الوصف المفصل
- الدلالات العقدية للماء في القرآن الكريم
الدلالات العقدية للماء في القرآن الكريم
للباحث
د محمد بن عبدالله بن صالح السحيم
أستاذ مشارك في كلية التربية قسم الثقافة الإسلامية
جامعة الملك سعود
عضو الجمعية العلمية السعودية لعلوم العقيدة والأديان والفرق والمذاهب
عضو الجمعية العلمية السعودية للدراسات الدعوية
1431هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الذي جعل من الماء كل شيء حي، والحمد لله الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسبا وصهرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبد يرجو بها الفوز والنجاة يوم لا ينفع مال ولا بنون، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلى الله وسلم وبارك عليه في الدنيا والآخرة وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد تكرر ذكر الماء في القرآن والسنة مرات كثيرة، وقد ورد في القرآن الكريم أكثر من (59) مرة، وقد استدل به المولى جل شأنه وتقدست أسماؤه أكثر من مرة؛ فتارة يستدل به الله على الوحدانية، وتارة يستدل به عل البعث، وتارة ثالثة يخبر الحق سبحانه وتعالى أنه أساس الحياة، وتارة ينبئ المولى عنه أنه من جند الله فإن شاء جعله ملاذا آمنا لأوليائه، وإن شاء جعله قاصما لأعدائه، وتارة رابعة يضرب به المثل ليبين للناس حقيقة ما أنزل إليهم من الوحي، وتارة خامسة يبين الحقُ منته على عباده بإمدادهم بالماء وجعله عذبا فراتا.
ومن أجل ذلك رأيت أن أنظر في الآيات التي ورد فيها ذكر الماء في القرآن الكريم وأحاول أن أتلمس دلالاتها العقدية وما فيه من البراهين الإلهية الدالة على حقائق الوحي من الوحدانية والبعث وأساس الخلق.
وقد جعلت هذا البحث في أربعة مطالب هي كالآتي:
المطلب الأول: الاستدلال بالماء على الوحدانية
المطلب الثاني: الاستدلال بالماء على البعث
المطلب الثالث: الماء من جند الله
المطلب الرابع: ضرب المثل بالماء
وقد وجدت بحمد الله أدلة كثيرة وبراهين عجيبة، وأمثلة موافقة لما قصد الحق جل شأنه تقريبها للخلق، مما قصد الحق أن يعظمه في نفوسهم ويرغبهم فيه، أو مما أراد المولى أن يزهدهم فيه ويبين لهم حقارته، أو أراد أن يحذرهم من سوء مغبته ووخيم عاقبته.
وأسأل الله أن يجعل هذا البحث خالصا لوجهه سبحانه، وأن يجعله حجة لنا لا حجة علينا وأن ينفع به، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
كتبه
د . محمد بن عبد الله بن صالح السحيم
الرياض 3/8/1431 هـ
ams_1423@hotmail.com
التمهيد
يشتمل هذا التمهيد على بيان أهمية هذا الموضوع وسبب الكتابة فيه، وفيما يلي أحاول أن أوضح ما عزمت على بيانه وإيضاحه.
أهمية الموضوع
ورد ذكر الماء في سور كثيرة من القرآن العظيم، سواء على طريق الاستدلال، أو على طريق الامتنان، أو من خلال ضرب المثل، أو من خلال ما أودعه الله فيه من حلي أو طعام، أو ما سخر الله على ظهره من الفلك، ذلك أن هذا الماء الذي نشربه عذبا سائغا قد لا توليه العقول عناية خاصة لكثرة معالجتها له وتصرفها فيه، وهوان أمره عليها في أحيان كثيرة، ولقربه من العباد، ولمسيس حاجتهم إليه في طعامهم وشرابهم وسائر شؤون حياتهم، ولكون الله قد أودع فيه من الأسرار والمنافع ما تعجز العقول عن الإحاطة به، ولكون هذا الأمر لا يمكن إنكار الاحتياج إليه ولا إنكار قدرة الله على إنزاله وإخراج جميع المطاعم والمآكل بسببه، ولا يجادلون أيضا في علمهم بأن الله قادر على أن يسلبهم إياه فيجعل ماءهم غورا لا يستطيعون له طلبا ولا يصلون إليه سبيلا؛ كل ذلك وغيره مما وردت الإشارة إليه في القرآن الكريم استدلالا به وإلزاما بما يعرفونه عنه من وجوب عبادته سبحانه وحده لا شريك له، وتحريم صرف العبادة لغيره ممن لا يملكون لعباد نفعا ولا ضرا.
ولأن هذا الموضوع لم أجد من كتب فيه في هذا المجال رأيت أن أكتب فيه من باب تدبر القرآن والتفهم لخطاب ربنا جل وعز، ومن باب بيان أدلة القرآن وبراهينه وإفرادها وتقريبها للقارئ الذي قد تثقله أعباء الحياة وسرعة تقلبها وتشغله عن مطالعة المطولات من كتب التفسير والعقائد، ومن باب إمداد الداعي للحق ببعض البراهين العقلية المحسوسة التي أشار إليها القرآن الكريم، ومن باب آخر هي دعوة للباحثين للتدبر في القرآن العظيم فلا تزال فيه كثير من الفرص البحثية، بل كثير من الأدلة العلمية العقلية الحسية التي لم يتناولها الباحثون الأكاديميون في أبحاثهم ودراساتهم... كل ذلك يؤكد أهمية الموضوع في نظري ويحتم علي عرضه وتناوله.
سبب الكتابة
كنت ألحظ منذ فترة وأنا أتلو القرآن العظيم أن هناك ترادفا وتتابعا بين الآيات التي يستدل بها المولى جل شأنه بذكر الشمس والقمر أو بذكر النهار، وعنهما يصدر النور، والنهار هو ظرفه، كنت ألحظ ترادفا بين ذلك وبين ذكر الماء، سواء كان هذا الذكر للماء أو للسحاب أو للبحر أو للنهر أو لما ينتج منه من جنات وثمار، أو يضرب به المثل على البعث والحياة أو على بقاء الحق وذهاب الباطل.
وكنت أرى هذا التوالي العجيب في سور القرآن فرأيت أن أبحث عن حكمة هذا الإيراد والترادف أو عن وجه الشبه، فرأيت كلاما جميلا للشيخ عطية محمد سالم في تتمته لكتاب أضواء البيان يشير فيه إلى وجه بديع في دلالات القرآن من ذكر الضوء أو النور أو النهار، وأن هذا إشارة إلى الوحي أو الرسالة المحمدية، وهو قوله عند تفسير صدر سورة التكوير: (وهنا يقسم بحالات الكواكب على أصح الأقوال، في ظهورها واختفائها وجريانها، وبـ]والليل إذا عسعس[ : أقبل وأدبر، أو أضاء وأظلم، ]والصبح إذا تنفس[: أي أظهر وأشرق ، وهما أثران من آثار الشمس في غروبها وشروقها.
والمقسم عليه: هو أن القرآن قول رسول كريم، كأنه يقول: إن القرآن المقسم عليه حاله في الثبوت والظهور، وحال الناس معه كحال هذه الكواكب الثوابت لديكم في ظهورها تارة، واختفائها أخرى. وكحال الليل والصبح، فهو عند أناس موضع ثقة وهداية كالصبح في إسفاره، قلوبهم متفتحة إليه وعقولهم مهتدية به، فهو لهم روح ونور، وعند أناس مظلمة أمامه قلوبهم، عمى عنه بصائرهم، وفي آذانهم وقر، وهو عليهم عمى، وأناس تارة وتارة كالنجوم أحيانا، وأحيانا، تارة ينقدح نوره في قلوبهم، فتظهر معالمه فيسيرون معه، وتارة يغيب عنهم نوره فتخنس عنه عقولهم وتكنس دونه قلوبهم، كما قال تعالى عنهم : ]كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا[ البقرة،20.
وليس بعيدا أن يقال: إنه من وجه آخر، تعتبر النجوم كالكتب السابقة ، مضى عليها الظهور في حينها والخفاء بعدها.]والليل إذا عسعس [: هو ظلام الجاهلية.] والصبح إذا تنفس[: يقابله ظهور الإسلام، وأنه سينتشر انتشار ضوء النهار، ولا تقوى قوة قط على حجبه، وسيعم الآفاق كلها، مهما وقفوا دونه: ]يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [. الصف،8.
وقد يكون في هذا الإيراد غرابة على بعض الناس، ولا سيما أني لم أقف على بحث مستقل فيه، ولا توجيه يشير إليه، ولكن مع التتبع وجدت اطراده في مواضع متعددة ، وجدير بأن يفرد برسالة).([1])
ثم وقفت على كلام نفيس للطاهر بن عاشور في تفسيره لسورة الشمس حيث يقول:(وابتدئ بالشمس لمناسبة المقام إيماء للتنويه بالإسلام؛ لأن هديه كنور الشمس لا يترك للضلال مسلكا، وفيه إشارة إلى الوعد بانتشاره في العالم كانتشار نور الشمس في الأفق، وأتبع بالقمر لأنه ينير في الظلام كما أنار الإسلام في ابتداء ظهوره في ظلمة الشرك، ثم ذكر النهار والليل معه لأنهما مثل لوضوح الإسلام بعد ضلالة الشرك، وذلك عكس ما في سورة الليل لما يأتي...إلى أن قال: وابتدئ القسم بالشمس ... إيماء إلى أنها مثل لظهور الإيمان بعد الكفر، وبث التقوى بعد الفجور؛ فإن الكفر والمعاصي تمثل بالظلمة، والإيمان والطاعات تمثل بالضياء، قال تعالى: ]وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ[ المائدة:16.
ثم قال في تفسيره لسورة الضحى: ومناسبة القسم بـ ]وَالضُّحَى. وَاللَّيْلِ[ أن الضحى وقت انبثاق نور الشمس فهو إيماء إلى تمثيل نزول الوحي وحصول الاهتداء به، وأن الليل وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن وهو الوقت الذي كان يسمع فيه المشركون قراءته من بيوتهم القريبة من بيته أو من المسجد الحرام.
ولذلك قيد ]اللَّيْلِ[ بظرف ]إِذَا سَجَى[. فلعل ذلك وقت قيام النبي ﷺ ). ([2])
هذا تفسيره للآيات التي وردت فيه الإشارة إلى الشمس أو القمر أو النهار، وإليك تفسيره للآيات التي ورد فيها ذكر للبحر حيث يقول عند قوله تعالى:] وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً[ الفرقان 53.
قال رحمه الله:(عود إلى الاستدلال على تفرده تعالى بالخلق. جمعت هذه الآية استدلالا وتمثيلا وتثبيتا ووعدا، فصريحها استدلال على شيء عظيم من آثار القدرة الإلهية وهو التقاء الأنهار والأبحر كما سيأتي، وفي ضمنها تمثيل لحال دعوة الإسلام في مكة يومئذ واختلاط المؤمنين مع المشركين بحال تجاور البحرين: أحدهما عذب فرات، والآخر ملح أجاج. وتمثيل الإيمان بالعذب الفرات، والشرك بالملح الأجاج، وأن الله تعالى كما جعل بين البحرين برزخا يحفظ العذب من أن يكدره الأجاج، وكذلك حجز بين المسلمين والمشركين فلا يستطيع المشركون أن يدسوا كفرهم بين المسلمين. وفي هذا تثبيت للمسلمين بأن الله يحجز عنهم ضر المشركين لقوله ]لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً[ آل عمران: 111. وفي ذلك تعريض كنائي بأن الله ناصر لهذا الدين من أن يكدره الشرك. ولأجل ما فيها من التمثيل والتثبيت والوعد كان لموقعها عقب جملة ]فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً[ الفرقان: 52 أكمل حُسْن). ([3])
فشجعني ذلك للمضي في هذا البحث الماتع، ووجدت هذا جليا في كتاب الله ومتوافرا في ترادف الآيات وتتابعها انظر على سبيل المثال الآيات 17- 21 من سورة البقرة، والآيات الأولى من صدر سورة الأنعام، والآيات 45-58 من سورة الأعراف، والآيات 35- 40 من سورة النور، والآيات 11، 12، و19-23 من سورة فاطر، وهكذا بل لا تكاد تجد سورة تخلو من هذا حتى إن كثيرا من قصار المفصل حفلت بشيء من ذلك.
ومما يعزز ذلك أن الله ضرب مثلين: ناري ومائي في سورة البقرة، وفي سورة الرعد للحق والباطل وللهدى والضلال، وسيمر معنا بإذنه تعالى الحديث عن هذين المثلين، كما أن الله وصف التنزيل بالنور في أكثر من آية كما في آية15 من المائدة، ووصف الوحي بأنه حياة وسبب حياة كما في آية الأنفال 24، وآية 122 من الأنعام وغيرها كثير.
ثم سرت على هذا المنوال أجمع نصوص هذا البحث وأدلته وأقوال العلماء في هذه الآيات- وإن كنت لست من أرباب هذا الباب لكن حبب إلي شيء فتبعته وجمعته- وكانت النية أن أجمع كل الآيات التي تحدثت عن هذه الموضوعات وأقارن بينها وأحاول أن أخرج بنتيجة تحقق بعض ما في النفس تجاه هذا الموضوع، ويسر الله لي من ذلك خيرا كثيرا، وكان يثور في نفسي سؤال مفاده لِمَ لم أجد كلاما للمتقدمين من المفسرين في هذا الغرض؟ وهذا بحسب ما تيسر لي الوقوف عليه- وأنا مقر بالتقصير في ذلك- وهم أوفر علما، وأصح قصدا، وأسلم منهجا، وأكثر تدبرا لكتاب الله، فوقفت موقف المتردد؛ لأن الخير في اتباع من سلف، والشر في مخالفة هديهم ونهجهم. وخشيت أن يكون من التفسير الإشاري الذي لا يسنده دليل، وبينما أنا أتابع النظر في هذا الموضع وقفت على قول القرطبي رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى:] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَاب[ الزمر،22. (وقيل: هو مثل ضربه الله للقرآن، ولصدور من في الأرض. والمعنى: أنزل من السماء قرآناً، فسلكه في قلوب المؤمنين، ثم يخرج به ديناً بعضه أفضل من بعض، فأما المؤمن، فيزداد إيماناً ويقيناً، وأما الذي في قلبه مرض فإنه يهيج كما يهيج الزرع،)([4]). بينما هذا التفسير بنصه أورده الشوكاني رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية ثم تعقبه بقوله:(وهذا بالتغيير أشبه منه بالتفسير).([5])
ثم وقفت على قول الألوسي رحمه الله عند تفسير سورة الضحى حيث يقول: (ومن الناس من فسر الضحى بوجهه صلّى اللّه عليه وسلم ... كما ذكر الإمام، وقال: لا استبعاد فيه وهو كما ترى.... وقال الإمام يحتمل أن يقال الضحى رسالته ﷺ ، والليل زمان احتباس الوحي فيه؛ لأن في حال النزول حصل الاستئناس، وفي زمان الاحتباس حصل الاستيحاش، أو الضحى نور علمه تعالى الذي يعرف المستور من الغيوب، والليل عفوه تعالى الذي به يستر جميع العيوب، أو الضحى إقبال الإسلام بعد أن كان غريبا، والليل إشارة إلى أنه سيعود غريبا... ولا يخفى أنه ليس من التفسير في شيء، وباب التأويل والإشارة يدخل فيه أكثر من ذلك).([6]) فعدلت بعد ذلك عن هذا البحث بشموله وإحاطته بهذا الموضوع، وقصرته على الدلالات العقدية للماء في القرآن الكريم، وهو ولا شك جزء من الموضوع السابق، لكن لهذا الموضوع ما يسنده ويعززه من النصوص الصريحة في الكتاب الكريم وفي أقوال أهل العلم، وفي نهاية هذا التمهيد ينتقل البحث إلى وجهة الاستدلال والمقارنة بين أقوال أهل العلم حول هذه الموضوعات التي اشتمل عليها هذا البحث المتواضع، فإلى أول هذه المطالب.
المطلب الأول: الاستدلال بالماء على الوحدانية
إن إفراد الله سبحانه وتعالى بأفعاله وأسمائه وصفاته وإفراده بالعبادة، وتوجّه القلوب إليه رغبا ورهبا، هو الأمر الذي من أجله خلق الله الخلق وأنزل الكتب وأرسل الرسل، وهو الذي وقف الملأ من كل أمة يجادلون فيه ويعاندون، ويستعظمونه، ويناوئون من جاء به، ومن أجل ذلك جاء في الكتاب الخاتم وفي الرسالة الخاتمة من الأدلة والبراهين والأمثال والحجج على هذا الأمر ما لم يأت على مثله، وما لم يأت في رسالة سابقة، بل القرآن كله في التوحيد، قال ابن القيم رحمه الله (بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد؛ بل نقول قولا كليا إن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد شاهدة به داعية إليه، فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع كل ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته في نهيه وأمره فهي حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو خبر عمن خرج عن حكم التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم).([7]) وما ذاك إلا لأنه هو أساس دعوة المرسلين، وعماد الدين، ولأن الشبهة فيه أعظم، والفتنة فيه أبلغ، والمعارضة له أقوى، ويأتي بعد هذه المسألة مسألة أخرى لا تقل شأنا عنها بل هي من لوازمها ألا وهي مسألة البعث بعد الموت، والحشر بعد النشر والمجازاة على الأعمال، وهذه المسألة وقفت منها الأمم كما وقفت من سابقتها، وجاء في القرآن الكريم من الأدلة عليها والتأييد لها والتأكيد عليها كما جاء على مسألة الوحدانية، وما يتعلق بالبعث سيكون الحديث عنه في مطالب أخر إن شاء الله.
أما الآن فهذا أوان ذكر استدلال الباري جل ثناؤه بالماء على هذه المسألة وهي الوحدانية، فمن ذلك:
الدليل الأول: إنزال الماء من السماء
ومن الأدلة التي استدل الله بها على الوحدانية إنزال الماء من السماء، وضمن هذا البرهان في أول أمر ورد في القرآن الكريم وهو قوله تعالى:]يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ[ البقرة،21، 22. ففي هذه الآية أمر الله عباده سبحانه وتعالى بعبادته وحده لا شريك له واستدل عليهم ببراهين ثلاثة وهي:
الأول: أنه جعل الأرض فراشا.
الثاني: أنه جعل السماء بناءً.
الثالث: أنه أنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقا للعباد.
