الوصف المفصل
- سلاح
اليقظان لطرد الشيطان
- في ذكر أحاديث وردت حول ما تقدم من السور والآيات
- فصل في ذكر بعض الأدعية الواردة
- نماذج يسيرة من إجابات الله لدعوات رسول الله ﷺ
- نماذج مما ذكره العلماء من استجابة الله لدعاء بعض الصالحين من الصحابة والتابعين
- نصائح وفوائد ومواعظ
- (مسائل ينبغي لمتعاطي البيع والشراء أن يلم بها)
- فوائد ومواعظ وإرشادات وأحكام
- نصائح وفوائد منوعة وحكم ووصايا ومواعظ وقصص وعبر
- مطالب عالية وقصص رائقة
- (خاتمة، وصية، نصيحة)
سلاح اليقظان لطرد الشيطان
تأليف الفقير إلى عفو ربه
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
[ بسم الله الرحمن الرحيم ]
الحمد لله الذي فتح أمام عباده أبواب الرحمة والغفران وأيقظ من شاء من خلقه فأدخله في جملة الأخيار ووفق من شاء من خلقه فجعله من الأبرار وبصر من أحبه فزهده في هذه الدار فاجتهدوا في مرضاته وتأهبوا لدار القرار واجتهدوا في طاعته وملازمة ذكره وحمده وشكره بالعشي والإبكار.
والصلاة والسلام على رسول الله الذي بلغ عن ربه ما تحيا به القلوب وملاء النفوس المؤمنة أملاً ورجاء فراحت تعبد الله في ثقة وتطمع في رضاه وجنته وتطمح لشفاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد فقد رأيت أن أحمع مختصرًا يحتوي على سور وآيات من كلام الله وأحاديث من كلام رسوله ﷺ ومن كلام أهل العلم مما يحث على طاعة الله وطاعة رسوله والتزود من التقوى لما أمامنا في يوم تشخص فيه الأبصار.
وسميت هذا المختصر اللطيف (سلاح اليقظان لطرد الشيطان) والله المسؤول ن يجأن أن أن يجعل عملنا خالصًا لوجهه الكريم وأن ينفعنا به وإخواننا المسلمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم الاستعاذة هي الالتجاء إلى الله تعالى والاعتصام والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر ومعنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أي أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي أو يصدني عن فعل ما أمرت به أو يحثني على فعل ما نهيت عنه فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله ولهذا أمر الإنسان بالاستعاذة منه قال الله جل وعلا: ]وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[ وقال تعالى: ]وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ[.
وقال تعالى: ]وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[.
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
]بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ (1) الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ [
بسم الله الرحمن الرحيم
]الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [.
]وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ[.
]وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ[.
]قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ[.
]اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ[.
]وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ[.
]آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [.
بسم الله الرحمن الرحيم
]الم (1) اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (3) مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (4) إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[.
]رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ[.
]شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًَا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[.
]قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[.
]تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ[.
]قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ[.
]إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ[.
]وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[، ]وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ[، ]قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ[.
]إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ[.
]حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ[.
]الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا[، ]وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا[.
]فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا[.
]فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ[.
]فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ[.
بسم الله الرحمن الرحيم
]وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلا الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ[.
بسم الله الرحمن الرحيم
]حم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ[.
]هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[.
بسم الله الرحمن الرحيم
]قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ[.
بسم الله الرحمن الرحيم
]قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ[. (ثلاثا)
بسم الله الرحمن الرحيم
]قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ[. (ثلاثا)
بسم الله الرحمن الرحيم
]قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ[. (ثلاثا)
(فصل)
في ذكر أحاديث وردت حول ما تقدم من السور والآيات
عن أبي هريرة t قال وكلني رسول الله ﷺ بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله ﷺ.
قال إني محتاج وعلي دين وعيال ولي حاجة شديدة فخليت عنه.
فأصبحت فقال النبي ﷺ: "يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة" قال قلت يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله. قال "أما إنه قد كذبك وسيعود" فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله ﷺ "إنه سيعود" فرصدته فجاء يحثو الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله ﷺ وهذه آخر ثلاث تزعم أنك لا تعود ثم تعود.
قال دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت ما هن قال إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي ]اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ[ حتى تختم الآية.
فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله فأصبحت فقال رسول الله ﷺ "ما فعل أسيرك البارحة" قلت يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله.
قال "ما هي" قلت قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية ]اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ[ وقال لي لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح.
فقال رسول الله "أما إنه قد صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب منذ ثلاث يا أبا هريرة قال لا، قال "ذاك الشيطان" رواه البخاري.
وعن أبي ابن كعب t عن النبي ﷺ قال: "يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم" قال قلت الله ورسوله أعلم. قال "يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله أعأعظم" قال قلت "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" قال فضرب في صدري وقال "ليهنك العلم أبا المنذر" رواه مسلم وأبو داود.
عن أبي مسعود الأنصاري قال قال رسول الله ﷺ: "من قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه" متفق عليه.
قيل كفتاه من قيام الليل وفي حديث مرفوع من قرأهما بعد العشاء مرتين أجزأتاه من قيام الليل ]آمَنَ الرَّسُولُ[ إلى آخر البقرة. وقيل كفتاه من شر الشيطان فلا يكون له عليه سلطان.
وفي حديث مرفوع إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام فأنزل منه هذه الثلاث آيات التي ختم بها البقرة من قرأهن في بيته لم يقرب الشيطان بيته ثلاث ليال.
قال أحد العلماء ويجوز أن يراد القولان معا كفتاه من الآفات ومن قيام الليل. وعن قتادة ذكر لنا أن النبي ﷺ كان يعلم أهله هذه الآية ]الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا[ الآية الصغير من أهله والكبير وجاء في حديث النبي ﷺ سمى هذه الآية آية العز وفي بعض الآثار أنها ما قرأت في بيت في ليلة فيصيبه سرق أو آفة والله أعلم وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه وسلم.
وعن أنس t قال: قال رسول الله ﷺ: "إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد فقد أمنت من كل شيء إلا الموت" رواه البزار ورجاله رجال الصحيح خلا غسان بن عبيد الموصلي ففيه خلاف.
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله ﷺ: "من قرأ آية الكرسي دبر صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت" رواه النسائي وصححه ابن حبان وزاد فيه الطبراني ]قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ[.
عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله ﷺ "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين ]وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ[ وفاتحة آل عمران ]اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ[" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
وعن أبي أماة t قال قال رسول الله ﷺ "اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث سور من القرآن في البقرة وآل عمران وطه" رواه ابن ماجة والطبراني والحاكم بسند صحيح.
عن أبي هريرة t عن النبي ﷺ "إن سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له هي ]تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ[" رواه أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم بسند صحيح.
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال ضرب بعض أصحاب رسول الله ﷺ خباءه على قبر وهو لا يعلم فإذا فيه إنسان يقرأ سورة ]تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ[ حتى ختمها فأتى النبي ﷺ فقال يا رسول الله ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر فإذا فيه إنسان يقرأ ]تَبَارَكَ[ حتى ختمها فقال رسول الله ﷺ "هي المانعة هي المنجية من عذاب القبر" رواه الترمذي بسند حسن.
وعن جابر t أن رسول الله ﷺ كان لا ينام حتى يقرأ ]الم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ[ السجدة و]تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ[ رواه أحمد والترمذي والنسائي والحاكم بسند صحيح.
وعن ابن مسعود t أن رسول الله ﷺ قال: "من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبدًا وقال وقد أمرت بناتي أن يقرأنها كل ليلة".
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي ﷺ قال "سورة الواقعة سورة الغنى فاقرؤها وعلموا أولادكم" أخرجه ابن عساكر.
وعن أنس عن النبي ﷺ قال "علموا نساءكم سورة الواقعة فإنها سورة الغنى" أخرجه الديلمي.
وعن أبي الدرداء t عن النبي ﷺ قال "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال" رواه مسلم وأبو داود.
وعن أبي الدرداء عن الرسول ﷺ قال "من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال" رواه مسلم وأحمد والنسائي.
اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور. أصبحنا وأصبح الملك لله والحمد لله لا شريك له لا إله إلا هو وإليه النشور.
أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص وعلى دين نبينا محمد ﷺ وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين.
اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه.
اللهم إني أصبحت منك في نعمة وعافية وستر فأتم علي نعمتك وعافيتك وسترك في الدنيا والآخرة.
اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي.
اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي.
عن الحارث بن مسلم التميمي قال قال النبي ﷺ إذا صليت الصبح فقل قبل أن تتكلم اللهم أجرني من النار سبع مرات فإنك إن مت من يومك كتب الله لك جوارًا من النار.
وإذا صليت المغرب فقل قبل أن تتكلم اللهم أجرني من النار سبع مرات فإنك إن مت من ليلتك كتب الله لك جوارًا من النار. رواه النسائي وهذا لفظه وأبو داود عن الحارث بن مسلم عن أبيه بن الحارث.
يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.
رضينا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ رسولاً.
سبحان الله وبحمده.
سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.
سبحان الله وبحمد لا قوة إلا بالله ما شاء الله كان وما لم يكن.
اعلم أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا.
وعن عثمان بن عفان أن رسول الله ﷺ قال: "من قال حين يصبح بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات لم تفجأه فاجئة بلاء حتى الليل وإن قالها حين يمسي لم تفجأه فاجئة حتى يصبح".
اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئًا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه. رواح أحمد والطبراني من حديث أبي موسى الأشعري.
أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق.
عن أبي هريرة t قال لدغت العقرب رجلاً من أصحاب رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله لدغت البارحة فأوصيت وكدت أموت.
فقال "أما إنك لو قلت أعوذ بكلمات الله التامات كلها من شر ما خلق لم يضرك شيء" فقالها الرجل فلدغ فلم تضره. رواه مسلم.
أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة.
أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون.
اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم وبكلماتك التامات من شر ما أنت آخذ بناصيته.
اللهم أنت تكشف المأثم والمغرم.
اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت.
أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءًا أو أجره إلى مسلم.
اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدًا عبدك ورسولك ﷺ.
اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم أعوذ بك من الهرم ومن فتنة الدنيا وعذاب القبر.
اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال.
اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر لا إله إلا أنت.
اللهم عافني في بدني، اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري لا إله إلا أنت.
(اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
من قالها في النهار موقنًا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة. رواه البخاري.
أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
اللهم صل على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه سلم تسليمًا عدد ما أحاطبه علمك وخط به قلمك وأحصاه كتابك.
وارض اللهم عن ساداتنا أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم ألحقنا بعبادك الصالحين الأبرار، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة. وقنا عذاب النار، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
ذكر ابن القيم رحمه الله الأسباب التي يعتصم بها من الشيطان.
الأول الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم قال تعالى ]وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[.
والمراد بالسمع هنا سمع الإجابة لا السمع العام.
الثاني قراءة المعوذتين فإن لهما تأثيرًا عجيبًا في الاستعاذة بالله من شر الشيطان ودفعه.
ولهذا قال النبي ﷺ ما تعوذ المتعوذون بمثلهما وكان ﷺ يتعوذ بهما كل ليلة عند النوم.
وأمر عقبة بن عامر أن يتعوذ بهما دبر كل صلاة وذكر ﷺ أن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثًا حين يمسي وثلاثًا حين يصبح كفتاه من كل شر.
الثالث قراءة آية الكرسي.
الرابع قراءة سورة البقرة ففي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال "إن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان".
الخامس خاتمة سورة البقرة فقد ثبت في الصحيح عنه ﷺ أنه قال "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه".
السادس أول سورة حم المؤمن إلى قوله ]إِلَيْهِ الْمَصِيرُ[ ففي الترمذي عن أبي هريرة t قال قال رسول الله ﷺ "من قرأ حم المؤمن إلى قوله ]إِلَيْهِ الْمَصِيرُ[.
وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح".
السابع لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة.
ففي الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة.
كانت عدل عشر رقاب وكتب له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكان حرزًا له من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل منه إلا رجل عمل أكثر من ذلك.
الثامن وهو أنفع الحروز من الشيطان كثرة ذكر الله عز وجل وهذا بعينه هو الذي دلت عليه سورة الناس.
فإنه وصف الشيطان فيها بأنه الخناس الذي إذا ذكر العبد ربه انخنس فإذا غفل عن ذكر الله التقم القلب وألقى إليه الوساوس.
فما أحرز العبد نفسه من الشيطان بمثل ذكر الله عز وجل.
الحرز التاسع الوضوء والصلاة وهذا من أعظم ما يحترز العبد به ولا سيما عند الغضب والشهوة فإنها نار تصلى في قلب ابن آدم.
كما روى الترمذي عن النبي ﷺ أنه قال ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم فما أطفأ العبد جمرة الغضب والشهوة بمثل الوضوء والصلاة.
فإن الصلاة إذا وقعت بخشوعها والإقبال على الله فيها أذهبت أثر ذلك جملة وهذا أمر تجربته تغني عن إقامة الدليل عليه.
الحرز العاشر إمساك فضول الكلام فإنها تفتح أبوابًا من الشر كلها مداخل للشيطان فإمساك فضول الكلام يسد عنك تلك الأبواب. انتهى
اللهم ألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لما وفقت له الصالحين من خلقك واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
ذكر أحد العلماء أن أبا هريرة قال التقى شيطان المؤمن وشيطان الكافر فإذا شيطان الكافر متعافي سمين كاسٍ وشيطان المؤمن مهزول ضعيف أشعث أغبر عاري.
فقال شيطان الكافر لشيطان المؤمن ما لي أراك مهزولاً قال أنا مع رجل إذا أكل سمى الله فأظل جائعًا وإذا شرب سمى الله فأظل عطشانًا وإذا لبس سمى الله فأظل عريانًا وإذا ادهن سمى الله فأظل شعثًا.
فقال شيطان الكافر لكني مع رجل لا يفعل شيئًا من ذلك فأنا أشاركه في طعامه وشرابه.
لأنه لا يذكر الله عند أكل ولا شرب ولا لبس وهذا ما يتمناه الشيطان نعوذ بالله منه انتهى.
قال وكان محمد بن واسع يقول كل يوم بعد صلاة الصبح اللهم إنك سلطت علينا عدوًا بصيرًا بعيوبنا يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم.
فأيسه منا كما أيسته من رحمتك وقنطه منا كما قنطته من عفوك وباعد بيننا وبينه كما باعدت بينه وبين رحمتك إنك على كل شيء قدير.
قال فتمثل له إبليس يومًا في طريق المسجد فقال له يا ابن واسع هل تعرفني قال ومن أنت قال أنا إبليس.
فقال وما تريد قال أريد أن لا تعلم أحدًا هذه الاستعاذة ولا أتعرض لك قال والله لا أمنعها ممن أرادها فاصنع ما شئت.
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلي قال كان شيطانًا يأتي النبي ﷺ بيده شعلة من نار فيقوم بين يديه وهو يصلي فيقرأ ويتعوذ فلا يذهب.
فأتاه جبريل عليه السلام فقال له قل أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها.
ومن فتن الليل والنهار ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمان فقال ذلك فطفئت شعلته وخر على وجهه.
وقال الحسن نبئت أن جبريل عليه السلام أتى النبي ﷺ فقال إن عفريتًا من الجن يكيدك فإذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي.
قال النبي ﷺ لقد أتاني فنازعني ثم نازعني فأخذت بحلقه فوالذي بعثني بالحق ما أرسلته حتى وجدت برد ماء لسانه على يدي.
ولولا دعوة أخي سليمان عليه السلام لأصبح طريحًا في المسجد.
وعن عبد الله بن مسعود قال خرج رجل من الإنس فلقيه رجل من الجن فقال هل لك أن تصارعني فإن صرعتني علمتك آية إذا قرأتها حين تدخل بيتك لم يدخله شيطان.
فصارعه فصرعه فقال أراك ضئيلاً كأن ذراعيك ذراعًا كلب أهكذا أنتم أيها الجن أم أنت من بينهم قال إني فيهم لضليع فعاودني فعاوده فصرعه الإنسي.
قال تقرأ آية الكرسي فإنه لا يقرؤها أحد إذا دخل بيته إلا خرج الشيطان وله خجيج كخجيج الحمار.
فقيل لابن مسعود أهو عمر فقال من عسى أن يكون إلا عمر.
وعن ابن عباس قال ليس في القرآن سورة أشد غيظًا لإبليس من قل يا أيها الكافرون فإنها براءة من الشرك وتوحيد وقال رجل للنبي ﷺ أوصني قال اقرأ عند منامك قل يا أيها الكافرون فإنها براءة من الشرك.
اللهم يا عالم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، يا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا أنت إليك المصير.
نسألك أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة رحمتك، يا أرحم الراحمين، وأرأف الرائفين، وأكرم الأكرمين.
اللهم اعتقنا من رق الذنوب، وخلصنا من شر النفوس، وأذهب عنا وحشة الإساءة، وطهرنا من دنس الذنوب، وباعد بيننا وبين الخطايا وأجرنا من الشيطان الرجيم.
اللهم طيبنا للقائك، وأهلنا لولائك وأدخلنا مع المرحومين من أوليائك، وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.
اللهم أعنا على ذكرك وحسن عبادتك، وتلاوة كتابك، واجعلنا من حزبك المفلحين، وأيدنا بجندك المنصورين، وارزقنا مرافقة الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
قال الله تبارك وتعالى وتقدس ]إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ[.
قال بعض أهل العلم في هذه الآية فوائد منها أن أصل أمر المتقين السلامة منه وإن عرض طيف بعض الأحيان.
ومنها قال إذا مسهم والمس ملامسة من غير تمكن كالكفار فإن الشيطان يتجرد عليهم ويختلس من قلوب المتقين حين تنام العقول الحارسة للقلوب.
فإذا استيقظوا انبعث من قلوبهم جيوش الاستغفار والذلة إلى الله تعالى والافتقار فاسترجعوا من الشيطان ما اختلسه وأخذوا منه ما أفترسه.
ومنها أنه أشار بالطيف إلى أنه لا يمكنه أن يأتي القلوب الدائمة المستيقظة إنما يأتي القلوب في حين منامها يرجو غفلتها ومن لا نوم له فلا طيف يرد عليه.
ومنها أن الطيف الذي في منامك فإذا استيقظت فلا وجود له.
ومنها أنه قال تذكروا ولم يقل ذكروا إشارة إلى أن الغفلة لا يطردها الذكر من غفلة القلب إنما يطردها التذكر والاعتبار لأن الذكر ميدانه اللسان والتذكر ميدانه القلب.
ومنها أنه قال تذكروا فحذف متعلقة ولم يقل تذكروا الجنة والنار والعقوبة لأن التذكر الماحي لطيف الهوى من قلوب المتقين على حسب مراتب المتقين.
ومرتبة التقوى يدخل فيها الرسل والأنبياء والصديقون والأولياء والصالحون والمسلمون فتقوى كل أحد على حسب مقامه.
لذلك يذكر كل واحد على حسب مقامه فلو ذكر قسمًا من أقسام التذكر لم يدخل فيه إلا أهل ذلك القسم.
ومنها قوله سبحانه ]فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ[ كأنه لم يذكر أعلى ذلك منامنه سبحانه عليهم كأنهم لما استيقظوا ذهبت سحابة الغفلة فأشرقت شمس البصيرة.
ومنها التوسيع على المتقين لأنه لو قال إن الذين اتقوا لا يمسهم طيف من الشيطان خرج كل أحد إلا أهل العصمة فأراد سبحانه أن يوسع دائرة رحمته. انتهى
ثم اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن التقوى التي أعد الله الجنة لأهلها قيل إنها امتثال الأوامر واجتناب النواهي.
وقيل هي اتقاء الشرك فما دونه من ذنب من كل ما نهى الله عنه واتقاء تضييع واجب مما افترض الله.
وهي وصية الله للأولين والآخرين قال الله جل وعلا ]ولقد وصينا الذين من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله[.
وقال جل وعلا ]أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ[.
وقد روي في الحديث أن المنادي ينادي يوم القيامة ]يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ[ فترفع الخلائق رؤوسهم يقولون نحن عباد الله عز وجل.
ثم ينادي الثانية ]الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ[ فينكس الكفار رؤوسهم، ويبقى الموحدون رافعي رؤوسهم.
ويبقى أهل التقوى رافعي رؤوسهم قد أزال عنهم الرب الكريم الخوف والحزن كما وعدهم وهو أصدق القائلين وأوفى الواعدين وأكرم الأكرمين لا يخذل وليه ولا يسلمه عند الهلكة.
اللهم يا عليم يا حليم يا قوي يا عزيز ياذا المن والعطا والعز والكبرياء يا من تعنوا له الوجوه وتخشع له الأصوات.
وفقنا لصالح الأعمال وأكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك إنك على كل شيء قدير.
اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتلم بها شعثنا، وترفع بها شاهدنا، وتحفظ بها غائبنا، وتزكي بها أعمالنا، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها من كل سوء يا أرحم الراحمين.
اللهم ارزقنا من فضلك، واكفنا شر خلقك، واحفظ علينا ديننا وصحة أبداننا.
اللهم يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقيل عثرات العاثرين، نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقًا والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(فصل)
عن زيد بن ثابت قال شكوت إلى رسول الله ﷺ أرقًا (أي سهرًا) أصابني فقال "قل اللهم غارت النجوم، وهدأت العيون، وأنت حي قيوم، اهد ليلي وأنم عيني".
فقلتها فاذهب الله عز وجل ما كنت أجد وعن محمد بن يحيى بن حبان أن خالد بن الوليد أصابه أرق فشكا ذلك إلى النبي ﷺ.
فأمره أن يتعوذ عند منامه بكلمات الله التامة من غضبه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون.
وعن بريدة قال شكا خالد بن الوليد إلى النبي ﷺ فقال يا رسول الله ما أنام من الأرق فقال النبي ﷺ "إذا أويت إلى فراشك فقل:
اللهم ربك السموات السبع وما أظلت، والأرضين وما أقلت، ورب الشياطين وما أضلت.
كن لي جارًا من شر خلقك كلهم جميعًا أن يفرط علي أحد منهم أو يطغى علي، عز جارك وجل ثناؤك، ولا إله غيرك ولا إله إلا أنت". انتهى
وفي سنن أبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن أنس قال قال رسول الله ﷺ من قال إذا خرج من بيته (بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله).
يقال له هديت وكفيت ووقيت، وتنحى عنه الشيطان قال الترمذي حديث حسن.
زاد أبو داود في روايته فيقول يعني الشيطان لشيطان آخر كيف لك برجل قد هدي ووقي وكفي.
وعن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله ﷺ يقول إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء.
وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله قال الشيطان أردكتم الميت.
وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه قال أدركتم المبيت والعشاء. رواه مسلم في صحيحه.
عن أبي مالك الأشعري قال قال رسول الله ﷺ إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلماتٍ أن يعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها.
فذكر التوحيد والصلاة والصيام والصدقة ثم قال وآمركم أن تذكروا الله فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعًا حتى إذا أتى حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله.
وقال أحد أهل العلم بلغني أن امرأة كانت إذا قامت من الليل قالت اللهم إن إبليس عبد من عبيدك ناصيته بيدك يراني من حيث لا أراه وأنت تراه من حيث لا يراك.
اللهم أنت تقدر على أمره كله وهو لا يقدر من أمرك على شيء اللهم إن أرادني بشر فاردده وإن كادني فكده أدرء بك في نحره وأعوذ بك من شره.
ثم بكت حتى ذهبت إحدى عينيها فقيل لها اتقي الله لئلا تذهب الأخرى فقالت إن كانت عيني من عيون أهل الجنة فسيبدلني الله ما هو أحسن منها وإن كانت من عيون أهل النار فأبعدها الله.
عن أبي هريرة t قال قال رسول الله ﷺ يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد إذا نام يضرب على كل عقدة مكانها عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ وذكر الله تعالى انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقده فأصبح نشيطًا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان متفق عليه.
اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم وبكلماتك التامات من شر ما أنت آخذ بناصيته.
اللهم أنت تكشف المآثم والمغرم.
اللهم لا يهزم جندك، ولا يخلف وعدك سبحانك وبحمدك.
تحصنت بالله الذي لا إله إلا هو إلهي وإله كل شيء واعتصمت بربي ورب كل شيء.
وتوكلت على الحي الذي لا يموت واستدفعت الشر بلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم حسبي الله ونعم الوكيل.
اللهم ووفقنا لصالح الأعمال، ونجنا من جميع الأهوال، وأمنا من الفزع الأكبر يوم الرجف والزلزال، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
تكلم أحد العلماء في بيان مداخل الشيطان إلى القلوب.
فقال رحمه الله اعلم أن القلب مثاله مثال حصن رفيع والشيطان عدو يريد أن يدخل الحصن ويملكه ويستولي عليه.
ولا يقدر على حفظ الحصن إلا بحراسة أبواب الحصن ومداخله ومواقع ثلمه، ولا يقدر على حراسة أبوابه من لا يعرف أبوابه.
وحماية القلب عن فساد الشيطان فرض عين واجب على كل عبد مكلف، وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب.
ولا يتوصل إلى دفع الشيطان إلا بمعرفة مداخله، فصارت معرفة مداخل الشيطان واجبة.
ومداخل الشيطان وأبوابه صفات العبد نحو الشهوة والغضب والحدة والطمع وغيرها وهي كثيرة، ولكنا نشير إلى معظم وسائله في إغواء الخلق وتسلطه عليهم بها إن شاء الله.
وجملتها وسائل عشرة نذكرها ونذكر كيفية علاجها والتخلص منها، فهذان تقريران.
التقرير الأول: في ذكرنا الوسيلة الأولى الحسد والحرص، فمن حصل فيه هاتان الخصلتان عمي وصم، وهما من أعظم مداخل الشيطان وأكبر وسائله.
وقد روي أن نوحًا عليه السلام لما ركب البحر وحمل في السفينة من كل زوجين اثنين كما أمر فرأى في السفينة شيخًا لم يعرفه.
فقال له نوح: من أدخلك؟ قال: دخلت لأصيب قلوب أصحابك فتكون قلوبهم معي وأبدانهم معك.
فقال نوح: أخرج يا عدو الله فإنك رجيم، فقال إبليس: خمس أهلك بهن الناس وسأحدثك منهن بثلاث، ولا أحدثك باثنتين.
فأوحى إلى نوح إنه لا حاجة لك إلى الثلاث، مره يحدثك بالاثنتين.
فقال: ما الاثنتان؟ فقال: هما اللتان لا تكذباني، هما اللتان لا تخلفاني بهما أهلك الناس الحرص والحسد.
فبالحسد لعنت وجعلت شيطانًا رجيمًا، وبالحرص أصبت حاجتي من آدم، أبيح لآدم الجنة كلها إلا الشجرة التي عرف بها فوسوست له حتى أكلها.
الوسيلة الثانية: الشهوة والغضب فإنهما من أعظم المكايد للشيطان، فمهما غضب الإنسان لعب به الشيطان، وعن بعض الأنبياء أنه قال لإبليس: بأي شيء تغلب يا ابن آدم؟ قال: آخذه عند الغضب وعند الهوى.
وظهر إبليس لراهب، فقال: أي أخلاق بني آدم أعون لك عليهم؟ فقال: الحدة، إن العبد إذا كان حديدًا قلبناه كما تقلب الصبيان الكرة.
وقيل لإبليس: كيف تقلب ابن آدم؟ فقال: إذا رضي جئت حتى أكون في قلبه، وإذا غضب جئت حتى أكون على رأسه.
الوسيلة الثالثة: حب الشهوات والزينة في الدنيا في الثياب والأثاث والدور والمراكب، فإن الشيطان إذا رأى ذلك غالبًا على قلب إنسان باض فيه وفرخ.
فلا يزال يدعوه إلى عمارة الدنيا وتزيين سقوفها وحيطانها وتوسيع الأبنية، ويدعوه إلى التزين بالأثواب ويستسخره طول عمره.
فإذا أوقعه فيها فقد استغنى عن معاودته فإن بعض ذلك يجر إلى بعض، فلا يزال يؤديه من شيء إلى شيء إلى أن يستاق إليه أجله فيموت وهو في بحر الأمني يعوم، وفي سبيل الضلال يخوض، ومن ذلك يخشى على الإنسان من سوء الخاتمة نعوذ بالله منها.
الوسيلة الرابعة: الطمع، فإذا كان الطمع غالبًا على القلب لم يزل الشيطان يحسن له التصنع لمن طمع فيه حتى يصير المطموع فيه كأنه معبوده.
وقد قال الرسول ﷺ "إياكم واستشعار الطمع فإنه يشرب القلب شدة الحرص ويختم على القلوب بطابع حب الدنيا، وهو مفتاح كل سيئة، وسبب إحباط كل حسنة".
هذا هو الغاية في الخسران والهلاك.
الوسيلة الخامسة: العجلة في الأمور وكثرة الطيش والفشل، وروي عن رسول الله ﷺ أنه قال "الأناة من الله والعجلة من الشيطان".
وروي كأكلأنه لما ولد عيسى عليه السلام أتت الشياطين إبليس فقالوا: أصبحت الأصنام قد نكست رؤوسها فقال: هذا حادث قد حدث مكانكم فطار حتى جاء خافقي الأرض.
فلم يجد شيئًا فوجد عيسى عليه السلام قد ولد. وإذا الملائكة قد حفت حوله.
فقال لهم: إن نبيًا قد ولد البارحة، ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلا وأنا بحضرتها إلا هذا فاستيسوا من عبادة الأصنام بعد هذه الليلة ولكن ائتوا بني آدم من قبل الخفة والعجلة.
عصمنا الله وإياكم من الزلل ووفقنا لصالح العمل وهدانا بفضله سبيل الرشاد وطريق السداد إنه جل شأنه نعم المولى ونعم النصير وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
تأالوسيلة السادسة: الفتنة بالدراهم والدنانير وسائر أصناف الأموال والعروض والدواب والعقارات وكل ما يكون فضله على قدر الحاجة والقوت فهو مستقر الشيطان.
وروي أن الرسول ﷺ لما بعث، قال إبليس لشياطينه: لقد حدث أمر فانظروا ما هو، فانطلقوا ثم جاءوا وقالوا: ما ندري قال إبليس: أنا آتيكم بالخبر.
فذهب وجاء، قال: قد بعث محمد ﷺ، قال: فجعل يرسل شياطينه إلى أصحاب الرسول ﷺ فينصرفون خائبين، فيقولون: ما صحبنا قومًا قط مثل هؤلاء، نصيب منهم ثم يقومون للصلاة فيمحون ذلك.
فقال إبليس: رويدًا بهم عسى الله أن يفتح لهم الدنيا فهناك تصيبون حاجتكم منهم.
الوسيلة السابعة: البخل وخوف الفقر فإن البخل هو أصل لكل خطيئة، وروي عن إبليس لعنه الله أنه قال: ما غلبني ابن آدم فلن يغلبني في ثلاث، آمره أن يأخذ المال من غير حقه وينفقه في غير حقه ويمنعه من مستحقه.
وقال سفيان الثوري: ليس للشيطان سلاح على الإنسان مثل خوف الفقر، فإذا قبل ذلك منه أخذ في الباطل ومنع من الحق وتكلم بالهوى وظن بربه السوء، وهو من أعظم الآفات على الدين.
الوسيلة الثامنة: سوء الظن بالمسلمين وقد قال تعالى ]اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ[.
ومن حكم بشيء على غيره بالظن فإن الشيطان يبعثه على أن يطول فيه اللسان بالغيبة فيهلك، أو يقصر في القيام بحقوقه أو يتوانى في إكرامه أو ينظره بعين الاحتقار أو يرى نفسه خيرًا منه.
وكل ذلك من المهلكات، فمهما رأيت إنسانًا يسيء الظن بالناس طالبًا لعيوبهم فاعلم أنه خبيث في الباطن، فإن المؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب العيوب للخلق.
وقديمًا قيل:
إِذَا سَاءَ فِعْلُ المَرْءِ سَاءَتْ ظُنُونُهُ وعَادَى مُحِبّيْهِ بِقَوْلِ عُدَاتِهِ | وصَدَّقَ مَا يَعْتَادُهُ مِنْ تَوَهُّمِ وأَصْبَحَ فِي لَيْلٍ مِنَ الشَّكِ مُظْلِمِ |
الوسيلة التاسعة: الشبع من الطعام والتأنق في المآكل الفاخرة، فإن الشبع يقوي الشهوات وهي أسلحة الشيطان التي بها يصول.
وروي أن إبليس ظهر يومًا ليحيى بن زكريا عليه السلام فرأى عليه معاليق من كل شيء، فقال له يحيى عليه السلام: ما هذه المعاليق.
فقال: هذه هي الشهوات التي أصيب بها بني آدم، فقال: هل لي منها شيء؟ فقال: ربما شبعت فتثاقلت عن الصلاة وعن الذكر.
فقال: هل غير ذلك؟ قال: لا، فقال يحيى: لله علي أن لا أملأ بطني، فقال إبليس: علي لله لا أنصح مسلمًا.
الوسيلة العاشرة: تعاطى العوام الذين لم يمارسوا العلوم ولم يتبحروا فيها بالتفكر في ذات الله عز وجل وصفاته وفي الأمور التي لا تبلغها عقولهم حتى يؤدي ذلك إلى الاعتقادات الكفرية وهم لا يشعرون.
وهم في غاية ما يكونون من الفرح والسرور والاطمئنان إلى ما وقع في صدورهم.
