي وطرق قياسه وآثاره
وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: تعريف التضخم النقدي.
المبحث الثاني: نشأة التضخم النقدي وتأريخه.
المبحث الثالث: أنواع التضخم النقدي.
المبحث الرابع: طرق قياس التضخم النقدي.
المبحث الخامس: آثار التضخم النقدي.
المبحث الأول: تعريف التضخم النقدي
التضخم مصدر للفعل تَضَخّم، وأصله الثلاثي ضخم يدل على العظم في الشيء، فالضخم ((العظيم من كل شيء أو العظيم الجرم ))( ).
أما تعريف التضخم النقدي عند الفقهاء فلم أقف لهم على تعريف لهذا المصطلح؛ لأنه حديث الاستعمال فيما يدل عليه من معنى, أما ما يدل عليه التضخم النقدي من معنى فسأبينه عند البحث في التكييف الفقهي للتضخم النقدي.
أما تعريف التضخم النقدي عند علماء الاقتصاد فله عدة تعريفات تمثِّل في الحقيقة تنوع الاتجاهات الاقتصادية في تفسير التضخم ووصفه.
وهذه التعريفات هي:
أولاً: التضخم النقدي ((هو ارتفاع مطرد في المستوى العام للأسعار( )))( ).
وهذا الاتجاه في تعريف التضخم النقدي هو الأكثر انتشاراً وشيوعاً بين الاقتصاديين، بل قد لا يذكر غيره في كثير من كتب الاقتصاد( )، والمعاجم اللغوية الإنجليزية( ).
وهذا التعريف يفيد أن التضخم النقدي إنما يكون بالارتفاع العام لأسعار السلع( ) والخدمات( ) على اختلافها، فارتفاع أسعار بعض السلع والخدمات لا يُعدُّ تضخماً حتى يكون ارتفاعاً عاماً في جميع أسعار السلع والخدمات( ). ويفيد أيضاً أنه لا بد أن يكون الارتفاع في الأسعار مستمراً، فالارتفاع الطارىء ولو كان عاماً لا يُعدُّ تضخماً حتى يكون مستمراً( ).
ثانياً: التضخم النقدي(( هو الزيادة الملموسة في كمية النقود))( ).
وهذا التعريف مبني على أن المتغير الأساسي والمحدد لمستوى الأسعار هو كمية النقود، فالزيادة في كمية النقود هي أساس التضخم، وهذا التفسير للتضخم النقدي هو ما يعرف في علم الاقتصاد بالنظرية الكمية للنقود( ).
ثالثاً: التضخم النقدي ((حركة صعودية للأسعار تتصف بالاستمرار الذاتي تنتج عن فائض الطلب الزائد عن قدرة العرض))( ).
وهذا التعريف للتضخم النقدي يجمع ما في التعريفين السابقين( )، ويتميز عنهما بما يأتي:
الأول: أن الارتفاع في الأسعار الذي يوصف به التضخم النقدي ارتفاع متواصل الصعود؛ لأن ((طابع التضخم أنه ارتفاع تراكمي في الأسعار))( ).
الثاني: بيان السبب الذي ينتج عنه التضخم النقدي، وهو الزيادة في الطلب على استهلاك السلع والخدمات أو على الاستثمار فيها زيادة تفوق وتتجاوز قدرة العرض الكلي لها، ولهذا تبدأ الأسعار في الارتفاع، فيحدث التضخم في الاقتصاد( ).
فهذا التعريف يعبر ((عن الفجوة ما بين الزيادة في كمية النقد المتداول وبين كمية المنتجات والسلع الموجودة في الأسواق، ومن ثم فإن التضخم هو نتيجة هذه الفجوة، وارتفاع الأسعار هو المؤشر لها))( ).
ويقابل التضخم النقدي في علم الاقتصاد ما يعرف بالانكماش و ((هو هبوط مفاجىء في الأسعار أو زيادة مفاجئة في قيمة العملة))( ). وهذه الحال تؤدي إلى انخفاض مستوى النشاط الاقتصادي( ) الذي يقترن به عادة زيادة مستوى البطالة( )، وتدني مستوى الإنتاج، وضعف الرغبة في الشراء والاستهلاك( ).
المبحث الثاني: نشأة التضخم النقدي وتأريخه
لا يُعدُّ ارتفاع المستوى العام للأسعار المطرد، وهو ما يعرف في علم الاقتصاد بالتضخم النقدي، أمراً طارئاً على الأوراق النقدية، بل إن الدراسات في الأدب الاقتصادي وتأريخ النقود تبين أن التضخم النقدي قديم قدم النقد( ).
فأقدم ما وقفت عليه من حوادث التضخم النقدي ما حدث بين عامي 866-868 قبل الهجرة، الموافق 218- 220 قبل الميلاد بسبب الحرب بين روما وقرطاجنة حيث احتاج الرومان إلى عدد كبير من العملة لسدِّ تكاليف الحرب، فعمدوا إلى تخفيض نقاء عملتهم المعدنية ووزنها فأفضى ذلك إلى التضخم( ). وقد تكرر حدوث التضخم النقدي في اقتصاديات الدول على مر العصور في التأريخ القديم والحديث وغالب ذلك في النقود المعدنية( ).
أما الأوراق النقدية فقد طرأ عليها التضخم منذ أول استعمال لها. فإن أول استعمال لها كان في بلاد الصين في أوائل القرن الثاني الهجري والتاسع الميلادي ثم شاع استعمالها في القرن الثالث الهجري والعاشر الميلادي. ومع تزايد إصدار الأوراق النقدية نشأ التضخم في ذلك القرن( )، وتوالت حالات التضخم النقدي في القرن الرابع الهجري والحادي عشر الميلادي وكذا الخامس الهجري والثاني عشر الميلادي، واستمر الاقتصاد الصيني يعاني من هذه الحالات التضخمية المفرطة إلى أن ألغت الحكومة التعامل بالأوراق النقدية. وقامت بجمعها من الناس في إطار الإصلاحات الاقتصادية في أوائل القرن التاسع الهجري ومنتصف القرن الخامس عشر الميلادي، وبهذا طويت أول صفحات تأريخ استعمال الأوراق نقوداً( ). لكن هذا الإلغاء لم يقضِ على التضخم، بل طرأ التضخم في القرن العاشر الهجري والسادس عشر الميلادي في أوربا على النقود المعدنية بسبب الاستعمار الأسباني لأجزاء من القارة الأمريكية ولزيادة أعداد الناس. وكذلك حدث تضخم النقود المعدنية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجري الموافقين الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي في العديد من الدول( ).
أما الأوراق النقدية فإنها قد عادت إلى الظهور مجدداً منتصف القرن السابع عشر الميلادي في أوربا، وشاع استعمالها حتى أصبح الورق النقدي أكثر أنواع النقود استعمالاً( ). وقد حدث التضخم فيها كغيرها من أنواع النقود، إلا أن أشد ذلك التضخم المفرط الذي عانت منه ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى عام 1341هـ، الموافق 1923م. وكذلك ما تعرض له الاقتصاد في بعض بلدان أوربا الشرقية ما بين عامي 1364- 1365هـ، الموافق 1944- 1946م( ). ومن ذلك أيضاً التضخم النقدي الذي حدث في يوغسلافيا عام 1410هـ، الموافق 1990م بعد انهيار الشيوعية( )في أوربا( ).
ومما تجدر الإشارة إليه في تأريخ التضخم النقدي أن غلاء الأسعار تكرر وقوعه في تأريخ الأمة الإسلامية على مر العصور كما ذكر ذلك المؤرخون( ). لكن لما لم يكن كل ارتفاع للأسعار يوصف بأنه تضخم فإنه لا يمكن ضم كل ذلك في تأريخ التضخم النقدي، لا سيما وأن من تلك الارتفاعات في الأسعار ما كان مرتبطاً بأسباب وقتية من قحط أو نقص طارىء في المحاصيل أو ما أشبه ذلك من العوامل المؤقتة التي يخرج بها ارتفاع المستوى العام للأسعار عن كونه تضخماً نقدياً. ومن ذلك غلاء السعر في عهد رسول الله في السنة الثامنة من الهجرة( )، فإن سببه أن المطر قَحَطَ وانحبس، فقد روى أنس بن مالك( ) ((أن المطر قَحَطَ على عهد رسول الله بالمدينة حتى غلا السعر، وخشوا الهلاك على الأموال، وخشينا الهلاك على أنفسنا. فقلنا: ادع ربك أن يسقينا. فرفع رسول الله يديه إلى السماء، ولا والله ما نرى في السماء بيضاء، ولا والله ما قبض يده حتى رأيت السماء تشقق من هاهنا وهاهنا، حتى رأيت ركاماً، فصب سبع ليال وأيامهن من الجمعة إلى الجمعة الأخرى، والسماء تسكب))( ). ومثل هذا الارتفاع في الأسعار لا يوصف بأنه ارتفاع تضخمي في اصطلاح الاقتصاديين؛ لأنه إنما يوصف الارتفاع في الأسعار بأنه ارتفاع تضخمي إذا كان ارتفاعاً تصاعدياً مستمراً لا يرتبط بأسباب وقتية، كما تقدم في تعريف التضخم النقدي.
ومما يمكن نظمه في تأريخ التضخم النقدي ما جرى في سنة 794هـ والسنوات التالية لها حيث زاد ضرب الفلوس المملوكية( ) مما أدى إلى انخفاض قوتها التبادلية الشرائية للنقود. واستمر ذلك إلى آخر عصر المماليك في القرن العاشر( ). وكذلك ما جرى في عام 1215هـ في البلاد المصرية حيث ((غلت أسعار جميع الأصناف، وانتهى سعر كل شيء إلى عشرة أمثاله وزيادة على ذلك))( ). واستمر ذلك وكثر ضرب الريالات المغشوشة، فاضطربت معاملات الناس وأسعار الأشياء( ). وهاتان حادثتان يمكن وصفهما بأنهما من حالات التضخم النقدي( ).
ومما تقدم يتبين بجلاء أن التضخم النقدي ليس أمراً حديثاً لم تعرفه الاقتصاديات القديمة، بل له جذوره التأريخية القديمة التي اتضحت من خلال تأريخ تطور الوقائع الاقتصادية غير أن تصاعد الاهتمام بقضية التضخم النقدي ((بدأ يتجلى بشكل ملحوظ على صعيد الفكر الاقتصادي، وكذا على ساحة الدراسات الاقتصادية التطبيقية منذ الحرب العالمية))( ).
(( والواقع أن تزايد الاهتمام بقضية التضخم لم يأت كنتيجة للتطور التلقائي للعلوم الاقتصادية. ولكنه يرجع إلى تغيرات أساسية حدثت على صعيد الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي منذ الثلاثينات من القرن الحالي))( )، هي في جملتها من تأثيرات التضخم النقدي وانعكاساته. ومن أبرز ذلك التطور الذي شهده النظام النقدي وشيوع النقود الائتمانية التي هي أكثر أنواع النقود عرضة للتقلبات والتغيرات.
المبحث الثالث: أنواع التضخم النقدي
هناك عدة اعتبارات يمكن تصنيف التضخم النقدي على أساسها.
ومن ذلك تصنيف التضخم النقدي باعتبار السرعة التي ترتفع بها الأسعار، ومنها تصنيف التضخم النقدي باعتبار توقع نسبته، وغير ذلك من الاعتبارات( ).
سأذكر أشهر هذه الاعتبارات، وألصقها بموضوع البحث في المطالب التالية.
المطلب الأول: تصنيف التضخم النقدي باعتبار سرعة ارتفاع الأسعار
ينقسم التضخم النقدي باعتبار سرعة ارتفاع الأسعار إلى ثلاثة أنواع رئيسة( ):
النوع الأول: التضخم الزاحف
وهو ارتفاع متواصل للمستوى العام للأسعار بمعدلات صغيرة( ). وهذا هو وجه تسميته بالزاحف فإن نسبة ارتفاع الأسعار في هذا النوع تتزايد ببطء متواصل. ويعرف هذا النوع في بعض الدراسات بالتضخم الدائم.
والتضخم الزاحف من أخف أنواع التضخم النقدي( )، فإن نسبة ارتفاع مستوى الأسعار فيه تتراوح بين واحد في المائة إلى خمسة في المائة سنوياً( ).
وقد انقسم الاقتصاديون في ضرر هذا التضخم وخطورته على اقتصاديات الدول إلى فريقين:
الأول: فريق يهون من خطورة هذا النوع، ويرى أنه لا يشكل خطراً على الاقتصاد، بل يراه نافعاً حيث يكون دافعاً للنمو الاقتصادي.
الثاني: فريق يرى خطورة هذا النوع؛لأنه قد يخرج عن التحكم فتتسارع نسبة الارتفاع في مستوى الأسعار، أو أن الاستمرار في معدل ارتفاع الأسعار لمدة طويلة يخرجه عن كونه تضخماً زاحفاً.
النوع الثاني: التضخم المتسارع
وهو ارتفاع مستمر ومتضاعف في المستوى العام للأسعار في فترة زمنية قصيرة. وهو من الأنواع الخطرة التي تهدد الاقتصاد( )، تزيد فيه نسبة ارتفاع مستوى الأسعار على عشرة في المائة سنوياً، ويعرف في بعض الدراسات الاقتصادية بالتضخم السريع( ). وهو من أصعب أنواع التضخم النقدي معالجة.
النوع الثالث: التضخم المفرط
وهو ارتفاع سريع حاد في المستوى العام للأسعار( ). ويسمى هذا النوع من التضخم النقدي في كثير من الدراسات الاقتصادية العربية بالتضخم الجامح( ). ويعدُّ هذا النوع أشد أنواع التضخم النقدي خطورة على اقتصاديات الدول حيث تزيد نسبة ارتفاع المستوى العام للأسعار فيه على خمسين في المائة شهرياً، وقد تصل إلى مائة في المائة، بل قد تتضاعف إلى أن تصل الزيادة في المعدل العام للأسعار إلى أربع منازل عشرية في المائة كما حدث في البرازيل، حيث وصل التضخم النقدي فيها عام 1415هـ، الموافق 1995م إلى ألفين ومائة وثمانية وأربعين في المائة( ).
وغالباً ما يفضي هذا النوع من التضخم النقدي إلى تدمير الاقتصاد وإلغاء العملة. ومن أشهر أمثلة هذا النوع ما جرى في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى( ) في عام 1341هـ الموفق 1923م، حيث بلغت نسبة التضخم النقدي ألفين وخمسمائة في المائة في الشهر( ). وكذلك ما جرى في المجر عامي 1364-1365هـ، الموافق 1945- 1946م حيث بلغ معدل التضخم الشهري تسعة عشر ألف وثمانمائة في المائة، ولذلك سمي بأم التضخمات المفرطة( ).
المطلب الثاني: تصنيف التضخم النقدي باعتبار توقع حدوثه
ينقسم التضخم النقدي باعتبار توقع حدوثه إلى نوعين:
النوع الأول: التضخم النقدي المتوقع
وهو تغير في المستوى العام للأسعار بنسبة لا تزيد على ما كان متوقعاً على نطاق واسع( ).
وبيان ذلك أن المؤسسات الاقتصادية في الدول تسعى من خلال معطيات الوضع الاقتصادي الحالي إلى التنبؤ بنسب التضخم في المستقبل، ولهذه التوقعات دور مهم في معالجة التضخم والإصلاح الاقتصادي والتقليل من الأضرار الناتجة عنه. فإذا وافقت نسبة التضخم ما كان متوقعاً أو كانت دونه فإنه يصنف ضمن التضخم النقدي المتوقع. وهذا في الواقع قليل لأن التضخم المتوقع يأتي في الغالب بغتة ولا يمكن التنبؤ به بدقة( ).
النوع الثاني: التضخم النقدي غير المتوقع
وهو الزيادة في المستوى العام للأسعار زيادة مفاجئة أعلى من النسبة المتوقعة عند أكثر الناس( ).
وغالب ما يحدث من حالات التضخم النقدي يندرج تحت هذا النوع، وذلك لأن استشراف نسبة التضخم والتنبؤ بذلك أمر يكتنفه كثير من المخاطر وهو في غاية الصعوبة؛ لكثرة العوامل المؤثرة في معدل التضخم ونسبته، ولصعوبة التحكم بها والسيطرة عليها( ).
ويتبين ذلك بمعرفة أن توقع نسبة التضخم النقدي؛ إما أن يكون بناء على الوضع الاقتصادي الماضي أو بالنظر إلى المستقبل، وفي كلا الأمرين إشكال.
أما النظر في توقع نسبة التضخم إلى الماضي فمعلوم أن المعطيات والعوامل التي في الماضي قد لا تدوم فيختلف الأمر وتتبدل الحال.
وأما النظر إلى المستقبل فهو ضرب من التخمين الذي لا يبنى على مقدمات صحيحة؛لكونها قد تتغير أو يطرأ ما لم يكن في الحسبان، ولهذا يفضل كثير من الاقتصاديين قصر التوقعات على مدد غير طويلة تجنباً للخطأ( ).
المطلب الثالث: تصنيف التضخم النقدي باعتبار مصادره وأسبابه
وهذا الاعتبار هو أشهر الاعتبارات التي يصنف على ضوئها التضخم النقدي في كتب الاقتصاد( ).
ينقسم التضخم النقدي بهذا الاعتبار إلى نوعين:
النوع الأول: التضخم النقدي الناشىء عن جذب الطلب
وهو زيادة الطلب الكلي( ) للسلع والخدمات على نسبة المعروض منها، وبسبب هذه الزيادة يختل التوازن في الأسواق، فتبدأ الأسعار بالارتفاع نتيجة لتخلف العرض الكلي للسلع والخدمات عن الطلب الكلي عليها( ).
أما سبب زيادة الطلب الكلي فهو زيادة كمية النقود، فيحدث ما يعبر عنه الاقتصاديون في وصف التضخم النقدي أو تعريفه بقولهم: ((نقود كثيرة تطارد سلعاً قليلة))( ).
النوع الثاني: التضخم النقدي الناشىء عن دفع التكاليف
وهو زيادة تكاليف إنتاج السلع والخدمات، بسبب ضغوط العمال لرفع أجورهم( ).
وبيان ذلك أنه بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة فإن العمال يطالبون بأجور أعلى لمقابلة هذا الارتفاع، وهذه المطالبة برفع الأجور ستؤدي إلى رفع تكاليف الإنتاج، والاستجابة لهذه المطالب تفضي إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج فيقوم أرباب العمل برفع أسعار منتجاتهم لمواجهة هذا الارتفاع، فيولد هذا التلاحق في ارتفاع الأسعار حالات تضخمية خطيرة( ).
المبحث الرابع: طرق قياس التضخم النقدي
يستعمل الاقتصاديون لقياس نسبة التضخم النقدي الأرقام القياسية للأسعار. ووظيفة هذه الأرقام أنها ((تقيس متوسط التغير في الأسعار))( )عن طريق قياس التغيرات التي تحدث في فترات زمنية معينة، وذلك بمقارنة الأسعار في السنوات المختلفة بالأسعار في سنة محددة تسمى بفترة أو سنة الأساس( ). ((ويعبر عن هذا الدليل أو المؤشر عادة بنسبة مئوية على اعتبار أن مستوى فترة الأساس هو الرقم100))( ).
ومما تقدم ((يمكن تعريف الأرقام القياسية للأسعار بأنها عبارة عن ملخص التغير النسبي في أسعار مجموعة من السلع في وقت معلوم بالنسبة إلى مستواها في وقت آخر يتخذ أساساً للقياس أو أساساً للمقارنة))( ).
وهناك أنواع متعددة من الأرقام القياسية لقياس الأسعار مثل: الرقم القياسي لأسعار الجملة، والرقم القياسي لأسعار التجزئة، والرقم القياسي لأسعار الأسهم، والرقم القياسي لأسعار المستهلكين( )، وغير ذلك من الأرقام القياسية( ). كل هذه الأرقام تستخدم لقياس متوسط التغير في الأسعار إلا أن الاقتصاديين يكادون يجمعون على أن أفضل هذه الأرقام القياسية، والذي يعتبر مؤشراً ومقياساً أثناء فترات التضخم هو الرقم القياسي لأسعار المستهلكين( ).
والرقم القياسي لأسعار المستهلكين هو معدل أو متوسط أسعار شراء السلع والخدمات التي يستهلكها أفراد المجتمع من أصحاب الدخول المحدودة خلال فترة زمنية معينة ثلاثة أشهر أو ستة أشهر أو غير ذلك( ).
ويعتمد حساب هذا الرقم على اختيار مجموعة من السلع تسمى سلة السوق. هذه السلة تمثل السلع الأساسية التي يستهلكها فرد نموذجي تستغرق جميع دخله. ولذلك فإن هذا الرقم القياسي يمثل الرقم القياسي لتكاليف المعيشة أو نفقاتها( ).
وهذه الأرقام القياسية بأنواعها لاسيما الرقم القياسي لتكاليف المعيشة يستدل بها على معرفة نسبة التغير الطارىء على القوة الشرائية للنقود، وبذلك تعرف نسبة التضخم في فترة معينة( )، فيساعد هذا في حماية الالتزامات والعلاقات التعاقدية من الاضطرابات الناتجة عن التضخم النقدي.
لكن هذه الأرقام القياسية لا تعدو كونها مؤشرات تقريبية، وليست دقيقة، وذلك لما يكتنف التوصل إلى هذه الأرقام من المشكلات والصعوبات التي تؤثر في دقة هذه الأرقام القياسية.
ومن أبرز هذه الإشكالات ما يأتي( ):
أولاً: صعوبة تحديد وتعيين السلع والخدمات التي تعتبر أسعارها في معرفة متوسط تكاليف المعيشة، وذلك لكثرتها وتنوعها وتجددها واختلاف جودتها. فالطعام مثلاً يعد من الأساسيات المعيشية، فما هو الطعام المعتبر حساب تكاليفه في متوسط تكاليف المعيشة؟ هل هو ما يعد في المنازل أو ما تقدمه المطاعم؟ فإذا كان مما يعد في المنازل فالمواد التي تستعمل في إعداده يدخلها اختلاف وتنوع كبير في البلد الواحد، وذلك بالنظر إلى اختلاف المناطق واختلاف العادات واختلاف الأحوال من يسار وإعسار. وقل مثل ذلك في المساكن وغيرها من الأساسيات المعيشية المكونة لما يسمى سلة السوق.
ثانياً: أن ارتفاع معدل تكاليف المعيشة لا يلزم منه ارتفاع تكاليف المعيشة لجميع الناس في المجتمع؛ لأن الارتفاع قد يكون في منطقة دون غيرها من المناطق، وقد يكون المتأثر بالارتفاع فئة من الناس دون بقية فئات المجتمع. فقد يؤدي ارتفاع تكاليف السكن في العاصمة مثلاً إلى ارتفاع معدل تكاليف المعيشة في عموم البلد مع أن بقية المدن لم ترتفع فيها تكاليف المعيشة. كما أن من يملك مسكناً أو أنه قد ارتبط بعقد لم تنته مدته بعد لا يتأثر بهذا الارتفاع.
ثالثاً: صعوبة اختيار سنة الأساس التي تقاس بها التغيرات في الأسعار. ومن ذلك اختلاف نسبة ومكانة السلع والخدمات المكونة لسلة السوق. ففي حين أن سلعة من السلع المكونة لسلة السوق تمثل ثلث ما ينفقه المستهلك النموذجي في سنة الأساس مثلاً قد تتقلص أهمية هذه السلعة لسبب من الأسباب فتنخفض هذه النسبة في السنوات اللاحقة ولا يلاحظ هذا التغير عند حساب معدل تكلفة المعيشة فيها فيؤدي إلى إظهار معدل الانخفاض في القوة التبادلية للنقود بأكبر مما هي عليه في الحقيقة. كما أنه قد يستجد من السلع والخدمات، التي تستهلك جزءاً من نفقات المعيشة في السنوات اللاحقة، سلعة أو خدمة لم تكن موجودة في سنة الأساس ولم تدرج ضمن سلة السوق.
رابعاً: هناك جوانب عديدة سياسية واجتماعية واقتصادية لها تأثير في معدل تكاليف المعيشة لا يمكن إدخالها في الحساب، ولذلك قد تكون هذه الأرقام مضللة في بعض الأحيان.
خامساً: أن إعداد هذه الأرقام القياسية يستغرق زمناً طويلاً جمعاً وإحصاءً وتدقيقاً ومراجعةً ثم يعلن عنها بعد ذلك كله فلا تعكس هذه الأرقام في الحقيقة معدل التغير في قيمة النقود للزمن الذي أعلنت فيه بل هي لأشهر مضت، وهي المدة ما بين جمع المعلومات إلى إعلان الأرقام القياسية.
ومهما يكن من أمر فإن هذه الأرقام القياسية تعطي دلالة تقريبية لمستوى التضخم الحقيقي لاسيما مع التقدم الكبير الذي تشهده الدراسات الإحصائية، ولهذا يعتمدها الاقتصاديون في تقويم الاقتصاد، وفي المعالجة والتخطيط والدراسة( ).
المبحث الخامس: آثار التضخم النقدي
التضخم النقدي من الظواهر الاقتصادية التي لها تأثير على جوانب عديدة من حياة الناس، فانخفاض قيمة النقود أو قوتها الشرائية بسبب ارتفاع المستوى العام للأسعار له آثار اقتصادية وسلوكية واجتماعية وسياسية.
وتختلف هذه الآثار باختلاف نسبة التضخم النقدي ودرجته، فكلما ازدادت نسبة التضخم النقدي تفاقمت تلك الآثار وتعقدت تلك الإشكالات الناجمة عن التضخم النقدي.
ولا ريب أن الجانب الاقتصادي ومدى إصابته وتأثره من جراء التضخم النقدي هو الأساس الذي ينبني عليه غيره من أنواع التأثيرات، ولذلك أولاه الباحثون الاقتصاديون أهمية كبرى بالدراسة والبيان.
وفيما يلي إشارة إلى أبرز وأهم آثار التضخم النقدي الاقتصادية.
أولاً: إعادة توزيع الدخل( )
أبرز الآثار الاقتصادية للتضخم النقدي هو ما يفضي إليه من تأثير على مقدار دخل الأفراد. ففي زمن التضخم تتأثر دخول فئات المجتمع، إلا أن أشد الفئات تضرراً بالتضخم هم أصحاب الدخول الثابتة، وذلك لكون دخولهم لا تواكب التغير الطارىء على مستوى الأسعار. وقريب من هؤلاء في التأثر أصحاب الدخول البطيئة التغير. وهاتان الفئتان تمثلان غالب المجتمع.
أما أصحاب الدخول السريعة التغير فإنهم يفيدون من التضخم زيادة في دخولهم النقدية لما تتميز به دخولهم من القدرة على التكيف مع الارتفاع في مستوى الأسعار والإفادة من ذلك في زيادة دخولهم( ).
ثانياً: تقليص حجم الادخار( ) والاستثمار( )
يؤدي التضخم النقدي إلى انخفاض القوة الشرائية للنقود، فتضعف بذلك إحدى أهم وظائف النقود، وهي كون النقود مستودعاً للقيمة أو مخزناً لها( ).
وهذا التناقص في القوة الشرائية للنقود يحمل الناس على الزهد في الاحتفاظ بالأوراق النقدية؛لأنه يفضي إلى انخفاض القيمة الحقيقية لهذه المدخرات. ولذلك يزداد ميل الناس إلى الاستهلاك رغبة منهم في تقليل الخسائر الناتجة بسبب التضخم النقدي؛ لأن ما يحصله اليوم من السلع والخدمات بما معه من النقود أكثر مما سيحصله غداً( ).
ومع التوجه إلى تقليص حجم المدخرات، وازدياد نسبة الإنفاق الاستهلاكي، تتوجه كثير من الأموال الاستثمارية إلى قطاعات استهلاكية وكمالية غير منتجة ولا تفيد في النمو الاقتصادي( ) للدول. بل تكون في كثير من الأحيان سبباً لزيادة معدلات التضخم.
ومما تتوجه إليه الاستثمارات أيضاً في فترات التضخم الاستثمار فيما تحفظ به الثروة كشراء العقارات من الأراضي والمباني، وشراء المعادن الثمينة كالذهب والفضة وما أشبه ذلك من الاستثمارات غير المنتجة والتي لا تعدو في الحقيقة كونها بحثاً عن مستودع آمن للثروة( ).
ثالثاً: اختلال العلاقات التعاقدية
من آثار التضخم النقدي أنه يفضي إلى الإضرار بالعلاقات التعاقدية السابقة له لاسيما إذا كان التضخم النقدي غير متوقعٍ أو كان معدله مرتفعاً.
فعقود المداينات( ) مثلاً تختل بسبب التضخم النقدي الذي يؤدي إلى انخفاض القيمة الحقيقية( ) للديون المستحقة فيخسر بذلك الدائنون حيث إن الذي يرده المدينون أقل مما أخذوه قيمة، وإن ساواه في العدد، فينشأ بذلك إشكالات كثيرة ومنازعات بين المتعاقدين.
ونظير ذلك أيضاً ما يطرأ من اختلال على العقود المستمرة الممتدة( ) كالإجارة الطويلة( )، وعقود المقاولات( )، والتوريد( )، وما أشبه ذلك بسبب ارتفاع الأسعار( ).
هذه أبرز الآثار الاقتصادية للتضخم النقدي، وكما سبق فإن لهذه الآثار الاقتصادية انعكاسات في جوانب أخرى من حياة الناس: اجتماعية، وسلوكية، وسياسية( ).
أُجمل أبرز ذلك في النقاط التالية:
أولاً: توسيع دائرة الفقر في المجتمع ؛نظراً لكون المتضررين بالتضخم هم غالب فئات المجتمع.
ثانياً: تعميق الفجوة بين الأغنياء، وهم الذين يفيدون من التضخم زيادة في دخولهم، وبين الفقراء، وهم المتضررون بالتضخم، وبُعد البون بين الفريقين سبب لكثير من المشكلات النفسية والاجتماعية.
ثالثاً: انهماك الناس بالدنيا سعياً لرفع دخولهم لتغطية حوائجهم في ظل الارتفاع المتواصل لأسعار السلع والخدمات، مما قد يحمل ضعاف النفوس على طلب الكسب من جهات محرمة كالرشوة( )، وغيرها من المكاسب المحرمة. كما أنه يشغلهم عن الواجبات الشرعية، ويصرفهم عن الغاية الأصلية من الوجود، وهي عبادة الله تعالى.
رابعاً: إثارة الفتن والقلاقل والاضطرابات السياسية في البلاد بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية.
الباب الأول التكييف الفقهي للتضخم النقدي
وأثره في الأحكام الشرعية
وفيه فصلان:
الفصل الأول: التكييف الفقهي للتضخم النقدي.
الفصل الثاني: أثر التضخم النقدي في الأحكام الشرعية
الفصل الأول التكييف الفقهي للتضخم النقدي
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: تغيرات قيمة النقود عند الفقهاء المتقدمين.
المبحث الثاني: التخريجات الفقهية للتضخم النقدي.
المبحث الأول: تغيرات قيمة النقود عند الفقهاء المتقدمين
تمهيد
مصطلح قيمة النقود مركب تركيباً إضافياً، فالتعريف به يحتاج إلى التعريف بمفرداته كلّ على حدة. وقد تقدم البحث في تعريف النقود( ).
أما كلمة القيمة فهي في اللغة من ((قوّمت الشيء تقويماً...، وأصله أنك تُقيم هذا مكان ذاك))( ). فالقيمة ((ثمن الشيء بالتقويم, يقال: كم قامت ناقتك, أي: كم بلغت قيمتها))( ).
أما القيمة عند الفقهاء فهي (( ما يقدّر به الشيء حسب سعره في السوق))( ). وبعبارة أخرى ((هي الثمن الحقيقي للشيء))( ) ، أو ((الثمن الذي يقدره المقومون للسلعة أو الشيء))( ).
أما عند الاقتصاديين فكلمة القيمة تعني ((إمكانية تقييم( ) البضاعة أو السلعة أو الخدمة ببضائع أو سلع أو خدمات أخرى, أو تحديد مبلغ من المال يعادلها أو يساويها))( ).
وتعرف أيضاً بأنها ((عبارة عن مقدار السلع والخدمات التي تستطيع أن تحصل عليها وحدة النقد في زمن معين))( ).
وهي ما يُعبَّر عنه بالقوة الشرائية للنقود أو القيمة التبادلية( ). فإذا زادت قدرة وحدة النقود في الحصول على السلع والخدمات فإن ذلك يعني أن القوة الشرائية للنقود أو قيمة النقود قد زادت؛ والعكس بالعكس( ).
وبهذا يتبين وجه ارتباط قيمة النقود أو قوتها الشرائية بالتضخم النقدي, فالعلاقة بينهما عكسية كلما ارتفع معدل التضخم انخفضت قيمة النقود وقوتها الشرائية, والعكس بالعكس( ).
والتغير في قيمة النقود التبادلية وقوتها الشرائية ليس خاصاً بنوع منها، بل يطرأ على جميع أنواع النقود. فالذهب والفضة مع أن لهما قيمة ذاتية إلا أن التغير يعتري قيمتهما. وكذلك الفلوس، بل التغير فيها أكثر وأشد؛ لكونها تستمد قيمتها من قبول الناس لها وليست قيمتها ذاتية إذ هي من النقود الاصطلاحية.
وقد تكلم أهل العلم من الفقهاء ـ رحمهم الله ـ عما يترتب على هذه التغيرات من الأحكام سواء في النقود الذاتية القيمة أو النقود الاصطلاحية. وسأبين ذلك في المطلبين التاليين:
المطلب الأول: التغيرات في النقود الخلقية
يطلق الفقهاء النقود الخلقية على النقود من الذهب أو الفضة الخالصة وكذلك على النقود المغلوبة الغش( ).
أما أنواع التغيرات التي تطرأ على النقود الخلقية التي تكلم عنها الفقهاء فهي ثلاثة أنواع:
أولاً: تغير النقود الخلقية بالكساد.
ثانياً: تغير النقود الخلقية بالانقطاع.
ثالثاً: تغير النقود الخلقية بالغلاء والرخص.
وسأتناولها في المسائل التالية:
المسألة الأولى: تغير النقود الخلقية بالكساد
الكساد عند الفقهاء يكون بترك التعامل بالنقود في جميع البلاد كما تقدم( ).
وقد اختلف الفقهاء فيما يترتب على كساد النقود الخلقية من الذهب والفضة بعد التعامل بها وقبل قبضها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه إذا كسدت النقود الخلقية من الذهب والفضة بعد التعامل بها وقبل قبضها فالواجب رد قيمتها.
وهذا قول أبي يوسف( )، ومحمد بن الحسن( ) من الحنفية( )، وهو قول عند المالكية( )، والمذهب عند الحنابلة( ).
القول الثاني: أنه إذا كسدت النقود الخلقية من الذهب والفضة بعد التعامل بها وقبل قبضها فالواجب رد ما ثبت في الذمة في جميع العقود.
وهذا هو المشهور عند المالكية( )، والمذهب عند الشافعية( ).
القول الثالث: التفصيل، فإذا كسدت النقود الخلقية من الذهب والفضة بعد التعامل وقبل قبضها فهي إما أن تكون ثمناً في بيع أو أجرة في إجارة فيفسدان، ويرجع البائع بالمبيع في عقد البيع، ويجب على المستأجر أجرة المثل في عقد الإجارة؛ وإما أن تكون مهراً لم يقبض أو قرضاً فالواجب رد المثل فيهما ، وكذلك في رد الثمن إذا تقايلا بعد كساده والأجرة إذا فسخ العقد بعد كساده.
وهذا قول أبي حنيفة( ).
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
أولاً: أن كساد النقود الخلقية الذهب أو الفضة يمنع نفاقها ورواجها ويبطل ماليتها ومعنى الثمنية فيها؛ وهذا بلا ريب؛ لأن نقص المالية ينقص قيمتها، وهذا الوصف مقصود، فيجب ضمانه لمن فات عليه. والأصل في ضمان النقود الخلقية المثل لأنها مثلية( )، لكن لما كانت المثلية التامة متعذرة لفوات وصف المالية وجب المثل القاصر ضرورة وهو القيمة؛ لأن قيمة الشيء بمنزلته عند تعذره( ).
ثانياً: أن العقود مبنية على التراضي( )، والدائن إنما رضي نقوداً رائجة, وبكسادها يفوت عليه هذا الوصف المدخول عليه بالعقد، فإلزامه بالنقود الخلقية الكاسدة إلزام بما لم يرضه، وهو خسارة عليه وظلم له، فيثبت له قيمتها( ).
ثالثاً: قياس كساد النقود الخلقية من الذهب والفضة على هلاك العوض في العقد إذا كان ثياباً حيث تجب قيمتها، وكذلك النقود الخلقية الكاسدة كسادها هلاك لماليتها، فتجب قيمتها( ).
يناقش هذا: بأن قياس كساد النقود الخلقية على هلاك العوض إذا كان ثياباً مثلاً قياس مع الفارق؛ لأن هلاك مالية النقود الخلقية بالكساد لا يذهب بعينها بخلاف المقيس عليه، بل إنها تكون عروضاً بعد كسادها( ).
أدلة القول الثاني:
استدل هؤلاء بما يأتي:
أولاً: أن الكساد لا يلغي ثمنية النقود الخلقية من الذهب والفضة؛ لأنها أثمان خلقة فلا تبطل بالكساد، والأثمان( ) من ذوات الأمثال فيجب مثلها ولا يصار إلى قيمتها؛ لأن المثل أقرب إلى حقه( ).
نوقش هذا الدليل من طريقين:
الأول: أن الكساد يلغي ثمنية النقود، وذلك لأن الثمنية تختص بضرب مخصوص لا مصرف بعده إلى غير الثمن غالباً، فإذا لم يجر التعامل بها فحكمها حكم العروض( ).
الثاني: أنه حتى على التسليم بأن الثمنية باقية وأن الكساد لا يلغيها فلا ريب أنه بعد كسادها يفوت رواجها نقوداً، وبهذا تنتفي المثلية؛لأن المثلية إنما تكون بالمثل من حيث الصورة والمعنى أو بالمثل من حيث المعنى أي القيمة( ). وبالكساد لا يبقى من المثلية إلا المثلية في الصورة والهيئة، فإذا تعذرت المثلية وجبت القيمة( ). وقد ذكر الفقهاء أمثلة لعدم اعتبار المثلية إذا كانت تفوت معنى مقصوداً ، فالماء على سبيل المثال مثلي فإذا غصب في غلاء أو صحراء فلا يكفي رد مثله في حال السعة والرخاء؛ لكون رد المثل يهدر القيمة فيجب اعتبار الزمان والمكان والمال في الرد( ).
ثانياً: أن الواجب بالعقد هو النقود التي طرأ عليها الكساد، والأصل بقاء ما كان على ما كان( )، فلا يجب غير ما ثبت بالعقد( ).
يناقش هذا: بأن الذي ثبت بالعقد نقود رائجة، وقد زال رواجها بالكساد ففات الوصف المقصود فلا يلزم مستحق النقود قبولها.
ثالثاً: أن كساد النقود الخلقية من الذهب والفضة لا يؤثر في وجوبها بالعقد قياساً على ما لو أبدل السلطان المكيال والميزان بأصغر أو أكبر وعلى ما لو أسلم في حنطة فرخصت فإنه يلزمه ما تم العقد عليه قبل التبديل والرخص( ).
يناقش هذا بأنه قياس مع الفارق من وجهين:
الأول: أن تبديل المكيال والميزان يفضي إلى تغيير كمية المعقود عليه بزيادة أو نقص، أما تغير النقود بالكساد فهو زوال صفة الرواج التي هي سبب قبولها في العقد. فإن الرواج وصف مدخول عليه في أصل العقد( ).
الثاني: أن قياسه على وجوب المسلم فيه من الحنطة، ولو رخص، قياس مع الفارق أيضاً؛ لأن المسلم لا يفوت مقصوده بذلك ثم إنه ليس المنظور إليه في الحنطة ثمنيتها أو ماليتها بخلاف النقود.
رابعاً: إيجاب القيمة إلغاء لما تم عليه العقد وتغيير لما لزمه به، وهذا ظلم لمن وجبت عليه النقود، وأكل للمال بالباطل( ).
نوقش هذا: بأن إيجاب القيمة ليس من أكل المال بالباطل، بل هو منع من وقوع الظلم على من له النقود بسبب الكساد، وفي إيجاب القيمة تحقيق للعدل؛ لأن قيمة الشيء بمنزلته عند تعذره، فكان ذلك هو العدل الممكن( ).
أدلة القول الثالث:
استدل أصحاب هذا القول بأن كساد النقود الخلقية إذا كانت ثمناً أو أجرة يزيل ماليتها التي جرى عليها العقد، وهذا يفضي إلى جهالة الثمن والأجرة فيفسد بذلك العقد؛ لكونها جهالة تفضي إلى المنازعة( ). أما في القرض فالواجب رد مثله؛ لأنه إعارة توجب رد العين معنى، وهو مضمون بمثله، ورد القيمة يفضي إلى الربا( ). وأما المهر فهو مبذول في ((عقد لا يقتضي المغابنة والمكاسبة، وإنما يقتضي المواصلة والمكارمة))( )، فلا يجب إلا ما تم عليه العقد، ومثله الإقالة فإنها إحسان وبر.
يناقش هذا بما يأتي:
الأول: أن الأصل لزوم العقد وصحته وعدم إبطاله فلا ينتقل عنه إلا بدليل( )، ولا دليل على بطلانه وعدم لزومه في عقدي البيع والإجارة.
الثاني: أن ما ذكر من الجهالة في الثمن والأجرة بسبب الكساد غير مسلم؛ لأن إيجاب رد القيمة يرفع الجهالة إذ الواجب لما عجز عن الأصل بصفته رد مثل ما التزم فيلزمه قيمته.
الثالث: أن إيجاب رد المثل في القرض ، وما ألحق به من العقود لوجوب المثل قد تقدم الجواب عليه في مناقشة أدلة القول الثاني( ).
الرابع: أن قولهم بأن إيجاب القيمة فيها يفضي إلى ربا النسيئة غير مسلم؛ لما روى ابن عمر قال: قلت: يا رسول الله! إني أبيع الإبل بالبقيع( )، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذا من هذه. وأعطي هذه من هذا؟ فقال رسول الله : ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء))( ). وهذا يدل على جواز أن يقضي عن الذهب الفضة وعن الفضة الذهب( ) بشرط ألا يفارقه حتى يقبض ماله منعاً للنسيئة( ). وعلى هذا فإن اقتضاء الذهب عن الفضة الكاسدة أو الفضة عن الذهب الكاسد لا يحصل به ربا النسيئة إذا تفرقا وليس بينهما شيء.
الخامس: أن قولهم في المهر بأنه مبني على المواصلة والمكارمة لا ينافي إيجاب القيمة؛ لأن رد المهر بالعيب ثابت( )، والكساد في النقود عيب يوجب الرد ويثبت للمرأة القيمة لتعذر المثل، وكذلك الإقالة.
الترجيح
الذي يظهر أن الراجح من هذه الأقوال هو القول الأول، وأنه إذا كسدت النقود الخلقية من الذهب والفضة بعد التعامل بها وقبل قبضها فالواجب رد قيمتها؛ وذلك لقوة تعليلاته، وضعف حجج القولين الآخرين، وعدم سلامتها من المناقشات. وقد احتاط القائلون بوجوب القيمة في حالة كساد النقود الخلقية من الوقوع في الربا، وذلك بتقدير قيمتها من غير جنس النقد الكاسد، فإذا كانت النقود الكاسدة من الذهب أخذ قيمتها من الفضة، والعكس بالعكس( ).
المسألة الثانية: تغير النقود الخلقية بالانقطاع
الانقطاع عند الفقهاء يكون بفقد النقد من أيدي الناس، وألا يوجد في الأسواق كما تقدم( ).
وقد اختلف أهل العلم ـ رحمهم الله ـ فيما يترتب على انقطاع النقود الخلقية من الذهب والفضة بعد التعامل بها وقبل قبضها نظير اختلافهم في كسادها؛ فالأقوال فيها ثلاثة:
القول الأول: أنه إذا انقطعت النقود الخلقية من الذهب والفضة بعد التعامل بها وقبل قبضها، فالواجب رد قيمتها.
وهذا هو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية( )، وهو المشهور عند المالكية( )، والمذهب عند الشافعية( )، والحنابلة( ).
القول الثاني: أنه إذا انقطعت النقود الخلقية من الذهب والفضة بعد التعامل بها وقبل قبضها، فالواجب رد مثل ما ثبت في الذمة في جميع العقود.
وهذا قول بعض الحنفية( )، وهو قول عند المالكية( ).
القول الثالث: التفصيل؛ فإذا انقطعت النقود الخلقية من الذهب والفضة بعد التعامل بها وقبل قبضها، فهي كالكساد في الثمن والأجرة، أما القرض فالواجب رد مثل ما اقترض، ويجبر المقرض على التأخير حتى يصل إلى حقه.
وهذا هو قول أبي حنيفة( ).
أما الأدلة لهذه الأقوال فهي نفس ما استدلوا به في مسألة الكساد، ولئلا أقع في التكرار، فسأقتصر على ذكر الزائد من الأدلة على ما تقدم فقط:
أولاً: استدل المالكية في المشهور والشافعية على وجوب القيمة عند الانقطاع بأن الانقطاع فَقْد لما تم عليه العقد مما لا يمكن تحصيله ولا تحصيل مثله فتعين الأخذ بقيمته( ).
ثانياً: استدل أبو حنيفة( ) على وجوب المثل في حال الانقطاع بأن الانقطاع بمنزلة الهلاك للعين المستحقة، ((ومن مذهبه أن الحق لا ينقطع عن العين بالهلاك))( ).
الترجيح
الراجح من هذه الأقوال هو القول الأول؛ وأن الواجب رد قيمة النقود؛ لقوة ما استندوا إليه من تعليلات لم تقم لها حجج الأقوال الأخرى.
المسألة الثالثة: تغير النقود الخلقية بالغلاء والرخص
غلاء النقود الخلقية من الذهب والفضة عند الفقهاء هو ارتفاع قيمتها, وأما رخصها فهو نقصانها كما تقدم( ).
وقد اتفقت المذاهب الأربعة الحنفية( )، والمالكية( )، والشافعية( )، والحنابلة( ) على أنه لا يجب في حال غلاء النقود الخلقية من الذهب والفضة أو رخصها إلا ما ثبت في الذمة منها، وقد حكي الإجماع على ذلك( ).
وقد استدلوا لذلك بما يأتي:
أولاً: أن النقود الخلقية من الذهب والفضة من المثليات ، فالواجب فيها المثل غلت أو رخصت( ).
ثانياً: أن النقود الخلقية من الذهب والفضة أثمان بالخلقة لا بالاصطلاح، فغلاؤها ورخصها لا تنعدم به ثمنيتها، ولكن تتغير بتغير رغائب الناس، وذلك غير معتبر، فلا يجب غيرها( ).
ثالثاً: أن النقود الخلقية من الذهب والفضة إذا ثبتت بالذمة لم يجب بدلها؛ لنقصان قيمتها قياساً على ما لو وجب بر أو شعير أو غيره فإنه لا يجب غيره( ).
المطلب الثاني: التغيرات في النقود الاصطلاحية
يطلق الفقهاء النقود الاصطلاحية على ما اصطلح الناس على قبوله ثمناً من غير الذهب والفضة كالفلوس والنقود الذهبية والفضية الغالبة الغش( ).
أما التغيرات التي تطرأ على النقود الاصطلاحية فهي كالتغيرات التي تعتري النقود الخلقية: تغيرها بالكساد، وتغيرها بالانقطاع، وتغيرها بالغلاء والرخص غير أن التغيرات في النقود الاصطلاحية تختلف عن التغيرات في النقود الخلقية من جهتين:
أولاً: أن التغير في النقود الخلقية لا يلغي قيمتها بالكلية؛ لأن ثمنيتها بأصل الخلقة. أما النقود الاصطلاحية فإن التغير فيها قد يلغي قيمتها؛ لأن ماليتها بالاصطلاح فإذا انتفى الاصطلاح انتفت الثمنية( ).
ثانياً: أن التغير في النقود الخلقية أقل بكثير من حيث وقوعه وصفته من التغير في النقود الاصطلاحية فإن ثمنيتها وقيمتها سريعة التبدل، بل ((تتبدل ساعة فساعة))( ).
المسألة الأولى: تغير النقود الاصطلاحية بالكساد
اختلف الفقهاء ـ رحمهم الله ـ فيما يترتب على كساد النقود الاصطلاحية كاختلافهم في كساد النقود الخلقية. فالأقوال في المسألتين متفقة، وكذلك قائلوها( ).
بيد أن بعض متأخري أصحاب أبي حنيفة حمل قوله بأن البيع يبطل على أنه يخرج من أن يكون لازماً، فيكون للبائع الخيار بين نقض العقد وبين إمضائه( ). وهذا وجه عند الشافعية كما تقدمت الإشارة إليه في كساد النقود الخلقية( )، وقد قال عنه النووي( )~: ((وفيه وجه شاذ ضعيف أنه مخير))( ).
أما أدلة هذه الأقوال فهي قريبة من أدلة الأقوال في مسألة كساد النقود الخلقية من حيث المعنى، ولهذا فإنني سأذكر ما اختصت به هذه المسألة من أدلة، ولم يسبق له ذكر في مسألة كساد النقود الخلقية.
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب هذا القول بأن الوصف المقصود في النقود الاصطلاحية هو ثمنيتها، وقد زال هذا الوصف بكسادها فصارت بذلك كالنقود التالفة؛ ((لأن المقصود منها الرواج فهو لها كالحياة))( )، فيتعذر بذلك ردها للدائن بعد فوات هذا الوصف ووجب له قيمتها( ).
وهذا الدليل هو أول أدلة القول الأول في مسألة كساد النقود الخلقية. والفارق بين المسألتين أن الكساد في النقود الاصطلاحية قد يلغي قيمتها بالكلية فتكون بمنزلة النقود التالفة بخلاف الكساد في النقود الخلقية فإنه لا يلغي قيمتها بالكلية كما تقدم( ). وعلى هذا فإن بذل هذه النقود الكاسدة التي لا نفع فيها ظلم لمستحقها؛ لأنه إنما قصد بالمعاملة عوضاً منتفعاً به لا ما لا نفع فيه( ).
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
أولاً: أن الفلوس مثلية فيجب فيها رد المثل كسائر المثليات( )، والكساد لا يلغي هذا الوصف عنها( ).
يناقش هذا: بأن المقصود من الفلوس هو ماليتها لا عينها وذاتها، والكساد يذهب بهذه الصفة ويلغيها، ولا يبقى إلا العين التي تتعلق بها المثلية، وهي غير مقصودة للمتعاقدين( ). فلا يسوغ إهمال مقصود العقد والتمسك بما لم يقصده المتعاقدان؛ لما في ذلك من الظلم، والخروج بالعقود عن مقاصدها. ووجه الظلم في ذلك أنه بكساد الفلوس تغير موجب العقد الذي هو ملك فلوس هي ثمن بعد الكساد لم يبق في الذمة فلوس بهذه الصفة فتجب قيمتها( )؛ لأن المثلية بعد الكساد متعذرة فلم يبق إلا التماثل من حيث القيمة( ).
ثانياً: أن كساد النقود الاصطلاحية الفلوس كجائحة( ) نزلت بمال المستحق، فليس له إلا ما تم عليه العقد( ).
يناقش هذا: بأن مقتضى القول بأن كساد النقود الاصطلاحية الفلوس جائحة من جوائح الأموال أن يدفع الضرر عمن فات غرضه ولحقه الضرر بدخول النقص عليه، وذلك بفعل ما يدفع ضرره أو يخففه. وقد ذكر بعض الفقهاء أن نقصان سعر المبيع جائحة توجب الوضع عن المتضرر( )، فكيف بالكساد الذي هو هلاك القيمة بالكلية؟
أدلة القول الثالث:
استدل أصحاب هذا القول بأن إيجاب القيمة في كساد النقود الاصطلاحية فيما إذا كان الدين قرضاً يفضي إلى ربا النسيئة( ).
وقد تقدم الجواب على هذا في مسألة كساد النقود الخلقية، وأنه إذا اعتاض عنه من غير جنسه، وتفرقا وليس بينهما شيء فقد سلم من الربا( ). وكذلك النقود الاصطلاحية إذا كسدت فإنه يعتاض عنها قيمتها من الذهب أو الفضة( ). بل لو اعتاض عنها من الفلوس الجديدة لم يكن في ذلك ربا؛ لأن جمهور أهل العلم على أن الفلوس ليست من الأموال الربوية( )، أما من يقول بأنه يجري فيها الربا فإنما يقول ذلك في حال رواجها فإذا كسدت فإنما هي سلعة يجب رد قيمتها( ).
الترجيح
الذي يترجح من هذه الأقوال هو القول الأول، وأن كساد النقود الاصطلاحية بعد التعامل بها وقبل قبضها يوجب رد قيمتها؛ وذلك لقوة تعليلاته وسلامتها من المناقشات، والله أعلم بالصواب.
المسألة الثانية: تغير النقود الاصطلاحية بالانقطاع
اختلف الفقهاء ـ رحمهم الله ـ فيما يترتب على انقطاع النقود الاصطلاحية نظير اختلافهم في انقطاع النقود الخلقية: أقوالاً، وقائلين، واستدلالاً وترجيحاً( ).
المسألة الثالثة: تغير النقود الاصطلاحية بالغلاء والرخص
اختلف الفقهاء فيما يترتب على غلاء النقود الاصطلاحية الفلوس ورخصها( ) بعد التعامل بها وقبل قبضها على قولين في الجملة:
القول الأول: أنه إذا غلت النقود الاصطلاحية الفلوس أو رخصت بعد التعامل بها وقبل قبضها فالواجب رد قيمتها.
وهذا ما ذهب إليه أبو يوسف، وعليه الفتوى عند الحنفية( )، وقول عند الحنابلة( ) اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية فيما نقل عنه( )، والرهوني( ) المالكي فيما إذا كان التغير كثيراً( ).
القول الثاني: أنه إذا غلت النقود الاصطلاحية الفلوس أو رخصت بعد التعامل بها وقبل قبضها فالواجب بذل ما تم التعاقد عليه ولا نظر إلى هذه التغيرات.
هذا ما ذهب إليه أبو حنيفة ~، وقال به أبو يوسف أولاً( )، وهو مشهور مذهب المالكية( )، ومذهب الشافعية( )، والحنابلة( ).
أدلة القول الأول
أولاً: أن نقصان قيمة النقود الاصطلاحية الفلوس بالرخص بعد التعامل وقبل القبض عيب فيها فلا يلزم الدائن قبولها( )؛ لأن من أهم أوصاف الفلوس رغبة الناس فيها وقبولها وسيطاً للتبادل وذلك مرتبط بقوتها الشرائية، وبرخصها يفوت هذا الوصف. فإلزام الدائن بها بعد تعيبها ظلم ومخالفة لمقتضى العدل.