فهو هنا سبحانه وتعالى يحتج عليهم بما يرونه ويلامسونه ويباشرونه من الأرض والسماء والماء، ويبين لهم أن الذي أنزل الماء فأخرج به الثمرات وجعل الأرض فراشا حقيق بأن يعبد وحده، وألا يجعل معه شريك في عبادته. قال ابن كثير رحمه : (شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانيته وألوهيته، بأنه تعالى هو المنعم على عَبيده، بإخراجهم من العدم إلى الوجود وإسباغه عليهم النعمَ الظاهرة والباطنة، بأن جعل لهم الأرض فراشا، أي: مهدا كالفراش مُقَرّرَة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات،]وَالسَّمَاءَ بِنَاءً[ وهو السقف، كما قال في الآية الأخرى: ]وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ [ الأنبياء،32، وأنزل لهم من السماء ماء -والمراد به السحاب هاهنا-في وقته عند احتياجهم إليه، فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد؛ رزقًا لهم ولأنعامهم، كما قرر هذا في غير موضع من القرآن. ومضمونه: أنه الخالق الرازق مالك الدار، وساكنيها، ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يُشْرَك به غَيره). ([8])
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: (هذا أمر عام لكل الناس، بأمر عام، وهو العبادة الجامعة، لامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، وتصديق خبره، فأمرهم تعالى بما خلقهم له، ثم استدل على وجوب عبادته وحده، بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم، فخلقكم بعد العدم، وخلق الذين من قبلكم، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة، وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة ما سواه، وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته، وبطلان عبادة من سواه، وهو ذكر توحيد الربوبية، المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير، فإذا كان كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك، فكذلك فليكن إقراره بأن الله لا شريك له في العبادة، وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري، وبطلان الشرك). ([9])
فالقارئ يلاحظ أن ابن كثير والسعدي رحمهما الله أكدا أن الله استدل بالماء على ربوبيته المستلزمة لوحدانيته، وهذا أمر لا يحتاج إلى بيان وتوضيح، لكن لما كان الموضوع هنا هو دراسة الماء دراسة عقدية نصصت على ذكرهما لهذا الأمر.
وإن كان ابن كثير والسعدي رحمهما الله ذكرا في هذه الآية ثلاثة براهين؛ فقد رأى فيها الرازي رحمه الله خمسة دلائل عقلية فقال: ( المسالة الثالثة- أي من المسائل المتعلقة بهذه الآية-: أن الله تعالى ذكر ههنا خمسة أنواع من الدلائل: اثنين من الأنفس، وثلاثة من الآفاق، فبدأ أولاً بقوله:]خَلَقَكُمْ[، وثانياً بالآباء والأمهات وهو قوله ]وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ[، وثالثاً بكون الأرض فراشاً، ورابعاً بكون السماء بناء، وخامساً بالأمور الحاصلة من مجموع السماء والأرض وهو قوله:]وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ[، ولهذا الترتيب أسباب الأول أن أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه وعلم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره، وإذا كان الغرض من الاستدلال إفادة العلم فكل ما كان أظهر دلالة كان أقوى إفادة، وكان أولى بالذكر، فلهذا السبب قدم ذكر نفس الإنسان، ثم ثناه بآبائه وأمهاته، ثم ثلث بالأرض لأن الأرض أقرب إلى الإنسان من السماء، والإنسان أعرف بحال الأرض منه بأحوال السماء؛ وإنما قدم ذكر السماء على نزول الماء من السماء وخروج الثمرات بسببه؛ لأن ذلك كالأمر المتولد من السماء والأرض، والأثر متأخر عن المؤثر؛ فلهذا السبب أخر الله ذكره عن ذكر الأرض). ([10])
ومن لطيف استدلال القرآن الكريم أنه يستدل بالدليل العقلي والبرهان الجلي الذي يمكن لأي عاقل أن يدرك البرهان ومدلوله، فتقوم به الحجة عليه ولا يحتاج لمن يفسر له البرهان أو يوضح له الحجة، لأن القرآن الكريم أنزل للناس كافة؛ ولذا لم تعاند كفار قريش الرسول ﷺ لعدم وضوح أدلته؛ بل كانوا يفهمونها ويدركون مستلزماتها وما يترتب عليها، وإنما كان يمنعهم الاستكبار أو تقليد الآباء، وهذا البرهان الذي نحن بصدده من هذا النوع، فأي برهان أعظم حجة بل أي برهان أقرب للنفس من هذه البراهين الواردة في هذه الآية فاستدل عليهم بالأرض والسماء والماء، حتى قال جل ثناؤه وتقدست أسماؤه في سورة الواقعة:]أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ[ الواقعة 68، 69. فالبرهان الذي ضرب لهم هو الماء الذي يشربونه ويباشرونه، وهذه براهين وأدلة كل يباشرها ويدرك طريقة الاحتجاج بها فلا تحتاج إلى تكلف أو طريقة فلسفية عقيمة، وهذه هي عادة القرآن الكريم، ومما يوضح ذلك ويبينه هذا النقل من شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله وهو عالم عرف منهج القرآن وتربى عليه، وعرف منهج الفلاسفة والمتكلمين وأدرك عسره وضلاله، حيث يقول:( ومما يدل على ذلك أيضا أنه سبحانه يحتج على فساد مذهب من عبد غيره بالأدلة العقلية التي تقبلها الفطر والعقول، ويجعل ما ركبه في العقول من حسن عبادة الخالق وحده وقبح عبادة غيره من أعظم الأدلة على ذلك، وهذا في القرآن أكثر من أن يذكر ههنا، ولولا أنه مستقر في العقول والفطر حسن عبادته وشكره، وقبح عبادة غيره وترك شكره؛ لما احتج عليهم بذلك أصلا ، وإنما كانت الحجة في مجرد الأمر، وطريقة القرآن صريحة في هذا كقوله تعالى:] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ[ البقرة،21، 22. فذكر سبحانه أمرهم بعبادته، وذكر اسم الرب مضافا إليهم لمقتضى عبوديتهم لربهم ومالكهم، ثم ذكر ضروب إنعامه عليهم بإيجادهم وإيجاد من قبلهم، وجعل الأرض فراشا لهم يمكنهم الاستقرار عليها والبناء والسكنى، وجعل السماء بناء وسقفا، فذكر أرض العالم وسقفه، ثم ذكر إنزال مادة أقواتهم ولباسهم وثمارهم، منبها بهذا على استقرار حسن عبادة من هذا شأنه، وتشكره الفطر والعقول، وقبح الإشراك به وعبادة غيره).([11])
ومما يطرد في القرآن أن الله يثبت دلائل الربوبية بذكر المخلوقات الدالة على وجود الخالق، وقد يذكر العباد بالنعم التي أسداها إليهم ليروا بره وإحسانه المستلزم رحمته، كما في هذه الآيات التي مرت معنا من سورة البقرة وقد تضمنت ذكر الماء وما يخرج بسببه من الثمرات والمآكل للناس والدواب، وهذا مما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الأصفهانية في أكثر من موضع. ([12])
ويرى الشيخ الجبرين ـ رحمه الله ـ في شرحه للعقيدة الطحاوية أن هذه الآية وما يماثلها في القرآن وردت لتقرير توحيد الربوبية - وهو في القرآن كثير- والقصد منه الإلزام بتوحيد الإلهية، فإن آية البقرة -التي نحن بصددها - ذكر الله بها تقرير توحيد الربوبية بستة أدلة، وهي:خَلْقهم، وخَلْق آبائهم، وخَلْق الأرض، وخَلْق السماء، وإنزال المطر، وإنبات النبات، يقول: اعبدوا الله الذي فعل هذه الأشياء، فأنتم تعترفون بأنه الذي خلقكم، وأنه الذي خلق من قبلكم؛ لأنه خالق السماوات والأرض وأنه مرسل السحاب ومنزل المطر ومنبت النبات، فلماذا تعبدون غيره؟ فيحتج عليهم بإقرارهم بهذا التوحيد على التوحيد الثاني، فما دام أنهم يقرون بتوحيد الربوبية فيلزمهم توحيد العبادة. وهذا المعنى أشار إليه الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في كتابه عقيدة التوحيد وذكر استلزام توحيد الربوبية لتوحيد الألوهية في الفصل الخامس منه. وهذا المعنى أيضا أشار إليه شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية. ([13])
وهذه الآية نظائرها في القرآن كثيرة، فتارة يذكر المولى جل شأنه وتقدست أسماؤه خلق السموات وإنزال الماء من السماء، وتارة يذكر إنزال الماء وإخراج الثمرات بسببه، وتارة يذكر إنزال الماء وإحياء الأرض بسببه، وتارة وتارة إلخ... كما ستراه فيما يلي من الآيات التي لن نطيل بذكر أقوال العلماء فيها؛ لأن الشاهد قد حصل من ذكر الاستدلال بالماء على الوحدانية. ومن هذه الآيات التي ورد فيها هذا الاستدلال الآيات التالية من سورة البقرة قال جل ثناؤه:]وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ[ البقرة، 163، 164. ففي هاتين الآيتين ذكر أعظم مسألة وهي الوحدانية، ثم أورد الاستدلال عليها بكل هذه الأشياء المخلوقة العظيمة للتدليل على أنه لا يستحق العبادة أحد سواه. وهذه طريقة القرآن أن يستدل بما يفهمه سائر البشر وتقبله عقوله، وتستجيب له فطرهم، ويكون مشاهدا محسوسا لهم بحواسهم حتى ينقلهم من الإيمان بالمشاهد المحسوس إلى الغائب الذي لا تدركه الحواس وهو مدار الإيمان والفارق بين المؤمن والمنافق.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: (ففي هذه الآية، إثبات وحدانية الباري وإلهيته، وتقريرها بنفيها عن غيره من المخلوقين وبيان أصل الدليل على ذلك وهو إثبات رحمته التي من آثارها وجود جميع النعم، واندفاع جميع النقم، فهذا دليل إجمالي على وحدانيته تعالى. ثم ذكر الأدلة التفصيلية فأورد هذه الآية ثم قال: أخبر تعالى أن في هذه المخلوقات العظيمة، آيات أي: أدلة على وحدانية الباري وإلهيته، وعظيم سلطانه ورحمته وسائر صفاته، ]وَمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ[ وهو المطر النازل من السحاب]فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا[ فأظهرت من أنواع الأقوات، وأصناف النبات، ما هو من ضرورات الخلائق، التي لا يعيشون دونها. أليس ذلك دليلا على قدرة من أنزله؟... أما يوجب ذلك أن يكون هو معبودهم وإلههم؟ أليس ذلك دليلا على إحياء الموتى ومجازاتهم بأعمالهم؟).([14])
وقال ابن عاشور: (موقع هاته الآية عقب سابقتها موقع الحجة من الدعوى؛ ذلك أن الله تعالى أعلن أن الإله إله واحد لا إله غيره، وهي قضية من شانها أن تتلقى بالإنكار من كثير من الناس، فناسب إقامة الحجة لمن لا يقتنع فجاء بهذه الدلائل الواضحة التي لا يسع الناظر إلا التسليم إليها.... والمقصود من هاته الآية إثبات دلائل وجود الله تعالى ووحدانيته ولذلك ذكرت إثر ذكر الوحدانية؛ لأنها إذا أثبتت بها الوحدانية ثبت الوجود بالضرورة. فالآية صالحة للرد على كفار قريش دهريهم ومشركهم، والمشركون هم المقصود ابتداء، وقد قرر الله في هاته الآية دلائل كلها واضحة من أصناف المخلوقات وهي مع وضوحها تشتمل على أسرار يتفاوت الناس في دركها حتى يتناول كل صنف من العقلاء مقدار الأدلة منها على قدر قرائحهم وعلومهم).([15])
وهذا كما قال ابن عاشور إن هذه الأدلة يمكن أن يتناولها كل صنف من العقلاء كل منهم على قدر قريحته وفهمه ذلك أن منهج القرآن منهج خال من التكلف والتعقيد، يوصل سالكه إلى المقصود بأيسر طريق وأقل مؤونة، ويدفع عنه الشك والحيرة ويدله إلى سوء الصراط، قال ابن القيم رحمه الله موضحا منهج القرآن في ذلك:( هذا وإن القرآن وحده لمن جعل الله له نورا أعظم آية ودليل وبرهان على هذه المطالب -أي إثبات ربوبية الله ووحدانيته وأسمائه وصفاته- وليس في الأدلة أقوى ولا أظهر ولا أصح دلالة منه، من وجوه متعددة جدا، كيف وقد أرشد ذوي العقول والألباب فيه إلى أدلة هي للعقل مثل ضوء الشمس للبصر لا يلحقها إشكال، ولا يغير في وجه دلالتها إجمال، ولا يعارضها تجويز واحتمال، تلج الأسماع بلا استئذان، وتحل من العقول محل الماء الزلال من الصادي الظمآن، فضْلها على أدلة أهل العقول والكلام كفضل الله على الأنام، لا يمكن أحدا أن يقدح فيها قدحا يوقع في اللبس إلا إن أمكنه أن يقدح بالظهيرة صحوا في طلوع الشمس ومن عجيب شأنها أنها تستلزم المدلول استلزاما. ثم ذكر سورا وآيات أخر وبين جناية أهل الكلام والفلسفة على الأمة وبين عسر منهجهم في الاستدلال على القضايا الشرعية وبين أنها فرقت الأمة ومزقتها فأين هي عن براهين القرآن ثم قال: فالله سبحانه نهج لعباده الطريق الموصلة إلى معرفته والإقرار بأسمائه وصفاته وأفعاله؛ فأعرض عنها هؤلاء واشتقوا طريقا موصلة إلى تعطيل الخالق ونفي أسمائه وصفاته وأفعاله، وقالوا للناس: لا يتم إيمانكم ومعرفتكم بالصانع إلا بهذه الطريق، فلما سلكها من سلكها أدت به إلى ما أسره الحيرة والشك والتأويل والتجهيل والله يقول الحق وهو يهدي السبيل).([16])
وهذا الأمر وهو الاستدلال بالماء على الوحدانية يتكرر كثيرا في القرآن الكريم كما هي طريقة القرآن الكريم في تكرار المعاني والأدلة والبراهين، إذ هو مثاني تثنّى فيه الآيات والقصص والعبر والبراهين، وقد يختلف فهم العالم عن غيره في الاستدلال بهذه الآية على هذا الأمر أو ذاك، فهذه الآية - أي آية البقرة - التي نحن بصددها ذكر كثيرا من المفسرين أنها دالة على الوحدانية، بينما ذكر الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان أنها دالة على البعث ([17]). وسأرجئ الاستشهاد بقوله إلى المطلب المخصص للاستدلال بالماء على البعث.
الدليل الثاني: تنوع الثمرات والماء واحد
في الدليل السابق رأينا أن الله استدل على الوحدانية بإنزال الماء من السماء، وفي هذا الموضع سنرى أيضا أن الله استدل على الربوبية - التي تستلزم الوحدانية - بتنوع الثمرات التي تخرج من الماء، وتنوع أصنافها، رغم أن الماء واحد، والمكان واحد، ومع ذلك يفاضل سبحانه بينها من حيث النوع والجنس، بل يفاضل بينها سبحانه بين أصناف النوع الواحد من حيث اللون والطعم والرائحة. وهذا الأمر وردت الإشارة إليه في القرآن الكريم أكثر من مرة. كما في قوله تعالى: ]وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ[ الرعد،4.
وكما في قوله تعالى:]وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[الأنعام،99.
وهذا المعنى أيضا وارد في سورة طه الآيات 49-54, وفي سورة النمل الآية 60، وفي سورة فاطر الآية 27. ولم أشأ أن أذكر كل هذه الآيات فيطول البحث، وهي معلومة بحمد الله، وهو كما يتضح لقارئ هذه الآيات أن الله أشار إلى أن الذي أنزل الماء وأخرج به أنواعا شتى من النباتات والمطعومات وسائر الثمرات حقيق بأن يعبد وحده دون من سواه، وقد نوع الباري في أساليب الخطاب للمخاطبين بهذا الأمر وهو التذكير بالماء، فتارة يذكّرون بأنه أنزله وأخرج به المرعى، وتارة بأنه أنزله وأخرج من الثمرات، وتارة بأنه مادة لشربهم وسقي زروعهم وداوبهم، وهو سبحانه تارة يخاطب الحاضرة بما يألفون فيذكِّرهم بالزروع والثمرات، وتارة يخاطب البادية بالمرعى والأنعام، كما ذكّر هؤلاء وأولئك بقوله جل شأنه: ]إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ.كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ[ المرسلات،32، 33؛ فجمع في التشبيه بين ما تعرفه الحاضرة وما تعرفه أهل البادية؛ ليدرك ذلك كل بحسب استفادته من الماء ومباشرته له،ليكون ذلك أوقع في الاستدلال، وأعظم في إقامة الحجة على العباد.
قال إمام المفسرين ابن جرير رحمه الله عند تفسير آية الرعد: (إن فيما وصفت وذكرت من عجائب خلق الله وعظيم قدرته التي خلق بها هذه الأشياء، لَدلالات وحججًا وعظات، لقوم يتفكرون فيها، فيستدلون ويعتبرون بها، فيعلمون أن العبادة لا تصلح ولا تجوز إلا لمن خلقها ودبَّرها دون غيره من الآلهة والأصنام التي لا تقدر على ضر ولا نفع ولا لشيء غيرها، إلا لمن أنشأ ذلك فأحدثه من غير شيء تبارك وتعالى، وأن القدرة التي أبدع بها ذلك، هي القدرة التي لا يتعذَّر عليه إحياء من هلك من خلقه، وإعادة ما فني منه، وابتداع ما شاء ابتداعَه بها).([18])
وقال القرطبي رحمه الله في بيان وجه الدلالة من هذه الآية:(وفي هذا أدل دليل على وحدانيته وعظم صمديته، والإرشاد لمن ضل عن معرفته، فإنه نبه سبحانه بقوله:" يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ" على أن ذلك كله ليس إلا بمشيئته وإرادته، وأنه مقدور بقدرته، وهذا أدل دليل على بطلان القول بالطبع ([19])، إذ لو كان ذلك بالماء والتراب والفاعل له الطبيعة لما وقع الاختلاف. وقيل: وجه الاحتجاج أنه أثبت التفاوت بين البقاع، فمن تربة عذبة، ومن تربة سبخة مع تجاورهما، وهذا أيضا من دلالات كمال قدرته، جل وعز تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا).([20]) وهذا المعنى أشار إليه ابن كثير رحمه الله بقوله: (وهذا من أعظم الدلالات على الفاعل المختار، الذي بقدرته فاوت بين الأشياء وخلقها على ما يريد؛ ولهذا قال تعالى: ]إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ[.([21])
وقال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله موضحا منهج القرآن الكريم في الاستدلال على المسائل العقدية وأن الباري جل شأنه يقرر العباد بما يسلمون به وهو توحيد الربوبية ليلزمهم بتوحيد الألوهية، حيث يقول: (فإن توحيد الإثبات هو أعظم حجة على توحيد الطلب والقصد الذي هو توحيد الإلهية, وبه احتج الله تعالى في كتابه في غير موضع على وجوب إفراده تعالى بالإلهية لتلازم التوحيدين؛ فإنه لا يكون إلها مستحقا للعبادة إلا من كان خالقا رازقا مالكا متصرفا مدبرا لجميع الأمور، حيا قيوما سميعا بصيرا عليما حكيما موصوفا بكل كمال منزها عن كل نقص, غنيا عما سواه, مفتقرا إليه كل ما عداه... وهذه صفات الله -عز وجل- لا تنبغي إلا له، ولا يشركه فيها غيره. فكذلك لا يستحق العبادة إلا هو ولا تجوز لغيره, فحيث كان متفردا بالخلق والإنشاء والبدء والإعادة لا يشركه في ذلك أحد؛ وجب إفراده بالعبادة دون من سواه, لا يشرك معه في عبادته أحد) ثم استدل لذلك بآيات سورة البقرة، وصدر سورة الرعد.([22])
وقال رحمه الله في موطن آخر من كتابه معارج القبول: (وكثيرا ما يرشد الله تبارك وتعالى عباده إلى الاستدلال على معرفته بآياته الظاهرة من المخلوقات العلوية والسفلية... ثم استدل بآيات كثيرة ثم قال: فيعلمون أن لهذه الأشياء خالقا وصانعا غنيا بذاته، وكل ما سواه فقير إليه قائم بذاته، وكل ما سواه لا يقوم إلا به، قدير لذاته وكل ما سواه عاجز لا قدرة له إلا بما أقدره، متصف بجميع صفات الكمال، وكل ما سواه فلازمه النقص، وليس الكمال المطلق إلا له )([23]).
