الوصف المفصل
العودة إلى الوحي مدخل لإعادة صياغة البحث العلمي
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه، النبي الأمي العربي أعجز الله به أهل الفصاحة كما أعجز به أهل الكتاب، فشهد له الجميع بالرسالة، فصلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد دعت أكاديمية الدراسات الإسلامية - جامعة ملايا - كوالالمبور- ماليزيا إلى إقامة مؤتمر بعنوان: ((إعادة صياغة البحث العلمي في تخصص الدراسات الإسلامية))، ويندرج تحت هذا المؤتمر محاور منها: المحور الثاني: العقيدة والفكر الإسلامي. ورغبت في المشاركة في هذا المؤتمر ببحث بعنوان: "العودة إلى الوحي مدخل لإعادة صياغة البحث العلمي"، وقد قسمته إلى المباحث الآتية:
المبحث الأول: خصائص مكان الرسالة الخاتمة.
المبحث الثاني: عصر الرسالة والخلافة الراشدة.
المبحث الثالث: الصراع خارج البيئة الأولى بين الوحي ومخلفات القرون السالفة.
المبحث الرابع: العودة إلى الوحي.
وتناولت في هذه المباحث خصائص مكان الرسالة الخاتمة، وخصائص عصر الرسالة، وأن الله اختار هذا المكان لحكم عظيمة لعل منها ما أشرت إليه، وبينت أن الوحي لما نقل إلى البيئات الأخرى التي كانت قد توحلت في الفلسفة والمنطق وعلم الكلام حصل الاختلاف والشقاق والتفرق، وبينت أن السبيل إلى المعالجة الراشدة، والمهمة العظمى التي يجب أن نحملها عندما نعيد النظر في مناهجنا أو دراساتنا، وكذلك عندما نضع المقررات الشرعية التي سيتربى عليها أبناؤنا، وتؤثر عليهم في تصوراتهم وأهدافهم وغاياتهم بل وإيمانهم وبذلهم لهذا الدين العظيم، هي العودة إلى الوحي استرشادا واعتمادا واستدلالا ومتابعة.
وهذا البحث الذي يشرفني تقديمه في هذا المؤتمر لا يغيب عن الذهن أنه لم يستكمل معالجة هذه المسألة معالجة متكاملة؛ نظرا لطبيعة البحوث التي تقدم إلى المؤتمرات ويشترط فيها ألا تزيد على عشرين صفحة، ولكن حسبي أنني أشرت إليها، ودللت عليها، ولعل الله ييسر من يتناولها تناولا يوفيها حقها.
والله أسأل أن يجعل ذلك من العلم النافع والعمل الخالص، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وسلم.
أ . د . محمد بن عبد الله السحيم
جامعة الملك سعود الرياض، كلية التربية، قسم الدراسات الإسلامية
البريد: ams_1423@hotmail.com حرر في مكة المكرمة في 1/3/ 1433هـ
المبحث الأول: خصائص مكان الرسالة الخاتمة
لحكمة بالغة جعل الله - جل ثناؤه - لمكة المكرمة وللمدينة النبوية مميزات لا تتوافر لغيرهما سواء في ذلك قبل الرسالة أم بعدها، وهذه المميزات كانت - والله أعلم - من أجل أن يكون المكان الذي تتنزل فيه الرسالة الخاتمة والمنطلق الذي تنطلق منه مهيئا لاستقبالها وتحمّلها والإيمان بها، والعمل على نشرها، والتضحية في سبيلها، وهذه الصفات أو المميزات كانت أبرز ما تكون في عقولهم وأخلاقهم وأفكارهم.
وهذا التميز اشترك فيه أغلب سكان هاتين المدينتين سواء في ذلك المشركون من قبائل العرب، أم من اليهود الذين استوطنوا في المدينة النبوية، وشاكلوا العرب ببعض أخلاقهم؛ ولذا قاتلوا قتالا عنيفا في حروبهم ضد الرسول ﷺ، ولم يكونوا كسابقيهم حينما قالوا لموسى عليه السلام - كما أخبر الله عنهم أنهم قالوا – ]إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون[ (المائدة 24). في حين أن البلاد المجاورة لجزيرة العرب غرقت في لجنة من الفلسفات الوضعية المغرقة في أدق التفاصيل التي لا تستند إلى دليل ولا تعتمد على برهان، ولا توصل إلى نتيجة مقبولة عقلا أو شرعا؛ ففي الإسكندرية كانت السيطرة للفلسفة الأفلوطينية، كما كانت الشام وما جاورها ترزح تحت وطأة الميراث الفلسفي الرومي الثقيل، في حين كانت بلاد فارس تتخبط في رهبانية حلولية إلحادية ممزوجة بالفلسفة الزرادشتية، وإذا أخذ هذا في الحسبان فإن من أبرز الصفات التي تميز بها سكان هاتين المدينتين ما يلي:
1- أن سكان هاتين المدينتين – عدا اليهود – أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب؛ قال جل شأنه وتقدست أسماؤه مخبرا عن حالهم: }هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ { (الجمعة: 2)، وصح عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لاَ نَكْتُبُ، وَلاَ نَحْسُبُ)([1])، فالأمة أمية، والرسول ﷺ أمي قال عز شأنه: } الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ { الأعراف 157. والرسالة أمية كما قرر ذلك الشاطبي - رحمه الله - في الموافقات واستدل عليه بالنصوص الدالة على أمية العرب، وأمية الرسول ﷺ، وبأن الشريعة لو لم تكن على مثل ما هم عليه من الأمية لم تكن مناسبة لهم، ثم استدل ثالثا بأن الرسالة لو لم تكن بهذه الصفة لم تكن معجزة لهم وفي ذلك يقول الشاطبي رحمه الله:(هذه الشريعة المباركة أمية؛ لأن أهلها كذلك، فهو أجري على اعتبار المصالح، ويدل على ذلك أمور:
أحدها: النصوص المتواترة اللفظ والمعنى، كقوله تعالى: } هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ { (الجمعة: 2). وقوله: }فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ { (الأعراف: 158). وفي الحديث: "بعثت إلى أمة أمية"؛ لأنهم لم يكن لهم علم بعلوم الأقدمين، والأمي منسوب إلى الأم، وهو الباقي على أصل ولادة الأم لم يتعلم كتابا ولا غيره، فهو على أصل خلقته التي ولد عليها... وما أشبه هذا من الأدلة المبثوثة في الكتاب والسنة، الدالة على أن الشريعة موضوعة على وصف الأمية لأن أهلها كذلك.
والثاني: أن الشريعة التي بعث بها النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم - إلى العرب خصوصا وإلى من سواهم عموما، إما أن تكون على نسبة ما هم عليه من وصف الأمية أو لا، فإن كان كذلك، فهو معنى كونها أمية، أي: منسوبة إلى الأميين، وإن لم تكن كذلك، لزم أن تكون على غير ما عهدوا، فلم تكن لتنزل من أنفسهم منزلة ما تعهد، وذلك خلاف ما وضع عليه الأمر فيها، فلا بد أن تكون على ما يعهدون، والعرب لم تعهد إلا ما وصفها الله به من الأمية، فالشريعة إذا أمية.
والثالث: أنه لو لم يكن على ما يعهدون لم يكن عندهم معجزا، ولكانوا يخرجون عن مقتضى التعجيز بقولهم: هذا على غير ما عهدنا، إذ ليس لنا عهد بمثل هذا الكلام، من حيث إن كلامنا معروف مفهوم عندنا، وهذا ليس بمفهوم ولا معروف، فلم تقم الحجة عليهم به؛ ولذلك قال سبحانه: }وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ { (فصلت: 44)، فجعل الحجة على فرض كون القرآن أعجميا، ولما قالوا: } إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ { (النحل: 103)، رد الله عليهم بقوله: } لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ { (النحل: 103)، لكنهم أذعنوا لظهور الحجة، فدل على أن ذلك لعلمهم به وعهدهم بمثله، مع العجز عن مماثلته)([2]).
