الوصف المفصل
خطورة الاستهزاء بالدين
عبد الله بن عبد الرحمن السعد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، وعلى آله وصحبه والتابعين:
أمَّا بعد:
فإنَّ المحافظة على صحة الدين من أهم ما يجب على المسلم، ولذا يتعيَّن على المسلم أن يعرف الأمور التي تنقض ذلك حتى يجتنبها ويحذر من الوقوع فيها.
ومن نواقض الإسلام التي تساهل فيها كثير من الناس في هذا الزمان الاستهزاء بالله وبالرسول ﷺ وبدين الإسلام، فالواجب على المسلم أن يعرف ما يتعلَّق بهذا الناقض، وأن يحذر من الوقوع فيه، وأن ينكر على من يقع فيه حسب استطاعته، حتى يسلم له دينه وتبرأ ذمته أمام الله جل وعلا.
تعريف الاستهزاء
الاستهزاء: هو انتقاص الرَّب سبحانه وتعالى والسخرية منه، أو انتقاص الرسول ﷺ والسخرية منه، أو انتقاص الدين والسخرية به .. نعوذ بالله تعالى من ذلك كله.
قال أبو حامد الغزالي في «الإحياء» (3/ 131) «ومعنى السخرية: الاستهانة والتحقير، والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يُضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء» اﻫ.
وقال أبو العباس ابن تيمية في «الصارم المسلول» (131) «والاسم إ ذا لم يكن له حدُّ في اللغة كاسم الأرض والسماء والبحر والشمس والقمر، ولا في الشرع كاسم الصلاة والزكاة والحج والإيمان والكفر؛ فإنه يرجع في حدِّه إلى العرف كالقبض والحرز والبيع والرهن والكري ونحوها، فيجب أن يُرجع في الأذى والسب والشتم إلى العرف، فما عدَّه أهل العرف سَبًّا وانتقاصًا أو عيبًا أو طعنًا ونحو ذلك فهو من السب .. فعلى هذا كلُّ ما لو قيل لغير النبي عليه الصلاة والسلام أوجب تعزيرًا أو حدًّا بوجه من الوجوه فإنه من باب سبِّ النبي عليه الصلاة والسلام» اﻫ.
وقال أيضًا (540، 541):
«وإذا لم يكن للسب حدٌّ معروفٌ في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى عُرف الناس؛ فما كان في العُرف سبًّا للنبيِّ ﷺ فهو الذي يجب أن نُنزِل عليه كلام الصحابة والعلماء وما لا فلا» اﻫ.
وقال أيضًا (542-543):
«وإنَّ جماع ذلك أنَّ ما يعرف الناس أنه سبٌ فهو سبّ، وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والاصطلاحات والعادات وكيفية الكلام و نحو ذلك، وما اشتبه فيه الأمر أُلحِق بنظيره وشبهه».اﻫ
أدلَّة أنَّ الاستهزاء بالله أو الرسول أو الدين من نواقض الإسلام
الدليل على أن ذلك من نواقض الإسلام من أربعة أوجه:
الأول- ما جاء في كتاب الله عز وجل:
وهو قوله تعالى: }وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ{ [التوبة: 65، 66] فهذه الآية فيها النصُّ الواضح على أنَّ من استهزأ بآيات الله عزَّ وجل أو برسوله ﷺ أنه كافر بالله العظيم.
قال أبو العباس ابن تيمية في «الصارم المسلول» (32، 33):
«فهؤلاء لما تنقَّصوا النبي ﷺ حيث عابوه والعلماء من أصحابه، واستهانوا بخبره، أخبر الله أنهم كفروا بذلك إن قالوه استهزاء، فكيف بما هو أغلظ من ذلك؟ وإنما لم يُقِم الحدَّ عليهم لكون جهاد المنافقين لم يكن قد أُمِرَ به إذا ذاك، بل كان مأمورًا بأن يدع أذاهم، ولأنه كان له أن يعفو عمَّن تنقصه آذاه» اهـ.
وقال أيضًا كما في «مجموع الفتاوى» (7/272):
«وقول من يقول عن مثل هذه الآيات: إنهم كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أو لا بقلوبهم لا يصحُّ؛ لأنَّ الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر فلا يقال: "قد كفرتم بعد إيمانكم"؛ فإنهم لم يزالوا كافرين في الأمر نفسه، وإن أريد أنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان فهم لم يظهروا للناس إلا لخواصهم، وهم مع خواصهم ما زالوا هكذا، بل لَمَّا نافقوا وحذروا أن تنزل سورة تبين ما في قلوبهم من النفاق، وتكلموا بالاستهزاء، صاروا كافرين بعد إيمانهم، ولا يدلُّ اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين».