وهم في غاية الخطأ ويظنون أن ما اعتقدوه هو العلم والبصيرة، فما هذا حاله يكون من أعظم الأبواب للشيطان في اللعب بعقولهم وإيقاعهم في الأمور المكروهة.
فهذه وسائل الشيطان ومداخله إلى القلب وهي كثيرة، وفيما ذكرناه تنبيه على ما ورائها.
وبالجملة فليس في الآدمي صفة مذمومة إلا وهي سلاح للشيطان ومدخل من مداخله.
التقرير الثاني: في بيان العلاج في دفعها وإزالتها، اعلم أن علاج هذه الأمور وإزالتها إنما يكون بالدعاء إلى الله والالتجاء إليه في دفعها وإزالتها، وبالاجتهاد في قلع هذه الصفات المذمومة عن القلب، والعناية في ذكر الله عز وجل، فهذه دوافع ثلاثة نذكرها.
الدافع الأول: يكون باللجاء إلى الله بالدعاء راجيًا منه تحصيل الألطاف الخفية في إبعاد الشياطين وإزالتهم، وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: كان شيطانًا يأتي الرسول ﷺ وبيده شعلة نار فيقوم بين يديه وهو يصلي فيقرأ ويتعوذ فلا يذهب.
فأتى جبريل عليه السلام إلى النبي ﷺ فقال له ﷺ: قل أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها.
ومن شر فتن الليل والنهار وطوارق الليل والنهار إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن، فطفيت شعلته وخر على وجهه.
وعن الحسن البصري أنه قال: نبئت أن جبريل أتى رسول الله ﷺ فقال: إن عفريتًا من الجن يكيدك فإذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي.
وعن الرسول ﷺ أنه قال: أتاني شيطان فنازعني ثم نازعني فأخذت بحلقه والذي بعثني بالحق ما أرسلته حتى وجدت برد لسانه على يدي، ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح طريحًا حتى تنظروا إليه.
الدافع الثاني: العناية في إزالة هذه الصفات المذمومة من القلوب وقلعها منها فإن الشيطان مثل الكلب في التسلط على الإنسان.
فإذا كان الإنسان متصفًا بهذه الصفات الذميمة من الغضب والحسد والحرص والطمع وغيرها كان بمنزلة من يكون بين يديه خبز ولحم فإن الكلب لا محالة يتهور عليه ويتوثب ولا يندفع غالبًا إلا بمشقة شديدة، وإن لم يكن متصفًا بها لم يطمع فيه لأنه لا داعي له هنالك ويكون دفعه بأسهل ما يكون وأيسره فإنه يندفع بالنهر والخسا والزجر، فتزال بنقائضها.
فيزال الغضب بالرضاء والسكينة، ويزال الكبر بالتواضع، ويزال الحسد بمعرفة حق المحسود وأن الذي اختص به فضل من الله فلا يمكن دفعه.
ويزال الطمع بالروع والاكتفاء بما أعطاه الله عز وجل، ويزال الحرص بتحقيق حال الدنيا وانقطاعها بالموت.
وهكذا تفعل في كل خصلة مذمومة بالاجتهاد في إزالتها.
الدافع الثالث: ذكر الله تعالى، وإليه الإشارة بقوله تعالى ]إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ[.
والمعنى أنهم إذا ألم بقلوبهم شيء من هذه الصفات الذميمة فزعوا إلى ذكر الله تعالى وتذكروه، فعند ذلك يحصل التبصر لهم في عواقب أمورهم.
نعم الذكر لا يكون طاردًا للشيطان إلا إذا كانت القلوب معمورة بالخوف والتقوى.
فأما إذا كانت خالية عن ذلك فربما يكون الذكر غير مجد، ومثال هذا من يطمع في شرب الدواء قبل الأحتمى والمعدة مشحونة بغليظ الطعام ويطمع في أنه ينفعه كما ينفع الذي يشربه بعد الأحتمى وتخلية المعدة عن الأطعمة.
فالذكر هو الدواء والتقوى هو الأحتمى، فإذا حصل الذكر في قلب فارغ من غير الذكر اندفع الشيطان كما تندفع العلة بنزول الدواء في معدة خالية عن الأطعمة كما أشار إليه تعالى بقوله ]إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ[.
اللهم إنا نسألك حياة طيبة، ونفسًا تقية، وعيشة نقية، وميتة سوية، ومردًا غير مخزي ولا فاضح.
اللهم اجعلنا من أهل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يا رب العالمين.
"اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير".
يا ودود يا ذا العرش المجيد يا مبدئ يا معيد يا فعال لما تريد نسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك وبقدرتك التي قدرت بها على جميع خلقك وبرحمتك التي وسعت كل شيء لا إله إلا أنت أن تغفر ذنوبنا وسيئاتنا وأن تبدلها لنا بحسنات إنك جواد كريم رؤوف رحيم.
اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
وقال ابن القيم رحمه الله:
[العقبات التي يتدرج منها الشيطان لإغواء العبد] هي ما يلي:
"العقبة الأولى":
عقبة الكفر بالله ولقائه وبصفات كماله وبما أخبرت به رسله عنه، فإنه إن ظفر به في هذه العقبة بردت نار عداوته واستراح.
فإن اقتحم هذه العقبة ونجا منها ببصيرة الهداية وسلم معه نور الإيمان طلبه على:
"العقبة الثانية":
وهي عقبة البدعة إما باعتقاد خلاف الحق الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه، وإما بالتعبد بما لم يأذن به الله، من الأوضاع والرسوم المحدثة في الدين التي لا يقبل الله منها شيئًا.
والبدعتان في الغالب متلازمتان قل أن تنفك إحداهما عن الأخرى، كما قال بعضهم؛ تزوجت بدعة الأقوال ببدعة الأعمال، فاشتغل الزوجان بالعرس فلم يفجأهم إلا وأولاد الزنا يعيشون في بلاد الإسلام، تضج منهم العباد والبلاد إلى الله تعالى.
وقال شيخنا: تزوجت الحقيقة الكافرة بالبدعة الفاجرة فتولد بينهما خسران الدنيا والآخرة.
فإن قطع هذه العقبة وخلص منها بنور السنة واعتصم منها بالحقيقة المتابعة وما مضى عليه السلف الأخيار من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
وهيهات أن تسمح الأعصار المتأخرة بواحد من هذا الضرب، فإن سمحت به نصب له أهل البدع الجبائل ويبغوه الغوائل وقالوا: مبدع محدث، فإذا وفقه الله لقطع هذه العقبة طلبه على:
"العقبة الثالثة":
وهي عقبة الكبائر فإن ظفر فيها زينها له وحسنها في عينه وسوف به وفتح له باب الإرجاء وقال له: الإيمان هو التصديق نفسه فلا تقدح فيه الأعمال (أي أعمال الفسوق والعصيان).
وربما أجرى على لسانه وأذنه كلمة طالما أهلك بها الخلق وهي قوله: (لا يضر مع التوحيد ذنب كما لا ينفع مع الشرك حسنة) والظفر به في عقبة البدعة أحب إليه، لمناقضتها الدين، ودفعها لما بعث الله به رسوله.
وصاحبها لا يتوب منها، ولا يرجع عنها بل يدعو الخلق إليها والاجتهاد على إطفاء نور السنة.
وتولية من عزله الله ورسوله، وعزل من ولاه الله ورسوله، واعتبار ما رده الله وروسوله، ورد ما اعتبره، وموالاة من عاداه، ومعاداة من والاه وإثبات ما نفاه، ونفي ما أثبته.
وتكذيب الصادق وتصديق الكاذب، ومعارضة الحق بالباطل وقلب الحقائق بجعل الحق باطلاً والباطل حقًا، والإلحاد في دين الله، وتعمية الحق على القلوب وطلب العوج لصراط الله المستقيم، وفتح باب تبديل الدين جملة.
فإن البدع تستدرج بصغيرها إلى كبيرها، حتى ينسلخ صاحبها من الدين كما تنسل الشعرة من العجين.
فمفاسد البدع لا يقف عليها إلا أرباب البصائر، والعميان ضالون في ظلمة العمى ]وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ[.
فإن قطع هذه العقبة بعصمة الله أو بتوبة نصوح تنجيه منها طلبه على:
"العقبة الرابعة":
وهي عقبة الصغائر فكال له منها بالقفزان وقال: ما عليك إذا اجتنبت الكبائر ما غشيت اللمم أو ما علمت أنها تكفر باجتناب الكبائر وبالحسنات، ولا يزال يهون عليه أمرها حتى يصر عليها.
فيكون مرتكب الكبيرة الخائف الوجل النادم أحسن حالاً منه، فالإصرار على الذنب أقبح منه ولا كبيرة مع التوبة والاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار.
وقد قال ﷺ: "إياكم ومحقرات الذنوب" ثم ضرب لذلك مثلاً بقوم نزلوا بفلاة من الأرض فأعوزهم الحطب، فجعل هذا يجيء بعود وهذا بعود حتى جمعوا حطبًا كثيرًا فأوقدوا نارًا وأنضجوا خبزتهم.
فكذلك فإن محقرات الذنوب تتجمع على العبد وهو يستهين بشأنها حتى تهلكه.
فإن نجا من هذه العقبة بالتحرز والتحفظ ودوام التوبة والاستغفار وأتبع السيئة الحسنة طلبه على:
"العقبة الخامسة":
وهي عقبة المباحات التي لا حرج على فاعلها، فشغله بها عن الاستكثار من الطاعات، وعن الاجتهاد في التزود لمعاده ثم طمع فيه أن يستدرجه منها إلى ترك السنن ثم إلى ترك الواجبات.
وأقل ما ينال منه: تفويته الأرباح والمكاسب العظيمة والمنازل العالية، ولو عرف السعر ما فوت على نفسه شيئًا من القربات، ولكنه جاهل بالسعر.
فإن نجا من هذه العقبة ببصيرة تامة ونور هاد ومعرفة بقدر الطاعات والاستكثار منها وقلة المقام على الميناء وخطر التجارة وكرم المشتري، وقدر ما يعوض به التجار فبخل بأوقاته وضن بأنفاسه أن تذهب في غير ربح، طلبه العدو على:
"العقبة السادسة":
وهي عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات فأمره بها وحسنها في عينه وزينها له وأراه ما فيها من الفضل والربح، ليشغله بها عما هو أفضل منها وأعظم كسبًا وربحًا.
لأنه لما عجز عن تخسيره أصل الثواب طمع في تخسيره كماله وفضله، ودرجاته العالية، فشغله بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن الراجح، وبالمحبوب لله عن الأحب إليه، وبالمرضي عن الأرضى له.
ولكن أين أصحاب هذه العقبة؟ فهم الأفراد في العالم. والأكثرون قد ظفر بهم في العقبات الأول.
فإن نجا منها بفقه في الأعمال ومراتبها عند الله ومنازلها في الفضل، ومعرفة مقاديرها والتمييز بين عاليها وسافلها ومفضولها وفاضلها ورئيسها ومرؤوسها وسيدها ومسودها.
فإن في الأعمال سيدًا ومسودًا ورئيسًا ومرؤوسًا وذروة ما دونها، كما في الحديث الصحيح: "سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت" الحديث.
وفي الحديث الآخر: "الجهاد ذروة سنام الأمر" وفي الأثر الآخر: "إن الأعمال تفاخرت فذكر كل عمل منها مرتبته وفضله وكان للصدقة مزية في الفخر عليهن".
ولا يقطع هذه العقبة إلا أهل البصائر والصدق من أولي العلم السائرين على جادة التوفيق، قد أنزلوا الأعمال منازلها وأعطو كل ذي حق حقه.
فإذا نجا منها أحد لم يبق هناك عقبة يطلبه العدو عليها سوى واحدة لابد منها، ولو نجا منها أحد لنجا منها رسل الله وأنبياؤه وأكرم الخلق عليه.
وهي عقبة تسليط جنده عليه بأنواع الأذى باليد واللسان والقلب على حسب مرتبته في الخير، فكلما علت مرتبته أجلب عليه العدو بخيله وظاهر عليه بجنده، وسلط عليه خزبه وأهله بأنواع التسليط.
وهذه العقبة لا حيلة له في التخلص منها، فإنه كلما جد في الاستقامة والدعوة إلى الله والقيام له بأمره جد العدو في إغراء السفهاء به، فهو في هذه العقبة قد لبس لأمة الحرب، وأخذ في محاربة العدو لله وبالله.
فعبوديته فيها عبودية خواص العارفين وهي تسمى عبودية المراغمة ولا ينتبه لها إلا أولوا البصائر التامة، ولا شيء أحب إلى الله مراغمة وليه لعدوه وإعاظته له. اهـ
اللهم اعتقنا من رق الذنوب، وخلصنا من أشر النفوس، وأذهب عنا وحشة الإساءة، وطهرنا من دنس الذنوب، وباعد بيننا وبين الخطايا وأجرنا من الشيطان الرجيم.
اللهم طيبنا للقائك، وأهلنا لولائك وأدخلنا مع المرحومين من أوليائك، وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وتلاوة كتابك، واجعلنا من حزبك المفلحين، وأيدنا بجندك المنصورين، وارزقنا مرافقة الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
اللهم يا فالق الحب والنوى، يا منشئ الأجساد بعد البلى يا مؤي المنقطعين إليه، يا كافي المتوكلين عليه، انقطع الرجاء إلا منك، وخابت الظنون إلا فيك، وضعف الاعتماد إلا عليك نسألك أن تمطر محل قلوبنا من سحائب برك وإحسانك وأن توفقنا لموجبات رحمتك وعزائم مغفرتك إنك جواد كريم رؤوف غفور رحيم. وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
قال رجل للحسن يا أبا سعيد أينام الشيطان فتبسم وقال لو نام لاسترحنا.
فإذًا لا خلاص للمؤمن منه نعم له سبيل إلى دفعه وتضعيف قوته قال النبي ﷺ إن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيره في سفره.
وقال ابن مسعود شيطان المؤمن مهزول.
وقال قيس بن الحجاج قال لي شيطاني دخلت فيك وأنا مثل الجزور وأنا الآن مثل العصفور قلت ولم ذاك قال تذيبني بذكر الله تعالى.
وعن أبي بكر t قال قال رسول الله ﷺ عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار فأكثروا منهما فإن إبليس قال أهلكت بني آدم بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار.
فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء وهم يحسبون أنهم مهتدون. رواه الحافظ أبو يعلي والموصلي وقال مجاهد ما من شيء أكسر لظهر إبليس من "لا إله إلا الله".
وقال عباس الدوري سمعت يحيى بن معين يقول كنت إذا دخلت منزلي قرأت آية الكرسي مرة.
فبينا أنا ذات ليلة أقرؤها فإذا هاتف يقول كم تقرأ هذه ليس أحد يحسن يقرؤها غيرك.
فقلت مجيبًا له وأرى هذا يسؤك والله لأزيدنك فصرت أقرؤها في الليلة خمسين مرة أو ستين مرة قال عباس فحدثت محمد بن سهل فقال كان جريًا على الإنس والجن أو كما قال.
وقال بشر بن منصور عن وهيب بن الورد خرج رجل إلى الجبانة بعد ساعة من الليل فسمع حسًا وأصواتًا شديدة وجيء بسرير وجاء شيء جلس عليه واجتمع إليه جنود.
ثم صرخ من لي بعروة بن الزبير فلم يجبه أحد حتى تابع ما شاء الله من الأصوات فقال واحد منهم أنا أكفيكه.
قال فتوجه نحو المدينة وأنا أنظر ثم أوشك الرجعة فقال لا سبيل إلى عروة قال ويلك لم قال يقول كلمات إذا أصبح وإذا أمسى فلا يخلص إليه.
قال الرجل فلما أصبحت قلت لأهلي جهزوني فأتيت المدينة فسألت عنه حتى دللت عليه فإذا شيخ فقلت شيئًا تقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت.
فأبى أن يخبرني فأخبرته بما رأيت وبما سمعت فقال ما هو غير أني أقول إذا أصبحت:
آمنت بالله العظيم وكفرت بالجبت والطاغوت واستمسكت بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم.
إذا أصبحت قلت ثلاث مرات وإذا أمسيت قلت ثلاث مرات.
وعن ابن عباس أنه قال إن الشياطين قالوا لإبليس يا سيدنا إنا لنفرح بموت العالم ما لا نفرح بموت العابد والعالم لا نصيب منه.
قال انطلقوا فانطلقوا إلى عابد وأتوه في عبادته فقالوا نريد أن نسألك فقال سل.
فقال إبليس هل يقدر ربك أن يجعل الدنيا في جوف بيضة قال لا أدري قال أترونه كفر في سماعه.
ثم جاء إلى رجل عالم في حلقة يضاحك أصحابه فقالوا إنا نريد أن نسألك فقال سل.
فقال هل يقدر بك أن يجعل الدنيا في جوف بيضة قال نعم قال كيف.
قال يقول كن فيكون، قال أترون ذلك لا يعدو نفسه هذا يفسد علي عالمًا كثيرًا.
اللهم إنك تعلم سرنا وعلانيتنا وتسمع كلامنا وترى مكاننا لا يخفى عليك شيء من أمرنا نحن البؤساء الفقراء إليك المستغيثون المستجيرون بك نسألك أن تقيض لدينك من ينصره ويزيل ما حدث من البدع والمنكرات ويقيم علم الجهاد ويقمع أهل الزيغ والكفر والعناد ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.
موعظة
إخواني أين أحبابكم الذين سلفوا أين أترابكم الذين رحلوا وانصرفوا، أين أصحاب الأموال وما خلفوا.
ندموا والله على التفريط يا ليتهم عرفوا هول مقام يشيب منه الوليد، ]وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ[.
فوا عجبًا لك كلما دعيت إلى الله توانيت، وكلما حركتك المواعظ إلى الخيرات أبيت، وعلى غيك وجهلك تماديت، وكم حذرت من المنون فما التفت إلى قول الناصح وتركته وما باليت.
يا من جسده حي ولكن قلبه ميت، ستعاني عند قدوم هادم اللذات ما لا تشتهي وتريد ]وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ[.
كم أزعج الموت نفوسًا من ديارها، وكم أتلف البلى من أجساد منعمة لم يدارها، وكم أذل في التراب وجوهًا ناعمة بعد رفعتها واستقرارها.
انتبه يا أخي فالدنيا أضغاث أحلام، ودار فناء ليست بدار مقام، ستعرف وتفهم نصحي لك بعد أيام.
وما غاب عنك ستراه على التمام إذ اكشف الغطاء عنك وصار بصرك حديد، وهناك تندم ولات ساعة ندم.
شعرًا:
قُلْ لِلَّذِي أَلِفَ الذُّنُوبَ وأَجْرَمَا لا تَيْأَسَنْ واطلب كريمًا دائِمًا يا مَعْشَرَ العَاصِيْنَ جُوْدٌ وَاسِعٌ يا أَيُّهَا العَبْدُ المُسِيْء إِلَى مَتَى بادِرْ إِلَى مَوْلاكَ يَا مَن عُمْرُهُ واسْأَلَهُ تَوْفِيْقًا وعَفْوًا ثُمَّ قُلْ ثُمَّ الصلاة على النبي أَجَلُّ مَنْ وعَلَى صَحَابتِهِ الأفاضَلِ كُلِّهِم | وغَدَ عَلَى زَلاتِهِ مُتَنِدِمًا يُوْلِي الجَمِيْل تَفَضُلاً وتَكَرُّمًا عِنْدَ الإِلَهِ لِمَنْ يَتُوبُ ويَنْدَمَا تُفْني زَمَانَكَ في عَسَى ولَرُبَّمَا قَدْ ضَاعَ فِي عِصْيَانِهِ وتَصَرَّمَا يَا رَبِّ بَصّرْنِي وزلْ عَنِّيْ العَمَا قَدْ خُصَّ بالتَّقْرِيْبِ مِن ربِّ السَّمَا مَا سَبَّحَ الدَّاعِي الإِلَه وعَظَّمَا |
اللهم انظمنا في سلك حزبك المفلحين، واجعلنا من عبادك المخلصين وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
قال أحد العلماء:
اعلم أن القلب كالحصن وعلى ذلك الحصن سور وللسوء أبواب وفيه ثلم وساكنه العقل والملائكة تتردد إلى ذلك الحصن وإلى جانب الحصن ربض (وهو المكان يؤوى إليه).
وفيه الهوى والشياطين تختلف إلى ذلك الربض من غير مانع والحرب قائم بين أهل الحصن وأهل الربض والشياطين لا تزال تدور حول الحصن تطلب غفلة الحارس والعبور من بعض الثلم وأن لا يفتر عن الحراسة لحظة فإن العدو لا يفتر.
وينحصر شر الشيطان في ستة أجناس لا يزال بابن آدم حتى ينال منه واحدًا منها وأكثر.
أحدها شر الكفر والشرك.
ثانيًا البدعة.
ثالثًا كبائر الذنوب.
رابعًا الصغائر.
ثم الاشتغال بالمباحات عن الاستكثار من الطاعات.
ثم الاشتغال بالمفضول عن الفاضل.
والأسباب التي يعتصم بها العبد من الشيطان عشرة.
أولاً الاستعاذة بالله.
ثانيًا قراءة المعوذتين.
ثالثًا قراءة آية الكرسي.
رابعًا قراءة البقرة.
خامسًا قراءة أول سورة حم المؤمن إلى ]إِلَيْهِ الْمَصِيرُ[.
سابعًا لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك والحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة.
ثامنًا كثرة ذكر الله.
تاسعًا الوضوء مع الصلاة.
عاشرًا إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس. انتهى
وختامًا فأهل التقوى لا يتعذر عليهم سد أبواب الشيطان وحفظها بالحراسة أي الأبواب الظاهرة والطرق الجلية التي تفضي إلى المعاصي الظاهرة.
وإنما يتعثرون في طرقه الغامضة فإنهم لا يهتدون غليها فيحرسونها لأن الأبواب المفتوحة إلى القلب للشيطان كثيرة.
وباب الملائكة باب واحد وقد التبس ذلك الباب الواحد بهذه الأبواب الكثيرة، فالعبد فيها كالمسافر الذي يبقى في بادية كثيرة الطرق غامضة المسالك في ليلة مظلمة فلا يكاد يعلم الطريق إلا بعين بصيرة وطلوع شمس مشرقة.
والعين البصيرة هاهنا هي القلب المصفى بالتقوى والشمس المشرقة هو العلم العزير المستفاد من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ فيما يهتدى به إلى غوامض طرقه وإلا فطرقه كثيرة وغامضة.
قال عبد الله بن مسعود t خط لنا رسول الله ﷺ يومًا خطًا وقال "هذا سبيل الله" ثم خط خطوطًا عن يمين الخط وعن شماله ثم قال هذه سبل على كل سبيل شيطان يدعو إليه.
ثم تلا ]وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ[.
وقال أحد العلماء يجب على المؤمن أن يحب العلماء العاملين بعلمهم حقيقة البعيدين عن الانهماك في الدنيا البعيدين عن الربا وحب الشهرة والظهور والوقوع في أعراض الناس الغافلين.
السالمين من الحسد والكبر والعجب ويلازم مجالسهم ويسألهم عما أشكل عليه ويتعظ بنصحهم.
ويجتنب الأعمال القبيحة ويتخذ الشيطان عدوًا كما قال تعالى ]إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا[.
أي فعادوه بطاعة الله تعالى ولا تطيعوه في معاصي الله تعالى وكونوا على حذر منه في جميع أحوالكم وأفعالكم وعقائدكم.
وإذا فعلتم فعلاً فتفطنوا له فإنه ربما يدخل عليكم الرياء، ويزين لكم القبائح والفواحش واستعينوا عليه بربكم، وتعوذوا بالله منه.
المهم أنك إذا علمت أن الشيطان لعنه الله لا يغفل عنك أبدًا فلا تغفل عمن ناصيتك بيده وهو الله جل جلاله وتقدست أسماؤه وصفاته الزم ذكره وحمده وشكره.
فالشيطان عدو مسلط على الإنسان ومقتضى ذلك أنه لا يوجد منه غفلة ولا فترة عن التزيين والإغواء والإضلال.
قال تعالى إخبارًا عما قاله إبليس ]فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ[ وقال ]بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ[.
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله أجميعن.
(فصل)
قال تعالى ]إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا[ الآية.
إذا فهمت ذلك فعليك بتحقيق العبودية لله، والتوكل عليه، والافتقار في كل أحوالك إليه، واستعاذتك به من شر عدوك وعدوه، فبذلك تنجو من سلطته، وتنجو من غائلته.
قال الله جل وعلا ]إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً[ وقال جل وعلا ]إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ[.
فمن تحقق بهذه الصفات العلية، من الإيمان بالله تعالى، والعبودية له والتوكل عليه، واللجاء والافتقار إليه، والاستعاذة، والاستجارة به، كيف يكون لعدو الله عليه سلطان، والله حبيبه وولي حفظه ونصره.
وفي وصية رسول الله ﷺ لابن عباس "احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة".
فالشأن في العبد يكون بينه وبين ربه معرفة خاصة بقلبه بحيث تجده قريبًا منه يستأنس به في خلوته ويجد حلاوة ذكره ودعائه ومناجاته وخدمته.
ولا يجد ذلك إلا من أطاعه في سره وعلانيته ومتى وجد العبد هذا فقد عرف ربه وصار بينه وبينه معرفة خاصة.
فإذا سأله أعطاه وإذا دعاه أجابه والعبد لا يزال في كرب وشدائد، في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الموقف، فإذا كان بينه وبين ربه معرفة خاصة كفاه الله ذلك كله.
وهذا هو المشار إليه في وصية رسول الله ﷺ لابن عباس تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة.
فالعلم النافع ما عرف العبد بربه، ودله عليه حتى عرفه، ووحده وأكثر من ذكره، وحمده وشكره وأنس به، واستحيا من قربه، واعبده كأنه يراه.
فالشأن كله في أن العبد يستدل بالعلم على ربه، فيعرفه فإذا عرف ربه فقد وجده منه قريبًا، ومتى وجده منه قريبًا قربه إليه وأجاب دعاءه.
كما في الأثر الإسرائيلي ابن آدم اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء.
فأصل العلم العلم بالله الذي يوجب خشيته ومحبته والقرب منه والأنس به، ثم يتلوه العلم بأحكام الله، وما يحبه ويرضاه من العبد من قول أو عمل أو حال أو اعتقاد.
فمن تحقق بهذين العلمين كان علمه علمًا نافعًا، وحصل له العلم النافع والقلب الخاشع والنفس القانعة والدعاء المسموع.
ومن فاته هذا العلم النافع وقع في الأربع التي استعاذ منها النبي ﷺ، وصار علمه وبالاً وحجة عليه فلم ينتفع به.
لأنه لم يخشع قلبه لربه ولم تشبع نفسه من الدنيا، بل ازداد حرصًا عليها وطلبًا لها، ولم يسمع دعاؤه، لعدم امتثاله لأوامر ربه، وعدم اجتنابه لما يسخطه ويكرهه.
هذا إن كان علمه علمًا يمكن الانتفاع به وهو المتلقى عن الكتاب والسنة.
فإن كان متلقى من غير ذلك فهو غير نافع في نفسه ولا يمكن الانتفاع به بل ضرره أكثر من نفعه.
وعلامة هذا العلم الذي لا ينفع أن يكسب صاحبه الزهو والفخر والخيلاء وطلب العلو والرفعة في الدنيا والمنافسة فيها وطلب مباهاة العلماء ومماراة السفهاء وصرف وجوه الناس إليه قلت وهذا النوع موجود في زمننا بكثرة.
وقد ورد عن النبي ﷺ أن من طلب العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء ويصرف به وجوه الناس أدخله الله النار.
ولبعض العلماء:
يَقُولُون ليْ هَلا نَهَضَتَ إلى العُلا وَهَلا شَدَدْتَ العَِيْسَ حَتَى تَحُلَّهَا فَفِيْهَا قُضَاةٌْ لَيْسَ يَخفَى عَلَيْهِمُوا وفيها شُيُوخٌ الدِينِ والفَضْلِ والأولى وفِيْهَا وفِيْهَا والمَهَانَةُ ذِلَّةٌ فَقُلْتُ نَعْم أَسْعَى إِذَا شِئْتُ أَنْ أُرَى وأَسْعَى إِذَا مَا لَذَّ ليْ طْولُ مَوْقِفِي وأَسْعَى إِذَا كَانَ النِّفَاقُ طَرِيْقَتِي وأَسْعَى إِذَا لَمْ يَبْقَ فِي بَقِيَّة فَكَمْ بَيْنَ أَرْبَابِ الصُدُوْرِ مَجَالِسًا وكَمْ بَيْنَ أَرْبَاب العُلُومِ وأَهْلِهَا مُنَاظَرةً تُحمْي النُّفْوسَ فَتَنْتَهِي إِلَى السَّفَهِ المُزْرِيْ بِمَنْصِب أهْلِهِ فَإِمَّا تَوَقَّى مَسْلَكَ الدِيْنِ والتُقَى | فَمَا لَذَّ عَيْشُ الصَّابِرِ المُتَقَنِّعِ بِمِصْرٍ إِلَى ظل الجَنَابِ المُرَفَّعِ تَعَيَّنُ كَوْنِ العِلْمِ غَيْر مُضَيَّعِ يُشِيْزُ إِليهم بالعُلا كُلُّ أُصْبُعِ فَقُمُ وَاسْعَ واقْصِدْ بَابَ رِزْقِكَ واقْرَعِ ذَلِيْلاً مُهَانًا مُسْتََخَفًا بِمَوْضِعي عَلَى بَاب مَحْجُوْبِ اللِّقَاءِ مُمَنَّعِ أَرُوْحُ وأَغْدُو فِي ثِيَابِ التَّصَنُّعِ أُرَاعِيْ بِهَا حَقَّ التُّقَى والتَّوَرُعِ تُشَبُّ بِهَا نَارُ الغَضَى بَيْنَ أَضْلُعِيْ إِذَا بَحَثُوْا فِي المُشْكِلاتِ بِمَجْمع وقَدْ شَرعُوا فِيْهَا إِلَى شَرِّ مَشْرَعِ أَوْ الصَّمتْ عَنْ حَقٍ هُنَاكَ مُضَيَّعِ وإِمَّا تَلَقَّى غُصَّةَ المُتَجَرِّعِ |
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ولا تجعل علمنا وبالاً علينا اللهم قوي معرفتنا بك وبأسمائك وصفاتك ونور بصائرنا ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا يا رب العالمين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا ارحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن إخلاص العمل لله وحده لا شريك له شرط في قبول جميع أنواع الطاعات.
فالإخلاص يضاد الشرك، والإخلاص هو إفراد الله جل وعلا بالطاعة والقصد.
وهو أن يريد بطاعته التقرب إلى الله دون أي شيء آخر، من تصنع لمخلوق أو اكتساب مال أو محمدة أو جاه أو محبة مدح من مخلوق أو أي معنى من المعاني، سوى التقرب إلى الله جل وعلا.
وقال آخر الإخلاص ان تكون حركة العبد وسكونه في سره وعلانيته لله وحده، لا يمازجه نفس ولا هوى ولا دنيا.
قال الله تبارك وتعالى ]وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ[.
وقال تبارك وتعالى ]فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ[.
وقال تعالى ]فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ[.
وقال تعالى ]فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا[.
وقال ]هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ[.
عن أبي هريرة t قال قلت يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة قال رسول الله ﷺ "من قال لا إله إلا الله خالاً من قلبه أو نفسه" رواه البخاري.
وعن زيد بن أرقم t قال قال رسول الله ﷺ "من قال لا إله إلا الله مخلصًا دخل الجنة".
قيل وما إخلاصها قال "أن تحجزه عن محارم الله" ورواية "عما حرم الله عليهم".
وعن أبي هريرة t قال قال رسول الله ﷺ "ما قال عبد لا إله إلا الله مخلصًا إلا فتحت أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش ما أجتنبت الكبائر" رواه الترمذي.
وعن أنس بن مالك عن رسول الله ﷺ "من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده لا شريك له، وأقام الصلاة وآتى الزكاة فارقها والله عنه راض" رواه ابن ماجه والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين.
وعن أبي الدرداء t عن النبي ﷺ قال "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما ابتغي وجه الله" رواه الطبراني.
وعن أبي الدرداء t قال قال رسول الله ﷺ "قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان، وجعل قلبه سليمًا، ولسانه صادقًا، ونفسه مطمئنة مستقيمة" رواه أحمد في المسند والبيهقي في شعب الإيمان.
وعن أبي أمامة عن النبي ﷺ "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا وابتغي به وجهه" رواه النسائي.
وعن أبي بن كعب قال قال رسول الله ﷺ "بشر هذه الأمة بالسنا والدين الرفعة والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة من نصيب" رواه أحمد وابن حبان والحاكم.
وعن شداد ابن أوس أنه سمع رسول الله ﷺ يقول "من صام فراءى فقد أشرك ومن صلى فراءى فقد أشرك ومن تصدق فراءى فقد أشرك" رواه الحاكم والبيهقي.
وعن محمود بن لبيد أن رسول الله ﷺ قال "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله قال "الرياء يقول الله عز وجل إذا جزى الناس بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء" رواه أحمد.