وإذا كانت الأمة أمية، والرسول ﷺ أمياً؛ ناسب أن تكون الرسالة أمية حتى تكون مناسبة لكل أمة، ولكل بيئة، ولكل مجتمع بحيث لا يحتاج تعلّمها والتفقه فيها إلى مزيد تكلف أو تمحل، أو تعلم علوم لا تقتضيها طبيعة الرسالة، بل الكل يهتدي بها ويؤمن بها وتصلحه، ويجد فيها هدايته مهما كان علمه ومهما كان عمله الدنيوي، بل نهى الله عن التكلف والتنطع والتعمق المذموم فقال - عز اسمه - موضحا منهج نبيه ﷺ: }قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ. إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ { (سورة ص 86، 87)، وحذر النبي ﷺ من التنطع فقال ﷺ: (هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ)([3])، وقال أيضا ﷺ: (وإياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين).([4])
والوصف بالأمية وإن كان في ظاهره أمرا سلبيا في بداية الأمر إلا أنه كان أمرا عجيبا في اختيار الله لأن تكون الرسالة الخاتمة في الأمة الأمية ولم يكن في الأمة الكتابية؛ ذلك - والله أعلم - لأن الله خلق آدم عليه السلام وتناسلت منه ذريته واستقاموا على التوحيد الذي أراده الله منهم لمدة عشرة قرون([5]) ثم حدث الشرك والانحراف والاختلاف والتفرق، وتوالت الرسالات على البشر، وهم في إقبال وإدبار، إلى أن أذن الله ببزوغ فجر الرسالة الخاتمة، ولما أراد الله أن يختم الرسالات الإلهية بالرسالة الخاتمة ناسب أن تكون في أمة أمية كأنها على خلقتها الأولى قال تعالى: }وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا{ (النحل: 78)؛ ليكون ذلك أقبل للرسالة فلا تزاحمها علوم أو فلسفات أو جدل عقيم، فأراد الحق جل وعلا أن تكون الرسالة الخاتمة في أمة خالية من كل تعليم سابق، ومن كل فلسفة موبقة، ومن كل علوم تُطْغي أهلها للفرح بما عندهم من العلم فيردوا به الوحي كما قال تعالى عن من كان هذا شأنهم: }فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ { (غافر: 83). قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: (ثم ذكر جرمهم الكبير فقال:} فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ{ من الكتب الإلهية، والخوارق العظيمة، والعلم النافع المبين، للهدى من الضلال، والحق من الباطل }فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ{ المناقض لدين الرسل. ومن المعلوم، أن فرحهم به، يدل على شدة رضاهم به، وتمسكهم، ومعاداة الحق الذي جاءت به الرسل، وجعل باطلهم حقًا، وهذا عام لجميع العلوم، التي نوقض بها، ما جاءت به الرسل، ومن أحقها بالدخول في هذا، علوم الفلسفة، والمنطق اليوناني، الذي رُدَّت به كثير من آيات القرآن، ونقصت قدره في القلوب، وجعلت أدلته اليقينية القاطعة، أدلة لفظية، لا تفيد شيئًا من اليقين، ويقدم عليها عقول أهل السفه والباطل، وهذا من أعظم الإلحاد في آيات الله، والمعارضة لها والمناقضة، فالله المستعان).([6])
وقال الطاهر ابن عاشور رحمه الله: (المعنى: أنهم جادلوا الرسل وكابروا الأدلة وأعرضوا عن النظر. وما عندهم من العلم هو معتقداتهم الموروثة عن أهل الضلالة من أسلافهم...وإطلاق العلم على اعتقادهم تهكمٌ وجري على حسب معتقدهم وإلا فهو جهلٌ)([7]).
ولو نظرنا في العلم الذي كان في البشرية يوم ذاك لوجدنا أنه ينقسم إلى قسمين: قسم لا علاقة له بالنبوة والرسالة كعلوم البيان والبلاغة والطب والفلك والتاريخ والنجوم، وقسم له علاقة بموضوعات الرسالة وهو العلم الذي يتناول الشأن الديني كالعبادات والاعتقادات وعلم الغيب ويدخل فيه صفات الله وأسماؤه وأفعاله، ويدخل فيه أيضا ما غاب عنا من المخلوقات الغيبية كالملائكة والشياطين والأرواح، وأحوال الحشر والنشر والجنة والنار، ويتناول أيضا أثارة من علم النبوة.
فنجد أن القسم الأول كان للعرب نصيب يسير منه، به تقوم حياتهم ولا ينسبون معه إلى العلم، ومما برزوا به كما قال الطاهر بن عاشور رحمه الله: (التفنن في علم فنون البلاغة، والخوض في وجوه الفصاحة، والتصرف في أساليب الكلام، وهو أعظم منتحلاتهم، فجاءهم بما أعجزهم من القرآن الكريم، قال تعالى: }قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا{ (الإسراء: 88).
والقسم الثاني والموجود منه هو خرص وتخمين قال الله عن أهله:} قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ. يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ{ (الذاريات:10، 11). وجُلّه افتراء على الله وقول بلا علم، حكم عليهم العليم الخبير بأنهم ليس لهم برهان علمي ولا دليل صحيح فيما يقولونه في هذه الموضوعات وأمثالها قال تعالى مخبرا عنهم أنهم يقولون بلا علم: } مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ { (النساء: 157)، قال ذلك عنهم في خوضهم في شان الملائكة، وفي خوضهم في شأن حقيقة المسيح عليه السلام ونهايته، وفي نسبة الولد إلى الله تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. وحيث إن هذا القسم جله خرصٌ وظن وتخمين وقول بلا علم؛ كانت السلامة من هذه العلوم محمدةٌ؛ لأن تعلمها وهي بهذه الصورة يحول بين القلب وبين الانتفاع بالإيمان والاستفادة من الوحي بل يفسد القلب ويصيبه بالغرور والازدهاء والتعالي وهو تعالٍ مذموم؛ لأنه فخر بباطل، ومكابرة بجهل، واستقواء بالظن في مقابل اليقين والعلم الإلهي والوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وإذا كان ذلك كذلك كانت الأمية في ذلك الزمان محمدة، وكانت البيئة المناسبة للوحي الإلهي الأخير هي عين ما اختاره الله لرسالته ودينه فالحمد لله على اختياره وقضائه وحكمه، وصدق الله حيث يقول: } اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ{ (الأنعام: 124).
2- الصفاء العقلي والبقاء على الخلْقَة الأولى والسلامة من اللوثات الفلسفية المغْرقة والجدل المنطقي؛ فلم يكن للفلسفة أو علوم المنطق أي وجود في هاتين المدينتين، بل بقيتا على السلامة الأصلية، فلم تكن الفلسفة معروفة في مكة والمدينة في تلك الفترة؛ ولذا كان الجدل العقلي بين مشركي مكة واليهود من جهة، والنبي الكريم ﷺ مقتصرا على الحجج العقلية التي تدركها وتحتج بها العقول الخالية من مقدمات الفلسفة وتخرصاتها؛ لذا رأينا أن الحجج التي احتج بها مشركو قريش لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وكلها شبه مما يرد على العقل الفطري، وهذه الشبه أخبر الله عنها في محكم تنزيله وأبطلها غاية الإبطال ولعل أبرز هذه الشبه ما يلي:
الشبهة الأولى: أخبر الله عنهم أنهم استبعدوا البعث وطالبوا أن يُبْعث آباؤهم ليتبين لهم صدق الرسول ﷺ قال جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: }وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ{ (الجاثية: 25).
الشبهة الثانية: وهي لا تبعد كثيرا عن الشبهة الأولى بل هي من مكملاتها، وكلا الشبهتين تدافعان حقيقة البعث والنشور، فهم يستعظمون أن يعادوا إلى الحياة بعد أن كانوا رميما، وعززوا حجتهم واستشهدوا لها بأن آباءهم قد وُعدوا ذلك ولما يبعثوا بعد، قال الله عز وجل مخبرا عن قيلهم: }قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ{ (المؤمنون: 82، 83). } وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا. قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا. أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا { (الإسراء: 50، 51).
الشبهة الثالثة: مما احتج به المشركون ودافعوا به إفراد الله بالوحدانية أن تكون العبادة كلها لله وحده، وأن لا يعبد العباد إلا ربا واحدا، فقال جل ثناؤه:} وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ. أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ { (سورة ص: 3،4).
وهذان الأمران: التكذيب بالبعث، وإنكار الوحدانية هما المسألتان العظيمتان اللتان كذب بهما الملأ من كل أمة، وعليهما مدار الخصام والجدال بين الرسل عليهم الصلاة والسلام وأقوامهم.
وهذه الحجج التي احتج بها المشركون محدودة وقليلة ويكفيهم قول الحق عنهم في الآية السابقة: }مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا{ (الجاثية: 25). بل هي داحضة وباطلة وساقطة وحكم الله عليهم بذلك فقال الحق وقوله الصدق: } وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ{ (الشورى: 16).
ولما أعيتهم الحيلة ووجدوا أن حجتهم داحضة؛ طالبوا بأن يكون الرسول ملكا، أو أن يكون معه ملك، أو يكون له جنة يأكل منها، أو أن يرقى إلى السماء فينزّل عليهم كتابا يقرؤونه، ورموه بالكذب والجنون والشعر والسحر، وأن القرآن لو أنزل على غيره ممن هو خير منه، أو نزل هذا الكتاب على عظيم من عظمائهم؛ لاتبعوه، وسألوه على سبيل التعجيز والإفحام عن الجبال وعن والأهلة وعن الساعة كما بينت ذلك آيات القرآن الكريم.
ولما أجاب الله عن أسئلتهم بالجواب المناسب وأبطل مطالبهم وبين الحق سبحانه أن هذه المطالب ليست هي التي تمنح الحق حجة وقبولا – لجأ المشركون إلى اليهود؛ لأنهم أهل كتاب - فظنوا أنهم سيمدونهم بالحجة وينصرونهم على الرسول محمد ﷺ فأرسلوا وفدا إلى المدينة يقترضون منهم الحجة ورغبوا في الفَلَج ممن عنده علم من الكتاب. قال العماد ابن كثير رحمه الله: (بعث كفار مكة إلى أهل الكتاب يسألون منهم ما يمتحنون به النبي ﷺ، فقالوا: سلوه عن رجل طواف في الأرض، وعن فتية لا يدرى ما صنعوا، وعن الروح؛ فنزلت سورة الكهف)([8]).