وقد بيَّن الله عزَّ وجل في آيات كثيرة من كتابه الكريم أنَّ من صفات الكفار والمنافقين الاستهزاء بالله جل وعلا وبآياته وبرسله وبالذين آمنوا، وأنَّ هذا الصفات من أبرز صفاتهم، وأن من أسباب عذابهم هو استهزاؤهم.
فمن الآيات الدالة على استهزائهم بالرسل:
قوله تعالى: }وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ{ [الأنعام: 10].
وقوله تعالى: }وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ{ [الأنبياء: 36].
وقوله تعالى: }وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا{ [الفرقان: 41].
وقوله تعالى: }وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ{ [الرعد: 32].
ومن الآيات الدالة على استهزائهم بآيات الله
قوله تعالى: }وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا{ [البقرة: 231]
وقوله تعالى: }ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا{ [الكهف: 106].
وقوله تعالى: }وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ{ [لقمان: 6، 7].
وقوله تعالى: }وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ{ [الجاثية: 10، 11].
وقوله تعالى: }فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ * وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ{ [الجاثية: 31، 35].
وقوله تعالى: }وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا{ [الكهف: 56].
ومن الآيات الدالة على استهزائهم بالدين:
قوله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ{ [المائدة: 57].
وقوله تعالى: }وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ{ [المائدة: 58].
ومن الآيات الدالة على استهزائهم بالمؤمنين:
قوله تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ{ [المطففين: 29-34].
وقوله تعالى: }وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ{ [البقرة: 14-16].
الاستهزاء من صفات الجاهلين
وقد أخبر الله عز وجل عن موسى عليه السلام مع قومه، فقال: }وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ{ [البقرة: 67].
فالاستهزاء بأوامر الله جلَّ وعلا من صفات الجاهلين، وهم الكفار كما تقدم في الآيات السابقة البعيدين عن العلم بالله عز وجل وآياته ورسله، وبالتالي كل من استهزأ بدين الله وشرعه فإنه سوف يكون مثل هؤلاء الكافرين، وحُكمه كحكمهم، كما قال تعالى: }وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا{ [النساء: 140].
والثاني- السنة:
والدليل على ذلك ما أخرجه ابن جرير (14/333) وابن أبي حاتم (6/1829) كلاهما من حديث هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلسك ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونًا ولا أكذب ألسُنًا، ولا أجبن عند اللقاء! فقال رجل في المجلس: كذبت ولكنك منافق، لأخبرنَّ رسول الله ﷺ، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ، ونزل القرآن، فقال عبد الله بن عمرو: أنا رأيته متعلِّقًا بحقب ناقة رسول الله ﷺ تنكبه الحجارة وهو يقول: يا رسول الله، إنما كنا نخوض و نلعب، ورسول الله ﷺ يقول: }أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ{ [التوبة: 65].
وهذا الإسناد إسناد حسن لا بأس به، فهشام بن سعد لا بأس به، وبالذات في زيد بن أسلم، وزيد بن أسلم اختلف في سماعه من ابن عمر، والصواب: أنه سمع منه فقد صرح في بعض الأحاديث بالسماع منه.
وقد جاء ما يشهد له عند ابن جرير (14/334) وابن أبي حاتم (6/1830) من حديث يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة قوله: }وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ{ [التوبة: 65] قال: بينما رسول الله ﷺ في غزوته إلى تبوك، وبين يديه أناس من المنافقين، فقالوا: أيرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها! هيهات، هيهات! فأطلع الله نبيه على ذلك، فقال نبي الله ﷺ: «احتبسوا عليَّ الركب» فأتاهم فقال: «قلتم كذا؟ قلتم كذا» قالوا: يا نبي الله، إنما كنا نخوض ونلعب! فأنزل الله فيهم ما تسمعون.
ورواه ابن جرير (14/334) أيضًا من طريق محمد بن ثور عن معمر عن قتادة بنحوه.