اللهم وفقنا لما وفقت إليه القوم وأيقظنا من سنة الغفلة والنوم وأرزقنا الاستعداد لذلك اليوم الذي يربح فيه المتقون اللهم وعاملنا بإحسانك وجد علينا بفضلك وامتنانك واجعلنا من عبادك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون اللهم ارحم ذلنا بين يديك واجعل رغبتنا فيما لديك، ولا تحرمنا بذنوبنا، ولا تطردنا بعيوبنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
إذا فهمت ما تقدم فاعلم أن الآفات المشوشة على الإخلاص كثيرة منها الجلي والخفي وأظهر مشوشات الإخلاص الرياء.
فالشيطان يدخل الآفة على المصلي مهما كان مخلصًا في صلاته إذا كان حوله أناس ينظرون إليه أو دخل عليه داخل وهو يصلي.
فيقول حسن صلاتك، وتركد فيها، وزد فيها حتى يجلونك، وينظرون إليك بعين الاحترام والوقار والصلاح.
فتحشع جوارحك وتسكن أطرافك وتحسن صلاتك من أجلهم وهذا هو الرياء الظاهر.
الدرجة الثانية أن يكون الإنسان قد فهم هذه الآقة وأخذ حذره منها فصار لا يطيع الشيطان فيها، ولا يلتفت إليه في صلاته كما كان أولاً.
فيأتيه من جهة أخرى ويزين له في معرض الخير ويقول له أنت متبوع ومقتدًا بك ومنظور إليك بعين الصلاح.
وما تفعله يؤثر عنك ويتاسى بك غيرك فيكون لك مثل ثواب أعمالهم إن أحسنت وعليك الوزر إن أسأت.
فأحسن عملك بين أيديهم فعساهم يقتدون بك في خشوعك وتحسينك للعبادة وهذا عين الرياء والرياء مبطل للإخلاص إذا استمروا ولم يبادر طرده فإنه إن كان يرى الخشوع وحسن العبادة خيرًا لا يرضى لغيره تركه فلم لم يرتض لنفسه ذلك في الخلوة، ولا يمكن أن تكون نفس غيره أعز عليه من نفسه.
فهذا محض التلبيس فالمقتدي به هو الذي استقام في نفسه واستنار قلبه.
الدرجة الثالثة أن يجرب العبد نفسه في ذلك ويتنبه لكيد الشيطان، ويعلم أن مخالفته بين الخلوة والمشاهدة للغير محض الرياء.
ويعلم أن الإخلاص في أن تكون صلاته في الخلوة مثل صلاته عند الناس ويستحي من ربه أن تخشع نفسه لمشاهدة الخلق تخشعًا زائدًا على عادته.
فالإخلاص أن تكون صلاته عند الناس مثل صلاته منفردًا وهذه الآفات قل من يتنبه لها فلا يسلم من الشيطان إلا من دقق النظر وسعد بعصمة الله وتوفيقه وهدايته.
وإلا فالشيطان ملازم للمجتهدين في عبادة الله والإخلاص له لا يغفل عنهم لحظة من اللحظات حتى يحملهم على الرياء في كل حركة من الحركات إن قدر على ذلك، ولا يسلم من شره وغروره وحيله ومركه وخداعه إلا العالم البصير بدقائق آفات الأعمال حتى يخلصها عنها.
قال أبو الدرداء إن من فقه العبد "أن يعلم نزغات الشيطان" أي متى تأتيه ومن أين تأتيه.
وصدق رحمه الله إذا فقه العبد عن الله عز وجل أنه لا يقبل إلا ما خلص وصفا من الأعمال لوجهه الكريم دون خلقه.
وأن نفسه وعدوه إبليس لعنه الله يدعوانه إلى ما يحبط عمله خاف وحذر واستدل بالعلم فعلم حين تأتيه النزعة من قبل الرياء وغيره.
وعن يونس عن الحسن لا يزال العبد بخير ما علم الذي يفسد عليه عمله فلا غنى بالعبد عن معرفة ما أمرنا باتقائه من الرياء وغيره ولا سيما الرياء إذ وصف بالخفاء في أنه أخفى من دبيب النمل.
فما خفي لم يعرف إلا بشدة التفقد، ونفاذ البصيرة بمعرفة له حين يعرض، فلا غنى عن معرفة الرياء للخلاص منه.
فالرياء مأخوذ من الرؤيا لأن المرائى يرى الناس فعله للخير ليحمده الناس وليثنوا عليه ويجلوه.
ويصير له منزلة في قلوبهم ويكون له سلطان عليهم يصل به إلى لذته ويستعين به على تحصيل شهواته.
وهذا الرياء إنما يكون من رجل قاصر النظر ضعيف الدين فإنه هو الذي يتصور أن الناس إذا رأوه يصلي كثيرًا، أو رأوه يطيل الصلاة أو يصوم النوافل أو يحج ويعتمر دائمًا أو يتصدق ان نحو ذلك من أفعال الخير.
يحسنون به الظن ويعاملونه معاملة خاصة تتركه في دنياه في سرور وحبور.
وأما العاقل بعيد النظر صادق الإيمان فإنه يعلم علمًا يقينًا لا يشوبه الظن أن الأمر كله دنيًا وأخرى لله وحده لا شريك له.
وأن العالم كله أعجز من أن يدفع أجلاً أو يكثر رزقًا أو يجير من نائبة تنزل بالإنسان، كما في حديث ابن عباس قوله ﷺ "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يصروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك".
فإذا كان الخلق بهذا الضعف فلا يلتفت لمرآتهم إلا من كان سخيف العقل وضعيف الدين.
وروي عن ابن مسعود أنه سمع رجلاً يقول قرأت البارحة سورة البقرة فقال حظك منها.
وروي عن النبي ﷺ عن الرجل الذي قال صمت الدهر فقال "ما صمت ولا أفطرت" فقال بعضهم من أجل أنه حدث به.
اللهم هب لنا اليقين والعافية، وإخلاص التوكل عليك، والاستغناء عن خلقك.
اللهم اجعل خير أعمالنا ما قارب آجالنا.
اللهم أغننا بما وفقتنا له من العلم، وزينا بالحلم وأكرمنا بالتقوى وجملنا بالعافية.
اللهم افتح مسامع قلوبنا لذكرك وارزقنا طاعتك وطاعة رسولك ووفقنا للعمل بكتابك وسنة رسولك.
اللهم إنا نسألك الهدى، والتقى والعافية والغنى، ونعوذ بك من درك الشقاء، ومن جهد البلاء، ومن سوء القضاء ومن شماتة الأعداء.
اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله علانيته وسره، أهل الحمد والثناء أنت، لا إله إلا أنت سبحانك إنك على كل شيء قدير.
اللهم اغفر لنا جميع ما سلف منا من الذنوب، واعصمنا فيما بقي من أعمارنا، ووفقنا لعمل صالح ترضى به عنا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
ومن أنواع الرياء ما يفعله كثير من الناس مثل أن يكون له مال عند إنسان شركة أو نحوها، فيأمر شريكه بإخراج الزكاة خوفًا من ذم أو نحوه، ولو كان المال عنده لما أخرج زكاته.
أو يدخل وقت صلاة مفروضة وفيه أناس يستحي منهم أن يترك الصلاة ولو كان وحده ما صلى فهذا منافق مرائي.
ومثل ذلك الصيام لو كان مع أناس أهل دين وطاعة ولو كان وحده لأفطر.
ومثل ذلك حضور الجمعة، ولولا خوف المذمة لما حضرها.
ومثله صلة الرحم وبر الوالدين إذا كان يصلهم خوفًا من الناس أو رجاءهم، لا يفعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى.
وكذلك الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان للرياء والسمعة فتجد هذا الجنس من الناس ينشط عند إطلاع الخلق عليه.
فتكون منزلته عند الخلق أحب إليه من منزلته عند الخالق وخوفه من ذم الناس أعظم من خوفه من عذاب الله وعقابه.
ورغبته في محمدتهم وثنائهم أشد من رغبته في ثواب الله، وهذا غاية الجهل والسخف.
وبعضهم يتركد في الصلاة خوفًا من الخلق، ولو كان وحده لنقرها وذكر بعضهم أن أعرابيًا دخل المسجد فصلى صلاة خفيفة فقام إليه علي t بالدرة.
وقال أعد الصلاة فأعادها مطمئنا بركود، فقال له علي أهذه خير أم الأولى فقال الأعرابي الأولى لأني صليتها لله والثانية صليتها خوفًا من الدرة.
وذكر أن عابدًا بلغه أن قومًا يعبدون شجرة فخرج ليقطعها فقال له إبليس إن قطعتها عبدوا غيرها فارجع إلى عبادتك فقال لابد من قطعها فصارعه فصرعه العابد.
فقال إبليس أنت رجل فقير ارجع إلى عبادتك وأجعل لك كلي ليلة دينارين عند رأسك ولو شاء الله لأرسل رسولاً يقطعها وما عليك إذا لم تعبدها أنت.
قال نعم فرجع الفقير فلما أصبح وجد الدينارين ثم في اليوم الثاني كذلك وفي اليوم الثالث لم يجد شيئًا فخرج لقطعها بعد ذلك.
فعارضه إبليس وصارعه فصرعه إبليس فقال العابد كيف غلبتك أولاً ثم غلبتني ثانيًا قال لأن غضبك أولاً كان لله تعالى وغضبك ثانيًا كان للدينارين. قال جل وعلا وتقدس ]وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ[.
وكَمْ قَائِلٍ آمَنْتُ بِاللهِ وَحْدَهُ إِذَا سَمِعَ القُرْآنَ لَمْ يُصْغِ سَمْعَهُ ويَسْأَل رِزْقَ اللهِ مِن فَضْلِ خَلْقِهِ ولَوْ كَانَ فِي الإِيْمَانِ بِاللهِ مُوْقِنًا | وفِي قَلْبِهِ شِرْكٌ خفَيٌ وظَاهِرُ كَأَنْ لَيْسَ فِي القُرْآنِ نَاهٍ وآمِرُ ويَخْضَعُ فِي أَبْوَابِهِم وَهْوَ صَاغِرُ لَسُدَّتْ بِفَضْلِ اللهِ مِنْهُ الفَواقِرُ |
اللهم وفقنا لسبيل الطاعة، وثبتنا على اتباع السنة والجماعة، وأختم لنا بخير منك يا كريم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
عن أبي الدرداء قال قال رسول الله ﷺ "إن الإبقاء على العمل أشد من العمل.
وإن الرجل ليعمل العمل فيكتب له عمل صالح معمول به في السر يضعف أجره سبعين ضعفًا.
فلا يزال به الشيطان حتى يذكره للناس ويعلنه فيكتب علانية ويمحى تضعيف أجره كله.
ثم لا يزال به الشيطان حتى يذكره للناس الثانية ويحب أن يذكر به ويحمد عليه.
فيمحى من العلانية ويكتب رياء فاتقي امرؤ صان دينه وإن الرياء شرك" رواه البيهقي.
وبعضهم يجني على نفسه يحدث بأعماله ليحمده الناس عليها فيذكر أنه يحج كل سنة وأنه يصوم البيض وأنه يعتمر في رمضان هو وأهله ولم يسأل فتراه يظهر الأعمال ليحمده الناس ويجلوه وما درى أن هذا تلبيس من إبليس لأجل أن يتعب ولا يربح.
وما هذه طريقة السلف فإن السلف كانوا يسترون عباداتهم وكان عملهم كله سرًا كان الإمام أحمد بن حنبل يقرأ القرآن كثيرًا ولا يدري متى يختم.
وكان الربيع بن خيثم إذا دخل عليه أحد وقد فتش المصحف يغطيه بثوبه مخافة الرياء.
وبعضهم إذا أراد إخراج صداقة حرص على إخفاء نفسه لئلا يعرفه الفقير ويحرص على إخراجها ليلاً وربما أتاه وهو يصلي ووضعها في ثوبه أو أمامه لئلا يراه الفقير.
ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.
وبعضهم إذا صلى خاليًا في بيته أو في المسجد يظهر لصدره أزير كأزير المرجل من البكاء.
وإذا كان حوله ناس او أحسن بداخل عليه لا يسمع له صوت.
وإذا أراد الخروج من بيته أو دخل عليه إنسان غسل وجهه عن أثر الدموع مخافة الرياء.
وقال عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال إن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار ما يشعرون به.
ولقد أدركنا أقوامًا ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدًا لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم.
وذلك أنه تعالى يقول ]ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً[ وذلك أن الله ذكر عبدًا صالحًا رضي فعله فقال ]إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا[.
ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله رجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه ضد ما عليه كثير من الناس اليوم فتجد الواحد عند الناس يخشع ويبكي وعندما يسمع الختمة يبكي ويشاهق ويهرمع ويحوقل ويسترجع.
وإذا كان وحده عند قراءة القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله لا يبكي ولا يتأثر بالآيات التي يتلوها.
مثل قوله تعالى ]إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلاً[.
وقوله تعالى: ]وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى[.
وقوله جل وعلا ]وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ[.
وقوله تعالى ]يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ[.
وقوله ]وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ[.
وقوله تعالى ]وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا[.
وقوله جل وعلا ]وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ[.
لقد كان السلف الصالح إذا سمعوا إحدى الآيات المتقدمة أو نحوها من الآيات المخوفة مما سنقدم عليه يغشى عليهم.
ومنهم من يموت فقد روي عن عمر بن الخطاب t أنه سمع قارئًا يقول ]إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِن دَافِعٍ[.
فصاح صيحة وخر مغشيًا عليه فحمل إلى أهله فلم يزل مريضًا شهرًا.
وروي عن زرارة بن أبي أوفى أنه قرأ ]فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ[ فصعق ومات في محرابه رواه الحاكم في المستدرك.
وابن سعد من حديث بهز بن حكيم قال أمنا زرارة بن أبي أوفى في مسجد بني قشير... ذكره.
وسمع الشافعي t قارئًا يقرأ ]هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ[ فغشي عليه.
وسمع علي بن الفضيل قارئًا يقرأ ]يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[ فسقط مغشيًا.
وروي أن الربيع بن خيثم سمع قارئًا يقرأ ]فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ[ فخر مغشيًا فلم يفق إلا في اليوم الثاني.
وروي أن رجلاً صلى وراء إمام فقرأ ]يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[ فخر الرجل مغشيًا عليه فلما سلم الناس وجدوه ميتًا.
وروي عن بعض التابعين أنه قرأ سورة الفرقان أربعين ليلة فلما وصل إلى قول الله تعالى ]قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ[ سقط مغشيًا عليه ولم يقدر أن يجاوزها.
وروي عن إبراهيم النخعي أنه كان إذا مر بقول الله تعالى ]قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا[ خفض صوته.
ونحن نسمع هذه الآيات ولا نتأثر منها نسأل الله لطفه.
إِذَا بَرَزَتْ لِيَومَ العَرْض نَارٌ يَفِرُ المَرْءُ حَقًا مِن أَخِيْه فلا الخِلُ الحَمِيمُ يُغِيْثُ خِلاً إِذَا جَاءَ الجَليلُ لِفَصْل حُكْمٍ فَيْفَتَضِحُ المُسيءُ بقُبْحِ فِعْلٍ | لَهَا النَاسُ الوَقُودُ مَعَ الحِجَارَةْ ويُنْكِرُ فِي المَعَادِ مَن اسْتزَارَه ولا الجارُ المُجِيْرُ يُجيْرُ جَارَهُ ونُشِّرَتِ الصَّحَائِفُ مُسْتَطارةْ ومَنْ يَكُ مُحْسِنًا فَلَهُ البَشَارَةْ |
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله أجمعين.
(فصل)
عباد الله إن كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" هي العروة الوثقى وهي التي فطر الله عليها جميع خلقه ولها فضائل عظيمة لا يمكن استقصاؤها.
منها أنها التوحيد الذي بعث الله به رسله جميعًا، وهي شعار الإسلام، وهي مفتاح دار السلام، والفارقة بين الكفر والإيمان.
وهي أفضل الأعمال وأساس الملة والدين قال الله جل وعلا ]أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ[.
قال ابن عباس وغيره الكلمة الطيبة هي لا إله إلا الله.
ففي قوله تعالى ]أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً[ تنبيه إلى عظمة هذا المثل، وروعته، وأنه المثل الأفضل، والأكمل، والأتم، والأدل على المراد، الذي سيق له.
وذلك مما يوجب على العاقل أن يلقي سمعه واهتمامه إليه، فيعقل ما فيه، ويتذكر، ويتفكر في مراميه، ويتدبره.
فإن ضرب الأمثال إبراز للمعاني وتصويرًا للمعقولات والمعلومات بصور المشاهدات والمرئيات.
وبذلك تتجلى حقائق المعاني المخبر عنها، ولذلك قال تعالى ]وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ[.
وقال تعالى ]وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[، ووصفت هذه الكلمة بأنها طيبة لأن مدلولها، وموضوعها، والمخبر عنه.
هو الله الحي القيوم العلي العظيم الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد.
الموصوف بصفات الكمال المنزه عن النقائض والعيوب والآفات.
فهذه الكلمة "لا إله إلا الله" هي أرفع كلمة، وأنفع كلمة، وأطيب كلمة. وأعظم كلمة وأصدق كلمة وأبرك كلمة وأجمل كلمة وأجل كلمة.
ومطيبة للقلب الذي اعتقدها، ومطهرة له من أنجاس الشرك والكفر والنفاق والشك.
فلا أطيب منها، ولا أطهر منها، ولا أزكى منها، ولا أنجى منها، ولا أكمل منها، ولا أفضل منها، ولا أقدس ولا أنفس منها.
وهي الكلمة الطيبة، وهي كلمة التقوى قال الله جل وعلا ]وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى[.
عن أبي بن كعب عن النبي ﷺ في قوله تعالى ]وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى[ قال "لا إله إلا الله".
وعن علي t وألزمهم كلمة التقوى قال لا إله إلا الله والله أكبر.
وعن ابن عباس شهادة أن لا إله إلا الله.
هي رأس كل تقوى.
وهي كلمة الله العليا.
قال الله جل وعلا ]وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا[ عن ابن عباس هي لا إله إلا الله.
فلا أعلى منها، ولا أشرف منها، ولا أعز منها، فلها الرفعة والعزة والصدارة على غيرها.
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ إن صدر اللوح المحفوظ لا إله إلا الله وحده، دينه الإسلام، ومحمد عبده ورسوله.
فمن آمن بالله وصدق بوعده واتبع رسله أدخله الله الجنة.
ولا إله إلا الله هي الكلمة الباقية، قال الله جل وعلا ]وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[.
قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدى وغيرهم، يعني لا إله إلا الله.
وهي كلمة التوحيد.
وهي كلمة الإخلاص.
وهي كلمة كريمة على الله.
رواه البزار في مسنده عن عياض الأنصاري عن النبي ﷺ قال "إن لا إله إلا الله كلمة على الله كريمة لها عند الله مكان".
اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان وثبتها على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة واجعلنا هداة مهتدين وتوفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الأرحمين وصلى الله على محمد وعلى آله أجمعين.
(فصل)
عباد الله ما قامت السموات والأرض ولا صحت السنة والفرض ولا نجا أحد يوم العرض إلا بلا إله إلا الله ولا جردت سيوف الجهاد، ولا أرسلت الرسل إلى العباد، إلا ليعلموهم العمل بلا إله إلا الله.
تالله إنها كلمة الحق، ودعوة الحق وأنها براءة من الشرك ونجاة هذا الأمر ولأجلها خلق الله الخلق، كما قال تعالى ] وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ[، وقال تعالى ]يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ[.
قال ابن عيينة رحمه الله ما أنعم الله على عبد من العباد نعمة أفضل من أن عرفه لا إله إلا الله، وإن لا إلا الله لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدنيا ولأجلها أعدت دار الثواب، ودار العقاب ولأجلها أمرت الرسل بالجهاد.
فمن قالها عصم ماله ودمه، ومن أباهل فماله ودمه حلال، وبها كلم الله موسى كفاحًا وهي أحسن الحسنات كما في المسند عن شداد بن أوس، وعبادة بن الصامت ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي ﷺ قال لأصحابه ارفعوا أيديكم وقولوا لا إله إلا الله، فرفعنا أيدينا ساعة فوضع رسول الله ﷺ يده وقال الحمد لله اللهم بعثتني بهذه الكلمة وأمرتني بها ووعدتني الجنة وإنك لا تخلف الميعاد.
ثم قال أبشروا، فإن الله قد غفر لكم وهي أحسن الحسنات، وهي تمحو الذنوب والخطايا.
وفي سنن ابن ماجة عن أم هانئ عن النبي ﷺ قال لا إله إلا الله لا تترك ذنبًا ولا يسبقها عمل، ورؤي بعض السلف بعد موته في المنام فقال ما أبقت لا إله إلا الله شيئًا وهي تجدد ما درس من الإيمان في القلب.
وفي المسند أن النبي ﷺ قال لأصحابه جددوا إيمانكم قالوا كيف نجدد إيماننا قال قولوا لا إله إلا الله، وهي التي لا يعدلها شيء في الوزن، فلو وزنت بالسموات والأرض لرجحت بهن.
كما في المسند عن عبد الله بن عمرو م عن النبي ﷺ أن نوحًا عليه السلام قال لابنه عند موته آمرك بلا إله إلا الله فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعن في كفة ووضعت لا إله إلا الله بكفة لرجحت بهن ولو أن السموات السبع والأرضين كن في حلقة مبهمة فصمتهن لا إله إلا الله.
وإنها ترجح بالسموات والأرض كما في حديث عبد الله بن عمرو t أن موسى عليه السلام قال يا رب علمني شيئًا أذكرك وأدعوك به، قال يا موسى قل لا إلا الله قال موسى يا رب كل عبادك يقولون هذا.
قال يا موسى قل لا إله إلا الله قال لا إله إلا الله إنما أريد شيئًا تخصني به، قال يا موسى لو أن السموات السبع والأرضين السبع وعامرهن غيري في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله.
اللهم اجعل رزقنا رغدًا، ولا تشمت بنا أحدًا.
اللهم رغبنا فيما يبقى، وزهدنا فيما يفنى، وهب لنا اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعول في الدني إلا عليه.
اللهم إنا نسألك بعزك الذي لا يرام وملكك الذي لا يضام وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفينا شر ما أهمنا وما لا نهتم به وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
اللهم يا عليم يا حليم يا قوي يا عزيز ياذا المن والعطا والعز والكبرياء يا من تعنوا له الوجوه وتخشع له الأصوات.
وفقنا لصالح الأعمال وأكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك إنك على كل شيء قدير ولله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.
(فصل)
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين "أن لا إله إلا الله" ترجح في صحائف الذنوب، كما في حديث السجلات، والبطاقة، وفي حديث عبد الله بن عمرو فيما أخرجه أحمد والنسائي والترمذي عن النبي ﷺ.
وهي التي تخرق الحجب، حتى تصل إلى الله عز وجل، وإنها ليس لها دون الله حجاب، لما تقدم ولما في الترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ قال لا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب.
وأنها تفتح لها أبواب السماء كما في حديث أبي هريرة t عن النبي ﷺ أنه قال ما من عبد قال لا إله إلا الله مخلصًا إلا فتحت لها أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش.
ويروى عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ مرفوعًا ما من شيء إلا بينه وبين الله حجاب، إلا قول لا إله إلا الله كما أن شفتيك لا تحجبها كذلك لا يحجبها شيء حتى تنتهي إلى الله عز وجل.
وورد عن النبي ﷺ من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مخلصًا بها قلبه يصدق بها لسانه إلا فتق الله له السماء فتقًا حتى ينظر إلى قائلها من أهل الأرض، وحق لعبد نظر الله إليه أن يعطيه سؤاله، وهي الكلمة التي يصدق الله قائلها.
كما في حديث أبي هريرة وأبي سعيد ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي ﷺ قال إذا قال العبد لا إله إلا الله والله أكبر صدقه ربه. وقال لا إله إلا أنا، وأنا أكبر، وإذا قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له قال الله لا إله أنا وحدي لا شريك لي، وإذا قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، قال الله لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد، وإذا قال العبد لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله قال الله لا إله إلا أنا ولا حول ولا قوة إلا بي وكان يقول من قالها في مرضه ثم مات لم تطعمه النار.
وهي أفضل ما قاله النبيون كما ورد في دعاء عرفة وهي أفضل الذكر كما في حديث جابر المرفوع أفضل الذكر لا إله إلا الله وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أحب كلمة إلى الله لا إله إلا الله، لا يقبل الله عملاً إلا بها".
اللهم يا عالم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، يا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا أنت إليك المصير.
نسألك أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة رحمتك، يا أرحم الراحمين وأرأف الرائفين وأكرم الأكرمين.
اللهم اعتقنا من رق الذنوب، وخلصنا من أشر النفوس، وأذهب عنا وحشة الإساءة، وطهرنا من دنس الذنوب، وباعد بيننا وبين الخطايا وأجرنا من الشيطان الرجيم.
اللهم طيبنا للقائك، وأهلنا لولائك وأدخلنا مع المرحومين من أوليائك، وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وتلاوة كتابك، واجعلنا من حزبك المفلحين، وأيدنا بجندك المنصورين، وارزقنا مرافقة الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
(فصل)
ولا إله إلا الله أفضل الأعمال، وأكثرها تضعيفًا وتعدل عتق الرقاب وتكون حرزًا من الشيطان، كما في الصحيحين عن أبي هريرة t عن النبي ﷺ قال من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة، ومحي عنه مائة سيئة ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا واحد عمل أكثر من ذلك.
وورد أن من قالها عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل، وفي الترمذي عن عمر مرفوعًا من قالها إذا دخل السوق وزاد فيها يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحى عنه ألف سيئة ورفع له ألف ألف درجة وفي رواية يبني له بيتًا في الجنة.
ومن فضائلها أنها أمان من وحشة القبر وهول المحشر كما في المسند وغيره عن النبي ﷺ ليس على أهل لا إله الله وحشة في قبورهم ولا في نشورهم، وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن.
وفي حديث مرسل من قال لا إله إلا الله الملك الحق المبين كل يوم مائة مرة كانت أمانًا من الفقر، وأنسًا من وحشة القبر، واستجلب به الغنى، واستقرع به باب الجنة وهي شعار المؤمنين إذا قاموا من قبورهم.
ومن فضائلها أنها تفتح لقائلها أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت t عن النبي ﷺ قال من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء.
وفي حديث عبد الرحمن بن سمرة t عن النبي ﷺ في قصة منامه الطويل، وفيه قال رأيت رجلاً من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فأغلقت دونه، فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة.
ومن فضائلها أن أهلها وأن دخلوا النار بتقصيرهم في حقوقهم، فإنهم لابد أن يخرجوا منها، وفي الصحيحين عن أنس t عن النبي ﷺ يقول الله وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله اهـ".
اللهم أيقظ قلوبنا ونورها بنور الإيمان وثبت فيها محبتك ثبوت الجبال الراسيات ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات وجنبنا جميع الموبقات ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتها وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة اللهم صلي على محمد وآله وسلم.
(فصل)
وقال ابن القيم رحمه الله أصل الأعمال الدينية حب الله ورسوله كما أن أصل الأقوال الدينية تصديق الله ورسوله وكل إرادة تمنع كمال حب الله ورسوله وتزاحم هذه المحبة فإنها تمنع كمال التصديق.
فهي معارضة لأصل الإيمان أو مضعفة له، فإن قويت حتى عارضت أصل الحب والتصديق كانت كفرًا وشركًا أكبر وإن لم تعارضه قدحت في كماله وأثرت فيه ضعفًا وفتورًا في العزيمة والطلب، وهي تحجب الواصل وتقطع الطالب وتنكي الراغب.
فلا تصلح الموالاة إلا بالمعاداة كما قال تعالى عن إمام الحنفاء المحبين أنه قال لقومه ]أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ[ فلم تصلح لخليل الله هذه الموالاة والخلة إلا بتحقيق هذه المعاداة فإن ولاية الله لا تصح إلا بالبراءة من كل معبود سواه.
قال تعالى ]قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ[.
وقال تعالى ]وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[ أي جعل هذه الموالاة لله والبراءة من كل معبود سواه كلمة باقية في عقبه يتوارثها الأنبياء وأتباعهم بعضهم عن بعض.
وهي كلمة (لا إله إلا الله) وهي التي ورثها إمام الحنفاء لأتباعه إلى يوم القيامة.
وهي الكلمة التي قامت بها الأرض والسموات وفطر الله عليها جميع المخلوقات، وعليها أسست الملة ونصبت القبلة، وجردت سيوف الجهاد.
وهي محض حق الله على جميع العباد.
وهي الكلمة العاصمة للدم والمال والذرية في هذه الدار والمنجية من عذاب القبر وعذاب النار، وهي المنشود الذي لا يدخل أحد الجنة إلا به والحبل الذي لا يصل إلى الله من لم يتعلق بسببه.
وهي كلمة الإسلام ومفتاح دار السلام، وبها انقسم الناس إلى شقي وسعيد ومقبول وطريد.
وبها انفصلت دار الكفر من دار السلام وتميزت دار النعيم من دار الشقاء والهوان.
وهي العمود الحامل للفرض والسنة "ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة".
وروح هذه الكلمة وسرها إفراد الرب جل ثناؤه وتقدست أسماؤه وتباك اسمه وتعالى جده ولا إله غيره بالمحبة والإجلال والتعظيم والخوف والرجاء وتوابع ذلك، من التوكل والإنابة والرغبة والرهبة.
فلا يحب سواه، بل كل ما كان يحب غيره فإنما هو تبعًا لمحبته وكونه وسيلة إلى زيادة محبته ولا يخاف سواه ولا يرجى سواه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يرغب إلا إليه، ولا يرهب إلا منه.
ولا يحلف إلا باسمه، ولا ينذر إلا له، ولا يتاب إلا إليه، ولا يطاع إلا أمره، ولا يحتسب إلا به، ولا يستعان في الشدائد إلا به، ولا يلتجأ إلا إليه، ولا يسجد إلا له، ولا يذبح إلا له وباسمه. يجتمع ذلك في حرف واحد هو: أن لا يعبد بجميع أنواع العبادة إلا هو.
فهذا هو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، ولهذا حرم الله على النار أن تأكل من شهد أن لا إله إلا الله حقيقة الشهادة، ومحال أن يدخل النار من تحقق بحقيقة هذه الشهادة وقام بها كما قال تعالى ]وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ[ فيكون قائمًا بشهادته في باطنه وظاهره وفي قلبه وقالبه.
فإن من الناس من تكون شهادته ميتة.
ومنهم من تكون نائمة إذا نبهت انتبهت، ومنهم من تكون مضطجعة، ومنهم من تكون إلى القيام أقرب. وهي في القلب بمنزلة الروح في البدن.
فروح ميتة وروح مريضة إلى الموت أقرب.
وروح إلى الحياة أقرب، وروح صحيحة قائمة بمصالح البدن. وفي الحديث الصحيح عنه ﷺ "إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عند الموت إلا وجدت لها روحًا.
اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير".
يا ودود يا ذا العرش المجيد يا مبدئ يا معيد يا فعال لما تريد نسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك وبقدرتك التي قدرت بها على جميع خلقك وبرحمتك التي وسعت كل شيء لا إله إلا أنت أن تغفر ذنوبنا وسيئاتنا وأن تبدلها لنا بحسنات إنك جواد كريم رؤوف رحيم.
اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
وقال رحمه الله فحياة هذه الروح بهذه الكلمة "أي كلمة الإخلاص فكما أن حياة البدن بوجود الروح فيه وكما أن من مات على هذه الكلمة فهو في الجنة يتقلب فيها.
فمن عاش على تحقيقها والقيام بها فروحه تتقلب في جنة المأوى وعيشها أطيب عيش، قال تعالى ]وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى[.
فالجنة مأواه يوم اللقاء، وجنة المعرفة والمحبة والأنس بالله والشوق إلى لقائه والفرح به والرضى عنه وبه مأوى روحه في هذه الدار.
فمن كانت هذه الجنة مأواه ههنا كانت جنة الخلد مأواه يوم المعاد، ومن حرم هذه الجنة فهو لتلك الجنة أشد حرمانًا.
والأبرار في نعيم وإن اشتد بهم العيش وضاقت بهم الدنيا، والفجار في جحيم وإن اتسعت عليهم الدنيا، قال تعالى ]مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً[.
وطيب الحياة جنة الدنيا، قال تعالى ]فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا[ فأي نعيم أطيب من شرح الصدر، وأي عذاب أشد من ضيق الصدر.
وقال تعالى ]أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[.
فالمؤمن المخلص لله من أطيب الناس عيشًا وأنعمهم بالاً وأشرحهم صدرًا وأسرهم قلبًا، وهذه جنة عاجلة قبل الجنة الآجلة. قال النبي ﷺ "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا" قالوا وما رياض الجنة؟ قال "حلق الذكر".
ومن هذا قوله ﷺ "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" ومن هذا قوله، وقد سألوه عن وصاله في الصوم وقال "إني لست كهيئتكم إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني".
فأخبر ﷺ أن ما يحصل له من الغذاء عند ربه يقوم مقام الطعام والشراب الحسي، وأن ما يحصل له من ذلك أمر مختص به لا يشركه فيه غيره، فإذا أمسك عن الطعام والشراب فله عوض عنه يقوم مقامه وينوب منابة ويغني عنه كما قيل:
لَهَا أَحَاديثُ مِن ذِكْرَاكَ تَشْغَلُهَا لَهَا بِوَجْهِكَ نُوْرٌ تَسْتَضِيْءُ بِهِ إِذَا اشْتَكَتْ مِن كَلالِ السَّيْرِ أَوْعَدَهَا | عن الشَّرَابِ وتلهيْهَا عن الزَّادِ ومِنْ حَدِيْثِكَ فِي أَعْقَابِهَا حَادِي رَوْحُ اللِّقَاءِ فَتَحْيَ عِنْدَ مِيْعَادِ |
وكلما كان وجود الشيء أنفع للعبد وهو إليه أحوج كان تألمه بفقده أشد، وكلما كان عدمه أنفع كان تألمه بوجوده أشد، ولا شيء على الإطلاق أنفع للعبد من إقباله على الله، واشتغاله بذكره وتنعمه بحبه، وإيثاره لمرضاته. بل لا حياة له ولا نعيم ولا سرور ولا بهجة إلا بذلك.