وفي مقام آخر ألقى شياطين اليهود جملة من الأسئلة على الرسول الكريم ﷺ مما يعلمون أنه لا يجيب عنها إلا نبي؛ ليمتحنوه وليعلموا صدقه (فعن بن عباس رضي الله عنهما قال أقبلت يهود إلى رسول الله ﷺ فقالوا: يا أبا القاسم إنا نسألك عن خمسة أشياء فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيلُ على بنيه إذ قالوا: }الله على ما نقول وكيل{ قال: هاتوا. قالوا: أخبرنا عن علامة النبي؟ قال تنام عيناه ولا ينام قلبه. قالوا أخبرنا كيف تؤنّث المرأة وكيف تذكّر؟...)([9]).
فمن خلال ما سبق يتبين للقارئ أن كلا الفريقين لم تظهر الفلسفة وحججها وترهاتها في جدالهم، فالمشركون اقتصرت حجتهم على ما تدركه العقول الفطرية السالمة من اللوثات الفلسفية البغيضة والجدل المنطقي العقيم، واليهود اقتصرت حجتهم على المعارف النبوية السابقة التي استقوها من الوحي السابق، فهم إذاً لم يكن عندهم ما يحاجّون به ويجادلون به إلا بقايا ميراث النبوة، فكأنهم من حيث لا يشعرون ينصرون النبي ﷺ، ويسعف اليهودُ كفارَ قريش بالحجة، ولكنها من حيث لا يشعر الفريقان ستكون حجة للرسول ﷺ، وهذا من مكر الله بالفريقين؛ لأن اليهود قالوا سلوه عن كذا وكذا فإن أجاب فهو نبي.
وهذا يدلنا من وجه آخر على أن اليهود الموجودين في المدينة لم يكن لديهم معارف فلسفية ولا دلائل منطقية، وإلا لقدموها بين يدي نصرتهم لمشركي العرب، لمعرفتهم أن النبي ﷺ لم يكن لديه معرفة بهذه الفلسفة ومكوناتها.
إذا كل أطياف المجتمع المكي والمدني - وهو مجتمع الرسالة - سالم من النزعة الفلسفية واللوثة الإغريقية واليونانية.
ولذ تجد أن الفريقين لم يجادلوا في وصف النبي ﷺ لله بالصفات، ولا في نسبة الأفعال إليه جل ثناؤه، ولا في مكانة العقل الفعال أو العقول العشرة، ولا في أثر القوى الخفية كالملائكة أو الشياطين في تدبير الكون، كما لم يناقشوا في تناسخ الأرواح، أو الحلول والاتحاد بين العابد والمعبود.
أن الفريقين لم يجعلوا العقل معيارا للقبول أو الرفض فيما يقبلوه أو يرفضوه من الوحي، إنما جعلوا المعيار أنهم لم يألفوه عند آبائهم وأسلافهم، وطفقوا يكذبون ويكابرون، ولذا لم نجد أنهم قالوا هذا أمر ترفضه العقول وتحيله وتأنف منه الفطر السليمة.
وإذا نظر المتأمل في مواقف المشركين أو اليهود من الرسول ﷺ أو من الوحي تجد أنه لا تعدوا المواقف التالية:
الموقف الأول: العناد والاستكبار مع المعرفة التامة بأنه الحق.
الموقف الثاني: المعرفة التامة بصدقه ﷺ مع عدم الإيمان به ﷺ لكن دون معاندة أو مخاصمة أو استكبار كما في خبر الحبر الذي سأل الرسول ﷺ عن وضع الحق سبحانه وتعالى السموات على أصبع والأرضين على أصبع إلخ والقصة في الصحيحين وفي غيرهما. ([10])
الموقف الثالث: الحسد مع التصديق بأنه الحق والعزم على الكفر به، وهذا ديدن كثير من الرؤساء المتبوعين والملأ في كل أمة.
الموقف الرابع: الإيمان به والإذعان للحق الذي جاء به ﷺ، وهذا أكثر في كفار قريش وسائر العرب، بينما لم يسلم من يهود سوى نفر يسير.
3- التضحية من أجل المبدأ الذي يؤمنون به وهذا واضح جلي في سيرهم سواء في جاهليتهم أو في إسلامهم فكانوا يئدون البنات خوفا من العار، وفي قصة فداء عبد المطلب لابنه عبد الله بمئة من الإبل شاهد لذلك حيث عزم على ذبح ابنه وفاء بنذره([11])، كما كانوا يبارزون آباءهم ويفاصلون أمهاتهم من أجل المبدأ الذي يؤمنون به كما في خبر سعد بن أبي وقاص مع أمه، وأبي عبيدة بن الجراح مع والده وغيرهم حتى أنزل الله فيهم قوله تعالى: } لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ { (الممتحنة: 22)، قال القاضي عياض رحمه الله: (وهؤلاء أصحابه ﷺ قد قتلوا أحباءهم وقاتلوا آباءهم وأبناءهم في مرضاته، وقال له عبدالله بن عبدالله بن أبي: لو شئت لأتيتك برأسه يعنى أباه)([12]).
4- الشجاعة والإقدام فلم يعرف الجبن لهم طريقا، وكل مقام قاموه مع رسول الله ﷺ في جهاد فهو خير شاهد على ذلك، ومن ذلك تسابق المهاجرين والأنصار لبذل الأنفس والأموال في سبيل الله في بدر حينما استشار الرسول الكريم ﷺ الناسَ فقام وجهاء القوم فقالوا وأحسنوا، ثم قام سعد بن عبادة، فقال:(لو أمرتنا يا رسول الله أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا)([13])، هذا فضلا عن بلائهم وجهادهم في سائر الغزوات والحروب التي شهدوها مع الرسول ﷺ أو بعده بل حتى النساء شاركن في هذا المضمار العظيم وما خبر أم عمارة عنا ببعيد في معركة أحد رضي الله عنها وأرضاها، بل إن أعظم شاهد لهم على شجاعتهم وإقدامهم مواجهة إمبراطوريتين عظيمتين في وقت واحد، بل هزيمتهما والقضاء عليهما في وقت قصير جدا مع الفارق العظيم في العتاد والعدة. ولم يكونوا كبني إسرائيل حينما قالوا لموسى عليه السلام كما أخبر الله عنهم:}قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ{ (المائدة: 24).
5- القوة في الحجة واللدد في الخصومة، قال تعالى مخبرا عن حالهم في مخاصمتهم لنبيه ﷺ: }وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ{ (الزخرف: 58). قال الشوكاني رحمه الله:(شديدو الخصومة، كثيرو اللدد، عظيمو الجدل)([14]). وحينما ينظر المرء في المدة التي قضاها الرسولﷺ في مكة المكرمة يجد أنها مملوءة بمواقف الجدل والخصام بينه وبينهم، وكلما نقض الوحي شبهة جددوا شبهة أخرى حتى قال الحق: }وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا{ (الفرقان: 33)، أي ولا يأتونك بشبهة إلا جئناك بما يبطلها وينقضها، وهم مع ذلك رزقوا ذكاء مفرطا ولم يرزقوا زكاءً، ورزقوا جدلا ولم يرزقوا هدى؛ ذلك أن ما من شبهة يمكن أن يرمى بها الإسلام أو ترمى بها الرسالة أو الرسول إلا وقد أثاروها في وجه الرسول ﷺ ثم تكفل الوحي الكريم بالجواب عنها، وكل هذه الشبه رغم كثرتها وتنوعها وطول أمدها لم تكن سفسطة ولم تنطلق من منطلقات الفلسفة لا من حيث المقدمات ولا من حيث النتائج.
وحينما ينظر المرء في أدلة القرآن وبراهينه المتعلقة بالألوهية وبالبعث وتنوعها ما بين ضرب مثل أو برهان عقلي أو تفنيد شبهة - يدرك حجم الخصام الذي كان يواجه به كفارُ قريش الرسولَ ﷺ، ولعل في خبر الوليد بن المغيرة مع أبي جهل خير شاهد على انقطاع حجتهم وعجزهم عن مجابهة الوحي؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله ﷺ فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا. قال: لم؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعرض ما قبله! قال: قد علمت قريش أنى من أكثرها مالا. قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له. قال: وماذا أقول؟ فو الله ما منكم رجل أعرف بالأشعار منى، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده منى، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه.
قال: قف عنى حتى أفكر فيه. فلما فكر قال: إن هذا إلا سحر يؤثر يأثره عن غيره([15]).
ولما أعيتهم الحيلة وانقطعت حجتهم لجؤوا إلى الحصار وحاولوا قتله، ورد الله كيدهم في نحورهم وأبطل سعيهم؛ إذ سعي الكافر في تباب وضلال.