يناقش هذا: بأن التغير بالرخص لا يوجب ثبوت القيمة كما لو رخصت النقود الخلقية من الذهب والفضة( ).
يجاب على هذا: بأنه قياس مع الفارق ، فإن تغير القيمة في النقود الاصطلاحية الفلوس كثير جداً بخلاف النقود الخلقية، كما أن قدر التغير في قيمتها قد يكون كبيراً فيلحقها بما لا فائدة فيه( ). وعليه فإنه يمتنع القياس مع هذه المخالفة؛ لأن من شروط صحة القياس استواء الأصل والفرع في علة واحدة من غير فارق بينهما( ).
ثانياً: أن رد قيمة النقود الاصطلاحية الفلوس إذا غلت أو رخصت بعد التعامل بها وقبل قبضها جارٍ على سنن العدل الواجب في جميع المعاملات( ). وذلك ((أن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل))( ), فردها بعد نقص قيمتها لا يتحقق به المثلية ؛لأن المثلية إنما تكون بالمثل من حيث الصورة والمعنى أو بالمثل من حيث المعنى أي القيمة( ). وبالرخص تتعذر المثلية الكاملة فتجب القيمة؛ لما فيه من الضرر على الدائن بنقص القيمة( ).
وقد ذكر الفقهاء أمثلة لعدم اعتبار المثلية إذا كانت تفوت معنى مقصوداً ، فالماء على سبيل المثال مثلي فإذا غصب في غلاء أو صحراء فلا يكفي رد مثله في حال السعة والرخاء؛ لكون رد المثل يهدر القيمة والمالية فيجب اعتبار الزمان والمكان والحال في الرد( ). وقد ذكر فقهاء الحنابلة أيضاً أن من أقرض حنطة ثم ابتلت أو عفنت فإنه لا يلزم الدائن قبولها إذا ردت عليه؛ لأن عليه في ذلك ضرراً( )، و ((لأنه لم يدفع ذلك على صفة حقه))( ). وفي كلام الإمام مالك ~ ما يشعر بعدم اعتبار المثلية الصورية في الفلوس حيث لم يرَ جواز أن يكون رأس مال المضاربة( ) من الفلوس وعلل ذلك، فقال ~: ((لا أراه جائزاً؛ لأنها تحول إلى الكساد والفساد فلا تنفق))( ).
ثالثاً: أن الدائن دفع شيئاً منتفعاً به ليأخذ شيئاً منتفعاً به فلا يظلم بإعطائه مالا نفع فيه( ).
يناقش هذا: بأن الرخص في النقود الاصطلاحية الفلوس لا يصيّرها كذلك إذ إنه لا يلغي قيمتها بالكلية.
يجاب: بأن رخص النقود الاصطلاحية الفلوس إذا كان شديداً أو كثيراً فإنه يفسدها ويفقد الثقة بها، فيسارع الناس إلى التخلص منها لفساد المعاملة بها وعدم صلاحيتها ثمناً تقوّم به الأشياء. وهذا هو المراد بقول المستدل: فلا يظلم بإعطائه ما لا نفع فيه. أما إذا كان رخص النقود الاصطلاحية غير شديد بأن يكون يسيراً لا يعد غبناً في العادة فهذا غير معتبر؛ لأنه لا يفوت به غرض صاحب الحق ولا يلحقه به ضرر. ويتبين هذا بمعرفة أن من أخص صفات الثمن وأهمها كونه ((المعيار الذي يعرف به تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدداً مضبوطاً لا يرتفع ولا ينخفض))( ) ارتفاعاً وانخفاضاً يفقده هذه الصفة الرئيسة من صفات النقود.
رابعاً: قياس رخص النقود الاصطلاحية الفلوس على كسادها بجامع أنهما نقصان في القيمة. وذلك عيب يثبت القيمة في الكساد فكذلك في الرخص( ).
يناقش هذا بما يأتي:
الأول: أن الكساد يلغي القيمة بالكلية فهو نقصان إبطال بخلاف الرخص فالعيب به لا يلغي القيمة بالكلية.
يجاب: بأن وجه القياس هو إثبات القيمة لأجل العيب بالنقص سواء أفضى إلى الكساد والإبطال أو إلى الرخص فقط.
الثاني: أنه قياس على أمر مختلف فيه فإن العلماء قد اختلفوا فيما يترتب على كساد الفلوس كما تقدم( )، فلا يصح القياس؛ لأن من شرطه أن يكون الأصل متفقاً عليه( ).
أدلة القول الثاني
أولاً: أن رخص النقود الاصطلاحية الفلوس وغلاءها لا يبطل ثمنيتها فلا يجب غيرها( ).
يناقش هذا: بما تقدم في أدلة القول الأول من أن رخص النقود الاصطلاحية وإن لم يلغ ثمنيتها فإنه ينقصها وقد يفقد الثقة بها ويزهد في قبولها. وهذا عيب يثبت للدائن وجوب رد القيمة.
ثانياً: أن رخص النقود الاصطلاحية الفلوس وغلاءها لا يسقط عنها وصف المثلية فيجب فيها المثل للدائن( ).
يناقش هذا: بما تقدم( ) من أن المقصود من الفلوس ماليتها وثمنيتها لا عينها وذاتها، وفي حال الرخص تضعف المثلية المعنوية، وإن بقيت المثلية الصورية. ولهذا لا يمكن الجزم بأن رد مثل الفلوس للدائن بعد رخصها رد للمثل التام الكامل؛ لفوات المثلية المعنوية. ومما يجب اعتباره في المثل ((اعتبار ما فيه من المعاني التي تزيد بها القيمة، فيرد ما يجمع تلك كلها حتى لا يفوت عليه شيء))( ). فإذا تعذر ذلك فالمقدم هو المثلية المعنوية, فتجب القيمة ضرورة؛ لفوات المثلية المعنوية. ولأن المثلي يضمن بالقيمة إذا تعذر( ).
ثالثاً: أن إيجاب القيمة لرخص النقود الاصطلاحية الفلوس يفضي إلى فتح باب الربا( )؛ لأنه اعتياض عن الدين بأكثر منه.
يناقش هذا بما يأتي:
الأول: أن علة منع الربا في الأموال الربوية هي ما فيه من الظلم وأكل المال بالباطل، فإن الزيادة التي يأخذها رب الدين يأخذها على غير عوض( ). وإيجاب رد القيمة لرخص النقود الاصطلاحية الفلوس ليس من ذلك؛ أما على قول الجمهور فانتفاء الربا في رد القيمة واضح؛ لأن الفلوس ليست من أموال الربا كما تقدم. وأما على القول بأنها ربوية فإن تقديرها يكون من غير جنسها، وعند ذلك ينتفي محذور الربا.
الثاني: أن الزيادة في مثل هذا لا تعدُّ من الربا المحرم إذ هي في الحقيقة تعويض لنقص القيمة التبادلية للفلوس فلا ظلم فيها، وإنما الظلم في الزيادة إذا كانت دون مقابل( ).
رابعاً: أن رخص النقود الاصطلاحية الفلوس وغلاءها لا يغير ما ثبت في الذمة كما لو رخصت الحنطة الواجبة في الذمة أو غلت( ).
نوقش هذا: بأنه قياس مع الفارق فإن الفلوس ثمن يعرف بها تقويم الأموال، وليست مقصودة لذاتها، أما الحنطة فهي قوت مقصود لذاته، والغلاء والرخص لا يؤثر على هذا المعنى بخلافه في الفلوس فرخصها عيب يؤثر فيها تأثيراً بالغاً( ).
الترجيح
الذي يظهر بالنظر إلى ما استدل به كل فريق أن أقرب القولين إلى الصواب القول الأول، وأنه إذا غلت النقود الاصطلاحية الفلوس أو رخصت بعد التعامل بها وقبل قبضها فالواجب رد قيمتها؛ لقوة ما استدلوا به.
والذي يظهر للباحث أيضاً أن ما صرح به الرهوني من اشتراط أن يكون التغير في قيمة الفلوس كبيراً للانتقال عن وجوب المثل إلى القيمة حيث قال ~: ((وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر ذلك جداً حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه))( )، لا يختلف كثيراً عن قول غيره من القائلين بوجوب رد القيمة عند رخص الفلوس أو غلائها كما هو ظاهر من تعليلاتهم حيث عللوا وجوب القيمة إذا رخصت الفلوس أو غلت بأنه عيب، كما تقدم في أدلتهم. ويؤيد ذلك أيضاً ما ذكره الفقهاء في أوصاف العيب الذي يثبت الخيار، وأنه ما نقص القيمة أو العين نقصاً يفوت به غرض صحيح مما لا يتغابن الناس بمثله عادة ويغلب السلامة منه( ). وباستصحاب هذا يتبين أن التغير المؤثر هو الذي يفوت به غرض الدائن مما لا يتغابن الناس بمثله عادة ويلحقه به مضرة، وهذا ظاهر لمن تأمل كلامهم( )، والله أعلم.
المبحث الثاني: التخريجات الفقهية للتضخم النقدي
التضخم النقدي هو أحد أنواع التغيرات التي تطرأ على النقود الورقية كما تقدم. وهو أمر حادث لم يتناوله الفقهاء المتقدمون. فمصطلح التضخم النقدي لم يرد له ذكر في كلامهم كما أن النقود الورقية التي هي محل التضخم النقدي لم تكن نقداً مستعملاً في وقتهم؛ لهذا وذاك فقد حاول الفقهاء المعاصرون تلمُّس تخريجٍ فقهيٍّ للتضخم النقدي، وقد سلكوا في ذلك عدة مسالك:
التخريج الأول: أن التضخم النقدي نوع من رخص النقود الاصطلاحية
ذهب جماعة من الفقهاء والباحثين إلى أن التضخم الذي يعتري النقود الورقية هو من قبيل رخص النقود الاصطلاحية الفلوس الذي تكلم عنه الفقهاء المتقدمون( ).
ووجه هذا أن الأوراق النقدية نقود اصطلاحية، والتضخم النقدي الذي يعتريها انخفاض في قيمتها الشرائية التبادلية، وهذا هو الذي عبّر عنه الفقهاء المتقدمون برخص النقود.
نوقش هذا التخريج بأمور:
أولاً: أن مصطلح التضخم النقدي لم يكن معروفاً من قبل، ولم يرد له ذكر في كلام الفقهاء المتقدمين.
يجاب على هذا: بأن حداثة المصطلح وجدّته لا يلزم منهما حداثة المعنى. فالتضخم النقدي مصطلح حديث لأمر قديم يعتري النقود منذ زمن بعيد لاسيما النقود الاصطلاحية بأنواعها المعدنية والورقية، كما تقدم بيانه في مبحث نشأة التضخم النقدي وتأريخه( ).
ثانياً: أن رخص الفلوس وغلاءها الذي تكلم عنه الفقهاء ليس هو ما يُعرف بالتضخم النقدي اليوم. وذلك لأن ما تكلم عنه الفقهاء من رخص الفلوس وغلائها ينحصر في علاقتها بالذهب والفضة فقط، وهذا يخالف المعيار الذي يعرف به التضخم النقدي، وهو انخفاض القوة التبادلية للنقود، وهي قيمة النقود إزاء مجموعة سلع وخدمات( ).
يجاب على هذا: بأن نسبة رخص الفلوس إلى الذهب والفضة لا يمنع من تخريج التضخم النقدي عليه؛ لأن هذه النسبة لا تعدو كونها معياراً ومؤشراً لمعدل الرخص ومقداره، فإن الذهب والفضة لم يكونا مجرد سلعة، بل كانا نقوداً تقوُّم بها الأشياء( )، ولذلك نُسِبَ رخص الفلوس وغلاؤها إليهما، ولا يلزم من هذه النسبة انحصار ذلك في الذهب والفضة، بل يمتد ذلك وينعكس على سائر السلع( )، فهذا الفرق غير مؤثر ولا مانع من تخريج التضخم النقدي الذي يصيب الأوراق النقدية على رخص الفلوس.
ثالثاً: أن الفلوس نقود مساعدة بخلاف الأوراق النقدية فإنها نقود أساسية، ولذلك لا يسوغ إلحاق التضخم النقدي الطارئ على الأوراق النقدية برخص الفلوس( ).
يجاب على هذا بما يأتي:
الأول: أن الفلوس استعملت نقوداً أساسية رئيسة يقوُّم بها كل شيء حتى الذهب والفضة كما تقدم بيانه( ).
الثاني: أنه على فرض التسليم بأن الفلوس نقود مساعدة فإن ذلك لا يمنع إلحاق الأوراق النقدية بها بجامع أنهما نقود اصطلاحية، وإن اختلفا في صفة الاستعمال.
الثالث: أن وظيفة النقود الأساسية على اختلاف أنواعها؛ الخلقية: الذهب والفضة، والاصطلاحية: المعدنية والورقية، أنها معيار لتقويم السلع والخدمات، فلا بد أن يعتريها نقص أو زيادة. فلا فرق بين الفلوس ولا غيرها من النقود الاصطلاحية، بل حتى النقود الخلقية:الذهب والفضة.
التخريج الثاني: أن التضخم النقدي المفرط نوع من كساد النقود
ذهب بعض الفقهاء والباحثين إلى أن التضخم النقدي المفرط الذي تنخفض فيه قيمة العملة انخفاضاً فاحشاً شديداً يلحق بكساد النقود وتجري عليه أحكامه.
ووجه هذا أن التضخم المفرط يخفض قيمة النقود حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه( ).
نوقش هذا التخريج بأمرين:
أولاً: أن كساد النقود عند الفقهاء هو ترك المعاملة بالنقود كما تقدم( )، فمهما انخفضت قيمة النقود ورخصت فإن ذلك لا يعد كساداً ما دامت النقود يجري بها التعامل بين الناس كما هو ظاهر من كلام الفقهاء( ).
ثانياً: أنه ليس هناك حد محكم متفق عليه لنسبة التضخم النقدي التي يلحق فيها رخص النقود بالكساد، وهذا يفضي إلى الاضطراب والتنازع ففي حين أن بعض القائلين بهذا التخريج يرى أن هبوط قيمة العملة الورقية إلى ما دون النصف ملحق بحكم كسادها( )، يرى آخرون أنها لا تلحق بالكساد إلا عندما تصبح النقود عديمة القيمة وبين هذين الرأيين بون شاسع( ).
التخريج الثالث: أن التضخم النقدي جائحة من جوائح الأموال
ذهب بعض الفقهاء إلى أن التضخم النقدي الطارئ على الأوراق النقدية يعتبر جائحة من الجوائح التي تصيب الأموال( ).
واختار هذا التخريج المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عام 1402هـ، ولكنه قيده بما إذا كان التضخم النقدي غير متوقع، ويترتب عليه خسائر جسيمة غير معتادة في العقود الطويلة الأجل( ).
واحتج القائلون بهذا التخريج بعدة أوجه:
أولاً: عموم قول جابر : إن النبي ﷺ أمر بوضع الجوائح( ). فإن الجوائح لا تختص الثمار فقط، بل تشمل أيضاً النقص في سائر عقود المعاوضات( ).
ثانياً: أن التضخم النقدي يشارك الجائحة في أن أحد طرفي العقد قد حصّل مقصوده، والآخر متضرر بالنقص الحاصل من جراء التضخم النقدي( ).
ثالثاً: أن التضخم النقدي يشارك الجائحة في كون الضرر الحاصل والنقص الداخل على أحد طرفي العقد لا يمكن دفعه، ولا يَدَ له في حصوله( ).
ويناقش هذا التخريج بأمرين:
أولاً: أن هناك فرقاً بين الجوائح في الأموال وبين التضخم النقدي الذي يصيب الأوراق النقدية، حتى على القول بأن الجوائح لا تختص الثمار. وهو أن النقص في الجوائح داخل على عين المعقود عليه مباشرة أو على ما يؤثر فيها. ثم إن غاية ما في وضع الجوائح رجوع كل طرف بالذي له. أما التضخم النقدي ففيه تضرر أحد طرفي العقد بأمر خارج، وهو رخص النقود الثابتة في الذمة، فلا يعد ذلك جائحة؛ لأن انحطاط سعر العين بعد العقد عليها لا يثبت به شيء لمن انتقلت إليه بالعقد( ).
ثانياً: أن وضع الجوائح لا يتضمن الإضرار بأحد المتعاقدين لأجل حفظ مصلحة الآخر، بل الذي يقصد منه هو عدم أخذ المال بغير حق. ولذلك قال النبي ﷺ في حديث وضع الجوائح: ((بمَ تأخذ مال أخيك بغير حق))( ). أما اعتبار التضخم النقدي الطارئ على الأوراق النقدية جائحة فيتضمن إلحاق الضرر بأحد طرفي العقد لتخفيفه عن الآخر، ومن القواعد الفقهية المشهورة أن الضرر لا يزال بضرر( )، فليست مراعاة حق أحد العاقدين أولى من الآخر( ).
وقد اختلف القائلون بهذا التخريج في نسبة التضخم النقدي التي يُعدُّ بها من الجوائح على أربعة أقوال( ):
القول الأول: أن نسبة التضخم النقدي التي يعامل فيها معاملة الجوائح يرجع في تحديدها إلى العرف( ).
القول الثاني: أن نسبة التضخم النقدي التي يعامل فيها معاملة الجوائح هي التي تفقد فيها النقود ثلث قيمتها فما فوق( ).
القول الثالث: أن نسبة التضخم النقدي التي يعامل فيها معاملة الجوائح هي التي تفقد فيها النقود أكثر من نصف قيمتها( ).
القول الرابع: أن نسبة التضخم النقدي التي يعامل فيها معاملة الجوائح هي التي تفقد فيها النقود ثلثي قيمتها( ).
وأقرب هذه الأقوال إلى الصواب على هذا التخريج هو القول الأول، وهو الرد إلى العرف؛ لأن كل ما لم يُحدّ في الشرع فالمرجع في تحديده إلى العادة والعرف( ).
التخريج الرابع: أن التضخم النقدي منه ما هو ضريبة غير مباشرة( )
يذكر بعض الباحثين الاقتصاديين أن من التضخم النقدي ما هو ضريبة غير مباشرة تفرض على السلع والخدمات التي يستهلكها الأفراد، وتكون هذه الضريبة جزءاً من سعر السلعة والخدمة، فيرتفع بذلك المستوى العام للأسعار، وتضعف القوة الشرائية التبادلية. وهذه الزيادة في الأسعار تتحول في نهاية الأمر إلى الجهة التي فرضتها، فتكون هذه الضريبة التضخمية أحد مصادر تمويل الحكومات، وسد عجز الموازنات( ) فيها( ).
والذي يظهر للباحث أن هذا الرأي لا يصلح أن يكون تخريجاً فقهياً تترتب عليه الأحكام؛ إذ هو في الحقيقة بيان لسبب من أسباب التضخم، وتشخيص لأحد عوامله. وهذا لا يميزه عن سائر الأسباب والعوامل، فحقيقة التضخم النقدي لا تختلف باختلاف أسبابه وعوامله.
التخريج الخامس: أن التضخم النقدي حادثة جديدة
ذهب بعض الباحثين إلى أن التضخم النقدي حادثة جديدة لم يسبق أن تناولها الفقهاء، فلا تندرج فيما تكلموا عنه من رخص النقود الاصطلاحية الفلوس( ).
وقد تقدم بيان ضعف هذا التخريج في جواب ما نوقش به تخريج التضخم النقدي الطارئ على الأوراق النقدية على أنه من رخص النقود الاصطلاحية( ).
الترجيح
الذي يظهر للباحث أن أقرب هذه التوصيفات والتخريجات الفقهية للتضخم النقدي، هو التخريج الأول، وهو أن التضخم النقدي الطارئ على الأوراق النقدية نوع من رخص النقود الاصطلاحية.
ويترتب على هذا أن يثبت لانخفاض القيمة التبادلية للنقود الورقية ما تكلم عنه الفقهاء في رخص الفلوس. وقد رجح هذا التخريج أكثر الباحثين والفقهاء كما تقدم، والله أعلم.
الفصل الثاني أثر التضخم النقدي في الأحكام الشرعية
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: أثر التضخم النقدي في المقادير الشرعية.
المبحث الثاني: أثر التضخم النقدي في الديون والحقوق.
المبحث الثالث: أثر التضخم النقدي في عقود التوثيقات والتبرعات.
المبحث الأول: أثر التضخم النقدي في المقادير الشرعية
المطلب الأول: أثر التضخم النقدي في زكاة الأموال
تمهيــد
اختلف الفقهاء رحمهم الله في وجوب زكاة الأوراق النقدية في أول ظهورها. وذلك بناء على اختلاف أقوالهم في تكييف الأوراق النقدية( )، إلا أن هذا الاختلاف لم يدم طويلاً مع شيوع التعامل بهذه الأوراق النقدية، وقيامها بوظائف النقود، فهي وسيط التبادل في المعاملات والمعاوضات، وفي إبراء الذمم ووفاء الديون، وفي ضمان المتلفات وفي استباحة الفروج، وهي معيار القيم فبها تقوَّم الأشياء، وهي مستودع الثروة وأداة اختزان القيم. فبعد هذا التطور في استعمال هذه الأوراق النقدية انحسر القول بعدم وجوب الزكاة فيها حتى لا يكاد يعرف قائل به بين علماء المسلمين( )، بل حكى بعض الباحثين في أحكام الأوراق النقدية الاتفاق على وجوب الزكاة في الورق النقدي( ).
أما بالنسبة لما يجب إخراجه في الأوراق النقدية فهو من عين المال الذي وجبت فيه الزكاة، وهو الأوراق النقدية. لا خلاف في ذلك بين القائلين بوجوب الزكاة فيها؛ لأن الأصل في الزكاة كونها من عين المال الذي وجبت فيه؛ يدل لذلك أدلة كثيرة منها: قول الله :{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } ( ), وقول الله :{ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ﮘ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﮛ} ( ), وغير ذلك من الأدلة التي تفيد أن الزكاة تجب في عين المال( ). ولا أثر للتضخم النقدي في ذلك مهما بلغت درجته، فيما يظهر، والله أعلم.
أما نصاب( ) الأوراق النقدية فلا طمع في الوقوف على نص خاص في تقديره؛ لأنه لم يجر بها استعمال وقت نزول الوحي. لكن لما كان المقصود من هذه الأوراق النقدية ماليتها، أي: قيمتها التبادلية لا أعيانها، فإن المعتبر في نصابها قيمتها( ). وإنما تعرف المالية في الزكاة بتقويمها بالنقدين: الذهب أو الفضة( ). ولذلك ذهب أكثر أهل العلم إلى أن المعيار في تقدير نصاب الأوراق النقدية هو أن تبلغ أدنى النصابين من الذهب أو الفضة( ).
ونصاب الذهب من الجرامات خمسة وثمانون جراماً، ونصاب الفضة من الجرامات خمسمائة وخمسة وتسعون جراماً( ).
ومن هذا يتبين أن التضخم النقدي ليس له أثر في قدر أنصبة الأموال الزكوية التي جاء النص بتحديدها وبيان قدرها في السنة، فقد حدّد النبي نصاباً للنقدين: الذهب والفضة، وآخر لبهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم، وآخر للزروع والثمار. فإذا بلغ المال الزكوي النصاب المحدد وجبت فيه الزكاة على كل حال.
وأما تأثير التضخم النقدي على قدر النصاب في الأوراق النقدية فذلك؛ لأن قيمتها التبادلية وقوتها الشرائية تنقص وتقلّ في حالات التضخم النقدي، فيتغير بذلك مقدار النصاب فيها؛ لتغير قيمة النصاب الذي تعتبر به، وهو نصاب الذهب والفضة. فالتضخم النقدي يرفع مقدار نصاب الأوراق النقدية، فيكون هذا القدر من الأوراق النقدية مما تجب فيه الزكاة قبل حدوث التضخم النقدي؛ لكونه نصاباً، لكنه بعد حدوث التضخم النقدي وانخفاض القيمة التبادلية للأوراق النقدية يصير ذلك القدر دون النصاب، فلا تجب فيه الزكاة( ).
ومثال ذلك أن يكون لدى الإنسان ألف ريال، وقيمة أدنى النصاب من الذهب أو الفضة ستمائة ريال، فيكون هذا القدر قد بلغ النصاب فتجب فيه الزكاة، فإذا طرأ تضخم نقدي وانخفضت به القيمة التبادلية للنقود الورقية، وصارت أدنى قيمة نصابي الذهب أو الفضة ألفاً وثلاثمائة ريال، فإن من ماله ألف ريال فقط لا تجب عليه فيها زكاة؛ لكونه لم يبلغ نصاباً، وبهذا يخرج هذا القدر من المال عن دائرة من تجب في أموالهم الزكاة.
المسألة الأولى: أثر التضخم النقدي في انقطاع الحول( )
أجمع العلماء من حيث الجملة على اشتراط الحول لوجوب زكاة النقدين: الذهب والفضة، وما يقدّر نصابه بهما كعروض التجارة( ). ومما لا خلاف فيه بين القائلين بوجوب الزكاة في الأوراق النقدية أنه يشترط لوجوب الزكاة فيها مضي الحول( ).
تقدم أن التضخم النقدي يرفع قدر نصاب الأوراق النقدية، وتختلف درجة هذا الارتفاع في النصاب باختلاف نسبة التضخم النقدي. ففي التضخم النقدي الجامح يكون الارتفاع عالياً، وفي التضخم النقدي السريع يكون الارتفاع متوسطاً، وفي التضخم النقدي الزاحف يكون الارتفاع طفيفاً. فهل نقص النصاب بهذه الارتفاعات يقطع الحول أو لا؟
الذي يظهر للباحث أن هذه المسألة تخرّج على ما ذكره أهل العلم في نقص نصاب عروض التجارة؛ لأن نصاب عروض التجارة يعتبر فيه أن تبلغ قيمتها قيمة نصاب الذهب أو الفضة، وهذه هي الحال في تقدير نصاب الأوراق النقدية. فتتخرج مسألة نقص نصاب الأوراق النقدية على نقص نصاب عروض التجارة.
وقد اختلف الفقهاء في نقص النصاب الذي ينقطع به حول عروض التجارة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن نقص النصاب أثناء الحول يقطعه. وهذا قول عند الشافعية( )، وهو المذهب عند الحنابلة( )، إلا إنه يعفى عندهم عن نقصه نصف يوم( ).
القول الثاني: أن نقص النصاب أثناء الحول لا يقطعه إذا كان النصاب تاماً في طرفي الحول، وهذا هو المذهب عند الحنفية( )، وهو قول عند الشافعية( ).
القول الثالث: أن المعتبر في النصاب وجوده في آخر الحول فقط، ولا يؤثر نقصه قبل ذلك بعد وجود أصله، وهذا هو المذهب عند المالكية( )، والأظهر عند الشافعية( ).
وعلى هذا يمكن القول بأن انقطاع الحول بنقص نصاب الأوراق النقدية بسبب التضخم النقدي فيه الأقوال الثلاثة المتقدمة مهما كانت درجة هذا التضخم النقدي سواء كان مفرطاً أو سريعاً أو زاحفاً ما دام أنه ينقص النصاب، إلا أن قول الحنابلة يعفى عن نقص نصف يوم لا يتناسب مع طبيعة التضخم النقدي؛ وذلك لأن انخفاض القيمة التبادلية للنقود في حالات التضخم النقدي مستمر لمدد طويلة، فلا يتأتى هذا القول في التضخم النقدي.
وللوصول إلى الراجح من هذه الأقوال نستعرض ما يمكن أن يستدل به من الأدلة في مسألة انقطاع الحول بنقص النصاب في عروض التجارة( ). مما يتناسب مع الانقطاع الحادث بسبب التضخم النقدي.
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب هذا القول بما رواه علي( ) قال: قال رسول الله ﷺ: ((ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول))( ).
وجه الدلالة:
أن قوله في الحديث: ((في مال)) نكرة في سياق النفي، فيفيد العموم في جميع ما تجب فيه الزكاة من الأموال، ولا يخرج عن هذا شيء من الأموال إلا ما دلّ الدليل على عدم اعتبار الحول لزكاته. وذلك لأن النكرة في سياق النفي تفيد العموم( ).
ومما لا ريب فيه أن الأوراق النقدية مال يشترط لوجوب الزكاة فيه النصاب والحول، فوجب اعتبار كمال نصابه في جميع الحول. فإذا نقص المال عن النصاب فإنه لم يحل عليه الحول، فلا تجب فيه زكاة حينئذٍ.
نوقش هذا الاستدلال بأمرين:
الأول: أن الحديث ضعيف( )، فلا يحتج به.
يجاب على هذا: بالمنع، وأن الحديث صحيح، وقد جاء من طرق متعددة عن غير واحد من الصحابة( ) رضي الله عنهم. ويعضده آثار صحيحة عن كثيرين من الصحابة بل أجمع التابعون والفقهاء عليه( ).
الثاني: أن اعتبار ذلك شاق؛ لكثرة اضطراب القيم، ولكونه يحوج إلى ملازمة السوق ومراقبتة دائمة( ).
يجاب على هذا: بأن نقص النصاب بسبب اضطراب القيم لا يخلو: إما أن يكون ظاهراً فهذا لا حاجة فيه إلى تقويم لظهوره، وإما أن يكون محتملاً فعلى صاحب المال أن يقوّم ما عنده من الأوراق النقدية إن سهل، و إلا فليعمل بالأصل، وهو بقاء الوجوب؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان( )، وفي هذا عمل بالأحوط( ).
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
أولاً: ((أن كمال النصاب شرط لوجوب الزكاة، فيعتبر وجوده في أول الحول وآخره لا غير؛ لأن أول الحول وقت انعقاد السبب، وآخره وقت ثبوت الحكم، فأما وسط الحول فليس بوقت انعقاد السبب ولا وقت ثبوت الحكم فلا معنى لاعتبار كمال النصاب فيه، إلا أنه لا بد من بقاء شيء من النصاب الذي انعقد عليه الحول؛ ليضم المستفاد إليه. فإذا هلك كله لم يتصور الضم، فيستأنف له الحول))( ).
نوقش هذا: بأن نقصانه أثناء الحول ينقض الانعقاد المتقدم. ولذلك لو تم الحول على ما نقص نصابه لم يجب فيه شيء. فدل هذا على أن انتقاض السبب بعد وجوده ينتقض به الحكم.
ثانياً: أن اعتبار كمال النصاب في جميع الحول فيه مشقة على أهل الأموال لا سيما مع كثرة اضطراب قيمة الأوراق النقدية التبادلية.
نوقش: بما تقدم من أن نقص النصاب لا يخلو: إما أن يكون ظاهراً فهذا لا حاجة فيه إلى تقويم لظهوره، وإما أن يكون محتملاً فعلى صاحب المال أن يقوّم ما عنده من الأوراق النقدية إن سهل، و إلا فليعمل بالأصل، وهو بقاء الوجوب؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، وفي هذا عمل بالأحوط.
أدلة القول الثالث:
استدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
أولاً: أن كمال نصاب الأوراق النقدية في أول الحول ليس شرطاً لوجوب الزكاة قياساً على عروض التجارة( ) بجامع أن المرجع في تقدير نصابهما إلى الذهب والفضة.
نوقش من وجهين:
الأول: أن في المقيس عليه خلافاً كما تقدم، ومن المعلوم أن من شروط صحة القياس أن يكون الأصل المقيس عليه متفقاً على حكمه( ).
الثاني: أنه قياس في مقابلة النص، وهو قول النبي : ((ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول))( )، فلا عبرة به؛ إذ الإجماع منعقد على أنه لا يجوز مقابلة النص بالقياس( ).
ثانياً: أن المعتبر هو وقت الوجوب، وهو آخر الحول، فلا يعتبر غيره؛ لكثرة اضطراب القيم( )؛ إذ (( القيمة تزيد وتنقص في كل ساعة؛ لتغير السعر ولكثرة رغبة الناس وقلتها وعزة السلعة وكثرتها فيشق تقويم المال كل يوم))( ).
نوقش هذا: بما تقدم في أدلة القول الأول من أن كمال النصاب معتبر في جميع الحول؛ لعموم الحديث. وأما مشقة التقويم فقد تقدم الجواب عليها.
الترجيح
الراجح فيما يظهر أنه إذا نقص نصاب الأوراق النقدية بسبب التضخم النقدي أثناء الحول بأي نسبة كانت فإن الحول ينقطع بذلك. فإذا كمل نصاب الأوراق النقدية بعد ذلك استأنف به حولاً جديداً. هذا هو الراجح من هذه الأقوال؛ لقوة أدلته، وسلامتها من المناقشات، والله تعالى أعلم.
المسألة الثانية: أثر التضخم النقدي في الزكاة المؤخرة
الفرع الأول: وجوب الزكاة على الفور
اختلف أهل العلم رحمهم الله في وجوب الزكاة إذا تمت شروطها، هل وجوبها على الفور أو على التراخي؟ على قولين:
القول الأول: أنه على الفور، فلا يجوز تأخير إخراج الزكاة عن وقت وجوبها.
وهذا هو المفتى به عند الحنفية( )، وهو مذهب المالكية( )، والشافعية( )، والحنابلة( ).
القول الثاني: أنه على التراخي، ففي أي وقت أخرج الزكاة يكون مؤدياً لها.
وهذا قول عامة الحنفية( ).
أدلة القول الأول
استدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
أولاً: قول الله : {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } ( ).
وجه الدلالة:
أن الله أمر في هذه الآية الكريمة بإيتاء حق الزرع يوم حصاده، وحقه زكاته، فدل ذلك على أن يوم الحصاد هو وقت وجوب إخراج الزكاة( )، فكان إخراج زكاة الزروع واجباً على الفور, فيلحق بها ما عداها من أموال الزكاة( ).
ثانياً: قول الله : {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} ( ).
وجه الدلالة:
أن الله أمر في هذه الآية الكريمة بالمبادرة ((والمسارعة إلى الطاعات. وهذا يحتج به في أن تعجيل الطاعات أفضل من تأخيرها ما لم تقم الدلالة على فضيلة التأخير, نحو: تعجيل الصلوات في أول أوقاتها وتعجيل الزكاة والحج وسائر الفروض بعد حضور وقتها ووجود سببها. ويحتج به بأن الأمر على الفور, وأن جواز التأخير يحتاج إلى دلالة, وذلك أن الأمر إذا كان غير مؤقت فلا محالة عند الجميع أن فعله على الفور من الخيرات، فوجب بمضمون قوله : { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } ( )إيجاب تعجيله; لأنه أمر يقتضي الوجوب))( ).
ثالثاً: أن الأمر بالزكاة مطلق( ). والأمر المطلق يقتضي الفورية( ).
رابعاً: أن الزكاة ((إنما وجبت على الفور؛ لأن الغرض منها سد الخلات ودفع الحاجات والضرورات، وهي محققة على الفور. وفي تأخيرها إضرار بالمستحقين مع أن الفقراء تتعلق أطماعهم بها ويتشوفون إليها، فهم طالبون لها بلسان الحال دون لسان المقال))( ). فإذا كانت حاجة أهل الزكاة ((ناجزة، فيجب أن يكون الوجوب ناجزاً))( ).
خامساً: أن الزكاة ((عبادة تتكرر, فلم يجز تأخيرها إلى وقت وجوب مثلها, كالصلاة والصوم))( ).
أدلة القول الثاني
استدلوا بأن الأمر بالزكاة مطلق، فلا يتعين الزمن الأول لأدائها دون غيره( ).
نوقش من وجهين:
الأول: أن الأدلة قد دلت على أن الأمر المطلق يقتضي الفور( ).
الثاني: أنه قد اقترن بالأمر ما يقتضي الفورية على التسليم بأن الأمر لا يقتضي الفورية، وذلك أن(( الأمر بالصرف إلى الفقير معه قرينة الفور، وهي أنه لدفع حاجته، وهي معجلة، فمتى لم تجب على الفور لم يحصل المقصود من الإيجاب على وجه التمام))( ).
الترجيح
الراجح من هذين القولين هو القول الأول، وهو وجوب إخراج الزكاة على الفور؛ لقوة ما احتجوا به وسلامته من المناقشات، والله تعالى أعلم.
الفرع الثاني: ما يترتب على تأخير الزكاة في ظل التضخم النقدي
ذهب جمهور العلماء إلى أن الزكاة تجب على الفور كما تقدم.
وذهبوا أيضاً إلى تضمين من أخّر إخراج الزكاة بعد وجوبها وتمكنه من أدائها فيما إذا هلكت( ). وذلك؛ لأن الزكاة ((حق متعين على رب المال تلف قبل وصوله إلى مستحقه، فلم يبرأ منه بذلك كدين الآدمي))( ).
وبناء على ما تقدم، فإن من أخّر زكاة الأوراق النقدية بعد وجوبها وإمكان أدائها فتلفت فإن عليه ضمانها، ولا تبرأ ذمته إلا بإخراجها.
وهذا جارٍ على ما ذكره الفقهاء ـ رحمهم الله ـ من الضمان بتأخير الزكاة بعد وجوبها وإمكان أدائها.
لكن لما كانت الأوراق النقدية عرضة للتضخم النقدي الذي يفضي إلى نقصان قيمتها التبادلية الشرائية استلزم ذلك النظر في ضمان هذا النقص.
فمثلاً إذا أخّر شخص إخراج الزكاة بعد تمكنه من أدائها ثم طرأ التضخم النقدي أو ازدادت نسبته عن يوم وجوب الزكاة بمعدل لا يتسامح الناس بمثله عادة، فهل يضمن رب المال هذا النقص في القيمة التبادلية بسبب التضخم النقدي؟
الذي يظهر للباحث أنه يتخرَّج في هذه المسألة قولان:
القول الأول: أن مؤخِّر إخراج الأوراق النقدية لا يضمن ما طرأ من نقص قيمة النقود التبادلية.
القول الثاني: أن مؤخِّر إخراج الأوراق النقدية يضمن ما طرأ من نقص قيمة النقود التبادلية.
أدلة القول الأول:
أولاً: أن الثابت في الذمة هو قدر الزكاة يوم وجوبها، فلا يلزمه غير ذلك.
ثانياً: أن الضمان الذي ذكره الفقهاء في تأخير الزكاة بعد وجوبها وإمكان أدائها إنما هو فيما إذا تلف المال الذي تجب زكاته أو نقصت عينه. أما نقص قيمته فإنه غير مضمون، ولذلك فإن من كان عنده أربعون شاة فالواجب فيها شاة سواء أخرجها في وقتها أو أخرها مع إمكان الأداء. وكذلك سائر الأموال الزكوية التي تجب الزكاة في عينها. ومن ذلك زكاة الأوراق النقدية، فإنها إنما تعتبر القيمة فيها ضرورة لتقدير النصاب.
ثالثاً: أن القول بالضمان فيما إذا نقصت القيمة التبادلية للأوراق النقدية يفضي إلى اضطراب وتناقض؛ وذلك أن القدر المعين من الأوراق النقدية يكون مما تجب فيه الزكاة؛ لبلوغ قيمتها أدنى نصابي الذهب أو الفضة يوم وجوب الزكاة، ثم إنه بسبب التضخم النقدي يصير المال الذي أخَّر إخراج زكاته مما لا تجب فيه الزكاة؛ لأن قيمته لا تبلغ نصاباً يوم إخراج الزكاة.
فمثلاً إذا كانت قيمة نصاب الأوراق النقدية يوم وجوب الزكاة في المال ألف ريال، وفي يوم إخراجها مؤخرة انخفضت القيمة التبادلية للنقود فصارت قيمة نصاب الأوراق النقدية ألفي ريال. فعلى هذا إذا كان قدر المال الذي حال عليه الحول وأخَّر إخراج زكاته ألفاً وستمائة ريال، فإن قدر الزكاة يوم الوجوب أربعون ريالاً، أما بعد تأخير إخراج زكاتها وحدوث التضخم النقدي الذي ترتب عليه ارتفاع نصاب الأوراق النقدية إلى ألفي ريال، فإن الألف والستمائة الريال تصير مما لا تجب فيه الزكاة؛ لأنها دون النصاب.
ولذلك فإن القول المطرد السالم من الاضطراب أن تعتبر قيمة النقود الورقية نصاباً وإخراجاً؛ إما في يوم وجوب الزكاة، وإما في يوم إخراجها.
وهذا ما جرى عليه الحنفية( )، والمالكية( )، والشافعية( )، والحنابلة( )في زكاة عروض التجارة إذا أخرت؛ حيث اعتبر أبو حنيفة والحنابلة القيمة يوم الوجوب نصاباً وإخراجاً، وأما الصاحبان: أبو يوسف ومحمد بن الحسن فاعتبرا في ذلك يوم الأداء.
وقد ذكر الكاساني( )~ صورة المسألة فقال: ((من كانت له مائتا قفيز( )حنطة فحال عليها الحول فلم يؤد زكاتها حتى تغير سعرها إلى النقصان حتى صارت قيمتها مائة درهم أو إلى الزيادة حتى صارت قيمتها أربعمائة درهم، أن على قول أبي حنيفة إن أدى من عينها يؤدي خمسة أقفزة في الزيادة والنقصان جميعاً؛ لأنه تبين أنه الواجب من الأصل، فإن أدى القيمة يؤدي خمسة دراهم في الزيادة والنقصان جميعاً; لأنه تبين أنها هي الواجبة يوم الحول. وعند أبي يوسف ومحمد إن أدى من عينها يؤدي خمسة أقفزة في الزيادة والنقصان جميعاً، كما قال أبو حنيفة، وإن أدى من القيمة يؤدي في النقصان درهمين ونصفاً، وفي الزيادة عشرة دراهم؛ لأن الواجب الأصلي عندهما هو ربع عشر العين، وإنما له ولاية النقل إلى القيمة يوم الأداء))( ).
وكذلك قال السيوطي ~ في أسنى المطالب: ((فلو ابتاع مائتي قفيز حنطة بمائتي درهم أو بمائة وساوت آخر الحول مائتين لزمه خمسة دراهم. فلو أخَّر فنقصت قيمتها فعادت إلى مائة فإن كان قبل التمكن لزمه درهمان ونصف أو بعده، أو زادت قبله فصارت أربعمائة أو أتلفها بعد الوجوب وقيمتها مائتان فصارت أربعمائة لزمه خمسة دراهم؛ لأنها القيمة وقت التمكن أو الإتلاف))( ).
أدلة القول الثاني:
أولاً: أن من أخَّر إخراج الزكاة عن وقت الاستحقاق فقد تعدى بذلك، فعليه ضمان نقص القيمة كما يضمن تلف العين ونقصها( ).
نوقش هذا: بأن الضمان الذي ذكره الفقهاء إنما هو ضمان تلف العين أو نقصها، أما القيمة فإنها غير مضمونة؛ لأن الزكاة في الأوراق النقدية زكاة عين لا زكاة قيمة( ).
ثانياً: أن القول بالضمان فيه جبر حق أهل الزكاة بإلزام رب المال ما فوَّت عليهم بتأخير إخراج الزكاة عن وقت وجوب إخراجها.
نوقش: بأن التضمين يفضي إلى الزيادة في قدر الزكاة الواجبة. ومثل هذا لا يثبت إلا بالدليل، ولا دليل في ذلك، لاسيما وأن الجانب المراعى في الزكاة ابتداء هو التعبد لله تعالى، وأهل الزكاة مصرف لهذا الحق( ).
ثالثاً: القياس على قول المالكية في اعتبار يوم الإخراج فيما إذا أخرج الذهب عن الفضة أو العكس في الزكاة، فقالوا: يجوز إخراج ذهب عن فضة, وعكسه بصرف وقته مطلقاً( ).
نوقش هذا: بأنه قياس مع الفارق؛ لأن اعتبار يوم الإخراج في إخراج ذهب عن فضة في الزكاة وعكسه ليس لتضمين صاحب الزكاة ما ترتب على تأخيره من نقص؛ بل إن ذلك لحديث ابن عمر في استيفاء الدرهم عن الدنانير والعكس قال : قلت: يا رسول الله، إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذا من هذه، وأعطي هذه من هذا؟ فقال رسول الله : ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء))( ).
ولهذا تجب مراعاة القيمة يوم إخراج الزكاة في إخراج الذهب عن الفضة وكذلك العكس سواء تأخر إخراج الزكاة أو لا.
الترجيح
الذي يظهر للباحث أن الراجح هو القول الأول، وهو عدم ضمان نقص القيمة التبادلية للأوراق النقدية فيما إذا أخّر من عليه الزكاة إخراجها حتى نقصت بسبب حدوث التضخم النقدي أو زيادة نسبته، ولا فرق في ذلك بين أنواع التضخم النقدي سواء كان جامحاً أو متسارعاً أو زاحفاً، وسواء كان متوقعاً أو غير متوقع؛ لقوة ما استند إليه هذا القول من أوجه.
وهذا ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء( ) في المملكة العربية السعودية ففي جواب السائل عن مقدار نصاب الدولار، قالت اللجنة: ((مقدار نصاب الزكاة في الدولار وغيره من العملات الورقية هو ما يعادل قيمته عشرين مثقالاً( )من الذهب أو مائة وأربعين مثقالاً من الفضة في الوقت الذي وجبت عليك فيه الزكاة في الدولارات ونحوها من العملات. ويكون ذلك بالأحظ للفقراء من أحد النصابين. وذلك نظراً إلى اختلاف سعرها باختلاف الأوقات والبلاد))( ).
هذا هو الراجح فيما إذا أخّر شخص إخراج الزكاة بعد تمكنه من أدائها ثم طرأ التضخم النقدي أو ازدادت نسبته عن يوم وجوب الزكاة بمعدل لا يتسامح الناس بمثله عادة. أما إذا كان التأخير في إخراج الزكاة لسبب يعذر به المؤخر فإنه لا ضمان عليه، والله أعلم.
ومما يناسب أن ينبه إليه هنا أنه إذا عجل أحد إخراج زكاته ثم طرأ تضخم نقدي مهما كانت نسبته فإن ذمة صاحب المال بريئة لا يثبت فيها شيء بسبب ما طرأ من تضخم نقدي؛ إذ لا تخلو الأمر من إحدى حالين:
الأولى: أن لا ينقص المال عن نصاب الزكاة بسبب ما طرأ من تضخم نقدي فيكون ما عجله مجزئاً.
الثانية: أن ينقص المال عن النصاب بسبب ما طرأ من تضخم نقدي فيكون ما أخرجه من مال صدقة من الصدقات، والله أعلم.
المسألة الثالثة: أثر التضخم النقدي في إخراج القيمة في زكاة غير الأوراق النقدية
الأصل في زكاة الأموال إخراج زكاة كل مال من جنسه: فزكاة بهيمة الأنعام تكون منها، وزكاة الحبوب والثمار تجب فيها، وزكاة الأثمان كذلك. وقد استثنى العلماء من ذلك زكاة عروض التجارة فقالوا: تجب الزكاة في قيمتها( ).
الفرع الأول: أثر التضخم النقدي في إخراج القيمة في زكاة ما عدا عروض التجارة
الأمر الأول: إخراج القيمة في زكاة ما عدا عروض التجارة
اختلف العلماء في إخراج القيمة في زكاة ما عدا عروض التجارة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا يجوز إخراج القيمة في زكاة ما عدا عروض التجارة إلا للمصلحة أو الحاجة.
وهذا قول في مذهب( )الإمام أحمد( )، اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية( ).
القول الثاني: لا يجوز إخراج القيمة في زكاة ما عدا عروض التجارة.
وهذا مذهب المالكية( )، والشافعية( )، والحنابلة( ).
القول الثالث: يجوز إخراج القيمة في زكاة ما عدا عروض التجارة.
وهذا مذهب الحنفية( )، ووجه في مذهب الشافعي( )، ورواية في مذهب أحمد( ).
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
أولاً: أن معاذ بن جبل( ) قال لأهل اليمن حين بعثه رسول الله ﷺ إليهم: ((ائتوني بعرض ثياب خميس( )، أو لبيس( ) في الصدقة مكان الشعير، والذرة أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي ﷺ بالمدينة))( ).
وجه الدلالة: أن معاذاً رأى جواز إخراج العرض عن الشعير والذرة، فإجازة إخراج القيمة في الزكاة من باب أولى.
يناقش هذا من وجهين:
الأول: أن الأثر منقطع فلا يثبت به حكم( ).
يجاب على هذا: بأن طاوساً( )، وهو الراوي عن معاذ ، ((عالم بأمر معاذ، وإن كان لم يلقه))( )؛ لكثرة من لقي ممن أدرك معاذاً من أهل اليمن، وهذا يرجح ثبوت هذا الأثر عن معاذ .
الثاني: قول معاذ بن جبل لأهل اليمن حين بعثه رسول الله إليهم: ((ائتوني بعرض ثياب خميس، أو لبيس)) إنما هو في الجزية( ) لا في الزكاة( ). ويشهد لهذا أن النبي قال له لما بعثه إلى اليمن: ((فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم))( ).
يجاب على هذا من وجهين:
الأول: أن هذا الاحتمال فيه نظر يضعفه ما جاءت به الرواية، فإنها صرحت أن ذلك في الصدقة، حيث قال معاذ : ((ائتوني بعرض ثياب خميس، أو لبيس في الصدقة مكان الشعير...)).
الثاني: أن استشهادهم لكون ما قاله معاذ في هذا الأثر إنما هو في الجزية بقول النبي لمعاذ : ((فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)) ليس فيه شاهد؛ لأمرين:
أحدهما: أن مراد النبي من هذا القول فيما يظهر بيان أصل الفريضة لا تفاصيلها، إذ المقام لا يحتمل أكثر من ذلك، ولذلك لم يذكر من أهل الزكاة المستحقين لها إلا صنفاً واحداً فقط، ولم يدل ذلك أنها لا تصرف في غيرهم.
ثانيهما: أن من العلماء من قال: إن الضمير في قوله: ((تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)) يرجع إلى جميع المسلمين، لا أهل اليمن فقط( ).
ثانياً: أن إيجاب الزكاة في عين المال هو الأصل، ويُخرج عن هذا الأصل إذا عارض مصلحة وجوب الزكاة في العين مصلحة أرجح في إخراج القيمة، أو كان في وجوبها في العين مشقة( )؛ إذ المشقة منتفية في هذه الشريعة( ).
أدلة القول الثاني( )
استدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
أولاً: النصوص التي فرض فيها النبي الزكاة من جنس المال الذي وجبت فيه( )، وذلك في أحاديث كثيرة، منها:
الأول: أن أبا بكر( ) كتب لأنس بن مالك كتاباً لما وجهه إلى البحرين، وفيه قال في زكاة الإبل: ((إذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض( ) أنثى...))( ).
الثاني: قول النبي لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن: (( خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقرة من البقر))( ).
ثانياً: ما جاء في حديث فرائض الصدقة: ((ومن بلغت صدقته بنت مخاض، وليست عنده، وعنده بنت لبون( )، فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق( ) عشرين درهماً أو شاتين))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي ﷺ قدَّر الجبران بعشرين درهماً أو شاتين، ولم يعدل إلى القيمة، ((ولو كانت القيمة مجزئة لم يقدِّره بل أوجب التفاوت بحسب القيمة))( ).
يناقش: بأن ما يعطيه المصدق إنما هو قيمة ما بين السنين، وذلك غير مقدر عندنا بحسب الغلاء والرخص، وما ذكره النبي في الحديث من إعطاء المصدق عشرين درهماً أو شاتين، فذلك؛ ((لأن تفاوت ما بين السنين في زمانه كان ذلك القدر لا أنه تقدير شرعي))( ).
يجاب: بأن قول النبي في حديث فرائض الصدقة: ((ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين)) لم يخرج مخرج التقويم؛ لأن النبي لم يقل فيمن بلغت صدقته بنت مخاض، وليست عنده، وعنده بنت لبون: إنها تؤخذ منه إذا عرفت قيمتها، بل عدل عن القيمة إلى التقدير والتحديد بتعين الشاتين أو العشرين درهماً، فدل على أنه خرج مخرج العبادة؛ لأنه مقدر من قبل الشارع. ولو كان تقويماً لاختلف باختلاف الزمان والمكان وليس في قوله ما يشعر بذلك أو يدل عليه مع الحاجة إلى بيانه فدل على عدم اعتباره( ).
ثالثاً: أن تجويز إخراج القيمة في زكاة ما عدا عروض التجارة قد يفضي إلى أن يعدل إلى أنواع رديئة فيخرجها، كما أنه قد يترتب على التقويم ضرر.
رابعاً: أن الزكاة مبناها على المواساة، وهذا معتبر في قدر المال وجنسه.
لا نقاش في دلالة هذه الأدلة على أن الأصل في إخراج الزكاة أن يكون من جنس المال الذي وجبت فيه. لكن المناقشة في الاستدلال بذلك على عدم جواز إخراج القيمة إذا كانت مصلحة ذلك رابية على مصلحة إخراج الزكاة من جنس العين التي وجبت فيها، أو كان في ذلك دفع للمشقة عن المكلف مع حصول المقصود، فإنه ليس فيما ذكر من الأدلة ما يدل على عدم جواز ذلك.
أدلة القول الثالث( )
استدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
أولاً: قول معاذ بن جبل لأهل اليمن حين بعثه رسول الله إليهم: ((ائتوني بعرض ثياب خميص، أو لبيس في الصدقة مكان الشعير، والذرة أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي ﷺ بالمدينة))( ).
يناقش هذا بأمرين:
الأول: أن الأثر منقطع فلا يثبت به حكم.
يجاب على هذه المناقشة: بما تقدم في أدلة القول الأول.
الثاني: أنه ليس في الأثر ما يشهد للتفريق بين عروض التجارة وغيرها، فإن معاذاً علل قوله لأهل اليمن: ((ائتوني بعرض ثياب خميص، أو لبيس في الصدقة مكان الشعير، والذرة)) بأن ذلك أهون عليهم وخير لأصحاب النبي ﷺ بالمدينة. وهذا التعليل يصدق على كثير من أنواع عروض التجارة.
ثانياً: أن المقصود بأداء الزكاة إغناء الفقير، والإغناء يحصل بدفع القيمة، بل قد يكون إخراج القيمة أبلغ في تحقيق ذلك.
الترجيح
الراجح هو القول الأول، وهو جواز إخراج القيمة في الزكاة عند الحاجة أو المصلحة؛ لما فيه من الجمع بين الأدلة وتحقيق المصلحة ودفع المشقة، والله أعلم.
الأمر الثاني: إخراج القيمة في زكاة ما عدا عروض التجارة في ظل التضخم النقدي
ليس للتضخم النقدي أثر في زكاة الأموال التي تجب الزكاة فيها من عين المال على قول الجمهور الذين يمنعون إخراج القيمة عوضاً عن الزكاة الواجبة في عين المال.