وجاء أيضًا عند ابن جرير (14/335) من طريق أبي معشر عن محمد بن كعب القرضي وغيره، قالوا: قال رجل من المنافقين: ما أرى قرَّاءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللقاء، فرفع ذلك إلى رسول الله ﷺ، فجاء إلى رسول الله ﷺ وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب فقال: }أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ{ إلى قوله: }كَانُوا مُجْرِمِينَ{ وإن رجليه لتسفعان الحجارة، وما يلتفت إليه رسول الله ﷺ وهو متعلِّق بنسعة رسول الله ﷺ.
فهذه الآثار وغيرها تشهد لحديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق.
والثالث- إجماع المسلمين قاطبة:
على أنَّ الاستهزاء بشيءٍِ من الدين كفر أكبر مخرج من الملَّة، وقد نقل هذا الإجماع بعض أهل العلم ومنهم أبو بكر بن العربي، والشيخ سليمان ابن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله على الجميع.
قال أبو بكر بن العربي في «أحكام القرآن» (2/543):
«لا يخلوا أن يكون ما قالوه من ذلك جِدًّا أو هزلاً، وهو كيفما كان كُفر؛ فإن الهزل بالكفر كفر، لا خلاف فيه بين الأمَّة، فإنَّ التحقيق أخو الحق والعلم، والهزل أخو الباطل والجهل» اﻫ.
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله في كتابه «تيسير العزيز الحميد» (553):
«باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول ﷺ، أي: أنه يكفر بذلك لاستخفافه بجناب الربوبية والرسالة، وذلك منافٍ للتوحيد، ولهذا أجمع العلماء على كُفر من فعل شيئًا من ذلك، فمن استهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله أو بدينه كفر، ولو هازلاً لم يقصد حقيقة الاستهزاء إجماعًا» اﻫ.
وقال أبو عبد الله محمد بن سحنون:
«أجمع العلماء أن شاتم النبي ﷺ المتنقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله له، وحُكمه عند الأمَّة القتل، ومن شكَّ في كفره وعذابه كفر» اﻫ. من «الشفا» للقاضي عياض (2/934-935).
وقال القاضي عياض (2/932):
«اعلم وفَّقنا الله وإياك أنَّ جميع من سبَّ النبي ﷺ أو عابه أو ألحق به نقصًا في نفسه أو نسبه أو دينه، أو خصلة من خصاله، أو عرض به أو شبهه بشيء على طريق السبِّ له، أو الإزراء عليه، أو التصغير لشأنه أو الغض منه والعيب له؛ فهو ساب لهـ، والحكم فيه حُكم الساب يقتل .. وكذلك من لعنه أو دعا عليه أو تمنى مضرَّة له، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذَّم، أو عبث في جهته العزيزة بسخفٍ من الكلام وهجوٍ ومنكر من القول وزور، أو عيَّره بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه، وهذا كلُّه إجماع من العلماء وأئمَّة الفتوى من لدنَّ الصحابة رضوان الله عليهم إلى هلم جرّا» اﻫ.
وقال أيضًا (2/1101):
«اعلم أنَّ من استخفَّ بالقرآن أو المصحف أو بشيءٍ منه، أو سبَّه أو جحده أو حرَّف منه ولو آية أو كذب به أو بشيءٍ منه، أو كذَّب بشيء ممَّا صرَّح به فيه من حُكم أو خبر، أو أثبت ما نفاه أو نفى ما أثبته على علم من بذلك، أو شكَّ في شيءٍ من ذلك، فهو كافرٌ عند أهل العلم بالإجماع، قال الله تعالى: }لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ{ اهـ.
وقال أبو العباس ابن تيمية في «الصارم المسلول» (546):
«فصل فيمن سبَّ الله تعالى، فإن كان مسلمًا وجب قتله بالإجماع لأنه بذلك كافر مرتد وأسوأ من الكافر، فإنَّ الكافر يعظم الرب، ويعتقد أنَّ ما هو عليه من الدين الباطل ليس استهزاءً بالله ولا مسبةً له».اﻫ
والرابع: أنَّ من جلس مع الذين يستهزئون بآيات الله ولم ينكر عليهم ولم يفارقهم وهو قادر على ذلك فهو مثلهم، كما تقدَّم في الآية السابقة، وسوف يأتي بإذن الله، مزيد بحث لذلك فكيف بالمستهزئ نفسه؟!