ولقد استنطق الشوكاني رحمه الله البراهين العقلية في آية سورة الرعد وبين أن الاستدلال بهذا البرهان من أعظم الدلائل على وحدانيته سبحانه وتعالى، لأن هذا التفاوت العجيب بين ما تخرجه قطع الأرض المتجاورة وهي تسقى بماء واحد - لدليل على أن المؤثر فيها حكيم جل عن الشبيه والمثيل، وأن النظر العقلي يوجب التسليم بأن الخالق والمدبر لها هو الله سبحانه وتعالى، حيث يقول:(وفي هذا من الدلالة على بديع صنعه، وعظيم قدرته ما لا يخفى على من له عقل؛ فإن القطع المتجاورة والجنات المتلاصقة المشتملة على أنواع النبات مع كونها تسقى بماء واحد وتتفاضل في الثمرات في الأكل، فيكون طعم بعضها حلواً والآخر حامضاً، وهذا في غاية الجودة، وهذا ليس بجيد، وهذا فائق في حسنه، وهذا غير فائق مما يقطع من تفكر واعتبر ونظر نظر العقلاء أن السبب المقتضي لاختلافها ليس إلاّ قدرة الصانع الحكيم جلّ سلطانه وتعالى شأنه، لأن تأثير الاختلاف فيما يخرج منها ويحصل من ثمراتها لا يكون في نظر العقلاء إلاّ لسببين: إما اختلاف المكان الذي هو المنبت، أو اختلاف الماء الذي تسقى به ، فإذا كان المكان متجاوراً، وقطع الأرض متلاصقة، والماء الذي تسقى به واحداً، لم يبق سبب للاختلاف في نظر العقل إلاّ تلك القدرة الباهرة والصنع العجيب، ولهذا قال الله سبحانه: ]إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ[أي : يعلمون على قضية العقل وما يوجبه غير مهملين لما يقتضيه من التفكر في المخلوقات والاعتبار في العبر الموجودات)([24]).
وقال الشنقيطي رحمه الله بعد أن ساق كل هذه الآيات التي ذكرتها في مفتتح هذا الدليل: (وهذا الالتفات من الغيبة إلى التكلم بصيغة التعظيم في هذه الآيات كلها - في إنبات النبات يدل على تعظيم شأن إنبات النبات؛ لأنه لو لم ينزل الماء، ولم ينبت شيء لهلك الناس جوعا وعطشا. فهو يدل على عظمته جل وعلا، وشدة احتياج الخلق إليه، ولزوم طاعتهم له جل وعلا). ([25])
وقد استدل بآية سورة طه الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله رحمة واسعة - على أن الله أبطل في هذه الآية الاحتجاج بما كان عليه أهل القرون السابقة من غير تحكيم للعقل ومن غير اعتماد على دليل صحيح، فقد أبطل الله ذلك، ودعاهم إلى الاستدلال بهذا الدليل العظيم.([26])
الدليل الثالث: قدرة الله على إنزال الماء وعجز البشر عن خزنه
نوّع الباري جل شأنه وتقدست أسماؤه في تذكير البشر بربوبيته وإلهيته لهم، وأنه يجب أن تصرف العبادة له سبحانه؛ ولأن العقول متفاوتة، والأفهام مختلفة؛ فإن الباري رحْمة بعباده ينوع لهم في البراهين، ويبدئ ويعيد فيها، فيذكر لهم من البراهين المتعلقة بالسماء أو الأرض أو الأنفس، بل إن الدليل الواحد تجده في القرآن الكريم يعرض على الناس في أكثر من صيغة، وبأكثر من أسلوب، وخير شاهد على ما نحن بصدده هذا الماء الذي نشربه، كم ساقه الله دليلا على التوحيد ومستلزماته؟
وهاهنا نوع من أنواع استدلالات القرآن الكريم بالماء حيث يقول المولى جل في علاه:] وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ[ الحجر،22. ففي مفتتح هذه السورة ذكر الله إنزاله لكتابه، ثم ذكر موقف الكافرين على وجه العموم من المرسلين، ثم ساق جملة من البراهين السماوية والبراهين الأرضية ليرشدهم من خلالها إلى أن الذي أنزل الكتب وأرسل الرسل هو الذي يملك السماء والأرض وما فيهما وما بينهما، وأنه أهل لأن يعبد وحده، وأنه سيبعث العباد يوم القيامة ويحاسبهم على أعمالهم.
فالله جل في علاه قد ذكر في آية سورة الحجر أنه أنزله وأن البشر لا يستطيعون حفظه وخزنه، وجعل ذلك من البراهين الدالة على استحقاقه العبودية. قال الفخر الرازي رحمه الله عند تفسيره لآية الحجر: (اعلم أنه تعالى لما شرح الدلائل السماوية في تقرير التوحيد أتبعها بذكر الدلائل الأرضية، وهي أنواع: ثم ساقها على وجه التفصيل، فجعل النوع الأول مد الأرض، والثاني جعل الجبال رواسي، والثالث إنبات النبات، والرابع أن كل شيء فخزائنه عند الله).([27]) وطريقة القرآن الكريم أنه كما ينوع في سوق الأدلة فإنه يراعي عند السياق أن يكون ذلك فيه تدرج من الأعلى إلى الأدنى أو العكس ثم يعرّج على ما بينهما، وقال الطاهر بن عاشور عند تفسير هذه الآية: (انتقال من الاستدلال بظواهر السماء وظواهر الأرض إلى الاستدلال بظواهر كرة الهواء الواقعة بين السماء والأرض، وذلك للاستدلال بفعل الرياح والمنة بما فيها من الفوائد) ([28]) .
وفي سورة المؤمنون يذّكر عباده أنه أنزل الماء بقدر، وأنه قادر على الذهاب به، ولو ذهب به لهلك من على ظهرها، قال جل ثناؤه: ]وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ[ المؤمنون،18. وهذه الآية جاءت في مفتتح سورة المؤمنون بعد أن ذكر فيها صفات عباده المفلحين - جعلنا الله وإياك منهم - أردفها بدلائل معرفته وتوحيده، لأن العبادة لا تكون إلا عن معرفة بالله سبحانه وتعالى؛ ولذا ساق الله بعد هذه الآيات أنواعا من الأدلة الدالة على وحدانيته ووجوب عبادته، ومن هذه الأدلة التي أقام بها الحجة على عباده إنزال الماء من السماء، وقدرته سبحانه على الذهاب به.
وقال الفخر الرازي معلقا على آيات سورة المؤمنون: (اعلم أنه سبحانه لما أمر بالعبادات في الآية المتقدمة، والاشتغال بعبادة اللَّه لا يصح إلا بعد معرفة الإله الخالق - لا جرم - عقبها بذكر ما يدل على وجوده واتصافه بصفات الجلال والوحدانية فذكر من الدلائل أنواعا :
النوع الأول : الاستدلال بتقلب الإنسان في أدوار الخلقة وأكوان الفطرة وهي تسعة ثم ساقها.
النوع الثاني من الدلائل: الاستدلال بخلقهِ السموات.
النوع الثالث : الاستدلال بنزول الأمطار وكيفية تأثيراتها في النبات.([29])
وفي سورة الملك ذكر أنه سبحانه وتعالى في بدايتها أنه بيده الملك، وختمها بأن هدد المعرضين بقوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: ] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ[ الملك،30. فجعل الماء من ضمن آيات قدرته ومن براهين ربوبيته، فعلى هذا أقول إننا رأينا في الآيات السابقة وفي غيرها - مما سيمر بنا في هذا البحث، وأعلم أن ما فاتني بسبب قصور البشر أعظم مما أحطت به - أن الله جعل الماء من الدلائل العظيمة التي يرشد من خلالها عباده إلى عبادته سبحانه.
وبين الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان أن المسائل المتعلقة بالماء في هذه الآية أي - آية الحجر - قد وردت في آيات أخر، وهذه المسائل التي اشتملت عليها الآيات هي:
الأولى: أن الله أنزله بقدر أشار إليها في قوله: ]وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ[ الحجر،21.
والثانية: هي إسكانه الماء المنزل من السماء في الأرض بينها في قوله جل وعلا:]أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُه[ الزمر،21.
والثالثة: هي قدرته على إذهابه أشار لها في قوله تعالى: ] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ[ الملك،30... ثم قال: وهذه الآيات القرآنية تدل على أن الله يجمع الماء في المزن، ثم يخرجه من خلال السحاب... وبين أنه مع الإنعام العام على الخلق بإنزال المطر بالقدر المصلح وإسكان مائه في الأرض ليشربوا منه هم وأنعامهم، وينتفعوا به أبى أكثرهم إلا الكفر به، وذلك في قوله تعالى: ]وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا. لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا . وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا[. الفرقان48- 50.([30])
أما الحافظ الحكمي رحمه الله فقد أورد آيات كثيرة منها آية الحجر ثم قال: (والآيات في هذا الباب كثيرة يطول ذكرها، بل كل آيات الله الظاهرة والمعنوية وجميع مخلوقاته العلوية والسفلية تدل على كمال قدرته الشاملة التي لا يخرج عنها مثقال ذرة، كما أنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة، وعبارة العبد تقصر عن ذلك المعنى العظيم). ([31]) وقال محمد بن قاسم رحمه الله بعد أن ذكر أن منهج القرآن هو الاستدلال بالظواهر الكونية الدالة على الربوبية وأنها مستلزمة لتوحيد الألوهية -: (وهذا في القرآن كثير يقيم تعالى الحجة على المشركين بما يبطل شركهم بالله، وتسويتهم غيره به في العبادة، بضرب الأمثال وغير ذلك مما يعلمون به أن ذلك لله وحده، ويقرون به على ما يجحدونه من عبادته وحده). ([32])
الدليل الرابع: الاستدلال بالماء على أنه أساس الخلق
في هذا الموضع من البحث نستعرض الآيات الكريمات التي أرشد الله من خلالها البشر إلى أن الماء أساس الخلق وسبب للحياة، ومادة الخلق، ونبههم من خلال الدلالة على ذلك إلى أن القادر على خلق الماء وجعْله مادة لكل حي، وأحيا به مخلوقاً؛ هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه، وهذا المعنى ورد في آيات كثيرة من مثل قوله تعالى: ]أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ[ الأنبياء،30. قال ابن جرير الطبري رحمه عند تفسير هذه الآية:(وأحيينا بالماء الذي ننزله من السماء كلّ شيء).([33]) وقال السعدي رحمه الله:(ينبه عباده على ما يشاهدونه، أنه خلق جميع الدواب التي على وجه الأرض، ]مِنْ مَاءٍ[ أي: مادتها كلها الماء، كما قال تعالى:]وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [. فالحيوانات التي تتوالد، مادتها ماء النطفة، حين يلقح الذكر الأنثى. والحيوانات التي تتولد من الأرض، لا تتولد إلا من الرطوبات المائية، كالحشرات لا يوجد منها شيء، يتولد من غير ماء أبدا، فالمادة واحدة، ولكن الخِلْقَة مختلفة من وجوه كثيرة)([34]).
وقال محمد رشيد رضا في تفسير المنار:(الرؤية هنا علمية، والمعنى: ألم يعلموا ما ينبغي أن يعلموه من أن السماوات والأرض كانتا مادة واحدة متصلة لا فتق فيها ولا انفصال - وهي ما يسمى في عرف علماء الفلك بالسديم وبلغة القرآن بالدخان - ففتقناهما بفصل بعضها من بعض، فكان منها ما هو سماء، ومنها ما هو أرض، وجعلنا من الماء، في المقابلة لحياة الأحياء، كل شيء حي أفلا يؤمنون، والأمر كذلك بأن الرب الفاعل لهذا هو الذي يعبد وحده ولا يشرك به شيء، وأنه قادر على إعادة الخلق كبدئه؟).([35]) واستفتح الله الآية بقوله: ]أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا[ أي أفلم يعلموا أن الله الذي خلق هذا الحلق العجيب ونوعه تنويعا عجيبا وفاوت بين ما يخرج منه، أليس ذلك دليلا على ربوبية الله وألوهيته وأنه المستحق للعبادة، ولذلك ختم المولى هذه الآية بقوله:]أَفَلا يُؤْمِنُونَ[ وقال ابن كثير رحمه الله معقبا على هذه الآية:(يقول تعالى منبهًا على قدرته التامة، وسلطانه العظيم في خلقه الأشياء، وقهره لجميع المخلوقات، فقال:]أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا[ أي: الجاحدون لإلهيته العابدون معه غيره، ألم يعلموا أن الله هو المستقل بالخلق، المستبد بالتدبير، فكيف يليق أن يعبد غيره أو يشرك به ما سواه، ثم قال قوله:]أَفَلا يُؤْمِنُونَ[ (وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئًا فشيئًا عيانًا، وذلك دليل على وجود الصانع الفاعل المختار القادر على ما يشاء).([36])
وقال ابن القيم رحمه الله موضحا جوانب من حكمة الله في خلقه ودلالتها على وجوب عبادته:(أن هذه الجمادات والحيوانات المختلفة الأشكال والمقادير والصفات والمنافع والقوى والأغذية والنباتات التي هي كذلك، فيها من الحكم والمنافع ما قد أكثرت الأمم في وصفه وتجربته على ممر الدهور، ومع ذلك فلم يصلوا منه إلا إلى أيسر شيء وأقله، بل لو اتفق جميع الأمم لم يحيطوا علما بجميع ما أودع واحدا من ذلك النوع من الحكم والمصالح ، هذا إلى ما في ضمن ذلك من الاعتبار والدلالة الظاهرة على وجود الخالق ومشيئته واختياره وعلمه وقدرته وحكمته ثم ساق جملة من الآيات التي ذكر فيها سبحانه أصناف الخلق وورد فيه الإشارة إلى الماء ثم قال: فيجمع غايات فعله وحكمة خلقه وأمره إلى غاية واحدة هي منتهى الغايات، وهي إلهية الحق التي كل إلهية سواها فهي باطل ومحال، فهي غاية الغايات ثم ينزل منها إلى غايات أخر هي وسائل بالنسبة إليها). ([37])
وإذا كانت الآية السابقة في بيان أن الله جعل من الماء كل شيء حي، فقد ذكر في آية النور أنه خلق كل دابة من ماء، وأن الماء سبب حياة الأرض كما في آيات كثيرة منها آية الفرقان ] وهو الذي أرسل الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا. لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا. وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا[ الفرقان،48-50. وذكر جل في علاه أنه خلق الإنسان من ماء، فجعله نسبا وصهرا، كما في آية الفرقان، أيضا وقال تعالى في سورة السجدة:]ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ. ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ[ السجدة،8-9. قال الطاهر ابن عاشور:(والانتقال من الغيبة إلى الخطاب في قوله: ]وَجَعَلَ لَكُمُ[ التفات لأن المخاطبين من أفراد الناس، وجعل السمع والأبصار والأفئدة للناس كلهم غير خاص بالمخاطبين، فلما انتهض الاستدلال على عظيم القدرة، وإتقان المراد من المصنوعات المتحدث عنهم بطريقة الغيبة الشامل للمخاطبين وغيرهم - ناسب أن يلتفت إلى الحاضرين بنقل الكلام إلى الخطاب؛ لأنه آثر بالامتنان وأسعد بما يرد بعده من التعريض بالتوبيخ في قوله: ]قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ[. والامتنان بقوى الحواس وقوى العقل أقوى من الامتنان بالخلق وتسويته؛ لأن الانتفاع بالحواس والإدراك متكرر متجدد فهو محسوس بخلاف التكوين والتقويم فهو محتاج إلى النظر في آثاره) ([38]).
وهذا الأمر وهو الاستشهاد بالماء على الوحدانية تنوع وروده في القرآن الكريم فتارة يستدل به على خلق الإنسان، وتارة يستدل به على أنه أساس الخلق، وتارة يستدل به على تنوع المخلوقات التي تسقى بهذا الماء، وتارة يستدل به على تنوع صفات النوع الواحد الذي يتغذى من هذا الماء، وتارة يستدل به على الأطوار التي يتنقل فيها الإنسان من طور إلى طور، إلى آخر استدلالات الباري بهذا الخلق العجيب، قال الشنقيطي في أضواء البيان عن ذلك:(وقد أشار في آيات كثيرة إلى كمال قدرته بنقله الإنسان في خلقه من طور إلى طور، كما أوضحه هنا; وكما في قوله تعالى: ]مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا. وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا[. نوح،13-14. وبين أن انصراف خلقه عن التفكر في هذا والاعتبار به مما يستوجب التساؤل والعجب، وأن من غرائب صنعه وعجائب قدرته نقله الإنسان من النطفة، إلى العلقة، ومن العلقة إلى المضغة إلخ).([39])
هذه بعض البراهين والأدلة الدالة على الوحدانية مما استدل به بالماء على هذا، وفيما يلي استدلال بالماء على البعث.
المطلب الثاني: الاستدلال بالماء على البعث
البعث هو المسألة الثانية الكبرى التي أنكرها المشركون وأعداء الرسل؛ إذ إن الملأ في كل أمة أنكروا على الرسل عليهم الصلاة والسلام دعوتهم إياهم للوحدانية، ودعوتهم إياهم إلى الإيمان باليوم الآخر، ووقفوا منهم موقف المعاند والمجادل والمستكبر، ومن أجل ذلك تنوعت الأدلة والبراهين التي أقامها الله جل ثناؤه على هاتين المسألتين تنوعا لا ترى مثله في القرآن الكريم، بل لا تخلو سورة من ذكر التوحيد، أو ذكر فضله وثوابه وجزائه، فالقرآن كله في بيان التوحيد وثواب الموحدين، وعقوبة المعاندين، وأخبار الأنبياء والمرسلين الداعين إلى التوحيد، وذكر نصرهم وخذلان أعدائهم، والثواب والعقاب، والجزاء والنعيم والنكال هو ما سيكون في يوم القيامة.
وقد سبق الحديث في صدر هذا البحث عن ذكر شيء من أدلة القرآن وبراهينه على الوحدانية، وفي هذا المطلب سيكون الحديث عن الأدلة التي وردت في القرآن الكريم على البعث، خاصة البراهين التي كان الماء هو الذي عليه مدار الدليل والبرهان أو ما يكون بسببه أو ما يخرج به.