أما على القول بجواز إخراج القيمة في زكاة الأعيان للمصلحة والحاجة. فإن ذلك مقيد بما إذا كانت المصلحة في إخراج القيمة أرجح من إخراجها من عين المال، أو دعت إلى ذلك حاجة. مثل أن يبيع ثمر بستان أو زرعه بأوراق نقدية، فهنا إخراج عشر الثمن من الأوراق النقدية يجزئ، ولا يجب أن يشتري ثمراً أو حنطة ليخرجها؛ لأنه قد ساوى الفقراء بنفسه. وكذلك لو وجب عليه شاة في خمس من الإبل، وليس عنده من يبيعه شاة، فيكفي إخراج القيمة. ومثل ذلك أيضاً أن يطلب أهل الزكاة إعطاء القيمة بدل العين؛ لكونها أنفع من الصدقات العينية لاسيما وأن متطلبات الناس اليوم المعيشية منها والاجتماعية تجاوزت حاجة الطعام والغذاء إلى أشياء أخرى لا سبيل للحصول عليها إلا بتوافر النقد في أيديهم. ففي هذه الحال يجوز إخراج الزكاة من الأوراق النقدية بدلاً عن العين حتى في ظل التضخم النقدي.
ومما يدخل في ذلك أيضاً إخراج القيمة في زكاة الذهب والفضة لاسيما وأن الآخذ لهما لا ينتفع من أعيانهما إلا ببيعهما بالنقود الورقية ليسد حوائجه. وقد ذهب فقهاء المالكية( ) إلى جواز إخراج الفلوس عن أحد النقدين في الزكاة، ومن منع ذلك كما في أحد الوجهين عند الحنابلة فإنما منعه لكون الفلوس ليست في المعاملة كالدراهم( ). ومعلوم أنه لا وجود للدراهم في معاملات الناس اليوم، فالأوراق النقدية قد استأثرت بالقبول في التبادلات والمعاملات بلا منازع، فلا وجه للمنع حينئذٍ لبطلان التعامل بالنقود من الذهب والفضة فعلة المنع منتفية.
والظاهر أنه لا فرق في جواز إخراج القيمة في زكاة الأعيان بين معدلات التضخم ما دام إخراج القيمة في الزكاة يحقق المعاني المتقدمة. فإن لم يحقق مصلحة أو يدفع حاجة، بل تضمن إخراج أدنى من جنس المال الذي وجبت فيه الزكاة كحالات التضخم المفرط التي لا يثق الناس فيها بالنقود، بل يسعى الناس فيها إلى التخلص من النقود لسرعة انخفاض قيمتها ففي هذه الحال يتوجه القول بعدم جواز إخراج القيمة في زكاة الأعيان؛ لأنها تكون في هذه الحال من رديء المال، وقد قال الله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } ( ).
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في منع إخراج الفلوس عن النقدين في الزكاة ما يشهد لهذا قال ~: ((أما الفلوس فلا يجزئ إخراجها عن النقدين على الصحيح؛ لأنها ولو كانت نافقة، فليست في المعاملة كالدراهم في العادة؛ لأنها قد تكسد ويحرم المعاملة بها، ولأنها أنقص سعراً))( ).
أما على القول بجواز إخراج القيمة في زكاة الأعيان مطلقاً، فالذي يظهر للباحث أن التضخم النقدي في مستوياته الدنيا والمتوسطة ليس له تأثير على القول بالجواز؛ لأن المعتبر في تجويز إخراج القيمة في زكاة الأعيان كونها أكثر نفعاً وأدفع لحاجة الفقير( ). وهذان المعنيان لا يزولان إلا في حال التضخم المفرط فعلى هذا لا يمنع التضخم النقدي الزاحف والمتوسط من القول بجواز إخراج القيمة. أما في حالات التضخم المفرط فإن إخراج النقود لا نفع فيه للمستحقين بل فيه ضرر عليهم في الغالب؛ لأن التوجه العام في حالات التضخم هو التخلص من الأوراق النقدية فراراً من ضعفها وخوفاً من زيادة تدهورها وطلباً لما هو أكثر أمناً في حفظ الثروة. فإخراج القيمة في مثل هذه الحال هو من باب إخراج الرديء عن الطيب، وهو مما نهى الله عنه كما تقدم.
الفرع الثاني: أثر التضخم النقدي في إخراج القيمة في زكاة عروض التجارة
الأمر الأول: إخراج القيمة في زكاة عروض التجارة
اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ فيما يجب في زكاة عروض التجارة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: تجب الزكاة في قيمة العروض دون عينها.
وهذا مذهب المالكية( )، والصحيح عند الشافعية( )، والمذهب عند الحنابلة( ).
القول الثاني: صاحب المال مخير بين إخراج الزكاة من عين العروض وبين إخراجها من القيمة.
وهذا مذهب الحنفية( )، وقول عند الشافعية( ).
القول الثالث: تجب الزكاة في عين العروض دون قيمتها.
وهذا قول عند الشافعية( ).
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
أولاً: أن عمر مرّ بحماس( )، وكان يبيع الأدم( )
والجعاب( )، فقال له عمر: يا حماس أدِّ زكاة مالك. فقال: والله مالي مال، إنما أبيع الأدم والجعاب، فقال: ((قومه، وأدِّ زكاته))( ).
نوقش: بأن هذا الأثر ضعيف.
أجيب: بأن الأثر مشهور، وقد صححه جماعة من أهل العلم.
ثانياً: أن النصاب في زكاة العروض معتبر بقيمتها، فتجب الزكاة منها؛ لأنها محل الوجوب( ).
أدلة القول الثاني:
أن عروض التجارة مال تجب فيه الزكاة فيجوز إخراجها من عينها كسائر الأموال.
نوقش: بأن الزكاة لم تجب في عين المال، وإنما وجبت في قيمته( ).
أدلة القول الثالث:
استدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
أولاً: حديث سمرة( ) قال: كان النبي ﷺ يأمرنا بإخراج الصدقة من الذي يُعَدُّ للبيع( ).
وجه الدلالة:
أن النبي أمر بإخراج زكاة عروض التجارة من المال نفسه، فوجب إخراجها من عروض التجارة، ولم يجز العدول عنه لغيره( ).
نوقش: بأن الزكاة في عروض التجارة إنما وجبت في قيمتها لا في عينها، ولذلك فإنه لا يجب إخراجها من العين؛ لأن المعتبر في وجوبها القيمة.
ثانياً: أن عروض التجارة مال مزكى، فتجب زكاته منه كسائر الأموال الزكوية( ).
نوقش هذا: بأنه قياس مع الفارق من وجهين:
الأول: أن المقصود في سائر الأموال أعيانها، والنص قد ورد بوجوب الزكاة فيها. أما عروض التجارة فالمقصود ماليتها لا عينها، وقد صح الأثر باعتبار ماليتها.
الثاني: أن عروض التجارة تتغير وتتنوع مرات كثيرة في العام الواحد، فما الذي تجب فيه الزكاة من هذه الأعيان المتنوعة المتغيرة فدل أن المعتبر في زكاتها قيمتها.
الترجيح
الذي يترجح للباحث هو القول الأول، وأن زكاة عروض التجارة تجب في قيمتها لا في عينها؛ لقوة ما استدلوا به ولوضوحه.
ويمكن أن يقال بأن هذا هو الأصل، فإذا كان في إخراج الزكاة من العروض نفعٌ لأهل الزكاة، أو أن رب المال لم يجد نقوداً يخرجها، وكانت عروض التجارة مما يمكن لآخذها من أهل الزكاة أن ينتفع بها ففي هذه الحال يجوز إخراج الزكاة من العروض.
الأمر الثاني: إخراج القيمة في زكاة عروض التجارة في ظل التضخم النقدي
لا يظهر أن للتضخم النقدي أثراً في زكاة عروض التجارة على القول بوجوب إخراج الزكاة من قيمة العروض إلا من جهة زيادة مقدار ما يجب من الزكاة؛ لأن التضخم النقدي يزيد في القيمة الاسمية لعروض التجارة حيث ترتفع أسعارها، لكن ذلك الأثر مقيد بما إذا لم يؤدِ التضخم النقدي إلى ارتفاع قدر النصاب ارتفاعاً يخرج به قيمة عروض التجارة عن وجوب الزكاة فيها لعدم بلوغها النصاب.
مثال ذلك: أن يكون قيمة ما لدى الإنسان من عروض التجارة ألف ريال، ونصاب الأوراق النقدية سبعمائة ريال، فزكاة العروض حينئذٍ خمسة وعشرون ريالاً. فإذا طرأ التضخم النقدي وارتفعت قيمة العروض، فصار قيمة ما لدى الإنسان ألفي ريال، وصار نصاب الأوراق النقدية ألفاً وخمسمائة ريال، فإن الزكاة ستكون خمسين ريالاً، فيكون مقدار الزكاة قد زاد بمقدار ما طرأ من التضخم النقدي.
وبهذا المثال يتبين أن التضخم النقدي يؤثر في زيادة قدر الزكاة الواجبة في عروض التجارة. وهذه الزيادة تفضي إلى الزيادة في كمية النقود المتداولة، مما يؤدي إلى زيادة الإنفاق الاستهلاكي الذي قد يكون من أسباب زيادة التضخم النقدي لاسيما وأن من أهم موارد الزكاة في الزمن الحاضر زكاة عروض التجارة.
أما على القول بأن الواجب إخراج زكاة العروض من عين ما وجبت فيه الزكاة فأثر التضخم النقدي هو وجوب مراعاة العرض المُخرج، وذلك ((أنه في أوقات التضخم لا ترتفع أسعار السلع بنسبة واحدة، بل هناك بعض البضائع قد تعاني من انخفاض أسعارها، وفي هذه الحال إذا أخرج المزكي زكاته من هذه البضائع فإنه يحقق لنفسه منفعة في حين أنه قد يحصل للقابض ضرر من ذلك))( ). ولذلك فإن الواجب عند إخراج زكاة عروض التجارة من عين المال أن تكون العين المُخرجة من أوسط عروض التجارة؛ لقول الله : { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } ( ).
أما على القول بأن رب المال مخير بين إخراج زكاة العروض من قيمتها أو من عين المال فلا يخرج أثر التضخم عما تقدم.
المسألة الرابعة: أثر التضخم النقدي في زكاة الدين
اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ في وجوب الزكاة في الدين على أقوال، ولهم في ذلك تفريع وتفصيل( ). والذي يتصل بموضوع الدراسة هو وقت وجوب زكاة الدين على القول بأن فيه زكاة.
وبالنظر إلى ما قاله الفقهاء في ذلك يتبين أن في الوقت الذي تجب فيه زكاة الدين قولين لأهل العلم في الجملة:
القول الأول: أن زكاة الدين تجب على صاحب الدين عن كل عام( ).
القول الثاني: أن زكاة الدين تجب على صاحب الدين عند قبضه لعام واحد، أو للأعوام التي قبل قبضه بناء على اختلاف العلماء في ذلك( ).
أما أثر التضخم النقدي في زكاة الدين، فإن المعتبر في قدر زكاة الدين هو وقت وجوب الزكاة فيه على القول الأول. وبناء على هذا فزكاة كل عام تأخذ حكماً مستقلاً من حيث أثر التضخم النقدي على قدر النصاب، فقد تختلف الأعوام من حيث وجوب الزكاة في الدين. وذلك بالنظر إلى اختلاف نسبة التضخم النقدي في تلك الأعوام. ولا فرق في ذلك بين قول من أوجب إخراج زكاة الدين على الفور في نهاية كل عام، وبين قول من رخص في تأخير إخراج زكاة الدين إلى قبضه؛ لأن الوقت المعتبر في نصاب الزكاة وقت وجوبها لا وقت إخراجها.
مثال ذلك: إذا كان قدر الدين ألف ريال، والدين مؤجل ثلاث سنوات. فإذا كان قدر النصاب خمسمائة ريال في السنة الأولى، فطرأ تضخم نقدي نقصت به قيمة النقود، فصار النصاب في السنة الثانية ثمانمائة ريال، وفي السنة الثالثة زادت نسبة التضخم النقدي، ونقصت قيمة النقود حتى صار النصاب ألفاً ومائة ريال.
ففي هذا المثال يجب على صاحب الدين زكاة العام الأول والثاني؛ لكون الدين يبلغ نصاباً، أما العام الثالث فلا يجب عليه في الدين شيء؛ لأنه دون النصاب.
أما على القول الثاني، وأنه لا تجب الزكاة في الدين إلا عند القبض، فالمعتبر في بلوغ النصاب هو وقت قبض الدين؛ لأنه وقت الوجوب. ولهذا قد يكون الدين في أول مدة الدين مالاً تجب فيه الزكاة؛ لبلوغه النصاب فيحدث التضخم النقدي فيرتفع نصاب الأوراق النقدية فيأتي يوم القبض والدين دون النصاب فلا تجب فيه الزكاة كما هو في المثال السابق.
المطلب الثاني: أثر التضخم النقدي في الديات( )
المسألة الأولى: أثر التضخم النقدي في نوع الدية
اتفق أهل العلم على أن الدية تكون من الإبل( ).
واختلفوا هل تكون من غير ذلك؟ على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن أصل الدية الإبل فقط.
وهذا مذهب الشافعية( )، ورواية في مذهب أحمد( ).
وقد اختار هذا القول الشيخ محمد بن إبراهيم( ) مفتي البلاد السعودية في زمانه، فقال ~: ((لا يعلم خلاف بين أهل العلم في أن الإبل أصل في الدية، وأن دية الحر المسلم مائة من الإبل. وهل هي الأصل لا غير وما سواها من باب القيمة، أو معها غيرها؟ الراجح عند أئمة الدعوة( ) أنها هي الأصل لا غير، وما سواها من باب القيمة...))( ).
وعلى هذا القول يكون إخراج ما عدا الإبل في الدية إنما هو من باب التقويم لا أنها أصول.
القول الثاني: أن أصول الدية خمسة: الإبل، والبقر، والغنم، والدراهم، والدنانير.
وهذا هو المشهور من مذهب أحمد( ).
القول الثالث: أن أصول الدية ثلاثة: الإبل، والدنانير،والدراهم.
وهذا مذهب الحنفية( )، والمالكية( ).
أما أثر التضخم النقدي في نوع الدية بناء على هذه الأقوال فبيانه كما يلي:
أولاً: أثر التضخم النقدي بناء على القول الأول، وهو أن الأصل في الدية الإبل فقط.
لا يلزم مستحق الدية على هذا القول قبول غير الإبل في الديات إلا إذا أعوزت( ). فإن أعوزت الدية فللمستحق قيمتها وقت وجوب تسليمها بالغة ما بلغت؛ لأنها بدل متلف، فيرجع إلى قيمته عند إعواز أصله. هذا هو الجديد من قولي الشافعي. وأما على قوله القديم فإن الواجب ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم. وهذا كله فيما إذا لم يمهل مستحق الدية من وجبت عليه، فإن قال مستحق الدية: أصبر حتى توجد الإبل فإنه يلزم الدافع بذل الإبل بعد زوال الإعواز؛ لأنها الأصل( ).
ومن هذا يتبين أنه ليس للتضخم النقدي أثر على أصل الدية على هذا القول ؛لأن الأصل الذي يلزم الدافع هو الإبل، لكن قد يكون للتضخم النقدي أثر فيما إذا أعوزت الإبل فإن للمستحق الخيار بين أخذ قيمتها، وبين الإمهال حتى يزول الإعواز. ومن المعلوم أن مستحق الدية سيختار الأصلح له.
ومما قد يؤثر في الاختيار بين أخذ القيمة وبين الإمهال نسبة التضخم النقدي، لا سيما إذا كان التضخم النقدي مرتفعاً، وكان اقتناء الإبل ذا قيمة ونفع، كما في البلاد الزراعية والرعوية.
ومما يظهر فيه أثر التضخم النقدي على الدية بناء على هذا القول أيضاً اختيار مستحق الدية أخذ الدية من الأوراق النقدية فيما إذا أعوزت الإبل. وذلك أن إخراج الأوراق النقدية في الدية عن الإبل إنما هو من باب التقويم. وعلى هذا فلا بد في تقويم الإبل بالورق النقدي من مراعاة قيمة الوسط، وكذلك لا بد من مراعاة تغير قيمة الإبل بسبب تغير الأسعار ارتفاعاً وانخفاضاً. وقد جاء ما يدل على مراعاة ذلك عن النبي ﷺ حيث كان النبي ﷺ يقوِّم دية الخطأ على أثمان الإبل، فإذا غلت رفع في قيمتها، وإذا هاجت رخصاً نقص من قيمتها( ). وقد نبَّه إلى وجوب مراعاة ذلك الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية، فقال في تقويم الإبل بالأوراق النقدية: ((وهذا التقويم باعتبار دون الوسط، ويستمر العمل على هذا ما لم تتغير قيمتها الحالية بزيادة كثيرة أو نقص كثير، فإن تغيرت وجب تجديد التقويم))( )؛ لتغير الأسعار.
وتتأكد مراجعة التقويم في زمن التضخم النقدي وتذبذب قيمة النقود؛ لأنه يرتفع فيه المستوى العام للأسعار، وقد يكون من جملة ذلك أسعار الإبل. وقد عُمل بهذا التنبيه فجرت عدة مراجعات لقدر الدية من الأوراق النقدية بسبب التضخم النقدي، كان آخرها ما ذكره الشيخ عبد الله البسام( ) في استعراضه لتلك المراجعات حيث قال ~: ((ثم إن قيم الإبل زادت زيادة ظاهرة جداً، وتوفر النقد بأيدي الناس، فأعيد تقويم دية النفس من قِبل مجلس كبار العلماء أيضاً. فأصدر قراراً بأن تكون دية العمد( ) وشبهه مائة وعشرة آلاف ريال، ودية الخطأ مائة ألف ريال...، ولا تزال حتى تحرير هذه الأسطر في عام 1412هـ))( ).
وعلى كل حال فإن لمستحق الدية أن يحمي نفسه من آثار التضخم النقدي في قدر الدية بأن لا يقبل في الدية إلا الأصل ، وهي الإبل، ويُلزم الدافع بذلك ما لم يتعذر دفع الدية من الإبل.
ثانياً: أثر التضخم النقدي بناء على القولين: الثاني والثالث، وأن أصول الدية متعددة ثلاثة أصناف، أو خمسة.
يلزم مستحق الدية على هذين القولين قبول أي صنف من أصناف الدية إذا جاء به من وجبت عليه. وهذا مذهب الحنفية( )، والحنابلة( ).
أما المالكية فإنه لا يلزم مستحق الدية قبول ما يبذل له من أصناف الدية إلا غالب أموال الناس في البلاد من إبل أو ذهب أو فضة( ).
ومن هذا يتبين أنه ليس للتضخم النقدي على هذين القولين أثر في الدية إلا عند اتفاق مستحق الدية وباذلها على أخذ قيمة الدية من الأوراق النقدية، وحينئذٍ يكون للتضخم النقدي الأثر الذي تقدم ذكره فيما يترتب على القول الأول، والله أعلم.
المسألة الثانية: أثر التضخم النقدي إذا كانت الدية مؤجلة
أجمع أهل العلم على أن دية الخطأ مؤجلة على العاقلة( ) في ثلاث سنين( ). وقد حكي إجماع الصحابة أيضاً على تأجيل دية شبه العمد كدية الخطأ( ).
أما دية العمد فهي مؤجلة كدية الخطأ عند الحنفية( ) خلافاً للجمهور( ).
وذلك كله في دية النفس وما دونها من الجراحات إذا جاوزت ثلث الدية( ). وهذا التأجيل للدية علته التخفيف والتيسير على من وجبت عليه( ).
أما أثر التضخم النقدي في الديات المؤجلة فبيانه على النحو التالي:
أولاً: إذا كانت الدية المؤجلة ستدفع من غير الأوراق النقدية سواء من أحد الأصول على القول بتعددها، أو من الإبل على القول بأنها الأصل في الدية، فلا يظهر أن للتضخم النقدي أثراً في الدية المؤجلة.
ثانياً: إذا كانت الدية المؤجلة ستدفع من الأوراق النقدية فأثر التضخم النقدي يظهر في أن القوة التبادلية لقيمة الدية من الأوراق النقدية ستنقص عنها في يوم التقويم، بسبب التضخم النقدي الذي طرأ أو زاد خلال مدة تأجيل الدية، وتختلف نسبة هذا النقص باختلاف معدل التضخم النقدي. ويمكن إجمال ذلك في حالين:
الحال الأولى: أن يكون التضخم النقدي جامحاً أو متسارعاً.
مثال ذلك أن تكون قيمة المائة من الإبل يوم تقويم الدية مائة وعشرين ألف ريال، فإن مستحق الدية سيأخذ ثلثها عند التقويم، وهو أربعون ألفاً. وأما الثلثان الآخران فسيأخذ ثلث الدية الثاني في آخر السنة الثانية، وثلث الدية الثالث في آخر السنة الثالثة. فإذا كان التضخم النقدي قد طرأ بعد التقويم، وبلغ في آخر السنة الثانية نسبة خمسة وعشرين في المائة، وفي آخر السنة الثالثة صارت نسبة التضخم النقدي خمسين في المائة، فإن ذلك يعني أن الأوراق النقدية قد فقدت ربع قوتها التبادلية الشرائية في آخر السنة الثانية بالنسبة لقوتها يوم التقويم، وعلى هذا فإن الأربعين ألفاً، التي هي القسط الثاني من الدية، لن يُحصِّل بها مستحقها إلا ما يُحصِّله بثلاثين ألفاً يوم التقويم ، وذلك بسبب نقص القيمة التبادلية للنقود. أما السنة الثالثة فإن الأوراق النقدية ستكون قد فقدت نصف قيمتها التبادلية الشرائية بالنسبة ليوم التقويم، فالأربعون ألفاً، التي هي آخر الأقساط، ستكون قيمتها عشرين ألفاً مقارنة بقيمة النقود التبادلية يوم التقويم. ونسبة التضخم النقدي في هذا المثال تدخل في حيز التضخم النقدي المتسارع، وهو مما لم تجر العادة بالتسامح في مثله؛ لارتفاع نسبته، وما يترتب عليه من ضرر.
ولذلك فالذي يظهر للباحث أنه في حال كون التضخم النقدي جامحاً أو متسارعاً فإنه لا يلزم مستحق الدية قبول قيمتها من الورق النقدي، بل له أن يطالب بأحد أمرين:
الأول: إعادة تقويم قسط الدية عند حلوله في آخر السنة الثانية، وكذلك في آخر السنة الثالثة؛ ليتلافى نقص القيمة.
الثاني: أن تدفع له الدية من الأصل، أي من الإبل، لا من قيمتها أو من بقية الأصول على القول بتعددها؛ لأن في دفع القيمة ضرراً عليه، فله الرجوع إلى الأصل.
وهذا الرأي مستفاد من قول الشافعية الذين لا يرون جواز دفع القيمة في الدية، إلا إذا أعوزت الإبل على أن لا يقوَّم ما وجب من الدية إلا بعد حلول وقت أدائها.
قال الشافعي ~: ((وعام في أهل العلم أن رسول الله ﷺ فرض الدية مائة من الإبل، ثم قوَّمها عمر t على أهل الذهب والورق. فالعلم محيط إن شاء الله تعالى أن عمر لا يقوِّمها إلا قيمة يومها، ولعله قوَّم الدية الحالة كلها في العمد، وإذا قوَّمها عمر قيمة يومها فاتباعه أن تقوَّم كلما وجبت على إنسان قيمة يومها))( ).
وقال أيضاً: ((فإن أعوز ما لزمه من الصنف أخذت قيمته يوم يلزم صاحبه))( ).
وقال العمراني( )~ في شرح قول الشافعي: ولا يقوَّم نجم( ) إلا بعد حلوله: ((وجملة ذلك أن الدية إذا وجبت على العاقلة، فإن كانت الإبل موجودة معهم أو في بلدهم بثمن مثلها عند الحلول، وجب عليهم أن يجمعوا ما وجب...)). ((وإن كانت معدومة، أو موجودة بأكثر من ثمن مثلها، انتقلوا إلى بدلها...))، ((فإذا قلنا: تجب قيمتها، فإنها تقوَّم عند حلول الحول...))( ).
الحال الثانية: أن يكون التضخم النقدي تضخماً زاحفاً.
فالذي يظهر للباحث أنه لا حاجة في هذه الحال إلى إعادة تقويم الإبل عند حلول أدائها، على القول بجواز إخراج القيمة في الدية، وذلك أن النقص الحاصل بسببه مما يتغابن الناس في مثله عادة.
أما على القول بأنه لا تجوز الدية من غير الإبل إلا إذا أعوزت فلا يظهر أن للتضخم النقدي الزاحف أثراً أيضاً؛ لأنه يجب تقويم ما وجب من الدية عند حلول الأجل، كما تقدم، والله أعلم.
المطلب الثالث: أثر التضخم النقدي في وقت اعتبار النصاب في السرقة
ذهب جمهور العلماء من الحنفية( )، والمالكية( )، والشافعية( )، والحنابلة( ) إلى أن من شروط إقامة الحد في السرقة أن يبلغ المال المسروق نصاباً.
وخالف في ذلك ابن حزم( ) من الظاهرية( )، فلم يعتبر في ذلك نصاباً.
وقد اختلف الجمهور في عدة مسائل تتعلق بالنصاب( ). والذي يتصل بموضوع الدراسة من تلك المسائل؛ أن أهل العلم اختلفوا في الوقت الذي يعتبر فيه نصاب السرقة على قولين:
القول الأول: أن المعتبر بلوغ المسروق قيمة نصاب السرقة وقت إخراجه من الحرز( ).
وهذا أحد قولي الحنفية( )، وهو المذهب عند المالكية( )، والشافعية( )، والحنابلة( ).
القول الثاني: أن المعتبر بلوغ المسروق قيمة نصاب السرقة من وقت إخراجه من الحرز إلى وقت القطع والاستيفاء.
وهذا هو المذهب عند الحنفية( ).
أما تقويم نصاب السرقة فإنه يكون بالذهب أو الفضة( )؛ لأن النصوص وردت بتقدير النصاب بهما.
فتقديره بالذهب جاء في قول النبي ﷺ: ((لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً))( ).
أما تقديره بالفضة فقد جاء في الحديث أن النبي ﷺ قطع سارقاً في مجن( ) قيمته ثلاثة دراهم( ).
وهذان التقديران لنصاب السرقة لا أثر للتضخم النقدي فيهما؛ لأن التقدير منصوص عليه فوجب اعتباره، ((فإن زاد سعر أو نقص لم ينظر في ذلك))( ).
أما قيمة النصاب من الورق النقدي فإن للتضخم النقدي أثراً فيها، وذلك أن أسعار الذهب والفضة تتأثر بالتضخم النقدي ارتفاعاً وانخفاضاً فإذا ارتفع معدل التضخم ارتفعت غالباً أسعار الذهب والفضة فترتفع بذلك قيمة النصاب من الأوراق النقدية. فإذا كانت قيمة النصاب من الذهب أو الفضة مائة ريال مثلاً فإنه يجب القطع بسرقة هذا المبلغ. فإذا طرأ التضخم أو زادت نسبته حتى صارت قيمة النصاب ثلاثمائة ريال فلا يجب القطع فيما دون ذلك. وهذا يوجب دوام الملاحظة لقيمة النصاب لا سيما في أوقات التضخم النقدي لمعرفة ما يجب فيه القطع مما لا يجب.
ومما يظهر فيه أثر التضخم النقدي أنه إذا سُرق ما قيمته نصاب من الأوراق النقدية ثم طرأ تضخم نقدي أو زادت نسبته، فصار المبلغ المسروق دون قيمة النصاب بعد حدوث التضخم أو زيادته ولم يستوف الحد بعد، فعلى قول الجمهور ليس لذلك أثر في ثبوت القطع؛ لأن المعتبر قيمة النصاب يوم إخراجه من الحرز، فلا يرتفع الحد بعد ثبوته. أما على قول الحنفية الذين يعتبرون قيمة النصاب من وقت إخراجه من الحرز إلى وقت القطع فإنه لا قطع عندهم بعد نقصان قيمة المسروق عن قدر النصاب درءاً للحد بالشبهة( )؛ لأن ((نقصان السعر يورث شبهة نقصان في المسروق وقت السرقة... فيجعل النقصان الطارىء كالموجود عند السرقة))( ).
والذي يظهر للباحث أنه لا أثر للنقص الطارىء بعد الإخراج من الحرز في رفع الحد، ولا يُعدُّ ذلك شبهة يدرأ بها؛ لأن الشبهة التي تُدرأ بها الحدود هي الشبهة القائمة الموجودة زمن وقوع موجب الحد لا الطارئة بعده. و إلا فإن اعتبار الشبهة الطارئة بعد موجبات الحدود يفضي إلى تعطيل الحدود، والله أعلم.
المبحث الثاني: أثر التضخم النقدي في الديون والحقوق
المطلب الأول: أثر التضخم النقدي في الديون
المسألة الأولى: تعريف الديون وأنواعها وأسبابها
الفرع الأول: تعريف الديون
الديون في اللغة: جمع دين. وللفظ الدين في اللغة عدة استعمالات:
منها أن الدين يطلق على كل شيء غير حاضر. ومنها أنه يطلق أيضاً على الإعطاء بأجل، ويطلق أيضاً على القرض، وعلى ثمن المبيع( ).
أما الدين في اصطلاح الفقهاء فله استعمالان:
الأول: استعمال الدين بمعناه العام، وهو ما يثبت في الذمة( ).
فيشمل الدين بهذا المعنى كل ما يشغل ذمة الإنسان من الحقوق المالية، والحقوق غير المالية؛ من حقوق الله ، ومن حقوق الخلق. فكل ما يثبت في الذمة ويطالب الإنسان بوفائه من مال ومنفعة وعمل عبادي كالصلاة، أو عمل عادي كإحضار شخص إلى مجلس الحكم مثلاً، فهو نوع من الدين على هذا الاستعمال( ).
الثاني: استعمال الدين بمعناه الخاص، وهو ما يثبت في الذمة من مال بسبب يقتضي ثبوته( ).
فيقتصر الدين بهذا المعنى على جميع الحقوق المالية فقط، سواء ثبتت بمعاوضة أو إتلاف أو قرض، أو ثبتت حقاً لله تعالى كالزكاة( ).
الفرع الثاني: أنواع الديون وأسبابها
للديون أنواع متعددة تختلف باختلاف الاعتبارات التي يجري تصنيف الديون على ضوئها.
ومن أمثلة تلك الاعتبارات التي يجري تصنيف الديون وفقها:
أولاً: تقسيم الدين باعتبار وقت أداء الدين.
وينقسم الدين بهذا الاعتبار إلى نوعين: دين حال، ودين مؤجل.
ثانياً: تقسيم الدين باعتبار صاحب الدين ومستحقه.
وينقسم الدين بهذا الاعتبار إلى نوعين: دين الله، ودين العبد( ).
أما أسباب الديون التي تشتغل بها الذمة فعديدة متنوعة( )، يمكن تصنيفها في مجموعتين:
المجموعة الأولى: الديون الناشئة عن الالتزامات التعاقدية.
وهي الديون التي تنشأ عن تعاقد بين طرفين أو أكثر: كثمن المبيع، ودين السلم، والقرض، والإجارة، والصداق، والخلع، وما أشبه ذلك.
المجموعة الثانية: الديون الناشئة عن غير تعاقد.
وهي الديون التي تثبت في ذمة الإنسان من غير تعاقد، بل لوجود موجبها: كضمان الإتلافات، والجنايات، والنفقات، وما أشبه ذلك.
المسألة الثانية: أثر التضخم النقدي في وفاء الديون
تُعدُّ مسألة الواجب في وفاء الديون على اختلاف أنواعها وأسبابها بعد حدوث التضخم النقدي أو زيادته من أبرز المسائل الفقهية المتعلقة بقضية التضخم النقدي، التي تناولها كثير من الباحثين في المجامع الفقهية والدراسات العلمية. وذلك لما يترتب على التضخم النقدي من نقص في قيمة الديون على اختلافها وتنوعها: كالقروض، والصداق المؤجّل، وعقود المداينات: كالبيوع الآجلة، وكذلك العقود المستمرة الممتدة: كالإجارة الطويلة، وعقود المقاولات والتعهدات والتوريد وغيرها.
فمثلاً: إذا أقرض إنسان آخر مبلغاً من النقود الورقية، فطرأ تضخم نقدي أو زادت نسبته فإن المدين سيوفي الدائن أقل مما أخذ منه بالنظر إلى القيمة الشرائية للنقود.
فإذا كان مقدار القرض ألف ريال سعودي، وكانت نسبة التضخم النقدي الحادث ثلاثين في المائة، فإنه إذا رد المدين القرض بعد عام، فسيكون الدين قد فقد ثلاثين في المائة من قيمته بسبب التضخم النقدي، فتصير القيمة الشرائية للألف الريال عند ردها سبعمائة ريال فقط، وإن كانت من حيث العدد والقيمة الاسمية للنقود لم تتغير.
أما مثال زيادة نسبة التضخم النقدي فلو تمَّ الاتفاق بين طرفين على إنشاء مجمع سكني، وكانت مدة تنفيذ العقد أربع سنوات، وتكلفة المتر الواحد عملاً ومواد ألف ريال زمن التعاقد في حين كانت نسبة التضخم النقدي عشرين في المائة، وفي أثناء المدة زادت نسبة التضخم النقدي زيادة حادة بنسبة خمسين في المائة، فإن هذا سيفضي إلى ارتفاع تكلفة المتر بنسبة خمسين في المائة. فتكون تكلفة المتر بعد هذه الزيادة ألفاً وخمسمائة ريال. وهذا ارتفاع كبير يجعل تنفيذ العقد مرهقاً ضاراً بالنسبة للملتزم المتعهد بالإنشاء.
وقد اختلف الفقهاء المعاصرون في وفاء هذه الديون والالتزامات، هل يكون بما جرى عليه التعاقد قبل انخفاض القيمة الشرائية التبادلية للنقود، أو يكون بغير ذلك؟
وقد تحصّل من النظر في كلام العلماء المعاصرين في هذه المسألة ستة أقوال:
القول الأول: أن الواجب للدائن قيمة ما ثبت في ذمة المدين من الأوراق النقدية.
وهذا اختيار الشيخ أحمد الزرقا( )، وابنه الشيخ مصطفى( )، والدكتور القره داغي( )، وغيرهم( ).
القول الثاني: أن الواجب للدائن مثل ما ثبت في ذمة المدين من الأوراق النقدية،ولا اعتبار لانخفاض القيمة التبادلية للنقود.
وهذا ما انتهى إليه مجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة( )، وذهب إليه كثير من الفقهاء المعاصرين( ).
القول الثالث: أن الواجب للدائن مثل ما ثبت من الأوراق النقدية في ذمة المدين، إلا إذا كان التضخم النقدي مفرطاً يلحق ضرراً كثيراً بالدائن، وحدُّ الكثير نقص ثلث القيمة التبادلية للنقود، فالواجب رد القيمة إلا في الودائع المصرفية.
وهذا ما انتهى إليه مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية عشرة، وقد ذكروا وسيلة تحقيق ذلك( ).
القول الرابع: أن الواجب للدائن مثل ما ثبت في ذمة المدين من الأوراق النقدية، إلا إذا ماطل المدين في وفاء ما وجب عليه، فطرأ التضخم النقدي أو زادت نسبته أثناء مدة المماطلة، فهنا يجب أداء القيمة.
وهذا قول الشيخ عبد الله بن منيع( )، والشيخ محمد الحاج الناصر( ).
القول الخامس: أنه إذا كان التضخم النقدي مفاجئاً مفرطاً، تغيرت به تكاليف وأسعار العقود الممتدة المتراخية التنفيذ تغيراً كبيراً، يحصل به ضرر كبير على الملتزم بالتنفيذ دون أن يكون منه إهمال أو تقصير، فإن للقاضي في هذه الحال تعديل الالتزامات العقدية، بحيث تتوزع الخسارة على طرفي العقد. كما يجوز للمتضرر أن يفسخ العقد فيما إذا لم يتم تنفيذه، إن رأى الملتزم في الفسخ مصلحة له، ويعطى الملتزم له تعويضاً عن الضرر الحاصل بالفسخ.
وهذا ما انتهى إليه المجمع الفقهي الإسلامي بمكة في دورته الخامسة( ).
القول السادس: عدم ترجيح قول معين في مسألة وفاء الدين على اختلاف أنواعه، بل تعالج كل مشكلة تنشأ عن التضخم النقدي على حدة، ويتحرى القاضي العدالة في حلها.
وهذا قول الدكتور محمد شبير( ).
أدلة القول الأول
استدل أصحاب هذا القول بعدة أدلة أبرزها ما يأتي( ):
أولاً: أن انخفاض القوة الشرائية التبادلية للنقود الورقية يُعدُّ عيباً فيها؛ إذ القوة الشرائية التبادلية للنقود بمثابة الروح للبدن، منها تستمد النقود الورقية قدرتها على أداء جميع وظائفها. فنقصانها عيب مؤثر يحول دون إلزام الدائن بها؛ لكونها بعد نقص قيمتها الشرائية دون حقه الذي رضي به في العقد.
ثانياً: أن الواجب في الديون بذل مثل ما ثبت في الذمة، وانخفاض القيمة التبادلية للنقود الورقية يفوت ذلك؛ لأن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتاهما، فمع انخفاض القيمة الشرائية التبادلية للنقود لا تتحقق المماثلة في الواقع؛ لنقص مالية الأوراق النقدية، فتجب القيمة للدائن.
ثالثاً: أن الدائن بذل شيئاً منتفعاً به؛ ليأخذ شيئاً منتفعاً به. وفي إعطائه ما انخفضت قيمته الشرائية التبادلية من النقود الورقية تفويت لأهم ما يقصد بالعقد، ولو وافق ما للدائن في العدد والصورة.
رابعاً: أن انخفاض القيمة الشرائية التبادلية للنقود الورقية بعد التعامل بها وقبل قبضها عيب حدث، وهي في يد المدين، فيكون من ضمانه، وإيجاب القيمة للدائن وسيلة تحقيق هذا الضمان( ).
يناقش هذا بما يأتي:
الأول: أن نقصان القيمة الشرائية التبادلية، وإن كان عيباً، إلا أنه غير مضمون على المدين، قياساً على عدم ضمان الغاصب نقصان سعر المغصوب مع أن يده عادية؛ لأنه فوات معنى لا عين( )، فعدم التضمين في الديون بنقص القيمة من باب أولى( ).
يجاب على هذا القياس من جهتين:
الأولى: أنه قياس على أصل مختلف فيه، فإن من الفقهاء من يرى تضمين الغاصب ما نقص من سعر المغصوب( )، فلا يصح القياس حينئذٍ؛ لأن من شرطه أن يكون الأصل متفقاً عليه.
الثانية: أنه قياس مع الفارق؛ لأن العين المغصوبة مقصودة لذاتها، أما النقود الورقية فإنها لا قصد في عينها، بل ولا نفع. وإنما المقصود قيمتها الشرائية التبادلية، فنقصان القيمة فيها كنقصان عين المغصوب.
الثاني: أن المدين لم يفعل ما يوجب الضمان؛ لأنه لم يتسبب فيما طرأ من نقص في القيمة الشرائية التبادلية للنقود. كما أنه لا يمنع نقص قيمة النقود بسبب التضخم النقدي كونها في يد الدائن، بل سيطرأ عليها من النقص نظير ما ينالها، وهي في يد المدين( ).
يجاب: بأن هذه المناقشة متوجهة في الجملة؛ لأن المدين لم يكن منه ما يوجب الضمان من تعدٍ أو تفريط، لكن يمكن القول بأن ((بقاء المال عند المدين أضاع على الدائن فرصة استثماره، ولو إلى الحد الذي يحفظ له قيمة أصوله، مثلما أضاع من اشترى نسيئة على البائع فرصة تنمية ماله، فاستحق زيادة الثمن الآجل على الحال))( )، ومن أجل هذا يضمن المدين ما حصل من نقص في القيمة الشرائية التبادلية للنقود.
خامساً: أن رد مثل ما تم التعاقد عليه إلى الدائن بعد انخفاض القيمة الشرائية التبادلية للنقود الورقية يفوّت رضاه الذي هو شرط لصحة جميع عقود المعاوضات، كما قال : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ( ). والدائن لم يرض هذا العوض ولم يتعاقد عليه.
أدلة القول الثاني
استدل أصحاب هذا القول بعدة أدلة أبرزها ما يأتي( ):
أولاً: أن انخفاض القيمة الشرائية التبادلية للنقود الورقية لا يبطل ثمنيتها، فلا يجب على المدين غيرها.
يناقش هذا: بأن إيجاب القيمة للدائن ليس لبطلان ثمنية النقود الورقية، بل لنقصان قيمتها الشرائية التبادلية. وهو عيب يؤثر على جميع وظائفها. وهذا كافٍ في إيجاب القيمة للدائن؛ دفعاً للضرر عنه.
ثانياً: أن الأوراق النقدية مثلية فالواجب رد المثل للدائن، وذلك برد قدر ما ثبت في ذمته، ولو انخفضت قيمة النقود الشرائية التبادلية؛ لأنه لا يزول عنها بذلك وصف المثلية.
يناقش هذا بما يأتي:
الأول: أن الأوراق النقدية يصدق عليها أنها مثلية في الوقت الواحد أو المتقارب، حيث إن قيمتها الشرائية التبادلية لا تختلف اختلافاً بيناً، لكن بالنظر إليها في أزمنة مختلفة، لا سيما في ظل التضخم النقدي فإنه لا يصدق عليها أنها مثلية؛ للتفاوت بين قيمتها في الزمانين، ولا عبرة بالمثلية الصورية الشكلية في مثل هذه الحال؛ لأن ((من لازم اعتبار المثل الصوري اعتبار ما فيه من المعاني التي تزيد بها القيمة))( ), فالواجب رد ((ما يجمع تلك الصفات كلها، حتى لا يفوت عليه شيء))( ).
الثاني: أن الأوراق النقدية نقود ائتمانية ليس لها قيمة استعمالية ذاتية، ((وبالتالي فما يقال عن مثلية القمح والشعير أو الذهب لا ينطبق عليها؛ لأن تلك الأعيان لها قيمة سلعية، وقد تقترن هذه القيمة السلعية بقيمة أخرى هي الثمنية كما في الذهب، لكن قيمة النقود الورقية تنحصر في قوتها الشرائية))( ). ويترتب على إدراك هذا الوصف للورق النقدي أن لا يعتبر في المثلية المثلية الصورية، بل إذا اختلفت القيمة الشرائية التبادلية للورق النقدي فيجب انتفاء المثلية، ويجب رد القيمة. وقد ذكر الفقهاء لهذا نظائر منها رد الماء الذي أخذ في فلاة ومفازة، فإنه يضمن بقيمته في ذلك المكان مع أنه مثلي كما تقدم( ).
ثالثاً: أن رد مثل الديون، ولو كانت قد نقصت قيمتها أقرب للعدل من رد القيمة؛ لأن مثل الدين ((مماثل له من طريق الصورة والمشاهدة))( )، أما القيمة فهي ((مماثلة له من طريق الظن والاجتهاد والأول مقدم))( ).
يناقش هذا: بأن رد القيمة في الديون إذا طرأ تضخم نقدي جارٍ على سنن العدل الواجب في جميع المعاملات. وذلك ((أن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتاهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل))( ). فردها بعد نقص قيمتها لا يتحقق به المثلية ؛لأن المثلية إنما تكون بالمثل من حيث الصورة والمعنى أو بالمثل من حيث المعنى أي القيمة( ). وبالرخص تتعذر المثلية الكاملة فتجب القيمة؛ لما فيه من الضرر على الدائن بنقص القيمة( ).
رابعاً: أن إيجاب رد القيمة في الديون يفضي إلى فتح باب الربا؛ لأنه اعتياض عن الدين بأكثر منه.
يناقش هذا من وجهين:
الأول: أن إيجاب رد القيمة ليس من باب الربا، بل هو من باب ضمان النقص الطارىء على الدين وتعويضه. فإن انخفاض القيمة الشرائية التبادلية للأوراق النقدية يعد نقصاً وعيباً حال كونها في يد المدين، فتكون من ضمانه.
الثاني: أن الزيادة هنا في مقابل ما طرأ من نقص القيمة الشرائية التبادلية، وهذا بخلاف الزيادة الربوية، فهي زيادة دون مقابل.
خامساً: أن إيجاب القيمة في وفاء الديون هو تعديل في العقود الممتدة يفضي إلى اضطراب المعاملات والعقود( ).
يناقش هذا: بأن الاضطراب في المعاملات والعقود سببه حدوث التضخم النقدي في الأوراق النقدية، لا إيجاب القيمة أو تعديل ثمن العقود، وإنما قيل بذلك تخفيفاً للاضطراب الناتج عن انخفاض القيمة الشرائية التبادلية للنقود.
أدلة القول الثالث
أولاً: أن من أهم مقاصد الشريعة في باب المعاملات والتجارات إقامة العدل ومنع الظلم، كما دلت عليه نصوص الكتاب، والسنة( )، وإجماع أهل العلم( ). وفي إيجاب رد مثل ما ترتب في ذمته من الدين، وإيجاب المضي في الالتزامات التعاقدية، دون اعتبار لما طرأ من نقص في القيمة الشرائية التبادلية للنقود إغفال لهذا الأصل الذي لا تستقيم معاملات الناس إلا به؛ لأن رد المثل في الديون بعد التضخم النقدي الكثير لا يتحقق به العدل الواجب؛ إذ المثلية منتفية في الحقيقة، وإن تحققت في الصورة. كما أن تغير القيمة عن وقت التعاقد تغيراً كبيراً يؤدي إلى ظلم أحد طرفي العقد بما لم تجر العادة بمثله، مما يستوجب تعديل الالتزام بما يحقق العدل وتحصل به مصلحة الطرفين( ).
يناقش هذا: بأن في رد القيمة وتعديل ثمن العقود الممتدة عند انخفاض القيمة الشرائية التبادلية للنقود انخفاضاً كبيراً ظلماً للمدين والملتزم له؛ أما المدين فيُلزم برد أكثر مما أخذ، وأما الملتزم له فإنه يلزم بثمن زائد على ما تم عليه التعاقد لم يكن قد رضيه، وفي هذا ظلم له( )، وفيه تفويت للرضا الذي جعله الله شرطاً لإباحة التجارات على اختلاف أنواعه كما في قول الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } ( ).
يجاب: بأنه ليس في إيجاب القيمة إلزامٌ للمدين برد أكثر مما أخذ في الحقيقة، وإن كان زيادة من حيث العدد، وإنما فيه ضمان ما نقص من القيمة الشرائية التبادلية للنقود حال كونها في يد المدين( )، ويده يد ضمان( )فلا ظلم عليه. أما تعديل ثمن العقد في العقود المستمرة فليس فيه ظلم، بل فيه رفع الظلم عن الملتزم بالعقد؛ لأنه إنما رضي به قبل انخفاض القيمة الشرائية التبادلية للنقود، أما بعد هذا الانخفاض الكبير فإنه لا يرضى به. ومنعاً من حصول الظلم في الصورتين السابقتين فقد اقترح مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية عشرة( ) اللجوء أولاً إلى الصلح( )، وذلك باتفاق الطرفين عند سداد الدين الآجل على توزيع الفرق الناشئ عن التضخم النقدي بينهما بأي نسبة يتراضيان عليها، فإن تعذر الصلح، فيصيران إلى التحكيم( )، أو إلى القضاء.
ثانياً: أن انخفاض القيمة الشرائية التبادلية للنقود إذا كان كبيراً يُعدُّ عيباً، فيكون هذا النقص مضموناً للدائن يجب تعويضه عنه( ). وطريق ذلك إيجاب القيمة في وفاء الديون، وتعديل ثمن العقد في العقود الممتدة بما يحصل به دفع هذا العيب عن الثمن. وقد ذكر الفقهاء نظائر لهذا الضمان يجمعها أنه إذا كان للأصل قيمة حين الأخذ وكان مثل الأصل لا قيمة له عند الرد أو نقصت قيمته فالواجب قيمته حين الأخذ( ).
يناقش هذا: بأن تضمين المدين نقص القيمة تحميل له ما لا تسبب له فيه، وهذا ظلم له( ).
يجاب: بأن يد المدين يد ضمان، فلا فرق بين النقص الذي هو سبب فيه والذي لا تسبب له فيه( ).
ثالثاً: أن انخفاض القيمة الشرائية التبادلية إذا كان انخفاضاً كبيراً فسيترتب عليه لحوق ضرر كبير بالدائن يجب رفعه عنه إعمالاً لقاعدة الضرر يزال( ).
يناقش هذا: بأن من قيود العمل بهذه القاعدة أن الضرر لا يزال بضرر( )، وإزالة الضرر الحاصل بالتضخم النقدي عن الدائن يترتب عليه إلحاق الضرر بالمدين.
يجاب على هذا من وجهين:
الأول: أن الممنوع من إزالة الضرر بالضرر، هو إزالة الضرر بضرر مثله أو أشد. أما إزالته بضرر أخف منه فإنه غير ممنوع بل مطلوب؛ لأن من القواعد المتفرعة على هذه القاعدة أن الضرر الأشد يزال بالأخف( ). ولا ريب أن في إيجاب القيمة في الديون والعقود الممتدة تخفيفاً للضرر؛ لأنه يتوزع على الطرفين، ولا يستقل بحمله أحدهما.
الثاني: أن تحميل المدين الضرر الناتج عن نقص القيمة له سبب، وهو أن يده يد ضمان، فيلزمه ضمان نقص قيمة الدين.
رابعاً: إن مما يستأنس به في القول بهذا القول مسألة وضع الجوائح( ).
يناقش هذا: بما تقدم ذكره في تكييف التضخم النقدي من الفرق بين الجوائح والتضخم النقدي( ).
خامساً: أن التضخم النقدي نقص يصيب الأموال لا يتمكن الناس من توقي آثاره مع تفاوتهم فيما يدخل عليهم من النقص بسببه، فمما يحصل به العدل توزيعه عليهم. وهو نظير ما ذكره فقهاء الحنابلة مما يعرف بالمظالم المشتركة: ((وهي النوائب التي تنـزل بواحد ممن يجمعهم وصف مشترك فيتم تحميلها بالعدل على المشتركين))( )، وقد ذكروا لذلك صوراً عديدة( ).
أما حد التغير الكثير بنقص ثلث القيمة الشرائية التبادلية للنقود فلكون الثلث معتبراً في مسائل عديدة منها: مسألة الجوائح في الثمار( )، ولقول النبي : ((الثلث كثير))( ).
يناقش هذا: بأن الكثرة والقلة أمر نسبي في ذاته. وهو أيضاً مختلف في محله فما يكون كثيراً عند قوم لا يكون كذلك عند غيرهم، وما يكون قليلاً في التبرعات قد يكون كثيراً في المعاوضات. ولذلك يترك تقدير ذلك إلى العرف( )، فإن اختلف ولم ينضبط فالمرجع إلى القضاء في تقدير نسبة التغير الذي يستوجب تعديل الديون الآجلة.
أما وجه إخراج الودائع المصرفية من إيجاب رد القيمة في الديون، فلأنها تحت الطلب، فتركها عند المدين بكامل اختيار الدائن، ويمكنه سحبها وردها متى شاء( ).
أدلة القول الرابع
أولاً: قول النبي : ((مطل الغني ظلم))( ).
وجه الدلالة:
أن الغني إذا أخَّر وفاء الدين فإنه يكون ظالماً بذلك، والظالم لا محالة مستحق للعقوبة،فيكون ضامناً لما ترتب على ظلمه من انخفاض القيمة الشرائية التبادلية للنقود( ).
يناقش هذا: بأن كون المطل ظلماً لا يحل أن يلزم برد أكثر مما وجب في ذمته؛ لأنه ظلم له. والذي يفيده تسمية المطل ظلماً ((إلزام المماطل بدفع الدين، والتوصل إلى ذلك بكل طريق: من إكراهه على الإعطاء، وأخذه منه قهرا،ً وحبسه، وملازمته. فإن الأخذ على يد الظالم واجب))( ).
ثانياً: قول النبي : ((لَيّ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي جعل الليّ، وهو المطل في وفاء الدين( )، إذا كان المدين واجداً مما يحل عرضه وعقوبته، ومن عقوبته تحميله ما ترتب على ليّه من خسارة الدائن بانخفاض القيمة التبادلية للنقود( ).
يناقش هذا: بأن المماطل مستحق للعقوبة، وهي الحبس أو الضرب. أما إلزامه بأكثر مما وجب عليه فلا يدخل في الحديث؛ لاتفاق أهل العلم على أنه لم يرد في عقوبة المماطل غير الحبس، فإن أصرّ عوقب بالضرب حتى يؤدي الواجب( ).
ثالثاً: القياس على ضمان العارية والوديعة فيما إذا تعدى من هي في يده، وكذلك ضمان المغصوب حيث يلزمهم في جميع ذلك ضمان ما طرأ من نقص العين( ). والقياس أيضاً على ضمان الغاصب منافع المغصوب مدة الغصب كما هو قول الجمهور( ).
يناقش هذا بما يأتي:
الأول: أن القياس على ضمان العارية والوديعة والمغصوب قياس مع الفارق، فإن اليد في العارية والوديعة بعد تعدي من هي في يده يرتفع عنها وصف الأمانة فتصير اليد ضامنة بكل حال، وكذلك المغصوب مضمون على كل حال( ). أما مطل الديون فلا ينفي عن اليد وصف الأمانة.
يجاب على هذا: بأن المطل في الديون ظلم واعتداء على أهلها بمنعهم حقوقهم، فيصير المماطل ضامناً بالمنع , خارجاً عن حال الأمانة( ).
الثاني: أن القياس على ضمان الغاصب منافع المغصوب قياس مع الفارق، فإنه يشترط في المال المغصوب الذي تضمن منافعه أن يكون مما تجوز إجارته والنقود لا تصح إجارتها( ).
أدلة القول الخامس
أولاً: النظائر الفقهية في فقه المذاهب، والتي جرى فيها تعديل الالتزامات التعاقدية نتيجة تغيرات وأمور طارئة في عقود الإجارة، والمساقاة( )، والمزارعة( ).
ومن تلك النظائر:
الأول: فسخ عقد الإجارة إذا تعذر استيفاء المنفعة بسبب الطوارىء العامة:كالحرب، والخوف العام، وما أشبه ذلك( ). بل ذهب الحنفية إلى جواز الفسخ بالأعذار الخاصة كعجز أحد العاقدين عن المضي في موجب عقد الإجارة إلا بتحمل ضرر زائد( ). كما ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية ~ إلى أنه إذا نقصت المنفعة المعقود عليها فإنه ينقص من الأجرة بقدر ما نقصت المنفعة( ).
الثاني: تعديل العقود على الثمار بسبب الجوائح التي جاء الأمر بوضعها، وذلك بإسقاط ما يقابل الهالك من الثمار من ثمن العقد( ).
ثانياً: أن انخفاض القيمة الشرائية التبادلية للنقود إذا كان كبيراً مفاجئاً فإنه سيلحق ضرراً كبيراً بأحد طرفي العقد. ومن القواعد الفقهية أن الضرر يزال، وطريق إزالته هنا هو بتعديل العقد بما يتناسب مع التغير في قيمة النقود، ويوزع الخسارة على الطرفين( ).