ومن المعلوم أنَّ الذين استهزءوا في عهد الرسول ﷺ لم يستهزئوا كلهم، بل تكلّم اثنان وسكت الثالث، ولكنه لم يُنكر ولم يفارقهم، فأصبح حُكمه كحكمهم، ولذا نزلت الآية الكريمة بالحكم على جميعهم بالكفر كما قال تعالى: }لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ{ [التوبة: 68]
ثم قال تعالى: }إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً{ [التوبة: 66]
إشارة إلى هذا الثالث الذي تاب توبةً صادقةً؛ فتوبته الصادقة منعت العذاب عنه.
قال القرطبي في «جامعه» (5/418):
«قوله تعالى: }فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ{ أي: غير الكفر }إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ{ فدلَّ بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛ لأنَّ من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم والرضا بالكفر كفر، قال الله عز وجل }إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ{.
فكلُّ من جلس في مجلس معصية ولم يُنكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلَّموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية.
وقد رُوِي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه أخذ قومًا يشربون الخمر، فقيل له عن أحد الحاضرين إنه صائم: فحمل عليه الأدب وقرأ هذه الآية }إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ{ أي أنَّ الرضا بالمعصية معصية، ولهذا يؤاخذ الفاعل والراضي بعقوبة المعاصي حتى يهلكوا بأجمعهم.
وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة كما قال:
فكل قرين بالمقارن يقتدي |
وقد تقدَّم .. وإذا ثبت تجنُّب أصحاب المعاصي كما بيَّنا فتجنُّب أهل البدع والأهواء أولى.
وقال الكلبي([1]):
«قوله تعالى: }فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ{ نُسخ بقوله تعالى: }وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ{».
وقال عامة المفسرين: هي محكمة.
وروى جويبر عن الضحاك قال: دخل في هذه الآية كلُّ محدث في الدين مبتدع إلى يوم القيامة اهـ.
وكثير من الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم مع كفرهم وضلالهم يمتنعون من الاستهزاء بالله، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، فهذا الذنب لا يصدر إلاَّ ممن هو غاية في الكفر، ولذا تجد أنَّ بعض من ينتسب للإسلام مع أنه لا يصلِّي ولا يزكِّي ولا يصوم ولا يحج، إلاَّ أنه يمتنع غاية الامتناع من الاستهزاء بالله أو بآياته أو برسله؛ لأنَّ هذا الذنب لا يصدر كما تقدّم إلا ممَّن هو غاية في الكفر والضلال.
فكلُّ من استهزاء بالله عز وجل أو بالرسول ﷺ أو بشيءٍ من الدين والعياذ بالله فإنه يكون كافرًا.
قال أبو العباس ابن تيمية في «الصارم المسلول» (551):
«وأمَّا الساب فإنه مظهر للتنقُّص والاستخفاف والاستهانة بالله مُنهك لحرمته انتهاكًا يعلم هو من نفسه أنه منتهكٌ مستخِفٌّ مستهزئٌ، ويعلم من نفسه أنه قد قال عظيمًا، وأنَّ السموات والأرض تكاد تنفطر من مقالته، وتخرُّ الجبال، وأن ذلك أعظم من كلِّ كفر وهو يعلم، أن ذلك كذلك» اهـ.
(2)
أحوال المستهزئ
المستهزئ بالله أو الرسول ﷺ أو دين الإسلام له ثلاث حالات، وكلُّ حالة لهم حُكم.
الأولى: أن يكون معتقدًا للسخرية والاستهزاء ومصدقًا بذلك، والاعتقاد هو عقد القلب على شيءٍ ما.
والثانية: أن يكون عن قصد ولكن بغير اعتقاد، وقد سبق حديث ابن عمر في الرجل الذي كان في مجلس و قال: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونًا ولا أكذب ألسنًا ولا أجبن عند اللقاء! فقال رجل في المجلس، كذبت ولكنك منافق، لأخبرنَّ رسول الله ﷺ، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ، ونزل القرآن فقال عبد الله بن عمر: أنا رأيته متعلقًا بحقب ناقة رسول الله ﷺ تنكبه الحجارة وهو يقول: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله ﷺ يقول: }أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ{ [التوبة: 65].