6- أن هاتين المدينتين لم تكن لهما صلات فكرية أو سياسية أو اقتصادية بارزة بل كانتا تقتاتان من رحلة الشتاء والصيف للشام ولليمن، وللقبائل التي تسكن في أطراف الجزيرة علاقات مع بعض الإمارات المجاورة، وهما فقيرتان من حيث الموارد فلم تكونا تُقصدان ولا تصدران فهما شبه معزولتين، وهذا يدل على أنهما لم تكونا مؤثرتين في غيرهما وغير متأثرتين بما يعتلج في تلك البلاد المجاورة من فكر أو فلسفة أو تنظيم فهي سالمة من أي احتكاك أو تفاعل ثقافي أو فكري أو عقدي، فهما يعيشان شبه عزلة اقتصادية وسياسية وفكرية وعقدية، وهذا كان سببا في أن توفّر لهم نوع من المحافظة على البيئة الأصلية السالمة من المؤثر الخارجي.
ولأن لهذه البيئة من الخصائص والسمات ما لغيرها، ولأن الله أراد أن تبقى على مر الدهر موئلا للإسلام ومأرزا للدين؛ لذا جاء في التوجيهات الربانية والسنن النبوية بالمحافظة على مكة والمدينة فلا يدخلهما كافر، وألا يبقى في جزيرة العرب إلا الإسلام، وأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وبين أنهما مأرز الإيمان وملاذ الإسلام، وأن الدجال لا يدخلهما، كل ذلك حتى يبقى موطن الرسالة ومهبط الوحي محافظا على قدر المستطاع على قدر كاف من النقاء والصفاء الذي يضمن استمرار التطبيق الصحيح للدين بعيدا عن زغل المرجفين، وتكلف المتشدقين، وفلسفة المتهوكين.
المبحث الثاني: عصر الرسالة والخلافة الراشدة
امتد عصر الرسالة النبوية على صاحبها أتم الصلاة وأزكى التسلم ثلاثا وعشرين سنة، كما امتد عصر الخلافة الراشدة لمدة ثلاثين سنة فكان مجموع ذلك اثنين وخمسين سنة، وهذا - والله أعلم - لحكمة عظيمة قد نقف على شيء منها، وقد تخفى على البشر فلا يعلمون مراد الله منها، لكن يظهر - والله أعلم - أن هذا التقدير الإلهي له فائدة عظمى تعود على الرسالة وعلى الرسول ﷺ وعلى الأمة من بعده، بل على البشرية، وذلك للأمور التالية:
الأول: أن خمسين سنة مدة كافية لأن يظهر فيها جيلان من البشر؛ إذ الفارق بين الجيل البشري والجيل الذي يليه خمسة وعشرون سنة، ثم يخرج من هذا الجيل جيل آخر، ولينظر الإنسان نفسه ومن حوله يجد أن الإنسان يولد له الولد هو قريب من الخامسة والعشرين، فإذا بلغ الخمسين سَعد بأحفاده وهلم جرا. وإذا أُخذ هذا في الحسبان أدركنا أن هذه المدة كافية لأن يتربى الجيل الذي عاصر الرسول ﷺ ثم يتناسل منه جيل آخر ويتربى في بيئة الوحي سواء تربي على يد الرسول ﷺ أم على أيدي الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين، فيعيش هذان الجيلان ويُصْنعان على عين النبي الكريم ﷺ إيمانا وإسلاما وتسليما، وتعلما وتعليما، واعتقادا وسلوكا، فبهذا يكون قد حقق الله لهذا الدين أن يتخرج من مدرسة النبوة والخلافة الراشدة جيلان بشريان على أقل تقدير يحملان الدين الحق، لا يعرفان إلا الإسلام الصحيح والاعتقاد الموافق للحق، ولا يسلكان إلا طريق الهدى، خاليان من كل دغل وخطل، كيف لا وهم أصلا في بيئة لم تعرف السفسطة الفلسفية العقيمة.
الثاني: أن عصر الرسالة والخلافة كان كافيا لتطبيق الإسلام بكل تفاصيله وشعائره وأخلاقه وهديه، بل هذه المدة كفيلة بأن تظهر فيها كل الحالات المحتملة من انحراف أو غلو أو إفراط أو تفريط أو خطأ مرده إلى الضعف البشري سواء كان هذا الخطأ نتيجة شهوة أو شبهة، وهذه المدة كافية لتقويم كل اعوجاج، ورد كل شبهة أو شهوة خفية أو ظاهرة، ولذا قلما تجد شبهة أو انحرافا ظهر في الأمة فيما بعد إلا وتجد أصله أو قريبا منه ظهر في عصر الرسالة والخلافة، ولا يخفى أن بوادر الغلو في الدين والإرجاء والتشيع وإنكار القدر ظهرت في هذا العصر العظيم - فكانت المعالجة أما تحت نظر النبي الكريم ﷺ، أو تحت نظر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم، فكان هذا التقويم والعلاج خير قدوة لمن أتى بعد هذا العصر الزاهر، ولذا كانت سنة الخلفاء في معالجة الانحراف هي السنة التي سار عليها من بعدهم.
الثالث: أن هذه المدة كافية لأن تتربى أمة الرسالة تربية إيمانية راشدة على الوحي، وتتسابق في البذل والعطاء من أجله، وتعالج في هذه المدة كل النوازع السيئة في النفس البشرية، حتى إذا انتهت هذه المدة فإذا هو قد تخرج فيها آلاف البشر وكأنما خلقوا خلقا آخر بالوحي وبالتربية على يد الرسول ﷺ وعلى أيدي خلفائه الكرام رضي الله عنهم، فإذا البشر الذين كانوا في مكة والمدينة يستضعفهم الفرس والروم ولا يرومون لأنفسهم ملكا أو نظاما- تزكو أنفسهم، وترتقي أخلاقهم، وتتهذب طبائعهم، ويقيمون خلافة راشدة ويسوسون العباد والبلاد ويقارعون أعتى الدول عدة وعتادا، ولما انداحت دائرة الفتوح الإسلامية بهر هؤلاء الرجال الأمم التي قصدوها فأسلمت الجموع اقتداءً بهذه النماذج الإيمانية الرائعة، ولذا لما وضع الفرنسي لامارتين عام 1854م مقاييسه الثلاثة للعظمة الإنسانية التي وجدها توافرت في الرسول ﷺ على أتم وجه وأكمله قال: (لو أن عظمة الغاية، وقلة الوسائل، والنتائج المذهلة هي المقاييس الثلاثة لعبقرية الإنسان فمن الذي يجرؤ على مقارنة أي رجل عظيم في التاريخ الحديث بمحمد؟
إن أشهر الرجال أسسوا الجيوش ووضعوا القوانين وأسسوا الإمبراطوريات فقط، إنهم لم ينشئوا أكثر من سلطة مادية كثيرا ما ضعفت أمام أعينهم. إن هذا الرجل محمدا لم يؤثر فقط في الجيوش والتشريعات والإمبراطوريات والشعوب والأسر الحاكمة؛ ولكنه أثر أيضا في ملايين الرجال، بل أكثر من ذلك فقد أزاح مذابح الكنائس وغيرها من الأنصاب والآلهة والأديان والأفكار والمعتقدات الزائفة والأنفس الظالمة)([16]). وقد اختص الله أهل هذا العصر بخصائص عظيمة في التصديق والاتباع والبذل والتضحية والجهاد والتسليم والإيمان، بل يكفي ذاك الزمان أن تعطّر بأنفاس المصطفى ﷺ، وافتخر بأن عاش فيه خيار خلق الله بعد الأنبياء وهم صحابة رسول الله ﷺ ورضي الله عنهم أجمعين، ومما اختص الله به أولئك القوم أمور لا يحصيها حصر أو عدّ لكن نذكر منها ما يتطلبه هذا الموضوع فمن ذلك:
الأول: أنهم أفضل القرون بشهادة الرسول ﷺ حيث قال:(خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)([17]). قال النووي رحمه الله: (وأن قوله ﷺ: "خيركم قرني" على الخصوص معناه خير الناس قرني أي السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ومن سلك مسلكهم، فهؤلاء أفضل الأمة، وهم المرادون بالحديث)([18])، بل هذا القرن هم خير الناس كافة منذ خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة لا كان ولا يكون مثلهم بعد الأنبياء قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وَمَن نَظَرَ فِي سِيرَةِ الْقَوْمِ بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، وَمَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ؛ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ خِيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ؛ لاَ كَانَ وَلا يَكُونُ مِثْلُهُمْ، وَأَنَّهُمُ الصَّفْوَةُ مِنْ قُرُونِ هَذِهِ الأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الأُمَمِ وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ)([19]).
الثاني: أنهم عدول ثقات حازوا من الإيمان أفضله وأكمله وأوفاه حتى أثنى الله عليهم في آيات كثيرة تثبت صدق إيمانهم، وبذلهم في سبيل الله، وتبشرهم بمغفرة الله ورضوانهم عنهم كما في قوله جل شأنه: }وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ { (التوبة: 100). وغيرها كثير، قال عبدالله ابن مسعود رضي الله عنه عن الصحابة: (أولئك أصحاب محمد ﷺ، كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبا، وأعمقها علما وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم)([20]).