أدلة القول السادس
حجة هذا القول تعارض أدلة القول بوجوب رد المثل مع أدلة القول بوجوب رد القيمة. ((فالقول برد المثل يؤدي إلى تضييع أموال الناس وإلحاق الظلم بهم، والقول برد القيمة يؤدي إلى تحطيم النقود الإلزامية،وحل الربا الذي تتعامل به البنوك الربوية، وغير ذلك))( ).
الترجيح
بعد هذا العرض لأقوال أهل العلم في هذه المسألة، فالذي يترجح للباحث: أنه إذا كان التضخم النقدي غير متوقع، يلحق الدائن به ضرر زائد على الحد المعتاد الذي يتغابن الناس بمثله( )، فإنه يجب على المدين رد قيمة ما ثبت في ذمته للدائن، في كل الديون التي لا يتمكن من أخذها، تداركاً لانخفاض القيمة التبادلية. أما ما يمكنه تداركه بأخذه قبل تدهور قيمته والمدين باذل كالنقود المصرفية فإن الواجب رد المثل.
أما ما يتعلق بتعديل العقود والالتزامات الآجلة الممتدة فكذلك يجب تعديلها بما يدفع الضرر عن الملتزم ولا يجحف بالملتزم له، ولكل واحد منهما الفسخ إذا لم يرض بالتعديل. وفي هذه الحال لابد من الصلح، فإن تعذر فالمرجع إلى التحكيم أو القضاء لحل هذا الإشكال.
أما تقدير ما يتغابن به الناس فالمرجع فيه إلى العرف، فإن اختلف وتفاوت فالمرجع في تقديره وحدّه إلى أهل الخبرة من أهل الاقتصاد والمال.
أما وقت اعتبار القيمة في الديون والعقود الممتدة فقيمتها يوم العقد، وذلك لعدة وجوه:
أولاً: أن يوم العقد هو اليوم الذي اشتغلت به ذمة المدين.
ثانياً: أن يوم العقد هو الوقت الذي تراضى فيه الطرفان على قدر الدين.
ثالثاً: أن يوم العقد هو يوم دخول القرض والصداق المؤجل( )، وما أشبه ذلك في ضمان المدين.
رابعاً: قياساً على قول من يقول باعتبار القيمة في رخص النقود الاصطلاحية الفلوس حيث اعتبروا القيمة يوم العقد( ).
المسألة الثالثة: اتفاق المتعاقدين على مراعاة التضخم النقدي عند إنشاء الدين
تُعدُّ الأوراق النقدية من أكثر أنواع النقود التي تعامل بها الناس تعرضاً لتقلب قيمتها وتغيرها، حتى صار التضخم النقدي بمعدلاته المتفاوتة المختلفة وصفاً ملازماً للأوراق النقدية قلّ أن تسلم منه. ولا ريب أن هذا يؤثر على التعاملات الجارية بهذه العملات.
ويظهر أثر التضخم النقدي جلياً في المدفوعات المؤجلة بأنواعها: من الديون، والقروض، والبيوع الآجلة، والعقود الممتدة، وغير ذلك، حيث تختلف القيمة الشرائية التبادلية للنقود لهذه المدفوعات، فتنقص قيمتها في يوم الوفاء عنها في يوم عقدها والالتزام بها. ولذلك فقد اقترح الاقتصاديون وسائل متعددة لتخفيف آثار التضخم النقدي على المدفوعات المؤجلة.
ومن تلك الوسائل التي يقصد من ورائها تخفيف آثار التضخم النقدي على المدفوعات المؤجلة: اتفاق المتعاقدين على مراعاة التضخم النقدي عند إنشاء الدين، بحيث تحفظ القيمة الشرائية التبادلية للنقود للمدفوعات المؤجلة من النقص.
وطريقة ذلك أن يتضمن العقد شرطاً يضمن به المدين أو من عليه الحق ما يطرأ من نقص في القيمة التبادلية للنقود الورقية التي جرى عليها التعاقد. وهذه الطريقة تعرف في علم الاقتصاد بالربط القياسي. وسأتناولها في الباب الثالث بالبيان والتفصيل، سواء كان التضخم النقدي متوقعاً أو غير متوقع( ).
ومما ينبه إليه في مسألة اتفاق طرفي العقد على مراعاة التضخم النقدي عند إنشاء الدين: بيان الفرق بينها وبين ما سبق بحثه في مسألة إيجاب القيمة في الديون والقروض والمدفوعات المؤجلة، إذا طرأ التضخم النقدي.
وهذه الفروق تتلخص في النقاط التالية( ):
أولاً: أن مسألة اتفاق طرفي العقد مبنية على أساس الاشتراط في العقد، أما مسألة إيجاب القيمة فلا اشتراط فيها، بل هي معالجة واقع حال قائمة لم تضبط بشروط عقدية.
ثانياً: أن مسألة اتفاق طرفي العقد يعوَّض فيها الدائن مهما كانت نسبة انخفاض القيمة الشرائية التبادلية للنقود، أما مسألة إيجاب القيمة فلا يعوض نقص القيمة التبادلية إلا إذا كان يلحق الدائن والمستحق به ضرر بيّن.
ثالثاً: أن مسألة اتفاق طرفي العقد يُدفع فيها ضرر التضخم النقدي بالاشتراط، أما مسألة إيجاب القيمة فيدفع فيها ضرر التضخم النقدي من طريق التحكيم والقضاء.
المسألة الرابعة: أثر المماطلة في وفاء الدين إذا طرأ التضخم النقدي
تقدم في بحث مسألة أثر التضخم النقدي في وفاء الديون أن من الفقهاء من ذهب إلى أن المماطلة في وفاء الدين توجب على المماطل رد قيمة الدين، فيما إذا طرأ التضخم النقدي أو زادت نسبته( ).
واستدلوا لذلك بثلاثة أدلة:
أولاً: قول النبي : ((مطل الغني ظلم)).
ثانياً: قول النبي : ((لَيّ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته)).
ثالثاً: القياس على ضمان الوديعة فيما إذا تعدى القابض لها، وكذا القياس على ضمان الغاصب منافع المغصوب.
وقد تقدم بيان هذه الأدلة وما ورد عليها من مناقشات( ).
وتبين مما تقدم أن القائلين بوجوب أداء قيمة ما ثبت في الذمة إذا طرأ التضخم النقدي لم يعتبروا المماطلة شرطاً لذلك، وأن القائلين بوجوب أداء المثل مطلقاً لم يعتبروا للمماطلة أثراً.
والذي يظهر للباحث أن القول بأن للمماطلة أثراً في وفاء الدين إذا طرأ التضخم النقدي ليس قولاً خاصاً بمعالجة آثار التضخم النقدي، بل هو في الحقيقة توظيف للقول بجواز إلزام المدين الموسر بتعويض الدائن عن ضرر المماطلة، عقوبة له على ظلمه وعدوانه( ).
وقد ذهب أكثر أهل العلم المعاصرين إلى أنه لا يجوز إلزام المدين الموسر بتعويض الدائن عن ضرر المماطلة. وإلى هذا انتهى قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورته السادسة عام1410هـ( ).
والذي يترجح للباحث أنه لا أثر للمماطلة في وفاء الدين إذا طرأ التضخم النقدي، بل الواجب رد قيمة ما ثبت في ذمة المدين سواء ماطل أو لم يماطل، وقد تقدم ذكر أدلة هذا القول، ووجه ترجيحه( )، والله أعلم.
المطلب الثاني: أثر التضخم النقدي في الحقوق
المسألة الأولى: المراد بالحقوق وصورها
الحقوق جمع حق. والحق في اللغة له استعمالات متعددة تدور على معنى ((إحكام الشيء وصحته))( )، وثبوته ووجوبه( ).
فالحق مصدر حقّ الشيء يحق إذا ثبت ووجب واستقر( ).
أما الحق عند الفقهاء فهو مستعمل في معان عديدة كلها ترجع إلى المعنى اللغوي للحق( ). ولذلك لم يهتم أكثر الفقهاء المتقدمين بتعريف كلمة الحق، مع كثرة استخدامهم لها في كتاباتهم.
وقد عرّف بعض الفقهاء الحق، فقال: ((اختصاص يقرر به الشرع سلطة أو تكليفاً))( ).
وهذا التعريف يبين أن الحق يفيد من اختص به أحد أمرين: إما سلطة، وإما تكليفاً؛ وذلك أن الحق تارة يتضمن سلطة كحق الملكية، وتارة يتضمن تكليفًا كوفاء الدين.
كما أن هذا التعريف يشمل بعمومه جميع أنواع الحقوق: المالية، وغير المالية: كحق الله تعالى، وحق الوالدين، وغير ذلك؛ لأن كل ذلك وأشباهه؛ إما سلطة يختص بها من أثبتها له الشارع، وإما تكليفٌ له بأمر شرعي.
وأما الحقوق التي سأبحث عن أثر التضخم النقدي فيها فهي نوع من الحقوق المالية التي يثبت فيها لشخص على آخر مبلغ من الأوراق النقدية من غير معاوضة ولا مداينة. ومن صور هذا النوع من الحقوق التي سأبحث أثر التضخم النقدي فيها: أثره في تقدير النفقة، وأثره في رد المغصوب إذا كان أوراقاً نقدية، وأثره في عوض الخلع.
المسألة الثانية: أثر التضخم النقدي في أداء الحقوق
الفرع الأول: أثره في تقدير النفقات( )
الأمر الأول: أثر تغير الأسعار في النفقات
ذهب أكثر أهل العلم إلى أن المعتبر فيما يجب من النفقات هو حصول الكفاية للمُنْفَق عليه من زوجة وولد وغيرهما في مأكل، ومشرب، وكسوة، ومسكن( ).
ولقد استدلوا لذلك بأدلة عديدة منها ما يأتي:
أولاً: قول الله : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } ( ).
ثانياً: قول الله : { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ } ( ).
ثالثاً: حديث عائشة( ) رضي الله عنها قالت: جاءت هند بنت عتبة( ) إلى النبي فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان( ) رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بنيَّ إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل عليَّ في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله : ((خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك، ويكفي بنيك))( ).
رابعاً: أن المقصود الأعظم من النفقات على اختلافها سدُّ الخلَّة ودفع الحاجة، ولا يحصل هذا إلا بالكفاية( ).
ومن المعلوم أن الكفاية تتنوع بتنوع المُنْفَق عليه، وحال المُنْفِق من اليسار والإعسار، ووقت النفقة صيفاً وشتاءً، ومكانها عادة وعرفاً( ). والأصل في تقدير ذلك واستيفائه أن يكون ذلك بتراضي المُنْفِق والمُنْفَق عليه، وبذل المُنْفِق، وهذا بالاتفاق( ). فإن امتنع من وجبت عليه أو اختلفا فالمرجع إلى القضاء، وعلى القاضي أن يفرض النفقة بما تحصل به كفاية المُنْفَق عليه، ويجتهد في تقدير ذلك( ). وله عند جمهور العلماء أن يفرض ذلك من الأثمان عوضاً عن الأعيان( ).
وقد ذكر الفقهاء: أنه يراعى في النفقة وتقديرها غلاء الأسعار ورخصها.
قال الكاساني ~ في تقدير نفقة الزوجة: ((ولا تقدر نفقتها بالدراهم والدنانير على أي سعر كانت; لأن فيه إضراراً بأحد الزوجين ; إذ السعر قد يغلو وقد يرخص بل تقدر لها على حسب اختلاف الأسعار غلاء ورخصاً رعاية للجانبين))( ).
وقال الحطاب( ) ~: ((المعتبر في النفقة حال الزوجين وحال بلدهما وزمنها وسعرها))( ).
وقال ابن حجر الهيتمي( )~ فيما يجب من نفقة الزوجة: ((ويختلف ذلك بالرخص والغلاء))( ).
وقد ذكر فقهاء الحنفية، والحنابلة أنه إذا فرض القاضي النفقة فتغير السعر فإنه يغير تقديره؛ مراعاة لهذا التغير.
قال ابن نجيم( )~: ((القاضي إذا فرض النفقة للمرأة، فغلا الطعام أو رخُص فإن القاضي يغير ذلك الحكم)).
وقال أيضاً: ((لو أن القاضي فرض لها النفقة والسعر غال ثم رخص تسقط الزيادة))( ). وذلك ((لأن الواجب كفاية الوقت وذلك يختلف باختلاف السعر))( ).
وقال البهوتي( )~: ((فلا يغيره أي: التقدير لنحو نفقة وأجرة حاكم آخر; لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد( ) ما لم يتغير السبب كيسرة وعسرة في نفقة وكسوة، وغلاء ورخص في أجرة المثل فإن تغيَّر غيَّره; لأنه عمل بالاجتهاد الثاني، وليس نقضاً للأول))( ).
كما لاحظ ذلك بعض فقهاء المالكية، فقالوا في علة فساد اشتراط تعيين نفقة للزوجة كل شهر: ((لعل وجه ذلك؛ لأنه يحتمل أن يطرأ ما يقتضي أن لا تكفي تلك النفقة المرأة المذكورة، والظاهر أنه يدخل في ذلك ما لو جعل لها دراهم معينة في كل سنة؛ لاحتمال ارتفاع السعر))( ).
ومما تقدم يتضح جلياً أن الفقهاء قد اعتبروا تغير الأسعار مؤثراً في تقدير النفقات وفرضها.
الأمر الثاني: تقدير النفقات في ظل التضخم النقدي
غير خافٍ أن من لوازم التضخم النقدي، الذي هو نقص القيمة التبادلية الشرائية للنقود، ارتفاع المستوى العام للأسعار. ومن هذا يتبين أن للتضخم النقدي تأثيراً في تقدير النفقات.
ويظهر تأثير التضخم النقدي في حالين:
الحال الأولى: إذا فرضت النفقة من الأوراق النقدية، ثم طرأ تضخم نقدي أو زادت نسبته، فللمُنْفَق عليه المطالبة بإعادة التقدير وزيادة الفرض، تبعاً للغلاء وزيادة السعر.
وقد نص جماعة من الفقهاء على ذلك:
فقال الكاساني ~: ((لو فرض لها فريضة للوقت والسعر رخيص، ثم غلا فلم يكفها ما فرض لها، فإنه يزيدها في الفرض؛ لأن الواجب كفاية الوقت، وذلك يختلف باختلاف السعر))( ).
وقال الصاوي( ) ~: ((ويلزم الزوج أن يزيدها إن غلا سعر الأعيان، أي: من نفقة وكسوة بعد أن قبضت ثمنها))( ).
قال البهوتي ~: ((لو قدر القاضي نفقة أو كسوة أو نحوهما ثم مات أو عزل لم يبطل فرضه في المستقبل بموته ولا بعزله ولا يجوز لأحد تغييره ما لم يتغير السبب))( ).
وهذا الذي ذكروه متوجِّه فيما إذا كانت الزيادة في الأسعار مما لا يتغابن الناس في مثلها عادة، أما إن كانت زيادة يسيرة يتغابن الناس في مثلها عادة فإن مثل هذا لا يستوجب إعادة التقدير( ).
وبناء على ما تقدم فإن التضخم النقدي الزاحف، وهو أخف أنواع التضخم النقدي، لا يستوجب إعادة تقدير النفقة؛ لأن زيادة الأسعار فيه زيادة يسيرة يتغابن الناس بمثلها عادة، إذ قلّ أن يسلم منه نظام اقتصادي.
أما إذا تحول التضخم النقدي إلى تضخم متسارع أو جامح فلا بد من إعادة فرض النفقة وتقديرها؛ لأن زيادة الأسعار فيهما مما لا يتغابن الناس بمثله، فيلحق المُنْفَق عليه ضرر بعدم إعادة تقدير النفقة.
الحال الثانية: إذا كان فرض النفقة من الأوراق النقدية في ظرف اقتصادي تضخمي، فهل يجوز استعمال الربط القياسي بالمستوى العام للأسعار؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: جواز استعمال الربط القياسي بالمستوى العام للأسعار في تقدير النفقات( ).
القول الثاني: لا يجوز استعمال الربط القياسي بالمستوى العام للأسعار في تقدير النفقات.
وهذا ما أوصت به الحلقة العلمية المنعقدة لدراسة موضوع ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار( ).
أدلة القول الأول
أولاً: أن الأصل في المعاملات الإباحة( ). وليس في استعمال الربط القياسي بالمستوى العام للأسعار في تقدير النفقات وفرضها ما يوجب المنع والتحريم، فيبقى على أصل الإباحة.
ثانياً: أن تقدير النفقات وفرضها يراعى فيه اختلاف الأسعار كما تقدم. بل قد منع بعض الفقهاء من تقدير النفقة دون مراعاة لاختلاف الأسعار؛ لأن في ذلك إضراراً بالمُنْفِق أو المُنْفَق عليه؛ إذ السعر قد يغلو وقد يرخص.
قال الكاساني ~ في كلامه على تقدير النفقة: ((ولا تقدر نفقتها بالدراهم والدنانير على أي سعر كانت ; لأن فيه إضراراً بأحد الزوجين; إذ السعر قد يغلو وقد يرخص، بل تقدر لها على حسب اختلاف الأسعار غلاء ورخصاً؛ رعاية للجانبين))( ).
وأفضل وسيلة لتحقيق مراعاة اختلاف الأسعار استعمال الربط القياسي بالمستوى العام للأسعار؛ لكونه المعيار الذي يبين معدل التغير في المستوى العام للأسعار.
ثالثاً: أن استعمال الربط القياسي بالمستوى العام للأسعار في تقدير النفقات وفرضها يتحقق به العدل؛ لأنه أقرب المؤشرات التي تعكس التغير في سعر الجوانب التي تتكون منها النفقة أسعار: الطعام، والكسوة، والمسكن( ).
رابعاً: أن استعمال الربط القياسي بالمستوى العام للأسعار في تقدير النفقات وفرضها يوفر الجهد على المحاكم وعلى المُنْفِق والمُنْفَق عليهم؛ إذ إنه لا حاجة إلى تكرار التقدير في فترات متقاربة، فالأرقام القياسية توضح قدر الزيادة في النفقة أو النقص منها( ).
أدلة القول الثاني
لم يذكر أصحاب هذا الرأي دليلاً سوى أن قالوا: إن ((الأصل في النفقات الواجبة شرعاً أن تقدر عيناً، ويحكم القضاء بقيمة الأعيان نقداً على حسب مستوى الأسعار عند صدور الحكم بها. ومن ثم فلا مكان للقول بربطها بمستوى الأسعار))( ).
يناقش هذا من وجهين:
الأول: أن الربط بالمستوى العام للأسعار لا مدخل له في تقدير النفقة وقت صدور الحكم؛ لأن الحكم سيكون وفق مستوى أسعار ذلك الوقت. وإنما تظهر فائدة الربط بالمستوى العام للأسعار عند تغير المستوى العام للأسعار حيث تدعو الحاجة إلى تقدير جديد، فيكون الربط بمستوى الأسعار حينئذٍ مفيداً مغنياً عن تكرار التقدير؛ لأنه يعكس نسبة التغير في مكونات النفقة، وهي: الطعام، والكسوة، والمسكن.
الثاني: أنه وإن كان الأصل في فرض النفقة أن يكون من الأعيان في الطعام والكسوة، إلا أنه يجوز عند الحاجة فرض النفقة من النقود، وكذلك إذا تراضى على ذلك المُنْفِق والمُنْفَق عليه( ). فيكون استعمال الربط القياسي بالمستوى العام للأسعار في هذه الأحوال من الوسائل المفيدة لتحقيق العدل في النفقة، كما أنه يغني عن تكرار التقدير فيما إذا طرأ تضخم نقدي أو زادت نسبته.
الترجيح
الراجح من هذين القولين القول الأول، وهو جواز استعمال الربط القياسي بالمستوى العام للأسعار في تقدير النفقات وفرضها؛ لقوة أدلته وظهورها، والله أعلم.
الفرع الثاني: أثر التضخم النقدي في رد المغصوب( )
أجمع أهل العلم على أن من غصب شيئاً وجب عليه رده إلى مالكه، إن كانت عينه باقية، ولم تتغير صفاته، ولا تغيرت سوقه( ).
كما أجمع الفقهاء أيضاً على أنه إذا تعذر رد عين المغصوب، لفواته، أو استهلاكه، أو تغير أوصافه، فعلى الغاصب ضمان المغصوب بمثله إن كان مثلياً، فإن لم يكن المغصوب مثلياً، أو كان مثلياً تعذر وجود مثله، فعلى الغاصب ضمان المغصوب بقيمته( ).
وبناء على هذا فإن الواجب على من غصب أوراقاً نقدية أن يردها إن كانت عينها باقية، و إلا فيجب عليه رد المثل. لكن إن طرأ تضخم نقدي نقصت به القيمة الشرائية للأوراق النقدية، وهي في يد الغاصب، فيمكن تخريج صفة ضمان الغاصب على قولين:
القول الأول: أن الغاصب يضمن الأوراق النقدية بقيمتها يوم غصبها.
القول الثاني: أن الغاصب يضمن الأوراق النقدية بمثلها.
أدلة القول الأول:
كل ما تقدم من أدلة وجوب وفاء الديون بقيمتها يصلح أن يستدل به لهذا القول( )؛ لأنه إذا تعذر على الغاصب رد عين المغصوب فإنه يصير بذلك ديناً عليه( ).
ومما لا يخفى أن القول بوجوب رد قيمة النقود الاصطلاحية سواء كانت فلوساً، أو أوراقاً إذا غصبت ونقصت قيمتها أولى من القول به في رد قيمة الديون؛ لأن الغاصب معتدٍ بغصبه، فهو أولى بأن يضمن كل نقص يطرأ على العين المغصوبة؛ لظلمه وعدوانه.
وقد ذكر بعض فقهاء الحنابلة أن الفلوس، وهي نقود اصطلاحية، إذا غصبت فرخصت قيمتها أو غلت، وهي في يد الغاصب فعليه رد القيمة، قياساً على رد القيمة في القرض( ).
أدلة القول الثاني:
كل ما استدل به القائلون بوجوب رد الديون بأمثالها يصلح دليلاً لوجوب ضمان الغاصب الأوراق النقدية بمثلها، وقد تقدم ذكر الأدلة ومناقشتها وما يرد عليها( ).
الترجيح
الذي يترجح للباحث هو القول الأول، وهو أن الغاصب يضمن الأوراق النقدية بقيمتها إذا طرأ تضخم نقدي أو زادت نسبته، إذا كان تضخماً يلحق الأوراق النقدية فيه نقص لا يتسامح الناس بالتغابن في مثله عادة: كالتضخم النقدي المتسارع، والجامح، وكذلك التضخم الزاحف المتراكم، والله أعلم.
الفرع الثالث: أثر التضخم النقدي في الأخذ بالشفعة( )
اتفق أهل العلم على أن للشفيع أن يأخذ المبيع بالثمن الذي استقر عليه العقد( )؛ لما روى جابر أن النبي قال: ((من كان بينه وبين أخيه مزرعة فأراد أن يبيعها فليعرض على صاحبه، فهو أحق بها بالثمن))( ).
فإذا كان الثمن من الأوراق النقدية مثلاً، ولم يأخذ الشفيع بالشفعة إلا بعد أن طرأ تضخم نقدي نقصت به قيمة النقود فهل يأخذ الشفيع المبيع بالثمن الذي تم عليه العقد أو يراعى هذا النقص، فيأخذ الشفيع المبيع بقيمة الثمن؟
الذي يظهر للباحث أنه يتخرَّج في هذه المسألة قولان:
القول الأول: أن للمشتري أن يمتنع من بذل المبيع للشفيع حتى يُعدل الثمن بحيث يعوضه عن نقص القيمة الشرائية التبادلية للنقود الذي طرأ بسبب التضخم النقدي.
القول الثاني: أن للشفيع أخذ المبيع بالثمن الذي استقر عليه العقد دون اعتبار لنقص القيمة الشرائية التبادلية للنقود.
هذا هو مذهب المالكية فيما يظهر حيث لم يوجبوا قيمة النقود في الشفعة إلا ((إذا وجبت الشفعة بسكة قديمة ولم توجد))( ).
أوجه القول الأول:
أولاً: أن المعتبر في المثلية هو المثلية المعنوية، وليس المثلية الصورية فقط، فيراعى نقص قيمة الثمن بإلزام الشفيع أن يبذل مثل قيمة ما استقر عليه العقد يوم الأخذ بالشفعة.
ثانياً: أن ضرر الشفيع الذي سوّغ له الأخذ بالشفعة لا يزال بضرر المشتري بأخذ المبيع منه بثمن أنقص مما بذله فيه من حيث الحقيقة؛ لأن الضرر لا يزال بمثله( ).
أوجه القول الثاني:
أولاً: العموم في قول النبي في الشفيع: ((فهو أحق بها بالثمن))، فإنه يدخل في هذا ما لو نقصت قيمة الثمن، فالشفيع أحق بالمبيع بالثمن الذي بذله المشتري واستقر عليه العقد، سواء نقصت قيمة الثمن بعد ذلك أو زادت، إذ الواجب مثل الثمن الذي بذل في العقد.
يناقش هذا: بأن الألف واللام التي في قوله : ((بالثمن)) للعهد، أي: الثمن الذي تمَّ عليه العقد. وذلك الثمن قد تغيّر، ولم يبق على حاله بما طرأ عليه من نقص القيمة الشرائية التبادلية للنقود. فيكون في إلزام المشتري بهذا الثمن المتغيّر ظلم له؛ لأن الشفيع لم يعطِ المشتري مثل ما بذل من الثمن حقيقة، وإن كان قد أعطاه مثل ذلك صورة.
ثانياً: القياس على عدم تأثير تغير سعر المبيع على استحقاق الشفيع انتزاعه بثمنه الذي استقر عليه العقد، فإن المبيع لو ارتفع سعره أو انخفض لم يكن للشفيع انتزاعه ممن انتقل إليه إلا بثمنه الذي استقر عليه العقد.
الترجيح
الذي يترجح من هذين القولين هو القول الأول؛ وأن للمشتري أن يمتنع من بذل المبيع للشفيع حتى يعوضه الشفيع عن نقص القيمة الشرائية التبادلية للنقود الذي طرأ بسبب التضخم النقدي؛ ووجه هذا الترجيح قوة حجة القول الأول، ولأنه أقرب إلى تحقيق العدل.
وعلى هذا فلو أن ثمن المبيع كان مائة ألف ريال فطرأ بعد العقد تضخم نقدي نسبته أربعون في المائة، وأراد مستحق الشفعة أن يشفع، فللمشتري أن يمتنع عن إعطائه المبيع إلا بمائة وأربعين ألفاً؛ ليتحقق له المثلية المعنوية وهي مثلية القيمة، والله أعلم.
الفرع الرابع: أثر التضخم النقدي في عوض الخلع( )
ذهب أكثر الفقهاء إلى أن للرجل أن يخالع امرأته على أكثر مما بذل في مهرها، هذا هو مذهب الحنفية( )، والمالكية( )، والشافعية( )، والحنابلة( ).
وقال جماعة من العلماء: إنه لا يجوز للزوج أن يخالع زوجه على أكثر من المهر الذي كان قد بذله لها( ).
فإذا كان المهر الذي بذله الرجل للمرأة ورقاً نقدياً فللرجل أن يخالعها بما شاء من الأوراق النقدية أو غيرها سواء كانت أكثر من المهر الذي بذله أو أقل على قول الجمهور. وعلي هذا فإنه لا يظهر أن للتضخم النقدي أثراً في عوض الخلع؛ لأنه لا حد له قدراً ولا جنساً، فله أن يخالعها بما شاء من الأوراق النقدية، وله أن يخالعها بغير الأوراق النقدية.
أما على القول بأنه لا يجوز أن يخالعها على أكثر من المهر الذي بذله لها فإن للتضخم النقدي أثراً. وهو هل المعتبر في عوض الخلع قدر ما بذل في المهر من الأوراق النقدية، ولو نقصت قيمتها الشرائية التبادلية بسبب التضخم النقدي أو المعتبر قيمتها؟
لم أقف على كلام لأهل العلم في هذه المسألة، والذي يظهر أنه يتخرَّج فيها قولان:
القول الأول: أن المعتبر في قدر عوض الخلع فيما إذا نقصت القيمة التبادلية للنقود هو قيمة ما بذله الزوج في المهر، فلا يجوز الزيادة عليه.
القول الثاني: أن المعتبر في قدر عوض الخلع هو ما بذله الزوج في المهر، فلا يجوز الزيادة عليه سواء نقصت القيمة التبادلية للنقود أو لا.
أدلة القول الأول
ما تقدم غير مرة أن المعتبر في تحقيق المثلية هو المثلية المعنوية، فمما يجب اعتباره في المثل ما فيه من المعاني التي تزيد بها القيمة فللزوج المطالبة بقيمة ما بذله من الأوراق النقدية فيما إذا طرأ تضخم نقدي إذ إن رد قدر ما بذل يمثل في الحقيقة دون المهر لما طرأ على النقود من نقص القيمة التبادلية.
أدلة القول الثاني
ما رواه ابن عباس( ) في مخالعة امرأة ثابت بن قيس( ) أن النبي أمره أن يأخذ منها حديقته التي بذلها في مهرها ولا يزداد( ).
وجه الدلالة:
عموم النهي في قوله: ((ولا يزداد)) يشمل الزيادة على قدر المهر فيما إذا نقصت القيمة التبادلية للنقود وذلك أن الفعل في سياق النفي أو النهي يفيد العموم( )، فقوله: يزداد فعل جاء في سياق النهي فيعم النهي عن أخذ كل زيادة على المهر.
يناقش هذا: بأن الزيادة على قدر ما بذله الزوج في المهر لا تخالف ما نهى عنه النبي من ازدياد الزوج في المخالعة؛ لأن الزيادة لتعويض نقص القيمة الشرائية التبادلية للنقود لا تُعدُّ زيادة في حقيقة الأمر، بل هي وسيلة لتحقيق رد ما أعطاه المرأة في المهر، والله أعلم.
الترجيح
الذي يترجح للباحث أن المعتبر في عوض الخلع على القول بعدم جواز الزيادة على قدر المهر فيما إذا طرأ تضخم نقدي أو زادت نسبته هو رد قيمة النقود التي بذلها في المهر لا قدرها؛ لقوة ما علل به الحكم.
وبناء على هذا الترجيح فإنه إذا خالع رجل زوجته، وقيل بعدم جواز الزيادة على ما بذله في مهرها، وكان الذي بذله عشرة آلاف ريال، وقد طرأ تضخم نقدي بنسبة ثلاثين في المائة فالمسألة فيها قولان بالنظر إلى المعتبر في المثلية هل هي المثلية الصورية أو المعنوية:
أولاً: على القول بأن المعتبر في المثل هو المثلية الصورية، ولو نقصت القيمة، فليس للزوج أن يخالعها بأكثر من عشرة آلاف ريال ولو نقصت القيمة الشرائية التبادلية للنقود، وكان ما يحصله بالعشرة الآلاف يوم الخلع ينقص ثلاثين في المائة عما كان يحصله بها يوم عقد النكاح.
ثانياً: على القول بأن المعتبر في المثل المثلية الصورية والمعنوية، فليس للزوج أن يخالع بأكثر من قيمة ما بذله مهراً بعد نقص القيمة الشرائية التبادلية للنقود نقصاً لا يتغابن الناس بمثله كما هي الحال في التضخم النقدي المتسارع والجامح. ففي المثال السابق لا تجوز المخالعة بأكثر من ثلاثة عشر ألف ريال، وهو ما يمثّل قيمة المهر بعد نقص القيمة الشرائية التبادلية للنقود.
المبحث الثالث: أثر التضخم النقدي في عقود التوثيقات والتبرعات
المطلب الأول: أثر التضخم النقدي في عقود التوثيقات
المراد بعقود التوثيقات العقود التي شرعت لتوثيق الديون والاحتياط لها وحفظها لأهلها، وتأمينها لهم( ).
وهذه العقود أنواع: فمنها ما هو وثيقة بمال كالرهن( )، ومنها ما هو وثيقة بذمة كالضمان( ). ولما كان هذان العقدان يتأثران بالتضخم النقدي فسأبين في هذا المطلب أثره فيهما.
المسألة الأولى: أثر التضخم النقدي في عقد الرهن
لما كان المقصود بعقد الرهن حفظ حق صاحب الدين وطمأنته على دينه، وأنه إن تعذر الوفاء من الغريم فإنه يستوفي حقه من الرهن، فقد جرت العادة بأن يكون المرهون أو قيمته تساوي الدين أو أكثر غالباً( ).
فإذا كان الرهن أوراقاً نقدية تساوي الدين أو أكثر منه، ثم طرأ بعد عقد الرهن تضخم نقدي نقصت به القيمة الشرائية التبادلية للنقود، وارتفع به المستوى العام للأسعار، فليس للدائن المطالبة بزيادة الرهن؛ ليعوض ما فات من نقص القيمة الشرائية التبادلية للأوراق النقدية المرهونة، فإن جمهور العلماء من المالكية( )، والشافعية( )، والحنابلة( )، وغيرهم( )يرون أنه لا ضمان على المرتهن( ) إلا إذا تعدى أو فرط، وأنه لا يلزم الراهن تعويض هذا النقص بشيء.
وقد وافقهم الحنفية في نقص سعر الرهن، فقال السرخسي( ) ~: ((ونقصان السعر وزيادته لا يُغيّر حكم الرهن والاعتبار بقيمته يوم رُهِن؛ لأن تغير السعر لا يؤثر في العين، إنما هو منوط برغائب الناس فيه. وذلك يختلف باختلاف الأوقات والأمكنة، فلا يكون مضموناً على المرتهن))( ). ومن ذلك نقص قيمة النقود ففي الفتاوى الهندية: ((لو رهن فلوساً فكسدت فقد هلكت بالدين، ولو رخص سعره لم يعتبر))( ).
وعلى هذا فإنه إذا نقصت القيمة الشرائية التبادلية للنقود تبقى الأوراق النقدية رهناً، ولو كان التضخم النقدي متسارعاً أو جامحاً؛ ((لأنه لا خلاف أنه جائز أن يرهن بالقليل الكثير، وبالكثير القليل))( ).
وكذلك إذا كان الدين أوراقاً نقدية فجعل رهنها عيناً، ثم طرأ تضخم نقدي رخصت به القيمة الشرائية التبادلية للنقود وارتفع به سعر الرهن، فإن العين تبقى رهناً بجميع الدين؛ لأن المرهون محبوس بجميع الدين الذي رُهِن به سواء كانت قيمة الرهن أكثر من الدين أو أقل( ). وهذا نظير ما لو قضى الراهن بعض الدين فإن للمرتهن أن يحبس كل الرهن حتى يستوفي كل ما تبقى من الدين، سواء قلّ الباقي أو كثر. فالإجماع منعقد على أنه ليس لمن رهن شيئاً بمال فأدى بعض المال أن يخرج بعض الرهن حتى يوفيه آخر حقه أو يبرئه من ذلك( )؛ لأن الرهن وثيقة بحق، فلا يزول إلا بزوال جميعه.
ومن هذا تبين أن التضخم النقدي ليس له تأثير في عقد الرهن،والله أعلم.
المسألة الثانية: أثر التضخم النقدي في عقد الضمان
الضمان عقد يقصد به توثق صاحب الدين من حقه. فهو وثيقة بالدين يتبرع فيها الضامن بالتزام ما على المدين من حق للدائن( ).
أما أثر التضخم النقدي في عقد الضمان إذا كان الدين المضمون أوراقاً نقدية فيمكن بناؤه على مسألة أثر التضخم النقدي في الدين نفسه؛ لأن الضمان التزام بالدين( ).
فعلى القول بأن الواجب في ذمة المدين لا يتأثر بما يطرأ من تضخم نقدي، بل يجب عليه مثل ما ثبت في ذمته من الأوراق النقدية، فليس للتضخم النقدي أثر في عقد الضمان؛ لأنه عقد يقتضي ثبوت الدين المضمون في ذمة الضامن كثبوته في ذمة المضمون عنه، إذ إن حقيقة الضمان ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزامه بالدين( ).
أما على القول بأن الواجب في ذمة المدين يتأثر بما يطرأ من تضخم نقدي، فيجب عليه قيمة ما ثبت في ذمته من الأوراق النقدية.
فالذي يظهر للباحث أنه يتخرَّج في أثر التضخم النقدي في عقد الضمان قولان:
القول الأول: أنه يلزم الضامن قيمة ما ثبت في ذمة المدين المضمون عنه.
القول الثاني: أنه لا يلزم الضامن إلا مثل ما ثبت في ذمة المدين المضمون عنه.
أدلة القول الأول
أولاً: قول النبي :(( الزعيم غارم))( ).
وجه الدلالة:
هذا الحديث يبين أن الأصل في الزعيم، وهو الضامن( )، أنه غارم لما التزمه من مال( )، فإذا دار الأمر بين أن يكون ضامناً أو لا فالأصل الضمان. وعلى هذا يكون يلزم الضامن ضمان ما يترتب على نقص القيمة الشرائية التبادلية للنقود بناء على الأصل.
ثانياً: أن الضامن التزم مثل ما ثبت في ذمة المضمون عنه صورة ومعنى، فيلزمه ضمان ما يترتب على نقص القيمة الشرائية التبادلية للنقود؛ لأن نقصها يفوت به المقصود الأعظم من الأوراق النقدية، فلا تكفي المثلية الصورية.
ثالثاً: أن الضامن في دين فرع للمضمون عنه( ). فيلزمه في الدين الذي ضمنه نظير ما يلزم المدين المضمون عنه، وعلى هذا يلزم الضامن ما يترتب على حدوث التضخم النقدي من زيادة في قدر الأوراق النقدية؛ لتعويض نقص القيمة الشرائية التبادلية للنقود.
يناقش هذا: بأن كون الضامن فرعاً للمضمون عنه وتابعاً له لا يلزم منه إلزامه بما لم يتبرع بضمانه، بل لا يلزمه إلا ما التزمه، وهو لم يلتزم ما يترتب على التضخم النقدي، بل التزم بالدين يوم ضمانه على وجه التبرع والإحسان، فلا يلزمه إلا ما ثبت في ذمة المدين قبل حدوث التضخم النقدي.
يجاب عن هذا: بأن رد الضامن مثل ما على المضمون عنه من دين دون مراعاة ما ترتب على التضخم النقدي من زيادة لا يتحقق به مقتضى عقد الضمان الذي هو ضمُّ ذمة الضامن إلى ذمة المدين( ).
أدلة القول الثاني
أولاً: أن الضامن متبرع بالتزام ما في ذمة المدين المضمون عنه من دين، فإلزامه بما ترتب على التضخم النقدي من زيادة بسبب نقص القيمة الشرائية التبادلية للنقود إلزام له بما لم يلتزم. وقد قال الله ـ تبارك وتعالى ـ: { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ( )، فالآية الكريمة تدل على أن كل من كان محسناً في شيء فإنه لا سبيل عليه فيه؛ لأن المحسن من أتى بالحسن فيندرج في الآية كل محسن( ). والضامن متبرع بالضمان فهو من المحسنين( )، وإلزامه بضمان أكثر مما التزم عليه فيه سبيل.
يناقش هذا: بأن هذا السبيل إنما ثبت عليه بالتزامه، فالضامن تبرع بالتزام ما على المضمون عنه من دين، فيلزمه ما تبرع به.
ثانياً: أن من شروط صحة الضمان رضا الضامن، وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل العلم( ). وهو إنما رضي بالتزام ما ثبت في ذمة المدين قبل حدوث التضخم النقدي، وما عدا ذلك لا يكون لازماً له إلا برضاه؛ لأن الالتزام لا يكون إلا برضاه( ).
يناقش هذا: بأن الضامن قد حصل منه الرضا بأصل الالتزام حيث رضي بالتزام ما ثبت في ذمة المدين، وما حصل من زيادة بسبب التضخم النقدي لا يلغي رضا الضامن؛ لأن ما زاد بسببه إنما هو زيادة صورية.
الترجيح
الذي يظهر للباحث أن الأقرب من هذين القولين هو القول الأول، وأنه يلزم الضامن قيمة ما ثبت في ذمة المدين المضمون عنه، وذلك لقوة ما احتجوا به، والله أعلم.
المطلب الثاني: أثر التضخم النقدي في عقود التبرعات
عقود التبرعات: هي ما كان التمليك فيها من غير مقابل، بل يبذلها صاحبها إحساناً ومعروفاً وتقرباً إلى الله ( ).
ومن أمثلة عقود التبرعات: الهبة( )، والوصية( )، والوقف( ).
المسألة الأولى: أثر التضخم النقدي في التعديل بين الأولاد في الهبة
ذهب أكثر أهل العلم من الحنفية( )، والمالكية( )، والشافعية( ) إلى أن التعديل بين الأولاد في الهبة مستحب، وأن التفضيل بينهم في ذلك مكروه.
وذهب الحنابلة( ) إلى أن التعديل بين الأولاد في الهبة واجب إذا لم يختص أحدهم بمعنى يبيح التفضيل: كحاجة، أو كثرة عائلة أو غير ذلك. وعلى هذا القول فإن الواجب على الوالد إذا فضل أحد أولاده من غير موجب؛ إما رد ما حصل به التفضيل، وإما إعطاء ما يحصل به التعديل.
فإذا كان الوالد قد خصَّ أحد أولاده بهبة عينية أو أوراق نقدية، ثم أراد أن يعدل بينهم بعد أن حدث تضخم نقدي فله طريقان.
الطريق الأولى: التعديل بالرجوع في الهبة
ذهب جمهور العلماء من المالكية( )، والشافعية( )، والحنابلة( ) إلى أن للوالد الرجوع فيما وهبه لولده( ).
أما أثر التضخم النقدي في التعديل بين الأولاد في الهبة بالرجوع، فليس له أثر في ذلك سواء،كانت الهبة أوراقاً نقدية أو غيرها. فليس للواهب الرجوع على الموهوب له إلا في عين الهبة، سواء غلت أو رخصت؛ لأن عقد الهبة عقد تبرع، فلا يكون عقد ضمان، إذ هو عقد خالٍ في الأصل عن مقابلة عوض أو مبادلة( ).
وقد نصَّ الفقهاء على عدم ضمان الموهوب له نقص الموهوب، سواء كان النقص في عينه أو قيمته.
قال الكاساني ~: ((ولا يضمن الموهوب له النقصان؛ لأن قبض الهبة ليس بقبض مضمون))( ).
وقال الإمام مالك ~ في علة عدم تضمين الموهوب له، إذا تبين أن الهبة مستحقة يجب ردها: ((لأن الموهوب له هذه الأشياء لم يتعد))( ).
وقال الهيتمي ~ في عدم ضمان نقص الزكاة المعجلة إذا استردها صاحبها:(( كأب رجع في هبته، فرأى الموهوب ناقصاً))( ) أي: فلا ضمان على الموهوب له.
وقال أيضاً في عدم ضمان المبيع إذا تعيّب قبل البيع بآفة: ((وكالأب إذا رجع في الموهوب لولده إذا نقص))( ).
وقال ابن قدامة( )~: ((قال أحمد: إذا تغيرت العين الموهوبة بزيادة أو نقصان، ولم يثبه منها، فلا أرى عليه نقصان ما نقص عنده إذا رده إلى صاحبه، إلا أن يكون ثوباً لبسه، أو غلاماً استعمله، أو جارية استخدمها. فأما غير ذلك إذا نقص فلا شيء عليه))( ).
وقال البهوتي ~ في مسألة رجوع الوالد في هبة ولده: ((ولا ضمان على الابن فيما تلف منها، ولو كان التلف بفعله؛ لأنه في ملكه))( ).
الطريق الثاني: التعديل بالتسوية بين الأولاد
لا خلاف بين العلماء في مشروعية التعديل بين الأولاد إذا فضل أحدهم بإعطاء من لم يُعطَ ما تحصل به التسوية بينهم( ). ومعيار ما تحصل به التسوية أن يعطي المُفَضَّل عليه مثل ما أعطى المُفَضَّل؛ لقول النبي لبشير( ) والد النعمان( ) رضي الله عنهما لما أتاه ليشهده على ما وهبه للنعمان: ((أَكُلَّ ولدك نحلته مثل هذا؟))( ). وهذا يفيد أن التسوية بين الأولاد تحصل بأن يهب لكل واحد منهم مثل ما وهب للآخر( ).
وبناء على هذا فإن العدل بين الأولاد بالتسوية يكون بأن يعطي المُفَضَّل عليه مثل ما أعطى المُفَضَّل، سواء كانت الهبة أوراقاً نقدية أو غير ذلك.
أما أثر التضخم النقدي في التعديل في الهبة بين الأولاد بالتسوية فإنما يظهر فيما إذا تأخر التعديل إلى أن حدث تضخم نقدي أو زادت نسبته زيادة لا يتغابن الناس بمثلها. وذلك أن القيمة الشرائية التبادلية للنقود ستنقص، وسيرتفع المستوى العام للأسعار. وحينئذٍ يبرز سؤال هل العدل الواجب بين الأولاد يحصل ويتحقق عن طريق التسوية بين الأولاد بإعطاء المُفَضَّل عليه مثل ما أعطى المُفَضَّل من الأوراق النقدية؟
ويتخرَّج في الجواب على هذه المسألة قولان:
القول الأول: أن التسوية بين الأولاد لا تحصل إلا بإعطاء المُفَضَّل عليه مثل قيمة الأوراق النقدية قبل حدوث التضخم النقدي.
القول الثاني: أن التسوية بين الأولاد تحصل بإعطاء المُفَضَّل عليه مثل قدر الأوراق النقدية التي حصل بها التفضيل، ولا اعتبار للتضخم النقدي.
أدلة القول الأول:
أولاً: أن إعطاء المُفَضَّل عليه من الأولاد مثل الأوراق النقدية بعد نقصان قيمتها الشرائية التبادلية لا يحصل به العدل المأمور به في قول النبي : ((اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم))( )، فإنه لو أعطى المُفَضَّل عليه مثل الأوراق النقدية التي أعطاها المُفَضَّل دون اعتبار لنقص قيمتها الشرائية التبادلية لم يسوِّ بينهم؛ لأن المُفَضَّل عليه سيُحصِّل بهذه الأوراق النقدية أقل مما حصَّله المُفَضَّل؛ وذلك لضعف قيمة النقود الشرائية التبادلية الحادث بسبب التضخم النقدي.
ثانياً: أن التسوية بين الأولاد لا تكون إلا بإعطاء المثل؛ لقول النبي في قصة بشير : ((أكل ولدك نحلته مثل هذا))( ). وإعطاء المُفَضَّل عليه قدر الأوراق النقدية التي أعطيت للمُفَضَّل بعد نقصان قيمتها التبادلية الشرائية لا يتحقق به المثلية التامة التي وجه إليها النبي ؛ لأنها مثلية صورية تخلفت فيها المثلية المعنوية تخلفاً تختل به التسوية.
أدلة القول الثاني:
أولاً: أن إعطاء المُفَضَّل عليه مثل ما أعطى المُفَضَّل من الأوراق النقدية يحصل به التسوية بين الأولاد والعدل بينهم لتحقق المثلية.
يناقش: بأن المثلية في الأوراق النقدية في حال نقص قيمتها الشرائية التبادلية لا يكفي فيها المثلية الصورية، بل لا بد من المثلية المعنوية كما تقدم غير مرة.
ثانياً: أن الهبة عقد تبرع، فلا يستقصى فيها كما يستقصى في عقود المعاوضات( ).
يناقش هذا: بأن الاستقصاء في تحقيق المماثلة هنا إنما هو لأجل تحقيق العدل المأمور به في قول النبي : ((اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم))( ). ووجوب العدل هنا حق للآدمي يتضرر بفواته. وحقوق الآدميين مبنية على الضيق والمشاحة( ).
الترجيح
الذي يظهر للباحث أن القول الأول أقرب القولين للصواب، فلابد من مراعاة نقص القيمة الشرائية التبادلية للنقود في التعديل بين الأولاد والتسوية بينهم، دفعاً للتباغض والشحناء عنهم.
وعلى هذا فإذا وهب الوالد أحد أولاده ألف ريال مثلاً، ثم أراد أن يسوِّي بينهم بعد حدوث تضخم نقدي نسبته ثلاثون في المائة، فإن التسوية بينهم تتحقق بأن يعطي المُفَضَّل عليهم ألفاً وثلاثمائة ريال، والله أعلم.
المسألة الثانية: أثر التضخم النقدي في حساب الثلث في عطية من مرضه مخوف( )
اتفق أهل العلم على أن عطية المريض مرضاً مخوفاً صحيحة، وتعتبر من ثلث ماله إذا كانت العطية لغير وارث( ). وذلك لما روى سعد بن أبي وقاص( ) قال: عادني رسول الله في حجة الوداع من وجع أشفيت( ) منه على الموت، فقلت: يا رسول الله بلغني ما ترى من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: (( لا))، قال: قلت: أفأتصدق بالشطر؟ قال: ((لا، الثلث، والثلث كثير...))( ). وهذا الحكم لا يختص الصدقة فقط، بل هو ثابت في سائر أنواع التبرعات: كالهبات، والعتق، والوصية( ).
أما حساب ثلث المال في عطية المريض مرضاً مخوفاً فقد اتفق الفقهاء على أن الهبة في مرض الموت بمنزلة الوصية( ). وأن الاعتبار في قيمة المُوصَى به وخروجها من الثلث أو عدم خروجها بحالة الموت؛ لأنها حال لزوم الوصية، فتعتبر قيمة المال فيها( ).
وعلى هذا فإن المعتبر في حساب ثلث المال في خروج العطية منه أو لا هو يوم موت المعطي المتبرع( ).
أما أثر التضخم النقدي في ذلك: فلا تخلو العطية من أن تكون مالاً عينياً أو تكون أوراقاً نقدية.
فإن كانت عطية المريض مرضاً مخوفاً مالاً عينيا،ً فالتضخم النقدي يفضي إلى ارتفاع المستوى العام للأسعار، فإذا طرأ التضخم النقدي بعد العطية وقبل الموت فقد تكون العطية العينية من جملة ما ارتفع سعره من الأعيان، فتزيد على ثلث المال، فيوقف ما زاد على الثلث من العطية بسبب ارتفاع الأسعار على إجازة الورثة( ). فإن أجاز الورثة أخذ العطية كلها، و إلا فلا ينفذ إلا الثلث، وما زاد عليه فللورثة.
مثال ذلك: وهب رجل في مرض موته المخوف أرضاً قيمتها مائة ألف ريال، ثم مات بعد أن طرأ تضخم نقدي ارتفعت به الأسعار، فصارت قيمة الأرض يوم موت المتبرع مائة وخمسين ألف ريال، وكان جميع ما تركه بما في ذلك الأرض ثلاثمائة ألف ريال. فعند قسمة التركة يكون للمعطى الثلث، وهو ما يقابل ثلثي الأرض المتبرع بها في مرض الموت، وما زاد على ذلك موقوف على إجازة الورثة.
أما إن كانت العطية في مرض الموت المخوف أوراقاً نقدية، فإن العطية قد تكون أكثر من الثلث يوم العطاء، فتصير يوم موت المعطي ضمن الثلث إذا كان في التركة ما ارتفع سعره بسبب التضخم النقدي، فلا يتوقف أخذ العطية عندئذ على إجازة الورثة.
مثال ذلك: وهب رجل آخر في مرض موته المخوف مائة ألف ريال، وكان قيمة ما عنده مائتين وخمسين ألف ريال، فطرأ تضخم نقدي ارتفعت به الأسعار، فكان قيمة ما تركه يوم الوفاة ثلاثمائة وعشرين ألف ريال، فللمعطى حينئذٍ ما أعطاه المتبرع؛ لأنه دون الثلث، والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: أثر التضخم النقدي في نوع الصدقة
التضخم النقدي يسبب نقص القيمة التبادلية الشرائية للنقود، فتضعف بذلك إحدى أهم وظائف النقود، وهي كونها وسيلة لحفظ الثروة وخزنها، وتوالي هذا التناقص في القيمة الشرائية التبادلية للنقود أو كبر حجمه يفضي غالباً إلى زهد الناس في الاحتفاظ بالأوراق النقدية. ولذلك فإنه لا ينبغي قصد إخراجها في الصدقة، إلا إذا كانت هي ما بحضرته، أو كان ماله من جنسها. ويدل لذلك الأوجه التالية:
أولاً: أن الأوراق النقدية في أوقات التضخم النقدي ليست من أطيب الكسب، بل إنها في أحوال النسب المرتفعة للتضخم النقدي كالتضخم النقدي الجامح من رديء المال الذي ينبغي عدم قصد إخراجه، سواء في الصدقة الواجبة أو المتطوع بها؛ لقول الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } ( )؛ فإن الله نهى في هذه الآية الكريمة ((عن قصد إخراج الرديء للفقير. ونهيه سبحانه عن قصد ذلك وتيممه فيه ما يشبه العذر لمن فعل ذلك لا عن قصد وتيمم، بل عن اتفاق إذا كان هو الحاضر إذ ذاك، أو كان ماله من جنسه، فإن هذا لم يتيمم الخبيث، بل تيمم إخراج بعض ما من الله به عليه( ). وغير خافٍ أنه في حالات ارتفاع نسبة التضخم النقدي كحالات التضخم المفرط لا يثق الناس فيها بالنقود، بل يسعى الناس فيها إلى التخلص من النقود لسرعة انخفاض قيمتها؛ لما يترتب على الاحتفاظ بها من الخسارة.
ثانياً: القياس على ما ذكره فقهاء الحنفية من تفضيل إخراج الدراهم في الصدقة على إخراجها من النقود الاصطلاحية الفلوس( )، ولو كان إخراجها من الفلوس يؤدي إلى توسيع عدد المنتفعين بالصدقة. وذلك أن الفلوس نقد اصطلاحي فليس له قيمة ذاتية بخلاف الدراهم فهي ذاتية معتبرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ~ في تعليله منع إخراج الفلوس عن النقدين: الدراهم والدنانير: ((أما الفلوس فلا يجزئ إخراجها عن النقدين على الصحيح؛ لأنها ولو كانت نافقة، فليست في المعاملة كالدراهم في العادة؛ لأنها قد تكسد ويحرم المعاملة بها، ولأنها أنقص سعراً))( ). ولهذا قال فقهاء الحنفية: ((من أراد أن يتصدق بدرهم: اشترى به فلوساً ففرقها. فقد قصَّر في أمر الصدقة))( )؛ لأن المندوب في أمر الصدقات الصدقة من نفائس المال وأحبه للمنفق، كما قال ـ تعالى ـ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } ( ). فإن من مقاصد الشرع في الصدقات التقرب إلى الله تعالى بأغلى المال وأكرمه( ). ولذلك لما سئل النبي عن أفضل الرقاب في العتق، قال : ((أغلاها ثمناً، وأنفسها عند أهلها))( ).