والناظر في حديث القرآن العظيم عن البعث يرى عجبا من كثرة الأدلة وتنوعها، وضرب الأمثلة؛ إذ إنك ترى أن الله تحدث عن البعث تارة عن أدلته وبراهينه، وتارة عن أصناف النعيم وألوان العذاب، وتارة عن ملابس أهل الجنة وملابس أهل النار، وتارة عن شراب هؤلاء وشراب أولئك، وتارة عن الجوانب النفسية التي تختلج في نفوس المؤمنين وفي ضمائر المعذبين، وتارة يكون الحديث عن تذكر أهل النعيم وأهل الجحيم للدنيا وما فيها، وتارة عن المخاصمة والمجادلة التي يجادل فيها التابعون المتبوعين، وتارة أخرى يتحدث القرآن عما سيكون عليه حال الكون قبيل الساعة وبعدها، وتارة يتحدث القرآن عن التنزل الإلهي لفصل القضاء، وتارة يكون البيان والعرض لحال الملائكة وتنزلهم واحتفافهم حول العرش، وتارة ترى النعيم موصوفا وترى الجحيم منعوتا كأنك تراه رأي العين... إلى آخر ما هنالك من تنويع في الحديث عن اليوم الآخر والبعث والحشر والنشر وما فيه من أهوال، قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله: (القرآن كله في تقرير الدين من فاتحته إلى خاتمته: دعوة وبشارة ونذارة, وأمرا ونهيا وخبرا, كله لا يخرج عن شأن الدين: إما دعوة إليه أو بشارة لمن اتبعه برضاء الله والجنة أو نذارة لمن أبى عنه من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، أو أمر بشرائعه: أصولها وفروعها وآدابها وأحكام كل منها، أو نهي عن نواقضه جميعه أو نواقض شيء منه، أو ما يوجب أدنى خلل فيه أو في شيء من شرائعه، أو خبر عن نصر من جاء به وصدق به وحفظه وتأييده في الدنيا، أو خبر عما أعد الله لهم في الآخرة من الفوز والنعيم والنجاة من عذاب الجحيم، أو خبر عن إهلاك من استكبر عنه في الدنيا وما أحله الله بهم من غضبه عاجلا من الخسف والمسخ والقذف وغير ذلك, وما أعده لهم في الآخرة من العذاب والعقاب, وما فاتهم وحرموه من الثواب وغير ذلك).([40])
ولن يكون الحديث هنا عن هذا الموضوع بشموله وسعته، بل سيتناول الاستدلال بالماء على البعث فقط، وهذا الأمر يجده القارئ متنوعا في القرآن كعادته في تنوع الأساليب والمباني، والتجديد في الألفاظ والمعاني، والآيات التي حفلت بهذا الموضوع كثيرة جدا لا يأتي عليها الحصر، وإنما سأذكر طرفا منها، وسيرى القارئ أن بعض هذه الآيات استدل بها الله جلّ في علاه على أن الذي أحيا الأرض بالماء بعد موتها قادر على أن يحيي الموتى، وفي آية أخرى تجد أن الله استدل بالنشأة الأولى من الماء المهين على البعث، وفي آيات أخر تجد أن الله استدل بتنوع الثمرات التي تخرج من الأرض إذا سقاها الماء على إحياء الموتى، وتارة رابعة نرى أن الله استدل بالماء الذي نشربه على قدرة الله على البعث، وهذا ما ستراه مفصلا فيما سيأتي من الآيات وما قاله المفسرون حولها.
ففي قوله تعالى: ] وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[ الأعراف،57. قال ابن جرير رحمه الله: (يقول تعالى ذكره: كما نحيي هذا البلد الميت بما ننزل به من الماء الذي ننزله من السحاب، فنخرج به من الثمرات بعد موته وجدوبته وقُحُوط أهله، كذلك نخرج الموتى من قبورهم أحياءً بعد فنائهم ودروس آثارهم ]لعلكم تذكرون[، يقول تعالى ذكرُه للمشركين به من عبدة الأصنام، المكذبين بالبعث بعد الممات، المنكرين للثواب والعقاب: ضربتُ لكم، أيها القوم، هذا المثل الذي ذكرت لكم: من إحياء البلد الميت بقَطْر المطر الذي يأتي به السحاب الذي تنشره الرياح التي وصفت صفتها، لتعتبروا فتذكروا وتعلموا أن مَنْ كان ذلك من قدرته، فيسيرٌ في قدرته إحياء الموتى بعد فنائها، وإعادتها خلقًا سويًّا بعد دُرُوسها) ([41]).
وروى الطبراني في معجمه عن أبي رزين قال: قلت: يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟ قال: أوما مررت بوادي قومك قحلا، ثم مررت به خضراء، ثم مررت به قحلا، ثم مررت به خضراء، كذلك يحيي الله الموتى).([42])
ووجه التشبيه بين إحياء الأرض بعد موتها بإحياء الموتى من قبورهم، أن إحياءهم من قبورهم يكون بمطر يبعثه الله على قبورهم، فتنشق عنهم القبور، ثم تعود إليهم الأرواح. وهذا يوضحه الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي ﷺ في خبر المسيح الدجال وفيه:( ثم يرسل الله أو قال ينزل الله مطرا كأنه الطل أو الظل - نعمان الشاك - فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال: يا أيها الناس هلم إلى ربكم)([43]).
ومن هذه الآيات التي ذكر فيها الحق جل جلاله الاستدلال بالماء على البعث هذه الآية: ]يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌٌ[ الحج،4-6.
قال ابن القيم رحمه الله بعد أن ساق هذه الآية وآية سورة فصلت:( جعل الله سبحانه إحياء الأرض بعد موتها نظير إحياء الأموات، وإخراج النبات منها نظير إخراجهم من القبور، ودل بالنظير على نظيره وجعل ذلك آية ودليلا على خمسة مطالب: أحدها وجود الصانع، وأنه الحق المبين، وذلك يستلزم إثبات صفات كماله وقدرته وإرادته وحياته وعلمه وحكمته ورحمته وأفعاله. الثاني: أنه يحي الموتى. الثالث: عموم قدرته على كل شيء. الرابع: إتيان الساعة وأنه لا ريب فيها. الخامس: أنه يخرج الموتى من القبور كما أخرج النبات من الأرض، وقد كرر سبحانه ذكر هذا الدليل في كتابه مرارا؛ لصحة مقدماته، ووضوح دلالته، وقرب تناوله وبعْده من كل معارضة وشبهة، وجعله تبصرة وذكرى)([44]).
فالله سبحانه وتعالى يبين للعباد من البراهين المحسوسة التي لا يمكن تكذيبها ولا المجادلة فيها - ما تقوم به الحجة عليهم، وإيضاح هذا البرهان إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من ماء مهين، فالذي خلق وأوجد من التراب ثم من الماء بشرا سويا لا يعجزه بحال أي يعيده كما بدأه، وكذلك من أحيا الأرض بعد موتها لن يعجزه أن يحيي الموتى كما أحيا الأرض، قال الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي رحمه الله: (يقول تعالى: ]يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ[ أي: شك واشتباه، وعدم علم بوقوعه، مع أن الواجب عليكم أن تصدقوا ربكم، وتصدقوا رسله في ذلك، ولكن إذا أبيتم إلا الريب، فهاكم دليلين عقليين تشاهدونهما، كل واحد منهما، يدل دلالة قطعية على ما شككتم فيه، ويزيل عن قلوبكم الريب:
أحدهما: الاستدلال بابتداء خلق الإنسان، وأن الذي ابتدأه سيعيده...
والدليل الثاني: إحياء الأرض بعد موتها، فهذان الدليلان القاطعان، يدلان على هذه المطالب الخمسة)([45]).
وقارن الطاهر بن عاشور رحمه الله بين موت الإنسان بموت الأرض، وبعث الإنسان بحياة الأرض بعد موتها، فقال:]وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ[ عطف على جملة: ]فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ[، والخطاب لغير معين فيعم كل من يسمع هذا الكلام. وهذا ارتقاء في الاستدلال على الإحياء بعد الموت بقياس التمثيل؛ لأنه استدلال بحالة مشاهدة؛ فلذلك افتُتِح بفعل الرؤية. بخلاف الاستدلال بخلق الإنسان فإنه مبدأ غير مشاهد فقيل في شأنه ]فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ[ الآية. ومحل الاستدلال من قوله تعالى: ]فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ[. فهو مناسب الأول]فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ[، فهمود الأرض بمنزلة موت الإنسان، واهتزازها وإنباتها بعد ذلك يماثل الإحياء بعد الموت)([46]).
ومن الآيات التي ذكّر الله بها عباده بهذا البرهان الجلي الذي نصبه لعباده ليدلهم بإحياء الأرض بعد موتها على إحيائهم بعد موتهم - قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه:]وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[ فصلت،39. قال ابن القيم رحمه الله:(فدل سبحانه عباده بما أراهم من الإحياء الذي تحققوه وشاهدوه، على الإحياء الذي استبعدوه، وذلك قياس إحياء على إحياء، واعتبار الشيء بنظيره، والعلة الموجبة هي عموم قدرته سبحانه وكمال حكمته، وإحياء الأرض دليل العلة، ومنه قوله تعالى:] يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ[الروم،19. فدل بالنظير على النظير ، وقرب أحدهما من الآخر جدا بلفظ الإخراج، أي: يخرجون من الأرض أحياء، كما يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي)([47]).
فأرشدهم إلى النظر إلى الأمر الذي يشاهدونه ويتمتعون به ويباشرون ما تُخرج الأرض بسببه من الثمرات والنخيل والأعناب وسائر ما تتغذى به أنفسهم ودوابهم، كل ذلك ليستدلوا به على أن القادر على إحياء الأرض بعد موتها وإخراجها لكل ذلك؛ قادر على أن يعيدهم بعد موتهم، ويحاسبهم على أعمالهم؛ فالذي قدر على هذا الأمر المشاهد قادر على ذلك الأمر الغائب، فسبحان الله عما يصفون.
قال الطاهر بن عاشور رحمه الله معلقا على قوله تعالى:]وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ[ قال عطف على جملة ]وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ[ فصلت، 37. وهذا استدلال بهذا الصنع العظيم على أنه تعالى منفرد بفعله، فهو دليل إلهيته دون غيره؛ لأن من يفعل ما لا يفعله غيره هو الإله الحق، وإذا كان كذلك لم يجز أن يتعدد؛ لكون من لا يفعل مثل فعله ناقص القدرة، والنقص ينافي الإلهية كما قال:]أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ[) النحل, 17.([48])
والآيات التي تضمنت هذا المعنى وأرشدت إليه كثيرة جدا لكن كلها في ذكْر أن الذي أنزل من السماء ماءً فأخرج به جنات ألفافا، وثمرات أصنافا، ومخلوقات متنوعة وإن كان أصلها واحدا - قادر على أن يحيي الموتى، ويبعثهم من قبورهم بعدما ينزل عليهم ماءً تنبت منه أجسادهم، ثم تعاد إليها أرواحهم، ومن هذه الآيات قوله تعالى: ]وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ[ الزخرف،11. قال ابن جرير رحمه الله: (يقول تعالى ذكره: كما أخرجنا بهذا الماء الذي نزلناه من السماء من هذه البلدة الميتة بعد جدوبها وقحوطها - النبات والزرع، كذلك أيها الناس تخرجون من بعد فنائكم ومصيركم في الأرض رفاتًا بالماء الذي أنزله إليها لإحيائكم من بعد مماتكم منها أحياء كهيئتكم التي بها قبل مماتكم)([49]). وقال ابن كثير رحمه الله: (نبّه بإحياء الأرض على إحياء الأجساد يوم المعاد بعد موتها). ([50])
ومن هذه الآيات آيات سورة ق ، وسورة الواقعة وسورة النبأ، وهي متضمنة الاستشهاد بإحياء الأرض على إحياء الموتى، ومتضمنة الاستشهاد بأن الذي أنزل الماء قادر على إحياء الموتى، وأنه حقيق بأن يعبد وحده دون ما سواه([51])، قال الفخر الرازي رحمه الله:(من أدلة البعث - قوله تعالى: ]أَفَرَءيْتُمُ الْمَاء الَّذِى تَشْرَبُونَ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ[ الواقعة،68، 69. وتقديره أن الماء جسم ثقيل بالطبع، وإصعاد الثقيل أمر على خلاف الطبع، فلا بدّ من قادر قاهر يقهر الطبع ويبطل الخاصية ويصعد ما من شأنه الهبوط والنزول، وثانيها: أن تلك الذرات المائية اجتمعت بعد تفرقها، وثالثها: تسييرها بالرياح، ورابعها: إنزالها في مظان الحاجة والأرض الجرز، وكل ذلك يدل على جواز الحشر، أما صعود الثقيل فلأنه قلب الطبيعة؛ فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يظهر الحياة والرطوبة من حساوة التراب والماء)([52]).
وفي سورة الواقعة أيضا استدل بالنشأة الأولى على النشأة الثانية، ومعلوم أن النشأة الأولى خلق فيها الإنسان من ماء مهين، قال تعالى: ]ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ[ السجدة، 8.
والآيات التي دلت على البعث كثيرة جدا، وقد تتفاوت أفهام العلماء في الاستدلال بآيةٍ على معنى، ويستدل بها آخرون على معنى آخر، إذ القرآن حمال أوجه، والمعنى قد يحتمل كل ذلك، لذا وجدت أن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله قد ذكر هذه الآية وغيرها مما فيها دليل على البعث في أكثر من موطن من كتابه القيم أضواء البيان، واستدل بآية البقرة وهي قوله جل ثناؤه:]الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ[ البقرة،22. على البعث، قال الشيخ محمد الشنقيطي عند تفسير هذه الآية: (أشار في هذه الآية إلى ثلاثة براهين من براهين البعث بعد الموت ([53]) ، وبينها مفصلة في آيات أخر:
الأول: خلق الناس أولا المشار إليه بقوله ] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ [; لأن الإيجاد الأول أعظم برهان على الإيجاد الثاني، وقد أوضح ذلك في آيات كثيرة، ثم ذكرها. وقال: ولذا ذكر تعالى أن من أنكر البعث فقد نسي الإيجاد الأول.
البرهان الثاني : خلق السماوات والأرض المشار إليه بقوله : ] الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاء[ لأنهما من أعظم المخلوقات، ومن قدر على خلق الأعظم فهو على غيره قادر من باب أحرى. وأوضح الله تعالى هذا البرهان في آيات كثيرة، ثم ذكرها.
البرهان الثالث : إحياء الأرض بعد موتها; فإنه من أعظم الأدلة على البعث بعد الموت، كما أشار له هنا بقوله: ] بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ[ وأوضحه في آيات كثيرة، ثم ذكرها.([54])
وإن كان الشيخ الشنقيطي رحمه الله قد استدل بها على البعث فإن غيره من المفسرين قد استدلوا بها على الوحدانية([55])؛ لأن الآية افتتحت بالأمر بالعبادة، بل هي أول أمر ورد في القرآن، وجعل الله سبحانه وتعالى خلق الناس، وجعْل الأرض فراشا، وإنزال الماء من السماء - دليلا أن الفاعل لذلك هو المستحق للعبادة، بينما استدل بها الشنقيطي على البعث، ولا إشكال في ذلك فكل دليل دل على الربوبية فهو مستلزم للوحدانية، وكل دليل دل على الوحدانية فهو يدل على البعث، لأن المالك الخالق هو المستحق للعبادة، وهو الذي سيبعث العباد ويحاسبهم على أعمالهم، ولذا تجد في القرآن كثيرا ما يذكر الله خلق السموات والأرض بعد ذكر أمر البعث، أو يعقب على ذكر البعث بخلق السموات والأرض، كما في قوله جل ثناؤه: ]وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ. مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ[ الدخان،40 وقوله تعالى: ]ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ. وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ[ المؤمنون،15-17. وكما في قوله جل ثناؤه: ]وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ[ الجاثية،22.
وخلاصة القول: أن الله سبحانه وتعالى استشهد بالماء على أمر البعث بأوجه كثيرة منها:
الأول: أن يستدل به على إحياء الأرض بإحياء الموتى.
الثاني: أن يستدل به على أن من أخرج من الأرض ثمراتها بعد إنزال عليها الماء قادر على أن يخرج الموتى من قبورهم.
الثالث: أن يستدل بالخلق الأول من الماء المهين، على الخلق الثاني حينما يبعث الناس من قبورهم بعدما ينزل عليهم ماءً كالطل.
الرابع: أن يستدل بالماء الذي نشربه على البعث بعد الموت؛ فالذي قدر على إنزاله من السماء قادر على أن يخرج الموتى من قبورهم.
وبعد هذا الاستدلال بالماء على البعث يظهر لنا في المطلب التالي كيف جعل الله الماء من جنده وسخره لأوليائه، وجعله نقمة على أعدائه.
المطلب الثالث: الماء من جند الله
الله سبحان وتعالى بيده مقاليد الأمور يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، إذا أراد أمرا جعله سبب نجاة، وإذا شاء سبحانه وتعالى جعله سبب هلاك، أرادت أمة من بني إسرائيل أن تنجو من الموت ففروا من بلادهم طلبا للنجاة، فكان الموت أقرب إليهم من نجاتهم، وجعل لهم الموت في السبيل الذي ظنوه طريقا للنجاة، ولما هلكوا ولم يكن لهم من موتهم منقذ، أذن الله أن يعيدهم إلى الحياة دون سبب منهم قال تعالى: ] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ[ البقرة،243.
والماء الذي نشربه ونسقي به الحرث والأنعام ونأكل ما تخرج الأرض بسببه جعله الله آية للناس وذكرى، وحينما تستعرض الآيات التي ورد فيها أن الله جعل الماء نصيرا لأوليائه ومهلكا لأعدائه تجد أنها تضمنت صورا متعددة لهذا الأمر وهو النصر أو الخذلان فمن ذلك:
الصورة الأولى: أن الله جعل الماء ملاذا آمنا لنوح والمؤمنين معه، قال تعالى مخبرا عن ذلك الخبر العجيب الذي أهلك الله فيه كل من على ظهر الأرض من البشر والدواب إلا من حمله نوح معه في الفلك المشحون، قال تعالى:]قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ. فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ[ المؤمنون، 26، 27.([56]) وهذه القصة مذكورة في أكثر من موطن سواء على سبيل الإطناب أو على سبيل الإيجاز كما في سورة هود، والفرقان، والشعراء، والعنكبوت، والصافات، وص، وغيرها من السور.
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: معلقا على خبر الله عن قول نوح لابنه كما في سورة هود: (]قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ [ أي : لا شيء في هذا اليوم العصيب يعصم أحدا من أمر الله الذي قضاه، فليس الأمر والشأن أمر ماء يرتفع بكثرة المطر كالمعتاد، فيتقي الحازم ضره بما يقدر عليه من الأسباب، وإنما هو أمر انتقام عام من أشرار العباد، الذين أشركوا بالله وظلموا وطغوا في البلاد، لكن من رحم الله منهم فهو يعصمه ويحفظه. وقد اختص بهذه الرحمة من أمر بحملهم في هذه السفينة... إلى أن قال: هذه الآيات الثلاث - أي من سورة هود - في مسألة فرعية من قصة نوح لا من صلب القصة وأصول وقائعها، ولكنها تدخل في العقائد وأصول الدين من بابين اثنين لا من باب واحد:
أحدهما: باب الإلهيات، بما فيها من حكم الله وعدله وسنته في خلقه بلا محاباة لولي ولا نبي.