فعدمه آلم شيء له وأشد عذابًا عليه، وإنما تغيب الروح عن شهود هذا الألم والعذاب لاشتغالها بغيره واستغراقها في ذلك الغير فتغيب به عن شهود ما هي فيه من ألم العقوبة بفراق أحب شيء إليها وأنفعه لها.
وهذا بمنزلة السكران المستغرق في سكره الذي احترقت داره وأمواله وأهله وأولاده وهو لاستغراقه في السكر لا يشعر بألم ذلك الفوت وحسرته.
حتى إذا صحا وكشف عنه غطاء السكر وانتبه من رقدة الخمر فهو أعلم بحاله حينئذ، وهكذا الحال سواء عند كشف الغطاء ومعاينة طلائع الآخرة والإشراف على مفارقة الدنيا والانتقال منها إلى الله.
بل الألم والحسرة والعذاب هناك أشد بأضعاف أضعاف ذلك، فإن المصاب في الدنيا يرجو جبر مصيبته في الدنيا بالعوض ويعلم أنه قد أصيب بشيء زائل لا بقاء له، فكيف بمن مصيبته بما لا عوض عنه ولا بدل منه ولا نسبة بينه وبين الدنيا جميعها.
فلو قضي الله سبحانه بالموت من هذه الحسرة والألم لكان العبد جدير به وأن الموت ليعد أكبر أمنيته وأكثر حسراته، هذا لو كان الألم على مجرد الفوت، وكيف وهناك من العذاب على الروح والبدن أمور أخرى مما لا يقدر قدره؟
فتبارك من حمل هذا الخلق الضعيف هذين الألمين العظيمين اللذين لا تحملهما الجبال الرواسي. فاعرض على نفسك الآن أعظم محبوب لك في الدنيا، بحيث لا تطيب لك الحياة إلا معه فأصبحت وقد أخذ منك وحيل بينك وبينه أحوج ما كنت إليه، كيف يكون حالك هذا ومنه كل عوض؟ فكيف بمن لا عوض عنه؟ كما قيل:
مِن كُلِّ شَيْءٍ إِذَا ضَيَّعْتَهُ عَوَضٌ | ومَا مِن اللهِ إِنْ ضَيَّعْتَهُ عَوَضٌ |
وفي الأثر الإلهي "ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب. وتكفلت برزقك فلا تتعب. ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء".
اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان وثبتها على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة واجعلنا هداة مهتدين وتوفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
وقال رحمه الله لشهادة أن لا إله إلا الله عند الموت تأثير عظيم في تكفير السيئات وإحباطها لأنها شهادة من عبد موقن بها عارف بمضمونها قد ماتت منه الشهوات ولانت نفسه المتمردة وانقادت بعد إبائها، وأقبلت بعد إعراضها.
وذلت بعد عزها وخرج منها حرصها على الدنيا وفضولها واستخذت بين يدي ربها وفاطرها ومولاها الحق أذل ما كانت له وأرجى ما كانت لعفوه ومغفرته ورحمته، وتجرد منها التوحيد بانقطاع أسباب الشرك وتحقق بطلانه.
فزالت منها تلك المنازعات التي كانت مشغولة بها، واجتمع همها على من أيقنت بالقدوم عليه والمصير إليه، فوجه العبد وجهه بكليته إليه، وأقبل بقلبه وروحه وهمه عليه، فاستسلم لله وحده ظاهرًا وباطنًا واستوى سره وعلانيته.
فقال لا إله إلا الله مخلصًا من قلبه، وقد تخلص من التعلق بغيره والالتفات إلى ما سواه، قد خرجت الدنيا كلها من قلبه وشارف القدوم على ربه، وخمدت نيران شهوته، وامتلأ قلبه من الآخرة، فصارت نصب عينيه، وصارت الدنيا وراء ظهره.
فكانت تلك الشهادة الخالصة خاتمة عمله فطهرته من ذنوبه وأدخلته على ربه لأنه لقي ربه بشهادة صادقة خالصة وافق ظاهرها باطنها وسرها علانيتها فلو حصلت له الشهادة على هذا الوجه في أيام الصحة لاستوحش من الدنيا، وأهلها وفر إلى الله من الناس وأنس به دون من سواه. لكنه شهد بها بقلب مشحون بالشهوات وحب الحياة وأنس بها ونفس مملوءة بطلب الحظوظ والالتفات إلى غير الله فلو تجردت كتجردها عند الموت لكان لها نبأ آخر وعيش آخر سوى عيشها البهيمي والله المستعان. انتهى كلامه رحمه الله.
اللهم ثبتنا على قولك الثابت في الحياة وبعدها، واجعلنا من عبادك المفلحين الذين نورت قلوبهم بمعرفتك، وأهلتهم لخدمتك، وحرستهم من عدوك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
يستحب التعوذ لمن أراد الشروع في القرآن بأن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لقوله تعالى ]فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ[.
وكان جماعة من السلف يقولون: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فإن قطع القراءة قطع ترك على أن لا يعود قريبًا إليها أعاد التعوذ الأول وإن تركه قبل القراءة فيتوجه أن يأتي بها ثم يقرأ لأن وقتها قبل القراءة للاستحباب فلا يسقط تركها إذًا ولأن المعنى يقتضي ذلك.
فإذا شرع في القراءة فليكن شأنه التدبر وليحذر أن يكون مثل بعض الهمج يقرأ القرآن وعيونه تجول فيما حوله من المخلوقات يتلاعب بالقرآن ولا يهتم له، قال تعالى ]كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ[، وقال تعالى في معرض الإنكار ]أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[.
فالمؤمن العاقل المحب لله ورسوله تلاوة القرآن وتفهمه عنده ألذ الأشياء وأنفعها لقلبه.
ولا يمل من تلاوته ولا يقنع بتلاوته دون أن يطلب فهم معاني ما أراد الله عز وجل من تعظيمه وتبجيله وتقديسه ومحبته وأمره ونهيه وإرشاده وآدابه ووعده ووعيده.
ويعلم أنه لا ينال منافع آخرته ولا الفوز بها والنجاة من هلكتها إلا باتباع القرآن الدال على كل نجاة والمنجي له من كل هلكة.
قال الله جل وعلا ]فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى[ الآية أنزله الله جل وعلا على عباده ليعرفهم به نفسه ويذكرهم به أياديه وينبههم به من رقدات الغافلين.
ويحيي قلوبهم وينور أبصارهم ويشفي صدورهم ويزيل جهلها وينفي شكوكها ودنسها وزيفها ويوضح سبيل الهدى ويكشف به العمى والشبهات.
ويزيل نوازغ الشيطان ووساوس الصدور ويغني به من فهمه وينعم به من كرر تلاوته ويرضى به عمن اتبعه.
هو صراط الله المستقيم الذي من سلك ما دل عليه أوقفه على الرغائب وسلمه من جميع المهالك وخفف عنه أهوال يوم العرض والنشور. وأورده رياض جنات النعيم.
هو حبل الله المتين الذي لا انقطاع له من تمسك به نجا قال الله جل وعلا وتقدس لرسوله ﷺ ]فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ[.
ومن أعرض عنه عطب قال جل وعلا ]وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى[.
ومن ابتغى الهدى من غيره ضل، ومن فهمه نطق بالحكم، وجرى على لسانه بحسن الموعظة، وكان من العلماء بالله جل وعلا.
ومن عقل عن الله جل ذكره ما قال فقد استغنى به عن كل شيء، وعز به من كل ذل.
لا تتغير حلاوته، ولا تخلق جدته في قلوب المؤمنين به على كثرة الترداد والتكرار لتلاوته.
لأنه كلام الحي القيوم، وكل كلام غير القرآن والأحاديث الصحيحة التي جاءت عن النبي ﷺ فإنما تمل من كثرة تردادها.
أما القرآن وما صح عن النبي ﷺ فإن المؤمن كل ما كرره ازداد رغبة ونشاطًا ومحبة للكلام ولمن تكلم به.
جَميعُ الكُتْبِ يُدْركُ مَن قَرَأهَا سِوَى القُرَآنِ فافْهَمْ واسْتَمِعْ لِي | مِلالٌ أَوْ فُتُورٌ أَوْ سَآمَةْ وقَوْلِ المُصْطَفَى يَاذَا الشَّهَامَةْ |
آخر:
أَعِدْ ذِكْْرَ قَالَ اللهُ قَالَ رَسُوْلُهُ | هُمَا المِسْكُ مَا كَرَّرْتَهُ يَتَضَوَّعُ |
وهذا موجود عندنا في فطرنا فإنا نسمع الكلام ممن نحب من الخلق. ومن نعظم قدره فترتاح لذلك قلوبنا.
فكيف بكلام ربنا رب العالمين الذي خلقنا ورزقنا وأعطانا وآوانا وعافانا وهدانا. وللكلام بقية تأتي إن شاء الله في الفصل الذي بعده.
اللهم اعطنا من الخير فوق ما نرجو واصرف عنا من السوء فوق ما نحذر. اللهم علق قلوبنا برجائك واقطع رجاءنا عمن سواك. اللهم إنك تعلم عيوبنا فاسترها وتعلم حاجاتنا فاقضها كفى بك وليًا وكفى بك نصيرًا يا رب العالمين.
(فصل)
وقد تكلم الله به حقيقة "أي القرآن"، وأنزله على محمد ﷺ مع الأمين من ملائكته.
فالواجب علينا الإصغاء والتفهم لما يتلى من كلام ربنا جل وعلا وتقدس.
وأنت تعلم أنه إذا كان للذي يحدثك عندك قدر أصغيت إلى حديثه باستماع ما يقول وتفهم معاني ما يصف.
ولو كان يحكيه لك عن حاكي لفعلت ذلك حبًا منك لقائله وتعظيمًا للمتكلم به.
ولو أطلعه الله على قلبك وأنت غافل متشاغل عنه لا تلقي له بالك ولا تفهم عنه قوله.
لأبغضك وعلم أنك مستهين به ساه عن حديثه ولا تهتم به ولم تعبأ بفهم قوله لقلة قدره وقدر حديثه عندك.
ولو كان له عندك قدر لأصغيت لحديثه ولم تله عن تفهمه وإنما لهوت عن حديث من حدثك من الخلق لأنه غاب عنهم علم ضميرك.
ولو كان باديًا وظاهرًا لهم ما فيه لأحضرت عقلك إليهم وإلى كلامهم وحديثهم، ولم ترض لهم بالاستماع دون الفهم له، ولا بالفهم له دون تحببهم على قدر حديثهم.
لتعلمهم أنك قد فهمت عنهم ولم ترض لهم بالجواب دون أن توافقهم فتعظم ما عظموا وتستحسن ما استحسنوا وتسقبح ما استقبحوا.
هذا وأكثر حديثهم لغو ولهو وليس فيه منفعة ولا دنيا ولا حق لهم يؤكدوه عليك بقولهم ولا يرضون عنك بفهمه ولا تحب لهم أن يسخطوا عليك إن لم تكن تفهمه وتقوم به.
فكيف بالرب العظيم الكريم الذي سهل لك مناجاته، ولم يتكلم به لغو ولا قاله لهوًا ولا عبثًا، ولا خاطب به سهوًا ولا تفكهًا تعالى الله عز وجل عن ذلك علوًا كبيرًا.
وإنما تكلم به مخاطبه قصدًا وإرادة وتوكيدًا للحجة عليك وعلى خلقه إعذارًا إليهم وإنذارًا.
فعرفنا به أن لا إله غيره وأمرنا بما يرضى به عنا ويقربنا منه ويوجب لنا جواره والقرب منه والنظر إليه.
ويوجب لنا به إن ركبنا ما يسخطه عذابه الأليم في خلود الأبد الذي لا انقطاع له ولا زوال ولا راحة.
وندبنا فيه إلى الأخلاق الكريمة والمنازل الشريفة وقد قال أصدق القائلين وأوفي الواعدين إن ما أنزله من كلامه شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين.
فما أحق من غفل عن فهم كتابه أن يستحي من ربه عز وجل ويأسف على ما مضى من عمه ومرض قلبه وهو لا يزداد إلا سقمًا ومرضًا وذلك لقلة مبالاته.
ترك طلب شفائه بما قال الله وتدبر ما تكلم به خالقه ومولاه وقد رآه مولاه وهو يعتني بفهم كتاب مخلوق وحديثه.
وليس في كتاب هذا المخلوق وحديثه إياه خلود الأبد في النعيم ولا النجاة من العذاب الأليم الي لا ينقطع.
بل ربما أن فيه ما الاشتغال به ضرر عليه، ومسخطة لربه عز وجل، أو لعل فيه ما الاستغناء بغيره أولى أو حاجة لا قدر لها أو خبر تافه.
أو حاجة بكلفة لا يأمل لها مكافأة ولا يحثه على القيام بها إلا خوف عذله ولومه.
فكيف تكون حالنا عند ربنا تبارك وتعالى وقد علم منا أننا قليل تعظيمنا له.
ونحن لا نعبأ بفهم كلامه وتدبر قوله فيما خاطب به كما نعبأ بفهم كتب عبيده وحديثهم الذين لا يملكون لنا ولا لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا.
فتبارك من يملك ذلك كله إلى أن قال رحمه الله فغدًا نقدم على الله عز وجل فنلقاه ويسائلنا عن كتابه الذي أنزل إلينا مخاطبًا لنا به وكيف فهمنا عنه وكيف عملنا به وهل أجللناه ورهبناه وهل قمنا بحقه الذي أمرنا به وجانبنا ما نهانا عنه.
ألم تسمع مسائلة الجن والإنس جميعًا يوم القيامة بما عليهم به الحجة في الدنيا من تلاوة آياته عليهم من رسله وأنه قطع بذلك عذرهم وأدحض به حجتهم.
فقال جل وعلا يوم العرض ]يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا[ وقال جل وعلا ]أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ[ وقال تعالى ]وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ[ انتهى كلامه رحمه الله باختصار وتصريف يسير.
خُزَّانُ وَحْي اللهِ لَمْ يُرَى غَيْرُهُم لَكِنْ عَلَيْهم أَنْ يَقُومُوْا بالذِي صِدْقٌ وإِخْلاصٌ وحُسْنُ عِبَادَةٍ وتَوَرُّعٍ وتَزَهُّدٍ وتَعَفُفٍ وديَانَةٍ وصِيَانَة وأَمَانَةٍ وأَدَاءِ فَرْضٍ واجْتِنَاب مَحَارِمٍ يَا حَامِل القُرْآنِ إِنْ تَكُ هَكذَا ومَتَى أَضَعْتَ حُدُوْدَهُ لَمْ تَنْتَفِعْ | أَهْلاً لِحِفْظ كَلامِهِ المُخْتَارِ فيهِ مِن المَشْرُوْعِ للأَبْرَارِ وقِيَامُ لَيْلٍ مَعْ صِيَامِ نَهَارِ وتَشَبُّهٍ بِخَلائِقِ الأَخْيَارِ وتَجَنُّبٍ لِخَلائِقِ الأَشْرَارِ وإِدَامَةٍ لِلْحَمْدِ والأَذْكَارِ فَلَكَ الهَنَاءُ بقوْزِ عُقْبَى الدَّارِ بِحُرُوْفِهِ وسَكَنْتَ دَارَ بَوَارِ |
اللهم اعطنا من الخير فوق ما نرجوه واصرف عنا من السوء فوق ما نحذر فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب.
اللهم واجعلنا ممن يأخذ الكتاب باليمين، واجعلنا يوم الفزع الأكبر آمنين، وأوصلنا برحمتك وكرمك إلى جنات النعيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
وقال محمد بن الحسين، ينبغي لمن علمه الله القرآن وفضله على غيره ممن لم يحمله.
وأحب أن يكون من أهل القرآن وأهل الله وخاصته.
وممن وعده الله من الفضل العظيم.
وممن قال الله عز وجل ]يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ[، قيل يعملون به حق العمل.
وممن قال النبي ﷺ "الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن وهو يتتعتع فيه وهو على شاق له أجران" رواه البخاري.
وقال بشر بن الحارث الزاهد المعروف سمعت عيسى بن يونس يقول إذا ختم العبد القرآن قبل الملك بين عينيه.
فينبغي للإنسان الموفق أن يجعل القرآن كلام رب العزة والجلال ربيعًا لقلبه، يعمر به ما خرب من قلبه، يحرص كل الحرص على تلاوته وتفهمه والعمل به.
فيتأدب بآدابه، ويتخلق بأخلاق شريفة، يتميز بها عن سائر الناس ممن لا يقرؤون القرآن.
فأول ما ينبغي أن يستعمل تقوى الله في السر والعلانية باستعمال الورع في مطعمه، ومشربه، وملبسه، ومسكنه، ومعاملته، وييعه، وشرائه.
وأن يكون بصيرًا بزمانه وفساد أهله، فيحذرهم على دينه، مقبلاً على شأنه مهتمًا بإصلاح ما فسد من أمره، حافظًا للسانه، مميزًا لكلامه.
إن تكلم بعلم إذا رآى الكلام صوابًا يخاف من لسانه أشد مما يخاف من عدوه قال ﷺ "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة".
وقال ﷺ "من وقي شر قبقبه وذبذبه ولقلقه فقد وجبت له الجنة" أخرجه الديلمي من حديث أنس t.
القبقب البطن، والذبذب الفرج، واللقلق اللسان.
وأن يكون قليل الضحك مما يضحك منه الناس لسوء عاقبة الضحك، فإن سر بشيء مما يوافق الحق تبسم.
ويتجنب كثرة المزاح "لأنه في الغالب للعداوة مفتاح" فإن مزح قال "حقًا، باسط الوجه طيب الكلام لا يمدح نفسه بما فيه فكيف بما ليس فيه".
وما حَسَنٌ أَنْ يَمْدَحَ المَرْءُ نَفْسَهُ | ولَكِنَّ أَخْلاقًا تَذُمُّ وتَمْدَحُ |
آخر:
ودَعْوَةُ المَرْءِ تُطْفِي نُوْرَ بَهْجَتِهِ | هَذَا بِحَقٍ فََكَيْفَ المُدَّعِي زَلَلا |
وأن يحذر نفسه أن تغلبه على ما تهوى مما يسخط مولاه.
ولا يغتاب أحدًا، ولا يحقر أحدًا، ولا يسب أحدًا، ولا يشمت بمصيبة، ولا يبغي على أحد، ولا يحسد أحدًا، ولا يسيء الظن إلا بمن يستحق ذلك.
ويجعل الكتاب والسنة والفقه فيهما دليله إلى كل خلق حسن جميل، وأن يكون حافظًا لجوارحه عما نهى الله عنه.
إن مشى بعلم وإن قعد بعلم حافظًا للسانه ويده عما لا يعنيه، ولا يجهل فإن جهل عليه حلم.
ولا يظلم وإن ظلم عفا عملاً بقوله تعالى ]وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ[ ولا يبغي وإن بغي عليه صبر، يكظم غيظه ليرضي ربه عز وجل، ويغيظ عدوه الذي لا يألو جهدًا في السعي في هلاكه.
اللهم يا حي يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، نسألك أن تكفينا ما أهمنا وما لا نهتم به، وأن ترزقنا الاستعداد لما أمامنا، وأن تغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
وقال رحمه الله وأن يكون "أي من علمه الله القرآن وفضله على غيره ممن لم يحمله" متواضعًا في نفسه إذا قيل له الحق قبله من صغير أو كبير يطلب الرفعة من الله لا من المخلوقين.
ماقت للكبر خائف على نفسه منه، لا يتأكل بالقرآن ولا يحب أن يقضي به الحوائج.
ولا يسعى إلى أبناء الملوك، ولا يجالس به الأغنياء ليكرموه.
إن كسب الناس من الدنيا الكثير بلا فقه ولا بصيرة كسب هو القليل بفقه وعلم.
إن لبس الناس اللين الفاخر لبس هو من الحلال ما يستر به عورته، إن وسع عليه وسع، وإن أمسك عليه أمسك.
يقنع بالقليل فيكفيه، ويحذر على نفسه من الدنيا ما يطغيه، يتبع واجبات القرآن والسنة.
يأكل الطعام بعلم، ويشرب بعلم، ويلبس بعلم، ويجامع أهله بعلم، ويصطحب الإخوان بعلم، ويزورهم بعلم، ويستأذن عليهم بعلم، ويسلم عليهم بعلم، ويجاور جاره بعلم.
يلزم نفسه بر والديه فيخفض لهما جناحه، ويخفض لصوتهما صوته، ويبذل لهما ماله، وينظر إليهما بعين الرحمة والوقار، يدعو لهما بالرحمة والبقاء ويشكر لهما عند الكبر، ولا يضجر منهما، ولا يحقرهما.
إن استعانا به على معصية لم يطعهما لقوله ﷺ "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".
وإن استعانا به على طاعة الله أعانهما ويرفق بهما في معصيته إياهما حيث لم يعنهما على المعصية.
ويكون ذلك بحسن الأدب ليرجعا عن قبيح ما أراد مما لا يحسن بهما فعله.
ويصل رحمه، ويكره القطيعة، ومن قطعه لم يقطعه، ومن عصى الله فيه أطاع الله فيه، يصحب المؤمنين بعلم، ويجالسهم بعلم، ومن صحبه نفعه.
حسن المجالسة لمن جالس، إن علم غيره رفق به، ولا يعنف من أخطأ ولا يخجله.
رفيق في أموره صبور على تعليم الخير، يأنس به المتعلم، ويفرح به المجالس، مجالسته تفيد خيرا.
مؤدب لمن جالسه بآداب القرآن والسنة إن أصيب بمصيبة، فالقرآن والسنة مؤدبان له.
يحزن بعلم ويبكي بعلم، ويتصدق بعلم، ويصوم بعلم، ويحج بعلم، ويجاهد بعلم.
ويكتسب بعلم، وينفق بعلم، وينبسط في الأمور بعلم، وينقبض عنها بعلم.
قد أدبه القرآن والسنة يتصفح القرآن ليؤدب به نفسه، ولا يرضى من نفسه أن يؤدي ما فرض الله عليه بجهل.
قد جعل العلم والفقه دليله إلى كل خير إذا درس القرآن فبحضور فهم وعقل.
همته إيقاع الفهم لما ألزمه الله من اتباع ما أمر والانتهار عما نهى.
ليس همته متى أختم السورة، همته متى أستغني بالله عن غيره، متى أكون من المتقين.
متى أكون من المحسنين، متى أكون من المتوكلين، متى أكون من الخاشعين، متى أكون من الصابرين.
متى أكون من الصادقين، متى أكون من الخائفين، متى أكون من الراجين، متى أزهد في الدنيا، متى أرغب في الآخرة.
متى أتوب من الذنوب، متى أعرف النعم المتواترة، متى أشكر الله عليها، متى أحفظ لساني.
متى أستحي من الله حق الحياء، متى أشتغل بعيبي، متى أصلح ما فسد من أمري، متى أحاسب نفسي.
متى أتزود ليوم معادي، متى أكون عن الله راضيًا، متى أكون بلقائه واثقًا، متى أكون بزجر القرآن متعضًا، متى أنصح لله.
متى أخلص له عملي، متى أقصر أملي، متى أتأهب ليوم موتي وقد غيب عني أجلي.
متى أعمر قبري، متى أفكر في الموقف وشدته، متى أفكر في خلوتي مع ربي.
متى أحذر مما حذرني منه ربي من نار حرها شديد وقعرها بعيد لا يموت أهلها فيستريحوا ولا تقال عثرتهم، ولا ترحم عبرتهم.
طعامهم الزقوم وشرابهم الحميم، قال تعالى ]إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ[ وقال ]كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا[ الآية.
ندموا حيث لا ينفع الندم وعضوا على الأيدي أسفًا على تقصيرهم في طاعة الله وركونهم لمعاصي الله.
فقال قائل منهم "يا ليتني قدمت لحياتي" وقال قائل "رب أرجعون لعلي أعمل صالحًا فيما تركت".
وقال قائل "يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول".
وقال قائل "يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها".
وقال قائل "يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانًا خليلاً".
شعرًا:
أمَا سَمِعْتَ بأكْبَادٍ لَهُمْ صَعَدْتْ أمَا سَمِعْتَ بِضِيْقٍ فِي مَكَانِهِمُوْا أمَا سَمِعْتَ بِحيَّاتٍ تَدِبُّ بِهَا فيَا إِلهي بأحْكَامٍ ومَا سَبَقَتْ أَدْعُوكَ أَنْ تَحْمِي العَبْدَ الضَّعِيْفَ فَمَا والشمسُ مَا لِي عَليْهَا قَطُّ مِن جَلدٍ | خَوْفًا مِن النارِ فانْحَطَّتْ إِلَى النَّارِ ولا فِرَارَ لَهُمْ مِن صَالي النَّارِ إِلَيْهمُوْا خُلِقَتْ مِن مَارِجِ النَّارِ بِهِ قَدِيْمًا مِن الجناتِ والنَّارِ لِلْعَبْدِ مِن جَسَدٍ يَقْوَى عَلَى النَّارِ فَكَيْفَ يَصْبُر ذُوْ ضَعْفٍ عَلَى النَّارِ |
اللهم علمنا ما ينفعنا وأنفعنا بما علمتنا وبارك لنا في علومنا وأعمالنا وأعمارنا وأصلح نياتنا وذرياتنا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
وقال رحمه الله تعالى فأما من قرأ القرآن للدنيا ولأبناء الدنيا، فإن من أخلاقه أن يكون حافظًا لحروف القرآن مضيعًا لحدوده، متعظمًا في نفسه متكبرًا على غيره.
قد اتخذ القرآن بضاعة يتأكل به الأغنياء، ويستقضي به الحوائج، يعظم أبناء الدنيا، ويحقر الفقراء.
إن علم الغني رفق به طمعًا في دنياه، وإن علم الفقير زجره وعنفه لأنه لا دنيا له يطمع فيها.
يستخدم به الفقراء، ويتيه به على الأغنياء إن كان حسن الصوت أحب أن يقرأ للملوك ويصلي بهم طمعًا في دنياهم.
وإن سأله الفقراء الصلاة بهم ثقل ذلك عليه لقلة الدنيا في أيديهم، وإنما طلبه الدنيا حيث كانت ربض عندها.
يفخر على الناس بالقرآن ويحتج على من دونه في الحفظ بفضل ما معه من القراءات.
فتراه تائهًا متكبرًا كثير الكلام يعيب كل من لم يحفظ كحفظه.
ومن علم أنه يحفظ كحفظه طلب عيبه، متكبرًا في جلسته، متعاظمًا في تعليمه لغيره، ليس للخشوع في قلبه موضع، كثير الضحك والخوض فيما لا يعنيه.
يشتغل عمن يأخذ عليه بحديث من جالسه.
هو إلى استماع حديث جليسه أصغى منه إلى استماع من يجب عليه أن يستمع له.
يوري أنه لم يستمع حافظًا فهو إلى كلام الناس أشهى منه إلى كلام الله عز وجل.
لا يخشع عند استماع القرآن، ولا يبكي ولا يحزن ولا يأخذ نفسه بالفكر فيما يتلى عليه وقد ندب إلى ذلك.
راغب في الدنيا وما قرب منها لها يغضب ويرضى وإن قصر رجل في حقه قال أهل القرآن لا يقصر في حقوقهم وأهل القرآن تقضى حوائجهم.
يستقضي من الناس حق نفسه ولا يستقضى من نفسه ما لله عليها.
يغضب على غيره ولا يغضب على نفسه لله.
لا يبالي من أين اكتسب من حرام أو من حلال أو من حلال قد عظمت الدنيا في قلبه إن فاته شيء منها لا يحل له أخذه حزن على فوته.
لا يتأدب بآداب القرآن ولا يزجر نفسه عن الوعد والوعيد لاه غافل عما يتلو أو يتلى عليه.
همته حفظ الحروف إن أخطأ في حرف ساءه ذلك لئلا ينقص جاهد عنه المخلوقين فتنقص رتبته عندهم.
فتراه محزونًا مغمومًا بذلك وما قد ضيعه فيما بينه وبين الله مما أمر الله به في القرآن أو نهى عنه غير مكترث به.
أخلاقه في كثير من أموره أخلاق الجهال الذين لا يعلمون لا يأخذ نفسه بالعمل بما أوجب الله عليه في القرآن إذا سمع الله عز وجال قال ]وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا[.
فكان من الواجب عليه أن يلزم نفسه طلب العلم لمعرفة ما نهى عنه النبي ﷺ فينتهي عنه إلى أن قال رحمه الله تعالى.
فأما العاقل إذا تلى القرآن استعرض القرآن فكان كالمرآه يرى بها ما حسن من فعله وما قبح منه.
فما حذره مولاه حذره وما خوفه به من عقابه خافه وما رغبه فيه مولاه رغب فيه ورجاه.
فمن كانت هذه صفته أو ما قارب هذه الصفة فقد تلاه حق تلاوته ورعاه حق رعايته وكان له القرآن شاهدًا وشفيعًا وأنيسًا وحرزًا.
ومن كان هذا وصفه نفع نفسه ونفع أهله وعاد على والديه على ولده كل خير في الدنيا والآخرة انتهى كلامه باختصار وتصرف يسير.
فَطُوْبَى لِمَنْ أَرْضَى الإِلَهَ مُسَارعًا وقَامَ وصَلَّى فِي الدَّيَاجِي ودَمْعُهُ وأَخْلَصَ للهِ العَظِيمِ قِيَامَهُ وأَحْيَا لَيَالِي عُمْرِهِ بِقِيَامِهِ فذاك بِحَمْدِ اللهِ فِي طَيْبِ عيشَةٍ | إِلَى سُبُلٍ تَهْدِيْه لِلرِّحْلَةِ الأُخْرَى عَلَى خَدِّهِ يَجْرِي بِمُقْلَتِهِ العَبْرَا وَرَاقَبَهُ سِرًا وَرَاقَبَهُ جَهْرًا إِلَى رَبِّهِ فِي اللَّيْل وَامْتَثَلَ الأَمْرَا يَفُوزُ بِهَا صَوْمًا ويَحْظَى بِهَا فِطْرًا |
اللهم استر عوراتنا وأصلح أولادنا واغفر لآبائنا وأمهاتنا وأمن روعاتنا واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا.
لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك لك الملك ولك الحمد تحيي وتميت وأنت على كل شيء قدير. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
يستحب الإكثار من ذكر الله في كل وقت ليلاً ونهارًا سرًا وجهارًا لأن جميع الخصال المحمودة راجعة إلى الذكر ومنشؤها عن الذكر.
وفضائل ذكر الله أكثر من أن تحصى وليس وراء الذكر شيء ولو لم يرد في الذكر إلا قول الله جل وعلا ]فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ[.
وقوله تعالى ]وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ[.
وقوله تبارك وتعالى ]فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ[.
وقوله عز من قائل ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً[.
وقال تعالى ]وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا[.
وقال تعالى ]وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[.
وقال ﷺ وآمركم أن تذكروا الله فإن ذلك مثل رجل خرج العدو في أثره سراعًا.
حتى إذا أتى إلى حصن حصين فأحرز نفسه كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله.
ولو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقًا بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله وأن لا يزال ذاكرًا لله ليلاً ونهارًا سرًا وجهارًا.
فإنه لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله ولا يدخل عليه العدو إلا من باب الغفلة والنسيان.
فإبليس لعنه الله يرصد الإنسان ويترقب غرته فإذا غفل عن ذكر الله وثب عليه وافترسه.
وإذا ذكر الله انخنس عدو الله وتصاغر وانقمع واندحر حتى يكون كالذباب.
ولهذا سمي "الوسواس الخناس" يوسوس في الصدور فإذا ذكر الله جل وعلا وتقدس، خنس أي كف وانقبض.
عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال سمعت رسول الله ﷺ يقول "إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء.
وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله قال أدركتم المبيت.
وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه قال أدركتم المبيت والعشاء" رواه مسلم في صحيحه. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(فصل)
عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ﷺ "إذا خرج الرجل من بيته فقال بسم الله يقول الملك هديت.
فإذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله يقول الملك وقيت.
فإذا قال توكلت على الله يقول الملك كفيت قال فيقول الشيطان عند ذلك كيف لنا بمن هدي ووقي وكفي".
وعن أنس أن النبي ﷺ قال "إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإن ذكر الله خنس وإن نسيه التقم قلبه فذلك الوسواس الخناس" أخرجه بن أبي الدنيا في مكائد الشيطان وأبو يعلي وابن شاهين والبيهقي في الشعب.
وعن ابن عباس قال الشيطان جاث على قلب ابن آدم فإذا سهى وغفل وسوس وإذا ذكر الله خنس وعنه ما من مولد يولد إلا على قلبه الوسواس فإذا ذكر الله خنس وإذا غفل وسوس فذلك قوله الوسواس الخناس.
وعن سهل ابن أبي صالح قال أرسلني أبي إلى بني حارثة ومعي غلام لنا أو صاحب لنا فناداه مناد من حائط باسمه.