الثالث: أنهم أعظم الناس متابعة وتصديقا لرسول الله ﷺ حتى كان تصديقهم مضرب المثل، وبهر تصديقُهم قلوبَ أعدائهم، وفي خبر الإسراء أن الرسول ﷺ لما أخبر كفار قريش بخبره كذبوه وأتوا إلى أبي بكر فقالوا: (يا أبا بكر، هل لك في صاحبك؟ يخبر أنه أتى في ليلته هذه مسيرة شهر، ثم رجع في ليلته. فقال أبو بكر، رضي الله عنه: إن كان قاله فقد صدق، وإنا لنصدقه فيما هو أبعد من هذا، نصدقه على خبر السماء)([21]). وفي موطن آخر يخبر النبي الكريم ﷺ صحابته بخبر من أخبار الغيب ثم يشهد أن أبا بكر وعمر يؤمنون بذلك وهم لما يحضروا أو يشهدوا المجلس؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه: صلى بنا رسول الله ﷺ صلاة ثم أقبل علينا بوجهه فقال: بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها قالت: إنا لم نخلق لهذا؛ إنما خلقنا للحراثة، فقال الناس: سبحان الله بقرة تتكلم. فقال: فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر غدا غدا وعمر وما هما ثمّ... إلخ([22])، وخبر زوجة عبدالله بن رواحة مما يستشهد به في هذا الموطن ذلك أنه حينما وقع على جاريته، ففزعت من ذلك زوجته فأنكر ذلك، فطلبت منه أن يقرأ القرآن؛ لأن الجنب لا يقرأ القرآن، فأسمعها شيئا من الشعر فَقَالَتْ: (آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَذَّبْتُ الْبَصَرَ. ثُمَّ غَدَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَأَخْبَرَهُ فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذَهُ)([23])، وقال ابن عبد البر وقصته - (أي عبد الله بن رواحة) مع زوجته حين وقع على أمته – رويناها من وجوه صحاح.
المبحث الثالث: الصراع خارج البيئة الأولى بين الوحي ومخلفات القرون السالفة
ذكرت في المبحثين السابقين أن الله سبحانه وتعالى اختار مكان الرسالة وزمانها، واختار الرسول ﷺ، واختار صحابته رضوان الله عليهم أجمعين، واختار الجنس الذي بعث فيه الرسول ﷺ واللغة التي نزل بها القرآن، كل ذلك الاختيار كان لحكمٍ عظيمة علمنا بعضها وغاب عنا الكثير منها، وآمنا بهذه وتلك مما علمنا منه ومما لم نعلم.
ولذلك لما خرج الصحابة رضي الله عنهم والتابعون إلى خارج جزيرة العرب، وخرج الوحي إلى البلاد التي عششت فيها الفلسفة، وأسِنت فيها العقول، وتخبطت فيها الأفهام، وفسدت فيها الفطر، وكانت سوق الفلسفة والمنطق قائمة وبضاعتها نافقة، لم تقبل فئام من تلك الأقوام ممن فسدت فطرهم، وتغيرت عقولهم، واضطربت مقاييسهم – لم تقبل الوحي كما قبله الصحابة، ولم يسلّموا له كتسليمهم، ولم يؤمنوا به كإيمانهم، ولم ينتفعوا به كانتفاعهم، بل عارضوه ونصبوا له المناهج المنحرفة التي أرغموا الوحي على أن يكون تابعا لها، وأن يخضعوا أدلته وبراهينه وحقائقه وغاياته إلى ما عندهم من العلم المرذول والمنطق المخذول، فما وافق أدلتهم من الوحي قبلوه، وما خالفه ردوه، بل عدوا من آمن به وسلّم له ناقص العقل، ضعيف الفهم، قليل الحكمة، ضعيف الإدراك، وتفرقت الأمة إلى مدارس ومناهج وفرق وأحزاب، كل يكفر مخالفه، وكل يزعم أنه على الهدى المستقيم، وكل يرى أن الحق يسنده وهو ينافح عن الحق، وصنفت في ذلك الكتب التي تؤسس لهذا الباطل، وترد على المخالف، وتنافح عن المنهج المخالف، بل أصبحت هناك قوانين معروفة مشهودة يرد بها الوحي كقانون الغزالي الذي ردده من بعده الجويني وصاغه وطار به الرازي في كتابه أساس التقديس؛ حيث يقول كما نقل ذلك عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية، أو السمع والعقل، أو النقل والعقل، أو الظواهر النقلية والقواطع العقلية أو نحو ذلك من العبارات، فإما أن يجمع بينهما وهو محال؛ لأنه جمع بين النقيضين، وإما أن يردا جميعا، وإما أن يقدم السمع وهو محال؛ لأن العقل أصل النقل، فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحا في العقل الذي هو أصل النقل، والقدح في أصل الشيء قدح فيه، فكان تقديم النقل قدحا في النقل والعقل جميعا؛ فوجب تقديم العقل، ثم النقل إما أن يُتأول وإما أن يفوض.
وأما إذا تعارضا تعارض الضدين امتنع الجمع بينهما ولم يمتنع ارتفاعهما، وهذا الكلام قد جعله الرازي وأتباعه قانونا كليا فيما يستدل به من كتب الله تعالى وكلام أنبيائه عليهم السلام وما لا يستدل به، ولهذا ردوا الاستدلال بما جاءت به الأنبياء والمرسلون في صفات الله تعالى وغير ذلك من الأمور التي أنبؤوا بها وظن هؤلاء أن العقل يعارضها)([24])، فالقارئ يدرك في هذا القانون وفي غيره شيئا من مناهجهم التي جعلوها سبلا يُرد بها الوحي، وسأورد ثلاثة أمثلة من الوحي ليتبين لنا كيف أن الله أراد بها أن تكون حجة وبرهانا وهداية للخلق، ولكنها عند هؤلاء المحرومين أدلة للسلب والتنقّص للباري - جل شأنه وتقدست أسماؤه وتعالى وتقدس عن أفكهم وظنونهم - ويتبين لنا أيضا كيف حرموا الانتفاع بها، وإليك هذه الأمثلة:
المثال الأول: ذكر الله في سورة الأنعام جملة من البراهين العقلية النقلية للتدليل على فساد عبادة من سواه، وعلى إبطال دعوى نسبة الولد إلى الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وهذه البراهين واردة في الآيات المبدوءة بقوله تعالى:} إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُون{ إلى قوله تعالى: }لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ { (الأنعام: 95- 103). ففي هذه الآيات براهين متوالية على تحقيق التوحيد وإبطال الشرك، وختمت هذه البراهين بأن الله لا تدركه الأبصار فكيف يزعمون أن له ولدا أو بنتا، وهم لم يروه؛ لأن كل مولود يشبه أباه، وهذا البرهان - وهو مشابهة كل شيء لأصله - أشار إليه قوله تعالى:} مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ{، فنسي المتكلمون هذا البرهان وجعلوا قوله تعالى: }لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ { دليلا على نفي رؤية المؤمنين لربهم في القيامة، وهو أعظم نعيم أهل الجنة، فلينظر القارئ كيف يتحول الدليل الشاهد على أعظم مشهود، والمبشر بأعظم نعيم - عند هؤلاء إلى دليل على السلب والنقص ونفي النعيم، قال الزمخشري عند تفسيره لهذه الآية: (فالمعنى أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه، لأنه متعال أن يكون مبصراً في ذاته، لأن الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة أصلا أو تابعا، كالأجسام والهيئات وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وهو للطفِ إدراكه للمدركات يدرك تلك الجواهر اللطيفة التي لا يدركها مدرك، وَهُوَ اللَّطِيفُ يلطفُ عن أن تدركه الأبصار، الْخَبِيرُ بكل لطيف فهو يدرك الأبصار، لا تلطف عن إدراكه وهذا من باب اللطف)([25]).
المثال الثاني: في مجلس من مجالسه الشريفة المباركة يخبر النبي ﷺ أصحابه عن صفاته الله جل وعلا، فيقول ﷺ:(ضَحِكَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ، وَقُرْبِ غِيَرِهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَ يَضْحَكُ الرَّبُّ، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: لَنْ نَعْدَمَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا)([26])؛ فالإنسان السالم من الجدل المنطقي يؤمن بهذا الخبر على ما هو عليه، ويستفيد منه إيمانا بالله ورجاءً لخيره وبره وإحسانه، بينما الذي فسد منهجه واضطرب قياسه لا يجد في هذا الخبر إلا مجالا للنفي، وثلبا للدين، وانتقاصا للحق؛ لأنه يرى الفعل يدل على الحدوث، والحدوث من صفات المحدثات، والمحدثات لا تكون واجبة الوجود، وما ليس بواجب الوجود فليس إلها. والخلاصة التي يتوصل إليها من النظر في هذا الخبر وأمثاله نفي هذا الخبر وعدم الاستدلال به، وعدم الإيمان به، وعدم انتظار الثواب أو الخير المنوط به، ورده بأي ذريعة سواء بالتفويض أو على أنه خبر آحاد، أو بالتأويل أو على اعتبار أن الظاهر غير مراد، أو بأي تمحل وتكلف يردّ به الشرع.