ففي هذه الآية الحكم بكفرهم، وهؤلاء، إن كانوا معتقدين لما قالوه وسوف يأتي بأنهم لم يكونوا معتقدين لما قالوه، فيكون استهزائهم عن اعتقاد وإن كان كلامهم هذا ليس ناشئًا عن تصديق واعتقاد بأن الرسول ﷺ ومن معه على هذه الصفة، وإنما قالوا ذلك مزحًا لا غير، فيكون كلامهم من قبيل الكذب والسخرية.
وهذا هو الذي حصل من هؤلاء النفر، فهم إنما كانوا يسخرون ويكذبون على سبيل المزح([2])، ولذلك قال الله عز وجل: }وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ{ [التوبة: 65] فهؤلاء قصدوا الاستهزاء ولكن لم يعتقدوه.
وحكم المستهزئ القاصد للاستهزاء، سواء كان معتقدًا أو غير معتقد واحد، وهو أنه يكون كافرًا بالله العظيم؛ لأنه لا يمكن أن يجتمع الاستهزاء مع الإيمان بالله عزَّ وجل، فلا يمكن أن يكون الإنسان عنده إيمان ويستهزئ بالله أو برسوله أو بدينه، ولذلك قال الله عز وجل: }لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ{ [التوبة: 66] ولكنَّ الاستهزاء مع الاعتقاد يكون أشد كفرًا من الاستهزاء بدون اعتقاد.
قال أبو العباس ابن تيمية في «الصارم المسلول» (369):
«فمن اعتقد الوحدانية في الألوهية لله سبحانه وتعالى، والرسالة لعبده ورسوله، ثم لم يُتبع هذا الاعتقاد موجَبَه من الإجلال والإكرام، الذي هو حال في القلب، يظهر أثره على الجوارح بل قارنه الاستخفاف والتسفيه والازدراء بالقول أو بالفعل؛ كان وجود ذلك الاعتقاد كعدمه، وكان ذلك موجبًا لفساد ذلك الاعتقاد، ومزيلاً لِما فيه من المنفعة والصلاح؛ إذ الاعتقادات الإيمانية تزكي النفوس وتصلحها، فمتى لم تُوجب زكاة النفس ولا صلاحها فما ذاك إلاَّ لأنها لم ترسخ في القلب، ولم تصر صفة ونعتًا للنفس ولا صلاحًا.
وإذا لم يكن علم الإيمان المفروض صفة لقلب الإنسان لازمة له لم ينفعه، فإنه يكون بمنزلة حديث النفس وخواطر القلب، والنجاة لا تحصل إلاَّ بيقين في القلب، ولو أنه مثقال ذرة، هذا فيما بينه وبين الله، وأما في الظاهر فيجري الأحكام على ما يظهره من القول والفعل.
والغرض بهذا التنبيه على أنَّ الاستهزاء بالقلب والانتقاص ينافي الإيمان الذي في القلب منافاة الضدِّ ضدّه، والاستهزاء باللسان ينافي الإيمان الظاهر باللسان كذلك.
والغرض بهذا التنبيه على أنَّ السب الصادر عن القلب يوجب الكفر ظاهرًا وباطنًا، هذا مذهب الفقهاء وغيرهم من أهل السنة والجماعة». اهـ.
الثالثة: أن يكون الاستهزاء عن سبق لسان وخطأ، كأن يريد الإنسان أن يقول كلمة ليس فيها استهزاء فيسبق لسانه إلى كلمة أخرى فيها استهزاء، خطأً من غير قصد، فهذا لا يؤاخذ بذلك.
ومما يدلُّ على ذلك: ما رواه مسلم (2747) من حديث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: «لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلة بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح، "اللهم أنت عبدي وأنا ربك"، أخطأ من شدة الفرح».
فهذا لم يؤاخذ بذلك، لأنه لم يكن قاصدًا لهذه الكلمة، وإما سبق لسانه إليها خطأ.
(3)
أنواع الاستهزاء
الاستهزاء ينقسم إلى نوعين:
النوع الأول: الاستهزاء الصريح، وهو الذي يكون بالقول كما حصل من النفر الذين قصَّ الله خبرهم.
والنوع الثاني: الاستهزاء غير الصريح، وهو في الغالب يكون بالفعل؛ مثل أن يحرك لسانه بقصد السخرية والانتقاص، كأن يذكر الرسول ﷺ عنده، فيحرك لسانه يريد الانتقاص، أو يحرك حاجبه يريد التقليل من شأنه ﷺ؛ فهذا من الاستهزاء غير الصريح.