فأشرف الذي معي على الحائط فلم ير شيئًا فذكرت ذلك لأبي فقال لو شعرت أنك تلقى هذا لم أرسلك.
ولكن إذا سمعت صوتًا فناد بالصلاة فإني سمعت أبا هريرة t يحدث عن النبي ﷺ أنه قال "إن الشيطان إذا نودي بالصلاة أدبر" خرجه مسلم.
وقال عثمان بن أبي العاص قلت يا رسول الله إن الشيطان حال بيني وبين صلاتي وبين قراءتي يلبسها علي.
فقال رسول الله ﷺ "ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل عن يسارك ثلاثًا ففعلت فأذهبه الله عني، خرجه مسلم.
وقال سليمان بن صرد كنت جالسًا مع رسول الله ﷺ ورجلان يستبان وأحدهما قد أحمر وجهه وانتفخت أوداجه فقال رسول الله ﷺ "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه الذي يجد" متفق عليه.
وعن أبان بن عثمان قال سمعت عثمان بن عفان t يقول قال رسول الله ﷺ "ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات فيضره شيء".
وكان أبان قد أصابه فالج فجعل الرجل ينظر إليه فقال أبان ما تنظر أما إن الحديث كما حدثتك ولكن لم أقله يومئذ ليمضي الله قدره.
رواه أبو داود والترمذي وقال حديث صحيح والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال صحيح الإسناد.
وعن بعض بنات النبي ﷺ ورضي الله عنها أن النبي ﷺ كان يعلمها فيقول "قولي حين تصبحين سبحان الله وبحمده ولا حول ولا قوة إلا بالله ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
أعلم أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا.
من قالهن حين يصبح حفظ حتى يمسي ومن قالهن حين يمسي حفظ حتى يصبح" رواه أبو داود والنسائي عن عبد الحميد مولى بني هاشم عن أمه عنها.
اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا واكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
وعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" متفق عليه.
وعنه t قال رسول الله ﷺ: "لأن أقول سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس" رواه مسلم.
وعنه: أن رسول الله ﷺ قال: "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في كل يوم وليلة مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتب له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه" وقال "من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت عنه خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر" متفق عليه.
وعن أبي أيوب الأنصاري t عن النبي ﷺ أنه قال: من قال "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات، كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل" متفق عليه.
وعن أبي ذر t قال قال رسول الله ﷺ: "ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله" قلت: بلى يا رسول الله أخبرني بأحب الكلام إلى الله، فقال: "إن أحب الكلام إلى الله سبحانه الله وبحمده" راوه مسلم.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله ﷺ "من سبح الله مائة بالغداة ومائة بالعشي كان كمن حج مائة حجة ومن حمد الله مائة بالغداة ومائة بالعشي كان كمن حمل على مائة فرس في سبيل الله أو قال غزا مائة غزوة ومن هلل الله مائة بالغداة ومائة بالعشي كان كمن أعتق مائة رقبة من ولد إسماعيل ومن كبر الله مائة بالغداة ومائة بالعشي لم يأت في ذلك اليوم أحد بأكثر مما أتى به إلا من قال مثل ما قال أو زاد على ما قال" رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب.
وفي الصحيحين عن علي أن فاطمة أتت النبي ﷺ تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى، وبلغها أنه جاء رقيق فلم تصادفه فذكرت ذلك لعائشة فذهبنا نقوم فقال على مكانكما فجاء وقعد بيني وبينها حتى وجدت برد قدمه على بطني فقال ألا أدلكما على خير مما سألتما، إذا أخذتما مضجعكما فسبحا ثلاثًا وثلاثين واحمدا ثلاثًا وثلاثين وكبرا أربعًا وثلاثين فهو خير لكما من خادم.
وجاء عن معقل بن يسار عن النبي ﷺ قال من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدًا ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة. حسنه الترمذي وغربه.
اللهم اكتب في قلوبنا الإيمان وأيدنا بنور منك يا نور السموات والأرض اللهم وافتح لدعائنا باب القبول والإجابة واغفر لنا وارحمنا برحمتك الواسعة إنك أنت الغفور الرحيم وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
وعن أبي هريرة t قال: كان رسول الله ﷺ يسير في طريق مكة، فمر على جبل يقال له (جمدان) فقال: "سيروا هذا جمدان، سبق المفردون" قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: "الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات" رواه مسلم.
وعن أبي موسى قال: قال رسول الله ﷺ: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت" متفق عليه.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ يقول الله (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم" متفق عليه.
وعن أبي موسى الأشعري t قال: قال رسول الله ﷺ: "يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله" متفق عليه.
وعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ "إن الله تعالى يقول: أنا مع عبدي إذا ذكرني، وتحركت بي شفتاه" رواه البخاري.
وعن عبد الله بن بسر t أن رجلاً قال يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: "لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله". راوه الترمذي وحسنه ابن ماجه، وصححه ابن حبان والحاكم. وروى عمر بن الخطاب t قال قال رسول الله ﷺ: "ذاكر الله في رمضان مغفور له، وسائل الله فيه لا يخيب" رواه الطبراني في (الأوسط) والبيهقي، والأصبهاني.
وعن أبي سعيد الخدري t قال قال رسول الله ﷺ "الباقيات الصالحات لا إله إلا الله، وسبحان الله والله أكبر، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله" أخرجه النسائي وصححه بن حبان والحاكم.
وعن أبي الدرداء t قال: قال رسول الله ﷺ "ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا بلى، قال ذكر الله".
وعن عبد الله بن يسر قال: "جاء أعرابي إلى النبي ﷺ فقال: أي الناس خير؟ فقال: طوبى لمن طال عمره وحسن عمله، قال: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: أن تفارق الدنيا ولسانك رطبًا من ذكر الله".
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله أجمعين.
(فصل)
عن عمران ابن حصين t قال قال رسول الله ﷺ "أما يستطيع أحدكم أن يعمل كل يوم عملاً مثل أحد قالوا يا رسول الله ومن يستطيع أن يعمل كل يوم عملاً مثل أحد.
قال كلكم يستطيعه قالوا ماذا قال سبحان الله أعظم من أحد ولا إله إلا الله أعظم من أحد والله أكبر أعظم من أحد، والحمد لله أعظم من أحد" رواه النسائي في اليوم والليل ورجاله ثقات.
عن أنس t قال جاء رجل بدوي إلى رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله علمني خيرًا قال قل سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
قال وعقد بيده أربعًا ثم ذهب فقال "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر".
ثم رجع فلما رآه رسول الله ﷺ تبسم وقال "يفكر البائس" فقال يا رسول الله سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هذا كله لله فما لي.
فقال رسول الله ﷺ "إذا قلت سبحان الله قال الله صدقت، وإذا قلت الحمد لله قال صدقت، وإذا قلت لا إله إلا الله قال الله صدقت، وإذا قلت الله أكبر قال الله صدقت.
فتقول اللهم اغفر لي فيقول الله قد فعلت، وتقول اللهم ارحمني فيقول الله قد فعلت، وتقول اللهم ارزقني فيقول الله قد فعلت، قال فعقد الأعرابي سبعًا في يديه".
عن سعد بن أبي وقاص t أن أعرابيًا جاء إلى النبي ﷺ فقال يا رسول الله علمني كلمات أقولهن قال "قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا وسبحان الله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم".
قال: فهؤلاء لربي فما لي؟ قال: "قل: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني" فلما ولى الأعرابي قال النبي ﷺ: "لقد ملأ يديه من الخير" خرجه مسلم.
عن أبي أمامة t قال: قال رسول الله ﷺ: "من قال دبر صلاة الغداة لا إله إلا الله وخده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير مائة مرة قبل أن يثني رجليه كان يومئذ من أفضل أهل الأرض عملاً إلا من قال مثل ما قال أو زاد على ما قال" رواه الطبراني بإسناد جيد حسن.
اللهم انظمنا في سلك الفائزين برضوانك، واجعلنا من المتقين الذين أعددت لهم فسيح جناتك، وأدخلنا برحمتك في دار أمانك، وعافنا يا مولانا في الدنيا والآخرة من جميع البلايا وأجزل لنا من مواهب فضلك وهباتك ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي ﷺ قال "أربع من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة قلبًا شاكرًا ولسانًا ذاكرًا وبدنًا على البلاء صابرًا وزجة لا تبغيه حوبًا في نفسها ومالها" رواه الطبراني بإسناد جيد.
وعن أبي موسى t قال قال رسول الله ﷺ "لو أن رجلاً في حجره دراهم يقسمها وآخر يذكر الله كان الذاكر لله أفضل" رواه الطبراني بإسناد حسن.
وعن معاذ بن جبل t قال قال رسول الله ﷺ "ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرت بهم ولم يذكروا الله تعالى فيها" رواه الطبراني والبيهقي في الشعب بإسناد جيد.
وأخرج البغوي في (شرح السنة) قال لقمان لابنه "عود لسانك اللهم اغفر لي، فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلاً".
وعن أبي هريرة t قال قال رسول الله ﷺ "إذا مررتم برياض الجنة فارتغوا".
قالوا وما رياض الجنة قال المساجد قالوا وما الرتع قال "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" رواه الترمذي وقال حديث غريب.
وعن أبي سلمى راعي رسول الله ﷺ قال سمعت رسول الله ﷺ يقول "بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان.
لا إله إلا الله وسبحان الله والحمد لله والله أكبر والولد الصالح يتوفى للمرء المسلم فيحتسبه" رواه النسائي وابن حبان والحاكم وقال صحيح الإسناد.
وعن عبد الله بن مسعود t قال إذا حدثتكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك في كتاب الله.
إن العبد إذا قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله قبض عليهن ملك وضمهن تحت جناحه وصعد بهن.
لا يمر على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يحيي بهن وجه الرحمن.
ثم تلا عبد الله ]إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ[ رواه الطبراني والحاكم وهذا لفظه وقال صحيح الإسناد.
وعن مصعب بن سعد قال حدثني أبي قال كنا عند رسول الله ﷺ فقال أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة.
فسأله سائل من جلسائه كيف يكسب أحدنا ألف حسنة قال "يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة" رواه مسلم.
وعن أبي سعيد الخدري t أن رسول الله ﷺ قال "استكثروا من الباقيات الصالحات".
قيل وما هن يا رسول الله قال "التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله" رواه النسائي وابن حبان والحاكم وقال صحيح الإسناد.
اللهم ألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لما وفقت له الصالحين من خلقك واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
وعن أبي هريرة t قال قال رسول الله ﷺ "لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إليه مما طلعت عليه الشمس" رواه مسلم.
وعن رجل من أصحاب النبي ﷺ قال "أفضل الكلام سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" رواه أحمد بإسناد صحيح.
وعن سمرة بن جندب t قال قال رسول الله ﷺ "أحب الكلام إلى الله أربع سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر لا يضرك بأيهن بدأت" رواه مسلم والنسائي.
وعن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله ﷺ ليلة أسري به مر على إبراهيم عليه السلام فقال من معك يا جبريل قال هذا محمد فقال له إبراهيم "يا محمد مر أمتك فليكثروا من غراس الجنة فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة" قال وما غراس الجنة قال "لا حول ولا قوة إلا بالله" رواه أحمد وابن حبان.
عن ابن عمر t أن رسول الله ﷺ حدثهم "أن عبدًا من عباد الله قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعد إلى السماء فقالا يا ربنا إن عبدك قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها.
قال الله وهو أعلم بما قال عبده ماذا قال عبدي قالا يا رب إنه قد قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.
فقال الله لهما اكتبوها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها" رواه أحمد وابن ماجه بإسناد حسن.
وعن أبي موسى t أن النبي ﷺ قال له "قل لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة" رواه البخاري ومسلم.
وعن معاذ t أن رسول الله ﷺ قال: "ألا أدلك على باب من أبواب الجنة" قال وما هو قال "لا حول ولا قوة إلا بالله" رواه أحمد والطبراني بإسناد صحيح.
وعن سعد بن أبي وقاص قال قال رسول الله ﷺ "من قال حين يسمع المؤذن وأنا أشهد أن لا إله إلا لاله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله رضيت بالله ربًا وبمحمد رسولاً وبالإسلام دينًا".
وفي رواية نبينا غفر له رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
وعن عمرو بن مرة الجهني قال جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول وصليت الخمس وأديت الزكاة وصمت رمضان فممن أنا.
قال "من الصديقين والشهداء" أخرجه ابن خزيمة وابن حبان والبزار.
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
عن ابن مسعود t قال قال رسول الله ﷺ "لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسري بي.
فقال يا محمد أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان.
وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" رواه الترمذي وقال حديث حسن.
وخرج الطبراني بإسناده عن سليمان t قال سمعت رسول الله ﷺ يقول "إن في الجنة قيعانًا فأكثروا من غراسها" قالوا يا رسول الله وما غراسها قال "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر".
وعن أبي هريرة t أن رسول الله ﷺ مر به وهو يغرس غرسًا فقال "يا أبا هريرة ما الذي تغرس قلت غراسًا.
قال "أدلك على غراس خير من هذا، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر تغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة" رواه ابن ماجه بإسناد حسن والحاكم بنحوه وقال صحيح الإسناد.
وعن أبي هريرة t أن رسول الله ﷺ قال "خذوا جنتكم" قالوا يا رسول الله عدو حضر قال "لا ولكن جنتكم من النار".
قولوا سبحان الله والحمد لله والله أكبر فإنهن يأتين يوم القيامة مجنبات ومعقبات وهن الباقيات الصالحات" رواه النسائي والحاكم بنحوه وقال صحيح على شرط مسلم.
وعن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنهما ـ قال قال رسول الله ﷺ "إن مما تذكرون من جلال الله التسبيح والتهليل والتحميد ينعطفن حول العرش لهن دوي كدوي النحل تذكر بصاحبها.
أما يحب أحدكم أن يكون له من يذكر به" رواه ابن ماجه والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم.
وعن أنس أن رسول الله ﷺ أخذ غصنًا فنفضه فلم ينتفض ثم نفضه فلم ينتفض ثم نفضه فانتفض فقال رسول الله ﷺ "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر تنفض الخطايا كما تنفض الشجرة ورقها" رواه أحمد بإسناد جيد وهذا لفظه.
اللهم وفقنا لصالح الأعمال، ونجنا من جميع الأهوال، وأمنا من الفزع الأكبر يوم الرجف والزلزال، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
ومن خصائص ذكر الله أنه غير مؤقت بوقت فما من وقت من الأوقات إلا والبعد مطلوب به إما وجوبًا وإما ندبًا بخلاف غيره من الطاعات.
وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ "لم يفرض الله تعالى على عباده فريضة إلا جعل لها حدًا معلومًا ثم عذر أهلها في حال العذر.
غير الذكر فإنه لم يجعل له حدًا ينتهي إليه ولم يعذر في تركه إلا مغلوبًا على عقله وأمرهم بذكره في الأحوال كلها".
قال مجاهد الذكر الكثير أن لا تنساه أبدًا.
فينبغي للعبد أن يستكثر منه في كل حالاته ويستغرق فيه جميع أوقاته ولا يغفل عنه في جميع حالاته إلا وقت قضاء الحاجة وفي المحلات التي ينزه عنها ذكر الله وكلامه وأحاديث رسول الله ﷺ.
ولا يتركه لوجود غفلته فيه فإن تركه له وغفلته عنه أشد من غفلته فيه فعليه أن يذكر الله بلسانه وإن كان غافلاً فلعل ذكره مع وجود الغفلة يرفعه إلى الذكر مع وجود اليقظة.
ومع الإكثار من ذكر الله تعتاده وتألفه وتستأنس به فإذا جاء هاذم اللذات وجاءت سكراته اشتغل اللسان في الغالب فيما اعتاده وداوم عليه طول حياته.
ولذا نقل عن بقال كان يلقن عند الموت شهادة أن لا إله إلا الله فيقول خمسة ستة أربعة لما اعتاده من كثرة تكرارها.
وآخر من شاربي الدخان يلقن الشهادة وهو في سكرات الموت فيقال له قل لا إله إلا الله فيقول تتن حار تتن حار.
وقيل لبعضهم قل لا إله إلا الله فقال آه آه لا أستطيع أن أقولها.
وقيل لآخر قل لا إله إلا الله فقال شاه رخ غلبك "اسمين لحجرين من أحجار الشطرنج كان في حياته مفتونًا بلعبها" ثم قضى أي مات.
وقيل لآخر "قل لا إله إلا الله".
فقال:
يا رُبَّ قَائِلَةٍ يومًا وقد تَعَبَتْ | أيْنَ الطَّريْقُ إلى حَمَامِ مَنْجَابِ |
ثم مات.
وقيل لآخر قل لا إله إلا الله فجعل يهذي بالغناء فقال وما ينفعني ما تقول ولم أدع معصية إلا ركبتها ثم قضي أي مات ولم يقلها.
وقيل لآخر مثل ذلك فقال وما يغني عني، وما أعلم أني صليت لله تعالى صلاة ثم قضي (أي مات) ولم يقلها.
وقيل لآخر ذلك أي مثل ما قيل لذلك فقال هو كافر بما تقول ومات.
وقيل لآخر ذلك أي مثل ما قيل لذلك فقال كلما أردت أن أقولها فلساني يمسك عنها.
وقال رحمه الله وأخبرني من حضر بعض الشحاذين عند الموت فجعل يقول لله فليس لله فليس حتى قضي أي مات.
وأخبرني بعض التجار عن قرابة له أنه احتضر وهو عنده فجعلوا يلقنونه (لا إله إلا الله).
وهو يقول هذه القطعة رخيصة هذا مشتري جيد هذه كذا حتى قضي أي مات.
وسبحان الله كم شاهد الناس من هذا عبرًا والذي يخفي عليهم من أحوال المحتضرين أعظم.
وإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه قد تمكن منه الشيطان واستعمله بما يريده من المعاصي.
وقد أغفل قلبه عن ذكر الله تعالى وعطل لسانه عن ذكره وجوارحه عن طاعته فكيف الظن به عند سقوط قواه واشتغال قلبه بما هو فيه من ألم النزع.
وجمع الشيطان له كل قوته وهمته وحشد عليه بجميع ما يقدر عليه لينال منه غرضه فإن ذلك آخر العمل.
فأقوى ما يكون عليه شيطانه ذلك الوقت وأضعف ما يكون هو في تلك الحالة فمن ترى يسلم على ذلك.
فهنالك ]يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ[.
فكيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله قلبه عن ذكره وأتبع هواه وكان أمره فرطًا.
فبعيد من قلب بعيد من الله غافل عنه متعبد لهواه مصير لشهواته ولسانه يابس من ذكره وجوارحه معطلة من طاعة الله مشتغلة بمعصيته فبعيد أن يوفق لحسن الخاتمة.
انتهى كلامه رحمه الله.
موعظة
قال ابن الجوزي رحمه الله: الحذر الحذر من المعاصي فإنها سيئة العواقب، والحذر الحذر من الذنوب خصوصًا ذنوب الخلوات، فإن المبارزة لله تعالى تسقط العبد من عينه سبحانه ولا ينال لذة المعاصي إلا دائم الغفلة.
فأما المؤمن اليقظان فإنه لا يلتذ بها، لأنه عند التذاذه يقف بإزائه علمه بتحريمها وحذره من عقوبتها، فإن قويت معرفته رأى بعين علمه قرب الناهي وهو الله.
فيتنغص عيشه في حال التذاذه فإن غلبه سكر الهوى كان القلب متنغصًا بهذه المراقبات وإن كان الطبع في شهوته فما هي إلا لحظة ثم خزي دائم وندم ملازم وبكاء متواصل وأسف على ما كان مع طول الزمان.
حتى إنه لو تيقن العفو وقف بإزائه حذار العتاب فأف للذنوب ما أقبح آثارها وأسوء أخبارها انتهى كلامه.
شعرًا:
ولَمَّا قَسَا قَلْبِي وضَاقَتْ مَذَاهِبي تَعَاظَمِني ذَنْبِيْ فَلمَّا قَرَنْتُهُ فلِلَّهِ دَرُّ العَارِف النَّدْبِ إِنَّهُ يُقِيْمُ إِذَا ما اللَّيْلُ مَدَّ ظَلامَهُ فَصِيْحًا إِذَا مَا كَانَ مِنْ ذِكْرِ رَبِّهِ ويَذْكُرُ أَيَّامًا مَضَتْ مِن شَبَابِهِ فَصَارَ قَرْينَ الهَمِّ طُول نَهَارِهِ يَقُولُ إِلَهِيْ أَنْتَ سُؤْلِي وبُغْيَتي فأنْتَ الذي غَذَّيْتَنِي وكَفَلْتَنيْ رَجُوتُكَ مُوْلِى الفَضْلِ تَغْفِر زَلَتَيْ | جَعَلْتُ الرَّجَا مِنِّي لِعَفْوكَ سُلَّمَا بِعَفْوكَ رَبِي كَانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا تِسحُّ لِفَرْطَ الوَجْد أجْفَانُهُ دَمَا عَلَى نَفْسِهِ مِن شِدَّةِ الخَوْفِ مأتَمَا وفِيْمَا سِوَاهُ فِي الوَرَى كانَ مُعْجَمَا ومَا كَانَ فِيْهَا فِي الجَهَالَةِ أَجْرَمَا ويَخْدِمُ مَوْلاهُ إِذَا اللَّيلِ أَظْلَمَا كَفَى بِكَ لِلِرَّاجِيْن سُؤْلاً ومَغْنَمَا ومَا زَلْتَ مَنَّانًا عَلَيَّ ومُنْعِمَا وتَسْتُرُ أَوَزَارِيْ وما قَدْ تَقَدَّمَا |
اللهم إنا نسألك باسمك الأعظم الأعز الأجل الأكرم الذي إذا دعيت به أجبت، وإذا سئلت به أعطيت، ونسألك بوجهك الكريم أكرم الوجوه وأعز الوجوه، يا من عنت له الوجوه وخضعت له الرقاب، وخشعت له الأصوات، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم يا مالك الملك يا من هو على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وبكل شيء محيط، يا من لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين، نسألك أن تغفر سيئاتنا وتبدلها بحسنات يا أكرم الأكرمين وأجود الأجودين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فائدة نفيسة
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين أنه يجب على الإنسان أن يعلم أنه عبد الله مربوب لا نجاة له إلا بتقوى الله وطاعته ولا هلكة عليه بعدها.
ثم تفكر وأمعن النظر لأي شيء خلقت ولم وضعت في هذه الدار الفانية فتعلم أنك لم تخلص عبثًا ولم تترك سدى.
قال الله تعالى ]أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ[.
وقال جل وعلا ]أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى[ أي مهملاً لا يؤمر ولا ينهى ولا يحاسب ولا يعاقب ولا يكلف في الدنيا ولا يبعث ولا يجازى.
وإنما خلقت ووضعت في هذه الدار الفانية للابتلاء والاختبار هل تطيع الله عز وجل أو تعصيه.
فتنقل من هذه الدار إلى دار النعيم الأبدي السرمدي أو إلى العذاب الأبدي.
قال الله جل وعلا وتقدس ]وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا[.
وقال تعالى ]وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[.
وقال جل وعلا وتقدس في حق الفريق الآخر ]وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ[.
وقال تعالى ]وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا[ فإذا علمت أنك عبد مربوب ثم فهمت وعقلت لأي شيء خلقت.
ولماذا عرضت وإلى أي شيء لا محالة مصيرك إلى عذاب الأبد أو الثواب والنعيم الأبد.
كان ذلك من أول ما يجب عليك أن تبدأ به لأن أول ما يلزمك في صلاح نفسك الذي لا صلاح لها في غيره أن تعلم أنها مربوبة متعبدة.
فإذا علمت ذلك علمت أن لا نجاة لك إلا بطاعة ربك ومولاك وأن الدليل على طاعة ربك ومولاك عز وجل العلم ثم العمل بما يأمر به والانتهاء عما ينهى عنه.
ولن تجد ذلك إلا في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ لأن الطاعة سبيل النجاة والعلم هو الدليل على السبيل الموصل إلى النجاة والواجب على المكلف أن يتعلم من العلوم الدينية ما يحتاج إليه في عباداته ومعاملاته وما عدا ذلك من العلوم الشرعية أو ما هو وسيلة إليها فمستحب فقط.
اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة وارزقنا صدق التوبة وحسن الإنابة، ويسرنا لليسرى وجنبنا العسرى وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخر حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
موعظة
عباد الله كلنا نعلم أن حياتنا مهما ماتدت وصفت للزوال، وكذلك كل واحد منا يعلم أنه أتى للدنيا للاختبار بما كلفنا به من العبادات والمعاملات، وسيصبح الواحد منا عما قريب في حفرة وحيدة ليس معه أولاد ولا أموال، وحينئذ تكون أيها الأخ كأنك ما رأيت الدنيا ولا هي رأتك لحظة من اللحظات.
ويا ليتك إذا زالت الحياة تزول دون أن يترتب عليها آثار لو كان ذلك لأحب بعضنا الموت، لأنه يكون بشيرًا بانتهاء الأمراض والمصائب والآلام، لكنك تعلم أنه يعقب ذلك الموت أهوال، وأمور مزعجات، تلاقي جزاء ما كان منك قبل الموت في الاختبار.
فإن كنت قد أحسنت، رأيت قبرك روضة نعيم، وإن كنت مسيئًا رأيته نيرانًا محرقات.
عن البراء بن غارب قال كنا في جنازة رجل من الأنصار ومعنا رسول الله ﷺ فانتهينا إلى القبر ولم يلحد، ووضعت الجنازة، وجلس رسول الله ﷺ، فقال إن المؤمن إذا احتضر، أتاه ملك الموت في أحسن صورة، وأطيب ريحًا، فجلس عنده، لقبض روحه، وأتاه ملكان بحنوط من الجنة وكانا منه على بعيد فاستخرج ملك الموت روحه من جسده رشحًا.
فإذا صارت إلى ملك الموت ابتدرها الملكان فأخذاها منه فحنطاها بحنوط من الجنة وكفناها بكفن من الجنة ثم عرجا بها إلى الجنة، فتفتح له أبواب السماء، وتستبشر الملائكة بها ويقولون لمن هذه الروح الطيبة التي فتحت لها أبواب السماء.
ويسمى بأحسن الأسماء التي كان يسمى بها في الدنيا، فيقال هذه روح فلان فإذا صعدا بها إلى السماء شيعها مقربوا كل سماء، حتى توضع بين يدي الله عند العرش، فيخرج عملها من عليين فيقول الله عز وجل للمقربين اشهدوا أني قد غفرت لصاحب هذا العمل، ويختم كتابه فيرد في عليين.
فيقول الله عز وجل ردوا روح عبدي إلى الأرض، فإني وعدتهم أني أردهم فيها.
ثم قرأ رسول الله ﷺ ]مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى[.
فإذا وضع المؤمن في لحده تقول له الأرض إن كنت لحبيبًا إلي وأنت على ظهري، فكيف إذ صرت اليوم في بطني سأريك ما أصنع بك، فيفسح له في قبره مد بصره.
وقال رسول الله ﷺ إذا وضع الكافر في قبره أتاه منكر ونكير فيجلسانه فيقولان له من ربك، فيقول لا أدري فيقولان له لا دريت، فيضربانه ضربة فيصير رمادًا، ثم يعاد فيجلس فيقال له ما قولك في هذا الرجل، فيقول أي رجل فيقولان محمد ﷺ فيقول قال الناس إنه رسول الله ﷺ فيضربانه ضربة فيصير رمادًا.
ويا ليت الأمر ينتهي، ويقف عند هذا الحد، فتبقى في قبرك على الدوام، فإنه أخف مما بعده، فتكون آلامك فيه أخف إن كنت من أهل الشقاء والآثام، ولكن تعلم أن ما أخبر به الله سيقع، وهو القيام من القبور، قال الله تعالى: ]يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[.
وحينئذ تسوق نتيجة اختبارك إما إلى الجنة وإما إلى السعير، من كان مكذبًا بهذا والعياذ بالله فلا كلام لنا معه، لأن مآله إلى جهنم وبئس المهاد لأنه من الكافرين، وإن كان مؤمنًا بذلك كما أخبر الله ورسوله فهو الذي تفيد فيه المواعظ وضرب الأمثال ويقال لماذا نراك متصفًا بما يخالف قولك:
شعرًا:
سَهَوْنَا عَن مُسَاوَرَةِ المنايا وغَرَّتْنَا مُسَاعَدَةُ الأَمَانِي وكَمْ نَادَتْ فأَسْمَعْتِ اللَّيَالِي مُجَاهَرَةٌ بنُكْرٍ دُوْنَ عُرْفٍ يَطُولُ تَعَجُّبي مِنَّا حَلَلْنَا ولَمْ أَرَ مِثْلَنَا سَفْرًا تَبَارَوْا | فيا للهِ مِن سَهْوِ العِبَادِ فَلَمْ نَحْزَنْ عَلَى العُمْرِ المُبَادِ ولَكِنْ لا مُصِيْخَ إِلَى مُنَادِ وتَنْدِيدٌ يُعَادُ بِكُلِّ نَادِ ولَمْ نَخَفِ السُّيُولَ ببَطْن وَادِ إِلَى الغَايَاتِ سَيْرًا دُونَ زَادِ |
اللهم وفقنا توفيقًا يقينًا عن معاصيك وأرشدنا إلى السعي فيما يرضيك وأجرنا يا مولانا من خزيك وعذابك وهب لنا ما هوبته لأوليائك وأحبابك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فصل في ذكر بعض الأدعية الواردة
عباد الله اعتنموا هذه الأوقات الشريفة وأكثروا فيها من الدعاء فإن الدعاء له أثر عظيم وموقع جسيم.
وهو مخ العبادة ولا سيما إذا كان بقلب حاضر وصادف إخباتًا وخشوعًا وانكسارًا وتضرعًا ورقة وخشية واستقبل القبلة حال دعائه وكان على طهارة.
وجدد توبة وأكثر من الاستغفار وبدأ بحمد الله وتنزيهه وتمجيده وتقديسه والثناء عليه وشكره ثم صلى على النبي ﷺ بعد ذلك.
ودعا بدعاء مشروع باسم من أسماء الله الحسنى مناسب لمطلوبه.
فإن كان يريد علمًا قال يا عليم علمني.
وإن كان يطلب رحمة قال يا رحمن ارحمني.
وإن كان يطلب رزقًا قال يا رزاق ارزقني ونحو ذلك.
ولم يمنع من الدعاء مانع كأكل الحرام وقطيعة رحم وعقوق ونحو ذلك.
وتحرى أوقات الإجابة وأتى بأسبابها وهي الاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره والانتهاء عن ما نهى عنه.
فالله أصدق القائلين وأوفى الواعدين قال تعالى ]ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[.
وقال عز من قال ]وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ[.
وقال جل وعلا ]ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً[.
وقال تبارك وتعالى ]أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ[.
وقال تعالى ]وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ[.
وقال ]وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً[.
ومن أوقات إجابة الدعاء إذا اجتمعت الشروط وانتفت الموانع ثلث الليل الأخير.
ويوم الجمعة عند صعود الإمام المنبر أو في آخر ساعة من يومها.
وعند الآذان.
وبين الآذان والإقامة.
وعند نزول الغيث.
وعند فطر الصائم.
وعشية عرفة.
وفي حالة السجود.
وفي ليلة القدر.
وفي أدبار الصوات.
وفي أدبار النوافل.
وعند ختم القرآن.
وعند البكاء والخشية من الله.
قال بعضهم:
قالوا شُروطُ الدُعاءِ المُسْتَجَابِ لَنَا طَهَارَةٌ وصَلاةٌ مَعْهُمَا نَدَمٌ وحِلُّ قُوْتٍ ولا يُدْعَى بِمَعْصِيَةٍ | عَشْرٌ بِهَا بَشِّر الداعِي بإِفْلاحِ وَقْتٌ خُشُوعٌ وحُسْنُ الظنِ يَا صَاحِ واسْمٌ يُنَاسِبُ مَقْرُوْنٌ بإِلْحَاحِ |
اللهم اسلك بنا مناهج السلامة وعافنا من موجبات الحسرة والندامة ووفقنا للاستعداد لما وعدتنا وأدم لنا إحسانك ولطفك كما عودتنا وأتمم علينا ما به أكرمتنا برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
الأدلة لما تقدم عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله ﷺ قال في ثلث الليل الأخير "إنها ساعة مشهودة والدعاء فيها مستجاب" أخرجه الحاكم والترمذي.
وعن ابن عمر قال نادى رجل رسول الله ﷺ أي الليل أجوب دعوة.
قال: جوف الليل الأخير. أخرجه البزار والطبراني بسند صحيح.
وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ ذكر يوم الجمعة.
فقال: "فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئًا إلا أعطاه" أخرجه الشيخان.
وعن عثمان بن أبي العاص الثقفي أن النبي ﷺ قال: "تفتح أبواب السماء نصف الليل فينادي مناد، هل من داع فيستجاب له، هل من سائل فيعطى، هل من مكروب فيفرج عنه فلا يبقى مسلم فيدعو بدعوة إلا استجاب له إلا زانية تسعى بفرجها أو عشارًا" أخرجه الطبراني بسند صحيح.
وعن عائشة قالت قال رسول الله "ثلاث ساعات للعبد المسلم ما دعا فيهن إلا استجيب له ما لم يسأل قطيعة رحم أو مأثمًا.
حين يؤذن للصلاة حتى يسكت وحين يلتقي الصفان حتى يحكم الله بينهما وحين ينزل المطر حتى يسكن" أخرجه أبو نعيم في الحلية.