المثال الثالث: عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِسَبْىٍ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْىِ تَبْتَغِى، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِى السَّبْىِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِى النَّارِ. قُلْنَا لاَ وَاللَّهِ وَهِىَ تَقْدِرُ عَلَى أَلاَ تَطْرَحَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا)([27]). ففي هذا الحديث يخبر النبي الكريم ﷺ عن عظمة صفة رحمة الله، وهي في هذا الحديث جاءت الصفة مقربة للفهم والإيمان، وضرب لها مثل مرئي ليعظم الإيمان ولتنتظر القلوب هذه الرحمة الواسعة وتغتبط بها، وتقشعر لروْحِها الجلود، هذا في منهج أهل الحق، وانظر إلى كلام أهل الكلام في تأويل صفة الرحمة، حيث يقول الرازي رحمه الله: (اختلفوا في أن الرحمة عبارة عن إيصال الخير والنعمة، أو عن إرادة إيصال الخير والنعمة، فعلى التقدير الأول تكون الرحمة من صفات الأفعال، وعلى هذا التقدير الثاني تكون من صفات الذات)([28]). إذا هو يفسر الرحمة بلوازمها أو بالإرادة، فأين الرحمة التي وعد الله بها عباده، وبشر بها النبي ﷺ المؤمنين.
وهنا لم ينقل عن أحد من الصحابة رضوان الله عليهم أنه اعترض على هذه الأمثلة الثلاثة أو غيرها مما جاء به الوحي، فلم نجد منهم من أنكر الرؤية أو أوّل الضحك، أو تمحل في نفي صفة الرحمة عن الله جل جلاله.
المبحث الرابع: العودة إلى الوحي
رأينا في المباحث السابقة كيف أن الله اختار الرسالة والرسول ﷺ والمكان وحملة الرسالة، ورأينا كيف إن الوحي لما خرج من البيئة الأولى حدث الصراع بين الوحي الإلهي المحكم وبين الفلسفة والمنطق، ورأينا كيف حدث الخلاف والشقاق بين أفراد الأمة بسبب ذلك، وإذا أردنا أن نعيد صياغة البحث العلمي في تخصص الدراسات الإسلامية بل في كل مناحي الحياة؛ فعلينا أن نعود إلى الوحي وإلى فهمه والعمل به وفق فهم الصحابة رضي الله عنهم ومن سار على منهجهم ممن جاء بعدهم، وهذا الأمر ليس غريبا ولا مستعصيا بل هو السبيل الذي اختاره الله لنبيه ولرسالته ولصحابة نبيه ﷺ، وحتى يتحقق لنا ذلك يجب علينا أن نتخذ السبل التالية:
الأولى: العودة للوحي وفق فهم السلف، ذلك لأن الرسول ﷺ أخبرنا بأنها ستكون فتن، وأخبرنا بما يحدث فيها وبعدها من الابتداع وأرشدنا إلى المخرج من ذلك كما في حديث العرباض بن سارية قال:(صلى لنا رسول الله ﷺ الفجر ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت لها الأعين ووجلت منها القلوب، قلنا أو قالوا: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فأوصنا. قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبدا حبشيا؛ فإنه من يعش منكم يرى بعدي اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمو؛ فان كل محدثة بدعة وإن كل بدعة ضلالة)([29]).
فالرسول ﷺ ذكر السبيل وأنه اتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم، ولعل التوكيد على أن المخرج في سنته وسنة خلفائه لأن كثير من الناس قد يحتج بالقرآن أو بالسنة بفهمه هو دون أن يعتمد على فهم الصحابة رضي الله عنهم، وهذا الأمر مما تتابع عليه علماء الأمة يقول الإمام الشاطبي رحمه الله مبينا أهمية التعامل مع الوحي وفق فهم الصحابة رضي الله عنهم: (وأنهم شاهدوا من أسباب التكاليف وقرائن أحوالها ما لم يشاهد من بعدهم، ونقلُ قرائن الأحوال على ما هي عليه كالمعتذر؛ فلا بد من القول بأن فهمهم في الشريعة أتم وأحرى بالتقديم، فإذا جاء في القرآن أو في السنة من بيانهم ما هو موضوع موضع التفسير، بحيث لو فرضنا عدمه لم يمكن تنزيل النص عليه على وجهه؛ انحتم الحكم بإعمال ذلك البيان لما ذكر، ولما جاء في السنة من اتباعهم والجريان على سننهم، كما جاء في قوله، عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ"، وغير ذلك من الأحاديث؛ فإنها عاضدة لهذا)([30]).
وقال الشيخ الألباني رحمه الله: (لا يجوز أن يقتصر المسلمون عامة والدعاة خاصة في فهم الكتاب والسنة على الوسائل المعروفة للفهم كمعرفة اللغة العربية والناسخ والمنسوخ وغير ذلك، بل لا بد من أن يرجع قبل ذلك كله إلى ما كان عليه أصحاب النبي ﷺ لأنهم - كما تبين من آثارهم ومن سيرتهم - أنهم كانوا أخلص لله عز وجل في العبادة، وأفقه منا في الكتاب والسنة إلى غير ذلك من الخصال الحميدة التي تخلقوا بها وتأدبوا بآدابها فلا بد لنا - والحالة هذه - من أن ندندن دائما وأبدا حول هذا الأصل الأصيل إذا أردنا أن نفهم عقيدتنا وأن نفهم عبادتنا وأن نفهم أخلاقنا وسلوكنا. ولا محيد عن العودة إلى منهج سلفنا الصالح لفهم كل هذه القضايا الضرورية للمسلم حتى يتحقق فيه - صدقا - أنه من الفرقة الناجية.
ومن هنا ضلت طوائف قديمة وحديثة حين لم يتنبهوا إلى مدلول الآية السابقة وإلى مغزى حديث سنة الخلفاء الراشدين، وكذا حديث افتراق الأمة فكان أمرا طبيعيا جدا أن ينحرفوا كما انحرف من سبقهم عن كتاب الله وسنة رسول ﷺ ومنهج السلف الصالح)([31]).
وقال رحمه الله: (الحديث – أي حديث العرباض - من الأحاديث الهامة التي تحض المسلمين على التمسك بالسنة، وسنة الخلفاء الراشدين الأربعة ومن سار سيرتهم، والنهي عن كل بدعة، وأنها ضلالة، وإن رآها الناس حسنة، كما صح عن ابن عمر رضي الله عنه. و الأحاديث في النهي عن ذلك كثيرة معروفة، ومع ذلك فقد انصرف عنها جماهير المسلمين اليوم، لا فرق في ذلك بين العامة والخاصة، اللهم إلا القليل منهم، بل إن الكثيرين منهم ليعدون البحث في ذلك من توافه الأمور، وأن الخوض في تمييز السنة عن البدعة، يثير الفتنة، ويفرق الكلمة، وينصحون بترك ذلك كله)([32]).
وخير مثال على هذا الطرح الذي طرحته أي العودة إلى الوحي وأنه هو السبيل إلى النهوض العلمي والرقي الحضاري تلك الدعوات السلفية التي ظهرت في القرون الأخيرة ولعل أبرزها دعوة الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب رحمه الله رحمة واسعة، فقد استطاع بحمد الله وتوفيقه أن يقدم المنهج الشرعي في ميدان التعليم والعمل والتثقيف ونشر والوعي من خلال الرجوع إلى الوحي دون الخوض في مصطلحات الفلسفة والمنطق ومفرداتها ومسائلها وإشكالاتها، وعلى منهجه قامت دعوة كاملة وقامت على أثرها دولة كاملة استطاعت أن تجمع بين الوحي ومنجزات العصر، فلم يضق الوحي بهذه المنجزات، ولم تنفر تلك المنجزات من الوحي، بل تناغم هذا وذاك في تكامل لا ينكره إلا مكابر. ولعل هذا الخير الذي فازت به اليمامة وهي في وسط نجد هو أثر ذهاب وَهَلِ النبي ﷺ حينما رأى رؤياه فقال: (رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ، أَوْ هَجَرُ فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ)([33]). (ورؤيا النبي ﷺ حق، وكفى بهذا فضلا لليمامة، وشرفا لها على غيرها؛ فإن ذهاب وهله ﷺ في رؤياه إليها، لا بد أن يكون له أثر في الخير يظهر، فظهر ذلك الفضل - بحمد الله - في القرن الثاني عشر، فقام الداعي يدعو الناس إلى ما دعت إليه الرسل، من إفراد الله بالعبادة، وترك عبادة ما سواه، وإقامة الفرائض، والعمل بالواجبات، والنهي عن مواقعة المحرمات. وظهر فيها الإسلام أعظم من ظهوره في غيرها في هذه الأزمان)([34]).