وقد يكون الاستهزاء الفعلي في بعض الأحيان صريحًا كما لو حرَّك الإنسان يديه بصورة واضحة بقصد الاستهزاء، والله أعلم.
(4)
حكم من حضر الاستهزاء
هذا له ثلاث حالات:
الأولى: أن ينكر على هذا المستهزئ، وهذا قد فعل الواجب عليه.
والثانية: أن يقوم ولا يجلس مع المستهزئ، وهذا يكون قد امتثل قوله تعالى: }وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ{ [الأنعام: 68].
والثالثة: أن يجلس ويسكت ولا ينكر وهو عالم بالحكم، فهذا يكون كافرًا والعياذ بالله بنصِّ القرآن الكريم.
قال تعالى: }وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ{ [النساء: 140].
فقوله: }إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ{ [النساء: 140] يدلُّ على أنه كافر والعياذ بالله.
وأيضًا ممَّا يدلُّ على ذلك قوله تعالى: }قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ{ [التوبة: 66].
(5)
أمثلة واقعية على الاستهزاء بالدين
الواجب على الإنسان أن يُعظم ربَّه عز وجل، وأن يحترم رسوله ﷺ الاحترام الذي يليق به، وأن يحترم الدين الذي شرعه الله عز وجل.
والاستهزاء بالله أو بالرسول ﷺ أو بالدين ينافي التعظيم والاحترام وقد سبق بيان خطورة ذلك، ومع ذلك فإنَّ الاستهزاء منتشرٌ بين كثير من الناس في هذا الزمان، فتجد بعضهم يتكلَّم بكلمات فيها استهزاء بالله أو بدينه أو برسوله ﷺ ولا يلقي لها بالاً، وقد يكفر الإنسان بسبب كلمة .
ومن الأمثلة على ذلك:
قال عبد الله بن الإمام أحمد: سألت أبي عن رجل قال لرجل "يا ابن كذا وكذا أنت ومن خَلقك"، قال أبي: هذا مرتدٌّ عن الإسلام، قلت لأبي: تُضرب عنقه؟ قال: نعم، تضرب عنقه([3]) .
وقال الشيخ علي القاري:
«وفي "المحيط" من جلس على مكان مرتفع ويسألون منه مسائل بطريق الاستهزاء ثم يضربونه بالوسائد - مثلاً - وهم يضحكون كفروا جميعًا، أي لاستخفافهم بالشرع» اﻫ([4]) .
ومن ذلك ما جاء في «الظهيرية»:
«... أو قال فلان أقصر من }إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ{ كُفر، أي لأنه استهزأ بها. أو قال لمن يقرأ عند المريض سورة ياسين تلقمها في فم الميت كفر، أي: لاستخفافه بها». اهـ([5]).
ومن صور الاستهزاء بعقيدة اليوم الآخر ما نشرته جريدة «الأنباء» كما في مجلة «المجتمع» (عدد 496 - ص7 - 3 شوال 1400) من صورة لمجموعة من الممثلين شبه عراة قد تزاحموا داخل برميل وكُتب فوق الصورة عنوان كبير: «انحشروا في برميل»، وفي أسفل الصورة كُتِب تعليق عليها، وفي آخر التعليق وردت هذه العبارة: «... عمومًا إنها مباراة ممتعة، إنها مثل يوم الحشر»!..([6]).
ومن أمثلة الاستهزاء:
إنه في إحدى الجامعات في دولة من الدول الخليجية قامت طالبتان تنتميان لإحدى القوائم التي تدَّعي الديمقراطية بلبس الحجاب والنقاب والعباءة ودخلتا متنكرتين في كاڤتيريا كلية التجارة، وأخذتا تتحدثان بصوت عال، ومثير للانتباه مع بعض الطلاب، كما كشفتا عن ساقيهما وأجزاء أخرى من جسميهما، وقد قامتا بهذا العمل الشنيع علنًا أمام الطلبة ثم نزعتا الحجاب في أحد الأماكن من الجامعة وخرجتا لابستين بنطال الجنز بلا استحياء لتكتمل سخريتهما من الحجاب الإسلامي([7]).
وقد سألني مرَّة رجلٌ فقال: كان بعض الناس مجتمعين على طعام، فلما انشغلوا بالطعام عن الكلام قال أحدهم والعياذ بالله: }وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا{ [طه: 108] وهذا من السخرية والاستهزاء، فالأصوات إنما تخشع للرحمن، لا تخشع للطعام!