وثانيهما: اجتهاد الأنبياء، وجواز الخطأ فيه وعده ذنبا عليهم بالإضافة إلى مقامهم ومعرفتهم بربهم - وهي ما عرض له - عليه السلام - من الاجتهاد في أمر ابنه الذي تخلف عن السفينة وكان من المغرقين).([57])
وقال ابن جرير الطبري رحمه الله معلقا على آيات سورة القمر التي ورد فيها خبر نوح وقومه:( فغرّقنا قوم نوح، ونجينا نوحا عقابا من الله، وثوابا للذي جحد وكفر، لأن معنى الكفر: الجحود، والذي جحد ألوهته ووحدانيته قومُ نوح...إلى أن قال: ولقد تركنا السفينة التي حملنا فيها نوحا ومن كان معه آية، يعني عِبْرة وعظة لمن بعد قوم نوح من الأمم؛ ليعتبروا ويتعظوا، فينتهوا عن أن يسلكوا مسلكهم في الكفر بالله، وتكذيب رسله، فيصيبهم مثل ما أصابهم من العقوبة)([58]).
وقال الشنقيطي رحمه الله عند تفسير الآيات التي ذكر الله فيها خبر نوح في سورة نوح: (وفي هذه السورة نفسها وقبل هذه الآية مباشرة قوله تعالى:]مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا[ نوح،25. فجمع الله لهم أقصى العقوبتين: الإغراق، والإحراق، مقابل أعظم الذنبين: الضلال، والإضلال. وكذلك بين تعالى كيفية إهلاك قومه ونجاته هو وأهله ومن معه. ثم ذكر آيات سورة القمر).([59]) فلا إله إلا الذي أنجى أولياءه، وأوبق أعداءه، جزاءً وفاقا، فالحمد لله على آلائه.
الصورة الثانية: أن الله جعل الماء ملاذا آمنا لموسى عليه السلام في مهده، فتأمل كيف سخر الله البحر ليحمل موسى وهو طفل، وينقله إلى أن يدخله في بيت آل فرعون، فيحميه الله من بطش فرعون ومكره، ويسخر له هذا الطاغية كما سخر له الماء من قبل، فالماء الذي من طبعه الإغراق جعله الله ملاذا آمنا لموسى وهو طفل رضيع، قال جل ثناؤه: ] إذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى. أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي[ طه،38، 39. وهذا الخبر يظهر فيه لطف الله بأوليائه، وكيده ومكره بأعدائه، وكيف يجعل البرُ الرحيمٌ أسبابَ العطب سُبُل أمان، وأسباب الحذر سبُل هلاك، سعى فرعون ليقتل موسى فحفظه ورعاه، وخافت أم موسى عليها السلام على ابنها فأُمرت أن تلقيه في المكان المخوف ومحل الهلاك، ولكنه في أمر الله هو الملاذ الآمن، قال ابن بطة رحمه الله معلقا على خبر أم موسى عليها السلام: (لقَدَرِه وقضائه مخرجان: أحدهما ظاهر قاهر، والآخر قوي خفي، لا يمتنع منه شيء، ولا يوجد له مس، ولا يسمع له حس، ولا يرى له عين ولا أثر؛ حتى يبرم أمره فيظهر، يباعد به القريب، ويصرّف به القلوب، ويقرب به البعيد، ويذل به كل جبار عنيد؛ حتى يفعل ما يريد به، حفظ موسى عليه السلام في التابوت،... يقربه من عدوه... وقد قدر وقضى أن نجاته فيه، قال لأمه فإذا خفت عليه أن يأخذه فرعون فاقذفيه في اليم، فليلقه اليم بالساحل، فاختلجه من كنّه ومن ثدي أمه، إلى هول البحر وأمواجه، وأدخل قلبَ أمه اليقين أنه راده إليها وجاعله من المرسلين، فأمنت عليه الغرق، فألقته في اليم ولم تفْرق، وأمر اليم يلقيه بالساحل؛ فسمع وأطاع وحفظه ما استطاع، حتى أداه إلى فرعون بأمره، وقد قدر وقضى على قلب فرعون وبصره حفظه وحسن ولايته بما قضى من ذلك، فألقى عليه محبة منه ليصنعه على عينه، قد أمن عليه سطوته ورضي له تربيته، لم يكن ذلك منه على التغرير والشفقة، ولكن على اليقين والثقة بالغلبة، يصطفي له الأطعمة والأشربة والخدم والحضان، يلتمس له المراضع شفقا أن يميته وهو يقتل أبناء بني إسرائيل عن يمين وشمال، يخشى أن يفوته وهو في يديه، وبين حجره ونحره يتبناه ويترشفه، يراه ولا يراه، وقد أغفل قلبه عنه، وزينه في عينه، وحببه إلى نفسه، لمه؟ قال ليكون لهم عدوا وحزنا، فمنه يفرق، على وده لو عليه يقدر، وهو في يديه وهو لا يشعر. حتى رده بقدرته إلى أمه، وجعله بها من المرسلين). ([60]) وليس بعد كلام هذا الإمام تعليق أو تحليل، فقد تأملَ اللطف الإلهي، وتعجب من الكيد الرباني، ونظر إلى العجز البشري، والطغيان الذي لا منتهى له، وكيف يؤول بصاحبه إلى أن يكون محل سخرية البشر، وكيف ألقى الأمن والطمأنينة على قلب أمه وساق لها البشارة في وقت المحنة، وجعلها تنعم بثمرة البشارة الأولى وتنتظر الأخرى من رب لا يخلف وعده.
الصورة الثالثة: أن الله جعل الماء ملاذا لموسى وقومه، وذلك حينما خرج بقومه فرارا من فرعون وقومه، فكما حمل الماء نوحا وقومه، فقد انشق اليم لموسى عليه السلام وقومه، فالبحر الذي حفظ الله به موسى عليه السلام هو الذي أهلك الله فيه فرعون وقومه، وهو الذي انفلق لموسى وآواه، وهو الذي أطبق على فرعون وقومه، فالبحر المغرق جعله سببا للنجاة، فتبارك الله أحسن الخالقين، قال تعالى مخبرا عما فعل بموسى عليه السلام وقومه، وما صنع بفرعون وقومه:]وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لاَّ تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى. فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ[ طه، 77،78. قال ابن كثير رحمه عند تفسير آيات سورة الأعراف التي ذكر فيها خبر فرعون: (يخبر تعالى أنهم لما عتوا وتمردوا، مع ابتلائه إياهم بالآيات المتواترة واحدة بعد واحدة، أنه انتقم منهم بإغراقه إياهم في اليم، وهو البحر الذي فرقه لموسى، فجاوزه وبنو إسرائيل معه، ثم ورده فرعون وجنوده على أثرهم، فلما استكملوا فيه ارتطم عليهم، فغرقوا عن آخرهم؛ وذلك بسبب تكذيبهم بآيات الله وتغافلهم عنها)([61]).
وهذه سنة الله في نصره لأوليائه، وانتقامه من أعدائه، وهي سنة لا تتخلف، وعادة لا تتأخر، قال جل ثناؤه:]إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ[ غافر،51. هذه السنة أجراها الله لأنبيائه وأوليائه، ينصرهم في الشدائد، ويقيم الحجة على معانديهم، ويظهر نصرهم وغلبتهم، ويكبت عدوهم، ويشفي صدور عباده المؤمنين من أعدائهم، قال جل شأنه: ]قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ[ التوبة،14.
ففي خبر موسى عليه السلام وقومه ونجاتهم من عدوهم آية قاهرة، وحجة بالغة، بين الله فيها أن الحق مع موسى وقومه، وأن الضلال والخذلان لفرعون وقومه، قال الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: (وبين الله سبحانه وتعالى لهارون وموسى أنه معهما يسمع ويرى، وأنه حافظهما وناصرهما ومؤيدهما؛ فلهذا أقدما على دعوة هذا الجبار العنيد المتكبر المتغطرس الذي قال: ]أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى[ النازعات 24. فصانهما وحماهما من شره وكيده، ولا شك أن هذا كله من حفظ الله وعنايته برسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام: رجل متكبر طاغية، ملك لعين يدعي أنه رب العالمين، ومع هذا أقدما على دعوته وبيان حق الله عليه، وأن الواجب عليه: أن ينيب إلى الله؛ ولكنه أبى واستكبر، ثم دعا إلى ما دعا إليه من جمع السحرة والسحر إلى غير ذلك، حتى أبطل الله كيده، وأظهر عجزه، ونصر موسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام - عليه وعلى سحرته، ثم صارت العاقبة - لما استمر في الطغيان - أن أغرقه الله وجميع جنده في البحر، وخلص موسى وهارون ومن معهما من بني إسرائيل. هذه من آيات الله البالغة ، في انتقام الله من أعدائه، ونصره لأوليائه: رجلان ليس معهما إلا جماعة مستعبدون لفرعون، يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، ويسومهم سوء العذاب، يقدمان على دعوة ملك جبار، وبيان الحق له، وإنكار ما هو عليه من الباطل، فيحميهما الله من ظلمه وبطشه، بل ويثبتهما ويؤيدهما جل وعلا، وينطقه بما يقيم الحجة عليه).([62])
وحاول الفخر الرازي رحمه الله أن يستعرض النعم الدنيوية والأخروية، ونعم الدنيا ونعم الدين على موسى وقومه عليه السلام، من هذا النصر المؤزر لموسى وقومه، وهذا الهلاك المبين لفرعون وقومه، ثم أردفها ببيان النعم الحاصلة لأمة محمد ﷺ من هذه القصة فقال:(اعلم أن هذه الواقعة تضمنت نعماً كثيرة في الدين والدنيا، أما نعم الدنيا في حق موسى عليه السلام (وقومه) فهي من وجوه:
أحدها: أنهم لما وقعوا في ذلك المضيق الذي من ورائهم فرعون وجنوده وقدامهم البحر، فإن توقفوا أدركهم العدو وأهلكهم بأشد العذاب، وإن ساروا غرقوا فلا خوف أعظم من ذلك، ثم إن اللّه نجاهم بفلق البحر، فلا فرج أشد من ذلك.
وثانيها : أن اللّه تعالى خصهم بهذه النعمة العظيمة والمعجزة الباهرة، وذلك سبب لظهور كرامتهم على اللّه تعالى.
وثالثها: أنهم شاهدوا أن اللّه تعالى أهلك أعداءهم، ومعلوم أن الخلاص من مثل هذا البلاء من أعظم النعم، فكيف إذا حصل معه ذلك الإكرام العظيم وإهلاك العدو.
ورابعها: أنْ أورثهم أرضهم وديارهم ونِعَمهم وأموالهم.
وخامسها: أنه تعالى لما أغرق آل فرعون فقد خلص بني إسرائيل منهم، وذلك نعمة عظيمة لأنه كان خائفاً منهم، ولو أنه تعالى خلص موسى وقومه من تلك الورطة وما أهلك فرعون وقومه؛ لكان الخوف باقياً من حيث إنه ربما اجتمعوا واحتالوا بحيلة وقصدوا إيذاء موسى عليه السلام وقومه، ولكن اللّه تعالى لما أغرقهم فقد حسم مادة الخوف بالكلية.
وسادسها : أنه وقع ذلك الإغراق بمحضر من بني إسرائيل وهو المراد من قوله تعالى: ]وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ[.
وأما نعم الدين في حق موسى عليه السلام فمن وجوه:
أحدها : أن قوم موسى لما شاهدوا تلك المعجزة الباهرة زالت عن قلوبهم الشكوك والشبهات، فإن دلالة مثل هذا المعجز على وجود الصانع الحكيم، وعلى صدق موسى عليه السلام تقرِِّب من العلم الضروري، فكأنه تعالى رفع عنهم تحمل النظر الدقيق والاستدلال الشاق. ([63])
وثانيها : أنهم لما عاينوا ذلك صار داعياً لهم إلى الثبات على تصديق موسى والانقياد له، وصار ذلك داعياً لقوم فرعون إلى ترك تكذيب موسى عليه السلام والإقدام على تكذيب فرعون.
وثالثها : أنهم عرفوا أن الأمور بيد اللّه؛ فإنه لا عز في الدنيا أكمل مما كان لفرعون، ولا شدة أشد مما كانت ببني إسرائيل، ثم إن اللّه تعالى في لحظة واحدة جعل العزيز ذليلًا والذليل عزيزاً، وذلك يوجب انقطاع القلب عن علائق الدنيا، والإقبال بالكلية على خدمة الخالق والتوكل عليه في كل الأمور. ثم ساق النعم الحاصلة لأمة محمد صلى اللّه عليه وسلم من ذكر هذه القصة، وهي كثيرة فانظرها غير مأمور. ([64])
الصورة الرابعة: إنزال الماء على الرسول ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم ليطهرهم به ويذهب عنهم رجز الشيطان، ذلك أن الله نزل الماء على الرسول ﷺ وأصحابه في بدر ليطهر به قلوبهم، ولقد كانت منن الله على رسوله ﷺ وأصحابه كثيرة، وأعظمها منة النبوة، ولقد امتن الله عليهم في يوم بدر بمنن ثلاث هي إنزال الملائكة مردفين، وكون النعاس يغشيهم في وقت تضطرب فيه القلوب وتزيغ فيه الأبصار، وأنزل عليهم الماء لحِكَم ذكرها الله في آية الأنفال، قال تعالى:]إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ[ الأنفال،11.
قال الطاهر بن عاشور رحمه الله:( وذكر الله منة أخرى جاءت في وقت الحاجة: وهي أنه أنزل عليهم المطر يوم بدر، فإسناد هذا الإنزال إلى الله تعالى للتنبيه على أنه أكرمهم به، وذلك لكونه نزل في وقت احتياجهم إلى الماء، ولعله كان في غير الوقت المعتاد فيه نزول الأمطار في أفقهم، قال أهل السير: كان المسلمون حين اقتربوا من بدر راموا أن يسبقوا جيش المشركين إلى ماء بدر، وكان طريقهم دهساء أي رملا لينا، تسوخ فيه الأرجل فشق عليهم إسراع السير إلى الماء، وكانت أرض طريق المشركين ملبدة، فلما أنزل الله المطر تلبدت الأرض فصار السير أمكن لهم، واستوحلت الأرض للمشركين فصار السير فيها متعبا([65])، فأمكن للمسلمين السبق إلى الماء من بدر، ونزلوا عليه وادخروا ماءً كثيرا من ماء المطر، وتطهروا وشربوا، فذلك قوله تعالى: ]لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ[) ([66]). وهذا المعنى أورده الإمام ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، حيث لحظ فيه رحمه الله أن المطر واحد، لكنه كان على المؤمنين نعمة، وكان على المشركين نقمة، حيث قال رحمه الله: (فأنزل الله عز وجل في تلك الليلة مطرا واحدا، فكان على المشركين وابلا شديدا منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلا طهرهم به، وأذهب عنهم رجس الشيطان، ووطّأ به الأرض، وصلب به الرمل، وثبت الأقدام، ومهد به المنزل، وربط به على قلوبهم).([67]) وقال رشيد رضا رحمه الله: (وهذه منة ثالثة منه عز وجل على المؤمنين كان لها شأن عظيم في انتصارهم على المشركين).([68])
الصورة الخامسة: أن الله جعل الماء نقمة على أعداء الله، ومغرقا لهم ومعجلا لهم بالمصير إلى النار، ففي حين كان الماء ملاذا آمنا لنوح وموسى عليهما السلام، فقد جعله الله موبقا ومهلكا لقوم نوح ولفرعون وقومه، فالماء واحد، والعاقبة متباينة كما تباين السماءُ الأرض، ركب نوح عليه السلام الماء؛ فنجا، ونزل الماء على قومه، وفار عليهم التنور من تحتهم فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وافتخر فرعون بالماء والأنهار التي تجري من تحته، حينما قال كما أخبر الله عنه أنه قال: ]يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ[ الزخرف،51. فأذلّه الله بالماء ثلاث مرات:
المرة الأولى: حينما حمل له الماء الطفل الذي كان يطلبه، وقتل في سبيله ولدان بني إسرائيل، فتلقاه في بيته وحضنه وآواه وكفله، وهذا من مكر الله وكيده؛ ليبين للناس جهله وعواره ونقصه، والناقص ليس إلها، ولا ربا معبودا، ولا إماما متبوعا، قال تعالى:]إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى. أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [ القصص،38، 39.
المرة الثانية: حينما سلط الله عليهم الطوفان، كما قال عز اسمه: ]فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ[الأعراف،133.
المرة الثالثة: حينما أغرقه الله بالماء، وأخرج بدنه ليكون آية لمن خلفه قال جل ثناؤه:]وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ[ يونس،90-92.
قال الزمخشري في الكشاف:(ومعنى كونه آية: أن تظهر للناس عبوديته ومهانته، وأنّ ما كان يدّعيه من الربوبية باطل محال، وأنه مع ما كان فيه من عظم الشأن وكبرياء الملك آل أمره إلى ما ترون لعصيانه ربه عز وجل، فما الظنّ بغيره، أو لتكون عبرة تعتبر بها الأمم بعدك، فلا يجترئوا على نحو ما اجترأت عليه إذا سمعوا بحالك وبهوانك على اللّه).([69])
وقال ابن جرير الطبري رحمه الله عند تفسير خبر مهلك فرعون وقومه في سورة طه: (يقول تعالى ذكره: فسرى موسى ببني إسرائيل إذ أوحينا إليه أن أسر بهم، فأتبعهم فرعون بجنوده حين قطعوا البحر، فغشي فرعون وجنده في اليم ما غشيهم، فغرقوا جميعا)([70]).
الصورة السادسة: أن الله أرسل سيل العرم على مملكة سبأ بسبب كفرها وعنادها، فأغرق حرثهم، وأهلك أموالهم، وذلك عقوبة لهم على عتوهم وعنادهم وعدم شكرهم لنعم ربهم، قال تعالى موضحا كيف حل بهم العذاب، وكيف تحولت جناتهم إلى أشجار لا تثمر، كل ذلك مجازاة لهم على صنيعهم، قال تعالى: ]فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ. ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ[ سبأ،16، 17. وقال الطاهر بن عاشور: ( فإن سيل العرم كان محبوسا بالسد في مأرب، فكانوا يرسلون منه بمقدار ما يسقون جناتهم، فلما كفروا بالله بعد الدعوة للتوحيد؛ قدر الله لهم عقابا بأن قدر أسباب انهدام السد فاندفع ما فيه من الماء، فكان لهم خطرا وإتلافا للأنعام والأشجار، ثم أعقبه جفاف باختلاف نظام تساقط الأمطار وانعدام الماء وقت الحاجة إليه؛ وهذا جزاء على إعراضهم وشركهم)([71]). وقال أبو حيان رحمه الله معلقا على خبر سيل العرم : (لما ذكر تعالى حال الشاكرين لنِعَمه بذكر داود وسليمان، بيّن حال الكافرين بأنعمه بقصة سبأ؛ موعظة لقريش وتحذيرا وتنبيها على ما جرى لمن كفر أنعم اللّه).([72])
ولم تكن معصيتهم الكفر فحسب - ويكفي الكفر شؤما على صاحبه - بل جمعوا إلى ذلك كفر النعمة وتمني زوالها؛ حتى إنهم - من بطر النعمة - سألوا الله أن يباعد بين أسفارهم، فقالوا كما أخبر الله عنهم:]فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ[ سبأ،19، فكانت العقوبة التي طلبوها، ولا شك أن هذا من شؤم المعصية أن يطلب الإنسان العقوبة العاجلة، كما أخبر الله عن قريش أنهم دعوا ربهم أن يعجل لهم العذاب الذي توعدهم به نبينا محمد ﷺ فقالوا:]رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ[ ص،16. قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله: (قال هؤلاء المكذبون- من جهلهم ومعاندتهم الحق، مستعجلين للعذاب-:]رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا[ أي: قسطنا وما قسم لنا من العذاب عاجلا ]قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ[ ولَجُّوا في هذا القول، وزعموا أنك يا محمد، إن كنت صادقا، فعلامة صدقك أن تأتينا بالعذاب).([73])
وهذه الصورة من صور العذاب قريبة من الصورة السابقة من حيث إن الله أهلك أعداءه بالماء الذي أرسله عليهم، ولكنها تختلف عنها من بعض الوجوه، فإن كانت عقوبة قوم نوح أن الله أرسل عليهم السماء وفتح عليهم الأرض فتفجر الماء من فوقهم ومن تحت أرجلهم، فإن عذاب فرعون وقومه أن فاض عليهم الماء طوفانا عظيما، ثم أغرقهم بالماء بعد أن أدخلهم البحر، جزاءً وفاقا، وإن عقوبة قوم سبأ أن فجّر عليهم الماء الذي خزنوه لزروعهم وحرثهم، وأعظموا بناء السد؛ ليستفيدوا من الماء، ولئلا يدمرهم الماء إذا اندفع من الوادي، فأرسل الله عليهم ما حفظوا، وسلط عليهم ما خزنوا، وحاق بهم ما صنعوا، كما قال الله جل ثناؤه عن قوم صالح:]قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ. وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ. فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ[ النمل،49- 52.