ثالثاً: أن الأفضل في الصدقة ما كان أنفع للفقير( ). ولذا ينبغي للمتصدق أن يراعي ذلك فيتصدق بما يكون أكثر نفعاً، لأن به يتحقق المقصود من الصدقة. ويمكن أن يستدل له بما جاء عن معاذ بن جبل أنه قال لأهل اليمن حين بعثه النبي : ((ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي بالمدينة))( ). والتصدق بالأوراق النقدية في أزمنة التضخم النقدي ليس هو الأنفع للفقير غالباً؛ لأن الفقير سيسارع إلى استهلاك هذه الأوراق النقدية فراراً من تناقص قوتها الشرائية التبادلية.
المسألة الرابعة: أثر التضخم النقدي في الوصية
أجمع أهل العلم على أن للإنسان أن يوصي بثلث ماله سواء كان ذلك في صحته أو مرضه( ).
واتفقوا أيضاً على أن المعتبر في خروج الموصى به من الثلث هو حين موت الموصي؛ لأنه وقت لزوم الوصية( ). وعلى هذا فإنه إذا كان الموصى به وقت موت الموصي ثلث التركة أو دونه، أخذه موصى له كله، ولو زادت قيمته بعد ذلك على الثلث. أما إذا زادت قيمته على ثلث المال حين الموت فللموصى له منه قدر ثلث المال فقط.
أما أثر التضخم النقدي في الوصية فلا يخلو الموصى به من إحدى حالين:
الحال الأولى: أن يكون الموصى به عيناً.
التضخم النقدي سبب لارتفاع المستوى العام للأسعار، وهذا يفضي غالباً إلى ارتفاع سعر العين الموصى بها، فإذا حدث التضخم النقدي بعد الوصية وقبل موت الموصي فأثر التضخم النقدي في الوصية في هذه الحال أنه إذا زادت قيمة العين الموصى بها على ثلث المال، فإن ما زاد على الثلث من الوصية موقوف على إجازة الورثة، فإذا أجاز الورثة فللموصى له أن يأخذ كل العين الموصى بها. وقد نص فقهاء الحنفية على انه إذا كسدت النقود أو انقلبت قيمتها انصرفت الوصية إلى الأقل( ).
ومثال ذلك: أوصى زيد لعمرو ببيت قيمته يوم الإيصاء مائة ألف ريال، وبعد أن طرأ التضخم النقدي صارت قيمته مائتي ألف ريال يوم لزوم الوصية، وكان مجموع ما تركه الموصي ثلاثمائة ألف ريال بما في ذلك البيت الموصى به، وبهذا تكون العين الموصى بها أكثر من ثلث المال فليس للموصى له إلا قدر الثلث ويشاركه الورثة فيما زاد على ثلث المال من البيت الموصى به.
الحال الثانية: أن يكون الموصى به قدراً محدداً من الأوراق النقدية.
يتبين أثر التضخم النقدي في هذه الحال فيما إذا كان القدر الموصى به من الأوراق النقدية أكثر من الثلث يوم الإيصاء، ثم طرأ تضخم نقدي بعد ذلك وقبل لزوم الوصية بموت الموصي، وكان في التركة ما ارتفع سعره بسبب ذلك حتى صار قدر الموصى به من الورق النقدي ضمن الثلث، فعندئذ لا يتوقف نفاذ الوصية على إجازة الورثة؛ لأنها ضمن الثلث.
ومثال ذلك: أوصى رجل لآخر بخمسين ألف ريال، وكان جميع ما يملكه من المال يقدّر بمائة وعشرين في يوم الإيصاء، فطرأ تضخم نقدي ارتفعت به الأسعار حتى صارت قيمة ما تركه يوم موته مائة وستين ألف ريال، فتكون الوصية حينئذٍ نافذة من غير إجازة الورثة؛ لأنها دون ثلث المال، والله أعلم.
الباب الثالث الحكم الشرعي في أساليب معالجة آثار التضخم النقدي
وفيه ستة فصول:
الفصل الأول: الربط القياسي.
الفصل الثاني: تفعيل نظرية الظروف الطارئة.
الفصل الثالث: التسوية القضائية.
الفصل الرابع: التسعير.
الفصل الخامس: تفعيل إخراج الزكاة.
الفصل السادس: تنظيم عرض النقود.
تمهيد
يُعدُّ التضخم النقدي واحداً من أبرز القضايا الاقتصادية التي عُني بها الاقتصاديون دراسة وبحثاً، تشخيصاً ومعالجة. وذلك لما له من تأثير بالغ على الأنشطة الاقتصادية المختلفة الخاصة والعامة. ولا غرو في ذلك، فإن التضخم النقدي يؤدي إلى اضطراب النقود التي هي عماد الاقتصاد وقوامه، فالنقود هي المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فاضطرابها ارتفاعاً وانخفاضاً سبب لفساد كبير في معاملات الناس، ولحوق الضرر بهم اقتصادياً، ودينياً, واجتماعياً( ). ولذلك سعى علماء الشرع والاقتصاد إلى معالجة التضخم النقدي وآثاره.
ولما كانت العوامل التي تؤدي إلى نشوء التضخم النقدي متعددة، فقد تعددت الوسائل المقترحة لمعالجته وتنوعت، وهي في الجملة ترجع إلى قسمين:
القسم الأول: الوسائل العامة
وهي المعالجات التي ترمي إلى التخلص من التضخم النقدي والسيطرة على نسبته والحد منه، وذلك من خلال السياسات الاقتصادية العامة: السياسة المالية( )، والسياسة النقدية( )، كسياسة الدين العام( )، وتنظيم عرض النقود، وغير ذلك من الأدوات الاقتصادية.
وهذا القسم من المعالجات تتولاه في الغالب المؤسسات المالية والاقتصادية في الدول تخطيطاً وتنفيذاً.
القسم الثاني: الوسائل الخاصة
وهي المعالجات التي ترمي إلى تخفيف آثار التضخم النقدي، والحد من أضراره في الديون والحقوق الخاصة والعلاقات التعاقدية الممتدة: كالإجارات الطويلة، وعقود المقاولات والتوريد.
وهذا القسم من المعالجات يتولاه غالباً أطراف التعاقد في الديون والحقوق والعقود من الأفراد والمؤسسات، وقد يتبنى هذه الوسائل جهات حكومية تشرف على تنظيمها وتنفيذها.
وفي هذا الباب سأتناول بعض الوسائل المقترحة لعلاج التضخم النقدي، لا سيما المعالجات التي تعنى بحل المشكلات الناجمة عن التضخم النقدي التي تؤثر على معاملات الناس المالية والاقتصادية، وتحتاج إلى معالجات آنية، لتسير عجلة التعاملات في ظل الظروف التضخمية. وهي ما يعرف بوسائل التعايش مع التضخم النقدي.
والوسائل التي سأتناولها في هذا الباب هي الوسائل التالية:
أولاً: الربط القياسي.
ثانياً: تفعيل نظرية الظروف الطارئة.
ثالثاً: التسوية القضائية.
رابعاً: التسعير.
خامساً: تفعيل إخراج الزكاة.
سادساً: تنظيم عرض النقود.
الفصل الأول الربط القياسي
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: حقيقة الربط القياسي.
المبحث الثاني: أنواع الربط القياسي.
المبحث الثالث: التكييف الفقهي للربط القياسي وبيان
حكمه.
المبحث الأول: حقيقة الربط القياسي
تمهيد
يُعدُّ الربط القياسي وتطبيقاته أمراً شائع الاستعمال في العديد من اقتصاديات الدول المتقدمة اقتصادياً، سواء في القطاع الحكومي أو القطاع الخاص. وهو من أهم الوسائل المستخدمة في توقي الاضطرابات الناشئة عن التضخم النقدي. فإن علماء الاقتصاد ـ لما رأوا ما يترتب على التضخم النقدي من اختلال كبير في معاملات الناس وعقودهم والتزاماتهم، لا سيما في التضخم النقدي المفرط والمتسارع، وكذلك التضخم النقدي الزاحف إذا امتد لفترة طويلة ـ سعوا في البحث عن الوسائل التي يقاس بها التضخم النقدي؛ ليعرف قدر النقص الحاصل من جراء انخفاض قيمة النقود الشرائية التبادلية الذي تسبب في رفع المستوى العام لأسعار السلع والخدمات. فوجدوا في الأرقام القياسية أداة علمية ملائمة لقياس معدل التضخم النقدي، وتغيرات قيمة النقود الشرائية التبادلية( ).
وقد سبق في هذه الدراسة الكلام على الأرقام القياسية وأنواعها، وأن أفضل أنواع الأرقام القياسية المستخدمة لقياس التضخم النقدي هو الرقم القياسي لأسعار المستهلكين، وهو رقم يمثل متوسط أسعار شراء السلع والخدمات التي يستهلكها أفراد المجتمع من أصحاب الدخول المحدودة، خلال فترة زمنية معينة( ).
ومع تطور هذه الأرقام واستخداماتها توصل الاقتصاديون إلى أداة تمكنهم من تثبيت الديون والالتزامات التعاقدية الممتدة، وتوقي آثار التضخم النقدي عليها، والمحافظة على الالتزامات من التغيرات التي تلحق الضرر بأصحابها. وذلك من خلال ما يعرف في الدراسات الاقتصادية بالتقييس أو الربط القياسي.
استعمال الربط القياسي في الاقتصاد لا يُعدُّ أمراً جديداً، بل يعود إلى عام 1237هـ، الموافق 1822م، حيث اقترح أحد الاقتصاديين استعمال الربط القياسي في عقود الإجارة الطويلة والسندات الطويلة الأجل، ثم شاع استعماله بعد ذلك( ).
المطلب الأول: تعريف الربط القياسي
تعريف الربط القياسي عند الاقتصاديين: هناك عدة تعريفات:
الأول: الربط القياسي: هو ((تثبيت القوة الشرائية للدخول والديون))( ). وهذا التعريف اعتنى ببيان نتيجة عملية الربط القياسي وما يحصل به، ولم يبين حقيقتها.
الثاني: الربط القياسي: هو عملية تصحيح نقدي، بغية الحفاظ على مستوى ثابت لقيمة المدفوعات المؤجلة( ).
وهذا التعريف كالتعريف الأول اعتنى ببيان نتيجة عملية الربط القياسي وما يحصل به دون بيان حقيقتها.
الثالث: الربط القياسي: هو عملية ربط الديون وتكاليف العقود بالأرقام القياسية؛ لتعديلها في حالات التضخم النقدي( ).
وهذا التعريف أجود من سابقيه؛ لأنه يبين بأي شيء يتم الربط القياسي وفي أي حال، لكن يؤخذ عليه أنه لم يستوعب ذكر المجالات التي يمكن استعمال الربط القياسي فيها، بل اقتصر على ذكر الديون وتكاليف العقود، في حين أن استعمالات الربط القياسي وتطبيقاته أوسع من ذلك.
الرابع: الربط القياسي: هو جعل دين أو التزام مالي آخر يتغير مبلغه عند الاستحقاق بتغير مقياس أو مؤشر لا يكون مستواه معروفاً عند التعاقد، بل يعرف عند الاستحقاق( ).
وهذا التعريف تضمن بيان حقيقة الربط القياسي، غير أن في عبارته شيئاً من التشويش و القلق.
الخامس: الربط القياسي: هو عملية ربط الحقوق والالتزامات الآجلة بتغير الأسعار، وذلك بأن يحدد مقدار ما يسدد وفاء للالتزام المؤجل، طبقاً للتغير بالمؤشر المناسب للقوة الشرائية للنقود( ).
وهذا التعريف أجود التعريفات بياناً لحقيقة التضخم النقدي، لكن قد يؤخذ عليه أنه لم يستوعب ذكر المجالات التي يمكن استعمال الربط القياسي فيها.
والذي يمكن أن يتلخص من مجموع هذه التعريفات أن الربط القياسي عبارة عن ((نظام لربط القيمة الاسمية لأي مدفوعات مؤجلة بمؤشر مناسب للقوة الشرائية للنقود))( ).
أما تعريفه عند الفقهاء فإن هذا المصطلح غير معروف لديهم إلا من جهة الاقتصاديين، ولذلك فإن الربط القياسي الذي يتكلم عنه الفقهاء لا يخرج عما هو معروف لدى الاقتصاديين. فمما تجدر الإشارة إليه في بيان حقيقة الربط القياسي بيان أن أول من اقترحه طريقاً للتصحيح النقدي للديون والالتزامات الآجلة بما في ذلك القروض الباحث محمد أفضل عام 1397هـ، الموافق 1977م في بحثه معالم الاقتصاد الإسلامي، حيث قال: (( إن ربط أصل القرض بتغير الأسعار في الحدود التي تتناسب مع التضخم والانكماش يبدو افتراضاً منطقياً))( )، لكن هذا الطرح لم يلق صدى. ثم أثير الموضوع مرة ثانية عام 1398هـ، الموافق 1978م في ندوة مكة حول النقود والمصارف في الاقتصاد الإسلامي من قبل الدكتور عمر شابرا، والدكتور سلطان أبو علي، ثم توالت بعد ذلك الدراسات والبحوث حول قضية الربط القياسي من قبل الفقهاء والباحثين الشرعيين( ).
أما طريقة استعمال الربط القياسي في الحفاظ على القيمة الحقيقية للمتغيرات الاقتصادية( ) التي تقاس عادة بالوحدات النقدية، فذلك عن طريق ربط تلك المتغيرات بأرقام قياسية يمكنها تحويل هذه المتغيرات إلى مقادير حقيقية يعرف بها ما طرأ من نقص في القوة الشرائية التبادلية، ويعوض ذلك النقص. وقد استعمل الاقتصاديون هذه الأداة في المحافظة على مستوى ثابت لقيمة الأجور، والرواتب التقاعدية( )، والضرائب، والإعانات الحكومية( )، والقروض، والعقود وغير ذلك مما يتأثر بالتضخم النقدي.
ومثال ذلك: إذا اتفق عامل في عقد عمل مدته سنتان على أن أجرته للشهر ألف ريال، فطرأ تضخم بعد سنة من العقد نسبته ثلاثون في المائة فإن هذا يعني أن قيمة الأجرة بعد سنة قد نقصت ثلاثين في المائة، فأجر العامل لم ينقص من حيث العدد، لكنه نقص من حيث القيمة، فما كان يحصله بألف ريال لا يمكنه تحصيله بعد حدوث التضخم إلا بألف وثلاثمائة ريال. فاستعمال التقييس والربط القياسي يفيد تعديل الأجر بزيادة قدرها ثلاثون في المائة، بحيث يصير الأجر بعد حدوث التضخم النقدي ألفاً وثلاثمائة ريال. وهكذا يتم تعديل النقص بزيادة الأجر بمقدار ما حصل من نقص قيمة النقود الشرائية التبادلية بصفة تلقائية. وبهذا تظل قيمة الأجور الحقيقية ثابتة على ما جرى عليه التعاقد. وكذلك هي الحال في الرواتب التقاعدية، وسائر ما يتأثر بالتضخم النقدي من الالتزامات( ).
المطلب الثاني: طرق الربط القياسي
إن عملية الربط القياسي للأجور والرواتب تتم عادة من أحد طريقين:
الطريق الأول: الربط الذي يتم عن طريق الاتفاقات الجماعية بواسطة الجهات المنظمة لشؤون العمال، حيث تتفق هذه الجهات مع أرباب العمل على تعديل الأجور تلقائياً، تبعاً لمؤشر قياسي متفق عليه بين الأطراف ذات العلاقة، ويمكن أن يكون التعديل في كل سنة، أو تبعاً لارتفاع الأسعار. ويطلق على البند المنظم لهذا في العقد بند التصاعد الأجري، أو بند غلاء المعيشة( ).
الطريق الثاني: الربط الذي يتم عن طريق القرارات الحكومية لتنظيم الأجور والرواتب والمعاشات التقاعدية، لحماية هذه الدخول من نقص القيمة الذي ينتجه التضخم النقدي( ).
أما ربط ما عدا الرواتب والأجور فإنه لا يخرج عن هذين الطريقين أيضاً:
فإما أن يكون باتفاق الأطراف ذات العلاقة دون تدخل جهات خارجية، ويسمى هذا النوع من الربط الربط التعاقدي، حيث إنه إجراء يتبناه طرفا عقد برضاهما يتفقان فيه على أن الالتزام المالي المترتب على العقد سيكون مربوطاً بمؤشر معين للأسعار.
وإما أن يكون الربط القياسي قانونياً فيصدر بذلك تنظيم عام يلزم جميع الناس بالربط القياسي في معاملاتهم، فتزاد الالتزامات والاستحقاقات المالية بنسبة الرقم القياسي المعتمد في الربط. فإذا كان الربط بمؤشر تكاليف المعيشة على سبيل المثال، فإنه إذا ظهر أن المستوى العام للأسعار قد زاد بنسبة عشرين في المائة، فيلزم المدين بناء على ذلك زيادة على قدر الدين بهذه النسبة عند دفع الالتزامات للدائن في الديون والعقود( ).
المبحث الثاني: أنواع الربط القياسي
يُعدُّ الربط القياسي نظاماً لربط القيمة الاسمية لأي مدفوعات مؤجلة بمؤشر مناسب للقوة الشرائية للنقود. وقد استعمل الاقتصاديون عدة مؤشرات ومعايير لتثبيت المدفوعات المؤجلة: كالديون، والالتزامات التعاقدية الممتدة. وأبرز هذه المؤشرات:
أولاً: الربط بمستوى الأسعار.
ثانياً: الربط بالذهب.
ثالثاً: الربط بعملة أو سلة عملات.
رابعاً: الربط بسعر الفائدة.
وسأتناول كلاً من هذه المؤشرات بالبيان في المطالب التالية.
المطلب الأول: الربط بمستوى الأسعار
هذا النوع من أنواع الربط القياسي يُعدُّ أشهرها وأكثرها انتشاراً واستعمالاً. وهذا النوع من الربط يعتمد الأرقام القياسية للأسعار التي تقيس متوسط التغير في الأسعار.
وقد تقدم أن هذه الأرقام متعددة: فمنها ما يقيس أسعار الجملة، ومنها ما يقيس أسعار التجزئة، ومنها ما يقيس أسعار الأسهم. غير أن أشهرها الربط بالرقم القياسي لأسعار المستهلكين، وهو ما يعرف بالرقم القياسي لتكاليف المعيشة( ). وعلى كل حال فإن فكرة الربط القياسي بمستوى الأسعار لا تختلف باختلاف هذه الأرقام، وإن كانت نتائج هذه الأرقام والمؤشرات القياسية قد تختلف. ومهما يكن من أمر، فإن فكرة الربط القياسي بمستوى الأسعار تتلخص في أن المدفوعات المؤجلة تزيد بقدر ما يحصل من ارتفاع في مستوى الأسعار( ).
ومثال ذلك: أن يكون قدر المدفوعات المؤجلة من دين أو غيره ألف ريال، فتربط بمستوى الأسعار، فإذا ارتفع الرقم القياسي لمستوى الأسعار ثلاثين في المائة عند السداد أو حلول أجل الدفع فسيكون قدر ما يجب دفعه ألفاً وثلاثمائة ريال.
ومما تجدر الإشارة إليه أن هذه الأرقام القياسية للأسعار على اختلافها تعدُّ مؤشرات تقريبية، وذلك للمصاعب الفنية الاقتصادية والمشكلات الكثيرة التي تحف تكوين هذه الأرقام القياسية، وقد تقدم بيان أبرزها. ومما يتعلق بالربط القياسي من المؤاخذات ما يلي( ):
أولاً: أن الأرقام القياسية للأسعار لم تصمم في الأصل لربط الديون والالتزامات التعاقدية وما أشبه ذلك بها، بل هي أداة من أدوات السياسات الاقتصادية العامة، أي: تلك التي تتولى الدول تنفيذها. فالمقصود بهذه الأرقام القياسية أن تقدم مؤشراً عاماً لارتفاع مستوى الأسعار، ومن ثم بيان أثر ذلك على مستوى المعيشة هذا غرضها والمقصود منها.
ثانياً: أن سياسة الربط بمستوى الأسعار وسيلة ثبت فشلها في معالجة التضخم النقدي، بل على العكس من ذلك، فقد ثبت أن الربط القياسي بمستوى الأسعار يؤدي إلى زيادة التضخم النقدي وتسارعه. فالزيادة في مستوى الأسعار ستؤدي إلى ارتفاع كل الديون والالتزامات والحقوق التي ربطت به مما يزيد من تكاليف الإنتاج، الأمر الذي سينعكس على زيادة في معدلات الأسعار،وهكذا دواليك في زيادات متلاحقة. ولكن مما يقلل أثر هذا المأخذ أن سياسة الربط بمستوى الأسعار لا ينتظر منها اقتلاع التضخم النقدي من جذوره وإزالته بالكلية، إنما يقصد بها تخفيف آثاره في النشاط الاقتصادي.
المطلب الثاني: الربط بالذهب
لا يخفى أن الأوراق النقدية كانت في أول ظهورها مغطاة بنسبة مائة في المائة من الذهب. فكل ورقة نقدية تعادل قيمة وزن معين من الذهب لدى جهة إصدار هذه الأوراق. ثم إن هذا الغطاء والارتباط تناقص شيئاً فشيئاً، ابتداء من عام 1334هـ، الموافق 1914م، وكان آخر ذلك إلغاء الولايات المتحدة الأمريكية لصرف الدولار بالذهب عام 1391هـ، الموافق 1971م، وذلك عندما أوقفت الحكومة الأمريكية تحويل الدولار إلى ذهب( ).
وفكرة ربط الديون والالتزامات التعاقدية وغير ذلك بالذهب انبثقت في الأصل من ذلك الاستناد، وأيضاً لما يتمتع به الذهب من ثبات نسبي في القيمة الحقيقية مقارنة بغيره من السلع.
أما طريقة الربط بالذهب فيكون ذلك بالاعتماد عليه عند إبرام العقود، وذلك بالنظر إلى القوة الشرائية للنقود مقيسة بالذهب.
مثال ذلك: إذا كانت تكلفة العقد يوم التعاقد مائة ألف ريال، فلربط قيمة العقد بالذهب فإننا ننظر كم يحصّل هذا المبلغ من الذهب يوم إبرام العقد، فإذا قدر أنه يشترى بهذا المبلغ مائة غرام من الذهب. فالذي يجب على المدين عند وفاء الدين بذل ما يحصّل هذا القدر ذهباً من الأوراق النقدية( ).
ومن الإشكالات الواردة على هذا النوع من الربط هو أن أسعار الذهب وإن كانت ذات ثبات نسبي مقارنة بالتذبذب الحاصل في الأوراق النقدية إلا أنها عرضة للاضطرابات أيضاً تبعاً للتقلبات الاقتصادية والحروب وغيرها.
المطلب الثالث: الربط بعملة أو سلة عملات
تقدم أن الأوراق النقدية تختلف من حيث قوتها وقبولها باختلاف جهات إصدارها: فمنها ما يتميز بالثبات النسبي والقبول العالمي( ). ومن هنا نشأت فكرة ربط الديون والالتزامات التعاقدية والمدفوعات المؤجلة بعملة منتقاة تتميز بالثبات النسبي والقبول، بحيث تربط بها هذه المدفوعات المؤجلة عند إبرامها وإنشائها، فإذا طرأ تضخم نقدي فسيراعى في الوفاء قيمة الديون وسائر المدفوعات المؤجلة من تلك العملة المتفق على الربط بها.
مثال ذلك: إذا كان قدر الدين ألف ريال، وتم الاتفاق على ربطه بالدولار الأمريكي، وكانت قيمة الدين يوم إنشائه من الدولار أربعمائة دولار. فإنه إذا طرأ تضخم نقدي على الريال وبلغ معدل التضخم النقدي عشرين في المائة، واستمر إلى زمن الوفاء، فإنه بمقتضى الربط بالدولار يلزم المدين وفاء ما يعادل أربعمائة دولار من الريالات في يوم الوفاء( ).
أما الربط بسلة العملات فلا يختلف عن الربط بالعملة في شيء، إلا أن الربط بسلة العملات يكون الربط فيه بمجموعة عملات دولية بأوزان نسبية معينة.
فسلة العملات عبارة عن ((نقود اعتبارية حسابية ليس لها وجود مادي ملموس))( ). ومن أمثلة هذه النقود الاعتبارية التي تمثل مجموعة من العملات: الدينار الإسلامي الخاص بالبنك الإسلامي للتنمية( )، وهو يساوي وحدة واحدة من حقوق السحب الخاصة( ).
المطلب الرابع: الربط بسعر الفائدة
لنتمكن من معرفة المراد بسعر الفائدة والربط بها فإنه لا بد من الوقوف على معنى الفائدة. وقد اتفق الاقتصاديون على أن الفائدة هي الزيادة في القرض مقابل الانتفاع به، وهي أيضاً الزيادة في الدين مقابل الزيادة في الأجل والتأخير في التسديد( ).
وأما سعر الفائدة فهو تعبير عن قدر الفائدة المفروضة على القروض والديون المؤخرة بنسبة مئوية خلال فترة زمنية معينة، يتم تحديدها استناداً إلى قوى العرض والطلب في أسواق النقود وإلى متغيرات اقتصادية أخرى( ). كما أن سعر الفائدة يمثل العوائد التي يجنيها أصحاب الأموال من جراء الادخار في البنوك( ).
والذي يتولى تحديد سعر الفائدة وفرضه في العادة البنك المركزي الذي يتولى الإشراف على المصارف والبنوك في البلاد( ).
أما طريقة الربط بسعر الفائدة فتتلخص في أن المدين ومن عليه الحق يلتزم وفاء الديون والقروض والمدفوعات المؤجلة مضافاً إليها سعر الفائدة المعلن في وقت الوفاء، وذلك فيما إذا طرأ تضخم نقدي أو زاد معدل التضخم النقدي عنه في يوم التعاقد وإبرام الدين( ).
المبحث الثالث: التكييف الفقهي للربط القياسي وبيان حكمه
المطلب الأول: التكييف الفقهي للربط القياسي بمستوى الأسعار
وحكمه
الربط القياسي بمستوى الأسعار نمط جديد من أنماط تعديل المدفوعات المؤجلة عرف في النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري، فلا طمع في الوقوف على كلام للفقهاء المتقدمين في تكييفه وحكمه. وقد ذكر بعض الباحثين أن أول بحث منشور في هذا الموضوع لا يعود إلى أكثر من خمس عشرة سنة( ).
أما الفقهاء المعاصرون فقد تناولوه في عدة بحوث، وقد اختلفت أقوالهم فيه على ثلاثة أقوال:
القول الأول: جواز ربط المدفوعات المؤجلة بمستوى الأسعار، سواء كان سببها ديناً أو عقداً.
هذا ما ذهب إليه جماعة من الفقهاء والباحثين( ).
القول الثاني: عدم جواز ربط المدفوعات المؤجلة بمستوى الأسعار سواء كان سببها ديناً أو عقداً( ).
وهذا ما أوصت به الحلقة العلمية التي نظمت في البنك الإسلامي للتنمية والمنعقدة لدراسة موضوع ربط الحقوق والالتزامات بتغير الأسعار عام 1407هـ( ).
القول الثالث: التفصيل فيجوز الربط القياسي بمستوى الأسعار في الأجور والرواتب دون القروض والديون( ).
وهذا ما انتهى إليه مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة عام 1409هـ( )، ودورته الثامنة عام 1414هـ( ).
أدلة القول الأول
استدل أصحاب هذا القول بعدة أدلة:
أولاً: قول النبي لابن عمر( )رضي الله عنهما لما سأله عن أخذ الدراهم عن الدنانير والعكس: (( لا بأس أن تأخذها بسعر يومها، ما لم تتفرقا وبينكما شيء))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي اشترط لصحة وفاء الدراهم عن الدنانير أو الدنانير عن الدراهم أن يكون ذلك بسعر يوم القضاء، وهذا هو القصد من الربط القياسي بمستوى الأسعار. ومما قيل في علة هذا الشرط: إن أخذ الدراهم عن الدنانير أو الدنانير عن الدراهم( ) جارٍ مجرى القضاء، فيقيد بالمثل كما لو قضاه من الجنس. ((والتماثل هاهنا من حيث القيمة؛ لتعذر التماثل من حيث الصورة))( ).
فجعل من شروط صحة أخذ الدراهم عن الدنانير أن يكون بسعر يوم القضاء، تحقيقاً للتماثل في القيمة لما تعذرت المثلية في الصورة.
يناقش هذا: بأن مثلية الصورة في الربط بمستوى الأسعار غير متعذرة؛ لأن الوفاء بالعملة التي جرى بها التعامل، بخلاف ما في الحديث، فإن الوفاء كان من جنس آخر.
يجاب على هذا بما يأتي:
الأول: أن المثلية الصورية في الأوراق النقدية ليس لها معنى ولا يتعلق بها غرض ولا قصد. بل المنظور إليه فيها هو ماليتها وقيمتها التبادلية؛ لأنها هي المقصودة والمنظور إليها( ).
الثاني: أن موضع الدلالة في الحديث هو اعتبار النبي لقيمة الدراهم والدنانير يوم قضاء الدين ووفائه، لا يوم ثبوت الدين، حيث اشترط في وفاء الدين أن يكون بسعر يوم القضاء.
ثانياً: أن النبي كان يقوّم( ) الإبل في الدية على أهل القرى( ) فإذا غلت رفع في قيمتها، وإذا رخصت نقص في قيمتها( ).
وجه الدلالة: أن النبي جعل الأصل في الدية الإبل، وأن الدنانير والدراهم مأخوذان عنها على أنهما قيمة لها، وهذا يدل ((على أهمية اعتبار السلع الأساسية، وجعلها معياراً يرجع إليه عند التقويم))( ).
يناقش هذا بما يأتي:
الأول: أن جمهور العلماء من الحنفية( )، والمالكية( )، والحنابلة في المشهور( )، يرون أن الذهب والفضة أصلان في الدية، وليسا بدلاً عن الإبل.
يجاب على هذا: بعدم التسليم، وأن الأصل في الدية هو الإبل فقط، وما عداها من الذهب والفضة وغيرهما أبدال. كما هو مذهب الشافعية( )، ورواية عن أحمد( )، وقول ابن حزم من الظاهرية( ).
الثاني: أن الحديث لا يدل على جعل السلع الأساسية معياراً يرجع إليه عند التقويم؛ لأن النبي جعل الأصل في الدية الإبل، فإذا أعوزت فلا بد من تقويمها لئلا يضيع حق المجني عليه أو ورثته. ويمكن أن يقال: إن جعل الإبل هي الأصل في الدية؛ لأنها أكثر أموال العرب وأشرفها.
ثالثاً: أن العدل أصل واجب في جميع المعاملات؛ لأنه لا يمكن أن تستقيم للناس معاملاتهم إلا به، ولذلك فإن جميع ما جاء النهي عنه من المعاملات في الكتاب والسنة يعود في الحقيقة إلى إقامة العدل( ). وربط المدفوعات المؤجلة بمستوى الأسعار وسيلة وأداة لتحقيق ذلك، ومن القواعد: أن الوسائل لها أحكام المقاصد( ).
يناقش هذا: بأن الربط القياسي بمستوى الأسعار لا يحقق العدل، بل على العكس من ذلك، ويتبين هذا بوجهين:
الأول: أن الربط بمستوى الأسعار لا يمكن أن يحقق العدل في جميع المعاملات، وذلك لاستحالة أن يكون الربط القياسي علاجاً من مرض التضخم، فإن ربط جميع العقود والمدفوعات المؤجلة أمر مستحيل من الناحية العملية، وتطبيقه على نطاق واسع صعب التنفيذ؛ لتناقضه مع إحدى أهم مميزات النقود، وهي القدرة على إتمام المعاملات بتكاليف متدنية، وذلك أن الربط القياسي على نطاق واسع يلغي هذه الميزة( ).
يجاب: بأن استحالة كون الربط عاماً شاملاً في جميع المعاملات لا يمنع من العمل به في بعضها دفعاً لما يمكن دفعه من الضرر الحاصل بالتضخم، فما لا يدرك كله لا يترك كله. ثم إن المقصود الأساسي من الربط هو التخفيف من الأضرار الناجمة عن التضخم النقدي ولم يزعم مؤيدوه أنه يخفف من نسبة التضخم، أو يوقف ارتفاع معدله( ).
الثاني: أن الربط بمستوى الأسعار يحصل به التظالم الذي نهى عنه الله تعالى في آيات الربا في قوله تعالى: {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} ( )؛ لأن المدين يرد بالربط أكثر من رأس ماله( ).
يجاب: بأن هذه الزيادة ليس فيها ظلم للمدين؛ لأنها لا تلزمه بأكثر مما أخذ حقيقة من حيث القيمة، كما أنها تدفع عن الدائن ما قد يقع عليه من الظلم بسبب نقص قيمة النقود، فالدائن لم يأخذ إلا رأس ماله قيمة، وإن كان قد يزيد صورة وعدداً.
رابعاً: أن الأصل في المعاملات الحل والإباحة( )، فلا ((يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دل الكتاب والسنة على تحريمه))( )، ولا دليل على تحريم الربط القياسي بمستوى الأسعار، فيبقى على الأصل( )، كما أن الحاجة داعية إليه، وذلك لما تتسم به النقود الورقية من كثرة التذبذب والتقلب وحدّتها وكثرة المداينات( ).
يناقش هذا: بما يأتي من أدلة القائلين الدالة على عدم جواز ربط المدفوعات المؤجلة بمستوى الأسعار.
يجاب على هذا: بما سأذكره في مناقشة أدلة القائلين بعدم جواز ربط المدفوعات المؤجلة بمستوى الأسعار.
خامساً: أن عدم الأخذ بالربط يفضي إلى امتناع الناس عن المداينات وكذا القروض( )؛ لأن عدم الربط في حال التضخم يسبب نقص القيمة التبادلية للنقود لا سيما في الديون والقروض الطويلة الأجل.
يناقش هذا: بأن القرض عقد إرفاق وقربة وإحسان، ليس مقصوده المعاوضة والربح( )، ولذلك لا ينظر إلى هذا النقص في قيمة النقود.
يجاب عن هذا: بأن القول بالربط لا يخرج القرض عن هذا الوصف؛ لأنه ليس الغاية منه الربح والتكسب، بل غاية الربط ومقصوده رد مثل ما اقترض حقيقة لا صورة.
سادساً: إن عدم الربط بمستوى الأسعار مع وجود الاضطراب في قيمة النقود الشرائية التبادلية سيفضي إلى تعميق الخلاف بين أرباب الأعمال من جهة وبين الأجراء والعمال من جهة أخرى، وهذا سيؤدي إلى نشوء احتقان في سوق العمل يظهر في مطالبة العمال والجهات الراعية لهم بزيادة الأجور مقابل ارتفاع تكاليف المعيشة، وسيواجه ذلك من أصحاب الأعمال بمحاولة الامتناع من ذلك من خلال عدة طرق إما بالبحث عن أيدٍ عاملة تقبل بأجور منخفضة أو بتسريح العمالة للتخفيف من ضغط الأجور والمطالبة بالزيادة أو غير ذلك من الطرق( ). فإن لم يمكن أصحاب الأعمال التخلص من الضغوط العمالية المطالبة بزيادة الأجور فسيضطرون إلى تعديل العقود، فإذا كان التضخم النقدي متصاعداً، فسيحتاج أرباب الأعمال إلى تعديل متكرر مما يجعل بذور الاختلاف قائمة بينهم وبين العمال. ولذلك فإن الحل بالربط يهون على الطرفين كثيراً من تلك الإشكالات، ويغني عن تكرار تعديلات العقود.
أدلة القول الثاني
استدل أصحاب هذا القول بعدة أدلة:
أولاً: مثلية الأوراق النقدية، وهذا يقتضي وجوب رد المثل في وفاء الديون والقروض. والربط القياسي بمستوى الأسعار يفضي إلى الزيادة على ما ثبت في الذمة من الديون والقروض فيما إذا ارتفع معدل مستوى الأسعار. فتكون هذه الزيادة في الدين مقابل الأجل، وهذا هو ربا الجاهلية الذي ثبت تحريمه بالكتاب والسنة والإجماع( ). أما الربط عند تقديم القروض فهذه الزيادة مشروطة في العقد، وهذا مما وقع الإجماع على تحريمه( ).
يناقش هذا بما يأتي:
الأول: أن الأوراق النقدية لا يسوغ ولا يصح اعتبارها مثلية مطلقاً مع امتداد الوقت واختلاف الأحوال، وذلك لأن القوة التبادلية للنقود تختلف مع امتداد الوقت، وهذا يخرجها في الحقيقة عن كونها مثلية كما تقدم.
الثاني: أن الزيادة في الديون والقروض ليست مقابل الأجل، بل هي مقابل ما يطرأ على النقود من نقص القيمة، ولذلك لا أثر لمدة الدين أو القرض في هذه الزيادة، بل المؤثر في ذلك هو تغير مستوى الأسعار.
الثالث: أن هذه الزيادة ليست مؤكدة الحصول عند التعاقد، بل هي معلقة بارتفاع المستوى العام للأسعار، وقد تفضي إلى رد أقل من قدر الدين أو القرض في حال الانكماش، وإن كان هذا نادراً جداً، بل قد لا يحدث.
الرابع: أن هذه الزيادة زيادة صورية لا حقيقية؛ إذ إن قيمة الأوراق النقدية لا تزيد بالزيادة الحاصلة بالربط بمستوى الأسعار فإذا كان قدر الدين أو القرض ألف ريال مثلاً وارتفع مؤشر مستوى الأسعار عند الوفاء عشرة في المائة، فالواجب رده ألف ومائة ريال. فالمائة الريال لا تعدو كونها زيادة صورية. أما الزيادة الحقيقية فلا وجود لها، فإنه لا يحصل من الألف والمائة الريال أكثر مما كان يحصله بالألف قبل ارتفاع معدل الأسعار( ).
ثانياً: قول النبي لابن عمر رضي الله عنهما- لما سأله عن أخذ الدراهم عن الدنانير، والدنانير عن الدراهم-: (( لا بأس أن تأخذها بسعر يومها، ما لم تتفرقا وبينكما شيء))( ).
وجه الدلالة: أن النبي لم يعتبر القيمة يوم الدين، بل فرضها يوم القضاء حيث قال : (( بسعر يومها))، ((وهذا صريح في عدم اعتبار تغير الأسعار))( ).
يناقش هذا بما يأتي:
الأول: أن ما جاء في الحديث من كون بيع الدراهم بالدنانير يشترط فيه أن يكون بسعر يوم الصرف والقضاء هو من أحكام بيع الدين حيث باع ابن عمر الدنانير التي في ذمة المدين بالدراهم والعكس، فلا يصح الاحتجاج بهذا الحديث على عدم جواز الربط القياسي بمستوى الأسعار؛ لأن الربط القياسي بمستوى الأسعار لا يتضمن بيعاً للدين أو القرض فالوفاء يتم بنفس العملة التي ثبتت في ذمة المدين. وأما الزيادة التي قد تحصل بسبب الربط بمستوى الأسعار فهي ليست معاوضة عن الدين بل إنما هي لتحقيق المماثلة المعنوية بتعويض ما حصل من نقص في قيمة الشرائية التبادلية للنقود.
الثاني: أن علة كون بيع الدراهم بالدنانير يشترط فيه أن يكون بسعر يوم القضاء ليس عدم اعتبار تغير الأسعار، بل علة ذلك لئلا يربح فيما لم يدخل في ضمانه، حيث إنه لم يقبض الثمن فهو مضمون على المشتري، فإذا باعه البائع بربح قبل قبضه يكون قد ربح فيما لم يضمن( ).
الثالث: أن في قول النبي : (( لا بأس أن تأخذها بسعر يومها)) ما يدل على اعتبار تغير الأسعار، على عكس ما ذكرتم، وذلك أن النبي اشترط لصحة وفاء الدين الدراهم عن الدنانير أو الدنانير عن الدراهم أن يكون بسعر يوم الوفاء، والقضاء فاعتبر القيمة والسعر يوم وفاء الدين، وهذا هو المقصود من الربط القياسي بمستوى الأسعار. ولذلك استدل بهذا الحديث بعض من يرى جواز الربط بمستوى الأسعار عليه( ).
ثالثاً: أن الربط القياسي بمستوى الأسعار من المعايير يفضي إلى الغرر والجهالة في أثمان العقود المؤجلة الدفع، وذلك لأن كلاً من البائع والمشتري لا يدري مقدار ما يجب دفعه عند حلول الأجل، فيدخل ذلك فيما نهى عنه النبي من بيع الغرر( ). وعملية الربط القياسي بمستوى الأسعار شبيهة بالبيع بسعر السوق في وقت مستقبل، وهو ممنوع عند جميع الفقهاء( ).
يناقش هذا بما يأتي:
الأول: أنه لا غرر في الثمن، بل هو معلوم لطرفي العقد، والعمل بالربط القياسي بمستوى الأسعار ما هو إلا وسيلة وأداة لتثبيت القيمة الحقيقية للثمن.
الثاني: أنه على التسليم بأن الربط القياسي يفضي إلى نوع غرر في أثمان العقود المؤجلة الدفع فليس كل غرر يوجب التحريم، إذ لا تكاد تخلو معاملة من شيء من الغرر، ولذلك ذكر العلماء أوصافاً للغرر الذي يتسامح فيه ولا يؤثر منعاً. فمن ذلك أن تدعو حاجة الناس إلى معاملة فيها غرر لو تركها الناس لتضرروا في الحال أو المآل( )، فهنا يغتفر ما في المعاملة من غرر إزاء ما يندفع به عن الناس من ضرر بسبب اضطراب قيمة الأوراق النقدية وتذبذبها( ).
الثالث: تنظير الربط القياسي بمستوى الأسعار بالبيع بسعر السوق في وقت مستقبل غير متوجه؛ لأن الثمن في حال الربط معلوم بما يتفق عليه المتعاقدان، وغاية ما في الأمر إضافة نسبة الربط في حال التضخم النقدي، وهذه النسبة وظيفتها المحافظة على القيمة الحقيقية للثمن، وليست ثمناً جديداً. ثم إن ثمن الشيء المعقود عليه قد يزيد على الثمن المعدل بالربط عند الوفاء أو ينقص عنه. على أن القول بأن البيع بسعر السوق في وقت مستقبل ممنوع عند جميع الفقهاء يحتاج إلى تحرير، إذ إن في كلام الفقهاء من الصور ما علق فيه البيع بثمن مستقبل وحكوا فيه الخلاف( ).
رابعاً: ربط المدفوعات المؤجلة بتغير مستوى الأسعار فيه قلب للأوضاع السليمة؛ إذ الأصل أن النقود على اختلاف أنواعها هي ((المعيار الذي يعرف به تقويم الأموال))( )، السلع وغيرها. والربط يقلب ذلك فيجعل معيار التقويم للسلع لا للأثمان والنقود( ).
يناقش هذا: بأن الربط القياسي بمستوى الأسعار إحدى الوسائل المستعملة في تثبيت قيمة الديون والقروض، وتكاليف العقود الممتدة وغيرها، ولا يتضمن إلغاء حقيقة أن النقود هي معيار التقويم. ولو سُلم ذلك فإنه يكون خروجاً عن الأصل لحاجة تصحيح ما حصل من اضطراب بسبب التضخم النقدي، وهذا لا يعد نقضاً للأصل ولا إلغاء له.
خامساً: ربط القروض بتغير مستوى الأسعار قد يؤدي إلى أن يأخذ المقترض أكثر مما يربحه أصحاب الاستثمارات التجارية، إذ قد يزيد معدل التضخم على نسبة ربح الاستثمارات، فيشجع ذلك أصحاب الأموال على الإقراض، بدلاً من استثمارها عن طريق التجارة( ).
يناقش هذا بما يأتي:
الأول: أن إفضاء ربط القروض بتغير مستوى الأسعار إلى أن يحصل المقترض أكثر مما يربحه أصحاب الاستثمارات احتمال وارد، ولكنه في الحقيقة نادر إذ إن الغالب أن معدل الاستثمار يراعى فيه حساب معدل التضخم النقدي.
الثاني: أنه لا يسلَّم كون ربط القروض بتغير مستوى الأسعار يشجع على الإقراض بدلاً من الاستثمارات التجارية، إذ إن القروض يكتنفها إمكانية عدم قدرة المقترض على رد القرض، وهذا الذي يمنع أكثر الناس من الإقراض.
الثالث: أن هذا المحذور يمكن تلافيه بأن يجعل من ضوابط العمل بربط القروض بتغير مستوى الأسعار أن يكون معدله أدنى من معدل الربح( ).
الرابع: أن هذا الإيراد مقابل بنظيره في قول المجيزين للربط، وهو أن القول بعدم جواز الربط يفضي إلى إحجام الناس عن الإقراض( )؛ لما يترتب عليه من نقصان القيمة التبادلية للنقود لا سيما في أوقات التضخم النقدي، وكذلك إذا طالت مدة القرض.
سادساً: (( اتفاق المتقدمين من الفقهاء على عدم جواز ربط القروض بتغير الأسعار))( )، ويتضح هذا من خلال كلام الفقهاء رحمهم الله في مسألة غلاء الفلوس ورخصها.
يناقش هذا بما يأتي:
الأول: أن الربط القياسي لم يكن معروفاً لدى الفقهاء المتقدمين، فلا وجه لحكاية الاتفاق على ما لم يتكلموا عنه، لا سيما وأن مسألة غلاء الفلوس ورخصها وما ذكره الفقهاء فيها لا ينطبق على الربط القياسي.
الثاني: أن المسألة التي بني عليها حكاية الاتفاق على عدم جواز الربط بتغير الأسعار، وهي مسألة غلاء الفلوس ورخصها ليست مما اتفق فيه أهل العلم على قول واحد، بل فيها خلاف بينهم، وقد تقدم بيان ذلك في مبحث تغيرات قيمة النقود عند الفقهاء المتقدمين( ).
سابعاً: أن الربط القياسي بمستوى الأسعار يعتمد على الأرقام القياسية في التوصل إلى نسبة التضخم النقدي، وقد تقدم أن هذه الأرقام مؤشرات تقريبية وليست دقيقة، لما يكتنفها من مشكلات وصعوبات تؤثر في دقة هذه الأرقام( ). فيكون الربط القياسي بمستوى الأسعار قائماً على الخرص والتخمين والمجازفة( ).
يناقش هذا بما يأتي:
الأول: أن هذه الأرقام القياسية رغم ما يكتنفها من صعوبات وإشكالات تفيد دلالة تقريبية في معرفة نسبة التضخم النقدي. وهذا لا يلغي اعتبارها؛ لأن دلالتها ظنية، فقد دلت الأدلة الشرعية على اعتبار الظن الغالب، والعمل به عند تعذر اليقين( ).
الثاني: أن هذا النقد يتوجه لطريقة الربط المعمول بها، لا إلى أصل الربط، وفي هذه الحال يمكن أن يتوجه النقاش إلى طريقة الربط، ويُبحث عن أقرب المقاييس دقة وجودة( ).
أدلة القول الثالث
أخذ أصحاب هذا القول بأدلة القائلين بعدم جواز الربط مطلقاً في منع جواز ربط القروض وما شابهها من الديون بمستوى الأسعار، وأخذوا بأدلة القائلين بجواز الربط مطلقاً في القول بجواز ربط الرواتب والأجورات والحقوق بمستوى الأسعار( ).
الترجيح
الذي يترجح للباحث من هذه الأقوال جواز ربط الديون والقروض والمدفوعات المؤجلة بمستوى الأسعار من حيث الأصل؛ لقوة أدلته في الجملة، وشدة الحاجة إلى وسيلة تخفف من الأضرار الناتجة عن التضخم النقدي.
ولكن مع هذا لا بد من ملاحظة بعض القيود والضوابط لإحكام العمل بالربط القياسي بمستوى الأسعار، والسلامة من المحاذير الشرعية التي ذكرها القائلون بالمنع وعدم الجواز.
ويمكن إجمال أبرز هذه القيود والضوابط في النقاط التالية( ):
أولاً: أنه لا يجوز الاتفاق على الربط القياسي بمستوى الأسعار عند التعاقد، إلا إذا كان التضخم النقدي واقعاً أو متوقعاً.
ثانياً: أنه لا يعمل بالربط القياسي بمستوى الأسعار في كل تغير، بل في التضخم النقدي الذي يلحق الدائن به ضرر زائد على العادة، مما لا يتغابن الناس بمثله.
ثالثاً: أنه لا يعمل بالربط القياسي بمستوى الأسعار فيما يمكن الدائن أو المستحق أخذ ماله متى شاء، كالأرصدة النقدية في البنوك والمصارف.
رابعاً: ألا يقتصر على هذه الوسيلة في مواجهة التضخم النقدي، بل لا بد من اتخاذ التدابير والسياسات التي تعالج هذه المشكلة.
المطلب الثاني: التكييف الفقهي للربط القياسي بالذهب وحكمه
ربط الديون والقروض والمدفوعات المؤجلة بسعر الذهب لتثبيت قيمتها لا تتناوله الدراسات الاقتصادية، لقلة العمل به اكتفاء بالأرقام القياسية لمستوى الأسعار. ولما كان العمل بهذا النوع قليلاً في معاملات الناس لم يتناوله الباحثون الشرعيون بدراسة مستقلة، وإنما ذكره بعض الباحثين بديلاً عن الربط القياسي بمستوى الأسعار( ).
والذي يظهر للباحث أن الربط القياسي بالذهب لا يختلف عن الربط القياسي بمستوى الأسعار خلافاً وترجيحاً.
وقد أشار قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثامنة عام 1414هـ إلى أنه لا يجوز الاتفاق على تسجيل الدين في ذمة المدين بما يعادل قيمة النقود الورقية من الذهب( ).
ومن الجدير بالذكر أن بعض من لا يرى جواز الربط بالمستوى العام للأسعار قال بجواز الربط القياسي بسعر الذهب في تثبيت قيمة الديون والقروض، وتكاليف العقود الممتدة وغيرها، وذلك للأوجه التالية:
أولاً: أن ربط النقود الاصطلاحية بالذهب معمول به في عدة مسائل لم يختلف الفقهاء في قبولها. من ذلك: ربط نصاب زكاة النقود الاصطلاحية بأدنى نصابي الذهب والفضة، وكذلك نصاب القطع في السرقة، وهذا نوع من الربط القياسي( ).
يناقش هذا الوجه: بأن هذه الأمثلة تفيد في اعتبار قيمة النقود الورقية بما يمكن أن تحصله من الذهب في بعض المسائل. لكن هذا لا يكفي في القول بجواز الربط بسعر الذهب؛ لأنه زائد على مجرد اعتبار القيمة في نصاب الزكاة والسرقة. بل إن ربط الديون والقروض والمدفوعات المؤجلة بسعر الذهب يختلف في الطريقة والغاية عن هذه المسائل.
أما المخالفة في الطريقة فطريقة الربط القياسي بالذهب تتلخص في أن الديون والقروض والمدفوعات المؤجلة تربط بسعر الذهب عند إنشائها. فتقاس قيمة هذه الديون والقروض والمدفوعات المؤجلة وقوتها الشرائية بما تحصله من الذهب يوم التعاقد، فيكون الثابت في ذمة المدين ومن عليه الحق في هذه العقود والمعاملات من الأوراق النقدية هو ما يحصّل به ذلك القدر من الذهب يوم الدفع والوفاء. أما ربط النقود الاصطلاحية بالذهب المعمول به في المسائل المذكورة فهو مجرد نظر في القدر الذي تحصله النقود الاصطلاحية من الذهب لمعرفة ما يترتب على ذلك من الأحكام.
أما المخالفة في الغاية فمقصود الربط القياسي بالذهب تثبيت قيمة الديون والقروض والمدفوعات المؤجلة. أما الغاية من ربط النقود الاصطلاحية بالذهب المعمول به في المسائل المذكورة فهو إلحاقها بها فيما يثبت لها من الأحكام.
ومع هذا الاختلاف فإنه لا يسوغ اعتبار هذه المسألة بتلك المسائل.
ثانياً: أن الربط بالذهب عود بالنقود الاصطلاحية إلى الأصل الذي كانت عليه إلى عهد قريب، بل حتى بعد أن ألغي غطاء النقود الورقية من الذهب فلا تزال أكثر العملات رواجاً في العالم تستمد قيمتها وقبولها منه. فأقوى العملات في العالم اليوم هي تلك التي حافظت على علاقة مستقرة مع الذهب( )، ومهما يكن من أمر فإن لهذه العلاقة نوع أثر في ذلك الاستقرار.
ثالثاً: أن الربط بالذهب أقرب إلى تحقيق العدل من الربط بمستوى الأسعار، وذلك لما يأتي( ):
الأول: أن سعر الذهب يُعدُّ أفضل المؤشرات الدالة على اتجاه الأسعار؛ لسلامته من صعوبات وإشكالات الأرقام القياسية لمستوى الأسعار.
الثاني: أن الربط بالذهب يُعدُّ أفضل الوسائل لاستقرار قيمة الديون والقروض والمدفوعات المؤجلة، وذلك لما يمتاز به سعر الذهب من الثبات النسبي لا سيما في المدد الطويلة( ) .
الثالث: أن سعر الذهب يتميز بالاستقلالية وضعف تأثير القوى المؤثرة في الأسعار من دول وبنوك وشركات وأفراد على سعره.
ولا ريب أن هذه المزايا للربط بالذهب ترجحه عند الاختيار على الربط بالمستوى العام للأسعار، إلا أن ربط الديون والقروض والمدفوعات المؤجلة بسعر الذهب تمنعه النظم المالية في كثير من البلدان، ويُعدُّ العمل به مخالفاً للنظام العام؛ لأن ذلك يُفقد الثقة بنظام نقد البلد، ويفضي إلى عدم استقرار قيمة العملة فيها( ).
ومهما يكن من أمر فالذي يظهر للباحث أن فقد الربط بالمستوى العام للأسعار المعمول به في أكثر دول العالم لهذه المزايا، لا يسوّغ القول بمنعه وعدم جوازه؛ لأن محور الاختلاف بين هذين النوعين من أنواع الربط القياسي إنما هو في مستوى الدقة والجودة في تحقيق المقصود من الربط، وهو تثبيت قيمة الديون والقروض، والمدفوعات المؤجلة، وهذا الاختلاف لا يرقى إلى منع العمل بالربط القياسي بمستوى الأسعار إذا تعذر الربط بسعر الذهب؛ لكون أكثر النظم الماليةفي بلدان العالم تمنعه؛ فما لا يدرك كله لا يترك كله.
المطلب الثالث: التكييف الفقهي للربط القياسي بعملة أو سلة عملات وحكمه
ربط الديون والقروض والمدفوعات المؤجلة بعملة أو بسلة عملات فيه للفقهاء المعاصرين قولان:
القول الأول: جواز ربط الديون والقروض والمدفوعات المؤجلة بعملة أو بسلة عملات.
وقد اختار هذا بعض الباحثين( ).