ومن ذلك: أنَّ رجلاً رأى إنسانًا مُعفيًا لحيته وحافًا شواربه، فقال: لماذا لا تحلق حواجبك أيضًا ! فهذا والعياذ بالله من السخرية أيضًا.
وكثير من الناس عندما يرى إنسانًا مقصرًا ثوبه فإنه يشير بيده يسخر بذلك، أو يسخر باللحية، أو بالحجاب أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو بالصلاة أو بالحج.
هذا فضلاً عمن يكون كلامه صريحًا جدًّا في الانتقاص والسخرية والعياذ بالله.
فالواجب على المسلم أن ينتبه لهذا الأمر، ويجتنب الوقوع فيه، ويحذر إخوانه من الوقوع في شيء من ذلك.
وعليه أن يحذر من الجلوس في المجالس التي يقع فيها شيء من السخرية والاستهزاء بالله أو بدينه أو برسوله ﷺ وقد سبق ذكر حكم من يجلس مع هؤلاء.
(6)
خطورة التلاعب بآيات الله وأحكامه
من الأمور الخطيرة التي تتعلَّق بهذا الموضوع التلاعب بآيات الله، والخوض في آيات الله بالباطل بأن يتكلم بكلام فيه تحليل لِما حرَّم الله أو بالعكس، أو إنزال الآيات في غير ما أنزلت فيه ومن ذلك.
قول بعض الناس عن لاعبي كرة القدم: «إنَّ هؤلاء مجاهدين».. ويقرأ قوله تعالى: }إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ{ [محمد: 7]، وما شابه ذلك، فيُنزل آيات قرآنية على أناس يلعبون الكرة!.. فهذا من الخوض في آيات الله بالباطل.
وكذلك أيضًا:
إذا أراد إنسان أن يفتتح مشروعًا أو مكانًا فيقرأ القارئ }إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا{ [الفتح: 1]، فهذا أيضًا أمرٌ خطيرٌ، لاسيما إذا كان هذا المكان افتتح لعملٍ محرّم أو لأعمال تضيع الأوقات، فتنزل الآية الكريمة العظيمة في الفتح الذي فتحه الله عز وجل لرسوله ﷺ على هذا الشيء!
وبعض الناس يذكر الآيات القرآنية في الكلام العادي، كأن يسأل الشخص مثلاً كم الساعة؟ فيقول، والعياذ بالله: }وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ{ [القمر: 46] .
أو يأتي أهله فيقول: }آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا{ [الكهف: 62] فهذا فيه نوعٌ استهانة بالقرآن الكريم.
وأما أن يستشهد الإنسان بالقرآن أو بالسنة النبوية فيما هو موافق للآية أو الحديث فهذا حقٌّ، كما في «صحيح البخاري» (371) أنّ رسول الله ﷺ قال يوم خيبر: «الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم }فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ{» قالها ثلاثًا، وهذا حقٌّ؛ فالنبي ﷺ إذا نزل بساحة قوم فساء صباح المنذرين.
والله تعالى أعلم .. وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه والتابعين ([8]) .
([1]) ونسب ابن كثير هذا إلى مقاتل بن حيان.
([2]) وقد جاء ذمُّ الذي يكذب من أجل إضحاك الناس، كما روى الإمام أحمد (5/2، 5، 7) وأبو داود (4990) والترمذي (2315) والنسائي في «الكبرى» (11126) من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنَّ الرسول ﷺ قال: «ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له».
([3]) مسائل أحمد برواية عبد الله (431).
([4]) ينظر الاستهزاء بالدين لأحمد القرشي (492).
([5]) ينظر الاستهزاء بالدين لأحمد القرشي (410).
([6]) ينظر الاستهزاء بالدين لأحمد القرشي (322).
([7]) ينظر الاستهزاء بالدين لأحمد القرشي (325، 326) نقلاً عن مجلة المجتمع عدد (618) (13 رجب 1403).
([8]) ومن أحسن الكتب التي ألفت في هذا الموضوع كتاب الاستهزاء بالدين أحكامه وآثاره، لأحمد بن محمد بن حاسن القرشي، فقد أجاد وأفاد في بيان هذا الموضوع، فجزاه الله تعالى خيرًا وبارك فيه، وقد استفدت منه في بعض الأمور التي ذكرتها في هذه الرسالة.