المطلب الرابع: ضرب المثل بالماء
في المطالب السابقة رأينا أن الله استدل بالماء على ربوبيته وألوهيته، واستدل بما أنزل من السماء من ماء وما يخرج بسببه من الأرض من ثمرات ونبات - على البعث وإحياء الناس وحشرهم ونشرهم، ورأينا أيضا أن الله جعل الماء من جنوده الذين يسخرهم لنصرة أولياءه، والنقمة من أعدائه، وفي هذا المطلب سنجد أن مما ورد ذكر الماء في القرآن أن يضرب الله به مثلا، ولقد تعددت المعاني التي ضرب الله من أجلها المثل بالماء، وهذا ما سيكون الحديث عنه في هذا المطلب، وهو ضرب المثل بالماء لأمر من أمور الإيمان والاعتقاد، ولا أزعم أنني أحطت بكل الأمثال التي ضربها في القرآن وجعل الماء مضرب المثل فيها، ولكن حسبي أنني أوردت منها ما وقف عليه النظر الضعيف.
والمثل كما قال الراغب: (عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر، بينهم مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوره نحو قولهم: الصيف ضيعت اللبن، فإن هذا القول يشبه قولك: أهملت وقت الإمكان أمركَ، وعلى هذا الوجه ما ضرب الله تعالى من الأمثال).([74]) قال جل شأنه وتقدست أسماؤه:] وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[ الحشر،21. والله سبحانه وتعالى يضرب المثل في القرآن كثيرا لحكم كثيرة، وفي معان كثيرة، على وجوه كثيرة، قال في الكشاف:(ولضرب العربِ الأمثالَ واستحضار العلماءِ المثلَ والنظائرَ - شأن ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تريك المتخيل في صورة المحقق، والمتوهم في معرض المتيقن، والغائب كأنه مشاهد. وفيه تبكيت للخصم الألد، وقمع لسوْرة الجامح الأبىّ، ولأمر مّا أكثر اللَّه في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله، وفشت في كلام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وكلام الأنبياء والحكماء). ونقل أبوحيان كلام الزمخشري بحروفه وأحال عليه([75]).
قال عز اسمه وتعالى شأنه:]وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ[ العنكبوت،43. والأمثال في القرآن عبر ومواعظ وزواجر عظيمة جدا، لا لبس في الحق معها، إلا أنها لا يعقل معانيها إلا أهل العلم، ولذا قال بعض السلف: كنت إذا قرأتُ مثلا من القرآن فلم أفهمه بَكَيت على نفسي؛ لأن الله تعالى يقول:]وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ[. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:( فدل على أن العالمين يعقلونها وإن كان غيرهم لا يعقلها. والأمثال: هي المتشابه عند كثير من السلف، وهي إلى المتشابه أقرب من غيرها؛ لما بين الممثل والممثل به من التشابه، وعقل معناها هو: معرفة تأويلها الذي يعرفه الراسخون في العلم دون غيرهم).([76])
وهذه الأمثال مع إيضاحها للحق يهدي بها الله قوما، ويضل بها قوما آخرين، كما قال تعالى: ]إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ[ البقرة،26.([77]) وهي من الحجة التي أقامها الله على المشركين بما يبطل به شركهم بالله وتسويتهم غيره به في العبادة بضرب الأمثال وغير ذلك، وهذا في القرآن كثير كقوله تعالى:]يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ[([78]).
وهذه الأمثلة كثيرة جدا في القرآن والسنة، ومما وقفت عليه في القرآن الكريم في موضوعنا هذا خمسة أمثال هي على الترتيب التالي بحسب ورودها في القرآن العظيم.
المثل الأول: ضرب المثل بالماء للنفاق
قال جل شأنه وتقدست أسماؤه:]مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ. أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ [ البقرة،17- 19. قال ابن كثير رحمه الله: (وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، في قوله تعالى: ]مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا[ إلى آخر الآية، قال: هذه صفة المنافقين. كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم، كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا، ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه، كما ذهب بضوء هذه النار فتركهم في ظلمات لا يبصرون.
وقال العوفي، عن ابن عباس، في هذه الآية، قال: أما النور: فهو إيمانهم الذي كانوا يتكلمون به، وأمَّا الظلمة: فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به، وهم قوم كانوا على هدى، ثمّ نزع منهم، فعتوا بعد ذلك... إلى أن قال عن الآية التالية: وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضربٍ آخر من المنافقين، وهم قوم يظهر لهم الحق تارة، ويشكّون تارة أخرى، فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم ]كَصَيِّبٍ[ والصيب: المطر، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وناس من الصحابة، وأبو العالية، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء، والأشهر هو المطر نزل من السماء في حال ظلمات، وهي الشكوك والكفر والنفاق. ]وَرَعْدٌ[ وهو ما يزعج القلوب من الخوف، فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع ...والبرق: هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان، من نور الإيمان) ثم ختم كلامه رحمه الله ببيان أقسام الناس وأنهم مؤمنون خلص، وكفار خلص، ومنافقون على قسمين: خلصٌ وهم المضروب لهم المثل الناري، ومنافقون يترددون، تارة يظهر لهم لُمَعٌ من الإيمان وتارة يخبو، وهم أصحاب المثل المائي، وهم أخف حالا من الذين قبلهم([79]). إذاً ابن كثير رحمه الله جعل المثلين لنوعين من المنافقين، بينما ابن جرير رحمه الله اعتبرهما مثلين للمنافقين دون أن يعتبرهما دالين على نوعين منهم.([80])
واعتبر محمد رشيد رضا رحمه الله أن المثل الأول دال على صنف من المنافقين عرف ثم أنكر، وآتاه الهداية ثم زهد فيها وآثر غيرها عليها، واستغنى بما هو أقل وأخس، فهو كمن استوقد نارا ثم أطفأها الله فهو عاش بالظلمات بعد النور، ولا شك أن من كان في نور ثم سلب منه فهو أعظم ممن كان في ظلمة أصلا، أما المثل الثاني فهو فيمن كان ولا يزال معه شيء من نور الوحي، ولكنه لا يستقل به ويستزيد منه، بل هو متذبذب تصك سمعه قوارع القرآن وزواجره فيضع أصابعه في أذنيه، ويأنس بالوحي تارة ويبعد عنه أخرى، فهو في ريبه يتردد، وفي غيه يتخبط، وذلك حيث يقول: (ضرب الله تعالى لهذا الصنف في مجموعه مثلين، وينبئان بانقسامه إلى فريقين، خلافا لما في أكثر التفاسير في أن المثلين لفريق واحد، وأن معناهما وموضوعهما واحد.
الأول: من آتاهم الله دينا وهداية عمل بها سلفهم فجنوا ثمرها، وصلح حالهم بها أيام كانوا مستقيمين على الطريقة، آخذين بإرشاد الوحي، واقفين عند حدود الشريعة، ولكنهم انحرفوا عن سنن سلفهم في الأخذ بها ظاهرا وباطنا، ولم ينظروا في حقائق ما جاءهم ... فمثل هذا الفريق من الصنف المخذول - في فقده لما كان عنده من نور الهداية الدينية، وحرمانه من الاهتداء بها بالمرة ، وانطماس الآثار دونها عنده - مثل من استوقد نارا إلخ ...
وأما الفريق الثاني: فقد ضرب الله له المثل في قوله: ]كَصَيِّبٍ[ إلخ ، وهو الذي بقي له بصيص من النور، فله نظرات ترمي إلى ما بين يديه من الهداية أحيانا، ولمعاني التنزيل لمعان يسطع على نفسه الفينة بعد الفينة، ويأتلق في نظره الحين بعد الحين عندما تحركه الفطرة، أو تدفعه الحوادث للنظر فيما بين يديه، ولكنه من التقاليد والبدع في ظلمات حوالك، ومن الخبط فيها على حال لا تخلو من المهالك، وهو في تخبطه يسمع قوارع الإنذار الإلهي، ويبرق في عينيه نور الهداية، فإذا أضاء له ذلك البرق السماوي سار، وإذا انصرف عنه بشبه الضلالات الغرّارة قام وتحير، لا يدري أين يذهب، ثم إنه ليعرض عن سماع نذر الكتاب ودعاة الحق كمن يضع إصبعيه في أذنيه حتى لا يسمع إرشاد المرشد، ولا نصح الناصح، يخاف من تلك القوارع أن تقتله، ومن صواعق النذر أن تهلكه. هذا هو شأن فريقي هذا الصنف بما يشير إليه المثلان إجمالا)([81]).
وهذا المعنى يوافق فيه محمدُ رشيد رضا الإمام ابن القيم رحمه الله وقد أورد الإمام هذين المثلين في أكثر من كتاب من كتبه القيمة([82]) وأشار رحمه الله إلى أن المثل الأول في شأن من دخل في الإسلام ولكن الإيمان لم يدخل إلى قلبه، فهو استفاد من الإسلام في ظاهر أمره، فعصم الإسلام دمه، وتوارث مع المسلمين، وتزوج منهم، لكنه في الآخرة لا ينفعه إسلامه، لذلك إذا انطفأت ناره ذهب نوره، وهذا إذا انتهت حياته ذهب استمتاعه بنور الإسلام، فهو كمن أبصر ثم عمي، وكمن عرف ثم أنكر، وآمن ثم كفر، والفريق الثاني فهو كمن لديه بقية من علم، وأثارة من نبوة، وقبس من نور، ولكنه لا يلتمس المزيد منه؛ بل يتقلب في تردد وحيرة يحسب كل صيحة عليه لخوفه كما قال تعالى في سورة المنافقون: ] يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ[المنافقون، 14. إن جاءه من النصوص والأدلة ما يوافق هواه، كان مع أهل الإيمان, وإن رأى من الشرع ما يكره أعرض واستكبر وحاد عن الصراط، وأظهر الحصافة وادعى التعقل، فهم يترددون في مساحة عريضة من الشك والاضطراب يوضحها قوله تعالى: ] مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً[ النساء، 143. ولو نظرت في أحرف قوله تعالى: ]لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء[ وكم فيها من حرف مد؟ وكم فيها من حرف حلقي، لعلمت بلاغة القرآن الكريم في وصف هؤلاء، وأن الله اختار من الكلمات ذوات الأصوات والحروف والجرس ما يوافق أحوالهم وأوصافهم.
وأورد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله المراد من هذين المثلين وبين خلاف المفسرين حول ذلك، وبين الصواب في ذلك فقال: ( وهذا أصح القولين. فإن المفسرين اختلفوا هل المثلان مضروبان لهم كلهم أو هذا المثل لبعضهم ؟ على "قولين". والثاني: هو الصواب؛ لأنه قال: ]أو كَصَيِّبٍ[ وإنما يثبت بها أحد الأمرين؛ فدل ذلك على أنهم مثلهم هذا وهذا، فإنهم لا يخرجون عن المثلين، بل بعضهم يشبه هذا، وبعضهم يشبه هذا، ولو كانوا كلهم يشبهون المثلين لم يذكر (أو)، بل يذكر الواو العاطفة. وقول من قال: ( أو ) هاهنا للتخيير - كقولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين - ليس بشيء؛ لأن التخيير يكون في الأمر والطلب، لا يكون في الخبر، وكذلك قول من قال: أو بمعنى الواو أو لتشكيك المخاطبين).([83]) وقد يكون السبب - والله أعلم - أن الآيات التي سبقت هذين المثلين وورد فيها ذكر المنافقين في سورة البقرة ولم يذكر الله فيها أصناف المنافقين، وإنما وصف حالهم دون ذكر أنواعهم، فلهذا أشكل ذلك على بعض المفسرين، فمنهم من قال إن المراد بهما المنافقون بوجه عام، ومنهم قال إن المراد به أصناف المنافقين، وأن كل مثل يدل على طائفة منهم.
المثل الثاني: ضرب المثل بالماء للحياة الدنيا وأنها دار الغرور ومآلها إلى الفناء
الدار الدنيا ضرة الآخرة، وموطن الغرور لمن خفيت عليه حقيقتها وخدع بمظهرها، ولذا حذر الله عباده من الاغترار بها والركون إليها، وذلك في أكثر من آية من كتاب الله، ومن هذه الآيات قوله سبحانه:]وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ[العنكبوت،64. وقوله تعالى:] إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ [ لقمان،23. وقوله تبارك اسمه وتعالى شأنه:]اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ[ الحديد،22. وهذا في بيان حال الدنيا، وضرب سبحانه في الآيات التالية المثل للدنيا بالماء وما يخرج بسببه، قال جل ثناؤه وتقدست أسماؤه:]إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[يونس،24. وقال عز من قائل:]وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا[ الكهف،45.([84]) وهذان المثلان المضروبان لحقيقة الدنيا ضرب المثل فيهما بالماء وما ينتج منه، قال القرطبي رحمه الله: (وقالت الحكماء: إنما شبّه تعالى الدنيا بالماء لأن الماء لا يستقر في موضع، كذلك الدنيا لا تبقى على (حال) واحد، ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة، كذلك الدنيا، ولأن الماء لا يبقى ويذهب، كذلك الدنيا تفنى، ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل، كذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها، ولأن الماء إذا كان بقدر كان نافعا منبتا، وإذا جاوز المقدار كان ضارا مهلكا، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع وفضولها يضر)([85]). وهذا النظر الأخير للدنيا يوافق ما فى صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله ﷺ قال:( قد أفلح من أسلم ورزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه).([86]) وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله:(وهذا المثل من أحسن الأمثلة، وهو مطابق لحالة الدنيا، فإن لذاتها وشهواتها وجاهها ونحو ذلك يزهو لصاحبه إن زها وقتًا قصيرًا، فإذا استكمل وتم؛ اضمحل وزال عن صاحبه، أو زال صاحبه عنه، فأصبح صفر اليدين منها، ممتلئ القلب من همها وحزنها وحسرتها)([87]). كيف لا يكون أحسن الأمثلة لهذا الأمر؟ والله سبحانه وتعالى هو الذي ضربه، والله نزل أحسن الحديث، وجعله غاية في البيان والهداية وموافقة الفطر والعقول، وموافقة كل أمر لما وضع له. وذكر الفخر الرازي رحمه الله أوجه الشبه بين الدنيا وهذا المثل الذي ضرب لها فعدد وجوها، وذكر منها أن الله تعالى لعله إنما ضرب هذا المثل لمن لا يؤمن بالمعاد، بجامع أن الدنيا سريع زوالها، ثم يعيدها الله كما كانت، فكذلك البشر سريع زوالهم ثم يعيدهم الله كما بدأهم أول مرة.([88])
بينما الشوكاني رحمه الله يرى أن هذا المثل ضرب بالنبات الذي يخرج من الماء وليس للماء النازل من السماء، حيث قال:(لما ذكر الله سبحانه ما تقدّم من متاع الدنيا، جاء بكلام مستأنف يضمن بيان حالها وسرعة تقضيها، وأنها تعود بعد أن تملأ الأعين برونقها، وتجتلب النفوس ببهجتها. وتحمل أهلها على أن يسفكوا دماء بعضهم بعضاً، ويهتكوا حرمهم حباً لها، وعشقاً لجمالها الظاهري، وتكالباً على التمتع بها، وتهافتاً على نيل ما تشتهي الأنفس منها بضرب من التشبيه المركب... وليس المشبه به هو ما دخله الكاف في قوله : ]كَمَآء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء[ بل ما يفهم من الكلام، والباء في: ]فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض[ للسببية، أي فاختلط بسببه نبات الأرض بأن اشتبك بعضه ببعض، حتى بلغ إلى حدّ الكمال، ويحتمل أن يراد أن النبات كان في أوّل بروزه، ومبدأ حدوثه غير مهتز ولا مترعرع، فإذا نزل الماء عليه اهتز وربا، حتى اختلط بعض الأنواع ببعض).([89])
والمثل الوارد في هذه الآيات تضمن تشبيه الدنيا بمثال مكون من أمرين وهو الماء وما ينتج عنه، لأن الباري جل جلاله ذكر هذين الأمرين في المثال، فالصورة المحسوسة التي ارتسمت في الذهن عن هذه الحال لا توجد إلا باجتماع هذين الأمرين، فلو وجد الماء ولم يقابل محلا قابلا للإنبات لم يكتمل المثال، والنبات لا يوجد بغير الماء، إذا فالصورة المحسوسة التي أحيل عليها التشبيه في الدنيا هي صورة مركبة من ماء ونبات، وعلى هذا فلا خلاف في المراد من المثال بل كلا الأمرين مراد، فالقرطبي رحمه الله أشار إلى الماء، والشوكاني أشار إلى النبات، وقد أحسن في الجمع بين هذين الأمرين الطاهر بن عاشور رحمه الله فقال: (كان التشبيه هنا تشبيه حالة مركبة بحالة مركبة. عبّر عن ذلك بلفظ المثل الذي شاع في التشبيه المركب ثم قال... شبهت حالة الحياة في سرعة تقضيها وزوال نعيمها بعد البهجة به وتزايد نضارتها بحال نبات الأرض في ذهابه حطاما ومصيره حصيدا. ومن بديع هذا التشبيه تضمّنه لتشبيهات مفرقة من أطوار الحالين المتشابهين بحيث يصلح كل جزء من هذا التشبيه المركب لتشبيه جزء من الحالين المتشابهين، ولذلك أطنب وصف الحالين من ابتدائه. فقوله:]كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ[ شبه به ابتداء أطوار الحياة من وقت الصبا؛ إذ ليس ثمة سوى الأمل في نعيم العيش ونضارته، فلذلك الأمل يشبه حال نزول المطر من السماء في كونه ما يؤمل منه من زخرف الأرض ونضارتها. وقوله: ]فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ[ شبه به طور ابتداء نضارة العيش وإقبال زهرة الحياة، فذلك يشبه خروج الزرع بعيْد المطر فيما يشاهد من بوارق المأمول، ولذلك عطف بفاء التعقيب للإيذان بسرعة ظهور النبات عقب المطر فيؤذن بسرعة نماء الحياة في أول أطوارها. وعبر عنه بالاختلاط بالماء بحيث ظهر قبل جفاف الماء، أي فاختلط النبات بالماء أي جاوره وقارنه).([90]) إلى آخر تلك المقارنات الجميلة التي عرضها وأمتع القارئ بها، وفصّل القول في هذه المسألة وأبان أن المثل مثلٌ مركب من الماء وما يخرج بسببه، ضُرب للدنيا وسرعة تقلب أحوالها وزوالها.