وعن سهل بن سعد أن النبي ﷺ كان إذا مالت الشمس عن كبد السماء قدر شراك قام فصلى أربع ركعات قلت يا رسول الله ما هذه الصلاة.
قال لله من صلاهن فقد أحيا ليلته هذه ساعة تفتح فيها أبواب السماء ويستجاب فيها الدعاء" أخرجه أبو نعيم في الحلية.
وعن عبد الله بن أبي أوفى قال قال رسول الله ﷺ "إذا فاءت الأفياء وهبت الأرواح فارفعوا إلى الله حوائجكم فإنها ساعة الأوابين" أخرجه أبو نعيم في الحلية.
وعن عطاء قال "ثلاث خلال تفتح عندهن أبواب السماء فتحروا الدعاء عندهن.
عند الأذان، وعند نزول الغيث، وعند التقاء الزحفين" أخرجه سعيد بن منصور.
وعن ابن عمر أن النبي ﷺ قال "للصائم عند فطره دعوة مستجابة" أخرجه النسائي.
وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال "ثلاث حق على الله أن لا يرد لهم دعوة الصائم، حتى يفطر، والمظلوم حتى ينتصر، والمسافر حتى يرجع" أخرجه البزار.
وعن عبد المطلب بن عبد الله بن حنطب أن النبي ﷺ قال "من أفضل الدعاء الدعاء يوم عرفة" أخرجه سعيد بن منصور في نسته.
وعن جابر قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة" أخرجه مسلم.
وعن سهل بن سعد مرفوعًا قال "ساعتان تفتح لهما أبواب السماء وقل دعا ترد دعوته. حين يحضر النداء والصف في سبيل الله" أخرجه البخاري في الأدب.
وعنه أن رسول الله ﷺ قال "اثنتان لا تردان، الدعاء عند النداء، وحين البأس حين يلحم بعضهم بعضًا" أي ينشب بعضهم ببعض في الحرب أخرجه الحاكم في المستدرك.
وعن أنس أن رسول الله ﷺ قال "الدعاء مستجاب ما بين النداء والإقامة" أخرجه أبو داود والترمذي والحاكم.
وعن أبي أمامة أن رسول الله ﷺ قال "إذا نادى المنادي فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء فمن نزل به كرب أو شدة فليتحر المنادي فيجيبه".
ثم يقول اللهم رب هذه الدعوة التامة الصادقة المستجاب المستجاب لها دعوة الحق وكلمة التقوى أحينا وأمتنا عليها واجعلنا من خيار أهلها أحياء وأمواتًا ثم يسأل الله حاجته أخرجه الحاكم.
تضرع إلى الله جل وعلا وتقدس
يَا مَنْ لَهُ عَنَتِ الوُجْوهُ بِأَسْرِهَا يَا مُنْتَهَى سُؤْلِيْ وغَايَةُ مَطْلَبِي أَنْتَ المُؤمَّلُ فِي الشَّدائِدِ كُلِّهَا وَلَكَ التَّصَرفُ فِي الخَلائِقِ كُلِّهَا فامْنُنْ عَليَّ بِتَوْبَةٍ يَا مَنْ لَهُ | ولَهُ جَميْعُ الكَائِنَات تُوَحدُ مَنْ لِي إِذَا أَنَا عن جَنابِكَ أُطْرَدُ يَا سَيِّديْ ولَكَ البَقَاءُ السَّرْمَدُ فَلِذَاكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ وتُسْعِدُ قَلْبُ المُحِبِّ مُقَدِّسٌ ومُوَحِّدُ |
اللهم ألحقنا بعبادك الصالحين الأبرار، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
عن ابن عمر أن النبي ﷺ قال "للصائم عند فطره دعوة مستجابة" أخرجه النسائي.
وعن ابن عباس أن النبي ﷺ قال "إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا وساجدًا. فأما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم" أخرجه مسلم.
وعن عبادة بن الصامت أن رسول الله ﷺ قال يومًا وقد حضر رمضان.
"أتاكم شهر بركة فيه تنزل الرحمة وتحط الخطايا ويستجاب الدعاء".
وأخرج في الأوسط عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله ﷺ "ذاكر الله في رمضان مغفور له وسائل الله فيه لا يخيب" أخرجه الطبراني.
وروي أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فاكثروا الدعاء.
وروي من صلى فريضة له دعوة مستجابة.
ومن ختم القرآن فله دعوة مستجابة.
وعن ربيعة بن وقاص أن رسول الله ﷺ قال "ثلاث مواطن لا ترد فيها دعوة عبد، رجل يكون في برية حيث لا يراه إلا الله.
ورجل يكون معه فئة فيفر عنه أصحابه فيثبت.
ورجل يقوم من آخر الليل" أخرجه أبو نعيم في أخبار الصحابة.
وعن عمر قال قال رسول الله ﷺ "إذا فتح على العبد الدعاء فليدع ربه فإن الله تعالى يستجيب" أخرجه الترمذي.
وعن خالد الحذاء قال "كان عيسى عليه السلام يقول: إذا وجدتم قشعريرة ودمعة فادعوا عند ذلك" أخرجه أحمد في الزهد.
وروي اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة.
وروي الدعاء بين الأذان والإقامة مستجاب.
وروي عند أذان المؤذن يستجاب الدعاء.
فإذا كان الإقامة لا ترد دعوته.
وعن أبي موسى قال قال رسول الله ﷺ "من كانت له إلى الله حاجة فليدع بها دبر كل صلاة مفروضة" أخرجه ابن عساكر.
وعن أنس عن النبي ﷺ قال "مع كل ختمة دعوة مستجابة".
وأخرجه من وجه آخر بلفظ آخر "عند ختم القرآن دعوة مستجابة وشجرة في الجنة" أخرجه البيهقي في شعب الإيمان.
فعليكم عباد الله بالاجتهاد بالدعاء، وعليكم بجوامع الدعاء التي تجمع خير الدنيا والآخرة.
تضرع إلى فاطر السموات والأرض والثناء عليه
يا مَن عَليه مَدَى الأَيَّامِ مُعْتَمَدِي يا مَالِكَ المُلْكِ يَا مُعْطِي الجَزيْلَ لِمَنْ ما لِي سِوَاك وما لِي غَيْر بَابَكَ يا وانْعِمْ وأَمْطرْ عَلَيْنَا رَحْمَةً فلنَا وانْظُرْ إِليْنَا فَكَمْ أَوْلَيْتَنَا نِعَمًا يا مَن يُجيْبُ دُعَائِي عِنْدَ مَسْألِتَي ثُمَّ الصلاةُ عَلَى المُخْتَار مِن مُضَرٍّ | إِليكَ وَجَّهْتُ وَجْهي لا إِلَى أَحَدِ يَرْجُو نَدَاهُ بِلا مَنٍّ ولا نَكَدِ مَوْلايَ فامْحُ بِعَفْوٍ مَا جَنَتْهُ يَدِي عَوائِدٌ مِنْكَ بالإحْسَان وَالمَدَدِ ما أَنْ تَمُرُّ عَلَى بَالٍ ولا خَلِدِ ومَن عَليه وإِنْ أخَطَأتُ مُعْتَمَدِي ما ناحَتِ الوُرْقُ فِي غُصْنِ مَدَى الأَبدِ |
اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائنا واكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
ومما ورد من الأدعية في القرآن قول الله جل وعلا وتقدس ]رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[.
]رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[.
]رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[.
]رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ[.
]رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[.
]رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء[.
]رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ[.
]رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ[.
]رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ[.
]رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[.
]رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[.
]رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ[.
]رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ[.
]رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا[.
]رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا[.
]رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي[.
رَبِّ ]أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [.
]رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ[.
]لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ[.
]رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ[.
]رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ[.
]رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا[.
]رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا[.
]رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ[.
]رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ[.
]رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ[.
]رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ[.
]رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[.
]رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[.
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
ومما ورد في السنة ما في الصحيحين: "كان أكثر دعاء النبي ﷺ: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار".
ومن دعائه ﷺ إذا سافر: "أنه كان يتعوذ من وعثاء السفر وكآبة المنظر، والحور بعد الكور، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال" رواه مسلم.
ومن ما ورد عن أبي بكرة t قال: قال رسول الله ﷺ دعوات المكروب "اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت" رواه أبو داود.
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رجل لزمتني هموم وديون يا رسول الله، قال: أفلا أعلمك كلامًا إذا قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك. قال: بلى، قال: "قل إذا أصبحت وإذا أمسيت اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من البخل والجبن وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال" قال: ففعلت ذلك فأذهب همي وقضى عني ديني. رواه أبو داود.
ومن دعائه ﷺ: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني، اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها".
وقالت أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ : "كان أكثر دعاء النبي ﷺ يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
ومن دعائه ﷺ: "اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، وأسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم".
وقال ﷺ: "تعوذوا بالله من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء".
ومن دعائه ﷺ: "اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها".
ومن ذلك ما ورد عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله ﷺ كان يقول: "اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون" والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(فصل)
ومن دعائه ﷺ: "اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة، وأعوذ بك من أن أَظْلِمَ أو أُظْلَمَ".
وعن عمر t قال: "كان رسول الله ﷺ يتعوذ من خمس: من الجبن، والبخل، وسوء العمر، وفتنة الصدر وعذاب القبر" رواه أبو داود والنسائي.
وعن أبي هريرة t أن رسول الله ﷺ كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق" رواه أبو داود.
وعنه t أن رسول الله ﷺ كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة" رواه أبو داود، والنسائي وابن ماجه.
وعن أنس t أن رسول الله ﷺ كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من البرص والجذام والجنون ومن سيء الأسقام" راوه أبو داود والنسائي.
وعن قطبة بن مالك - رضي الله تعالى عنه – قال: كان النبي ﷺ يقول: "اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء" رواه الترمذي.
وعن شتير بن شكل بن حميد عن أبيه قال قلت: يا نبي الله، علمني تعويذًا أتعوذ به قال: "قل اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي وشر بصري وشر لساني وشر قلبي وشر عيني" رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي.
وعن أبي اليسر أن رسول الله ﷺ كان يدعو: "اللهم إني أعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك من أن أموت في سبيلك مدبرًا وأعوذ بك من أموت لديغًا" رواه أبو داود والنسائي.
اللهم ثبت إيماننا بك ثبوت الجبال الراسيات ونور قلوبنا بنور الإيمان واجعلنا هداة مهتدين وأصلح أولادنا واغفر لآبائنا وأمهاتنا واجمعنا وإياهم مع عبادك الصالحين في جنات النعيم وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
(فصل)
ومن دعائه ﷺ: "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير" متفق عليه.
ومن ذلك ما علمه ﷺ الصديق قال له: "قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" متفق عليه.
وعن أنس t أن رسول الله ﷺ قال: "ألظوا بياذا الجلال والإكرام" أي الزموا هذه وألحوا بها وداوموا عليها.وعن عائشة قالت: كان النبي ﷺ يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم والمغرم والمأثم اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار وفتنة النار وفتنة القبر وعذاب القبر ومن شر فتنة الغنى ومن شر فتنة الفقر ومن شر فتنة المسيح الدجال اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد ونق قلبي كما ينقى الثوب الأببض من الدنس وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب" متفق عليه.
وعن عبد الله بن يزيد الخطمي عن رسول الله ﷺ أنه كان يقول في دعائه اللهم ارزقني حبك وحب من ينفعني حبه عندك اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب اللهم ما زويت عني مما أحب فاجعله فراغًا فيما تحب. رواه الترمذي.
وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله ﷺ كان من دعاء داود يقول اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك والعمل الذي يبلغني حبك اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي ومالي وأهلي ومن الماء البارد الحديث. رواه الترمذي.
وعن أم معبد قالت سمعت رسول الله ﷺ يقول: "اللهم طهر قلبي من النفاق وعملي من الرياء ولساني من الكذب وعيني من الخيانة فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور" رواه البيهقي في الدعوات الكبير.
جاء عن معقل بن يسار عن النبي ﷺ قال من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدًا ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة. حسنه وغربه الترمذي.
دعاء وتضرع إلى الله عز وجل
أَسْتغْفِرُ رَبِّي فِي مُنَاجَاتِي وَهُوَ الغَفُورُ ولِيْ فِي عَفْوِه طَمَعٌ ما لِي سِوَى بَابِه بَابٌ أَلوْذُ بِهِ سُبْحَانَهُ وسِعَتْ سَاحَاتُ رَحْمتِهِ ادْعُوْكَ يَا رَبِّ والآمَالُ تَدْفعُنِي إِنِّي أُنَاجِيْكَ والقُرآنُ وَجَّهَني أَرجُوْكَ تَحْقِيْقِ مَا بالنَّفْسِ مِن أَمَلٍ لَقَدْ دَعْوتُكَ أَرْجُو مِنْكَ مَغْفِرةً أَنْتَ الكريمُ الذي قَدْ عَمَّ نَائِلُهُ | فَهْوَ العَليم بآثَامِي وَزَلاتي إِذَا بَسَطْتُ لَهُ كَفَّ الضَرَعَاتي إِنْ نَاءَ ظَهْرِي بأَوْزَارِ الخَطِيْئَاتِ أَهْلَ الأَرَاضِي وسُكَّانَ السَّمَواتِ وأَسْتَغِيْثُ بأَهْدَى الإِسْتِغَاثَاتِ إِليْكَ والنَّفْسُ لَمْ تَقْضِ اللَّبَانَاتِ وكُنْ مُعِيْني عَلَى إِدْرَاكِ غَايَاتِي ومَا نُؤَمِّل مَرْهُوْنٌ لِمِيْقَاتِ أَهْلَ الأَرَاضِي وسُكَّانَ السَّمواتِ |
اللهم اعدنا بمعافاتك من عقوبتك وبرضاك من سخطك واحفظ جوارحنا من مخالفة أمرك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
نماذج يسيرة من إجابات الله لدعوات رسول الله ﷺ
عن عمرو بن أخطب قال قال استقى رسول الله ﷺ فأتيته بإناء فيه ماء فيه شعرة فرفعتها ثم ناولته فقال اللهم جمله قال أبو نهيك الأودى فرأيته بعد ثلاث وتسعين وما في رأسه ولحيته شعرة بيضاء. أخرجه أحمد.
ومنها دعاؤه ﷺ لأنس بن مالك، واستجابة الله لدعائه، فعن أنس t، قال جاءت بي أمي أم أنس إلى رسول الله ﷺ، وقد آزرتني بنصف خمارها، وردتني بنصفه، فقالت يا رسول الله، هذا أنيس، ابني أتيتك به يخدمك، فادع الله له، فقال "اللهم أكثر ماله، وولده".
قال أنس، فوالله إن مالي كثير، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المائة يوم" أخرجه مسلم.
وعن أبي خلدة خالد بن دينار، قال قلت لأبي العالية، سمع أنس من رسول الله ﷺ، قال خدمه عشر سنين، ودعا له، وكان له بستان يحمل في السنة الفاكهة مرتين، وكان فيه ريحان، يجيء منه ريح المسك، أخرجه الترمذي.
الشاهد استجابة الله لرسوله ﷺ وكل ما يأتي حول الموضوع شواهد لاستجابة الله لدعاء رسوله ﷺ فتأمل.
ومن ذلك ما روي أن النبي ﷺ لما تلا ]وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى[ قال عتبة بن أبي لهب، كفرت بالذي دنا فتدلى، فقال النبي ﷺ "اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك" يعني الأسد، فخرج عتبة مع أصحابه، في عير إلى الشام، حتى إذا كانوا في طريقهم، زأر الأسد، فجعلت فرائص عتبة ترتعد، فقال أصحابه من أي شيء ترتعد، فوالله ما نحن وأنت إلا سواء، فقال إن محمدًا دعا علي، وما ترد له دعوة ولا أصدق منه لهجة.
فوضعوا العشاء، فلم يدخل يده فيه، وحاط القوم أنفسهم بمتاعهم، وجعلوا عتبة وسطهم، وناموا، فجاء الأسد يشم رؤوسهم، رجلاً، حتى انتهى إلى عتبة، فهشمه هشمة أوصلته إلى آخر رمق، فقال وهو بآخر رمق، ألم أقل لكم إن محمدًا أصدق الناس لهجة.
ومن ذلك قوله ﷺ لابن عباس، وهو يومئذ غلام: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل" فخرج أفقه الناس في الدين، وأعلمهم بالتأويل، حتى سمي البحر، لسعة علمه، t.
والشاهد استجابة الله لدعوة رسوله ومن ذلك ما روي عن علي بن أبي طالب t قال بعثني النبي ﷺ إلى اليمن فقلت يا رسول الله تبعثني وأنا حدث السن لا علم لي بالقضاء قال: "انطلق فإن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك قال علي فما شككت في قضاء بين اثنين ولذلك قال ﷺ أقضاكم علي".
ومن ذلك قصة ارتجاف أحد وذلك أن النبي ﷺ صعد أحدًا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال رسول الله ﷺ أثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان فسكن.
ومن ذلك دعاؤه ﷺ للنابغة الجعدي بقوله له "لا يفضض الله فاك" فعمر وكان أحسن الناس ثغرًا كلما سقطت له سن نبتت له أخرى.
ومن ذلك إخباره ﷺ أم حرام من غزوها في البحر وعلو مكانتها ففي صحيح البخاري عن إحسق ابن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك t، أنه سمعه يقول كان رسول الله ﷺ إذا ذهب إلى قباء يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت تحت عبادة بن الصامت.
فدخل يومًا فأطعمه، فنام رسول الله ﷺ ثم استيقظ يضحك قالت فقلت ما يضحكك يا رسول الله، فقال "ناس من أمتي عرضوا علي عراة في سبيل الله، يركبون ثبج البحر، ملوكًا على الأسرة – أو قال مثل الملوك على الأسرة" شك اسحق، قالت أدع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها رسول الله ﷺ.
ثم وضع رأسه! ثم استيقظ، وهو يضحك، قالت قلت ما يضحكك يا رسول الله، قال "ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله" كما قال في الأولى، فقلت يا رسول الله أدع لله أن يجعلني منهم، قال "أنت من الأولين" فركبت البحر زمان معاوية، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت فوقع كما أخبر النبي ﷺ والشاهد استجابة الله لدعاء النبي ﷺ.
ومنها إجابة دعائه ﷺ لأبي هريرة، في تحبيبه إلى الناس وأمه، فقد ورد عن أبي هريرة t أنه قال، والله ما خلق الله مؤمنًا يسمع بي أو يراني إلا أحبني، قال إن أمي كانت امرأة مشركة، وإني كنت أدعوها إلى الإسلام، وكانت تأبى علي فدعوتها يومًا، فأسمعني في رسول الله ﷺ ما أكره.
فأتيت رسول الله ﷺ وأنا أبكي، فقلت يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام، فكانت تأبى علي، وإني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال "اللهم اهد أم أبي هريرة" فخرجت أعدو أبشرها، بدعاء رسول الله ﷺ.
فلما أتيت الباب إذا هو مجاف، وسمعت خضخضة، (خشخشة) وسمعت خشف رجل – يعني وقعها، فقالت يا أبا هريرة كما أنت، ثم فتحت الباب، وقد لبست درعها، وعجلت عن خمارها أن تلبسه، وقالت أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، فرجعت إلى رسول الله ﷺ أبكي من الفرح، كما بكيت من الحزن.
فقلت يا رسول الله أبشر، فقد استجاب الله دعاءك، قد هدى الله أم أبي هريرة، وقلت يا رسول الله، أدع الله أن يحببني وأمي إلى عباده المؤمنين.
فقال "اللهم حبب عبيدك هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين وحببهم إليهما" قال أبو هريرة، فما خلق الله من مؤمن يسمع بي ولا يراني أو يرى أمي إلا وهو يحبني. والشاهد استجابة الله لرسوله ﷺ.
وقصة طعام جابر وذلك ما ورد عنه قال لما حفر الخندق رأيت النبي ﷺ خمصًا شديدًا فانكفأت إلى امرأتي فقلت هل عندك شيء فإني رأيت برسول الله ﷺ خمصًا شديدًا (يعني جوعًا شديدًا).
فأخرجت إلي جرابًا فيه صاع من شعير ولنا بهيمة داجن فذبحناها وطحنت الشعير ففرغت إلى فراغي وقطعتها في برمتها ثم وليت إلى رسول الله ﷺ فقالت لا تفضحني برسول الله ﷺ فجئته فساورته فقلت يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا وطحنا صاعًا من شعير كان عندنا فتعال أنت ونفر معك.
فصاح النبي ﷺ يا أهل الخندق إن جابرًا قد صنع سؤرًا فحي هلاً بكم فقال رسول الله ﷺ لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء فجئت وجاء رسول الله ﷺ يقدم الناس حتى جئت امرأتي فقالت بك وبك فقلت قد فعلت الذي قلت فأخرجت له عجينًا فبصق فيه وبارك ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك.
ثم قال ادعي خابزة فلتخبز معك واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها وهم ألف فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي وإن عجيننا ليخبز كما هو.
وعن علي t قال كنت شاكيًا فمر بي رسول الله ﷺ وأنا أقول اللهم إن كان أجلي قد حضر فأرحني وإن كان متأخرًا فارفعني وإن كان بلاء فصبرني.
فقال رسول الله ﷺ كيف قلت فأعاد عليه ما قاله فضربه برجله وقال اللهم عافه أو اشفه شك شعبة قال فما اشتكيت وجعي بعد. قال الترمذي حديث حسن صحيح.
اللهم وفقنا لصالح الأعمال، ونجنا من جميع الأهوال، وأمنا من الفزع الأكبر يوم الرجف والزلزال، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
ومن ذلك استسقاؤه واستصحاؤه ﷺ ففي الصحيحين عن أنس أنه ﷺ رفع يديه ثم قال "اللهم أغثنا اللهم أغثنا" قال أنس والله ما نرى في السماء من سحاب ولا من فزعة وأن السماء لمثل الزجاجة وما بيننا وبين سلع من دار.
فوالذي نفسي بيده ما وضع يديه حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل من منبره حتى رأيت المطر يتحدر عن لحيته، وفي رواية أخرى قال: "فلا والله ما رأيت الشمس سبتًا قال: ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة فاستقبله قائمًا فقال يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله أن يمسكها عنا، قال فرفع رسول الله ﷺ يديه ثم قال: "اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر"، قال فما يشير بيده إلى ناحية إلا انفرجت حتى رأيت المدينة في مثل الجوبة وسال الوادي قناة شهرًا.
ومنها إرسال الريح الشديدة على الأحزاب، وهم قريش، ومن معهم يوم الخندق أرسلها الله عليهم ليلاً، قال عكرمة قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب، انطلقي ننصر رسول الله ﷺ، فقالت الشمال إن الحرة لا تسري بليل، وكانت الريح التي أرسلها الله عليهم الصبا، ففروا لشدتها عن بعض أثقالهم وأمتعتهم، ولو أقاموا إلى الصباح لهلكوا جميعًا.
وهو المدلول عليه بقوله تعالى ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا[.
ففي خبر القصة أن رسول الله ﷺ لما رأى من أصحابه الجزع لطول الحصار، صعد إلى الجبل فدعا الله وكان فيما دعاه أن قال "واصرف عنا شر هؤلاء القوم بقوتك وحولك وقدرتك".
فنزل جبريل يخبره عن الله بأنه استجاب له وأمر الله الريح والملائكة أن يهزموا قريشًا والأحزاب تلك الليلة، فأمر ﷺ حذيفة بن اليمان أن يدخل معسكرهم أي قريش، ويأتي بأخبارهم، وقال له إن الله عز وجل قد أخبرني أنه أرسل على قريش الريح، وهزمهم.
قال فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، ولا تقر لهم قدرًا، ولا نارًا، ولا بناء، فقطعت أطناب الفسطاط، وقلعت الأوتاد، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، وكثر تكبير الملائكة في جوانب المعسكر.
قال وقال أبو سفيان يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل، فردوا بغيظهم ]وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ[.
فالباري جل وعلا أرسل الريح على أولئك المشركين، نصرًا لنبيه محمد ﷺ وتصديقًا لدعوته، واستجابة لدعائه، لعلمه تعالى أن أصحاب محمد ﷺ ذلك اليوم لا يقومون بقتال أولئك ففي هذه معجزة عظيمة.
اللهم ثبت وقوي إيماننا بك وبملائكتك وكتبك وبرسلك وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، اللهم عاملنا بعفوك وغفرانك وامنن علينا بفضلك وإحسانك ونجنا من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بفضلك وكرمك وجودك الجنة دار القرار واجعلنا مع عبادك الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في دار رضوانك وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
ومنها ما ورد عن رفاعة بن رافع، قال رميت بسهم يوم بدر ففقئت عيني، فبصق فيها رسول الله ﷺ ودعا لي، فما آذاني منها شيء بعد.
ومن ذلك أنه ﷺ استسقى مرة، فقام أبو لبابه، فقال يا رسول الله إن التمر في المرابد.
فقال "اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانًا فيشد مربده بإزاره" فأمطرت فاجتمعوا إلى أبي لبابة فقالوا إنها لن تقلع حتى تقوم عريانًا فتشد ثعلب مربدك بإزارك ففعل فأقعلت السماء.
ومن ذلك الكدية، وهي الصخرة لصلبة، التي لا تعمل فيها المعاول، فشكوها إلى رسول الله ﷺ، فدعا بإناء من ماء، فتفل فيه ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، ثم نضح الماء على تلك الكدية، فيقول من حضرها، فوالذي بعثه بالحق نبيًا لانهالت، حتى عادت كالكثيب، لا ترد فأسًا، ولا مسحاة.
ومن ذلك إخباره ﷺ بأن علي بن أبي طالب يفتح الله على يديه خيبر.
ففي الصحيحين عن سهل بن سعد t أن رسول الله ﷺ قال يوم خيبر "لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه".
فبات الناس يدوكون ليلتهم، أيهم يعطاها فقال "أين علي بن أبي طالب" فقيل هو يشتكي عينيه فأرسلوا إليه فأتى به فبصق في عينيه دعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال "أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم" ففتح الله على يديه فكان كما قال. والشاهد من ذلك قوله ودعا له.
ومن ذلك دعاؤه ﷺ على مضر، وإمساك القطر عنهم، فإنهم لما كذبوه، وآذوه في نفسه، وأصحابه، دعا عليهم، فقال "اللهم اشدد وطأتك على مضر، وابعث عليهم سنين كسني يوسف ﷺ" فأمسك عنهم القطر، حتى جف النبات، والشجر، وماتت الماشية، وحتى اشتووا القد، وأكلوا العلهر، وتفرقوا في البلاد، لشدة الحال.
ومن ذلك دعاؤه ﷺ على أفراد من المشركين أصحاب القليب، فعن ابن مسعود t قال: بينما رسول الله ﷺ يصلي عند البيت، وأبو جهل، وأصحابه، جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل، أيكم يقوم إلى سلاجزور بني فلان، فيضعه بين كتفي محمد إذا سجد، فانبعث أشقى القوم فأخذه.
فلما سجد النبي ﷺ وضعه بين كتفيه، فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض، وأنا قائم أنظر، لو كانت لي منعة، طرحته عن ظهره، والنبي ﷺ، ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان إلى فاطمة ـ رضي الله عنها ـ.
فجاءت وهي جويرية، فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم، فلما قضى صلاته ﷺ، رفع صوته، ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا، دعا ثلاث مرات، وإذا سأل سأل ثلاثًا فقال اللهم عليك بقريش فلما سمعوا صوته، ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته.
ثم قال اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة ابن أبي معيط، وذكر السابع، ولم أحفظه، فوالذي بعث محمدًا بالخق، لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر.
ثم سحبوا إلى القليب (قليب بدر) أخرجه الشيخان والنسائي.
ومن ذلك ما في صحيح البخاري، عن يزيد بن أبي عبيد، قال: رأيت أثر ضربة في ساق سلمة، فقلت يا أبا مسلم ما هذه الضربة، فققال هذه ضربة أصابتني يوم خيبر فقال الناس: أصيب سلمة، فأتيت رسول الله ﷺ فنفث فيه ثلاث نفثات، فما أشتكيها حتى الساعة.
ومن ذلك أنه ﷺ لما أراد الهجرة خرج من مكة، ومعه أبو بكر، فدخل غارًا في جبل ثور، ليستخفي من قريش، وقد طلبته، وبذلت لمن جاء به مائة ناقة، فأعانه الله بإخفاء أثره، ونسجت العنكبوت على باب الغار.
ولما خرج، لحقه سراقة بن مالك بن جعشم، وهو من جملة من توجه لطلبه، فقال أبو بكر هذا سراقة قد قرب، فقال رسول الله ﷺ "اللهم أكفنا سراقة" فأخذت الأرض قوائم فرسه إلى إبطها، فقال سراقة، يا محمد ادع الله أن يطلقني، ولك علي أن أرد من جاء يطلبك، ولا أعين عليك أبدًا، فقال "اللهم إن كان صادقًا فأطلق عن فرسه" فأطلق الله عنه، ثم أسلم سراقة، وحسن إسلامه.
اللهم ثبت محبتك في قلوبنا وقوها ووفقنا لشكرك وذكرك وارزقنا التأهب والاستعداد للقائك واجعل ختام صحائفنا كلمة التوحيد واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
ومنها أخذ الله المشركين المستهزئين بالنبي ﷺ بما شغلهم عنه وأزال منعهم إياه عن تبليغ الرسالة، وهو المشار إليه بقوله تعالى ]إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ[.
وهم خمسة نفر من رؤساء قريش، الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان رأسهم، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن عبد المطلب بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن زمعة.
وكان رسول الله ﷺ قد دعا عليه، فقال "اللهم اعم بصره، وأثكله بولده" والأسود بن عبد يغوث ابن وهب، والحارث بن قيس بن الطلاطلة.
فأتى جبريل النبي ﷺ والمستهزءون بالبيت.
فقام جبريل إلى جنبه، فمر به الوليد بن المغيرة، فقال جبريل يا محمد كيف تجد هذا، فقال "بئس عبد الله"، فقال قد كفيته، وأومأ إلى ساق الوليد، فمر برجل من خزاعة نبال يريش نباله، وعليه برديماني، وهو يجر ازاره، فتعلقت شظية من نبله بازاره، فمنعه الكبر أن يطأطئ رأسه فينزعها، وجعلت تضرب ساقه، فخدشته، فمرض منها فمات.
ومر به العاص بن وائل، فقال جبريل كيف تجد هذا يا محمد، قال "بئس عبد الله"، فأشار جبريل إلى أخمص رجليه، وقال قد كفيته، فحرج على راحلته، ومعه ابنان له يتنزه، فنزل شعبًا من تلك الشعاب، فوئ على شبرقة، فدخلت منها شوكة في أخمص رجله فقال لدغت فطلبوا فلم يجدوا شيئًا وانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق البعير، فمات مكانه.
فمر به الأسود بن عبد المطلب، فقال جبريل كيف تجد هذا يا محمد، قال "بئس عبد الله" فأشار بيده إلى عينيه، وقال: كفيته، فعمى، وقال ابن عباس رماه جبريل بورقة خضراء، فعمي فذهب بصره، ووجعت عيناه، فجعل يضرب برأسه الجدار، حتى هلك.
ومر به الحارث بن قيس فقال جبريل كيف تجد هذا يا محمد، فقال "عبد سوء" فأومأ إلى رأسه، وقال قد كفيته، فامتخط قيحًا، فقتله، وقيل أكل حوتًا مالحًا، فلم يزل يشرب حتى انقد بطنه.
والشاهد من ذلك دعاء النبي ﷺ المتقدم أول الفصل.
اللهم ثبت محبتك في قلوبنا وقوها ونور قلوبنا بنور الإيمان واجعلنا هداة مهتدين وتوفنا مسلمين والحقنا بالصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
نماذج مما ذكره العلماء من استجابة الله لدعاء بعض الصالحين من الصحابة والتابعين
وعن أنس t قال جاء ناس إلى النبي ﷺ أن ابعث معنا رجالاً يعلموننا القرآن والسنة فبعث إليهم سبعين رجلاً من الأنصار.
يقال لهم القراء فيهم خالي حرام يقرءون القرآن ويتدارسونه بالليل يتعلمون وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء.
فبعثهم النبي ﷺ فعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان فقالوا اللهم أبلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا.
قال وأتى رجل حرامًا خال أنس من خلفه فطعنه برمح حتى أنفذه فقال حرام فزت ورب الكعبة فقال رسول الله ﷺ إن إخوانكم قد قتلوا وإنهم قالوا اللهم أبلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
والشاهد من ذلك أن الله جل وعلا أجاب دعاءهم فبلغ النبي ﷺ خبرهم كما هو مذكور أعلاه.
عن الحسن عن أنس قال كان رجل من أصحاب النبي ﷺ من الأنصار يكنى أبا معلق وكان تاجرًا يتجر بمال له ولغيره يضرب به في الآفاق وكان ناسكًا ورعًا.
فخرج مرة فلقيه لص مقنع في السلاح فقال له ضع ما معك فإني قاتلك.
قال ما تريد إلى دمي شأنك بالمال قال أما المال فلي ولست أريد إلا دمك.
قال أما إذا أبيت فذرني أصلي أربع ركعات.
قال صل ما بدا لك قال فتوضأ ثم صلى أربع ركعات.