القول الثاني: عدم جواز ربط الديون والقروض والمدفوعات المؤجلة بعملة أو بسلة عملات.
وهذا ما أوصت به الحلقة العلمية التي نظمت في البنك الإسلامي للتنمية المنعقدة لدراسة موضوع ربط الحقوق والالتزامات بتغير الأسعار عام 1407هـ( )، وهو ما تضمنه قرار مجلس مجمع الفقه الإسلام في دورته الثامنة عام 1414هـ( )، وأكدته توصيات البيان الختامي لنفس المجلس في دورته الثانية عشرة عام 1421هـ( ).
ولم أقف على من قال بالتفصيل بين القروض والديون وبين غيرها من المدفوعات المؤجلة، وهو قول محتمل، والله أعلم.
وقد حاول بعض الباحثين الاقتصاديين أن يتلمس لهذا النوع من الربط القياسي أصلاً في كلام الفقهاء المتقدمين. من ذلك ما ذكره بعض فقهاء المالكية من أنه ((إذا باع بنصف دينار من صرف عشرين بدينار فليس له إلا عشرة دراهم، وإن غلا الدينار , وإذا باع بعشرة دراهم من صرف عشرين بدينار فليس له إلا نصف عشرين بدينار، أي: فليس له إلا نصف دينار، وإن رخص))( )، فقد جعله بعض الباحثين أصلاً للربط القياسي بعملة أخرى. فقال بعد أن نقل ما ذكر ابن رشد( ) ~ في البيان والتحصيل في هذه المسألة: ((والشاهد هنا ظهور مسألة الربط، حيث عند التعاقد شرط أو حدد البائع أن يكون الثمن هو عدداً معيناً من عملة ما منظوراً إليه في ضوء سعر صرفه بعملة أخرى...، وهذا ربط بعملة مغايرة، ...والأهم أنه يـبين أن الذي له هو العملة المربوط بها، وهي الدينار وليس العملة المبيع بها ظاهرياً، وهي الدراهم، وأوضح أن له ما ربط به مهما تحول أو تغيّر سعر الصرف))( ).
وهذا الاستنتاج لا يخلو من نظر؛ لأن المسألة المذكورة إنما هي فيما إذا تعددت أنواع الدراهم باعتبار مقدار صرفها من الدنانير، فللبائع تحديد الثمن من الدراهم بالنظر إلى مقدار صرفها من الدنانير يوم العقد، فيكون الثمن هو ذلك القدر من الدراهم سواء كان البيع مؤجلاً أو حالاً. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ~: (( قوله: بعتك بألف درهم صرف عشرين بدينار، فإن الدينار المعبر عنه بالدراهم ليس هو المقصود ثمناً، وإنما المقصود الدراهم المسماة غير أنه قدَّرها بما ليس مقصوداً بالعقد))( ).
أما أدلة أقوال هذه المسألة فقد استدلوا بما استدل به أصحاب الأقوال في مسألة الربط القياسي بمستوى الأسعار.
والذي يظهر للباحث جواز هذا النوع من الربط سواء كان ربطاً بعملة واحدة أو بسلة عملات؛ لأن الأصل في المعاملات الحل، وليس هناك ما يوجب التحريم، والله أعلم.
المطلب الرابع: التكييف الفقهي للربط القياسي بسعر الفائدة وحكمه
ربط الديون والقروض والمدفوعات المؤجلة بسعر الفائدة لتثبيت قيمة الديون والقروض، وتكاليف العقود الممتدة وغيرها غير جائز.
هذا ما أوصى به مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية عشرة عام 1421هـ( ). حيث عدوا الربط القياسي بسعر الفائدة عند إبرام العقد فيما لا يجوز استعماله من وسائل تثبيت قيمة المدفوعات الآجلة.
أما دليل عدم جواز الربط القياسي بسعر الفائدة في تثبيت قيمة المدفوعات المؤجلة فهو أن الربط القياسي بسعر الفائدة يستند ويقوم على ما يعرف بالفائدة؛ وهي ما يدفعه المقترض أو المدين مقابل الانتفاع بالقرض أو الدين، أو مقابل التأخير في التسديد.
وقد اتفقت قرارات المجامع الفقهية والمجالس العلمية واللجان والهيئات الشرعية على أن الفائدة بجميع أنواعها وأشكالها من الربا( )، الذي جاء تحريمه بالكتاب والسنة وأجمع عليه علماء الأمة( )، وتحريمه معلوم من الدين بالضرورة( )، ويعدُّ تحريمه أصلاً من أصول الشريعة في باب المعاملات.
فبناء على هذا يكون استعمال الربط القياسي بسعر الفائدة في تثبيت قيمة الديون والقروض، وتكاليف العقود الممتدة وغيرها محرماً غير جائز؛ لأنه يتضمن اعتبار ما ألغاه الله ورسوله وحرماه، وهذا لا يسوغ ولا يجوز. وقد لاحظ مجلس مجمع الفقه الإسلامي هذا المأخذ فكان من جملة ما أوصى به في دورته الثامنة عام 1414هـ عند بحثه مشكلات البنوك الإسلامية العمل على إيجاد مؤشر لتحديد هامش الربح في المعاملات والاستثمارات، يكون بديلاً عن معدل أو سعر الفائدة الربوية الذي تعتمده البنوك التجارية( ).
الفصل الثاني تفعيل نظرية( ) الظروف الطارئة
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: حقيقة نظرية الظروف الطارئة.
المبحث الثاني: التكييف الفقهي لتفعيل نظرية الظروف
الطارئة وحكمه.
المبحث الأول: حقيقة نظرية الظروف الطارئة.
المطلب الأول: معنى الظروف الطارئة.
الظروف في اللغة: جمع ظرف، ومعناه دائر على وعاء الشيء( )، ومن ذلك إطلاق الظرف على الحال( ). فالظروف: الأحوال.
أما كلمة الطارئة: فهي مؤنث الطارئ؛ اسم فاعل من طرأ. ومعناها ((الداهية التي لا يعرف من أين أتت))( ).
فالظروف الطارئة في اللغة هي الأحوال النازلة العظيمة التي لا يعرف من أين أتت ولا كيف حصلت.
أما الفقهاء فلم يستعملوا هذا المصطلح في مؤلفاتهم وكتبهم فيما وقفت عليه. وقد جرى استعمال هذا المصطلح عند علماء القانون.
فالظروف الطارئة في علم القانون: هي الحوادث الاستثنائية العامة التي ليس في الوسع توقعها عند إبرام العقد، ويترتب على حدوثها أن يصير تنفيذ الالتزام مرهقاً للمدين بحيث يهدده بخسارة كبيرة( ).
المطلب الثاني: بيان نظرية الظروف الطارئة
نظرية الظروف الطارئة: هي إحدى النظريات التي تُعنى بمعالجة وتعديل العقود المتراخية التنفيذ في الأحوال المفاجئة والحوادث غير المتوقعة( ).
فيمكن من خلال هذه النظرية تعديل العقود المتراخية التنفيذ عند حصول حوادث طارئة غير متوقعة وخير وسيلة لعرض هذه النظرية أن نضرب لها مثلاً من الواقع لإظهار العناصر التي تتألف منها وتتميز بها.
فلو تعهد تاجر بتوريد سلعة ثم طرأ حادث مفاجئ جعل تنفيذ العقد مستحيلاً، كان هذا الحادث الطارئ قوة قاهرة( ) ينـتقض بسببه الالتزام.
ولو طرأ هذا الحادث، وكان من شأنه أن يجعل تنفيذ الالتزام ممكناً، ولكن يعود بخسارة على التاجر لا تخرج عن الحد المألوف، فلا يؤثر ذلك في العقد، ويبقى المدين ملزماً بتنفيذه إلزاماً كاملاً.
ولكن النظرية تقوم على افتراض آخر لا يكون فيه تنفيذ الالتزام مستحيلاً بل ممكناً، وإنما يؤدي إلى إرهاق المدين وتهديده بخسارة فادحة تخرج عن حد المألوف، كارتفاع أسعار السلعة التي تعهد التاجر بتوريدها ارتفاعاً فاحشاً( ). وفي هذه الحال ((تقول نظرية الحوادث الطارئة: لا ينقضي التزام المدين؛ لأن الحادث الطارئ ليس قوة قاهرة، ولا يبقى التزامه كما هو لأنه مرهق، ولكن يرد القاضي الالتزام إلى الحد المعقول حتى يطيق المدين تنفيذه))( )، ولو كان المدين لا يطيقه إلا بمشقة، لكن من غير إرهاق.
((فالفكرة الأساسية في نظرية الظروف الطارئة أنها وسيلة قانونية لإعادة التوازن بين التزامات طرفي العقد بعد أن اختل ذلك التوازن اختلالاً شديداً بينهما بحيث أصبح التزام المدين لا يتناسب مطلقاً مع التزام الدائن، ويحقق خسائر شديدة للمدين إذا نفذ الالتزام كما نص عليه في العقد))( ).
المبحث الثاني: التكييف الفقهي لتفعيل نظرية الظروف الطارئة وحكمه
نظرية الظروف الطارئة: هي إحدى النظريات القانونية المشهورة التي تناولها الباحثون في القانون بالشرح والبيان، ولم يتطرق لها الفقهاء بالدراسة والبحث بهذا الاسم فيما اطلعت عليه.
والذي يظهر للباحث أن أول من حاول تلمس أصول لنظرية الظروف الطارئة في الفقه الإسلامي هو الدكتور عبد السلام الترمانيني( ) في كتابه نظرية الظروف الطارئة حيث عقد فصلاً للمقارنة بين نظرية الضرورة في الشريعة الإسلامية وبين نظرية الظروف الطارئة في القانون المدني انتهى فيه إلى أنه يمكن القول ((بأن هذه النظرية الأخيرة نظرية الظروف الطارئة تُعدُّ من جملة تطبيقات نظرية الضرورة))( ).
وقد تقدم الدكتور مصطفى الزرقا إلى المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة باقتراح تضمن الاستفادة من نظرية الظروف الطارئة في حلِّ ما يترتب على التضخم النقدي من اختلال العلاقات التعاقدية. فقام المجمع بدراسة هذه النظرية في دورته الخامسة عام 1402هـ وانتهى إلى اعتبار الظروف الطارئة في تعديل الالتزامات والحقوق في العقود المتراخية التنفيذ كعقد التوريد مثلاً( ).
أما أدلة صحة اعتبار نظرية الظروف الطارئة في حلِّ ما يترتب على التضخم النقدي من اختلال العلاقات التعاقدية فهي على النحو التالي:
أولاً: أن نظرية الظروف الطارئة وسيلة من وسائل إقامة العدل الذي هو من أهم مقاصد الشريعة في باب المعاملات، والله لم يحصر طرق العدل وأدلته وعلاماته في شيء من الطرق دون غيرها، بل ((إذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه ))( ). ((فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين))( )؛ لأن ((الطرق أسباب ووسائل لا تراد لذواتها، وإنما المراد غاياتها))( ).
ويتبين وجه تحقيق العدل في تفعيل نظرية الظروف الطارئة في حلِّ ما يترتب على التضخم النقدي من اختلال العلاقات التعاقدية بأنه بمقتضى هذه النظرية يعاد التوازن بين التزامات طرفي العقد بما يحقق العدل وتحصل به مصلحة الطرفين. إذ إن في إيجاب رد مثل ما ترتب في ذمة المدين في هذه العقود، دون اعتبار لما طرأ من نقص في القيمة التبادلية للنقود إغفالاً للعدل الذي لا تستقيم معاملات الناس إلا به؛ لأن تغير القيمة عن وقت التعاقد تغيراً كبيراً يؤدي إلى ظلم أحد طرفي العقد بما لم تجر العادة بمثله، مما يستوجب تعديل الالتزام بما يحقق العدل وتحصل به مصلحة الطرفين.
ثانياً: أن نظرية الظروف الطارئة وسيلة من وسائل تحقيق الرضا الذي جعله الله شرطاً لإباحة التجارات كما في قول الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } ( ). وذلك أن العوض في العقود والالتزامات الآجلة ليس هو العوض الذي رضي به مستحقه قبل انخفاض القيمة التبادلية للنقود الورقية، فإلزامه به بعد ما طرأ من نقص في قيمته إلزام له بما لم يرض، وفي هذا تفويت للرضا الذي هو شرط إباحة التجارات.
ثالثاً: قول النبي u: (( لا ضرر، ولا ضرار))( ).
وجه الدلالة:
أن هذا الحديث يقرر واحداً من مقاصد الشريعة في الأحكام، وهو دفع المفاسد أو تخفيفها( ). ومما يدخل في هذا أنه إذا ترتب على الالتزام بالعقد ضرر خارج عن العادة لم يتسبب فيه المتعاقدان فإن ذلك يوجب تدبيراً استثنائياً يدفع به ما زاد على العادة من الضرر( ).
رابعاً: النظائر الفقهية في فقه المذاهب التي أجاز فيها الفقهاء تعديل الالتزامات التعاقدية نتيجة تغيرات وأمور طارئة في عدة عقود لم تكن قائمة وقت التعاقد، ومن تلك النظائر:
الأول: فسخ عقد الإجارة إذا تعذر استيفاء المنفعة بسبب الطوارىء العامة والخاصة وقد ذكر الفقهاء لذلك صوراً كثيرة عند كلامهم على الأسباب التي ينفسخ بها عقد الإجارة.
وأقتصر هنا على بعض الشواهد من كلام الفقهاء:
قال الكاساني ~ عند ذكر ما يحصل به فسخ الإجارة: (( فإن حدث بأحدهما أو بالمستأجر عذر لا يبقى العقد لازماً، وله أن يفسخ)). ثم قال في التعليل لذلك: (( بأن الحاجة تدعو إلى الفسخ عند العذر; لأنه لو لزم العقد عند تحقق العذر; للزم صاحب العذر ضرر لم يلتزمه بالعقد...، فكان الفسخ في الحقيقة امتناعاً من التزام الضرر))( ).
وقال الزيلعي( ) ~ عند ذكر ما تنفسخ به الإجارة: ((وتنفسخ بالعذر: وهو عجز العاقد عن المضي في موجبه، أي: موجب العقد إلا بتحمل ضرر زائد لم يستحق به، أي: بالعقد. كمن استأجر رجلاً ليقلع ضرسه فسكن الوجع، أو ليطبخ له طعام الوليمة فاختلعت منه، أو حانوتاً( ) ليتجر فأفلس...))( ).
وقال الشيخ محمد عليش( ) ~ عند ذكر ما يحصل به فسخ الإجارة: ((وفسخ كراء الحوانيت بسبب أمر السلطان بإغلاق الحوانيت لعدم إمكان مخالفة أمره. وكذلك الحوانيت يأمر السلطان بغلقها. وكذلك الجائحة في المكتري للسكنى من أمر غالب لا يستطيع دفعه من سلطان أو غاصب، فهي بمنزلة ما لو منعه أمر من الله تعالى، كانهدام الدار وامتناع ماء السماء حتى منعه حرث الأرض فلا كراء عليه في ذلك كله؛ لأنه لم يصل إلى ما اكترى))( ).
ثم قال نقلاً عن بعض فقهاء المالكية: ((من اكترى رحا( ) سنة فأصاب أهل ذلك المكان فتنة جلوا بها من منازلهم وجلا معهم المكتري، أو بقي آمناً إلا أنه لا يأتيه الطعام لجلاء الناس فهو كبطلان الرحا من نقص الماء أو كثرته( )، ويوضع عنه قدر المدة التي جلوا فيها))( ).
وقال الهيتمي ~ عند ذكر ما تنفسخ به الإجارة: ((والأصح أنها تنفسخ بانهدام الدار كلها، ولو بفعل المستأجر؛ لزوال الاسم، وفوات المنفعة قبل الاستيفاء)).
وقال أيضاً: ((تعطل الرحا بانقطاع مائها والحمام لنحو خلل أبنيتها أو نقص ماء بئرها يفسخها)).
ثم ذكر الهيتمي نظائر لهذا في فقه الشافعية فقال: (( منها: قولهم: لو عرض أثناء المدة ما ينقص المنفعة كخلل يحتاج لعمارة وحدوث ثلج بسطح حدث من تركه عيب ولم يبادر المؤجر لإصلاحه تخير المستأجر، وقولهم: لو اكترى أرضاً فغرقت وتوقع انحسار الماء في المدة تخير وغير ذلك))( ).
وقال في بيان ما تنفسخ به الإجارة: ((وحدوث خوف عام يمنع من سكنى المكان الذي فيه العين المؤجرة أو حصر البلد; فامتنع خروج المستأجر إلى الأرض المؤجرة للزرع;كغصب فللمستأجر الخيار)).
وقال أيضاً: (( ولو اكترى دابة ليركبها أو ليحمل عليها إلى موضع معين, فانقطعت الطريق إلى جهة ذلك الموضع لخوف حادث, أو اكترى إلى مكة فلم يحج الناس ذلك العام من تلك الطريق ملك كل من المؤجر والمستأجر فسخ الإجارة))( ).
الثاني: تعديل العقود على الثمار إذا أصابتها جائحة؛ لقول جابر : أمر النبي بوضع الجوائح( )، ويحصل ذلك بإسقاط ما يقابل الهالك من الثمار من ثمن العقد.
وبهذه الأدلة يتبين صحة اعتبار نظرية الظروف الطارئة في معالجة ما يترتب على التضخم النقدي من اختلال العلاقات التعاقدية، وتعديل الالتزامات والحقوق الآجلة. لكن ينبغي أن يقيد ذلك بالتضخم النقدي غير المتوقع الذي يحصل به اختلال في الالتزام يتضرر به أحد طرفي العقد، وذلك في حال كون التضخم النقدي جامحاً أو متسارعاً.
وفيما يلي نص ما انتهى إليه مجلس المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة في دورته الخامسة عام 1404هـ: ((ففي ضوء هذه القواعد والنصوص المعروضة التي تنير طريق الحل الفقهي السديد في هذه القضية المستجدة الأهمية يقرر الفقه الإسلامي ما يلي:
1- في العقود المتراخية التنفيذ (كعقود التوريد، والتعهدات، والمقاولات) إذا تبدلت الظروف التي تم فيها التعاقد تبدلاًً غير الأوضاع والتكاليف والأسعار تغييراً كبيراً بأسباب طارئة عامة لم تكن متوقعة حين التعاقد، فأصبح بها تنفيذ الالتزام العقدي يلحق بالملتزم خسائر جسيمة غير معتادة من تقلبات الأسعار في طرق التجارة، ولم يكن ذلك نتيجة تقصير وإهمال من الملتزم في تنفيذ التزاماته، فإنه يحق للقاضي في هذه الحالة عند التنازع وبناء على الطلب تعديل الحقوق والالتزامات العقدية بصورة توزع القدر المتجاوز للمتعاقد من الخسارة على الطرفين المتعاقدين، كما يجوز له أن يفسخ العقد فيما لم يتم تنفيذه منه إذا رأى أن فسخه أصلح وأسهل في القضية المعروضة عليه، وذلك مع تعويض عادل للملتزم له صاحب الحق في التنفيذ، يجبر له جانباً معقولاً من الخسارة التي تلحقه من فسخ العقد بحيث يتحقق عدل بينهما دون إرهاق للملتزم ويعتمد القاضي في هذه الموازنات جميعاً رأي أهل الخبرة الثقات.
2- ويحق للقاضي أيضاً أن يمهل الملتزم إذا وجد أن السبب الطارئ قابل للزوال في وقت قصير، ولا يتضرر الملتزم له كثيراً بهذا الإمهال.
هذا وإن مجلس المجمع الفقهي يرى في هذا الحل المستمد من أصول الشريعة تحقيقاً للعدل الواجب بين طرفي العقد، ومنعاً للضرر المرهق لأحد العاقدين بسبب لا يد له فيه، وأن هذا الحل أشبه بالفقه الشرعي الحكيم، وأقرب إلى قواعد الشريعة ومقاصدها العامة وعدلها، والله ولي التوفيق))( ).
ويلاحظ فيما انتهى إليه مجلس المجمع الفقهي الإسلامي من قرار بشأن تفعيل نظرية الظروف الطارئة في معالجة ما يترتب على التضخم النقدي من اختلال العلاقات التعاقدية أمران:
الأمر الأول: أن إعمال هذه النظرية وتفعيلها من اختصاص القضاء، وقد نص على ذلك قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة حيث جاء فيه: (( ولا يخفى أن طريق التدخل في مثل تلك الأحوال المعروضة آنفاً في العقود المتراخية التنفيذ لأجل إيجاد الحل العادل الذي يزيل الجور إنما هو من اختصاص القضاء))( ). وذلك واضح أيضاً في شرح القرار لطريقة إعمال هذه النظرية.
الأمر الثاني: ظاهر قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة قصر إعمال نظرية الظروف الطارئة فيما يتعلق بمعالجة أثر تغير قيمة النقود في العقود المتراخية التنفيذ فقط حيث لم يتضمن القرار ذكر غيرها. وهذا متفق مع ما يجري عليه العمل عند أهل القانون حيث لم يعتبروا نظرية الظروف الطارئة فيما يتعلق بتغير قيمة النقود( ).
والذي يظهر للباحث أنه لا مانع في ضوء ما سبق تقريره من توسيع دائرة إعمال نظرية الظروف الطارئة وتفعيلها حتى فيما يتعلق بوفاء الديون، والله أعلم.
الفصل الثالث التسوية القضائية
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: حقيقة التسوية القضائية.
المبحث الثاني: التكييف الفقهي للتسوية القضائية وبيان
حكمها.
المبحث الأول: حقيقة التسوية القضائية
من أبرز الآثار التي تنتج بسبب التضخم النقدي اختلال العلاقات التعاقدية سواء عقود المداينات أو العقود المستمرة كالإجارات الطويلة, وعقود المقاولات والتوريد, وما أشبهها. وذلك أن التضخم النقدي سبب لانخفاض قيمة النقود التبادلية التي تم التعاقد عليها مما يؤدي إلى تضرر أحد طرفي العقد, فينشأ عن ذلك منازعات بين المتعاقدين.
فيحتاج الناس في حسم تلك المنازعات وقطع ما ينشأ من خصومات إلى القضاء؛ لفصل ما وقع من ذلك وقطعه.
فحقيقة التسوية القضائية: هي تقويم المال بفصل الخصومة وحسم المنازعة. وذلك بأن ينظر القاضي فيما شجر بين المتعاقدين من نزاع واختلاف بسبب انخفاض قيمة النقود الشرائية التبادلية.
وللقاضي في فصل تلك الخصومات طريقان:
الطريق الأول: دعاء المتخاصمين إلى الصلح. وذلك بأن يدعوهما القاضي إلى المصالحة والتراضي بما يقطع النزاع بينهما, فيتحمل كل طرف جزءاً من الضرر المترتب على تغير قيمة النقود, فيوزع الفرق الناشئ عن التضخم النقدي بين المدين والدائن بحيث لا يستقل أحدهما بالضرر( ).
الطريق الثاني: قطع الحكم بينهما وإبرام القضاء. وذلك بأن يصدر القاضي حكماً لازماً للمتخاصمين يتحرى فيه العدل والصواب بحيث يوزع الضرر الناتج عن التضخم النقدي بين المدين والدائن( ).
ومما يجدر التنبه له أنه لا يسوغ اللجوء إلى التسوية القضائية لحلِّّ الاختلال في العلاقات التعاقدية الناتجة عن التضخم النقدي إلا على القول بأن الواجب للدائن فيما إذا طرأ تضخم نقدي قيمة ما ثبت من الأوراق النقدية في ذمة المدين، و إلا فلا تجوز التسوية القضائية لا بالصلح ولا بالقضاء. وذلك لأن التسوية القضائية بالصلح على أكثر من الدين يدخل في الصلح الذي يحل حراماً؛ لعدم جواز الزيادة في الدين. وأما التسوية القضائية بالقضاء والحكم فلا تجوز أيضاً؛ لأنه قضاء بمحرم إذ إنه سيتضمن الإلزام برد أكثر مما أخذ( ).
المبحث الثاني: التكييف الفقهي للتسوية القضائية وبيان حكمها
المطلب الأول: التكييف الفقهي للتسوية القضائية بالصلح
ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية( )، والمالكية( )، والشافعية( )، والحنابلة( ) إلى أن للقاضي أن يأمر المختصمين بالصلح ويدعوهما إليه في عدة أحوال منها( ):
الأولى: مواضع الاشتباه كتقارب حجج الخصوم وتعارض الأدلة.
الثانية: أن يخشى بفصل القضاء بينهم تفاقم الأمر واتساع النزاع وحصول الفتنة.
الثالثة: أن يطول الخصام ويكثر التشعيب فيه.
قال السرخسي: ((القاضي مندوب إليه أن يدعو الخصم إلى الصلح خصوصا في موضع اشتباه الأمر))( ).
قال الخرشي( ): ((وأمر بالصلح ذوي الفضل والرحم كأن خشي تفاقم الأمر))( ).
قال ابن قدامة فيما يجب على القاضي: ((وإن كان فيها لبس أمرهما بالصلح))( ).
وقد استدلوا لذلك بما يأتي:
أولاً: قول الله : {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } ( ).
وجه الدلالة: أن الله وصف في هذه الآية ((جنس الصلح بالخيرية. ومعلوم أن الباطل لا يوصف بالخيرية, فكان كل صلح مشروعاً بظاهر هذا النص إلا ما خص بدليل))( ). ووجه العموم فيها دخول الألف واللام على لفظ الصلح، وهما يفيدان الاستغراق( ).
ثانياً: قول النبي : ((الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرَّم حلالاً أو أحلَّ حراماً))( ).
ثالثاً: قول عمر : ((ردوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يحدث بين القوم الضغائن))( ).
وقد حمل أهل العلم قول عمر هذا على ما إذا كان يترتب على فصل القضاء مفسدة، أو اشتبه الأمر على القاضي. ففي هذه الحال يصار إلى الصلح قطعاً للمنازعة والمشاجرة ودفعاً لسبب الفساد وإطفاء لثائرة الفتن( ).
أما ما يتعلق بتسوية ما ترتب على التضخم النقدي من اختلال العلاقات التعاقدية والنزاعات عن طريق الصلح فقد قال به بعض الفقهاء.
قال الشيخ عبدالله أبا بطين( ) ~ بعد حكاية قول شيخ الإسلام ابن تيمية في وجوب رد القيمة عند تغير قيمة النقود: ((فكلام الشيخ صريح في أنه يوجب رد القيمة أيضاً, وهو أقوى. فإذا رفع إلينا مثل ذلك وسَّطنا بالصلح بحسب الإمكان هيبة الجزم بذلك))( ).
وقد ذكر ابن عابدين ~ الأخذ بالصلح في مسألة قريبة من مسألة تغير القيمة. وهي فيما إذا تمَّ العقد على نقد لم يبين نوعه، وفي البلد عدة أنواع من النقود رائجة مختلفة القيمة، فإنه لا سبيل إلى تعيين أحدها إلا بالصلح. قال ابن عابدين في رسالته تنبيه الرقود على مسائل النقود: ((فينبغي وقوع الصلح على الأوسط))( ).
وقد ذكر جماعة من الباحثين الصلح وسيلة من وسائل معالجة التضخم النقدي( ), فتضمنته توصيات ومقترحات البيان الختامي للدورة الثانية عشرة لمجمع الفقه الإسلامي المنعقدة في الرياض عام 1420هـ لدراسة قضايا التضخم النقدي( ).
المطلب الثاني: التكييف الفقهي للتسوية القضائية بقضاء الحاكم
المصير إلى القضاء لحل النزاعات المترتبة على تغير قيمة النقود مسلك ذكره بعض متأخري فقهاء الحنفية( ).
وقد تضمن قرار مجلة المجمع الفقهي الإسلامي في دورته الخامسة عام 1402هـ الإشارة إلى هذا الطريق حيث جاء فيه: ((فإنه يحق للقاضي في هذه الحال عند التنازع وبناء على الطلب تعديل الحقوق والالتزامات العقدية بصورة توزع القدر المتجاوز للمتعاقد من الخسارة على الطرفين المتعاقدين, كما يجوز له أن يفسخ العقد فيما لم يتم تنفيذه فيه إذا رأى أن فسخه أصلح في القضية المعروضة عليه. وذلك مع تعويض عادل للملتزم له صاحب الحق في التنفيذ, يجبر له جانباً معقولاً من الخسارة التي تلحقه من فسخ العقد بحيث يتحقق عدل بينهما دون إرهاق للملتزم. ويعتمد القاضي في هذه الموازنات جميعاً رأي أهل الخبرة الثقات)). وجاء في القرار أيضاً: ((ويحق للقاضي أن يمهل الملتزم إذا وجد أن السبب الطارئ قابل للزوال في وقت قصير, ولا يتضرر الملتزم له كثيراً بهذا الإمهال))( ).
وقد أوصى به أيضاً البيان الختامي للندوة الفقهية الاقتصادية لدراسة قضايا التضخم النقدي في الدورة الثانية عشرة لمجمع الفقه الإسلامي( )، وقد ذكره جماعة من الباحثين( ).
واللجوء إلى القضاء لحل المشكلات المترتبة على التضخم النقدي قد يكون ضرورة. وذلك فيما إذا تعذر الصلح بين طرفي العقد. فإن القضاء إنما شرع لفصل الخصومات ورفع المنازعات على وجه الإلزام للمتخاصمين بما ينتهي إليه القاضي( ). ومع توفر هذه الميزة في الرجوع إلى القضاء, وهي حسم الخصومة وقطعها على وجه الإلزام إلا أن من الباحثين من لم يره طريقاً عملياً ناجعاً لحل المشكلات المترتبة على التضخم النقدي؛ للوجهين التاليين:
أولاً: أن تعديل قيمة الديون والمدفوعات الآجلة فيما إذا نقصت القيمة التبادلية للنقود الورقية التي جرى بها التعاقد مخالف لما ذهب إليه جمهور الفقهاء من وجوب رد المثل في الديون والمدفوعات المؤجلة( ).
يناقش هذا: بأن القضاء وسيلة لفضِّ النزاع بين الناس سواء ذهب القاضي إلى القول برد القيمة أو القول برد المثل. فالرد إلى القضاء خير من بقاء المنازعات وقيام الخصومات.
ثانياً: أن الرد إلى القضاء لا يصلح وسيلة لحل ما يترتب على التضخم النقدي من مشكلات ومنازعات, وذلك للأمور التالية:
الأول: أن إعادة النظر في الالتزامات عند تغير قيمة النقود أمر يصاحبه كثير من الصعوبات الفنية والعملية. وذلك أن العقود الآجلة والممتدة لا تتوافق من حيث تواريخ إنشائها وسدادها وربما يكون بعضها منجم التسديد على أقساط هذا من جهة. ومن جهة أخرى أن أكثر العقود انتشاراً في تعاملات الناس اليوم على مستوى الأفراد والشركات هي العقود الآجلة الدفع( ).
الثاني: أن غالب الجهات القضائية في العالم الإسلامي لا تعتبر التغير في قيمة النقود الورقية مؤثراً في الالتزامات المالية( ).
الثالث: البطء الشديد الذي يتسم به سير القضاء في كثير من الجهات القضائية مما يؤدي إلى تفاقم الإشكالات وزيادة المنازعات لا سيما مع استمرار انخفاض القيمة التبادلية للنقود.
يناقش هذا: بأن هذه الأمور تعوق هذه الوسيلة من وسائل معالجة آثار التضخم النقدي، لكنها لا تحول دون استعمالها. ويمكن تفادي هذه العوائق بما ذكره بعض الباحثين في اللجوء إلى التحكيم( ).
وذلك بأن يتفق الطرفان المتنازعان على تولية حاكم يحكم بينهما لفصل الخصومة( ). وهذا جائز باتفاق الفقهاء( )، فالتحكيم فرع من القضاء وشعبة منه( ), وبه يحصل حسم المنازعة وفصل الخصومة مع المرونة والسهولة والسرعة( ).
الفصل الرابع التسعير
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: حقيقة التسعير.
المبحث الثاني: التكييف الفقهي للعمل بالتسعير في معالجة آثار التضخم النقدي.
المبحث الأول: حقيقة التسعير
المطلب الأول: تعريف التسعير
التسعير في اللغة: مأخوذ من أَسْعَرَ، وهو مصدر من سَعَّر. ومعناه تقدير السِّعْرِ وتحديده. فتسعير الشيء أن يجعل له سعراً معلوماً ينتهي إليه( ).
أما التسعير في الاصطلاح الفقهي فقد عرَّفه الفقهاء بتعريفات متعددة، وأبرز ما وقفت عليه من ذلك التعريفات التالية:
عرَّفه بعض فقهاء المالكية فقال في تعريفه: ((تحديد حاكم السوق لبائع المأكول فيه قدراً للمبيع بدرهم معلوم))( ).
وعرَّفه بعض فقهاء الشافعية فقال في تعريفه: ((أن يأمر الوالي السوقة أن لا يبيعوا أمتعتهم إلا بسعر كذا))( ).
وعرَّفه بعض فقهاء الحنابلة فقال: ((التسعير تقدير السلطان أو نائبه للناس سعراً, ويجبرهم على التبايع به))( ).
وهذه التعريفات تجتمع في أن التسعير: إجراء من قبل الجهات ذات الاختصاص بتقدير الأسعار وإلزام أهل الأسواق بأن لا يبيعوا إلا بالسعر المحدد، فيمنعون من الزيادة عليه تحقيقاً لمصلحة عامة( ).
المطلب الثاني: التسعير والتضخم النقدي
تحديد أسعار السـلع والخدمات يرجع إلى ما يعرف في علم الاقتصاد بقانون العرض والطلب. وخلاصة هذا القانون أن سعر أي سلعة أو خدمة يتوقف على مستوى طلبها من المشترين ومستوى عرضها من البائعين. وكل من هذين المستويين تحكمه عوامل معينة تؤثر فيه ( ).
فمستوى الطلب يؤثر فيه عدة عوامل أبرزها:
الأول: عدد الراغبين في شراء هذه السلع والخدمات وقدرتهم على الشراء.
الثاني: أسعار السلع والخدمات البديلة التي يمكن أن تلبي رغبة المشترين.
أما مستوى العرض فيتأثر بعدة عوامل أبرزها:
الأول: الكمية الموجودة لدى البائعين والمنتجين.
الثاني: تكلفة إنتاج هذه السلع والخدمات.
الثالث: عدد المنتجين.
ولما كان الارتفاع العام في أسعار السلع والخدمات هو معيار قياس التضخم النقدي حيث إن التضخم النقدي حركة صعودية للأسعار تتصف بالاستمرار الذاتي تنتج عن كثرة الطلب الزائد على قدرة العرض، فإن من الوسائل المقترحة والأدوات الاقتصادية المستعملة في معالجة آثار التضخم النقدي تسعير السلع والخدمات، وذلك بتثبيت الأسعار وتحديدها. وقد قامت عدة دول بتفعيل سياسة التسعير للحد من الضغوط التضخمية والارتفاعات المتلاحقة لأسعار السلع والخدمات. ومن أشهر تلك الدول البرازيل والأرجنتين. ومن الملاحظ على تلك التجارب أن تأثيرها لم يدم طويلاً، بل إن التضخم النقدي عاود جموحه بعد فترة قصيرة من النجاح، وذلك بسبب الاقتصار على هذه السياسة دون دعمها بالإجراءات المالية والنقدية الأخرى( ).
واستعمال التسعير في معالجة آثار التضخم النقدي يحقق فائدتين:
الأولى: كبح ارتفاع أسعار السلع والخدمات التي لم يزد الطلب عليها، أو التي لم ترتفع تكاليف إنتاجها حماية للمشترين من مسايرة أصحاب السلع والخدمات للاتجاه التصاعدي للأسعار( ).
الثانية: تشجيع الناس على الادخار ونقص الاستهلاك، فإنه في الظروف التضخمية وتصاعد الأسعار يزيد الطلب على السلع والخدمات تلافياً للشراء بأسعار أكثر ارتفاعاً في المستقبل. وهذا المسلك لا يزيد الأمر إلا شدة والتضخم النقدي إلا زيادة( ). فالتسعير يعطي المستهلك طمأنينة في أن ما يحتاجه غداً سيحصله بنفس سعر اليوم فلا داعي إلى شرائه قبل وقت حاجته، فيتقلص بذلك أثر توقعات معدل التضخم النقدي في قرار الشراء الاستباقي أي السابق على الحاجة الفعلية( ).
المبحث الثاني: التكييف الفقهي للعمل بالتسعير في معالجة آثار التضخم النقدي
المطلب الأول: الأصل في التسعير
ذهب جمهور العلماء من الحنفية( )، والمالكية( )، والشافعية( )، والحنابلة( )إلى أن الأصل عدم جواز التسعير لما يأتي من الأدلة:
أولاً: قول الله : { إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } ( ).
وجه الدلالة:
أن الله تعالى جعل التراضي شرطاً لإباحة التجارات، والتسعير يفوت ذلك، إذ إنه يتضمن إلزام أصحاب السلع والخدمات أن يبيعوا بما لا يرضون( ).
ثانياً: قول النبي : ((إنما البيع عن تراض))( ).
ثالثاً: قول النبي ﷺ: ((لا يحل لامرئ من مال أخيه شيء إلا بطيب نفس منه))( ).
وجه الدلالة:
أن التسعير يتضمن أخذ الأموال من غير طيب نفس من أصحابها فتدخل في عموم ما نهى عنه الرسول ( ).
رابعاً: ما جاء عن أنس بن مالك قال: غلا السعر على عهد رسول الله ، فقالوا: يا رسول الله سعِّر لنا. فقال رسول الله : ((إن الله هو المُسَعِّر القابض الباسط الرزاق، وإني لأرجو أن ألقى ربي، وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال))( ).
خامساً: ما جاء عن أبي هريرة t أن رجلاً جاء، فقال: يا رسول الله سعِّر، فقال: ((بل أدعو))، ثم جاءه رجل، فقال: يا رسول الله سعِّر، فقال: ((بل الله يخفض ويرفع، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة))( ).
وجه الدلالة في الحديثين:
أن النبي ﷺ امتنع من التسعير وجعله مظلمة يرجو ألا يلقى الله بها. ووجه الظلم في التسعير أن الناس مسلطون على أموالهم، والتسعير حجر عليهم، وإجبار لهم على ما لا يرضون وهذا ظلم لهم( ).كما أن ((الإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين، وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن))( )، فمراعاة أحدهما ظلم للآخر.
سادساً: أن التسعير قد يفضي إلى اختلال قانون العرض والطلب فيحصل بذلك خلل في الأنشطة الاقتصادية. ومن أبرز ذلك غلاء الأسعار وارتفاعها؛ لأن كثرة القيود على التجارة والاستثمار يؤدي غالباً إلى صرف التجار والمستثمرين إلى أسواق أقل قيوداً، فيطلبون لسلعهم أسواقاً لا يكرهون فيها على البيع بغير ما يريدون، وهذا يؤدي إلى قلة العرض فيرتفع السعر. وكذلك قد يحمل التسعير أصحاب السلع والخدمات إلى أن يمتنعوا من بيعها, بل يكتمونها فيطلبها المستهلكون فلا يجدونها إلا قليلاً, فيرفعون في ثمنها؛ ليصلوا إليها, فتغلو بذلك الأسعار. ويحصل الإضرار بالجانبين: جانب الملاك في منعهم من بيع أملاكهم, وجانب المشتري في منعه من الوصول إلى غرضه( ).
المطلب الثاني: التسعير للمصلحة
اختلف أهل العلم في حكم التسعير وإلزام أهل التجارات وأرباب السلع والخدمات البيع بثمن معين إذا اقتضى ذلك مصلحة على قولين:
القول الأول: يجوز لولي الأمر والجهات ذات الاختصاص التسعير وتحديد أسعار السلع والخدمات إذا اقتضى ذلك مصلحة العامة.
وهذا هو مذهب الحنفية( )، والمالكية( )، ووجه عند الحنابلة( )، اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية( ).
القول الثاني: لا يجوز لولي الأمر والجهات ذات الاختصاص التسعير وتحديد أسعار السلع والخدمات، ولو اقتضى ذلك مصلحة العامة.
وهذا هو مذهب الشافعية( )، والحنابلة( )، وابن حزم من الظاهرية( ).
أدلة القول الأول
أولاً: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: ((من أعتق شِرْكاً له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوِّم العبد عليه قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد))( ).
وجه الدلالة:
أن هذا الحديث يُعدُّ ((أصلاً في جواز إخراج الشيء من ملك صاحبه قهراً بثمنه , للمصلحة الراجحة, كما في الشفعة. والمقصود: أنه إذا كان الشارع يوجب إخراج الشيء عن ملك مالكه بعوض المثل؛ لمصلحة تكميل العتق, ولم يمكن المالك من المطالبة بالزيادة على القيمة, فكيف إذا كانت الحاجة بالناس إلى التملك أعظم, وهم إليها أضر؟ مثل حاجة المضطر إلى الطعام والشراب واللباس وغيره. وهذا الذي أمر به النبي من تقويم الجميع قيمة المثل: هو حقيقة التسعير))( ).
ثانياً: قصة عمر بن الخطاب t مع حاطب بن أبي بلتعة( )t حيث وجده يبيع الزبيب بالمدينة، فقال: كيف تبيع يا حاطب؟ فقال: مدين بدرهم. فقال: ((تبتاعون بأبوابنا وأفنيتنا وأسواقنا وتقطعون في رقابنا، ثم تبيعون كيف شئتم! بع صاعاً، و إلا فلا تبع في سوقنا))( ).
وجه الدلالة:
أن أمر عمر t لحاطب بن أبي بلتعة t بأن يبيع الصاع بدرهم نوع من التسعير، وعمر t له سنة متبعة( )، فهو داخل في قول النبي ﷺ: ((فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ))( ).
ثالثاً: أن التسعير من الوسائل المهمة التي يستفيد منها ولاة أمور المسلمين في تحقيق العدل وتحصيل المصالح العامة( )؛ ذلك أن إطلاق حرية التجارة دون تحديد للأسعار قد يفضي إلى الاحتكار( )طلباً لارتفاع أكبر للأسعار( ). قال شيخ الإسلام ابن تيمية ~: ((وإذا تضمن، أي: التسعير، العدل بين الناس مثل: إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل، فهو جائز; بل واجب))( ). وإذا كان كذلك فإن الوسائل لها أحكام المقاصد( ).
أدلة القول الثاني
استدل المانعون من جواز التسعير بالأدلة التي تقدم ذكرها في أن الأصل عدم جواز التسعير.
وقد نوقشت تلك الأدلة بالمناقشات التالية:
أولاً: استدلالهم على عدم جواز التسعير بأن التسعير يفوّت التراضي الذي جعله الله مبيحاً للتجارة، وأنه أخذ للأموال من غير طيب نفس من أصحابها.
يناقش: بأن الأصل في عقود المعاوضات أنها لا تجوز إلا بالتراضي كما دلت النصوص، إلا في مواضع استثناها الشارع، الجامع فيها أنه إكراه بحق.
ومن ذلك أنه ((يجوز الإكراه على البيع بحق في مواضع مثل: بيع المال لقضاء الدين الواجب والنفقة الواجبة. والإكراه على ألا يبيع إلا بثمن المثل لا يجوز إلا بحق ويجوز في مواضع; مثل: المضطر إلى طعام الغير ومثل: الغراس والبناء الذي في ملك الغير ; فإن لرب الأرض أن يأخذه بقيمة المثل لا بأكثر. ونظائره كثيرة))( ).
ومما يدل على ذلك أيضاً ما تقدم في أدلة المجوزين من حديث ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال ~: ((من أعتق شِرْكاً له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوِّم العبد عليه قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد)). وكذلك قصة عمر مع حاطب ـ رضي الله عنهما ـ.
((ولعل من استقرأ الشريعة تبين له أن المعاوضة إذا احتاج المسلمون إليها بلا ضرر يزيد على حاجة المسلمين وجبت، فأما عند عدم الحاجة ومع حاجة رب المال المكافية لحاجة المعتاض فرب المال أولى; فإن الضرر لا يزال بالضرر، والرجل أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين))( ).
ثانياً: استدلالهم على عدم جواز التسعير بأن النبي ﷺ امتنع من التسعير وجعله مظلمة.
يناقش هذا: بأنه لا يصح الاستدلال بهذا على منع التسعير, وذلك أن ((هذه قضية معينة ليست لفظاً عاماً))( )، ومعلوم أن قضايا الأعيان( ) لا عموم لها ولا حجة فيها إلا في مثلها. وعليه فلا يصح الاستدلال بامتناع النبي من التسعير في هذه الحادثة على منعه مطلقاً، إذ يجوز أن يكون امتناعه من التسعير؛ لسبب اقتضاه أو لاستحسان رآه، فلعل النبي ﷺ امتنع من التسعير وجعله مظلمة لما طلب منه؛ لأنه لم يمتنع أحد من بيع يجب عليه أو أنه لم يطلب أحد في بيع يجب عليه أكثر من عوض المثل. فالأحاديث ((ليس فيها أن أحداً امتنع من بيع يجب عليه أو عمل يجب عليه; أو طلب في ذلك أكثر من عوض المثل. ومعلوم أن الشيء إذا رغب الناس في المزايدة فيه، فإذا كان صاحبه قد بذله كما جرت به العادة، ولكن الناس تزايدوا فيه، فهنا لا يسعَّر عليهم، والمدينة كما ذكرنا إنما كان الطعام الذي يباع فيها غالباً من الجلب( ); وقد يباع فيها شيء يزرع فيها; وإنما كان يزرع فيها الشعير; فلم يكن البائعون ولا المشترون ناساً معينين; ولم يكن هناك أحد يحتاج الناس إلى عينه أو إلى ماله; ليجبر على عمل أو على بيع...، وكان إكراه البائعين على أن لا يبيعوا سلعهم إلا بثمن معين إكراهاً بغير حق، وإذا لم يكن يجوز إكراههم على أصل البيع، فإكراههم على تقدير الثمن كذلك لا يجوز))( ). فترك النبي التسعير لعدم الحاجة إليه، فما ((قاله النبي حق وما فعله حكم، لكن على قوم صح ثباتهم، واستسلموا إلى ربهم. وأما قوم قصدوا أكل أموال الناس والتضييق، فباب الله أوسع وحكمه أمضى))( )، والتسعير في تلك الحال من الحق.
ثالثاً: استدلالهم على عدم جواز التسعير بأن التسعير قد يفضي إلى غلاء الأسعار وارتفاعها بسبب اختلال قانون العرض والطلب.
يناقش هذا: بأن الغاية من التسعير إقامة العدل ورفع الضرر عن البلاد والعباد، فإذا كان يترتب عليه مفاسد وظلم فإنه لا يجوز، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ~: ((السعر منه ما هو ظلم لا يجوز، ومنه ما هو عدل جائز. فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباحه الله لهم فهو حرام. وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل فهو جائز، بل واجب))( ).
فكون التسعير قد يترتب عليه شيء من الظلم لا يسوّغ ذلك منعه بالكلية، بل الواجب تحري العدل في استعماله؛ لتحصيل المصالح المترتبة عليه. ولذلك ذكر العلماء أنه يجب في التسعير أن يكون عن علم بأحوال الأسواق، وأن يراعى في ذلك مصلحة جميع أصحاب السلع والخدمات والمستهلكين.
قال ابن العربي( )~ بعد ذكر اختلاف العلماء في حكم التسعير: ((والحق: التسعير، وضبط الأمر على قانون لا تكون فيه مظلمة على أحد من الطائفتين. وذلك قانون لا يعرف إلا بالضبط للأوقات ومقادير الأموال))( ).
وقال ابن القيم( )~: ((وجماع الأمر: أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير سعَّر عليهم تسعير عدل, لا وكس ولا شطط, وإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل))( ).
الترجيح
الذي يترجح للباحث أن التسعير جائز إذا كان يتحقق به العدل بين الناس وتحصَّل به مصالحهم.
ومن ذلك استعمال التسعير في معالجة آثار التضخم النقدي، والسيطرة عليه, وتحقيق العدالة الاجتماعية بإنصاف الفئات الأكثر تضرراً من الاختلال الناتج عن التضخم النقدي.
فالتسعير يمنع ارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية التي يقوم عليها معاش الناس. كما أن التسعير يعمل على طمأنة المستهلك من توالي ارتفاع المستوى العام للأسعار، فيحدُّ ذلك من الشراء الذي يستبق به الناس ارتفاع الأسعار مع عدم حاجتهم لتلك المشتريات.
ومما يجب ملاحظته في استعمال التسعير أن بناءه على تحصيل مصلحة الناس، فيجب اتخاذ التدابير الكافية في تحقيق ذلك. كما يجب إجراء مراجعة العوامل المؤثرة في الأسعار؛ لئلا يجحف بأصحاب السلع والخدمات.
الفصل الخامس تفعيل إخراج الزكاة
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: حقيقة تفعيل إخراج الزكاة.
المبحث الثاني: التكييف الفقهي لتفعيل إخراج الزكاة وبيان حكمه.
المبحث الأول: حقيقة تفعيل إخراج الزكاة
الزكاة عبادة ذات طابع مالي( ). فرضها الله على أهل الإسلام، فقال مخاطباً رسوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } ( ). ولما بعث النبي معاذاً إلى اليمن قال له في بيان ما يدعوهم إليه: ((فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم))( ). ومن رحمة الله بعباده أنه فرض الزكاة في الأموال النامية سواء ما ينمو بنفسه كالماشية والحرث، أو ما ينمو بالتصرف فيه كالذهب والفضة وما يقوم مقامهما من النقود( ).
وقد بيَّن الله ـ تعالى ـ في كتابه الحكيم الجهات التي تصرف هذه الزكاة لها وفيها، فقال : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ( ).
وقد فصلت السنة النبوية الشريفة القدر الواجب من الزكاة في كل نوع من أموال الزكاة على وجه تتحقق به المصالح والغايات المقصودة من هذه الفريضة العظيمة دون إجحاف بأصحاب الأموال.
ومما تقدم يتبين أن الزكاة لها أثر فاعل في اقتصاديات الأمة الإسلامية. وأنها وسيلة يمكن أن يحقق من خلالها العديد من الأهداف الاقتصادية والتنموية في المجتمع المسلم، مثل: مكافحة الفقر والإقلال منه، وإعادة توزيع الدخول، وتحريك الدورة الإنتاجية نحو النمو والازدهار، وتنشيط الاستثمار، وغير ذلك من الجوانب الاقتصادية المتنوعة. يقول الدكتور منذر قحف أحد الباحثين في الاقتصاد الإسلامي: ((لم يعرف العالم بأسره نظاماً اقتصادياً مثل النظام الإسلامي في حله لمشكلة تراكم الثروة المعطلة دون أن تستثمر في تحسين الأحوال المعاشية للمجتمع، والزكاة تعمل على سرعة دوران رأس المال إذ إنها تشجع صاحب المال بطريق غير مباشر على استثمار أمواله حتى يتحقق فائض يؤدي منه الزكاة، ومن ثمَّ فقد استفاد صاحب المال من استثماره بالربح، وأفاد المجتمع بأداء حق المستحقين بالزكاة.وهذا ما يؤدي إلى دوران رأس المال وتحريكه، فالزكاة دافع للأموال نحو الاستثمار))( ). وقد كُتب في ذلك العديد من البحوث والدراسات والمقالات النافعة( ).
والذي يهم إبرازه في هذه الدراسة هو ما يتعلق بأثر الزكاة في معالجة آثار التضخم النقدي. ويمكن أن يتبين أثر إخراج الزكاة فيما يتعلق بالتضخم النقدي من خلال إدراك أن الدفع بأموال الزكاة لا سيما الأموال النقدية إلى مستحقيها من أهل الزكاة كالفقراء والمساكين وغيرهم سيزيد من قدرتهم الشرائية الاستهلاكية لا سيما إذا كان إخراج أكثر الناس زكاة أموالهم من النقود في فترة محددة كشهر رمضان. وهذا سيؤدي بدوره دون شك إلى الزيادة في الطلب على السلع الاستهلاكية والخدمات، و سينتج عن هذا ارتفاع في المستوى العام للأسعار مما يعني ازدياد معدل التضخم النقدي. ولمعالجة هذا اقترح بعض الباحثين الاقتصاديين وسيلتين( ):
الأولى: التأخر في إخراج الزكاة؛ وذلك لضبط زيادة الإنفاق الاستهلاكي الذي يفضي إلى ارتفاع معدل التضخم النقدي.
الثانية: صرف الزكاة في الأصناف التي لا يتسبب صرف الزكاة إليها في زيادة الإنفاق الاستهلاكي كمصرف: الغارمين، وفي سبيل الله.
المبحث الثاني: التكييف الفقهي لتفعيل إخراج الزكاة وبيان حكمه
المطلب الأول: تفعيل تأخير إخراج الزكاة في معالجة التضخم النقدي
ذهب جمهور أهل العلم من المالكية( )، والشافعية( )، والحنابلة( )إلى أن إخراج الزكاة إلى مستحقيها من أهل الزكاة واجب على الفور إذا تمت شروط وجوبها.
ومع أن هذا هو الأصل الذي ذهب إليه جمهور الفقهاء إلا أنهم قالوا بجواز تأخير إخراج الزكاة إذا اقتضى ذلك حاجة أو مصلحة راجحة، ويستوي في ذلك الزكاة التي قبضها ولي الأمر لصرفها، أو التي ما زالت في أيدي أصحاب الأموال.
قال المازري( ) ~: ((وللإمام تأخير إخراج الزكاة إذا أداه اجتهاده إليه))( ). وقد نص فقهاء المالكية على جواز طول تأخير الإمام صرف الزكاة إذا كان لمصلحة( ).
وقال الهيتمي ~ في تحفة المحتاج: ((إن أخَّر لانتظار قريب أو جار أو أحوج أو أصلح أو لطلب الأفضل من تفرقته بنفسه أو تفرقة الإمام أو للتروي عند الشك في استحقاق الحاضر ولم يشتد ضرر الحاضرين لم يأثم ))( ).
وقال البهوتي ~ في شرح منتهى الإرادات في بيان مسوغات تأخير إخراج الزكاة عن وقت وجوبها: ((وله تأخيرها أي: الزكاة؛ لشدة حاجة، أي: ليدفعها لمن حاجته أشد ممن هو حاضر نصّاً, وقيده جماعة بزمن يسير. وله تأخيرها؛ ليدفعها لقريب وجار؛ لأنها على القريب صدقة وصلة, والجار في معناه. وله تأخيرها لحاجته، أي: المالك إليها إلى ميسرته))( ).وقال في الإنصاف: ((يجوز للإمام والساعي تأخير الزكاة عند ربها لمصلحة,كقحط ونحوه جزم به الأصحاب))( ).
وقد استدلوا للجواز بما يأتي:
أولاً: أن النبي لما قيل له: إن بعض أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ ومنهم عمه العباس( ) قد منعوا الزكاة فقال : ((وأما العباس فهي عليه صدقة ومثلها معها))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي أخَّر الزكاة عن العباس ثم جعلها ديناً عليه يأخذه منه( ).