ولا يفهم من ذلك أن الخطاب موجه فقط للمسلمين؛ بل هو خطاب عام لكل مكلف، لأن الكفار يحول بينهم وبين اتباع المرسلين الاغترار بالدنيا وظنهم أنهم لا يبعثون، ولذا قالوا كما أخبر الله عنهم: ]وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ[ الأنعام،29. وقال جل ثناوه:]وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ. أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ[ المطففين،1-4. فبين سبحانه أن سبب إعراضهم هو ظنهم أنهم لا يبعثون. فلذا ضرب الله لهم مثلا بالماء الذي يشربونه ويشاهدون نزوله وما يخرج من الأرض بسببه، ويشاهدون سرعة زواله وفناءه، بهذه الدنيا التي اغتروا بها واعرضوا بسبب اغترارهم بها عن الحق الذي جاء به الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام.
المثل الثالث: ضرب المثل بالماء لعجز الأولياء عن إجابة السائلين
سبق الحديث في أول هذه المباحث أن مسألة التوحيد هي أعظم المسائل، وهي التي من أجلها أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وأقام الحجج، ونصب البراهين، لئلا يكون للناس على الله حجة، ومن رحمة الله بعباده أن نوّع لهم في البراهين، وصرّف لهم الآيات، فتارة يكون الدليل دليلا عقليا صرفا، كقوله تعالى: ]لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ[ الأنبياء، 22. وتارة يكون دليلا محسوسا مشاهدا، كقوله جل ثناؤه: ]هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ[ لقمان،11. وتارة يكون ببيان ضعف المعبود من دون الله ونقصه، وتارة بضرب المثل، وهذا([91]) في القرآن كثير، بل أكثر من أن يحاط به؛ لأن المثل تارة يكون مصرحا بلفظه في الآية، وتارة لا يكون مصرحا به في الآية، ومن هذه الأمثلة التي ضربها الله في القرآن لاستحقاقه العبادة وبطلان عبادة من دونه قوله تعالى:]لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ[ الرعد،14. فأبان الحق أن له دعوة الحق، وهو الحق، وما سواه باطل، وأن كل ما يدعى من دونه جل شأنه فهو لا يملك لسائله نفعا ولا ضرا، بل لا يعلم بمن دعاه أو رجاه، ولا يسمع دعاءه، ويوم القيامة يكفرون بشركهم، قال تعالى: ]إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[ فاطر،14. وهؤلاء المتبوعون من دون الله كما قال الحق لا ينفعون ولا يضرون، وشبه الحق سبحانه وتعالى من يدعو هؤلاء بمن يبسط يده للماء يريد أن يبلغ فاه وما هو ببالغه، فهو في عطشه وتلهفه يفعل سببا لا يوصله إلى مطْلوبه، ولا ينجيه من مرهوبه، وقد روى ابن جرير بسنده عن علي رضي الله عنه في معنى هذه الآية قوله:(كالرجل العطشان يمد يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه وما هو ببالغه). وكذلك روى بسنده عن مجاهد، في تفسير هذه الآية قوله: (يدعو الماء بلسانه ويشير إليه بيده، ولا يأتيه أبدًا). وروى بسنده عن قتادة، قوله: (وليس ببالغه حتى يتمزَّع عنقه ويهلك عطشًا. وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله; أي هذا الذي يدعو من دون الله هذا الوثنَ وهذا الحجر لا يستجيب له بشيء أبدًا ولا يسُوق إليه خيرًا ولا يدفع عنه سوءًا حتى يأتيه الموت، كمثل هذا الذي بسط ذارعيه إلى الماء ليبلغ فاه، ولا يبلغ فاه ولا يصل إليه ذلك حتى يموت عطشًا)([92]).
وهذا المثل فيه من أوجه الشبه الشيء الكثير بين الماء وبين المعبود من دون الله، وبين الوسيلة في كلٍ من المشبه به والمشبه، فالماء لا يملك نفعا ولا ضرا بذاته، ولا يستجيب لمن دعاه، وكذلك المدعو من دون الله، وكذلك الداعي يمد يديه للمدعو من دون الله، والمدعو لا يستجيب له، وكذلك الماء هنا يبسط الشارب إليه يديه ليبلغ فاه وما هو ببالغه، ففي كلٍ بسط لليد، وفي كلٍ عدم استجابة للداعي، وفي كلٍ إنزال للحاجة بغير أهلها، وفي كلٍ اتخاذ وسيلة لا تجدي نفعا لمن اتخذها. وفي كل هلاك لمن سلك هذا السبيل في الدنيا والآخرة، فالعطشان لا يرتوي إذا بسط يده إلى الماء، والملهوف والمحتاج لا تسد حاجته إذا قصد غير الله، بل يكون في هذه الوسيلة عطبه وهلاكه، فتبارك الله أحسن الخالقين، والحمد لمن هو أهل للعبادة والإجابة والإثابة.
وفي هذا المثل - الذي ضربه الله لمن يدعو غير الله - من الدلالة على سفه عقل هذا الداعي وضعفه فهو يدعو من لا يستجيب له، وباسط يديه إلى الماء يتخذ وسيلة لا تبلغه مرامه، وفي سعي كل منهما دلالة ظاهرة على نقص عقله وسفهه، فالحمد الله الذي هدانا إلى سبيله واتباع نبيه ﷺ .
وقال القرطبي رحمه الله:(وفي معنى هذا المثل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الذي يدعو إلها من دون الله كالظمآن الذي يدعو الماء إلى فيه من بعيد يريد تناوله ولا يقدر عليه بلسانه، ويشير إليه بيده فلا يأتيه أبدا، لأن الماء لا يستجيب، وما الماء ببالغ إليه، قاله مجاهد.
الثاني: أنه كالظمآن الذي يرى خياله في الماء وقد بسط كفه فيه ليبلغ فاه وما هو ببالغه، لكذب ظنه، وفساد توهمه، قاله ابن عباس.
الثالث: أنه كباسط كفه إلى الماء ليقبض عليه فلا يجمد في كفه شي منه)([93]). وهذه المعاني أشار إلى بعضها كما سبق ابن جرير الطبري رحمه الله، إذا فكلهم ذكر أن هذا مثل ضربه الله لبيان ضلال سعي الكافر، واتخاذه وسيلة لا تبلغه مقصده، بل توصله إلى جهنم وساءت مصيرا.
المثل الرابع: ضرب المثل بالماء للحق والباطل
مر معنا في أول هذه الأمثال المضروبة مثلان: مائي وناري، وضربهما الله لنوعين من المنافقين، وهاهنا مثلان مائي وناري مضروبان للحق والباطل، فتبارك الله أصدق القائلين، حيث نوع الأدلة، وصرّف الآيات، وضرب الأمثال، وفي هذه الآية التي نحن بصددها وهي قوله تعالى:]أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ[ الرعد،17- أورد الحق فيها مثالين: مثال لمن يعيشون في البوادي والقرى واعتادوا أن يروا السيول حال نزولها وما تحمله من ماء نافع وما يطفو على هذا الماء من زبد يذهب جفاء، ومثال آخر لأهل المدن الذين لم يعتادوا رؤية السيول الجارفة فضرب لهم مثلاً بما يعتادونه ويشاهدونه وهو صياغة المعادن وما يطفو على هذه المعادن إذا أدخلت النار من زبد يذهب جفاء، وفي كلا المثلين أبان الحقُ أن الزبد ذاهب لا محالة، وأن النافع باق راسخ لا محالة، سواء في مثال الماء النازل من السماء، أو في مثال الذهب والفضة الموقد عليه، وكذلك الحق باق لا محالة، والباطل زاهق لا شك في ذلك ولا ريب، والحق نافع للناس وكذلك الذهب والفضة، والزبد زائل لا نفع فيه البتة، وكذلك الباطل في سرعة زواله وعدم انتفاع الناس منه.
وتمثيل الوحي بالماء النازل من السماء وكيف تستقبله القلوب وتستفيد منه ورد في السنة النبوية من حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال:(إن مثل ما بعثني الله عز وجل من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقِه في دين الله ونفعه بما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به).([94]) وهذا التمثيل للحق بما يمكث في الأرض ويستقر فيها وينفع الناس تكرر ضرب المثل به في القرآن والسنة فمن ذلك قوله تعالى:] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء. تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ[ إبراهيم،24، 25. وفي الحديث شبه النبي ﷺ المسلم في بركته وثباته ودوام نفعه ورسوخ قدمه بشجرة النخل؛ فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال بينا نحن عند النبي ﷺ جلوس إذ أتي بجمّار نخلة فقال النبي ﷺ:إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم. فظننت أنه يعني النخلة، فأردت أن أقول: هي النخلة يا رسول الله، ثم التفت فإذا أنا عاشر عشرة أنا أحدثهم فسكت. فقال النبي ﷺ: هي النخلة).([95])
وبين ابن القيم رحمه الله تعالى فضل أهل العلم وعدد وجوها كثيرة فقال: الوجه الثاني والأربعون ثم ذكر حديث أبي موسى رضي الله عنه الذي تقدم، ثم قال: شبّه صلى الله عليه وسلم العلم والهدى الذي جاء به بالغيث لما يحصل بكل واحد منهما من الحياة والمنافع والأغذية والأدوية وسائر مصالح العباد فإنها بالعلم والمطر، وشبه القلوب بالأراضي التي قع عليها المطر؛ لأنها المحل الذي يمسك الماء فينبت سائر أنواع النبات النافع، كما أن القلوب تعي العلم فيثمر فيها ويزكو وتظهر بركته وثمرته، ثم قسم الناس إلى ثلاثة أقسام بحسب قبولهم واستعدادهم لحفظه وفهم معانيه واستنباط أحكامه واستخراج حكمه وفوائده.
أحدها: أهل الحفظ والفهم الذين حفظوه وعقلوه وفهموا معانيه واستنبطوا وجوه الأحكام والحكم والفوائد منه، فهؤلاء بمنزلة الأرض التي قبلت الماء، وهذا بمنزلة الحفظ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وهذا هو الفهم فيه والمعرفة والاستنباط؛ فإنه بمنزلة إنبات الكلأ والعشب بالماء، فهذا مثل الحفاظ الفقهاء أهل الرواية والدراية.
القسم الثاني: أهل الحفظ الذين رزقوا حفظه ونقله وضبطه ولم يرزقوا تفقها في معانيه ولا استنباطا ولا استخراجا لوجوه الحكم والفوائد منه، فهم بمنزلة من يقرا القرآن ويحفظه ويراعي حروفه وإعرابه ولم يرزق فيه فهما خاصا عن الله ... فهؤلاء بمنزلة الأرض التي أمسكت الماء للناس فانتفعوا به، هذا يشرب منه، وهذا يسقى، وهذا يزرع، فهؤلاء القسمان هم السعداء، والأولون أرفع درجة وأعلى قدرا.
القسم الثالث: الذين لا نصيب لهم منه لا حفظا ولا فهما ولا رواية ولا دراية بل هم بمنزلة الأرض التي هي قيعان لا تنبت ولا تمسك الماء، وهؤلاء هم الأشقياء.
والقسمان الأولان اشتركا في العلم والتعليم كل بحسب ما قَبِلَه ووصل إليه، فهذا يعلم ألفاظ القرآن ويحفظها، وهذا يعلم معانيه وأحكامه وعلومه، والقسم الثالث لا علم ولا تعليم، فهم الذين لم يرفعوا بهدى الله رأسا، ولم يقبلوه، وهؤلاء شر من الأنعام وهم وقود النار)([96]).
إذاً شبه النبي ﷺ الوحي بالماء، وشبه الناس في قبوله والإفادة منه بقبول الأرض للماء أو عدم إفادتها منه، وهذا المعنى أشار إليه ابن جرير الطبري رحمه وشبه الأودية في كبرها واستيعابها بالقلوب في قبولها وإعراضها فقال رحمه الله:(وهذا مثل ضربه الله للحق والباطل، والإيمان به والكفر. يقول تعالى ذكره: مثل الحق في ثباته والباطل في اضمحلاله، مثل ماء أنزله الله من السماء إلى الأرض:]أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا[ يقول: فاحتملته الأودية بملئها، الكبير بكبره، والصغير بصغره :]فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا[ ، يقول: فاحتمل السيل الذي حدث عن ذلك الماء الذي أنزله الله من السماء، زبدًا عاليًا فوق السيل، فهذا أحدُ مثلي الحقّ والباطل، فالحق هو الماءُ الباقي الذي أنزله الله من السماء، والزبد الذي لا ينتفع به هو الباطل)([97]).
وقال ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية: (اشتملت هذه الآية الكريمة على مثلين مضروبين للحق في ثباته وبقائه، والباطل في اضمحلاله وفنائه).([98]) وقد بين الحق في هذا المثال وفي غيره أن سعي الكافر وكيده وحرصه في النيل من هذا الدين العظيم سيذهب جفاء، وأنه كمن يريد إطفاء نور الشمس بفمه، وأن الحق باق، وأن مكرهم وكيدهم مآله كمآل الزبد في سرعة زواله واضمحلاله.([99])
وشبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الشبه التي يلقيها الشيطان والإرادات الفاسدة التي تخطر على قلب المؤمن بالزبد العارض، وأن الإيمان يرسخ في القلب كما يبقى الماء في الأرض، وأن قلب المؤمن ينفي هذه الخطرات والوسواس كما تنفي الرياح الزبد، وكما تنفي النار خبث الذهب والفضة.([100]) فلا إله إلا الله الذي أنزل الكتاب وأنزل الهدى وضرب من الأمثال والبراهين ما تتوافق به مآلاتها بمآلات ما ضرب به المثل لها، فتأمل كيف التوافق التام بين الماء والحق، وبين الزبد والباطل والشهوات والشبهات، وكيف جاءت هذه الأمثال في نسق لغوي بديع لا حشو فيه ولا إملال، وكيف وافقت الواقع ولم تخالفه سواء في عرض الحق أو عرض ما يماثله، وفي تشبيه الباطل وما يماثله، فتبارك الله أحسن الخالقين، وأصدق القائلين.
المثل الخامس: ضرب المثل بالماء لضلال سعي الكافر
من عظيم مكر الله وكيده لأعدائه أن يجعل أعمالهم في أعينهم حسنة جميلة، ويعلقهم بها، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، فيظل الكافر يعمل ويرجو عمله، ويضاعف جهده لعله يدرك الفلاح، ولا فلاح ولا نجاح لمن لم يتبع المرسلين، ويقْبلْ هدى الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، ووصف الله في كتابه سعي الكافر وخيبة أمله إذا رأى نتيجة عمله وخسارة بضاعته كما قال تعالى: :]وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ. وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون[ الزمر،47، 48. ووصف الله أعمال الكافرين بأنها حابطة وأنهم سيخسرون أعمالهم ولن تنفعهم عند ربهم، لعدم إيمانهم، وأنها تنقلب حسرات عليهم في الدنيا والآخرة، وأن الله لا يظلمهم مثقال ذرة بل يعجل لهم طيباتهم في الدنيا، وشبه الله عمل الكافر وسعيه بالرماد الذي اشتدت به الريح في يوم عاصف، وشبهه في آية أخرى بالسراب الذي يظل صاحبه يطلبه ولا يدركه فقال جل ثناؤه وتقدست أسماؤه:]وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ[ سورة النور،39. وأخرج ابن جرير بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (هو مثل ضربه الله لرجل عطش فاشتد عطشه، فرأى سرابا, فحسبه ماء، فطلبه, وظن أنه قد قدر عليه، حتى أتاه، فلما أتاه لم يجده شيئا، وقبض عند ذلك. يقول: الكافر كذلك، يحسب أن عمله مغنٍ عنه, أو نافعه شيئاً، ولا يكون آمنا على شيء حتى يأتيه الموت، فإذا أتاه الموت لم يجد عمله أغنى عنه شيئا, ولم ينفعه إلا كما نفع العطشان المشتد إلى السراب). ([101]) وقال الرازي رحمه الله مبينا وجه الشبه بين ضلال سعي الكافر وبين السراب: (وجه التشبيه أن الذي يأتي به الكافر إن كان من أفعال البر فهو لا يستحق عليه ثوابا، مع أنه يعتقد أن له ثوابا عليه، وإن كان من أفعال الإثم فهو يستحق عليه عقابا مع أنه يعتقد أنه يستحق عليه ثوابا، فكيف كان فهو يعتقد أن له ثوابا عند اللَّه تعال، فإذا وافى عرصات القيامة، ولم يجد الثواب بل وجد العقاب العظيم؛ عظمت حسرته وتناهى غمه، فيشبه حاله حال الظمآن الذي تشتد حاجته إلى الماء فإذا شاهد السراب تعلق قلبه به ويرجو به النجاة، ويقوى طمعه فإذا جاءه وأيسَ مما كان يرجوه؛ فيعظم ذلك عليه، وهذا المثال في غاية الحسن).([102])
قال ابن كثير رحمه الله معلقا على هذه الآية ومبينا وجه الشبه بينها وبين آية البقرة وآية الرعد، ففي هذه الآية قسم الله الكفار إلى قسمين: داعية ومقلد، ثم قال: (هذان مثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار، كما ضرب للمنافقين في أول "البقرة" مثلين ناريًا ومائيًا، وكما ضرب لما يقر في القلوب من الهدى والعلم في سورة "الرعد" مثلين مائيًا وناريًا، فأما الأول من هذين المثلين: فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم، الذين يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات، وليسوا في نفس الأمر على شيء، فمثلهم في ذلك كالسراب الذي يرى في القيعان من الأرض عن بعد كأنه بحر طام ... فكذلك الكافر يحسب أنه قد عمل عملا وأنه قد حَصَّل شيئًا، فإذا وافى الله يوم القيامة وحاسبه عليها، ونوقش على أفعاله، لم يجد له شيئًا بالكلية قد قُبل، إما لعدم الإخلاص، وإما لعدم سلوك الشرع).([103])
ويشهد لهذا التفسير ما ورد في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال في حديث الرؤية:( فيدعى اليهود فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزير بن الله. فيقال: كذبتم! ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فماذا تبغون؟ قالوا: عطشنا يا ربنا فاسقنا. فيشار إليهم ألا تردون! فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا، فيتساقطون في النار، ثم يدعى النصارى فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا كنا نعبد المسيح بن الله. فيقال لهم: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد. فيقال لهم: ماذا تبغون؟ فيقولون: عطشنا يا ربنا فاسقنا. قال: فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار).([104]) ففي هذا الحديث خير بيان لمآل عمل الكافر، كما أن فيه تشابها كاملا بين خيبة العطشان وحسرته حينما يصل إلى مكان السراب ولا يجد الماء، وبين حسرة الكافر وخيبته حينما يوافي يوم القيامة ويتطلع إلى ثواب عمله فيجد عقاب الله وسخطه ومقته؛ فحينئذ تعظم حسرته ويتمزق أسا وغما بسبب المصير البئيس الذي ينتظره.