فكان من دعائه في آخر سجدة أن قال يا ودود يا ذا العرش المجيد يا فعال لما تريد.
أسألك بعزك الذي لا يرام وملكك الذي لا يضام وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شر هذا اللص يا مغيث أغثني يا مغيث أغثني ثلاث مرات.
قال دعا بها ثلاث مرات فإذا هو بفارس أقبل بيده حربة واضعها بين أذني فرسه فلما بصر به اللص أقبل نحوه فطعنه فقتله.
ثم أقبل إليه فقال قم قال من أنت بأبي وأمي فقد أغاثني الله بك اليوم.
قال أنا ملك من أهل السماء الرابعة دعوت بدعائك الأول فسمعت لأبواب السماء قعقعة.
ثم دعوت بدعائك الثاني فسمعت لأهل السماء ضجة.
ثم دعوت بدعائك الثالث فقيل لي دعاء مكروب فسألت الله تعالى أن يوليني قتله.
وقال أنس فاعلم أنه من توضأ وصلى أربع ركعات ودعا بهذا الدعاء استجيب له مكروب أو غير مكروب.
عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب t لما نفر من منى أناخ بالأبطح ثم كوم كومة من بطحاء فألقى عليها طرف ردائه ثم استلقى ورفع يديه إلى السماء.
ثم قال اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط فما انسلخ ذو الحجة حتى طعن فمات رحمه الله.
عن عبد الله بن عمير بن سويد أبو عمر وثقة عن جابر بن سمرة قال شكا أهل الكوفة سعدًا إلى عمر t حتى قالوا إنه لا يحسن يصلي.
فقال سعد أما أنا فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله ﷺ لا أخرم عنها أركد في الأوليين وأحذف الأخريين قال عمر ذلك الظن بك يا أبا إسحاق.
ثم بعث رجالاً يسألون عنه في مجالس الكوفة فكانوا لا يأتون مجلسًا إلا أثنوا خيرًا وقالوا معروفًا حتى أتوا مسجدًا من مساجدهم.
فقام رجل يقال له أبو سعدة فقال اللهم إذا سألتمونا فإنه كان لا يعدل في القضية ولا يقسم بالسوية ولا يسير بالسرية.
فقال سعد اللهم إن كان كاذبًا فأعم بصره وأطل فقره وعرضه للفتن.
قال عبد الملك فأنا رأيته يتعرض للإماء في السكك فإذا قيل له كيف أنت يا أبا سعدة قال كبير فقير مفتون أصابتني دعوة سعد.
عن عبد الله بن المبارك عن داود بن قيس قال حدثتني أمي وكانت مولاة نافع بن عتبة بن أبي وقاص قال رأيت سعدًا زوج ابنته رجلاً من أهل الشام وشرط عليه أن لا يخرجها.
فأراد أن يخرج فأرادت أن تخرج معه فنهاها سعد وكره خروجها فأبت إلا أن تخرج فقال سعد اللهم لا تبلغها ما تريد فأدركها الموت في الطريق.
اللهم وفقنا لسلوك مناهج المتقين، وخصنا بالتوفيق المبين، واجعلنا بفضلك من المقربين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
عن حميد بن هلال قال لما حصر عثمان t أتته أم المؤمنين فجاء رجل فاطلع في خدرها فجعل ينعتها للناس. فقالت ماله قطع الله يده وأبدى عورته.
قال فدخل عليه داخل فضربه بالسيف فاتقى بيمينه فقطعها فانطلق هاربًا آخذًا إزاره بفيه أو بشماله بادية عورته.
عن ابن عباس قال قال عمر بن الخطاب t أخرجوا بنا إلى أرض قومنا قال فخرجنا فكنت أنا وأبي بن كعب في مؤخر الناس فهاجت سحابة.
فقال أبي اللهم اصرف عنا أذاها فلحقناهم وقد ابتلت رحالهم فقال أصابكم الذي أصاب قلت إن أبا المنذر دعا الله أن يصرف عنا أذاها فقال عمر ألا دعوتم لنا معكم.
عن عبد الملك بن أخت سهم بن منجاب قال سمعت سهمًا يقول غزونا مع العلاء بن الحضرمي دارين قال فدعا بثلاث دعوات فاستجاب الله له فيهن.
قال سرنا معه قال فنزلنا منزلاً وطلبنا الوضوء فلم نقدر عليه فقام فصلى ركعتين ثم دعا الله.
فقال: اللهم يا عليم يا حليم يا علي يا عظيم إنا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك فأسقنا غيثًا منه ونتوضأ من الأحداث وإذا تركناه فلا تجعل لأحدٍ فيه نصيبًا غيرنا.
فلما جاوزنا غير بعيد فإذا نحن بنهر من ماء سماء يتدفق قال فنزلنا فتروينا وملأت إداواتي ثم تركتها وقلت لأنظرن هل استجيب له.
قال فسرنا ميلاً أو نحوه فقلت لأصحابي إني نسيت إداوتي فذهبت إلى ذلك المكان فكأنما لم يكن فيه ماء قط.
فأخذت إداوتي فجئت بها فلما أتينا دارين وبيننا وبينهم البحر فدعا الله أيضًا.
فقال اللهم يا عليم يا حليم يا علي يا عظيم إنا عبيدك نقاتل عدوك فاجعل لنا سبيلاً إلى عدوك.
ثم اقتحم بنا في البحر فوالله ما ابتلت سروجنا حتى خرجنا إليهم.
فلما رجعنا اشتكى البطن فمات فلم نجد ما نغسله به فكفناه في ثيابه فدفناه.
فلما سرنا غير بعيد إذا نحن بماء كثير فقال بعضنا لبعض ارجعوا لنستخرجه فنغسله فرجعنا وطلبنا قبره فخفي علينا قبره فلم نقدر عليه.
فقال رجل من القوم إني سمعته يدعو الله يقول اللهم يا عليم يا حليم يا علي يا عظيم اخف جثتي ولا تطلع على عورتي أحدًا فرجعنا وتركناه.
عن عمر بن ثابت البصري قال دخلت في أذن رجل من أهل البصرة حصاة.
فعالجها الأطباء فلم يقدروا عليها حتى وصلت إلى صماخه فأسهرت ليلة ونغصته عيش نهاره.
فأتى رجلاً من أصحاب الحسن فشكا ذلك إليه فقال ويحك إن كان شيء ينفعك الله به فدعوة العلاء بن الحضرمي التي دعا بها في البحر في المفازة.
قال وما هي يرحمك الله قال يا علي يا عظيم يا حليم يا عليم قال فدعا بها. فوالله ما برحنا حتى خرجت من أذنه ولها طنين حتى صكت الحائط وبرأ.
اللهم يا من خلق الإنسان وبناه واللسان وأجراه، يا من لا يخيب من دعاه، هب لكل منا ما رجاه، وبلغه من الدارين مناه، اللهم اغفر لنا جميع الزلات، واستر علينا كل الخطيئات وسامحنا يوم السؤال والمناقشات، وانفعنا وجميع المسلمين بما أنزلته من الكلمات يا أرحم الراحمين.
(فصل)
عن خوات بن خبير قال أصاب الناس قحط شديد على عهد عمر بن الخطاب.
فخرجه بالناس فصلى بهم ركعتين وخالف بين طرفي ردائه فجعل اليمين على اليسار واليسار على اليمين.
ثم بسط يده فقال اللهم إنا نستغفرك ونستسقيك فما برح مكانه حتى مطروا.
فبينما هم كذلك إذا أعراب قدموا فأتوا عمر فقالوا يا أمير المؤمنين بينما نحن في بوادينا في يوم كذا في ساعة كذا.
إذ أظلنا غمام فسمعنا بها صوتًا أتاك الغوث أبا حفص أتاك الغوث أبا حفص.
وعن ثابت البناني قال كنت مع أنس فجاء قهرمانه فقال يا حمزة عطشت أرضنا.
قال فقام أنس وتوضأ وخرج إلى البرية فصلى ركعتين ثم دعا فرأيت السحاب يلتئم.
قال ثم مطرت حتى ملأت كل شيء فلما سكن المطر بعث أنس بعض أهله. فقال أنظر أين بلغت السماء فنظر فلم تعد أرضه إلا يسير.
عن عمرو بن مالك الهمداني قال حدثني رجل زعم أنه من العشرة أو أحد العشرة.
قال كنا عدة وخرجنا في سرية فانكسرت فخذ رجل منا فتركناه وتركنا فرسه عنده. فلما ولينا قال قلت ]فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ[ فانبسطت رجلي ثم قلتها فقبضتها فركب فرسه فلحقنا.
عن حماد بن جعفر بن زيد العبدي عن أبيه قال خرجنا غزاة إلى كابل وفي الجيش صلة بن أشيم فلما دنونا من أرض العدو قال الأمير لا يشذن من العسكري أحد.
فذهبت بغلة صلة بثقلها فأخذ يصلي فقيل إن الناس قد ذهبوا فقال إنما هما خفيفتان قال فدعا ثم قال اللهم إني أقسم عليك أن ترد على بغلتي وثقلها قال فجاءت حتى قامت بين يديه.
عن صالح المرى قال كان عطاء السلمي لا يكاد يدعو إنما يدعو بعض أصحابه ويؤمن هو قال فحبس بعض أصحابه.
فقيل له ألك حاجة قال دعوة من عطاء أن يفرج الله عني.
قال صالح فأتيته فقلت يا أبا محمد أما تحب أن يفرج الله عنك قال بلى والله إني لأحب ذاك.
قلت فإن جليسك فلان قد حبس فادع الله أن يفرج عنه.
فرفع يديه وبكى وقال إلهي قد تعلم حاجتنا قبل أن نسألكها فاقضها لنا.
قال صالح فوالله ما برحنا من البيت حتى دخل الرجل.
اللهم طهر قلوبنا من النفاق وعملنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة وآذاننا عن الاستماع إلى ما لا يرضيك وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
عن السرى بن يحيي قال بلغنا أن ملكًا من ملوك الأعاجم أقبل في جيش فلقي عصابة من المسلمين فلما رأوه اعتصموا بربوة فصعدوا فوقها.
فقال ذلك الملك ما أجد لهؤلاء شيئًا أشد عليهم من أن نحيط بهم ثم نتركهم مكانهم حتى يموتوا من العطش.
فأحاطوا بهم فأصابهم حر شديد وعطش فاستسقوا الله فأقبلت سحابة فجعل الرجل يحمل ترسه يتلقى به الماء حتى يمتلئ ثم يشرب حتى يروى.
فقال ذلك الملك ارتحلوا فوالله لا أقتل قومًا سقاهم الله من السماء وأنا أنظر.
وعن الشعبي أن قومًا من المهاجرين خرجوا متطوعين في سبيل الله فنفق حمار رجل منهم (أي مات الحمار).
فأرادوا صاحب الحمار أن ينطلق معهم فأبى فانطلق أصحابه مترحلين وتركوه.
فقام فتوضأ وصلى ثم رفع يديه فقال اللهم إني خرجت من الدفينة مجاهدًا في سبيلك وابتغاء مرضاتك.
وأشهد أنك تحي الموتى وتبعث من في القبور.
اللهم فأحي لي حماري ثم قام إلى الحمار فضربه فقام الحمار ينفض أذنيه.
فأسرجه وألجمه ثم ركبه فأجراه حتى لحق بأصحابه فقالوا له ما شأنك قال شأني أن الله بعث لي حماري.
عن حميد بن هلال قال كان بين مطرف وبين رجل من قومه شيء فكذب على مطرف فقال له مطرف إن كنت كاذبًا فعجل الله حتفك.
قال فمات الرجل مكانه قال فاستعدى أهله زيادًا على مطرف فقال لهم زياد هل ضربه هل مسه بيده فقالوا لا.
فقال دعوة رجل صالح وافقت دعوته قدرًا فلم يجعل لهم شيئًا.
عن طلق بن حبيب فال لما قتل عثمان رحمه الله قدمنا وفودًا من البصرة نسأل فيم قتل.
فقدمنا المدينة فتفرقنا فمنا من أتى عليًا ومنا من أتى الحسن بن علي ومنا من أتى أمهات المؤمنين.
فأتيت عائشة فقلت يا أم المؤمنين ما تقولين في عثمان قالت قتل والله مظلومًا لعن الله قتلته.
أقاد الله به ابن أبي بكر وأهرق به دماء بني بديل وأبدى الله عورة أعين ورمى الله الأشتر بسهم من سهامه فما منهم من أحد إلا أصابته دعوتها.
عن عبد الواحد بن زيد قال كنا عند مالك بن دينار ومعنا محمد بن واسع وحبيب أبو محمد فجاء رجل فكلم مالكًا وأغلظ له في فسمة قسمها.
وقال وضعتها في غير حقها وتتبعث بها أهل مجلسك ومن يغشاك لتكثر غاشيتك (أي من يلتف حوله من الناس) ولتصرف وجوه الناس إليك.
قال فبكى مالك وقال والله ما أردت هذا قال بلى والله أردته فجعل يبكي والرجل يغلظ له.
فلما كثر ذلك عليهم رفع حبيب يديه إلى السماء ثم قال اللهم إن هذا قد أشغلنا عن ذكرك فأرحنا منه كيف شئت قال فسقط والله الرجل فحمل إلى أهله على سرير.
وقيل إن الحجاج بن يوسف أمر برجل كان جعل على نفسه إن ظفر به أن يقتله فلما أدخل عليه تكلم بشيء فخلى سبيله.
فقيل له أي شيء قلت قال قلت يا عزيز يا حميد يا ذا العرش المجيد اصرف عني شر كل جبار عنيد.
وعن غيلان بن جرير قال حبس الحجاج مورقًا قال فطلبنا فأعيانا فلقيني مطرف فقال ما فعلتم في صاحبكم قلنا ما صنعنا شيئًا طلبنا فأعيانا قال تعالى فلندع فدعا مطرف وأمنا فلما كان من العشي أذن الحجاج للناس فدخلوا ودخل أبو مورق فيمن دخل فلما رآه الحجاج قال لحرسه أذهب مع هذا الشيخ إلى السجن فادفع إليه ابنه.
وذكر أنه أرسل رجل مطرف بن عبد الله يخطب له فذكره للقوم فلم يقبلوه فذكر نفسه فزوجوه.
فقال له الرجل في ذلك بعثتك تخطب لي فخطبت لنفسك قال قد بدأت بك قال كذبت.
قال اللهم إن كان كذب علي فأرني به قال فمات مكانه فاستعدوا عليه (أي اشتكوه) فقال لهم الأمير أدعوا أنتم أيضًا كما دعا عليكم.
وعن علي بن أبي طالب t قال أتي بختنصر بدانيال النبي ﷺ فأمر به فحبس وأضرى أسدين فألقاهما في جب معه وطين عليه وعلى الأسدين.
ثم حبسه خمسة أيام في الجب مع الأسدين ثم فتح عنه بعد خمسة أيام فوجد دانيال قائمًا يصلي والأسدان في ناحية الجب لم يعرضا له.
فقال له بختنصر أخبرني ماذا قلت فدفع عنك.
قال قلت الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره.
والحمد لله الذي لا يخيب من رجاه.
والحمد لله الذي لا يكل من توكل عليه إلى غيره.
والحمد لله الذي هو ثقتنا حين تنقطع عنا الحيل.
والحمد لله الذي هو رجاؤنا حين يسوء ظننا بأعمالنا.
والحمد لله الذي يكشف ضرنا عند كربنا.
والحمد لله الذي يجزي بالإحسان إحسانًا.
والحمد لله الذي يجزي بالصبر نجاة. انتهى ما ذكره رحمه الله.
سُبْحَانَ مَنْ خَلَقَ الأَشْيَاء وقَدَّرَهَا يُخْفِي القَبيحَ وَيُبْدِي كُلَّ صَالِحَةٍ ويَغْفرُ الذنبَ لِلْعَاصِي ويَقْبَلُهُ ومَنْ يَلُوذُ بِه في كُلِّ نائِبَةٍ ولا يُضَيّعُ مِثْقَالاً لِمُجْتَهِدٍ ومَن يَكُنْ قلْبُهُ مِن ذَنْبِهِ دنِسًا ولَيْسَ لِلْعَبْدِ تَصْرِيفٌ وإِنَّ لَهُ فلا الحِذَارُ يُنَجِّيْ العَبْدَ مِنْ قَدَرٍ فَنَسألُ اللهَ حَقًا حُسْنَ خَاتِمَةٍ | ومَنْ يَجُودُ عَلَى العَاصِي وَيسْتُرُهُ ويَغْمُرُ العَبْدَ إحْسَانًًا ويشكُرُهُ إِذَا أَنابَ وبالغُفْرانِ يَجْبُرُهُ يُعْطِيْهِ مِن فَضْلِهِ عزًا وينْصُرُهُ بَلْ في المآلِ يُربيْهِ ويَدْخَرَهُ فبالَمَدامعِ والتَّقْوَى يُطَهّرُهُ مَوْلاهُ إِنْ شَاءَ يُغْنِيْهِ ويُفْقَرُهُ يُريْدُهُ اللهُ أَْو أَمْرٍ يُدبرُهُ عِنْدَ المَماتِ وصَفْوًا لا يُكُدّرُهُ |
اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان وثبتها على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة واجعلنا هداة مهتدين وتوفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
عن أبي المنذر الكوفي قال كان عمر بن سعد بن أبي وقاص قد اتخذ جعبه وجعل فيها سياطًا نحو من خمسين سوطًا فكتب على السوط عشرة وعشر وثلاثين إلى خمسائة على هذا العمل.
وكان لسعد بن أبي وقاص ربيب مثل ولده فأمره عمر بشيء فعصاه فضرب بيده إلى الجعبة فوقع بيده سوط مائة فجلده مائة جلدة فأقبل الغلام إلى سعد ودمه يسيل على عقبيه.
فقال ما لك فأخبره فقال اللهم أقتل عمر وأسل دمه على عقبيه قال فمات الغلام وقتل المختار عمر بن سعد بن أبي وقاص.
ووشى رجل ببسر بن سعيد إلى الوليد بن عبد الملك بأنه يطعن على الأمراء أو يعيب بني مروان.
قال فأرسل إليه الوليد والرجل عنده فجيء به والرجل ترعد فرائصه فأدخل عليه فسأله عن ذلك فأنكره بسر وقال ما فعلت.
قال فالتفت الوليد إلى الرجل فقال يا بسر هذا يشهد عليك بذلك فنظر إليه بسر وقال له أهكذا قال نعم.
فنكس رأسه وجعل ينكت في الأرض ثم رفع رأسه فقال اللهم قد شهد بما قد علمت أني لم أقله فإن كنت صادقًا فارني به آية على ما قال فانكب لوجهه فلم يزل يضطرب حتى مات.
عن عامر الشعبي قال كنت جالسًا مع زياد بن أبي سفيان فأتى برجل يحمل ما نشك في قتله.
قال فرأيته حرك شفتيه بشيء ما ندري ما هو قال فخلى سبيله فقال بعض القوم لقد جيء بك وما نشك في قتلك فرأيناك حركت شفتيك بشيء ما ندري ما هو فخلى سبيلك.
قال قلت اللهم رب إبراهيم ورب إسحق ويعقوب ورب جبريل وميكائيل وإسرافيل ومنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم ادرأ عني شر زياد.
فخلى عني.
عن عبد الله بن رافع عن برزة ابنة رافع قال فلما جاء العطاء بعث عمر إلى زينب بنت جحش بالذي لها فلما دخل عليها قالت غفر الله لعمر لغيري من أخواتي كانوا أقوى على قسم هذا مني قالوا هذا كله لك.
قالت سبحان الله واستترت دونه بثوب وقالت صبوه واطرحوا عليه ثوبًا فصبوه وطرحوا عليه ثوبًا.
فقالت لي أدخل يدك فاقبضي منه قبضة فاذهبي بها إلى آل فلان وآل فلان من أيتامها وذوي رحمها فقسمته حتى بقيت منه بقية.
فقالت لها برزة غفر الله لك والله لقد كان لنا في هذا حظ قالت فلكم ما تحت الثوب قالت فرفعنا الثوب فوجدنا خمسة وثمانين درهمًا ثم رفعت يديها فقالت اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعد عامي هذا قال فماتت قبل ذلك.
وعن الفضل بن الربيع حاجب هارون الرشيد قال أرسل إلي الرشيد ذات ليلة فحضرت إليه فلما دخلت عليه وجدت بين يديه ضبارة سيوف وأنواع من آلات العذاب.
فقال يا فضل فقلت لبيك يا أمير المؤمنين فقال علي بهذا الحجازي يعني الشافعي t وهو مغضب الساعة الساعة.
فخرجت وبي من الغم والحزن ما لا يوصف لمحبتي للشافعي لفصاحته وبراعته وبلاغته وعقله فجئت إلى بابه.
فأمرت من دق عليه الباب فتنحنح فعلمت أنه يصلي فوقفت حتى فرغ من صلاته وفتح الباب فسلمت عليه.
وقلت له أجب أمير المؤمنين فقال سمعًا وطاعة وجدد الوضوء وارتدى وركع ركعتين وخرج يمشي فمن شفقتي عليه قلت يا أبا عبد الله قف لتستريح بينما أستأذن.
فدخلت على أمير المؤمنين فإذا هو على حاله في غضبه فلما رآني قال أين الحجازي.
قلت عند الستر فقال مره بالدخول فجئت إليه وأمرته بالدخول.
فدخل يمشي مطمئنًا غير فزع ولا خائف ولا قلق ولا منزعج ثم بدأ يحرك شفتيه ووجهه مستنير.
فلما دخل وبصر به أمير المؤمنين قام إلي قائمًا واستقبله واعتنقه وجعل يقبل بين عينيه وهش به وبش.
وقال مرحبًا بأبي عبد الله لم لا تزورنا وتكون عندنا فإني إليك مشتاق وأجلسه مكانه وقعد إلى جانبه وتحدث معه ساعة.
ثم أمر له ببدرة من الذهب قال الشافعي لا أرب لي فيه فسأله أن يقبله فقبله غير مكترث به "يعني ما همه".
ثم أمرني أن أرده إلى داره وأن تحمل البدرة بين يديه فلما خرجنا جعل يعطى كل من رآه وكل من سأله يمينًا وشمالاً حتى وصل إلى منزله وما معه منها شيء.
فلما دخل منزله واطمأن به الجلوس قعدت بين يديه وقلت له يا أبا عبد الله قد عرفت محبتي لك وشفقتي عليك وإني شاهدت غضب أمير المؤمنين في ابتداء طلبه إياك.
ثم لما دخلت عليه رأيت منه من التواضع والتودد والإجلال والإكرام لك ما سرني وكنت رأيتك حركت شفتيك عند دخولك عليه.
فبالذي سكن غضبه عليك وسخره إلا ما علمتني ما كنت تقول في دخولك معي عليه.
فقال حدثني نافع عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قرأه يوم الأحزاب فهزمهم الله ونصرهم على عدوهم.
وهو هذا "شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائمًا بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام" ثم قال وأنا أشهد بما شهد به الله وأستودع الله هذه الشهادة وهذه الشهادة وديعة لي عند الله إلى يوم القيامة.
اللهم إني أعوذ بنور قدسك وعظيم بركتك وعظمة طهارتك وبركة جلالتك من كل آفة وعاهة.
ومن طوارق الليل والنهار من الجن والإنس إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن.
اللهم أنت غياثي قبك استغيث وأنت ملاذي فبك ألوذ وأنت عياذي فبك أعوذ يا من ذلت له رقاب الجبابرة وخضعت له أعناق الفراعنة.
أعوذ بك من خزيك ومن كشف سترك ومن نسيان ذكرك والانصراف عن شكرك.
أنا في حرزك وتحت كنفك ليلي ونهاري ونومي وقراري وظعني وأسفاري وحركاتي وسكناتي وحياتي ومماتي وجميع ساعاتي وأوقاتي.
ذكرك شعاري وثناؤك دثاري أشهد أن لا إله إلا أنت ولا إله غيرك ولا معبود سواك.
سبحانك وبحمدك تشريفًا لعظمتك وتكريمًا لسبحات وجهك وإقرارًا بصمدانيتك.
واعترافًا بوحدانيتك وتنزيهًا لك عما يقول الكافرون والظالمون والجاحدون تعاليت عن ذلك علوًا كبيرًا.
اللهم أجرني من خزيك ومن شر عبادك واضرب علي سرادقات حفظك وأدخلني في حفظك وعنايتك وجد علي منك بخير يا أرحم الراحمين.
إلهي كيف أخاف وأنت أملي أم كيف أضام وعليك توكلي أم كيف أقهر وأنت عمادي أم كيف أغلب وعليك في كل الأمور اعتمادي ضربت وجه كل حاسد حسد وراصد رصد وظالم كند، بـ ]قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ[. انتهى.
روي أن سفيان الثوري رحمه الله كان يعظ الناس ويشوقهم إلى الله، ويرغبهم في ثوابه ويحذرهم من عقابه.
وكان الناس يختلفون إليه، فصعد يومًا منبره على عادته.
فلما استقر به الجلوس وأراد أن يتكلم رفعت إليه امرأة ورقة.
فلما قرأها تغير لونه وبكى بكاءًا شديدًا، ثم نزل ولم يتكلم.
فسأله أصحابه ومن يعز عليه أن يخبرهم بما في الورقة التي رفعتها المرأة عند ما أراد أن يعظ الناس فقرأها عليهم فإذا فيها مكتوب ما يلي:
يا أَيُّها الرجُلُ المُعَلِّمُ غَيْرَهُ تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ مِن الضِنَى ونَراكَ تُلْقِحُ بالرَّشَادِ عُقُولَنَا فابدأْ بِنَفْسِكَ فانْهَهَا عن غَيِّهَا فَهُنَاكَ يُقْبلُ ما تَقُوْلُ ويُقْتَدِى | هَلا لِنَفْسِكَ كَان ذَا التَّعْلِيْمُ كَيْمَا يَصِحُّ بِهِ وأَنْتَ سَقِيْمُ عِظْتَ وأَنْتَ مِن الرَّشَادِ عَدِيْمُ فإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فأَنْتَ حَكيْمُ بالرَّأي مِنْكَ ويَنْفَعُ التَّعلْيْمُ |
فلما قرأها بكى بكاءً شديدًا حتى أغمى عليه فلما أفاق قالوا له أنت كلامك موزون وعرضك إن شاء الله مصون تشفى القلوب إذا أراد الله بوعظك وتسلي المحزون.
فكيف يؤثر فيك هذا الكلام، فبكى وقال أنا ما أصلح أن أتكلم على رؤوس الناس، وأنا أعرف بنفسي من غيري، وفاضت عيناه وقيل أنه ما عاد بعد ذلك حتى مات.
إخواني أفلا تنظرون إلى قلوب هؤلاء الأقوام كانت قلوبهم مثل الزجاجة رقيقة يؤثر فيها الوعظ والكلام.
ونحن نسمع المواعظ ولا تؤثر في قلوبنا ولا نغسل بماء الدموع دون ذنوبنا بل نترك ما ينفعنا وراء ظهورنا ونقبل على اللهو والمنكر والأباطيل كما قيل عن بعضهم يوبخ نفسه.
قُلُوبٌ بِذِكْرِ الوَعْظِ تَزْدَادُ قَسْوَةً أَلِيْنُ مَقَالاً في الكَلامِ لَعَلِّهَا إِذَا قُلْتُ هَذَا مَدْرَجُ القَوْمِ فادْرُجِي وإِنْ عَرَضَتْ يَوْمًا إِلَى الناسِ شَهْوَةٌ وأَنْ لَيْسَ للإنْسانِ إِلا الذي سَعَى | فلا الوَعْظُ يُجْدِي لا ولا العُتْبُ يَنْفَعُ تَلِيْنُ فلا تُصْغِي ولا تَتَخَشَّعُ يَقُولُ الهَوَى حَدَّثْتَ مَنْ لَيْسَ يَسْمَعُ تَراهَا إِلَى مَا يُغْضِبُ الرَّبَ تُسْرِعُ وكُلٌ مُجَازَى بالذي كَانَ يَصْنَعُ |
اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا واكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
من علامات موت القلب عدم الحزن على ما فاتك من الطاعات وترك الندم على ما فعلته من الذنوب والزلات.
وقد جاء في الخبر من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن.
فإذا لم يكن العبد بهذا الوصت فهو ميت القلب.
وإنما كان ذلك من قبل أن أعمال العبد الحسنة علامة على وجود رضى الله عنه.
وأن أعماله السيئة علامة على وجود سخط الله عليه.
فإذا وفق الله عبده للأعمال الصالحة سره ذلك لأنه علامة على رضاه عنه وغلب حينئذ رجاؤه.
وإذا خذله ولم يعصمه فعمل بالمعاصي ساءه ذلك وأحزنه لأنه علامة على سخطه عليه وغلب عليه حينئذ خوفه.
والرجاء يبعث على الجد والاجتهاد في الطاعات غالبًا.
والخوف يبعث على المبالغة في اجتناب المعاصي والسيئات.
وفي حديث عبد الله بن مسعود t قال بينما نحن عند رسول الله ﷺ إذ أتاه آت.
فلما حاذانا ورأى جماعتنا أناخ راحلته ثم مشى إلى النبي ﷺ فقال يا رسول الله أوضعت راحلتي من مسيرة تسع فسيرتها إليك ستًا.
وأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وانضيت راحلتي لأسألك عن اثنتين أسهرتاني.
فقال له النبي ﷺ من أنت قال زيد الخيل قال بل أنت زيد الخير.
سل فرب معضلة قد سألت عنها.
قال جئت أسألك عن علامة الله فيمن يريد وعلامته فيمن لا يريد.
فقال النبي ﷺ بخ بخ كيف أصبحت يا زيد.
قال أصبحت أحب الخير وأهله وأحب أن يعمل به.
وإذا فاتني حنيت إليه وإذا عملت عملاً أيقنت بثوابه.
قال هي بعينها يا زيد.
ولو أرادك الله للأخرى هياك لها ثم لا يبالي في أي واد هلكت.
قال زيد حسبي حسبي ثم ارتحل فلم يلبث.
من علامات التوفيق دخول أعمال البر عليك من غير قصد لها.
وصرف المعاصي عنك مع السعي إليها.
وفتح اللجاء والافتقار إلى الله تعالى في كل الأحوال.
واتباع السيئة بالحسنة.
وعظم الذنب في قلبك وإن كان من صغائر الذنوب.
والإكثار من ذكر الله وحمده وشكره وتنزيهه والثناء عليه.
والاستغفار وشهود التقصير في الإخلاص وشهوده الغفلة في الأذكار والنقصان في الصدق والفتور في المجاهدة وقلة المراعات في الفقر.
فتكون جميع أحواله عنده ناقصة على الدوام ويزداد فقرًا والتجاء إلى الله في قصده وسيره.
ومن علامات الخذلان تعسر الطاعات عليك مع السعي فيها ودخول المعاصي عليك مع هربك منها.
وغلق باب الالتجاء إلى الله وترك التضرع له وترك الدعاء وإتباع الحسنة السيئات واحتقارك لذنوبك وعدم الاهتمام بها وإهمال التوبة والاستغفار ونسيان لربك.
قال بعضهم في مناجاته لربه إلهي وسيدي ومولاي وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتك مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك جاهل، ولا بعقوبتك مستخف، ولكن سولت لي نفسي، وغلبت علي شقوتي، واغتررت بسترك المرخي علي فعصيتك بجهلي وخالقتك بسفهي واسوأتاه من الوقوف بين يديك واخجلاه من العرض عليك، فكم أتوب وأعود، وأعاهد وأنقص العهود.
خُنْتُ العُهُودَ وقد عَصَيْتُ تَعَمُّدًا واخَجْلَتي مِمَّنْ يَرَانِي دَائِمًا فلَيَنْدَمَنَّ المُذْنِبُ العَاصِي إِذَا مَا الأَمْرُ سَهْلٌ فاسْتَعِدَّ إِلَى اللِّقَا واذكُرْ وقُوفَكَ في المَعَادِ وأنْتَ في سَوَّفْتَ حَتَّى ضَاعَ عُمْرُكَ بَاطِلاً فانْهَضْ وتُبْ مِمَّا جَنَيْتَ وقُمْ إِلَى وادْعُوْهُ في الأَسْحَارِ دَعْوَةَ مُذْنِبٍ واضْرَعْ وقُلْ يَا رَبِّ جئتُكَ أَرْتجي فلَعَلَّ رَحْمَتَهُ تَعُم فإنَّهَا وإِذَا أَرَدْتَ بأنْ تَفُوزَ وَتَتَّقِي أخْلِصْ لِمَنْ خَلَقَ الخَلائِقَ واعْتلَى ثم الصلاة على النبيِ مُحَمَّدٍ | وَاخَجْلَتيْ وفَضِيْحتيْ مِنْهُ غَدَا أَعْصِيْ وَيَسْتُرُني على طُول اْلمَدَا لَمْ يَنْتَبْه مِن قَبْل أَنْ يأتي الرَّدَى واعْلَمْ بَأَنَّكَ لا تَكُونُ مُخَلَّدًا كَرْب الحِسَاب وأنْتَ عَبْدًا مُفْرَدًا وأَطَعْتَ شَيْطَانَ الغِوَايَةِ والعِدَا باب الكَريْمِ وَلُذْ بِهِ مَتَفَرَّدًا واعْزِمْ وتُبْ واحْذَرْ تَكُنْ مُتَرَدِّدَا عَفْوًا ومَغْفِرَةً بِهَا كَيْ أَسْعَدَا تَسَعُ العِبَاد ومَنْ بَغي ومَن اعْتَدى نارَ الجَحِيمِ وحَرَّهَا المُتَوَقِّدَا فَوْقَ السَمواتِ العُلَى وتَفَرَّدَا خَيْرِ الوَرَى نَسَبًا وأَكْرَمَ مَحْتَدَا |
اللهم يا عظيم العفو، يا واسع المغفرة، يا قريب الرحمة، يا ذا الجلال والإكرام، هب لنا العافية في الدنيا والآخرة.