يناقش هذا: بأن هذا الوجه هو أحد الأقوال في بيان معنى قول النبي : ((فهي عليه صدقة ومثلها معها)). وقد قيل فيه غير ذلك.
فقيل( ):إن النبي جعل العباس مصرفاً لزكاته، وهذا قبل تحريمها على بني هاشم( ).
وقيل: إن النبي ألزم العباس ((بتضعيف صدقته ليكون أرفع لقدره وأنبه لذكره وأنفى للذم عنه، فالمعنى فهي صدقة ثابتة عليه سيصّدّق بها ويضيف إليها مثلها كرماً))( ).
وقيل( ): إن الضمير في قوله : ((فهي عليه )) يرجع إلى النبي ليكون موافقاً لرواية: ((فهي علي ومثلها معها))( ).
وقيل: غير ذلك( ).
ومع هذا الاختلاف في بيان سبب قول النبي : ((فهي عليه صدقة ومثلها معها))، وقيام هذه الاحتمالات فإنه لا يستقيم الاستدلال به على جواز تأخير الزكاة للمصلحة أو الحاجة؛ لأن ورود الاحتمال في الدليل يسقط الاستدلال به( ).
ثانياً: أن عمر أخَّر الزكاة عام الرمادة( )حتى إذا أحيا( )الناس في العام المقبل، وأسمن الناس، بعث إليهم من يأخذ منهم زكاة عامين( ).
وجه الدلالة:
أن الخليفة الراشد عمر أخَّر أخذ الزكاة في القحط وشدة الغلاء مراعاة لمصلحة أو حاجة( )، ويمكن القول: إن هذا التأخير في أخذ الزكاة سببه التضخم الناتج عن انقطاع السلع.
ثالثاً: قول النبي : ((لا ضرر ولا ضرار))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي نفى في هذا الحديث الضرر، فإذا كان إخراج الزكاة في وقتها يترتب عليه ضرر عام أو خاص فيجوز تأخيرها إلى وقت انتفائه دفعاً للضرر وتحصيلاً للمصلحة( ). ((فإن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان))( ).
ومن هذا كله يتبين أنه يجوز تأخير إخراج الزكاة عن وقتها إذا اقتضى ذلك حاجة أو مصلحة حتى على القول بوجوب إخراج الزكاة على الفور.
لكن على القول بجواز تأخير إخراج الزكاة في معالجة آثار التضخم النقدي يبقى النظر في أمرين:
الأمر الأول: كون تأخير إخراج الزكاة نافعاً في معالجة آثار التضخم النقدي، مؤثراً في الحد من معدل التضخم النقدي.
وهذا أمر تكتنفه عدة إشكالات من عدة جهات:
الأولى: أن نسبة الزكاة أقل من أن تؤثِّر تأثيراً كبيراً في معدل التضخم النقدي فربع العشر، وهو اثنان ونصف في المائة من النقود أو عروض التجارة، لا يتوقع أن يؤثِّر في مستوى الاستهلاك إلى حدٍّ يؤدي إلى ارتفاع نسبة التضخم النقدي.
الثانية: أن استهلاك أهل الزكاة لما حصَّلوه من أموال نقدية لن يكون جميعه في وقت واحد غالباً، بل سيكون موزعاً في مدد تختلف باختلاف حاجاتهم. وهذا من شأنه أن يخفف من تأثير ذلك في معدل التضخم النقدي.
الثالثة: أن تأخير إخراج الزكاة وإبقاءها في أيدي أصحاب الأموال لن يحل إشكالية ارتفاع معدل الاستهلاك؛ لأن زيادة كمية النقود في أيدي أصحاب الأموال قد يشجعهم على زيادة الإنفاق الاستهلاكي( ). ولذلك فإن الحلَّ قد يكون في تعجيل إخراج الزكاة للحد من قدرة أرباب الأموال على الإنفاق الاستهلاكي.
الرابعة: أنه يمكن تلافي ما قد ينجم عن إخراج الزكاة في وقتها من زيادة معدل التضخم النقدي بسبب زيادة الاستهلاك، وذلك بأن يخرج أصحاب الأموال زكاة أموالهم النقدية في وقتها إلى الإمام أو ما ينوب عنه من أجهزة الدولة، وهي تتولى صرفها إلى مستحقيها تدريجاً، فتبرأ بذلك ذمة صاحب المال؛ لأن الإمام أو نائبه يقومان مقام أهل الزكاة في قبضها( )، وهذا يصلح لحلِّ الإشكالية السابقة أيضاً.
الأمر الثاني: الموازنة بين المصالح الحاصلة بتأخير إخراج الزكاة في معالجة آثار التضخم النقدي وبين المفاسد المترتبة على التأخير، لا سيما وأنه في الظروف التضخمية ترتفع الأسعار فيؤدي ذلك إلى ارتفاع تكاليف المعيشة، فتتسع شريحة الفقراء والمساكين في المجتمع مما قد يستدعي ضرورة المبادرة إلى إخراج زكاة الأموال لسدِّ تلك الحاجات المترتبة على التضخم النقدي.
ومما ينبغي ملاحظته فيما إذا ثبت جدوى تأخير إخراج الزكاة في معالجة آثار التضخم النقدي ما يأتي:
أولاً: أن لا تطول مدة تأخير إخراج الزكاة؛ لئلا يفضي طول التأخير إلى منع المستحقين لها، أو شُحِّ أصحاب الأموال بها؛ لكثرة الزكاة نتيجة تراكمها بسبب التأخر في إخراجها.
ثانياً: أن يكون تأخير إخراج الزكاة بترتيب من ولاة الأمر وجهات حكومية تقريراً وتنفيذاً، فإن ذلك مما يتحقق به ضبط الأمر وإنجاح عملية معالجة التضخم النقدي.
المطلب الثاني: تخصيص صرف الزكاة ببعض الأصناف لمعالجة التضخم النقدي
من الوسائل المقترحة في معالجة التضخم النقدي عن طريق الزكاة توجيه أصحاب أموال الزكاة إلى إخراج زكاة أموالهم في الأصناف التي لا يفضي دفع الأموال لها أو فيها إلى زيادة معدل الإنفاق الاستهلاكي كالغارمين أو في سبيل الله.
لهذا فإن الحاجة داعية إلى معرفة أقوال أهل العلم في حكم صرف الزكاة إلى صنف واحد من الأصناف الثمانية دون بقية الأصناف التي ذكرها الله في آية قسم الصدقات في قوله :{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ( ). وقد اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: جواز صرف الزكاة إلى صنف واحد من الأصناف التي ذكرها الله في الآية، ولا يجب تعميم جميع الأصناف المذكورة فيها.
وهذا قول جمهور أهل العلم من الحنفية( )، والمالكية( )، والحنابلة( )، وغيرهم.
القول الثاني: يجب تعميم الأصناف إن وجدت في البلد الذي فيه المال, وإعطاء كل صنف من الأصناف التي ذكرها الله في الآية الثمن من الزكاة المتجمعة.
وهذا مذهب الشافعية( )، ورواية عند الحنابلة( )، وهو قول ابن حزم من الظاهرية في الجملة( ).
أدلة القول الأول
أولاً: الآيات التي جاء فيها ذكر دفع الصدقات أو استحقاق دفعها لبعض الأصناف دون أن تستوعب جميع أهل الزكاة المذكورين في آية قسم الصدقات كقول الله : { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } ( )، وقول الله : { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ﮘ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﮛ} ( ).
وجه الدلالة:
أن الله ذكر في هاتين الآيتين الكريمتين صرف الصدقة إلى صنف واحد من الأصناف الثمانية، وهم الفقراء، فدلت الآية على أنه يجوز صرف الزكاة إلى بعض الأصناف التي ذكرها الله في آية قسم الصدقات، ولا يجب تعميم جميع الأصناف( ).
يناقش: بأن هاتين الآيتين لم يقصد بهما بيان مصارف الزكاة، وإنما قصد ذلك في قوله : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ( )، فيجب أن يقضى بهذه الآية على غيرها، أو يقال: إن هاتين الآيتين في صدقة التطوع( ).
يجاب:بأنه ليس في قول الله : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ( )ما يقضي على ما دلت عليه الآيتان من جواز صرف الزكاة إلى بعض الأصناف التي ذكرها الله في آية قسم الصدقات، وعدم وجوب تعميمها في جميع الأصناف. وأما تخصيصهما بصدقة التطوع فهو تخصيص بلا مخصص.
ثانياً: قول النبي لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن: ((فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي لم يذكر لمعاذ لما بعثه إلى اليمن إلا مصرفاً واحداً من مصارف الزكاة الثمانية، وهم الفقراء، ولم يذكر سواهم فدل ذلك على جواز الاقتصار على صنف واحد من أهل الزكاة( ).
ثالثاً: النصوص التي ظاهرها أن النبي صرف الزكاة إلى صنف واحد من أهل الزكاة، وهي كثيرة، منها:
الأول: قول النبي لقبيصة بن مخارق الهلالي( ) لما سأل أن يعينه فيما تحمل من حمالة( ): ((أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي وعد قبيصة أن يأمر له بالزكاة إذا أتته؛ لأجل غرمه، فدل ذلك على جواز دفع الزكاة إلى صنف واحد من أهل الزكاة( ).
الثاني: أن علي بن أبي طالب بعث، وهو باليمن، إلى رسول الله بذهيبة( ) فقسمها النبي بين أربعة من أشراف العرب( ).
وجه الدلالة:
أن النبي قسَّم جميع ما بعث به علي من الزكاة في أربعة من المؤلفة قلوبهم، وهم صنف واحد( )، فدل ذلك على جواز دفع الزكاة إلى صنف واحد من أهل الزكاة( ).
الثالث: قول النبي لسلمة بن صخر الأنصاري( ): ((اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق( )، فقل له: فليدفعها إليك ))( ).
وجه الدلالة:
أن النبي أمر لسلمة بصدقة قومه بني زريق؛ لفقره، وهو شخص واحد، فدل ذلك على جواز دفع الزكاة إلى صنف واحد من أهل الزكاة( ).
قال ابن قدامة ~ بعد ذكر الأحاديث السابقة: ((والآثار في هذا كثيرة, تدل على أن النبي لم يكن يعتقد في كل صدقة ثابتة دفعها إلى جميع الأصناف,ولا تعميمهم بها, بل كان يدفعها إلى من تيسر من أهلها))( ).
رابعاً: أن الشريعة بناؤها في أحكامها على اليسر ورفع الحرج( ). كما دل على ذلك قول الله : {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ( )، وقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} ( )، وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ( ). وفي القول بوجوب استيعاب الأصناف الثمانية في إخراج الزكاة عسر ومشقة؛ لتعذر وجود جميع الأصناف من أهل الزكاة الذين ذكرهم الله في آية قسم الصدقات في بلد واحد حتى إن ابن قدامة ~ قال: ((وأظن من قال بوجوب دفعها على هذا الوجه إنما يقوله بلسانه, ولا يقدر على فعله, وما بلغنا أن النبي فعل هذا في صدقة من الصدقات, ولا أحداً من خلفائه, ولا من صحابته, ولا غيرهم, ولو كان هذا هو الواجب في الشريعة المطهرة لما أغفلوه, ولو فعلوه مع مشقته لنقل وما أهمل, إذ لا يجوز على أهل التواتر إهمال نقل ما تدعو الحاجة إلى نقله, سيما مع كثرة من تجب عليه الزكاة, ووجود ذلك في كل زمان, وفي كل مصر وبلد, وهذا أمر ظاهر))( ).
خامساً: أن المقصود من الزكاة سدُّ الخلَّة التي لا يمكن أن يعمَّ بها جميع الأصناف، كما أن في إيجاب استيعاب جميع الأصناف تفويتاً لهذا المقصد( ).
أدلة القول الثاني
أولاً: قول الله : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ( ).
وجه الدلالة:
أن الله ذكر في هذه الآية أهل الزكاة، فجعل الصدقة لجميعهم, وشرَّك بينهم فيها بالواو التي تفيد التشريك, فلا يجوز الاقتصار على بعضهم، بل يجب استيعابهم( ).
يناقش هذا بأمرين:
الأول: أن المراد بذكر الأصناف في الآية الكريمة إنما هو بيان أسباب استحقاق الزكاة وأوجه صرفها ومحلها،لا قسمتها على جميع الأصناف,ولا تعميمهم بها وبيان الحصص( ).
الثاني: أن الآية الكريمة بين الله فيها قسم الصدقات كلها, فنقسم الصدقات كلها على ما ذكر في الآية، أما الصدقة الواحدة فليس في الآية بيان حكمها( ) .
ثانياً: قول النبي لرجل سأله من الزكاة: ((إن الله ـ تعالى ـ لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك))( ).
وجه الدلالة:
أن الله جزَّأ الزكاة ثمانية أجزاء فدل ذلك على أنه لا يجوز دفع الصدقة في صنف واحد وأن الواجب تفريقها على جميع الأصناف بحصصهم. ويدل على صحة ذلك أيضاً قول النبي ﷺ للسائل: ((أعطيتك حقك))، حيث بيَّن أن لأهل كل جزء على حدته حقاً( ).
يناقش هذا بما يأتي:
الأول: أن الحديث متكلم فيه؛ لضعف بعض رواته كما بينته في تخريجه.
الثاني: أن الحديث ليس فيه إلا فعل النبي ﷺ، وفعله إنما يدل على السُّنِّية والاستحباب إلا إذا اقترن به ما يدل على الوجوب( ). فهذا الحديث يدل على استحباب استيعاب جميع الأصناف .
الثالث: هذا الحديث فيه أن النبي ﷺ رد حكم قسم الصدقات لما سئل عنها إلى حكم الله الذي تضمنته آية: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ( )، فلا يدل على وجوب استيعاب جميع الأصناف في الزكاة( ).
الرابع: أن الأحاديث التي تدل على أن النبي لم يكن يعتقد في كل صدقة ثابتة دفعها إلى جميع الأصناف, ولا تعميمهم بها, بل كان يدفعها إلى من تيسر من أهلها كثيرة. وهي أصح وأقوى في الدلالة على جواز تخصيص بعض أصناف أهل الزكاة بالصدقة( ).
الترجيح
الذي يترجح للباحث من هذين القولين، هو القول الأول، وهو جواز صرف الزكاة إلى صنف واحد من الأصناف التي ذكرها الله في آية قسم الصدقات؛ لقوة ما استدلوا به، والله أعلم.
وبناء على هذه النتيجة فيما يتعلق بجواز صرف الزكاة إلى صنف واحد من أصناف أهل الزكاة، فإنه لا مانع من توجيه أموال الزكاة سواء التي تتولى الدولة جمعها وصرفها، أو التي يخرجها أهلها إلى الأصناف التي لا يتسبب صرف الزكاة إليها في زيادة الإنفاق الاستهلاكي الذي يفضي إلى ارتفاع معدل التضخم النقدي كمصرف: وفي سبيل الله، والغارمين وذلك بإيفاء الديون التي في ذمم الغارمين.
والذي يظهر للباحث أن هذا المسلك أسلم من تأخير إخراج الزكاة للأوجه التالية:
الأول: أنه أسرع في إبراء ذمة أصحاب الأموال.
الثاني: أنه وسيلة لتحقيق مقصود الزكاة من سد الخلة مع السلامة من ارتفاع معدل التضخم النقدي لكون أموال الزكاة توجه إلى مصارف لا تتسبب في زيادة الإنفاق الاستهلاكي.
الثالث: أن الغالب في معالجة التضخم النقدي أن يمتد فترة زمنية ليست بالقصيرة، وتأخير إخراج الزكاة يفضي إلى تراكم الزكاة عند أصحابها، فإذا أخرجت الزكاة بعد ذلك ترتفع كمية النقود التي تضخ في أيدي الناس مما يؤدي إلى زيادة الإنفاق الاستهلاكي الذي يفضي إلى ارتفاع معدل التضخم النقدي.
الفصل السادس تنظيم عرض النقود
وفيه تمهيد وأربعة مباحث:
المبحث الأول: التحكم في سعر الفائدة (معدل الربا).
المبحث الثاني: تنظيم إصدار النقود.
المبحث الثالث: تنظيم توليد النقود.
المبحث الرابع: التوظيف والإنفاق العام.
تمهيد:
حاول كثير من الاقتصاديين البحث عن تفسير للتضخم النقدي وأسباب حدوثه. وقد تمخضت هذه المحاولات عن عدة توجهات ونظريات. وهذه النظريات على اختلافها تجعل لكمية النقود أثراً في حدوث التضخم وزيادة نسبته. ولهذا فإن الدراسات الاقتصادية على اختلافها تؤكد أن من أقوى العوامل والأسباب التي ينتج عنها التضخم النقدي الزيادة في عرض النقود( ). أي الزيادة في كمية النقود المتداولة في أيدي الناس، وكذلك كمية النقود المصرفية القابلة للسحب، كالودائع النقدية في الحسابات الجارية( ) في البنوك( ).
ولذلك فإن الدول عبر بنوكها المركزية تعتني بعرض النقود وحجم الأموال المتداولة والمستخدمة في الاقتصاد عناية فائقة تنظيماً وضبطاً، وذلك من خلال عدة أدوات ووسائل: منها التحكم في سعر الفائدة، ومنها التحكم في حجم الكتلة النقدية سواء النقود الورقية، وهي العملة المتداولة في أيدي الناس أو النقود المصرفية، وهي الودائع التي لدى البنوك؛ ومنها التوظيف المالي والتحكم في الإنفاق وغيرها؛ لتحقيق الاستقرار النقدي من خلال تفعيل أدوات السياسة النقدية والمالية.
وفي هذا الفصل سأتناول هذه الأدوات والوسائل في المباحث التالية:
أولاً: التحكم في سعر الفائدة (معدل الربا).
ثانياً: تنظيم إصدار النقود.
ثالثاً: تنظيم توليد النقود.
رابعاً: التوظيف والإنفاق العام.
المبحث الأول: التحكم في سعر الفائدة (معدل الربا).
المطلب الأول: حقيقة التحكم في سعر الفائدة
تقدم أن سعر الفائدة هو العائد المفروض على القروض والديون المؤخرة بنسبة مئوية، يتم تحديدها استناداً إلى قوى العرض والطلب في أسواق النقود وإلى متغيرات اقتصادية أخرى( ).
ويعدُّ سعر الفائدة عاملاً بالغ التأثير في النشاط الاقتصادي المعاصر. ولذلك أوصى جماعة من الاقتصاديين باستخدام سعر الفائدة في معالجة التضخم النقدي، وذلك من خلال رفع سعر الفائدة.
وبيان ذلك أن ارتفاع سعر الفائدة ينتج عنه أمران كلاهما يحقق قدراً أكبر من الاستقرار في القوة الشرائية ويقلل من حجم النقد في الاقتصاد، فتخف بذلك الضغوط التضخمية على الاقتصاد.
أولاً: أن ارتفاع سعر الفائدة يحفِّز ويشجع على الادخار، فيتقلص بذلك الإنفاق الاستهلاكي على السلع والخدمات( ).
ثانياً: أن ارتفاع سعر الفائدة ينخفض به الميل إلى الاقتراض فيقل بذلك الطلب على النقود( ).
المطلب الثاني: التكييف الفقهي للتحكم في سعر الفائدة وحكمه
اتفقت قرارات المجامع الفقهية والمجالس العلمية واللجان والهيئات الشرعية على أن الفائدة بجميع أنواعها وأشكالها من الربا( ) الذي جاء تحريمه بالكتاب والسنة وأجمع عليه علماء الأمة( )، والذي يُعدُّ تحريمه أصلاً من أصول الشريعة في باب المعاملات. وبناء على ذلك فإن الواجب السعي في إلغاء الفائدة الربوية من جميع الأنشطة الاقتصادية، وتطهير المعاملات منها؛ لكونها من الربا، ولما لها من الآثـار المدمرة على الاقتصاد التي هي تأويل قول الله :{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} ( ).
ومما يجدر ذكره أن عدة دراسات اقتصادية انتهت إلى أن رفع سعر الفائدة ـ أي زيادة معدل الربا ـ لا يصلح في معالجة التضخم النقدي لعدة أوجه:
أولاً: أنه ليس من المؤكد أن يفيد رفع سعر الفائدة في التشجيع على الادخار وتقليص الإنفاق الاستهلاكي، وذلك لما يأتي:
الأول: أن الأفراد لا يغيرون نمط استهلاكهم بمجرد تغير سعر الفائدة( ).
الثاني: أن رفع سعر الفائدة سيؤدي إلى رفع مستوى الدخل في المستقبل لدى المدخرين بالنسبة للدخل الحالي، فهذا الارتفاع المرتقب في الدخل قد يشجع على زيادة الإنفاق الاستهلاكي في الوقت الحاضر. فإن لم يحصل ذلك فغاية ما يفيده سعر الفائدة تأجيل الاستهلاك بعض الوقت( ).
الثالث: ثبت عند بعض الاقتصاديين أن الفائدة ذات أثر مهدر في الادخار( )، فإن الادخار موجود وله حوافز وأسباب عديدة، ولو لم توجد الفائدة.
ثانياً: أن رفع سعر الفائدة لا يفيد على المدى البعيد في تقليل حجم عرض النقود، بل غايته أن ينقل النقود السائلة إلى نقود مصرفية سواء ما كان منها تحت الطلب وما كان منها في حسابات آجلة( )، فرفع سعر الفائدة يُعدُّ من أسباب التضخم النقدي لا من وسائل علاجه( ).
ثالثاً: أن رفع سعر الفائدة قد يأتي بنتيجة عكسية فيكون سبباً لزيادة كمية النقود في الاقتصاد، فيزيد بذلك معدل التضخم النقدي، وذلك أن رفع سعر الفائدة يشجع على الإيداع في المصارف، فتتنامى قدرة المصارف على الإقراض وغيره من الأنشطة الائتمانية( )، فيزيد بذلك حجم النقود المعروضة( )، لا سيما إذا كانت هذه القروض موجهة إلى غير الأنشطة الاقتصادية الإنمائية.
رابعاً: أن رفع سعر الفائدة يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الاستثمار، وهذا يثبط أصحاب الأعمال عن الإنفاق في المشروعات الاستثمارية، فتزيد بذلك ميول الإنفاق الاستهلاكي فيزيد بذلك معدل التضخم النقدي( ).
خامساً: أن رفع سعر الفائدة يؤدي إلى عدم الاستقرار النقدي المنشود؛ لأن سعر الفائدة المرتفع يزيد من قدر المديونية المربوطة بسعر الفائدة السائد، مما يؤدي إلى ارتفاع عدد العاجزين عن السداد فتزداد حالات الإفلاس، وهذا يؤدي إلى تدمير قيمة النقود على المدى البعيد( ).
المبحث الثاني: تنظيم إصدار النقود
المطلب الأول: حقيقة تنظيم إصدار النقود
يعدُّ إصدار النقود من أبرز وأهم وظائف وأعمال البنوك المركزية أو ما يقوم مقامها من المؤسسات المالية في دول العالم الحديث. فالبنك المركزي ينفرد عن سائر المؤسسات المالية في الدولة بحق إصدار النقود الورقية( ).
وهذا الإصدار للنقود يجري وفق قواعد متينة ومقاييس دقيقة ومعايير صارمة تنظم عملية الإصدار وتسعى إلى ضبطه بما يحقق المقاصد التالية( ):
أولاً: حفظ القيمة الشرائية للنقود؛ لئلا تفقد وظائفها المقصودة بها.
ثانياً: الموازنة بين عرض النقود وطلبها، لتلبية حاجات السوق من النقود السائلة ومنع اختلال سوق النقود.
ثالثاً: الحيلولة دون التوسع في إصدار النقود الذي له آثار مدمرة على العملة، بل على النشاط الاقتصادي عموماً.
المطلب الثاني: التكييف الفقهي لتنظيم إصدار النقود
يعدُّ إصدار النقود وتنظيمه والإشراف عليه ومراقبته من أهم وأبرز الوظائف الاقتصادية لولاة أمور المسلمين في الدولة الإسلامية منذ أوائل عهد الخلافة الإسلامية في زمن الخلفاء الراشدين. ففي خلافة عمر بن الخطاب كانت أولى محاولات ضرب الدراهم كما ذكر مؤرخو النقود. وتتابع على ذلك الخلفاء بعده فضربوا الدراهم على نقشها وأشكالها التي كانت دون تغير يذكر( ). واستمر الأمر على هذا إلى أن تولى الخلافة عبد الملك ابن مروان( ) فضرب الدراهم والدنانير على السكة الإسلامية عام خمسة وسبعين من الهجرة النبوية، فكان أول من ضربها ونقش عليها نقشاً خاصاً بالمسلمين من الخلفاء( ).
ومنذ ذلك العهد أصبح إصدار النقود محصورًا بالدولة، بل هو أحد أبرز وأهم واجباتها الاقتصادية ووظائفها السلطانية المالية( ).
ولما في قصر إصدار النقود على ولاة أمور المسلمين من تحصيل مصالح الأمة وصيانة نقودها وحفظ معاملات الناس من الغش والفساد فقد تواردت أقوال الفقهاء وأهل العلم ـ رحمهم الله ـ على أن إصدار النقود من وظائف ولاة أمور المسلمين، وأن الواجب عليهم حفظها من الغش وصيانتها عن الإفساد( ).
ومن ذلك ما ذكره بعض الفقهاء من أن على ولاة الأمر تأديب من كسر الدراهم والدنانير( )؛ لأن كسرها يؤدي ((إلى إدخال الغش في الذهب والورق; لأنه إذا قطعت صغاراً أدخل بينها المغشوش وتسامح الناس بإنفاق اليسير منه في الجملة، وخفي على كثير من الناس تمييزه من غيره))( ).
وقد قال الإمام أحمد ~ في بيان ما يجب على ولاة الأمور ونوابهم في شأن النقود والقيام عليها: ((لا يصلح ضرب الدراهم إلا في دار الضرب بإذن السلطان; لأن الناس إن رخص لهم ركبوا العظائم))( ).
وقال الماوردي( )~: ((ومما يتعلق بالمعاملات غش المبيعات وتدليس الأثمان فينكره ويمنع منه ويؤدب عليه بحسب الحال فيه))( ).
وقال النووي ~ فيما يتعلق بتنظيم إصدار النقود: ((قال الشافعي والأصحاب: يكره للإمام ضرب الدراهم المغشوشة))( ).
وقال أيضاً: ((قال أصحابنا: ويكره أيضاً لغير الإمام ضرب الدراهم والدنانير إن كانت خالصة; لأنه من شأن الإمام، ولأنه لا يؤمن فيه الغش والإفساد))( ).
وقال ابن القيم ~: (( ويمنع من إفساد نقد الناس وتغييره, ويمنع من جعل النقود متجراً, فإنه بذلك يدخل على الناس من الفساد ما لا يعلمه إلا الله. بل الواجب أن تكون النقود رؤوس أموال, يتجر بها, ولا يتجر فيها. وإذا حرم السلطان سكة أو نقداً منع من الاختلاط بما أذن في المعاملة به.
معظم ولايته وقاعدتها: الإنكار على هؤلاء الزغلية( ), وأرباب الغش في المطاعم والمشارب والملابس وغيرها, فإن هؤلاء يفسدون مصالح الأمة, والضرر بهم عام لا يمكن الاحتراز منه, فعليه ألا يهمل أمرهم, وأن ينكل بهم وأمثالهم, ولا يرفع عنهم عقوبته, فإن البلية بهم عظيمة, والمضرة بهم شاملة ولا سيما هؤلاء الكيماويين( ) الذين يغشون النقود))( ).
وقال أيضاً في ضرورة الأمة إلى استقرار قيمة النقود: ((والثمن ـ أي: النقود ـ هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال, فيجب أن يكون محدوداً مضبوطاً لا يرتفع ولا ينخفض; إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات, بل الجميع سلع. وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة, وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة, وذلك لا يكون إلا بثمن تقوّم به الأشياء, ويستمر على حالة واحدة, ولا يقوّم هو بغيره ; إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض, فتفسد معاملات الناس, ويقع الخلف, ويشتد الضرر, كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تُعدُّ للربح فعمَّ الضرر وحصل الظلم, ولو جعلت ثمناً واحداً لا يزداد ولا ينقص بل تقوّم به الأشياء ولا تقوّم هي بغيرها لصلح أمر الناس )) ( ).
وقال البهوتي ~: ((ينبغي للسلطان أن يضرب لهم أي: الرعايا فلوساً تكون بقيمة العدل في معاملاتهم من غير ظلم لهم؛ تسهيلاً عليهم, وتيسيراً لمعاشهم، ولا يتجر ذو السلطان في الفلوس, بأن يشتري نحاساً فيضربه فيتجر فيه؛ لأنه تضييق))( ).
وقد نبّه شيخ الإسلام ابن تيمية ~ في كلام له عما يجب مراعاته في ضرب الفلوس إلى أن إصدار النقود يجب أن يكون استجابة لحاجة الأمة ومصلحتها، لا لجني الأرباح من إصدارها أو الاتجار بها فقال : ((فإن الفلوس النافقة يغلب عليها حكم الأثمان وتجعل معيار أموال الناس. ولهذا ينبغي للسلطان أن يضرب لهم فلوساً تكون بقيمة العدل في معاملاتهم ; من غير ظلم لهم. ولا يتجر ذو السلطان في الفلوس أصلاً; بأن يشتري نحاساً فيضربه فيتجر فيه ولا بأن يحرم عليهم الفلوس التي بأيديهم ويضرب لهم غيرها; بل يضرب ما يضرب بقيمته من غير ربح فيه; للمصلحة العامة ويعطي أجرة الصناع من بيت المال. فإن التجارة فيها باب عظيم من أبواب ظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل; فإنه إذا حرم المعاملة بها حتى صارت عرضاً وضرب لهم فلوساً أخرى أفسد ما عندهم من الأموال بنقص أسعارها فيظلمهم فيها وظلمهم فيها بصرفها بأغلى من سعرها. وأيضاً فإذا اختلفت مقادير الفلوس صارت ذريعة إلى أن الظلمة يأخذون صغاراً فيصرفونها وينقلونها إلى بلد آخر ويخرجون صغارها فتفسد أموال الناس ))( ).
ومن خلال ما سبق من كلام الفقهاء ـ رحمهم الله ـ فيما يتعلق بتنظيم الإصدار النقدي وضبطه يمكن استخلاص النقاط التالية التي تمثِّل الخطوط الرئيسة لعملية إصدار النقود عند الفقهاء أو الأصول التي تبنى عليها هذه العملية وتنظم وتضبط بواسطتها عندهم:
أولاً: وجوب العناية بالنقود والعمل على صيانتها من كل ما يضعف قيمتها أو يعطل وظائفها، فالتزام ذلك يحقق الاستقرار في النظام النقدي ويسلم من تقلبات النقود التي تعصف بقوتها الشرائية.
ثانياً: أن إصدار النقود من وظائف ولاة الأمر وواجباتهم أو من ينيبونه، ويجب عليهم فيها تحري المصلحة العامة والحاجة إلى النقد.
ثالثاً: أن لولي الأمر الحق في عقوبة كل من يعمل على إصدار النقود أو إفسادها ونقص قيمتها بما يراه رادعاً؛ لما في ذلك من المفاسد والمضار.
رابعاً: أن على ولاة الأمر بذل الجهود في مراقبة النقود من خلال الأجهزة ذات الكفاءة والأمانة، ومن خلال المقاييس الدقيقة التي تبين التغيرات في كمية النقود؛ للتحكم في العرض الكلي للنقود من أجل تحقيق الاستقرار النقدي المنشود.
خامساً: لا يجوز أن يتخذ الإصدار النقدي مصدراً من مصادر التمويل وتحصيل الأرباح والعوائد؛ لما في ذلك من إفساد للنظام النقدي؛ بل الواجب أن يرتبط إصدار النقود بحاجة الناس ومصلحتهم. وقد تقدم النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية فيما يجب على ولاة الأمر مراعاته في إصدار النقود وأنه لا يجوز أن يتجر ذو السلطان في الفلوس؛ بل الواجب أن يراعى في الضرب المصلحة العامة. وذلك لإن التجارة فيها باب عظيم من أبواب ظلم الناس، وأكل أموالهم بالباطل. وما قاله يتأكد مراعاته في النقود المعاصرة لسهولة إصدارها، وكبير ربحها مما يغري الجهات المصدرة بالتوسع في إصدارها( ).
ومما يدل على صحة هذه الأصول في الإصدار النقدي وجوب مراعاتها ما يأتي:
أولاً: أن التوسع في إصدار النقود دون تنظيم وضبط من التطفيف الذي نهى الله عنه وتوعد أهله في مثل قوله: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} ( )، إذ التطفيف هو نقص الشيء وتقليله، وهو ضد التوفية( )، فلا يقتصر ذلك على نقص الكيل والوزن، فلكل شيء وفاء وتطفيف( ).
أما وجه كون التوسع في الإصدار النقدي وعدم تنظيمه تطفيفاً فذلك أن إصدار وحدات جديدة من النقود دون أن يصاحبها زيادة في إنتاج السلع والخدمات يفضي إلى نقص قيمة النقود التبادلية ويضعف قوتها الشرائية؛ حيث تزيد كمية عرض النقود، وهذا تطفيف لقيمة ما بأيدي الناس من وحدات النقد( ).
ثانياً: أن التوسع في إصدار النقود دون تنظيم وضبط بخس لأموال الناس وإفساد له( )، فيكون داخلاً فيما نهى الله عنه في قول الله :{وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} ( ). إذ عدم ضبط الإصدار النقدي سيؤدي إلى نقص ما بأيدي الناس من نقود( ).
ثالثاً: أن من أعظم مقاصد الشريعة في الأموال وغيرها إقامة العدل ومنع الظلم وأن يقوم الناس بالقسط في جميع شؤونهم( ). وتنظيم إصدار النقود وضبطه من أهم الوسائل التي يتحقق بها إقامة العدل في أموال الناس ومنع الظلم فيها( ).
رابعاً: أن موضوع الولاية والإمامة ومقصودها حراسة الدين وسياسة الدنيا وتدبيرها( ). ومن آكد ما تحصَّل به سياسة أمر الدنيا تحصيل مصالح العباد في أموالهم وصيانتها من الإفساد، ولذلك أناط الفقهاء سلطة إصدار النقود والقيام على حفظها بالولاة منذ زمن بعيد وجرى على ذلك عمل المسلمين. فالأصل الذي تجب مراعاته فيما يتعلق بعملية الإصدار النقدي هو تحصيل المصلحة العامة وتوقي الأخطار المترتبة على التوسع في إصدار النقود( ).
ومما لا ريب فيه أن الحاجة إلى تنظيم إصدار الأوراق النقدية في هذا الوقت أمسُّ وآكد منها في النقود التي تحدث عنها الفقهاء ـ رحمهم الله ـ بل يعدُّ تنظيم إصدار النقود والعمل على ضبطه من الضرورات التي لا يصلح معاش الناس ومعاملاتهم إلا بها، ويتبين ذلك بالأوجه التالية:
أولاً: أنه لا سبيل إلى تحقيق الاستقرار النقدي في أي اقتصاد دون تنظيم عملية الإصدار النقدي، إذ إن الدراسات الاقتصادية تؤكد أن التوسع في إصدار النقود وعرضها من أقوى العوامل التي تحدث التضخم النقدي وتغذيه( ).
ثانياً: أن إصدار النقود المعاصرة أسهل بكثير من إصدار النقود الذهبية والفضية والنقود المعدنية من غير الذهب والفضة، وأقل كلفة حيث تقترب تكلفة إصدار النقود المعاصرة من الصفر مما يغري بالتوسع في إصدارها( ).
ثالثاً: أن الإصدار النقدي من الوسائل الهامة في الحصول على قوة شرائية بالنسبة للدول والحكومات، ولذلك تلجأ كثير من الدول إلى إصدار مزيد من النقود الورقية لسدِّ العجز الذي قد يحصل في الميزانية الحكومية( ) أو لغير ذلك من المعالجات الاقتصادية( ). ولذلك كان من الضروري العمل على ضبط الإصدار النقدي بضوابط صارمة لمقاومة إغراء اللجوء إلى الإصدار النقدي لتجاوز الاختناقات الاقتصادية في ميزانيات الدول.
المبحث الثالث: تنظيم توليد النقود
المطلب الأول: حقيقة تنظيم توليد النقود
من آكد وأهم ما يندرج في إطار عملية تنظيم عرض النقود وضبطها تنظيم عرض النقود المصرفية أو نقود الودائع وضبط توليدها؛ إذ إنها تمثل النسبة العظمى من كمية النقود المعروضة وحجمها فقد تبلغ في بعض البلدان تسعين في المائة من كمية النقود المعروضة أو أكثر من ذلك( ).
وتتلخص فكرة توليد النقود في أن المصارف لاحظت أن أصحاب الودائع لا يقومون عادة بسحبها جميعاً مرة واحدة، كما أنهم لا يتقدمون لسحبها جميعاً دفعة واحدة، هذا من جانب. ومن جانب آخر أن هذه السحوبات يقابلها إيداعات جديدة مما يجعل مستوى ما لدى المصرف من الودائع يكاد يكون ثابتاً تقريباً لا سيما مع تطور الأدوات المالية في النظام المصرفي التي تغني عن حمل النقود الورقية كالشيكات والبطاقات المصرفية( ). فلما كان الأمر على ما وصف شجع ذلك المصارف على الاستفادة من هذه الأرصدة النقدية واستثمارها، بعد إبقاء نسبة معينة من الودائع لدى المصرف نفسه نقداً ورقياً لتغطية سحوبات العملاء المتوقعة والظروف الطارئة( )، ونسبة أخرى رصيداً نقدياً لدى المصرف المركزي. وتسمى هذه النسب النقدية التي يحتفظ بها المصرف المركزي لمواجهة تلك السحوبات الاحتياطي القانوني أو النقدي( ).
وبالنظر إلى أنواع استثمارات المصارف في هذه الودائع يتبين أن أبرزها وأهمها هو إقراضها بزيادة ربوية، وهو ما يعرف بمنح القروض. والذي يروج هذا النوع من الاستثمار ويشجع عليه هو أن الإقراض من أنواع الاستثمار الآمنة، بل هو أشدها إغراء وربحاً. وبهذه العملية، وهي قبول الودائع من العملاء ثم إقراضها بفائدة، أصبح في مقدور المصارف أن تولد نقوداً جديدة مشتقة من نقود الودائع. إلا أن المصارف تختلف قدرتها في توليد النقود ومنح الائتمان استناداً إلى عدة عوامل من أهمها: نسبة الاحتياطي النقدي التي يفرضها المصرف المركزي لينظم عمل المصارف، والأساس النقدي الذي تملكه هذه المصارف، أي حجم الودائع التي تقبلها المصرف من أصحاب الأموال( ).
ولمعرفة الكيفية التي ينتج عنها توليد النقود ومنح الائتمان أذكر مثالاً توضيحياً تتبين به هذه العملية:
فإذا قُدِّر أن نسبة الاحتياط النقدي التي حددها البنك المركزي هي عشرون في المائة، فإن إيداع زيد مائة ألف ريال لدى المصرف رقم (1)، يعني أن زيداً قد أقرض المصرف قرضاً قدره مائة ألف ريال، وهذا المبلغ سينقسم لدى المصرف إلى قسمين:
القسم الأول: يضم إلى الاحتياطي النقدي القانوني، وقدره في هذا المثال عشرون ألف ريال.
القسم الثاني: وهو ما يمثل بقية القرض ثمانون ألف ريال، فسيعمل المصرف على استثماره بمنح الائتمان، فإذا أقرض المصرف رقم (1) الثمانين الألف لبكر، فقام بكر بإيداعه في المصرف رقم (2)، فالمصرف سيصنف هذا المبلغ إلى القسمين السابقين:
الأول: ستة عشر ألفاً يضم إلى الاحتياطي النقدي القانوني.
الثاني: أربعة وستين ألفاً سيعمل المصرف على استثماره بالإقراض بفائدة لبدر، وهكذا دواليك إلى أن تستنفد إمكانات توليد النقود من قبل النظام المصرفي( ). علماً أن هذا التوليد للنقود قد لا يترتب عليه زيادة في حجم النقود الورقية، فالزيادة هنا هي في كمية النقود المصرفية المسجلة في دفاتر المصارف( ).
المطلب الثاني: التكييف الفقهي لتنظيم توليد النقود
المسألة الأولى: حكم توليد النقود
يتضح من البيان السابق لعملية توليد النقود أن حقيقتها الشرعية أنها إقراض، فإن كان ذلك بفائدة، وهو الغالب في عمل المصارف، فقد تقدم أن قرارات المجامع الفقهية والمجالس العلمية واللجان والهيئات الشرعية متفقة على أن الفائدة بجميع أنواعها وأشكالها من الربا( )، وبناء على هذا فإن ما تقوم به المصارف الربوية من توليد النقود غير جائز؛ لاشتماله على الربا.
أما حكم توليد النقود من قبل المصارف التي لا تتعامل بالربا فهذا لم أقف فيه لأهل العلم من الفقهاء على كلام إلا أن بعض الباحثين في الاقتصاد الإسلامي تناولوا هذه المسألة بالبحث، وقد انقسموا في حكم توليد النقود عن طريق الاستثمارات غير الربوية إلى قسمين( ):
القسم الأول: قالوا بجواز قيام المصارف بتوليد النقود بالقدر الذي تقتضيه المصلحة الاقتصادية.
القسم الثاني: قالوا بعدم جواز قيام المصارف بتوليد النقود مطلقاً.
وهذا الاختلاف في الحقيقة امتداد لاختلاف الآراء الاقتصادية في توليد النقود حيث إن للاقتصاديين رأيين في مسألة توليد النقود بناء على الآثار المترتبة عليه في الوضع الاقتصادي، وقد حاول كل فريق أن يتلمس من الأدلة ما يعضد رأيه.
فاحتج القائلون بجواز قيام المصارف بتوليد النقود بما يأتي:
أولاً: أن الأصل في المعاملات الإباحة والحل.
ثانياً: المصالح الاقتصادية العامة التي يحققها توليد النقود.
أما القائلون بعدم جواز قيام المصارف بتوليد النقود فقد احتجوا بما يأتي:
أولاً: أن في منح المصارف إمكانية توليد النقود تعدياً على حق ولاة الأمور في الانفراد بسلطة الإصدار النقدي.
يجاب على هذا: بأن عملية توليد المصارف للنقود؛ إذناً، وتنظيماً، وإدارة، ومراقبة إنما يتولاها المصرف المركزي الذي يمثل ولي الأمر في هذا الجانب، وعلى هذا فليس في عملية توليد النقود تعدٍّ على سلطة ولي الأمر ولا افتأتٌ عليه.
ثانياً: أن عملية توليد المصارف للنقود تعتمد على أموال المودعين، فمنح المصارف هذه النقود يُعدُّ تصرفاً فيما لم يملك.
يجاب على هذا: بأن حقيقة أموال المودعين في يد المصارف إنما هي قروض لهم على المصارف، فيد المصارف عليها يد ملك، فلهم أن يتصرفوا بها تصرف الملاك.
ثالثاً: أن قيام المصارف بتوليد النقود المصرفية ينتج عنه مفاسد عديدة توجب القول بمنعه وعدم جوازه، ومن ذلك:
الأول: أن التوسع في توليد النقود يؤدي إلى ارتفاع المستوى العام للأسعار.
الثاني: أن قيام المصارف بتوليد النقود يؤدي إلى تركيز الثروة في أيدي فئة قليلة من المجتمع، وهم أصحاب المصارف والمساهمون فيها.
الثالث: أن قيام المصارف بتوليد النقود يضعف من قدرة المصرف المركزي على تحقيق التوازن النقدي.
يجاب على هذا: بأن القول بجواز توليد المصارف النقود المصرفية مقيد بالقدر الذي تتطلبه المصلحة الاقتصادية فإذا كان توليد النقود يفضي إلى مفاسد تربو على المصالح المنشودة منه فإنه لا ريب في توجه القول بمنعه وعدم جوازه.
والذي يترجح من هذين القولين هو القول بجواز توليد النقود؛ لقوة ما احتج به القائلون بالجواز، ولأن عملية توليد النقود ما هي إلا نوع من القرض، ولذا فإن حكم توليد النقود هو حكم القرض. وقد أجمع العلماء على أن القرض جائز، وأنه من أعمال الخير( )، فلا وجه للقول بأن توليد النقود لا يجوز من حيث الأصل، والله أعلم.
المسألة الثانية: حكم تنظيم توليد النقود
من خلال بيان حقيقة تنظيم توليد النقود فيما سبق يمكن استخلاص نقاط رئيسة حول عملية توليد النقود تمثِّل مرتكزاً يمكن أن يبنى عليه التكييف الفقهي لتنظيم عملية توليد النقود، وهي كما يأتي:
أولاً: أن توليد النقود عملية لا يختص بها المصرف المركزي كما هو الشأن في إصدار النقود الورقية، بل يشرك فيها المصارف التي تعمل في الجهاز المصرفي وغيرها.
ثانياً: أن للمصارف التجارية قدرة كبيرة على توليد النقود دون عناء يذكر حتى في ظل الأدوات التي تحد من قدرة المصارف على توليد النقود.
ثالثاً: أن عملية توليد النقود تشكل نسبة كبيرة من دخل المصارف دون أن يترتب عليها تكاليف ذات بال بالنسبة للمصرف، في حين أن تكلفة ذلك يتحملها كل من يحمل الورقة النقدية.
رابعاً: أن عملية توليد النقود عن طريق المصارف لا تقل خطراً عن عملية الإصدار النقدي التي ينفرد بها المصرف المركزي، فتوليد النقود لا يختلف عن الإصدار النقدي إلا من حيث طريقة الإصدار.
كل هذه النقاط تؤكد أن تنظيم توليد النقود ضرورة اقتصادية لحفظ اقتصاد الأمة من الاختلال والتقلب بسبب التوسع في توليد النقود الذي إذا لم ينظَّم ويضبط فإنه سيفضي إلى تدهور قيمة النقود كما أنه سيهوي بالاستقرار النقدي.
وإدراكاً لخطورة هذا الأمر فإن الدول على اختلاف أنظمتها وسياساتها جعلت مراقبة الائتمان المصرفي كماً ونوعاً وتوجيهه بما يحقق المصلحة الاقتصادية العامة من المهام الرئيسة للبنك أو المصرف المركزي فيها( ).
وما كان في مثل هذه المنـزلة من الأهمية والخطورة فلا ريب أن الشريعة المطهرة التي وضعت لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً( ) تأمر به، فإن الله تعالى أوجب على العباد فعل المصلحة بحسب الإمكان، وكلما كانت المصلحة أعظم كان الأمر بها أوكد( ). كما أن ما تقدم من الأدلة على وجوب تنظيم الإصدار النقدي يدل على وجوب تنظيم توليد النقود، بل إن تنظيم توليد النقود وضبطه آكد وأهم من تنظيم الإصدار النقدي، وذلك لأن المعاني التي بُني عليها القول بوجوب تنظيم الإصدار النقدي وجودها في عملية توليد النقود أقوى. فالتطفيف في أموال الناس وإفسادها بنقص قيمتها ووقوع الظلم بينهم وفساد معاملاتهم واقتصادهم الحاصل بسبب التوسع في توليد النقود وعدم تنظيمه أكبر بكثير منه في التوسع في الإصدار النقدي. ومن القواعد أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وقوةً وضعفاً( ).
المبحث الرابع: الإنفاق العام والتوظيف
المطلب الأول: الإنفاق العام
المسألة الأولى: حقيقة الإنفاق العام
الفرع الأول: تعريفه
الإنفاق العام مصطلح مستعمل في الدراسات الاقتصادية، ولم يستعمله الفقهاء فيما وقفت عليه، ويطلق عند الاقتصاديين على الأموال التي تصرفها الدولة على السلع والخدمات، أو لإعانة فئة من فئات المجتمع، أو لإقامة المشاريع الاقتصادية والاجتماعية المختلفة وغير ذلك من المنافع العامة( ).
ومما تقدم يمكن القول بأن مصطلح الإنفاق العام يصدق عند الفقهاء على ما يصرفه ولي أمر المسلمين من بيت المال في المصالح العامة( ). فيشمل ((ذلك جميع النفقات العامة للحكومة وأجهزتها وهيئاتها، سواء أكانت نفقات عادية أم إنمائية( )))( ).
الإنفاق العام في الدولة الإسلامية هو الوسيلة التي من خلالها تحقق الدولة مقاصدها وتقوم بوظائفها ومهامها من حراسة الدين وسياسة الدنيا.
أما الأهداف الرئيسة للإنفاق العام في الدولة الإسلامية فيمكن إجماله في ثلاثة أهداف( ):
الأول: توفير الحد الأدنى من المعيشة لجميع أفراد الأمة.
الثاني: تقليل أوجه التفاوت بين أفراد الأمة بالتوزيع العادل للأموال كما قال تعالى: { كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } ( ).
الثالث: تنمية الأمة بمفهومها الشامل الذي يشمل حفظ مصالحها الدينية والدنيوية والقيام بها.
وبقدر ما تحقق الدولة من إنجاز في هذه المحاور الرئيسة من محاور الإنفاق العام بقدر ما يحصل من العدل الاجتماعي والنمو الاقتصادي والاستقرار النقدي.
الفرع الثاني: أثر الإنفاق العام في معالجة التضخم النقدي
لما كان التوسع في الإنفاق عموماً هو أحد أبرز عوامل التضخم النقدي وأسبابه، فمن الطبيعي أن يكون للإنفاق العام للحكومات والدول أثر بالغ في معالجة التضخم النقدي، إذ من المعلوم أن الإنفاق الحكومي يعد المحرك الرئيس للنشاط الاقتصادي في كثير من بلدان العالم؛ لانتشاره وتنوع أسبابه. ولذلك فإن من أهم الوسائل الاقتصادية والتدابير المتبعة في معالجة التضخم النقدي العمل على تخفيض الإنفاق العام؛ لأن ذلك سيؤدي إلى خفض مستوى الاستهلاك فينقص بذلك الطلب على السلع والخدمات، مما سيساعد في وقف ارتفاع المستوى العام للأسعار والحد من تدهور قيمة النقود( ).
المسألة الثانية: التكييف الفقهي للإنفاق العام
قيام الدولة بتخفيض الإنفاق العام من أجل معالجة التضخم النقدي، ووقف ارتفاع المستوى العام للأسعار والحد من تدهور قيمة النقود يندرج في تصرف ولي الأمر في المال العام بالأصلح للأمة، وهذا هو الواجب عليه؛ لأن الولاية والإمامة ((موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا))( ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ~ في بيان ما يجب على ولاة أمور المسلمين في الأموال العامة: ((وليس لولاة الأموال أن يقسموها بحسب أهوائهم, كما يقسم المالك ملكه, فإنما هم أمناء ونواب ووكلاء, ليسوا ملاكاً, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني، والله، لا أعطي ولا أمنع أحداً, وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت( )))( ). ثم قال: ((فهذا رسول رب العالمين, قد أخبر أنه ليس المنع والعطاء بإرادته واختياره, كما يفعل ذلك المالك الذي أبيح له التصرف في ماله))( ).
ويجب على ولي الأمر أو من ينيبه من الجهات المسؤولة عن اتخاذ قرار تخفيض الإنفاق العام للدولة أن يستعين بأهل القوة في العلم والخبرة، وأهل الأمانة في العمل والأداء من ذوي الاختصاص في جدوى اتخاذ مثل هذا القرار وفي تحديد قدر التخفيض ونوعه والمجالات التي يشملها. وذلك أن الإنفاق الحكومي ليس على درجة واحدة من الأهمية، بل هو متفاوت باعتبار مراتب جهات الإنفاق وما يحققه من المصالح العامة فمنها ما هو ضروري ومنها ما هو حاجي ومنها ما هو تحسيني. فمن ((المهم جداً النظر إلى أنواع النفقات العامة التي يتم تخفيضها عند استخدام سياسة الإنفاق العام في محاربة التضخم))( ) النقدي.
فما لا يمكن الاستغناء عنه من النفقات الضرورية العامة في جميع المجالات: الشرعية والتعليمية والدفاعية والأمنية والصحية والاجتماعية وغير ذلك، فإنه لا يجوز المساس بها؛ لعظم الضرر الحاصل بتعطيلها أو اختلالها. ومثل ذلك المجالات التي تسهم في تنشيط اقتصاد الأمة وتحفيز نموه. أما ما عدا ذلك من النفقات فتخفض بالقدر الذي لا يحصل به اختلال مصالح الأمة. ومما ينبغي أن يراعى في جميع تلك الجهات تقديم الأهم فالأهم، والأصلح فالأصلح( ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ~ في بيان ما يجب مراعاته في إنفاق الأموال العامة: (( وأما المصارف فالواجب أن يبتدئ في القسمة بالأهم فالأهم من مصالح المسلمين العامة))( ). كما ينبغي أن يراعى في ذلك المصلحة العامة، ولو ترتب عليه فوات المصلحة الخاصة؛ ((لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة))( ).
المطلب الثاني: التوظيف
المسألة الأولى: حقيقة التوظيف
الفرع الأول: تعريفه في اللغة
التوظيف مصدر الفعل وظَّف. ومادة الواو، والظاء، والفاء (وظف) لها في اللغة استعمالات عديدة ألصقها بموضوع الدراسة معنى: التقدير والإلزام؛ فيقال: ((وظَّفت له، إذا قدرت له كل حين شيئاً من رزق أو طعام))( )، ويقال أيضاً: ((وَظَف الشيءَ علـى نفسه، وووَظَّفَه توظِيفاً: أَلزمها إياه ))( ).
فالتوظيف: هو تعيين قدر والإلزام به. ويسمى ذلك وظيفة أيضاً( ).
الفرع الثاني: تعريفه في الاصطلاح
لم أقف في كلام الفقهاء ـ رحمهم الله ـ على تعريف عام للتوظيف، لكن المعنى الذي ينتظم ما ذكره الفقهاء من صور التوظيف المختلفة عند كلامهم على الجزية، والخراج( )، وما يفرضه الإمام على الأغنياء من المسلمين في وقت الحاجة( ) أن التوظيف: قدر من المال يفرضه ولي الأمر لسبب ما على بعض الناس( ).
أما معنى التوظيف المراد في هذه الدراسة فهو لا يخرج عن هذا المعنى العام، وقد خصَّه الشيخ صلاح الدين سلطان بتعريف خاص، فقال في تعريفه للوظائف المالية: ((قدر من المال يفرضه ولي الأمر على الموسرين؛ لسد حاجة عامة شرعية بشروط خاصة))( ).
ومما يلاحظ على هذا التعريف التكرار، فإن من شروط التوظيف أن يكون لسدِّ حاجة عامة شرعية.
وقد عرفه الدكتور رفيق المصري فقال: ((فرض تكاليف إضافية في أموال الأغنياء بما يكفي حاجة الجند والفقراء وغيرهم))( ).