الثانية: التخلي عن إقحام الفلسفة والمنطق في المسائل الشرعية التي مستندها وعمادها الوحي، ولعل هذا داء الأمم السابقة؛ ذلك أنها لا تختلف ولا تقع في الفتنة إلا إذا أعرضت عن الهدى والوحي الذي جاءها من ربها قال تعالى: }وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ { (الجاثية: 17)، قال الشيخ السعدي رحمه الله: (فهذه النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل تقتضي الحال أن يقوموا بها على أكمل الوجوه، وأن يجتمعوا على الحق الذي بينه الله لهم، ولكن انعكس الأمر فعاملوها بعكس ما يجب. وافترقوا فيما أمروا بالاجتماع به؛ ولهذا قال: }فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ{ أي: الموجب لعدم الاختلاف، وإنما حملهم على الاختلاف البغي من بعضهم على بعض والظلم)([35])؛ ولذا ينبغي أن نكون على حذر من ورثة الفلسفة والمنطق فهم لا يزالون يحاولون أن تبقى في الأمة مناهج الفلسفة وطرائقها، وغير خاف على المتابع أثر بعض المنظمات المشبوهة في بعض الدول الإسلامية كيف تحاول أن تجمع بين المهتمين بهذا الأمر وتقيم لهم المؤتمرات والمؤسسات وتحقق لهم كل ما يعينهم على الصد عن السبيل والمنهج المستقيم.
وعلى هذا فإذا أردنا أن نعيد مناهجنا وأن نعيد صياغة دراساتنا الشرعية فعلينا أن ننطلق من الوحي - وفق فهم السلف الصالح – ابتداءً وانتهاءً أهدافا وغايات، دون أن يكون للفلسفة أو المنطق دخل في الاستدلال أو الفهم أو التصور أو الترجيح أو الإيمان أو أثر الإيمان أو لوازمه ومقتضياته، أو التصديق بما يكون يوم القيامة من نعيم أو عذاب أو لقاء لرب العزة والجلال.
الثالث: إعادة صياغة مناهجنا التعليمية ووسائلها وأهدافها وسائر أدواتها بل سائر شؤوننا على هدي الوحي، وألا نظن أن الوحي يجب أن يصار إليه فقط في المسائل الدينية والشرعية والتعبدية، لا بل يجب أن يكون هو المهيمن والحاكم والمرشد لكل مناحي الحياة، ألم يقل ربنا في محكم تنزيله: }وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه{ (الأنفال: 39).
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، في هذا البحث الذي وفق الله لكتابته تبين لنا ما يلي:
أولا: أن الله جعل الرسالة الخاتمة في مكة المكرمة والمدينة النبوية لحكم عظيمة ولعل منها ما تميز به أهلهما من مميزات لعل أبرزها:
1- أن سكان هاتين المدينتين – عدا اليهود – أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب، والوصف بالأمية وإن كان في ظاهره أمرا سلبيا في بداية الأمر إلا أنه كان أمرا عجيبا في اختيار الله لأن تكون الرسالة الخاتمة في الأمة الأمية ولم يكن في الأمة الكتابية؛ ذلك - والله أعلم - لأن العلوم التي كانت شائعة آنذاك ولها تعلق بالرسالة جلها خرصٌ وظن وتخمين وقول بلا علم؛ وكانت السلامة من هذه العلوم محمدةٌ؛ لأن تعلمها وهي بهذه الصورة يحول بين القلب وبين الانتفاع بالإيمان، والاستفادة من الوحي، بل يفسد القلب ويصيبه بالغرور والازدهاء والتعالي، وهو تعالٍ مذموم؛ لأنه فخر بباطل، ومكابرة بجهل، واستقواء بالظن في مقابل اليقين والعلم الإلهي والوحي، وإذا كان ذلك كذلك كانت الأمية في ذلك الزمان محمدة، وكانت البيئة المناسبة للوحي الإلهي الأخير هي عين ما اختاره الله لرسالته ودينه فالحمد لله على اختياره وقضائه وحكمه، وصدق الله حيث يقول: } اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ{ (الأنعام: 124).
2- الصفاء العقلي والبقاء على الخلْقَة الأولى والسلامة من اللوثات الفلسفية المغْرقة والجدل المنطقي؛ ولذا كان الجدل العقلي بين مشركي مكة واليهود من جهة، والنبي الكريم ﷺ مقتصرا على الحجج العقلية التي تدركها وتحتج بها العقول الخالية من مقدمات الفلسفة وتخرصاتها؛ لذا رأينا أن الحجج التي احتج بها مشركو قريش لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وكلها شبه مما يَرِدُ على العقل الفطري، وهذه الشبه أخبر الله عنها في محكم تنزيله وأبطلها غاية الإبطال، كما رأينا أن اليهود اقتصرت حجتهم على المعارف النبوية السابقة التي استقوها من الوحي السابق، فهم إذاً لم يكن عندهم ما يحاجّون به ويجادلون به إلا بقايا ميراث النبوة، فكأنهم من حيث لا يشعرون ينصرون النبي ﷺ، ويسعف اليهودُ كفارَ قريش بالحجة، ولكنها من حيث لا يشعر الفريقان ستكون حجة للرسول ﷺ، وهذا من مكر الله بالفريقين؛ لأن اليهود قالوا سلوه عن كذا وكذا فإن أجاب فهو نبي. وتبين لنا أن الفريقين لم يجعلوا العقل معيارا للقبول أو الرفض فيما يقبلونه أو يرفضونه من الوحي.
3- التضحية من أجل المبدأ الذي يؤمنون به وهذا واضح جلي في سيرهم سواء في جاهليتهم أو في إسلامهم.
4- الشجاعة والإقدام فلم يعرف الجبن لهم طريقا، وكل مقام قاموه مع رسول الله ﷺ في جهاد فهو خير شاهد على ذلك،
5- القوة في الحجة واللدد في الخصومة.
6- أن هاتين المدينتين لم تكن لهما صلات فكرية أو سياسية أو اقتصادية بارزة، فهما يعيشان شبه عزلة اقتصادية وسياسية وفكرية وعقدية، وهذا كان سببا في أن توفّرَ لهما نوع من المحافظة على البيئة الأصلية السالمة من المؤثر الخارجي؛ ولأن لهذه البيئة من الخصائص والسمات ما لغيرها، ولأن الله أراد أن تبقى على مر الدهر موئلا للإسلام ومأرزا للدين؛ لذا جاء في التوجيهات الربانية والسنن النبوية المحافظة على مكة والمدينة فلا يدخلهما كافر، وألا يبقى في جزيرة العرب إلا الإسلام،
ثانيا: تبين لنا أن عصر الرسالة النبوية والخلافة الراشدة استغرق اثنين وخمسين سنة، وهذا والله أعلم لحكمة عظيمة لعل منها:
- أن خمسين سنة مدة كافية لأن يظهر فيها جيلان من البشر.
- أن هذه المدة كافية لأن يتربى الجيل الذي عاصر الرسول ﷺ ثم يتناسل منه جيل آخر ويتربى في بيئة الوحي سواء تربي على يد الرسول ﷺ أم على أيدي الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين، فيعيش هذان الجيلان ويُصْنعان على عين النبي الكريم ﷺ إيمانا وإسلاما وتسليما، وتعلما وتعليما، واعتقادا وسلوكا؛ فبهذا يكون قد حقق الله لهذا الدين أن يتخرج من مدرسة النبوة والخلافة الراشدة جيلان بشريان على أقل تقدير يحملان الدين الحق، لا يعرفان إلا الإسلام الصحيح والاعتقاد الموافق للحق، ولا يسلكان إلا طريق الهدى، خاليان من كل دغل وخطل، كيف لا وهم أصلا في بيئة لم تعرف السفسطة الفلسفية العقيمة.
- أن عصر الرسالة والخلافة كان كافيا لتطبيق الإسلام بكل تفاصيله وشعائره وأخلاقه وهديه، بل هذه المدة كفيلة بأن تظهر فيها كل الحالات المحتملة من انحراف أو غلو أو إفراط أو تفريط أو خطأ مرده إلى الضعف البشري سواء كان هذا الخطأ نتيجة شهوة أو شبهة، وهذه المدة كافية لتقويم كل اعوجاج، ورد كل شبهة أو شهوة خفية أو ظاهرة.
- أن هذه المدة كافية لأن تتربى أمة الرسالة تربية إيمانية راشدة على الوحي، وتتسابق في البذل والعطاء من أجله، وتعالج في هذه المدة كل النوازع السيئة في النفس البشرية.
ثالثا: تبين لنا أن للصحابة خصائص كثيرة اختصهم الله بها لحمل الرسالة، منها أنهم أفضل القرون بشهادة الرسول ﷺ، وأنهم عدول ثقات حازوا من الإيمان أفضله وأكمله وأوفاه حتى أثنى الله عليهم في آيات كثيرة، ومنها أنهم أعظم الناس متابعة وتصديقا لرسول الله ﷺ حتى كان تصديقهم مضرب المثل، وبهر تصديقُهم قلوبَ أعدائهم.