وإن كان هذا التشبيه مطابقا تمام المطابقة بين سعي الكافر والسراب، فقد شبه جمع من أهل العلم سعي أرباب الكلام ومعظمي الفلسفة بالسراب من أجل تعلقهم بالمقدمات والأوهام المنطقية والأدلة الظنية التي جعلوها حججا عقلية وحرفوا من أجلها صريح القرآن والسنة، بل جعلوا هذه التخرصات والضلالات حاكمة على القرآن، بل جعلوها مقدمة على القرآن العظيم فما صح في هذه الأدلة وتوافق معها فهو الحق الذي يجب اعتقاده، وما عداه فهو المظنون الذي يجب تأويله أو تفويضه أو اعتقاد أن الحق في خلافه. خاصة في أبواب الأسماء والصفات والمعاد وفي مسألة خبر الآحاد، وهذه المقدمات الظنية وهذا السعي المشؤوم على أهله هو في حقهم كالسراب لا يغني صاحبه شيئا، فإذا كان يوم القيامة وورد أهل الحق وأهل القرآن والسنة ومعهم الأدلة القرآنية والبراهين الإلهية؛ علم أولئك أن أدلتهم كانت سرابا، وأن سعيهم كان ضلالا، وأن الحق لا يغنى عنه شيئا من الباطل، وأن الباطل لا ينفع عند الله، بل يكون وبالا على صاحبه.([105])
وبهذا المثل الذي ضربه المولى جل شأنه وتعالى سلطانه نكون بحمد الله قد انتهينا من الآيات التي ضرب الله المثل فيه بالماء- بحسب ما وقفت عليه- وإلا فما يفوت المقصر من أمثالي أعظم مما يدرك؛ إذ إن الأمثلة التي ذكرها الله في هذا الباب كثيرة وأحسبني قد استقصيتها، وبهذا المثل يأتي البحث إلى نهايته التي قدرتها له، في هذا الموضوع العظيم الذي عرفنا فيه شيئا من بلاغة القرآن وجزالة عباراته، وقوة براهينه، وموافقتها لما قصد منها في أعظم دلالة وأوجز عبارة، وبهذا نكون قد أكملنا البحث وهذا أوان الوقوف على خاتمته.
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدا عبدالله ورسوله ﷺ أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وهاديا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فأقام الحجة وأوضح المحجة وقطع السبيل على من جادل بغير حق.
وأشكر لربي تفضله وإنعامه علي بإتمام هذا البحث الشريف الذي وقفت فيه على شيء من أسرار القرآن وبراهينه وحججه وأدلته وأمثاله، في أمر واحد وهو (الماء) على أمور متنوعة في مسائل الاعتقاد، وإن كان ورود الماء في القرآن والسنة لا يقتصر على هذا الموضوع فقط؛ بل ورد ذكر الماء في القرآن أكثر من 59 مرة.
وقد خلصت في هذا البحث إلى أهمية التدبر للقرآن العظيم؛ فلا تزال فيه كثير من الفرص البحثية، بل كثير من الأدلة العلمية العقلية الحسية التي لم يتناولها الباحثون الأكاديميون في أبحاثهم ودراساتهم... كل ذلك يؤكد أهمية الموضوع في نظري ويحتم أن يُتناول في رسالة دكتواره، بل في أكثر من فن، فممكن أن يدرس هذا الأمر من باب العقيدة، ومن باب التفسير، ومن باب اللغة فيصدر عن ذلك ثلاث دراسات في ثلاثة فنون مختلفة.
كما ظهر في هذا البحث أن الله استدل بالماء في القرآن العظيم على مسائل اعتقادية كثيرة، ونوع جل جلاله في الاستدلال، وضرب به المثل، وخلص الباحث إلى أن الله استدل بالماء على المسائل التالية:
- استدل الله بإنزال بالماء على الوحدانية وأن من أنزل الماء هو الذي يستحق العبادة؛ إذ إن الأولياء والمتبوعين من دون الله لا يخلقون شيئا ولا يستطيعون إنزال الماء من السماء فالذي ينزل الماء هو الخالق الرازق المألوه المعبود .
- استدل الله بتنوع الثمرات التي تسقى بالماء على الوحدانية.
- استدل الله بقدرته على إنزال الماء وعجز البشر عن خزنه على وحدانيته واستحقاقه للعبادة سبحانه وتعالى.
- استدل الله بالماء على أنه أساس الخلق وأن البشر لا يستطيعون أن يخلقوا شيئا وأن الله هو الخالق، وأن خالق الماء هو المستحق للعبادة، فمن يخلق أهل لأن يعبد، أفمن يخلق كمن لا يخلق.
- ذكر الله الماء دليلا على البعث فيما يخرج بسببه من الأرض من ثمرات ونبات، وأن الذي أحيا الأرض بعد موتها بالماء قادر على إحياء الناس بعد موتهم.
- ذكر الله أنه جعل الماء من جنده فهو ملاذ لأوليائه بإذنه سبحانه، وهو مقته وغضبه على أعدائه، وهو جند من جند الله لا يتخلف عن أمر ربه وخالقه، تنزل على نبينا في بدر، فكان بردا وسلاما ومطهرا لأوليائه ومثبتا لهم، فالحمد لله على آلائه.
- أن الله ضرب المثل بالماء لبيان تخبط المنافق في سعيه، كما ضربه مثلا لسرعة تقضي الحياة وسرعة زوالها وزوال ما ينتج عنه في هذه الحياة من زروع ومتاع تتحول إلى هشيم تذروه الرياح، كما ضربه مثلا لعجز الأولياء عن إغاثة من يستعين بهم من أتباعهم، كما ضربه مثلا لضلال سعي الكافر، وضربه أيضا مثلا للحق الذي يمكث في الأرض، مقارنا بالزبد الذي يذهب جفاء.
خلاصة البحث
اسم البحث: الدلالات العقدية للماء في القرآن الكريم
اسم الباحث: د. محمد بن عبد الله بن صالح السحيم
الجامعة: جامعة الملك سعود. كلية التربية، قسم الثقافة الإسلامية
عدد صفحات البحث: 51 صفحة .
التاريخ: 5/8/1431هـ .
المحتوى: تناول الباحث في هذا البحث الدلالات العقدية للماء في القرآن الكريم، وتبين للباحث أن الله سبحانه وتعالى ذكر الماء في القرآن الكريم أكثر من 59 مرة، وأن الله أورده على سبيل الامتنان على البشر بإيجاده، وأن البشر لا يقدرون على إيجاده بأنفسهم، وكذلك آلهتهم التي يعبدونها من دون الله لا تستطيع ذلك، كما أن الله ذكر البشر أن البشر لا يستطيعون خزنه، وأنه إذ ذهب بمائهم فلا يستطيعون له طلبا، كما نبههم المولى جل شأنه إلى أن الله استدل عليهم بأن الذي ينزل الماء من السماء ويخرج به ألوانا شتى من النبات والثمار حقيق بأن يعبد وحده سبحانه، وأن الذي أحيا به الأرض قادر على أن يحيي الموتى، كما ضرب المثل به في القرآن الكريم على مسائل متعددة من مسائل العقيدة فقد ضرب به المثل للمنافقين، وضرب به مثلا للحق والباطل، وضرب به المثل لبيان عجز الأولياء الذي يعبدون من دون الله، وضرب به المثل لخيبة سعي الكافر وأن سعيه يذهب جفاء.
وقد حرص الباحث أن يبين هذه الدلالات ويوضح رأي العلماء المعتبرين في هذا الفن سواء من علماء التفسير أو من علماء العقيدة.
والله أسأل أن يجعله خالصا صوبا
Research Title: The Doctrinal Indications of Water In The Holly Quran.
Researcher’s Name: Dr. Mohammed Abdullah Saleeh Al-Saheem
University: King Saud University, College of Education, Islamic Culture Department.
No. of Research Pages : 51
Dated 05/08/1431H.
Content: In this research, the researcher handled the doctrinal indications of water in the holly Quran, pointing out that God, the exalted, mentioned water in the holly Quran more than 59 times, as the grace of God to mankind who are unable to find it by themselves, besides their false gods whom they worship, and that they are unable to get it if God holds it. God, the exalted, called their attention that whoever is able to bring down water from the heaven and get out multi color of plats and fruits is worthy to be worshipped alone, who is able to bring dead men to life after death.
God, the exalted, Gave an example of water to hypocrites, right and void, weakness of unbelievers and their false gods whom they worship instead of the true God, the omnipotent, the omnipresent.
The researcher was eager to explain these indications, stating the point views of the trustworthy scholars in this aspect, whether the scholars of interpretation or faith.
Asking God to guide us to the right path..
([1])أضواء البيان 8/444 .
([2])تفسير التحرير والتنوير 30/348 وانظر أيضا 30/351 منه.
([3])تفسير التحرير والتنوير19/75. قد أكثرت من النقل عن الطاهر بن عاشور لأنه من أكثر من أشار إلى هذا الإيماء والترادف والتلميح إلى الوحي أو الرسالة أو الرسول ﷺ، وتشبيه النور والماء والشمس بالرسالة ...إلخ.
([4]) الجامع لأحكام القرآن 15/246.
([5]) فتح القدير 4/442.
([6])روح العاني 15/373
([7]) مدارج السالكين3/450. وانظر شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي 89.
([8]) تفسير القرآن العظيم1/194.
([9]) تيسير الكريم الرحمن 44.
([10]) التفسير الكبير 2/93
([11]) مفتاح دار السعادة 2/8.
([12]) الأصفهانية ص6، وص 200 .
([13]) شرح العقيدة الطحاوية للشيخ عبد الله الجبرين 46 بتصرف يسير. وانظر هذا المعنى فقد أشار إليه شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله في اجتماع الجيوش الإسلامية 1/60.
([14])تيسير الكريم الرحمن76- 78.
([15]) تفسير التحرير والتنوير2/74، 75.
([16]) الصواعق المرسلة3/1206.
([17]) أضواء البيان 1/16، 17.
([18])جامع البيان16/330.
([19]) أي أن الخالق لهذه المخلوقات الطبيعة .
([20]) الجامع لأحكام القرآن 9/281.
([21])تفسير القرآن العظيم 4/432 .
([22])معارج القبول.2/293-295.
([23]) المصدر السابق 1/101- 102.
([24])فتح القدير3/86، تيسير الكريم الرحمن 412.
([25])أضواء البيان 4/22.
([26]) انظر شرح الألوسي لمسائل الجاهلية التي خالف فيها الرسول ﷺ أهل الجاهلية ص25 ، وانظر أيضا العقيدة الأصفهانية 1/200. وانظر أيضا تفسير القرآن العظيم 5/289. وانظر أيضا تيسير الكريم الرحمن507.
([27]) التفسير الكبير19/130 وما بعدها . أكثرت من النقل في هذه الفقرة عن الرازي رحمه الله؛ لأنه من القلائل الذين يشيرون إلى هذا النوع من الاستنباط، والسبب والله أعلم أنه من أرباب المدرسة العقلية لذا يعنى بمثل هذه الأمور، بينما السلف رحمهم الله جميعا يعنون بالتفسير المأثور؛ حماية لكتاب الله من أن يقال فيه بغير علم.
([28]) تفسير التحرير والتنوير13/30.
([29]) التفسير الكبير23/268.
([30]) أضواء البيان 5/328.
([31])معارج القبول 1/138-139.
([32]) حاشية كتاب التوحيد، عبد الرحمن بن قاسم، ص 75.
([33]) جامع البيان 18/434، انظر معارج القبول 1/293.
([34]) تيسير الكريم الرحمن 571.
([35])تفسير المنار 12/16.
([36]) تفسير القرآن العظيم 5/338، وانظر تيسير الكريم الرحمن522.
([37])شفاء العليل 1/231-232.
([38]) تفسير التحرير والتنوير21/151.
([39])أضواء البيان5/323 . وانظر الرد على البكري189. وانظر أيضا تفسير القرآن العظيم4/577.
([40]) معارج القبول 1/647. وذكر هذا المعنى ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين 3/450، وسبق الاستشهاد به في أول هذا البحث.
([41]) جامع البيان12/492. وانظر الجامع لأحكام القرآن 7/231.
([42])المعجم الكبير للطبراني 19/208.
([43]) صحيح مسلم 4/ 2259، والجامع لأحكام القرآن 7/231.
([44])إعلام الموقعين 1/144. انظر الكشاف للزمخشري2/144. تيسير الكريم الرحمن292.
([45])تيسير الكريم الرحمن 533. والمطالب الخمسة هي التي سبق وأن أشار إليها ابن القيم رحم الله الجميع . فتح القدير 3/343.
([46])تفسير التحرير والتنوير17/148. وانظر مجموع الفتاوى 17/248_ 250 .
([47])إعلام الموقعين1/139. ونقل هذا الكلام الشنقيطي في أضواء البيان4/189.
([48])تفسير التحرير والتنوير25/65.
([49])جامع البيان21/572.
([50])تفسير القرآن العظيم 7/219. وانظر تيسير الكريم الرحمن763.
([51]) انظر أضواء البيان أضواء البيان7/532، 533. 534،و8/407 منه، وجامع المسائل والرسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية 3/233. وانظر مفتاح دار السعادة 1/200.
([52]) التفسير الكبير 2/114.
([53]) قال الشيخ الشنقيطي في موضع آخر من كتابه:( أما براهين البعث فهي معلومة أربعة : خلق الأرض والسماوات ، وإحياء الأرض بالنبات ، ونشأة الإنسان من العدم ، وإحياء الموتى بالفعل في الدنيا لمعاينتها) أضواء البيان8/407. وبراهين البعث التي أشار إليها القرآن الكريم أكثر من ذلك، لكن لعل الشيخ رحمه الله لا يقصد الحصر.
([54])أضواء البيان 1/16-17. وانظر أيضا 4/279. و/294. و7/ 31 و 183 _185. منه.
([55]) كما سيق إيضاح ذلك في المطلب الأول من هذا البحث.
([56]) قصدت إيراد آيات سورة المؤمنون؛ لأنها أوجز، والكل كلام الله وهديه وحديثه.
([57])تفسير المنار 12/66، 69 .
([58]) جامع البيان12/581 ،582.
([59])أضواء البيان 8/315 .
([60]) الإبانة الكبرى 4/245 - 247.
([61])تفسير القرآن العظيم 3/446. وانظر أيضا أضواء البيان 4/72. و جامع البيان 2/57-58.
([62])التوحيد الذي بعث الله به رسله 59.
([63]) قال هذا نظرا لأنه من علماء الكلام الذين يرون أن أول واجب على المكلف هو النظر أو القصد إلى النظر، ولذا قال: رفع عنهم تحمل النظر الدقيق والاستدلال الشاق، أي على وجود الله والعلم به، وقال أيضا أن هذه الحادثة تقرب من العلم الضروري، وهذا أيضا بناء على منهجه هل الوحي يوصل إلى العلم الضروري أم لا؟،
([64]) التفسير الكبير 3 /508 ،509
([65]) انظر السيرة النبوية لابن هشام 3/163. والرحيق المختوم 169- 171.
([66])تفسير التحرير والتنوير 9/37. وانظر جامع البيان13/421.و تيسير الكريم الرحمن 316.
([67]) زاد المعاد3/153، وانظر منه أيضا 3/175.
([68])تفسير المنار 9/805. والمنن الثلاث سبق الحديث عنها قبل قليل.
([69])الكشاف 3/369.
([70]) جامع البيان 18/345. وانظر أيضا تفسير التحرير والتنوير11/169.
([71])تفسير التحرير والتنوير22/36، وانظر أيضا تيسير الكريم الرحمن 677.
([72]) البحر المحيط 8/533. وانظر التفسير الكبير25/195، والكشاف 3/575.
([73]) تيسير الكريم الرحمن 711.
([74]) المفردات للراغب الإصفهاني،462.
([75]) الكشاف 1/72. وانظر البحر المحيط 1/123
([76])مجموع الفتاوى 17/429. وانظر مدارج السالكين1/140. وانظر جامع البيان 20/40.
([77]) انظر تفسير القرآن العظيم 4/447، وانظر أضواء البيان 2/246.و3/300، 301 منه. ومدارج الساكين1/50.
([78]) انظر قرة عيون الموحدين 101.
([79])تفسير القرآن العظيم 1/189، 192.
([80])وانظر جامع البيان 1/336، وما بعدها .
([81]) تفسير المنار 1/139 -142
([82]) انظر إعلام الموقعين 1/151. وإغاثة اللهفان 1/22. واجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة 1/24.
([83])مجموع الفتاوى 7/276.
([84])انظر المصدر السابق فقد تكلم عن حال الدنيا وما ضرب الله لها من أمثال، 16/151.
([85]) الجامع لأحكام القرآن 10/412.
([86]) صحيح مسلم 2/730.
([87])تيسير الكريم الرحمن،361.
([88]) انظر مفاتيح الغيب 17 / 237.
([89])فتح القدير 3/364.
([90]) تفسير التحرير والتنوير11/60. وانظر أيضا إعلام الموقعين 1/153، وطريق الهجرتين، 382، وعدة الصابرين 173، ومدارج السالكين3/ 279.
([91]) انظر فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 14/66. حيث تناول الأمثال في القرآن وبين طريقة القرآن في إيرادها .
([92]) جامع البيان 16/400، وانظر الفتاوى 10/238، و12/160 منه، والتفسير الكبير 19/25.
([93]) الجامع لأحكام القرآن9/301 .و انظر تفسير التحرير والتنوير 12/160، و12/195 منه. و تيسير الكريم الرحمن 514.
([94]) متفق عليه من حديث أبي موسى واللفظ لسلم، صحيح البخاري، 1/42، وصحيح مسلم4/1787.
([95]) رواه البخاري في صحيحه 5/2075، ومسلم 4/2164.
([96]) مفتاح دار السعادة 1/60- 61.
([97]) جامع البيان 16/408. وانظر هذا التشبيه نفسه عند ابن القيم في مفتاح دار السعادة 1/60- 61. وانظر أيضا الجامع لأحكام القرآن 9/305.
([98]) تفسير القرآن العظيم 4/447. وانظر أيضا تيسير الكريم الرحمن 415.
([99]) انظر أضواء البيان 3/308.
([100])الزهد 1/193. وانظر جامع المسائل والرسائل لابن تيمية 1/75- 81. فقد ذكر فيها المشابهة بين هذين المثلين المضروبين في هذه الآية بالمثلين المضروبين في آية البقرة وهي قوله تعالى:] أو كصيب ...[ ، وانظر أيضا مجموع الفتاوى 10/102. لذات الموضوع. وانظر أيضا إعلام الموقعين 4/152. وانظر أيضا طريق الهجرتين 180.
([101]) جامع البيان 17/328.
([102]) التفسير الكبير 24/399. وانظر المصدر السابق 17/325.
([103]) تفسير القرآن العظيم 6/71.
([104]) رواه البخاري 4/1672، ومسلم واللفظ له 1/168.
([105]) انظر جامع الرسائل والمسائل 2/37. وطريق الهجرتين362. وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز 351، ومعارج القبول 2/525.