والمقصود بقوله: إضافية أي زيادة على ما يجب فيها من الزكاة. ومما يلاحظ على هذا التعريف عدم الشمول حيث خص الحاجة بحاجة الجند والفقراء، ثم قال: وغيرهم، وهذا فيه توسيع للحاجة إلا أن فيه نوع إبهام.
والذي يظهر للباحث أن الأمثل في تعريف التوظيف أن يقال: قدر من المال يفرضه ولي الأمر على الموسرين؛ لسدِّ حاجة عامة.
وقد أطلق الشافعي وجماعة من أهل العلم على هذا النوع من التوظيف، والوظائف المالية التي يفرضها ولاة الأمر، اسم الضريبة( ).
وبهذا يتبين أن ما يسميه الاقتصاديون بالضريبة، وهي أي مبلغ نقدي تفرضه سلطة حكومية مختصة على الأشخاص أو الممتلكات وتحصله بهدف جمع المال، لتغطية النفقات الحكومية( )، يدخل في معنى التوظيف الذي تكلم عنه الفقهاء.
الفرع الثالث: أثر التوظيف في معالجة التضخم النقدي
إن من الوسائل الاقتصادية المهمة المستعملة في معالجة التضخم النقدي الناتج عن الزيادة في الطلب الكلي للسلع والخدمات فرض الضرائب، أي: التوظيف، وذلك لما له من أثر فعّال في كبح جماح التضخم النقدي وضبطه.
وبيان ذلك أن التضخم النقدي الناشىء عن الزيادة في طلب السلع والخدمات من أهم أسبابه ارتفاع القدرة الشرائية لدى الناس مما يزيد رغبتهم في الاستهلاك، فيتطلب علاج ذلك سعياً إلى خفض القدرة الشرائية؛ لتقييد الاستهلاك. ومن أبرز الوسائل الاقتصادية المستعملة لتحقيق ذلك الغرض التوظيف، أي: فرض الضرائب، أو زيادتها. فإن هذا الإجراء من شأنه إضعاف القدرة الشرائية بسحب جزء منها من أيدي الناس، فينعكس ذلك على مستوى الطلب حيث ينخفض معدل طلب السلع والخدمات، فيحد ذلك من الرغبة في الاستهلاك( ).
المسألة الثانية: التكييف الفقهي للتوظيف
جاءت نصوص الوحيين: الكتاب، والسنة ناهية عن أكل المال بالباطل وبيان حرمة الأموال:
فمن الآيات:
الأولى: قول الله : {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ( ).
الثانية: قول الله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} ( ).
الثالثة: قول الله : {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ } ( ).
الرابعة: قول الله : {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } ( ). والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وأما الأحاديث التي فيها بيان حرمة الأموال وتحريم أكلها بالباطل، فكثيرة أيضاً؛ منها:
الأول: قول النبي : ((إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) ( ).
الثاني: قول النبي : ((بمَ يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق))( ).
الثالث: قول النبي : ((كل المسلم على المسلم حرام دمه، وماله، وعرضه))( ).
الرابع: قول النبي : ((لا يدخل الجنة صاحب مكس( )))( ).
وقد أجمع أهل العلم على تحريم أخذ أموال الناس ظلماً وعَدْواً( ). ولا فرق في ذلك بين أن يكون آخذ المال السلطان أو غيره.
فاستباحة أموال الناس بالضرائب والمكوس لا (( يبيحها شرع ولا يسوغها اجتهاد، ولا هي من سياسات العدل وقلما تكون إلا في البلاد الجائرة))( ). وقد نقل ابن حزم اتفاق أهل العلم على تحريم أن يفرض ولاة أمور المسلمين وظائف مالية على السلع والتجار والمارة من المسلمين، فقال في مراتب الإجماع: ((واتفقوا أن المراصد( ) الموضوعة للمغارم( ) على الطرق وعند أبواب المدن وما يؤخذ في الأسواق من المكوس على السلع المجلوبة من المارة والتجار ظلم عظيم وحرام وفسق))( ).
وقال فيها شيخ الإسلام ابن تيمية ~: ((ثم هذه الوظائف السلطانية التي ليس لها أصل في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ، وسنة خلفائه الراشدين، ولا ذكرها أحد من أهل العلم المصنفون في الشريعة، ولا لها أصل في كتب الفقه من الحديث والرأي، هي حرام عند المسلمين، حتى عند من يأخذها، ويعرف حكم الله، وقد ذكر ابن حزم إجماع المسلمين على ذلك))( ).
وقد ذكر شيخ الإسلام أن التوظيف إنما وضعه من وضعه ((بتأويل واجتهاد علمي ديني، واتفق على ذلك الفتوى والرأي من بعض علماء ذلك الوقت ووزرائه))( ).
والذي يظهر للباحث أن هذه المسألة إنما احتيج إليها في القرنين الرابع والخامس الهجريين، فإن أول من وقفت له على كلام فيها أحمد بن نصر الداودي( ) من فقهاء المالكية من علماء ذلك القرن حيث سئل ((هل ترى لمن قدر أن يتخلص من غرم هذا الذي يسمى بالخراج إلى السلطان أن يفعل؟ قال: نعم ولا يحل له إلا ذلك))( ). وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية ~ في تأريخ القول بالجواز في جواب سؤال عن الوظائف: ((أما الفقهاء الأئمة الذين يفتى بقولهم, فلم يذكر أحد منهم جواز ذلك, ولكن في أوائل الدولة السلجوقية( ) أفتى طائفة من الحنفية والشافعية بجواز ذلك))( )، والدولة السلجوقية كان أول ملكها في أول القرن الخامس الهجري( ).
أما أول من كتب في جواز وضع الوظائف فيما وقفت عليه فأبو المعالي الجويني( ) في كتابه غياث الأمم في التياث الظلم، فإنه قال في بحثه لهذه المسألة: ((لست أحاذر إثبات حكم لم يدونه الفقهاء ولم يتعرض له العلماء فإن معظم مضمون هذا الكتاب لا يلفى مدوناً في كتاب ولا مضمناً في لباب...))( ). ثم قال: ((فليكن الكلام في الأموال، وقد صَفِرَ( ) بيت المال واقعة لا يعهد فيها للماضين مذهباً، ولا يحصل لهم مطلباً، ولنجر فيه على ما جرى عليه الأولون إذ دفعوا إلى وقائع لم يكونوا يألفوها، ولم ينقل لهم مذاهب، ولم يعرفوها، وإذا استد النظر استوى الأول والآخر))( ). وهذا يتضح منه بجلاء أن الجويني لم يقف في ذلك على كلام لمن تقدمه من أهل العلم.
وقد وافق الغزالي( ) الجويني في جواز وضع الوظائف إذا اضطر بيت المال إلى ذلك فقال ~: ((أما إذا خلت الأيدي من الأموال ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر، ولو تفرق العسكر واشتغلوا بالكسب لخيف دخول الكفار بلاد الإسلام أو خيف ثوران الفتنة من أهل العرامة( ) في بلاد الإسلام, فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند...; لأنا نعلم أنه إذا تعارض شران أو ضرران قصد الشرع دفع أشد الضررين وأعظم الشرين. وما يؤديه كل واحد منهم قليل بالإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه وماله لو خلت خطة الإسلام عن ذي شوكة يحفظ نظام الأمور ويقطع مادة الشرور))( ).
وقد تبع الشاطبي( ) الغزالي في ذلك، فقال ~: ((إنا إذا قررنا إماماً مطاعاً مفتقراً إلى تكثير الجنود؛ لسد الثغور وحماية الملك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال، وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم، فللإمام إذا كان عدلاً أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافياً لهم في الحال إلى أن يظهر مال بيت المال))( ). وقد قرر الشاطبي ذلك على نحو ما ذكر الغزالي، ثم قال: ((وهذه المسألة نص عليها الغزالي في مواضع من كتبه))( ). وقد اشتهرت الفتوى بذلك عن جماعة من فقهاء المالكية( ).
أما فقهاء الحنفية فقد ذكر بعض متأخريهم( )، جواز التوظيف؛ لتجهيز الجيش، وفداء الأسرى( )، بل والقيام بالمصالح العامة إذا لم يكن في بيت المال ما تحصل به الكفاية.
قال ابن عابدين: ((وما وظف للإمام ليجهز به الجيوش وفداء الأسارى بأن احتاج إلى ذلك ولم يكن في بيت المال شيء فوظف على الناس ذلك والكفالة به جائزة اتفاقاً))( ). وقال أيضاً: (( ما يضر به السلطان على الرعية مصلحة لهم يصير ديناً واجباً وحقاً مستحقاً كالخراج, وقال مشايخنا: وكل ما يضربه الإمام عليهم لمصلحة لهم فالجواب هكذا حتى أجرة الحراسين لحفظ الطريق واللصوص، فعلى هذا ما يؤخذ من العامة لإصلاح المصالح العامة دين واجب لا يجوز الامتناع عنه))( ).
وبالنظر إلى ما ذكره القائلون بالجواز يظهر أنهم إنما قالوا بذلك في حال الاضطرار وحصول الضرورة إلى أخذ المال وفرضه، وذلك بفراغ بيت مال المسلمين من المال الذي تصان به البلاد من أعدائها ويأمن به المسلمون على دمائهم وأعراضهم وأموالهم، ويخاف بعدمه ضياع دولة الإسلام ووهنها.
ولذلك فإن الجويني ~، وهو أول من وقفت له على قول بالجواز، قد أكَّد على وجوب التأني في وضع الوظائف والاحتياط فيه، بل عدَّ الاضطرار إلى ذلك من البلاء، فقال: ((فإن بلي الإمام بذلك، فليتـئد، ولينعم النظر هنالك، فقد دفع إلى خطـبين عظـيمين:
أحدهما: تعريض الخطة( ) للضياع. والثاني: أخذ أموال من غير سناد استحقاقه إلى مستند معروف مألوف))( ).
وقد جعل المجيزون عمدتهم فيما ذهبوا إليه من جواز التوظيف في الحال التي رسموا ما يأتي:
أولاً: ضرورة إقامة دولة الإسلام وما قد يترتب على ترك ذلك من المفاسد الكبار، قال الجويني ~: ((ولو لم يتدارك الإمام ما استرم( ) من سور الممالك؛ لأشفى الخلائق على ورطات المهالك، ولخيفت خصلة لو تمت ـ لا كانت ولا ألمت ـ لكان أهون فائت فيها أموال الأغنياء، وقد يتعداها إلى إراقة الدماء، وهتك الستور، وعظائم الأمور))( ).
ثانياً: تحصيل المصلحة المترتبة على وضع الوظائف في هذه الحال، وتتبين مصلحة ذلك بالموازنة بين ضرر أخذ شيء من أموالهم وبين ضرر ضعف دولة الإسلام وظهور الكفار، قال الغزالي في تقرير ذلك: ((لأنا نعلم أنه إذا تعارض شران أو ضرران قصد الشرع دفع أشد الضررين وأعظم الشرين، وما يؤديه كل واحد منهم قليل بالإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه وماله لو خلت خطة الإسلام عن ذي شوكة يحفظ نظام الأمور ويقطع مادة الشرور))( ). وقال الشاطبي ~: ((فإذا عورض هذا الضرر العظيم بالضرر اللاحق لهم بأخذ البعض من أموالهم فلا يتمارى في ترجيح الثاني عن الأول))( ).
ثالثاً: أنه إذا كان للإمام عند الحاجة في الجهاد أن يستنفر من تحصل بهم الكفاية واندفاع الحاجة، وهذا نوع حكم في دمائهم؛ لما قد يترتب على ترك استنفارهم من فوات الأنفس والتعرض للمهالك، فإلزامهم أن يـبذلوا شيئاً من أموالهم لإقامة الجهاد وحفظ بلاد الإسلام، لو مست إليها الحاجة، كان ذلك من أسهل الأمور، فأموال ((الدنيا لو قوبلت بقطرة دم، لم تعدلها، ولم توازنها))( )، وذلك أن ((الأموال في هذا المقام من المستحقرات))( ).
رابعاً: القياس على عدة أصول ونظائر جاءت في السنة والآثار، ومسائل ذكرها بعضها الفقهاء ـ رحمهم الله ـ تشهد بمجموعها لجواز وضع الوظائف ويستأنس بها، من ذلك ما يأتي:
الأول: ما فعله النبي في غزوة تبوك( )لما أصاب الناس مجاعة حيث دعاهم بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف تمر، ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع من ذلك شيء يسير، فدعا رسول الله عليه بالبركة، ثم قال : ((خذوا في أوعيتكم))( ).
الثاني: ما فعله أبو عبيدة( ) لما بعثه رسول الله أميراً على سرية من ثلاث مائة رجل، ففني زادهم فجمع أبو عبيدة زادهم، فكان يقوتهم قليلاً قليلاً حتى كان يصيب الواحد كل يوم تمرة( ).
الثالث: وضع عمر بن الخطاب الخراج على أراضي العراق( ). قال الجويني ~ في بيان ذلك: ((لما انتشرت الرعية، وكثرت المؤن المعينة تسبب أمير المؤمنين عمر إلى توظيف الخرج والأرفاق( ) على أراضي العراق، وهو قار بإطباق واتفاق))( ).
الرابع: أن أهل العلم متفقون ((على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة، فإنه يجب صرف المال إليها، قال مالك: يجب على الناس فداء أسراهم، وإن استغرق ذلك أموالهم، وهذا إجماع))( ).
الخامس: ما ذكره الفقهاء من جواز تصرف الأب في مال طفله، والوصي في مال يتيمه، ومن ذلك ما ذكره الشاطبي من ((أن الأب في طفله، أو الوصي في يتيمه، أو الكافل فيمن يكفله مأمور برعاية الأصلح له، وهو يصرف ماله إلى وجوه من النفقات، أو المؤن المحتاج إليها، وكل ما يراه سبباً لزيادة ماله، أو حراسته من التلف جاز له بذل المال في تحصيله. ومصلحة الإسلام عامة لا تتقاصر عن مصلحة طفل، ولا نظر إمام المسلمين يتقاعد عن نظر واحد من الآحاد في حق محجوره))( ).
والذي يظهر للباحث أن هذا القول الذي ذكره الجويني ومن تبعه من أهل العلم لا يخالف ما تقدم من الإجماع الذي نقله ابن حزم وابن تيمية من تحريم فرض وظائف مالية، فإن ذلك محمول على استقامة الحال وعدم الاضطرار إلى ذلك بأن تكون واردات بيت المال كافية؛ لسدِّ حاجات المسلمين في إقامة الجهاد وحفظ البلاد و إقامة مصالح العباد. ومما يؤكد هذا أن ابن حزم، وهو الذي نقل الإجماع على تحريم التوظيف، يرى جوازه إذا دعت إليه الضرورة قال: ((وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات ولا فيء( ) سائر أموال المسلمين بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة))( ).
المسألة الثالثة: حكم تفعيل التوظيف في معالجة التضخم النقدي
بناء على ما تقدم من أن الإجماع منعقد على تحريم التوظيف إلا في حال الضرورة على ما وصف في المسألة السابقة. فلنتمكن من التوصل إلى حكم تفعيل التوظيف في معالجة التضخم النقدي نحتاج إلى النظر؛ هل هناك ضرورة إلى تفعيل التوظيف لمعالجة التضخم النقدي، أم أن الضرورة التي جعلها أهل العلم شرطاً لجواز وضع الوظائف غير متحققة في التوظيف من أجل معالجة التضخم النقدي؟ وذلك أن الضرورة التي يستباح بها المحرم لابد أن يتحقق فيها شرطان التاليان( ):
الشرط الأول: أن لا يمكن دفع الضرورة إلا من هذا الطريق المحرم.
الشرط الثاني: أن يُتيقن اندفاع الضرورة بهذا المحرم.
وبالنظر إلى مسألة تفعيل التوظيف في معالجة التضخم النقدي يتبين أن هذين الشرطين غير متحققين، وذلك لما يأتي:
أولاً: أن هناك عدة وسائل وطرق يمكن من خلالها معالجة التضخم النقدي كالوسائل المباحة التي تناولها هذا الباب كتفعيل إخراج الزكاة وتنظيم عرض النقود وتدبير الإنفاق، فلا يتعين التوظيف لمعالجة التضخم النقدي، وبهذا يفوت شرط أن لا يمكن دفع الضرورة إلا من هذا الطريق المحرم.
ثانياً: أن معالجة التضخم النقدي عن طريق تفعيل التوظيف ووضع الضرائب لا يتيقن اندفاع الضرورة بها، وذلك لأن هناك العديد من الصعوبات الإدارية والفنية والتنفيذية التي تحول دون تحقيق المقصود( ). بل على العكس من ذلك فإن تفعيل التوظيف ووضع الضرائب محفوف بالمخاطر إذ قد يأتي بنتائج عكسية، فيكون باعثاً على زيادة حدة التضخم النقدي، حيث إن ارتفاع نفقات المعيشة بسبب التوظيف والضرائب سيفضي إلى المطالبة برفع الأجور ودخل عموم الناس تمشياً مع هذا الارتفاع الناتج عن التوظيف ووضع الضرائب( ).
فتبين مما تقدم أنه لا يجوز استعمال التوظيف ووضع الضرائب في معالجة التضخم النقدي؛ لعدم انطباق الشروط التي يستباح بها المحرم لدفع الضرورة، والله تعالى أعلم.
الخاتمـــــة
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد،
فقد تناولت هذه الرسالة موضوع التضخم النقدي في الفقه الإسلامي بالدراسة والبحث، وقد استفدت منها فوائد جمة، وتوصلت إلى نتائج عدة. من أبرز النتائج التي توصلت إليها في هذا البحث ما يأتي:
الأول: أن النقود كل ما نال ثقة الناس في التعامل به، وأصبح ثمناً ومعياراً للأموال.
الثاني: أن أشهر الاعتبارات التي يمكن تقسيم أنواع النقود وفقها وأكثرها انتشاراً تقسيمها باعتبار تطورها التأريخي.
وهي تنقسم بهذا الاعتبار إلى أربعة أنواع:
النوع الأول: النقود السلعية: وهي عبارة عن سلع معينة يتعارف عليها الناس تستعمل وسيطاً بينهم في مبادلاتهم ومعاملاتهم.
النوع الثاني: النقود المعدنية: وهي عبارة عن قطع معدنية تستعمل وسيطاً للتبادل إما وزناً، وإما عدَّاً.
النوع الثالث: النقود الورقية: وهي عبارة عن أوراق تطرح للتداول وتستخدم في تبادل السلع والخدمات وسائر المعاملات.
وقد مر هذا النوع بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: وفي هذه المرحلة كانت الأوراق النقدية كاملة الغطاء، أي إنها مغطاة مائة في المائة من الذهب أو الفضة، وتعرف هذه المرحلة بمرحلة النقود الورقية النائبة.
المرحلة الثانية: وفي هذه المرحلة كانت الأوراق النقدية تستمد قوتها وقبولها من القانون والإلزام الحكومي بها، وتعرف هذه المرحلة بمرحلة النقود الورقية الإلزامية.
المرحلة الثالثة: وفي هذه المرحلة صارت الأوراق النقدية بعد ذلك إنما تستمد قوتها من الثقة في قبولها وسيطاً في التبادلات، ومن الثقة في اقتصاد الحكومة المصدرة لها وقوته واستقراره، وتعرف هذه المرحلة بمرحلة النقود الورقية الائتمانية.
النوع الرابع: النقود المصرفية: وحقيقة هذا النوع من النقود أنها قيد كتابي في دفاتر المصرف، وهذا القيد يعبر عن قدر الأوراق النقدية التي أودعت في المصرف وأسماء أصحابها.
وقد رجع بعض العلماء هذه الأنواع من النقود إلى صنفين:
الصنف الأول: النقود الخَلقية: وهي النقود التي لها قيمة ذاتية، وأبرز هذه الأنواع معدنا: الذهب والفضة.
الصنف الثاني: النقود الاصطلاحية: وهي ما تعارف الناس على استخدامه وسيطاً للتبادل، وليس لقيمتها العينية أو الذاتية أثر في ذلك غالباً، كالنقود الائتمانية.
الثالث: أن أنواع التغيرات الطارئة على النقود التي تكلم عنها الفقهاء ثلاثة:
النوع الأول: الكساد: وهو أن يبطل التداول بنوع من العملة، ويسقط رواجها في جميع البلدان.
النوع الثاني: الانقطاع: وهو أن يُفقد من أيدي الناس، ولا يتوفر في السوق لمن يريده، ولو كان موجوداً في البيوت أو في أيدي الصيارفة.
النوع الثالث: الرخص والغلاء:
أما رخص النقود: فهو أن تنـزل قيمة النقود وتنقص بالنسبة للدراهم والدنانير. وأما غلاء النقود: فهو أن تزيد قيمة النقود وترتفع بالنسبة للدراهم والدنانير.
الرابع: أن أهل العلم اختلفوا في التكييف الفقهي للأوراق النقدية على أقوال، أقربها للصواب أن الأوراق النقدية حكمها حكم الفلوس.
الخامس: التضخم النقدي نوع من التغيرات التي تطرأ على النقود وهو عبارة عن حركة صعودية للأسعار تتصف بالاستمرار الذاتي تنتج عن فائض الطلب الزائد على قدرة العرض.
السادس: أن الدراسات في الأدب الاقتصادي وتأريخ النقود تبين أن التضخم النقدي قديم قدم النقد، فليس هو أمراً طارئاً على الورق النقدي.
السابع: أن هناك اعتبارات عدة يمكن تصنيف التضخم النقدي على أساسها. أشهر هذه الاعتبارات، وألصقها بموضوع البحث ما يلي:
الاعتبار الأول: تصنيف التضخم النقدي باعتبار سرعة ارتفاع الأسعار. وهو بهذا الاعتبار ينقسم إلى ثلاثة أنواع رئيسة:
النوع الأول: التضخم الزاحف: وهو ارتفاع متواصل للمستوى العام للأسعار بمعدلات صغيرة. وهو من أخف أنواع التضخم النقدي.
النوع الثاني: التضخم المتسارع: وهو ارتفاع مستمر ومتضاعف في المستوى العام للأسعار في فترة زمنية قصيرة. وهو من الأنواع الخطرة التي تهدد الاقتصاد.
النوع الثالث: التضخم المفرط: وهو ارتفاع سريع حاد في المستوى العام للأسعار. ويسمى هذا النوع في كثير من الدراسات الاقتصادية العربية بالتضخم الجامح. ويعدُّ هذا النوع أشد أنواع التضخم النقدي خطورة على اقتصاديات الدول.
الاعتبار الثاني: تصنيف التضخم النقدي باعتبار توقع حدوثه. وهو بهذا الاعتبار ينقسم إلى نوعين:
النوع الأول: التضخم النقدي المتوقع: وهو تغير في المستوى العام للأسعار بنسبة لا تزيد على ما كان متوقعاً على نطاق واسع.
النوع الثاني: التضخم النقدي غير المتوقع: وهو الزيادة في المستوى العام للأسعار زيادة مفاجئة أعلى من النسبة المتوقعة عند أكثر الناس.
الاعتبار الثالث: تصنيف التضخم النقدي باعتبار مصادره وأسبابه. وهذا الاعتبار هو أشهر الاعتبارات التي يصنف على ضوئها التضخم النقدي في كتب الاقتصاد. وينقسم التضخم النقدي بهذا الاعتبار إلى نوعين:
النوع الأول: التضخم النقدي الناشىء عن جذب الطلب: وهو زيادة الطلب الكلي للسلع والخدمات على نسبة المعروض منها، وبسبب هذه الزيادة يختل التوازن في الأسواق، فتبدأ الأسعار بالارتفاع نتيجة لتخلف العرض الكلي للسلع والخدمات عن الطلب الكلي عليها.
النوع الثاني: التضخم النقدي الناشىء عن دفع التكاليف: وهو زيادة تكاليف إنتاج السلع والخدمات، بسبب ضغوط العمال لرفع أجورهم.
الثامن: يستعمل الاقتصاديون لقياس نسبة التضخم النقدي الأرقام القياسية للأسعار. وهذه الأرقام عبارة عن ملخص التغير النسبي في أسعار مجموعة من السلع في وقت معلوم بالنسبة إلى مستواها في وقت آخر يتخذ أساساً للقياس أو أساساً للمقارنة. وهناك أنواع متعددة من الأرقام القياسية لقياس الأسعار، إلا أن أفضل هذه الأرقام القياسية، هو الرقم القياسي لأسعار المستهلكين: وهو عبارة عن معدل أو متوسط أسعار شراء السلع والخدمات التي يستهلكها أفراد المجتمع من أصحاب الدخول المحدودة خلال فترة زمنية معينة ثلاثة أشهر أو ستة أشهر أو غير ذلك. ومن الجدير بالذكر أن هذه الأرقام القياسية لا تعدو كونها مؤشرات تقريبية.
التاسع: التضخم النقدي له تأثير على جوانب عديدة من حياة الناس، فانخفاض قيمة النقود أو قوتها الشرائية بسبب ارتفاع المستوى العام للأسعار له آثار اقتصادية وسلوكية واجتماعية وسياسية. وتختلف هذه الآثار باختلاف نسبة التضخم النقدي ودرجته، فكلما ازدادت نسبة التضخم النقدي تفاقمت تلك الآثار وتعقدت تلك الإشكالات الناجمة عن التضخم النقدي. وأبرز آثار التضخم النقدي الاقتصادية:إعادة توزيع الدخل، تقليص حجم الادخار والاستثمار، اختلال العلاقات التعاقدية. ولهذه الآثار الاقتصادية انعكاسات في جوانب أخرى من حياة الناس: اجتماعية، وسلوكية، وسياسية.
العاشر: القوة الشرائية للنقود أو القيمة التبادلية هي عبارة عن مقدار السلع والخدمات التي تستطيع أن تحصل عليها وحدة النقد في زمن معين.
الحادي عشر: أن التغير في قيمة النقود التبادلية وقوتها الشرائية ليس خاصاً بنوع منها، بل يطرأ على جميع أنواع النقود: النقود الخلقية وغيرها.
الثاني عشر: اختلف أهل العلم فيما إذا كسدت النقود الخلقية من الذهب والفضة بعد التعامل بها وقبل قبضها ما الواجب رده على أقوال ثلاثة، والراجح منها أن الواجب رد قيمة النقود.
الثالث عشر: وقد اختلف أهل العلم ـ رحمهم الله ـ فيما يترتب على انقطاع النقود الخلقية من الذهب والفضة بعد التعامل بها وقبل قبضها نظير اختلافهم في كسادها، والراجح منها أن الواجب رد قيمة النقود.
الرابع عشر: اتفقت المذاهب الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة على أنه لا يجب في حال غلاء النقود الخلقية من الذهب والفضة أو رخصها إلا ما ثبت في الذمة منها، وقد حكي الإجماع على ذلك.
الخامس عشر: اختلف الفقهاء فيما يترتب على كساد النقود الاصطلاحية كاختلافهم في كساد النقود الخلقية، والذي يترجح فيها أن كسادها بعد التعامل بها وقبل قبضها يوجب رد قيمتها.
السادس عشر: اختلف الفقهاء فيما يترتب على انقطاع النقود الاصطلاحية نظير اختلافهم في انقطاع النقود الخلقية: أقوالاً، وقائلين، واستدلالاً وترجيحاً.
السابع عشر: اختلف الفقهاء فيما يترتب على غلاء النقود الاصطلاحية الفلوس ورخصها بعد التعامل بها وقبل قبضها على قولين في الجملة أرجحهما أن الواجب رد قيمتها في ذلك كله.
الثامن عشر: أقرب التوصيفات والتخريجات الفقهية للتضخم النقدي، هو أن التضخم النقدي الطارئ على الأوراق النقدية نوع من رخص النقود الاصطلاحية. ويترتب على هذا أن يثبت لانخفاض القيمة التبادلية للنقود الورقية ما تكلم عنه الفقهاء في رخص الفلوس.
التاسع عشر: ليس للتضخم النقدي أثر في قدر أنصبة الأموال الزكوية التي جاء النص بتحديدها وبيان قدرها في السنة، فقد حدّد النبي نصاباً للنقدين: الذهب والفضة، وآخر لبهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم، وآخر للزروع والثمار. أما نصاب زكاة الأوراق النقدية فيتأثر بالتضخم النقدي. وذلك أن التضخم النقدي يرفع مقدار نصاب الأوراق النقدية، وتختلف درجة هذا الارتفاع في النصاب باختلاف نسبة التضخم النقدي. ففي التضخم النقدي الجامح يكون الارتفاع عالياً، وفي التضخم النقدي السريع يكون الارتفاع متوسطاً، وفي التضخم النقدي الزاحف يكون الارتفاع طفيفاً. ومهما يكن من أمر فإنه إذا نقص نصاب الأوراق النقدية بسبب التضخم النقدي أثناء الحول بأي نسبة كانت فإن الحول ينقطع بذلك. فإذا كمل نصاب الأوراق النقدية بعد ذلك استأنف به حولاً جديداً.
العشرون: عدم ضمان نقص القيمة التبادلية للأوراق النقدية فيما إذا أخّر من عليه الزكاة إخراجها حتى نقصت بسبب حدوث التضخم النقدي أو زيادة نسبته، ولا فرق في ذلك بين أنواع التضخم النقدي سواء كان جامحاً أو متسارعاً أو زاحفاً، وسواء كان متوقعاً أو غير متوقع.
الحادي والعشرون: ليس للتضخم النقدي أثر في زكاة الأموال التي تجب الزكاة فيها من عين المال على قول الجمهور الذين يمنعون إخراج القيمة عوضاً عن الزكاة الواجبة في عين المال. أما على القول بجواز إخراج القيمة في زكاة الأعيان للمصلحة والحاجة. فإنه يجوز إخراج الزكاة من الأوراق النقدية بدلاً عن العين حتى في ظل التضخم النقدي إذا كانت المصلحة في إخراج القيمة أرجح من إخراجها من عين المال، أو دعت إلى ذلك حاجة. أما على القول بجواز إخراج القيمة في زكاة الأعيان مطلقاً، فإن التضخم النقدي في مستوياته الدنيا والمتوسطة ليس له تأثير على القول بالجواز إلا في حال التضخم المفرط لأنه لا نفع فيه للمستحقين بل فيه ضرر عليهم غالباً.
الثاني والعشرون: لا يظهر أن للتضخم النقدي أثراً في زكاة عروض التجارة على القول بوجوب إخراج الزكاة من قيمة العروض إلا من جهة زيادة مقدار ما يجب من الزكاة، لكن ذلك الأثر مقيد بما إذا لم يؤدِ التضخم النقدي إلى ارتفاع قدر النصاب ارتفاعاً يخرج به قيمة عروض التجارة عن وجوب الزكاة فيها لعدم بلوغها النصاب. أما على القول بأن الواجب إخراج زكاة العروض من عين ما وجبت فيه الزكاة فأثر التضخم النقدي هو وجوب مراعاة العرض المُخرج، وذلك بأن تكون العين المُخرجة من أوسط عروض التجارة.
الثالث والعشرون: المعتبر في قدر زكاة الدين هو وقت وجوب الزكاة فيه على القول الأول. وبناء على هذا فزكاة كل عام تأخذ حكماً مستقلاً من حيث أثر التضخم النقدي على قدر النصاب، فقد تختلف الأعوام من حيث وجوب الزكاة في الدين. وذلك بالنظر إلى اختلاف نسبة التضخم النقدي في تلك الأعوام. ولا فرق في ذلك بين قول من أوجب إخراج زكاة الدين على الفور في نهاية كل عام، وبين قول من رخص في تأخير إخراج زكاة الدين إلى قبضه؛ لأن الوقت المعتبر في نصاب الزكاة وقت وجوبها لا وقت إخراجها.
الرابع والعشرون: ليس للتضخم النقدي أثر في الدية على هذا القول بأن الأصل فيها الإبل، لكن قد يكون للتضخم النقدي أثر فيما إذا أعوزت الإبل فإن للمستحق الخيار بين أخذ قيمتها، وبين الإمهال حتى يزول الإعواز. ومن المعلوم أن مستحق الدية سيختار الأصلح له. فإذا اختار القيمة من الأوراق النقدية فلا بد في تقويم الإبل بالورق النقدي من مراعاة قيمة الوسط. أما على القول بأن الأصل في الدية ثلاثة أصناف أو خمسة فإنه ليس للتضخم النقدي أثر في الدية إلا عند اتفاق مستحق الدية وباذلها على أخذ قيمة الدية من الأوراق النقدية، وحينئذٍ يكون للتضخم النقدي الأثر الذي تقدم ذكره.
الخامس والعشرون: التضخم النقدي يؤثر في الديات المؤجلة إذا كانت الدية المؤجلة ستدفع من الأوراق النقدية، وذلك أن القوة التبادلية لقيمة الدية من الأوراق النقدية ستنقص عنها في يوم التقويم، بسبب التضخم النقدي الذي طرأ أو زاد خلال مدة تأجيل الدية، وتختلف نسبة هذا النقص باختلاف معدل التضخم النقدي. ففي حال كون التضخم النقدي جامحاً أو متسارعاً فإنه لا يلزم مستحق الدية قبول قيمتها من الورق النقدي لما طرأ من نقص في قيمتها، وله أن يطالب إما بإعادة تقويم قسط الدية عند حلوله؛ ليتلافى نقص القيمة، وإما أن تدفع له الدية من الأصل، أي من الإبل، لا من قيمتها أو من بقية الأصول على القول بتعددها؛ لأن في دفع القيمة ضرراً عليه، فله الرجوع إلى الأصل. أما إن كان التضخم النقدي زاحفاً فإنه لا حاجة في هذه الحال إلى إعادة تقويم الإبل عند حلول أدائها، على القول بجواز إخراج القيمة في الدية، وذلك أن النقص الحاصل بسببه مما يتغابن الناس في مثله عادة. أما على القول بأنه لا تجوز الدية من غير الإبل إلا إذا أعوزت فلا يظهر أن للتضخم النقدي الزاحف أثراً أيضاً؛ لأنه يجب تقويم ما وجب من الدية عند حلول الأجل.
السادس والعشرون: لا أثر للتضخم النقدي في نصاب السرقة سواء قدر بالذهب أو بالفضة؛ لأن التقدير منصوص عليه. أما قيمة النصاب من الورق النقدي فإن للتضخم النقدي أثراً فيها، وذلك أن أسعار الذهب والفضة تتأثر بالتضخم النقدي ارتفاعاً وانخفاضاً فإذا ارتفع معدل التضخم ارتفعت غالباً أسعار الذهب والفضة فترتفع بذلك قيمة النصاب من الأوراق النقدية. والذي يظهر للباحث أنه لا أثر للنقص الطارىء بعد الإخراج من الحرز في رفع الحد، ولا يُعدُّ ذلك شبهة يدرأ بها.
السابع والعشرون: إذا كان التضخم النقدي غير متوقع، يلحق الدائن به ضرر زائد على الحد المعتاد الذي يتغابن الناس بمثله، فإنه يجب على المدين رد قيمة ما ثبت في ذمته للدائن، في كل الديون التي لا يتمكن من أخذها، تداركاً لانخفاض القيمة التبادلية. أما ما يمكنه تداركه بأخذه قبل تدهور قيمته والمدين باذل كالنقود المصرفية فإن الواجب رد المثل.
الثامن والعشرون: إذا كان التضخم النقدي غير متوقع، يلحق الملتزم في العقود والالتزامات الآجلة الممتدة ضرر زائد على الحد المعتاد الذي يتغابن الناس بمثله،فإن الواجب تعديلها بما يدفع الضرر عن الملتزم ولا يجحف بالملتزم له، ولكل واحد منهما الفسخ إذا لم يرض بالتعديل. وفي هذه الحال لابد من الصلح، فإن تعذر فالمرجع إلى التحكيم أو القضاء لحل هذا الإشكال.
التاسع والعشرون: لا أثر للمماطلة في وفاء الدين إذا طرأ التضخم النقدي، بل الواجب رد قيمة ما ثبت في ذمة المدين سواء ماطل أو لم يماطل.
الثلاثون: إذا فرضت النفقة من الأوراق النقدية، ثم طرأ تضخم نقدي أو زادت نسبته، فصار تضخماً نقدياً جامحاً أو متسارعاً فللمُنْفَق عليه المطالبة بإعادة التقدير وزيادة الفرض، تبعاً للغلاء وزيادة السعر. أما إن كان تضخماً نقدياً زاحفاً فإنه لا يستوجب إعادة تقدير النفقة.
الحادي والثلاثون: إذا كان فرض النفقة من الأوراق النقدية في ظرف اقتصادي تضخمي، فإنه يجوز استعمال الربط القياسي بالمستوى العام للأسعار في تقدير النفقات وفرضها.
الثاني والثلاثون: إذا طرأ تضخم نقدي أو زادت نسبته فإن الغاصب يضمن الأوراق النقدية بقيمتها، إذا كان تضخماً نقدياً يلحق الأوراق النقدية فيه نقص لا يتسامح الناس بالتغابن في مثله عادة: كالتضخم النقدي المتسارع، والجامح، وكذلك التضخم الزاحف المتراكم.
الثالث والثلاثون: إذا طرأ تضخم نقدي أو زادت نسبته فإن للمشتري أن يمتنع من بذل المبيع للشفيع حتى يعوضه الشفيع عن نقص القيمة الشرائية التبادلية للنقود.
الرابع والثلاثون: إذا طرأ تضخم نقدي أو زادت نسبته فالمعتبر في عوض الخلع على القول بعدم جواز الزيادة على قدر المهر هو رد قيمة النقود التي بذلها في المهر لا قدرها.
الخامس والثلاثون: إذا طرأ تضخم نقدي أو زادت نسبته فليس له تأثير في عقد الرهن، فإذا نقصت القيمة الشرائية التبادلية للأوراق النقدية فإنها تبقى رهناً، ولو كان التضخم النقدي متسارعاً أو جامحاً. كما أنه إذا كان الدين أوراقاً نقدية فجعل رهنها عيناً، ثم طرأ تضخم نقدي رخصت به القيمة الشرائية التبادلية للنقود وارتفع به سعر الرهن، فإن العين تبقى رهناً بجميع الدين.
السادس والثلاثون: أثر التضخم النقدي في عقد الضمان إذا كان الدين المضمون أوراقاً نقدية فإنه يمكن بناؤه على مسألة أثر التضخم النقدي في الدين، فيلزم الضامن قيمة ما ثبت في ذمة المدين المضمون عنه.
السابع والثلاثون: ليس للتضخم النقدي أثر في التعديل بين الأولاد في الهبة إذا كان التعديل بينهم بالرجوع سواء كانت الهبة أوراقاً نقدية أو غيرها. أما إن كان التعديل بين الأولاد بالتسوية بينهم فلابد من مراعاة نقص القيمة الشرائية التبادلية للنقود دفعاً للتباغض والشحناء عنهم.
الثامن والثلاثون: لا تخلو عطية المريض مرضاً مخوفاً من أن تكون مالاً عينياً أو تكون أوراقاً نقدية. فإن كانت عطية المريض مرضاً مخوفاً مالاً عينياً، فالتضخم النقدي يفضي إلى ارتفاع المستوى العام للأسعار، فإذا طرأ التضخم النقدي بعد العطية وقبل الموت فقد تكون العطية العينية من جملة ما ارتفع سعره من الأعيان، فتزيد على ثلث المال، فيوقف ما زاد على الثلث من العطية على إجازة الورثة. أما إن كانت العطية في مرض الموت المخوف أوراقاً نقدية، فقد تكون أكثر من الثلث يوم العطاء، فتصير يوم موت المعطي ضمن الثلث إذا كان في التركة ما ارتفع سعره بسبب التضخم النقدي، فلا يتوقف أخذ العطية عندئذ على إجازة الورثة.
التاسع والثلاثون: إذا طرأ تضخم نقدي أو زادت نسبته فإنه لا ينبغي قصد إخراج الأوراق النقدية في الصدقة، إلا إذا كانت هي ما بحضرته، أو كان ماله من جنسها، وذلك أن التضخم النقدي يسبب نقص القيمة التبادلية الشرائية للنقود، فتضعف بذلك إحدى أهم وظائف النقود، وهي كونها وسيلة لحفظ الثروة وخزنها، وتوالي هذا التناقص في القيمة الشرائية التبادلية للنقود أو كبر حجمه يفضي غالباً إلى زهد الناس في الاحتفاظ بالأوراق النقدية.
الأربعون: إذا حدث التضخم النقدي بعد الوصية وقبل موت الموصي فأثر التضخم النقدي فيما إذا كان الموصى به عيناً أنه إذا زادت قيمتها على ثلث المال، فإن ما زاد على الثلث من الوصية موقوف على إجازة الورثة. أما إذا كان القدر الموصى به أوراقاً نقدية، وكان أكثر من الثلث يوم الإيصاء، ثم طرأ تضخم نقدي بعد ذلك وقبل لزوم الوصية بموت الموصي، وكان في التركة ما ارتفع سعره بسبب ذلك حتى صار قدر الموصى به من الورق النقدي ضمن الثلث، فعندئذ لا يتوقف نفاذ الوصية على إجازة الورثة؛ لأنها ضمن الثلث.
الحادي والأربعون: هناك وسائل عديدة لمعالجة التضخم النقدي، وهي قسمان في الجملة:
القسم الأول: الوسائل العامة: وهي المعالجات التي ترمي إلى التخلص من التضخم النقدي والسيطرة على نسبته والحد منه.
القسم الثاني: الوسائل الخاصة: وهي المعالجات التي ترمي إلى تخفيف آثار التضخم النقدي، والحد من أضراره في الديون والحقوق الخاصة والعلاقات التعاقدية الممتدة.
الثاني والأربعون: الربط القياسي من أهم الوسائل المستخدمة في توقي الاضطرابات الناشئة عن التضخم النقدي. وهو عبارة عن نظام لربط القيمة الاسمية لأي مدفوعات مؤجلة بمؤشر مناسب للقوة الشرائية للنقود. أما طريقة استعمال الربط القياسي فذلك عن طريق ربط المتغيرات الاقتصادية التي تقاس عادة بالوحدات النقدية بأرقام قياسية يمكنها تحويل هذه المتغيرات إلى مقادير حقيقية يعرف بها ما طرأ من نقص في القوة الشرائية التبادلية. وقد استعمل الاقتصاديون هذه الأداة في المحافظة على مستوى ثابت لقيمة الأجور، والرواتب التقاعدية، والقروض، وغير ذلك مما يتأثر بالتضخم النقدي.
الثالث والأربعون: استعمل الاقتصاديون عدة مؤشرات ومعايير لتثبيت المدفوعات المؤجلة، وأبرز هذه المؤشرات: الربط بمستوى الأسعار، والربط بالذهب، والربط بعملة أو سلة عملات، والربط بسعر الفائدة.
الرابع والأربعون: يعدُّ الربط القياسي بمستوى الأسعار من أشهر أنواع الربط القياسي وأكثرها انتشاراً واستعمالاً. وتتلخص فكرة الربط القياسي بمستوى الأسعار في أن المدفوعات المؤجلة تزيد بقدر ما يحصل من ارتفاع في مستوى الأسعار. وهذا النوع من الربط يعتمد الأرقام القياسية للأسعار التي تقيس متوسط التغير في الأسعار. و هذه الأرقام القياسية للأسعار على اختلافها تعدُّ مؤشرات تقريبية، وذلك للمصاعب الفنية الاقتصادية والمشكلات الكثيرة التي تحف تكوين هذه الأرقام القياسية.
الخامس والأربعون: من أنواع الربط القياسي الربط بالذهب، وقد انبثقت فكرة ربط الديون والالتزامات التعاقدية وغير ذلك بالذهب في الأصل من أن الأوراق النقدية كانت في أول ظهورها مغطاة بنسبة مائة في المائة من الذهب. فكل ورقة نقدية تعادل قيمة وزن معين من الذهب لدى جهة إصدار هذه الأوراق، وأيضاً لما يتمتع به الذهب من ثبات نسبي في القيمة الحقيقية مقارنة بغيره من السلع. أما طريقة الربط بالذهب فيكون ذلك بالاعتماد عليه عند إبرام العقود، وذلك بالنظر إلى القوة الشرائية للنقود مقيسة بالذهب.
السادس والأربعون: من أنواع الربط القياسي الربط بعملة أو سلة عملات، وهي عبارة عن ربط الديون والالتزامات التعاقدية والمدفوعات المؤجلة بعملة منتقاة تتميز بالثبات النسبي والقبول أو بمجموعة عملات، بحيث تربط بها هذه المدفوعات المؤجلة عند إبرامها وإنشائها، فإذا طرأ تضخم نقدي فسيراعى في الوفاء قيمة الديون وسائر المدفوعات المؤجلة من تلك العملة المتفق على الربط بها.
السابع والأربعون: من أنواع الربط القياسي الربط بسعر الفائدة، ويتلخص في أن المدين ومن عليه الحق يلتزم وفاء الديون والقروض والمدفوعات المؤجلة مضافاً إليها سعر الفائدة المعلن في وقت الوفاء، وذلك فيما إذا طرأ تضخم نقدي أو زاد معدل التضخم النقدي عنه في يوم التعاقد وإبرام الدين.
الثامن والأربعون: يجوز ربط الديون والقروض والمدفوعات المؤجلة بمستوى الأسعار من حيث الأصل. ولكن مع هذا لا بد من ملاحظة بعض القيود والضوابط لإحكام العمل بالربط القياسي بمستوى الأسعار، والسلامة من المحاذير الشرعية التي ذكرها القائلون بالمنع وعدم الجواز.
التاسع والأربعون: الربط القياسي بالذهب لا يختلف عن الربط القياسي بمستوى الأسعار خلافاً وترجيحاً.
الخمسون: الربط القياسي بعملة أو بسلة عملات فيه للفقهاء المعاصرين قولان أرجحهما جواز ربط الديون والقروض والمدفوعات المؤجلة بعملة أو بسلة عملات.
الحادي والخمسون: الربط القياسي بسعر الفائدة لتثبيت قيمة الديون والقروض، وتكاليف العقود الممتدة وغيرها غير جائز.
الثاني والخمسون: نظرية الظروف الطارئة: هي إحدى النظريات التي تُعنى بمعالجة وتعديل العقود المتراخية التنفيذ في الأحوال المفاجئة والحوادث غير المتوقعة. فالفكرة الأساسية في نظرية الظروف الطارئة أنها وسيلة قانونية لإعادة التوازن بين التزامات طرفي العقد بعد أن اختل ذلك التوازن اختلالاً شديداً بينهما بحيث أصبح التزام المدين لا يتناسب مطلقاً مع التزام الدائن، ويحقق خسائر شديدة للمدين إذا نفذ الالتزام كما نص عليه في العقد.
الثالث والخمسون: أول من حاول تلمس أصول لنظرية الظروف الطارئة في الفقه الإسلامي هو الدكتور عبد السلام الترمانيني في كتابه نظرية الظروف الطارئة. وقد قام مجمع الفقه الإسلامي بدراسة هذه النظرية في دورته الخامسة وانتهى إلى اعتبار الظروف الطارئة في تعديل الالتزامات والحقوق في العقود المتراخية التنفيذ كعقد التوريد. والذي يظهر أنه لا مانع من توسيع دائرة إعمال نظرية الظروف الطارئة وتفعيلها حتى فيما يتعلق بوفاء الديون.
الرابع والخمسون: التسوية القضائية هي تقويم المال بفصل الخصومة وحسم المنازعة. وذلك بأن ينظر القاضي فيما شجر بين المتعاقدين من نزاع واختلاف بسبب انخفاض القيمة الشرائية التبادلية للنقود. إلا أنه لا يسوغ اللجوء إلى التسوية القضائية لحلِّ الاختلال في العلاقات التعاقدية الناتجة عن التضخم النقدي إلا على القول بأن الواجب للدائن فيما إذا طرأ تضخم نقدي قيمة ما ثبت من الأوراق النقدية في ذمة المدين.
الخامس والخمسون: اللجوء إلى القضاء لحل المشكلات المترتبة على التضخم النقدي قد يكون ضرورة. وذلك فيما إذا تعذر الصلح بين طرفي العقد. فإن القضاء إنما شرع لفصل الخصومات ورفع المنازعات على وجه الإلزام للمتخاصمين بما ينتهي إليه القاضي.
السادس والخمسون: التسعير إجراء من قبل الجهات ذات الاختصاص بتقدير الأسعار وإلزام أهل الأسواق بأن لا يبيعوا إلا بالسعر المحدد، فيمنعون من الزيادة عليه تحقيقاً لمصلحة عامة. ويراعى في ذلك ما يعرف في علم الاقتصاد بقانون العرض والطلب.
السابع والخمسون: يجوز استعمال التسعير في معالجة آثار التضخم النقدي، والسيطرة عليه, وتحقيق العدالة الاجتماعية بإنصاف الفئات الأكثر تضرراً من الاختلال الناتج عن التضخم النقدي. وذلك لكون التسعير يمنع ارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية التي يقوم عليها معاش الناس. كما أنه يعمل على طمأنة المستهلك من توالي ارتفاع المستوى العام للأسعار.
الثامن والخمسون: يجوز تأخير إخراج الزكاة عن وقتها إذا اقتضى ذلك حاجة أو مصلحة حتى على القول بوجوب إخراج الزكاة على الفور. ومن ذلك تأخير إخراج الزكاة لمعالجة آثار التضخم النقدي، لكن يجب ملاحظة أمرين: الأول: أن لا تطول مدة تأخير إخراج الزكاة. الثاني: أن يكون تأخير إخراج الزكاة بترتيب من ولاة الأمر وجهات حكومية تقريراً وتنفيذاً.
التاسع والخمسون: يجوز توجيه أموال الزكاة سواء التي تتولى الدولة جمعها وصرفها، أو التي يخرجها أهلها إلى الأصناف التي لا يتسبب صرف الزكاة إليها في زيادة الإنفاق الاستهلاكي الذي يفضي إلى ارتفاع معدل التضخم النقدي كمصرف: الغارمين، وفي سبيل الله.
الستون: تؤكد الدراسات الاقتصادية على اختلافها أن من أقوى العوامل والأسباب التي ينتج عنها التضخم النقدي الزيادة في عرض النقود. أي: الزيادة في كمية النقود المتداولة في أيدي الناس، وكذلك كمية النقود المصرفية القابلة للسحب، كالودائع النقدية في الحسابات الجارية في البنوك. ولذلك فإن الدول تعتني بعرض النقود عناية فائقة تنظيماً وضبطاً من خلال عدة وسائل: من أهمها: التحكم في سعر الفائدة، والتحكم في حجم الكتلة، والتوظيف المالي، والتحكم في الإنفاق؛ لتحقيق الاستقرار النقدي.
الحادي والستون: لا يجوز استعمال سعر الفائدة في ضبط عرض النقود، بل الواجب السعي في إلغاء الفائدة الربوية من جميع الأنشطة الاقتصادية، وتطهير المعاملات منها؛ لكونها من الربا، ولما لها من الآثـار المدمرة على الاقتصاد. كما أن عدة دراسات اقتصادية انتهت إلى أن رفع سعر الفائدة ـ أي زيادة معدل الربا ـ لا يصلح في معالجة التضخم النقدي.
الثاني والستون: يعدُّ إصدار النقود من أبرز وأهم وظائف وأعمال البنوك المركزية أو ما يقوم مقامها من المؤسسات المالية في دول العالم الحديث. وهذا الإصدار للنقود يجري وفق قواعد متينة ومقاييس دقيقة ومعايير صارمة تنظم عملية الإصدار وتسعى إلى ضبطه.
الثالث والستون: يمكن إجمال الخطوط الرئيسة لعملية إصدار النقود عند الفقهاء والأصول التي تبنى عليها وتنظم وتضبط بواسطتها في النقاط التالية:
أولاً: وجوب العناية بالنقود والعمل على صيانتها من كل ما يضعف قيمتها أو يعطل وظائفها.
ثانياً: أن إصدار النقود من وظائف ولاة الأمر، وعليهم تحري المصلحة العامة فيها.
ثالثاً: أن لولي الأمر الحق في عقوبة كل من يعمل على إصدار النقود أو إفسادها ونقص قيمتها بما يراه رادعاً.
رابعاً: أن على ولاة الأمر بذل الجهود في مراقبة النقود للتحكم في العرض الكلي للنقود من أجل تحقيق الاستقرار النقدي المنشود.
خامساً: لا يجوز أن يتخذ الإصدار النقدي مصدراً من مصادر التمويل، بل الواجب أن يرتبط إصدار النقود بحاجة الناس ومصلحتهم.
الرابع والستون: من أهم ما يندرج في عملية تنظيم عرض النقود وضبطها تنظيم عرض النقود المصرفية أو نقود الودائع وضبط توليدها. وحقيقة عملية توليد النقود أنها إقراض، فإن كان ذلك بفائدة، وهو الغالب في عمل المصارف،فإنها لا تجوز. أما إن كانت خالية من الفائدة الربوية فهي جائزة.
الخامس والستون: تنظيم توليد النقود ضرورة اقتصادية لحفظ اقتصاد الأمة من الاختلال والتقلب بسبب التوسع في توليد النقود الذي إذا لم ينظَّم ويضبط فإنه سيفضي إلى تدهور قيمة النقود كما أنه سيهوي بالاستقرار النقدي. فتنظيم توليد النقود وضبطه آكد وأهم من تنظيم الإصدار النقدي، وذلك لأن المعاني التي بُني عليها القول بوجوب تنظيم الإصدار النقدي وجودها في عملية توليد النقود أقوى.
السادس والستون: الإنفاق العام يصدق عند الفقهاء على ما يصرفه ولي أمر المسلمين من بيت المال في المصالح العامة، فيشمل جميع النفقات العامة للحكومة وأجهزتها وهيئاتها، سواء أكانت نفقات عادية أم إنمائية. ويعدُّ الإنفاق العام المحرك الرئيس للنشاط الاقتصادي في كثير من بلدان العالم؛ لانتشاره وتنوع أسبابه. فقيام الدولة بتخفيض الإنفاق العام من أجل معالجة التضخم النقدي، ووقف ارتفاع المستوى العام للأسعار والحد من تدهور قيمة النقود يندرج في تصرف ولي الأمر في المال العام بالأصلح للأمة، وهذا هو الواجب عليه.
السابع والستون: التوظيف قدر من المال يفرضه ولي الأمر على الموسرين؛ لسدِّ حاجة عامة. والإجماع منعقد على تحريم التوظيف إلا في حال الضرورة. وبالنظر إلى مسألة تفعيل التوظيف في معالجة التضخم النقدي يتبين أنه لا يجوز؛ لأنه لا يتعين التوظيف لمعالجة التضخم النقدي،فإنه يمكن دفع الضرورة من غير هذا الطريق المحرم. كما أن تفعيل التوظيف ووضع الضرائب لا يتيقن اندفاع الضرورة به.
ثم بعد هذا أحمد الله الحميد المجيد على نعمه الظاهرة والباطنة، فله الحمد كله أوله وآخره، ظاهره وباطنه، ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.