رابعا: تبين لنا أن الصحابة رضي الله عنهم لما نقلوا الوحي إلى خارج جزيرة العرب، وإلى البلاد التي عششت فيها الفلسفة، وأسِنت فيها العقول، وتخبطت فيها الأفهام، وفسدت فيها الفطر، لم تقبل فئام من تلك الأقوام ممن فسدت فطرهم، وتغيرت عقولهم، واضطربت مقاييسهم – لم تقبل الوحي كما قبله الصحابة، ولم يسلّموا له كتسليمهم، ولم يؤمنوا به كإيمانهم، ولم ينتفعوا به كانتفاعهم، بل عارضوه ونصبوا له المناهج المنحرفة التي أرغموا الوحي على أن يكون تابعا لها، وأن يخضعوا أدلته وبراهينه وحقائقه وغاياته إلى ما عندهم من العلم المرذول والمنطق المخذول، وبسبب ذلك تفرقت الأمة إلى مدارس ومناهج وفرق وأحزاب، كل يكفر مخالفه.
خامسا: تبين لنا أن العلاج الوحيد والمنهج الحق هو أن نعود إلى الوحي وإلى فهمه والعمل به وفق فهم الصحابة -رضي الله عنهم - ومن سار على منهجهم ممن جاء بعدهم، وهذا الأمر ليس غريبا ولا مستعصيا بل هو السبيل الذي اختاره الله لنبيه ولرسالته ولصحابة نبيه ﷺ ، وتبين لنا أن السبل إلى ذلك فيما يلي:
- العودة للوحي وفق فهم السلف، ذلك لأن الرسول ﷺ أخبرنا بأنها ستكون فتن، وأخبرنا بما يحدث فيها وبعدها من الابتداع وأرشدنا إلى المخرج، وخير مثال على هذا الطرح الذي طرحته أي العودة إلى الوحي، وأنه هو السبيل إلى النهوض العلمي والرقي الحضاري - تلك الدعوات السلفية التي ظهرت في القرون الأخيرة ولعل أبرزها دعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله رحمة واسعة، فقد استطاع بحمد الله وتوفيقه أن يقدم المنهج الشرعي في ميدان التعليم والعمل والتثقيف ونشر والوعي من خلال الرجوع إلى الوحي دون الخوض في مصطلحات الفلسفة والمنطق ومفرداتها ومسائلها وإشكالاتها، وقام على دعوته دولة متكاملة تجميع بين الوحي ومنجزات العصر.
- التخلي عن إقحام الفلسفة والمنطق في المسائل الشرعية التي مستندها وعمادها الوحي.
- إعادة صياغة مناهجنا التعليمة ووسائلها وأهدافها وسائر أدواتها بل سائر شؤوننا على هدي الوحي، وألا نظن أن الوحي يجب أن يصار إليه فقط في المسائل الدينية والشرعية والتعبدية، لا بل يجب أن يكون هو المهيمن والحاكم والمرشد لكل مناحي الحياة.
وفي الختام نختم الكلام كما بدأناه بالحمد والشهادة بالوحدانية والشهادة لنبيه ﷺ بالرسالة، فله الفضل والمن، وله الشكر وافرا تاما، ونسأله القبول والإخلاص.
ثبت المراجع
القرآن الكريم
-التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور، تأليف محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي، الناشر : مؤسسة التاريخ العربي، بيروت – لبنان، الطبعة : الأولى، 1420هـ/2000م.
-تفسير القرآن العظيم، تأليف أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي ، المحقق : سامي بن محمد سلامة، الناشر : دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة : الثانية 1420هـ - 1999م.
-تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، تأليف عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي،
المحقق : عبد الرحمن بن معلا اللويحق، الناشر : مؤسسة الرسالة، الطبعة : الأولى 1420هـ -2000م.
-الجامع الصحيح، تأليف محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، الناشر : دار الشعب – القاهرة، الطبعة: الأولى ، 1407هـ.
-جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير أبو جعفر الطبري ، تحقيق: أحمد محمد شاكر، الناشر : مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى ، 1420 هـ - 2000م.
-الرسول الأعظم في مرآة الغرب، عبد الراضي محمد عبد المحسن، نشر البرنامج العالمي بالتعريف بالنبي ﷺ ، الرياض.
-سنن النسائي ، تأليف أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن النسائي، تخريج الشيخ الالباني، الناشر : مكتب المطبوعات الإسلامية – حلب، الطبعة الثانية ، 1406 – 1986م.
-سير أعلام النبلاء، تأليف الامام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ، تحقيق : شعيب الارنؤوط، الناشر : مؤسسة الرسالة.
-السيرة النبوية، تأليف الإمام أبى الفداء إسماعيل بن كثير ، تحقيق : مصطفى عبد الواحد 1396 هـ - 1971 م، الناشر : دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع ـ بيروت – لبنان.
-شرح العقيدة الطحاوية، تأليف ابن أبي العز الحنفي، الناشر : المكتب الإسلامي – بيروت، الطبعة الرابعة ، 1391ه.
-الشفا بتعريف حقوق المصطفى - مذيلا بالحاشية المسماة مزيل الخفاء عن ألفاظ الشفاء، تأليف العلامة القاضي أبو الفضل عياض اليحصبي.
-صحيح ابن خزيمة، تأليف محمد بن إسحاق بن خزيمة أبو بكر السلمي النيسابوري، تحقيق: د. محمد مصطفى الأعظمي. الناشر : المكتب الإسلامي - بيروت ، 1390 – 1970.
-صحيح مسلم، تأليف أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، الناشر: دار الجيل بيروت، ودار الآفاق الجديدة ـ بيروت.
-الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، تأليف جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشرى، الناشر : دار الكتاب العربي ـ بيروت ، سنة الطبع : 1407 هـ.
-المستدرك على الصحيحين، تأليف محمد بن عبد الله أبو عبد الله الحاكم النيسابوري، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، الناشر : دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى ، 1411 – 1990م.
-مسند الإمام أحمد بن حنبل، تأليف أحمد بن حنبل أبو عبد الله الشيباني، الناشر : مؤسسة قرطبة – القاهرة.
-مفاتيح الغيب، تأليف محمد بن عمر المعروف بفخر الدين الرازى، دار النشر: دار إحياء التراث العربى ـ بيروت.
-الموافقات، تأليف إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي، المحقق : أبو عبيدة مشهور ابن حسن آل سلمان، الناشر: دار ابن عفان، الطبعة : الطبعة الأولى 1417هـ.
([1]) صحيح البخاري3/35.
([2]) الموافقات للشاطبي 2/ 109
([3]) صحيح مسلم، 8/58
([4]) المسند، 1/215، وقال الألباني حديث صحيح سنن النسائي، 5/268.
([5]) انظر جامع البيان، 4/275، وتفسير ابن كثير، 1/569
([6]) تيسير كلام المنان، 743.
([7]) التحرير والتنوير، 24/259.
([8]) تفسير ابن كثير 5/189.
([9]) الحديث أصله في صحيح مسلم 1/ 173، والمسند 2/ 274، 278، وصحيح ابن خزيمة 1/166.
([10]) صحيح البخاري 6/157. وصحيح مسلم 8/125.
([11]) الروض الأنف 1/270
([12]) الشفا بالتعريف بحقوق المصطفى 2/27، وانظر سير أعلام النبلاء 1/87.
([13]) سير أعلام النبلاء 1/134، والسيرة النبوية لابن كثير 2/392.
([14]) فتح القدير 6/411.
([15]) السيرة النبوية لابن كثير ص 499. وانظر الشفا بتعريف حقوق المصطفى1/262.
([16]) الرسول الأعظم في مرآة الغرب، عبد الراضي محمد عبد المحسن، 99 .
([17]) صحيح البخاري 3/224، وصحيح مسلم 7/184.
([18]) شرح النووي على مسلم 3/138.
([19]) الواسطية، ص22.
([20]) شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي 383 الطبعة المصرية.
([21]) تفسير ابن كثير 5/14.
([22]) المسند 2/ 245. قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
([23]) رواه الدار قطني 1/ 216، الاستيعاب 1/ 296.
([24]) درء تعارض العقل والنقل، 3/221
([25]) تفسير الكشاف 2/54.
([26]) المسند 4/11، سنن ابن ماجه1/125، المستدرك على الصحيحين 4/605.
([27]) صحيح مسلم 8/97.
([28]) مفاتيح الغيب 14/285.
([29]) المسند 4/126، قال الشيخ شعيب الأرنؤوط في تخريجه للمسند: حديث صحيح ورجاله ثقات وانظر ظلال الجنة 26 - 34 و 1037 - 1045، فقد خرج الألباني هذا الحديث هناك، ومسند الشاميين ص 237 و 276 و 403).
([30]) الموافقات 4/ 132-134.
([31]) فتنة التكفير للالباني 3- 5.
([32]) المسند 4/126، وسنن أبي داوود 4/ 329، السلسة الصحيحة 6 / 324 للألباني،.
([33]) صحيح البخاري 4/247.
([34]) الدرر السنية، ص 183.
([35]) تيسير الكريم المنان، ص 776.