اللهم يا حي ويا قيوم فرغنا لما خلقتنا له، ولا تشغلنا بما تكفلت لنا به، واجعلنا ممن يؤمن بلقائك، ويرضى بقضائك، ويقنع بعطائك، ويخشاك حق خشيتك.
اللهم اجعل رزقنا رغدا، ولا تشمت بنا أحدا.
اللهم رغبنا فيما يبقى، وزهدنا فيما يفنى، وهب لنا اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعول في الدين إلا عليه.
اللهم إنا نسألك بعزك الذي لا يرام وملكك الذي لا يضام وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفينا شر ما أهمنا وما لا نهتم به وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
قال بعض العلماء: اعلم أن للعالم العامل بعلمه حقيقة علامات وأمارات تفرق بينه وبين علماء اللسان المخلطين المتبعين للهوى المؤثرين للدنيا على الآخرة المحبين للظهور والشهرة.
فمن علامات العالم الحقيقي الممتاز أن يكون متواضعًا خائفًا وجلاً مشفقًا من خشية الله زاهدًا في الدنيا قانعًا باليسير منها بعيدًا عن الحسد والعجب والغيبة والنميمة والمداهنة.
ملتمسًا للفقراء المتمسكين بدينهم الخالية بيوتهم من الملاهي والمنكرات الذين ليس لهم موارد ولا مساكن ليسعفهم بما يقدر عليه من مال وجاه.
ناصحًا لعباد الله شفيقًا عليهم رحيمًا بهم، وآمرًا بالمعروف فاعلاً له وناهيًا عن المنكر، ومجتنبًا له ومسارعًا في الخيرات ملازمًا للعبادات.
دالاً على الخير داعيًا إلى الهدى، ذا صمت وتوأدة ووقار وسكينة.
حسن الأخلاق، واسع الصدر، لين الجانب، مخفوض الجناح للمؤمنين، لا متكبرًا ولا متجبرًا، ولا طامعًا في الناس، ولا حريصًا على الدنيا، ولا مؤثرًا لها على الآخرة.
ولا منهمكًا بجمع المال، ولا غشاشًا، ولا مقدمًا للأغنياء على الفقراء، ولا مرائيًا، ولا محبًا للولايات.
وبالجملة فيكون متصفًا بجميع ما يحثه عليه الكتاب والسنة، مؤتمرًا بما يأمرانه به من الأخلاق المحمودة والأعمال الصالحة.
مجانبًا لما ينهى عنه كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ من الأخلاق والأعمال المذمومة.
وهذه صفات ينبغي أن يتصف ويتحلى بها كل مؤمن، إلا أن العالم وطالب العلم أولى أن يتصف بها ويحافظ عليها ويدعو إليها.
وينبغي للعالم أن يكون حديثه مع العامة في حال مخالطته لهم في بيان الواجبات والمحرمات ونوافل الطاعات وذكر الثواب والعقاب على الإحسان والإساءة.
ويكون كلامه بعبارة يعرفونها ويفهمونها، ويبين لهم الأمور التي هم ملابسون لها.
ولا ينبغي له أن يسكت حتى يسأل وهو يعلم أنهم محتاجون إليه أو مضطرون له والله الموفق.
وقال آخر إخواني اعلموا أن صلاح الأمة وفسادها بصلاح العلماء وفسادهم وأن من العلماء رحمة على الناس يسعد من اقتدى بهم وأن من العلماء فتنة على الأمة يهلك من تأسى بهم.
فالعالم إذا كان عاملاً برضوان الله مؤثرًا للآخرة على الدنيا فأولئك خلفاء الرسل عليهم السلام والنصحاء للعباد والدعاة إلى الله فيسعد من أجابهم ويفوز من اقتدى بهم ولهم مثل أجر المتأسين بهم.
وتلى بعض أهل العلم قول الله تعالى ]وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ[.
فقال هذا حبيب الله هذا ولي الله هذا صفوة الله هذا خيرة الله هذا أحب أهل الأرض إلى الله أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحًا في إجابته وقال إنني من المسلمين إنه خليفة الله.
يا قوم فبمثل هذا العالم اقتدوا به وتأسوا تسعدوا ألا أن صنفًا من العلماء رضوا بالدنيا عوضًا عن الآخرة فآثروا على جوار الله تعالى ورغبوا في الاستكثار منها وأحبوا العلو فيها.
فتأسى بهم عالم من الناس وافتتن بهم خلق كثير أولئك أسوء فتنة على الأمة، تراكوا النصح للناس كيلا يفتضحوا عندهم.
لقد خسروا وبئسما اتجروا واحتملوا أوزارهم مع أوزار المتأسين بهم فهلكوا وأهلكوا أولئك خلفاء الشيطان ودعاة إبليس أقل الله في البرية أمثالهم.
وقال بعض العلماء من ازداد بالله علمًا فازداد للدنيا حبًا ازداد من الله بعدًا وقال إذا كان العالم مفتونًا بالدنيا راغبًا فيها حريصًا عليها فإن في مجالسته لفتنة تزيد الجاهل جهلاً وبفتن العالم يزيد الفاجر فجورًا ويفسد قلب المؤمن.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله إني لأرحم ثلاثة عزيز قوم ذل وغنيًا افتقر وعالمًا تلعب به الدنيا وأنشد بعضهم:
عَجِبْتُ لمُبْتَاعِ الضَّلالَةِ بالهُدَى وأَعْجَبُ مِنْ هَاذَيْنِ مَنْ بَاعَ دِيْنَهُ | ومَنْ يَشْتَرِي دُنْيَاهُ بالدِّيْنِ أَعْجَبُ بدُنْيَا سِوَاه فَهْوَ مِنْ ذَيْنِ أَعْجَبُ |
وقال أحد العلماء أقل درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا، وخستها، وكدورتها، وانصرامها، ويدرك عظم الآخرة، وصفاءها، ودوامها.
وأن يعلم أنها متضادتان، وأنهما ضرتان، متى أرضيت واحدة أسخطت الأخرى.
وكفتا ميزان متى رجحت إحداهما خفت الأخرى وكالمشرق والمغرب متى قربت من أحدهما بعدت عن الآخر.
ومن علم ذا كله ثم آثر الدنيا على الآخرة فهو أسير الشيطان قد أهلكته شهوته، وغلبت عليه شقوته.
فكيف يعد من العلماء من هذه درجته وحق الحق لأعجب من عالم يجعل علمه سبيلاً إلى حطام الدنيا.
وهو يرى كثيرًا من الجهال وصلوا من الدنيا ما لا ينتهي هو إليه فإذا كانت الدنيا تنال مع الجهل، فما بالنا نشتريها بأنفس الأشياء، وهو العلم فينبغي أن يقصد بالعلم وجه الله تعالى انتهى.
وختامًا فقد تقدم ما ينبغي أن يتصف به العالم وما ينبغي أن يتجنبه لأن المعصية مع العلم تكون أعظم من المعصية مع الجهل ولذلك يزل بزلة العالم عالم لأنه قدوة ولذلك كان بعض العارفين يتفقد نفسه، ولا يظهر لتلاميذه والناس إلا على أشرف الأحوال، خوفًا أن يقتدى بها في سيئها، أو يساء الظن به فلا ينتفع به، فعلى العالم أن ينكف عن الكبائر والصغائر.
قال بعض العلماء:
أَيُّهَا العَالِمُ إيَّاكَ الزَّلَلْ هَفْوَةُ العَالِم مُسْتَعْظَمَةْ وعَلَى زَلَّتِهِ عُمْدَتُهُمْ لا تَقَلْ يَسْترْ عَليَّ العِلمُ زلِّتِي إِنْ تَكُنْ عِنْدَكَ مُسْتَحْقَرَةً لَيْسَ مَنْ يَتْبَعُهُ العَالَمُ فِي مِثْلُ مَنْ يَدْفعُ عَنْهُ جَهْلُهُ انْظُرِ الأَنْجُمَ مَهْمَا سَقَطَتْ فإِذَا الشمسُ بَدَتْ كَاسِفَةً وتَرَاءَتْ نَحْوَهَا أَبْصَارُهُمْ وسَرَى النَّقْصُ لَهُمْ مِن نَقْصها وكذا العَالِمُ فِي زَلَّتِهْ | واحْذَرِ الهَفْوَةَ والخَطْبَ الجَلَلْ إِذْ بِهَا أَصْبَحَ فِي الخَلْقِ مَثَلْ فَبِهَا يَحْتَجُّ مَن أَخْطَأ وزَلْ بَلْ بِهَا يَحْصُل فِي العِلْمِ الخَلَلْ فَهْيَ عِنْدَ اللهِ والناسِ جَبَلْ كُلَّ مَا دَقَّ مِن الأَمْرِ وَجَلْ إِنْ أَتَى فاحِشَةً قِيل قَدْ جَهِلْ مَن رآها وهْيَ تَهْويْ لَمْ يُبَلْ وجِلَ الخَلْقُ لَهَا كُلَّ الوَجَلْ فِي انْزعَاجٍ واضْطَرابٍ وَوَجَلْ فَغَدَتْ مُظْلِمَةً مِنْهَا السُبُل يَفْتِنُ العَالَمَ طُرًا ويُضِلْ |
موعظة: قال بعضهم إخواني ذهب الصالحون والعلماء المجتهدون ولم تذهب آثارهم ومحيت رسومهم ولم تمح محاسنهم وأخبارهم.
ومَا مَاتَ مَن تَبْقَى التَّصَانِيْفُ بَعْدَهُ | مُخَلَّدَةً والعِلْمُ والفَضْلُ ولْدُهْ |
آخر:
وَمَا دَامَ ذِكْرْ العَبْدِ بالفَضْلِ باقِيًا | فَلَذلِكَ حَيٌ وهو في التُرْبِ ذَاهِبُ |
كان الإمام أحمد يقدر الشافعي ـ رضي الله عنهما ـ ويذكره كثيرًا ويثني عليه وكانت له ابنة صالحة تقوم الليل وتصوم النهار وتحب أخبار الصالحين.
وتود أن ترى الشافعي لتقدير الإمام أحمد له فاتفق مبيت الشافعي عنده ففرحت البنت بذلك طمعًا في أن ترى أفعاله وتسمع مقاله.
فلما كان الليل قام الإمام أحمد إلى صلاته والإمام الشافعي مستلق على ظهره والبنت ترقبه لتنظر عمله حتى الفجر.
فقالت لأبيها أنت تقدر الشافعي وتثني عليه وما رأيته صلى في هذه الليلة ولا سمعت له ذكرًا ولا وردًا.
فبينما هم في الحديث إذ قام الشافعي فقال له أحمد كيف كانت ليلتك فقال ما رأيت ليلة أطيب منها ولا أبرك ولا أربح فقال كيف ذلك.
قال لأني رتبت في هذه الليلة مائة مسألة وأنا مستلق على ظهري كلها في منافع المسلمين ثم ودعه ومضى.
فقال أحمد لابنته هذا الذي عمله الليلة وهو نائم أفضل مما عملته وأنا قائم.
يا هذا تيقظ كانت حركاتهم وسكناتهم لله وذكرهم وفكرهم فيما يقربهم إلى الله.
فقيامهم طاعة ونومهم إعانة على الطاعة وذكرهم تسبيح وتحميد وسكونهم فكر وعلمهم شفاء.
قَومٌ إِلَى اللهِ سَارُوْا بالعُلُوم عَلَى وفَارَقُوا الأَهْلِ والأَولادَ واغْتَرَبُوْا حَتَى انْتَهوْا مُنْتَهَى عِلْمٍ ومَعْرِفَةٍ هُمُوا الأَئمَة لا زَالَتْ عُلُومُهُمُوْا | نَجَائِب الفِكْر رُكْبَانًا وَوُجْدَانًا وقَدْ جَفَوْا فِي طِلابِ العِلْمِ أَوْطَانًا وذِكْرُهُم عَطَّر البُلْدَانَ إِعْلانًا تُبْدِيْ لِنَا شِقِهَا رَوْحًا ورَيْحَانًا |
وقال آخر:
هُمُ العُلَمَاءُ المُخْلِصُونَ لِرَبِهِمْ فإِنْ كُنْتَ أَهْلاً حُزْتَ كُلَّ فَضِيْلَةٍ وسَاعَدَك الرحمنُ مِنْهُ بِفَضْلِهِ ج | فَخُذْ واقْتَبِسْ مِن عِلْمِهِمْ مُتَأَدِّبَا ونِلْتَ مَقَامًا فِي الأَنَامِ ومَنْصِبَا وصَارَ لَكَ الدِّيْنُ الحَنِيْفِ مَذْهَبَا |
اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان وثبتها على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة واجعلنا هداة مهتدين وتوفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نصائح وفوائد ومواعظ
قال أحد العلماء العم أنه لا يسلم إنسان من النقص إلا من عصمه الله كالرسل قال الله جل وعلا على الإنسان ]إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً[.
وقال ﷺ "كل بني آدم خطَّا وخير الخطائين التوابون" فمن خفيت عليه عيوبه فقد سقط.
وصار من السخف والرزالة والخسة وضعف التمييز والعقل وقلة الفهم بحيث لا يتخلف عنه متخلف من الرذائل.
وعليه أن يتدارك نفسه بالبحث عن عيوبه والسؤال عنها بدقة وأكثر من يفهم عيوب الإنسان أعداؤه لأنهم دائمًا ينقبون عنها.
وكذلك الأصدقاء الناصحين الصادقين المنصفين يفهمونها غالبًا.
فالعاقل يشتغل بالبحث عنها والسعي في إزالتها ولا يتعرض لعيوب الناس التي لا تضره لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا من باب النصيحة.
كما لو رآى إنسانًا معجبًا بنفسه فيبدي له النصح وجهًا لوجه لا خلف ظهره. فإنه من الغيبة إلا من كان مجاهرًا.
واحذر أن تقارن بينك وبين من هو أكثر منك عيوبًا فتستسهل الرذائل وتهاون بعيوبك.
لكن قارن بين نفسك ومن هو أفضل منك لتسلم من عجبك بنفسك وتفيق من داء الكبر والعجب الذي يولد عليك الاستحقار والاستخفاف بالناس مع العلم بأن فيهم من هو خير منك.
فإذا استخففت بهم بغير حق استخفوا بك بحق لأن الله جل وعلا وتقدس يقول ]وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا[.
فتسبب على نفسك أن تكون أهلاً للاستخفاف بك مع ما تجنيه من الذنوب وطمس ما فيك من فضيلة.
فإن كنت معجبًا بعقلك ففكر وتامل في كل فكرة سوء تحل بخاطرك وفي أضاليل الأماني الطائفة بك فإنك تعلم نقص عقلك حينئذ.
وإن أعجبت بآرائك فتأمل وفكر في غلطاتك وسقطاتك واحفظها وتذكرها ولا تنسها.
وفي رأي كنت تراه صوابًا فتبين لك خطؤك وصواب غيرك والغالب أن خطأك أكثر من الصواب.
وهكذا ترى الناس غير الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وإن أعجبت بعملك فتفكر في معاصيك هل بيتك خال من الملاهي والمنكرات مثل الصور والتلفاز والمذياع وأغانيه والمجلات والجرائد التي فيها صور ذوات الأرواح.
وهل هو خال من الأولاد الذي لا يشهدون الجماعة وهل أنت سالم من الغيبة وإخلاف الوعد والكذب والحسد والكبر والرياء.
والعقوق وقطيعة الرحم والظلم والرياء والدخان وحلق اللحية والغش وقول الزور وسوء الظن بالمسلمين والتجسس عليهم والاحتقار لهم ونحو ذلك.
فإِنْ تَنْجُ مِنْهَا تَنْجُ مِنْ ذِيْ عَظيمةٍ | وإِلا فإِنِّي لا إِخَالُكَ نَاجِيَا |
فأنت إذا تفقدت نفسك وبيتك وأولادك وجدت عندك من الشرور والآثام ما بعضه يغلب على ما أعجبت به من عملك الذي لا تدري هل هو مقبول أو مردود.
وإن أعجبت بعلمك أو عملك فاعلم أنه موهبة من العزيز العليم وهبك إياها فلا تقابلها بما يسخطه عليك.
قال الله جل وعلا ]وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ[ وقال سبحانه وتعالى ]وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً[.
واسأل الله أن يزيدك منه، وأن يجعله حجة لك لا عليك، قال تبارك وتعالى ]وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا[.
وتفكر فيما تحمله من العلم هل أنت عامل به أم لا واجعل مكان عجبك بنفسك استنقاصًا لها واستقصارًا فهو أولى بك.
وتفكر فيمن كان أعلم منك تجدهم كثيرًا، ثم اعلم أن العلم الذي تفتخر فيه ربما يكون وبالاً عليك.
فيكون الجاهل أحسن حالا ومآلا وأعذر منك فبذلك التفكير يزول العجب والكبر عنك وتهون نفسك عندك حينئذ.
وإن أعجبت بشجاعتك وقوتك فتفكر فيمن هو أشجع وأقوى منك ثم انظر في تلك النجدة التي منحك الله تعالى فيم صرفتها.
فإن كنت صرفتها في معصية الله فأنت جاهل لأنك بذلت نفسك فيما ليس ثمنًا لها.
وإن كنت صرفتها في طاعة فقد أفسدتها بإعجابك بعملك.
ثم تفكر في زوالها عنك وقت الكبر عندما تنحل قوتك ويضعف جسمك.
قال الله جل وعلا وتقدس ]اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ[.
تَسَاقَطُ أَسْنَانٌ ويَضْعُفُ نَاظِرٌ | وتَقْصُر خُطْوَاتٌ ويَثْقُلُ مَسْمَعُ |
اللهم إنك تعلم سرنا وعلانيتنا وتسمع كلامنا وترى مكاننا لا يخفى عليك شيء من أمرنا نحن البؤساء الفقراء إليك المستغيثون المستجيرون بك نسألك أن تقيظ لدينك من ينصره ويزيل ما حدث من البدع والمنكرات ويقيم علم الجهاد ويقمع أهل الزيغ والكفر والعناد ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
وقال ابن القيم رحمه الله وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره.
بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أينما كانت فمدار تعبده عليها فلا يزال متنقلاً في منازل العبودية كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها واشتغل بها.
حتى تلوح له منزلة أخرى فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره.
فإن رأيت العلماء رأيته معهم.
وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم.
وإن رأيت العباد رأيته معهم.
وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم.
وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم.
وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم.
فهذا هو العبد المطلق الذي لم تملكه الرسوم ولم تقيده القيود.
ولم يكن عمله على مراد نفسه وما فيه لذتها وراحتها من العبادات.
بل هو مراد ربه ولو كانت لذة نفسه وراحتها في سواه.
فهذا هو المتحقق بـ ]إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[ حقًا القائم بهما صدقًا.
ملبسه ما تهيا، ومأكله ما تيسر، واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خاليًا.
لا تملكه إشارة ولا يتعبده قيد ولا يستولي عليه رسم حر مجرد دائر مع الأمر حيثما دار.
يدين بدين الآمر أنى توجهت ركائبه ويدور معه حيث استقلت مضاربه.
يأنس به كل محق ويستوحش منه كل مبطل كالغيث حيث وقع نفع وكالنخلة لا يسقط ورقها وكلها منفعة حتى شوكها وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله والغضب إذا انتهكت محارمه فهو لله وبالله ومع الله.
فواهًا له ما أغربه بين الناس وما أشد وحشته منهم وما أعظم أنسه بالله وفرحه به وطمأنينته وسكونه إليه والله المستعان وعليه التكلان. انتهى.
شعرًا:
نَالُوا بِذَلِكَ فَرْحَةً وسُرُوْرَا قَوْمٌ أَقَامُوْا لِلإِلَهِ نُفُوسَهُمْ تَرَكُوْا النَّعِيْمَ وطَلَّقُوْا لَذَّاتِهِم قَامُوْا يُنَاجُوْنَ الإِلهَ بَأَدْمُعٍ سَتَروْا وُجُوهَهُمُوْا بأَسْتَار الدُّجَي عَمِلُوْا بِمَا عَلِمُوْا فَجَادُوْا بالذِيْ وإِذَا بَدَا لَيْلٌ سَمِعْتَ أَنِيْنَهُمْ تَعِبُوْا قَلِيلاً فِي رِضَا مَحْبُوبِهِم صَيَرُوا عَلَى بَلْوَاهُمُوا فَجَزَاهُمُوْا | وسَعَوْا فأَصْبَحَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا فَكَسَا وُجُوْهَهُمُ الوَسِيمَة نُوْرًا زُهْدًا فَعَوَّضَّهُمْ بِذَاكَ سُرُوْرًا تَجْرِيْ فَتَحْكِي لُؤْلؤًا مَنْثُورًا لَيْلاً فأَضْحَتْ فِي النَّهَارِ بِدُوْرًا وجَدُوْا فأَصْبَح حَظُّهُم مَوْفُورًا وشَهْدْتَ وَجْدًا مِنْهُمُوْا وزَفَيْرًا فأَرَاحَهُمْ يَوْمَ المَعَادِ كَثِيْرًا يَوْمَ القِيَامَةِ جَنَّةً وحَرِيْرًا |
اللهم ثبت وقو محبتك في قلوبنا واشرح صدورنا ونورها بنور الإيمان واجعلنا هداة مهتدين وألهمنا ذكرك وشكرك واجعلنا ممن يفوز بالنظر إلى وجهك في جنات النعيم يا حليم ويا كريم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
ثم اعلم أيها الأخ أنه ما من ساعة تمر على العبد لا يذكر الله فيها إلا تأسف وتحسر على فواتها بغير ذكر الله ولذلك ينبغي للعاقل أن يجعل معه شيئًا يذكره لذكر الله كلما غفل عنه.
ويقال إن العبد تعرض عليه ساعات عمره في اليوم والليلة فيراها خزائن مصفوفة أربع وعشرين خزانة فيرى في كل خزانة أمضاها في طاعة الله ما يسره. فإذا مرت به الساعات التي غفل فيها عن ذكر الله رآها فارغة ساءه ذلك وتندم حين لا يفيده الندم.
وأما الساعات التي كان يذكر الله فيها فلا تسأل عن سروره فيها وفرحه بها حتى يكاد أن يقتله الفرح والسرور. قال بعضهم أوقات الإنسان أربعة لا خامس لها النعمة، والبلية، والطاعة، والمعصية.،
ولله عليك في كل وقت منها سهم من العبودية.
فمن كان وقته الطاعة لله فسبيله شهود المنة من الله عليه أن هداه ووفقه للقيام بها.
ومن كان وقته المعصية فعليه بالتوبة والندم والاستغفار.
ومن كان وقته النعمة فسبيله الشكر والحمد لله والثناء عليه.
ومن كان وقته البلية فسبيله الرضا بالقضاء والصبر والرضا رضى النفس عن الله، والصبر ثبات القلب بين يدي الرب. اهـ.
العمر إذا مضى لا عوض وما حصل لك منه لا قيمة له. فعمر الإنسان هو ميدانه للأعمال الصالحة المقربة من الله تعالى والموجبة له جزيل الثواب في الآخرة. ولكن ما يعرف قدر العمر إلا نوادر العلماء.
قال الله جل وعلا وتقدس ]ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ[ وقال تبارك وتعالى ]كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ[ وقال ]إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ[ الآيات.
وهذه هي السعادة التي يكدح العبد ويسعى من أجلها وليس له منها إلا ما سعى كما قال جل وعلا وتقدس ]وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى[.
فكل جزء يفوته من العمر خاليًا من عمل صالح.
يفوته من السعادة بقدره ولا عوض له منه.
فالوقت لا يستدرك وليس شيء أعز منه وكل جزء يحصل له من العمر غير خال من العمل الصالح يتوصل به إلى ملك كبير لا يفنى ولا قيمة لما يوصل إلى ذلك لأنه في غاية الشرف والنفاسة.
ولأجل هذا عظمت مراعاة السلف الصالح y لأنفاسهم ولحظاتهم وبادروا إلى اغتنام ساعاتهم وأوقاتهم ولم يضيعوا أعمارهم في البطالة والتقصير ولم يقنعوا لأنفسهم إلا بالجد والتشمير فلله درهم ما أبصرهم بتصريف أوقاتهم.
تَبْغِي الوُصُولَ بسَيْرٍ فِيْهِ تَقْصِيْرُ قَدْ سَارَ قَبْلَكَ أَبْطالٌُ فَمَا وَصِلُوا | لا شَكَّ أنَّكَ فِيْمَا رُمْتَ مَغْرُوْرُ هَذَا وفِي سَيْرِهم جَدٌ وتَشْمِيْرُ |
قال بعضهم أدركت أقوامًا كانوا على ساعاتهم أشفق منكم على دنانيركم ودراهمكم فكما لا يخرج أحدكم دينارًا ولا درهمًا إلا فيما يعود نفعه عليه فكذلك السلف لا يحبون أن تخرج ساعة بل ولا دقيقة من أعمارهم إلا فيما يعود نفعه عليهم ضد ما عليه أهل هذا الزمان من قتل الوقت فيما لا يجدي.
هُمُ الرجالُ فَإِنْ تَسْلُكُ طَرِيْقَتَهُمْ سَلْهُمْ وسَلْ عَنْهُمُوْا مَنْ كَانَ يَعُرِفُهُمْ والوَقْتُ أَنْفَسُ شَيء كَانَ عِنْدَهُمُوْا فانْعَمْ إِذَا كُنْتَ تَهْوَاهُمْ بِقُرِبِهِمُوْا واحْلُلْ بِسَاحَتِهِمْ تَسْعَدْ بِقْرْبِهِمُوْا | نِلْتَ المُنَى لَيْسَ بَعْدَ العَيْنِ آثارُ فَعِنْدهُ لِمُقْيِم الدِّيْنِ أْقَدْارُ ولَيْسَ يَمْضِيْ سُدىً بَلْ فيه أدَكَارُ واصْحَبْهُمُوْا إِنْ نَاءَتْ يَوْمًا بِكَ الدَارُ يَحْمُوْا النَّزِيْلَ وَلا يُؤذَى لَهُمْ جَارُ |
اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتلم بها شعثنا، وترفع بما شاهدنا، وتحفظ بها غائبنا، وتزكى بها أعمالنا، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها من كل سوء يا أرحم الراحمين.
اللهم ارزقنا من فضلك، وأكفنا شر خلقك، وأحفظ علينا ديننا وصحة أبداننا.
اللهم يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقيل عثرات العاثرين، نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الذين أنعمت عليه من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين.
اللهم يا عالم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، يا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا أنت إليك المصير.
نسألك أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة رحمتك، يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
فائدة عظيمة النفع
ذكر أحد العلماء رحمه الله تعالى جوابًا لسؤال ورد عليه وهو "هل من طريق لمن سلب نعمة دينية أو دنيوية إذا سلكها عادت إليه".
فكان جوابه أولاً أن يعرف من أين أتى فيتوب منه ويعرف بما في المحنة بذلك من الفوائد فيرضى بها ثم يتضرع إلى الله تعالى بالطريق التي نذكرها.
فالأمر الأول كما تقدم أن تعلم من أين أتيت، وما السبب الذي زالت به عنك النعمة فإن النعمة لا تزول عنك سدى قال الله جل وعلا ]إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ[.
ثم اعلم أنها لم تزل عنك إلا لإخلا لك بالقيام بما يجب عليك من حقوقها وهو الشكر لرب العالمين، فإن كل نعمة لا تشكر جديرة بالزوال.
ومن كلامهم النعمة إذا شكرت قرت وإذا كفرت فرت.
وقيل لا زوال للنعمة إذا شكرت، ولا بقاء لها إذا كفرت وقيل النعمة وحشية فقيدوها بالشكر.
والله سبحانه وعد بالزيادة لمن شكر ولم يستثن فيه.
واستثنى في خمسة أشياء في الإغناء، والإجابة، والرزق، والمغفرة، والتوبة.
فقال جل وعلا وتقدس ]فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء[.
وقال جل وعلا ]فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء[ وقال جل وعلا ]يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ[.
وقال تعالى ]وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ[.
وقال جل وعلا ]وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ[، وقال تعالى في الشكر من غير استثناء ]لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ[ والشكر يكون بالقلب واللسان والأفعال هذه أركانه ثلاثة.
قال الشاعر:
أفادَتْكُمُ النَّعْمُاءُ مِنِّيْ ثَلاثَةً | يَدِيْ ولِسَانِي والضَّمِيْرَ المُحَجَّبَا |
أما القلب وهو أعظم الأركان فالمراد منه أن تعلم وتعتقد أن الله جل وعلا هو الذي منحك النعمة لا أحد سواه ولا مشارك له.
فإن كل من تقدره من كبير وأمير ووزير وصاحب وخليل ووالد وغيرهم لا يقدر على فعل شيء لنفسه فضلاً عن غيره.
وإن جرى على يديه خير، فالله جل وعلا هو الذي سخره لك وألقى في قلبه ما حمله على الإحسان إليك فعليك بحمد الله وشكره وذكره.
فإذا استقرت عندك هذه القاعدة بحيث صرت تتلقى كل ما يأتيك من الله جل وعلا لا من أحد من خلقه فهذا شكر عظيم.
وهو أعظم أركان الشكر، وأطلق عليه كثير من المحققين أنه نفس الشكر حيث قالوا الشكر الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع.
عن أبي عمرو الشيبان قال قال موسى عليه السلام يوم الطور يا رب إن أنا صليت فمن قبلك، وإن أنا تصدقت فمن قبلك، وإن أنا بلغت رسالتك فمن قبلك، فكيف أشكرك.
قال "يا موسى الآن شكرتني" وفي لفظ "إذا عرفت أن النعم مني فقد رضيت بذلك منك شكرًا".
وهذا حق واضح، فجميع ما نتعاطاه باختيارنا نعمة من الله تعالى علينا.
إذ جوارحنا وقدرتنا وإرادتنا ودعاوينا وسائر الأمور التي هي أسباب حركاتنا وسكناتنا من خلق الله ونعمته.
فنحن نشكر بنعمته نعمته.
تَبَارَكَ مَنْ شُكْرُ الوَرَى عَنْهُ يَقْصُرُ وَشَاكِرُهَا يَحْتَاجُ شُكْرًا لِشُكْرِهَا فََفَيْ كُلِّ شُكْرٍ نِعْمَةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ فَمَنْ رَامَ يَقْضِي حَقَّ وَاجِبَ شُكْرِهَا | لِكَوْنِ أَيَادِيْ جُوْدِهِ لَيْسَ تُحْصَرُ كَذَلِكَ شُكْرُ الشُّكْرِ يَحْتَاجُ يُشْكَرُ بِغَيْرِ تَنَاءٍ دُوْنَهَا الشُّكْرُ يَصْغُرُ تَحَمَّلَ ضِمْنَ الشُّكْرِ مَا هُوَ أَكْبَرُ |
وقال آخر:
إِذَا كَانَ شُكْرِي نِعْمَةَ اللهِ نِعْمَةً فَكيفَ بلوُغُ الشُكْرِ إِلا بِفَضْلِهِ | عَليَّ إِذًا فِي مِثْلِهَا يَجبُ الشُكْرُ وَإِنْ طَالَتِ الأَيَامُ واتَّصَل العُمْرُ |
اللهم نجنا برحمتك من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بفضلك الجنة دار القرار وعاملنا بكرمك وجودك يا كريم يا غفار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين بحرمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
قال الشافعي رحمه الله الحمد لله الذي لا يؤدي شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة منه توجب على مؤدي ماضي شكر نعمه بأدائها نعمة حادثة يجب عليه شكرها، ولا يبلغ الواصفون كنه عظمته الذي هو كما وصف به نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه انتهى.
قال وعندي أنه يتعين على ذي النعمة أيضًا أن ينظر إليها وإن قلت بعين التعظيم لكونها من قبل الله تعالى فإن قليله لا يقال له قليل.
وينظر إلى نفسه بالتحقير بالإضافة إليها معترفًا بأنه ليس أهلاً لها وأن أصله نطفة من منى تمنى قال الله جل وعلا ]أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى[.
وقال تعالى ]أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ[.
وقال جل وعلا ]كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ[ وقد وصله الله إلى النعمة لا بالاستحقاق عليه بل بفضل منه جل وعلا.
ولا يخفى عليك والله المثل الأعلى أن من وصلت إليه هدية من ملك فاستقلها ولم يعبأ بها فإن الملك ينقم عليه ويأخذ في نفسه منه، ويمنع عنه العطاء.
وإن رآه استعظمها واستحقر نفسه بالنسبة إليها فإن الملك يحب ذلك، وربما حمله هذا الأمر على إسداء نعمة أخرى.
والله جل وعلا أكرم الأكرمين وأجود الأجودين ولا تخفي عليه خافية فمهما وقع في نفسك فهو مطلع عليه.
قال تعالى ]وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ[.
وقال تعالى ]وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى[.
وقال جل وعلا ]يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ[.
فإن وقع قلبك استقلالها أي النعمة فإنه يخشى عليك زوالها وافتقارك إليها فانتبه لذلك.
وإن وقع في نفسك استعظامها وشكرت الله على ذلك فأبشر بدوامها والازدياد.
قال، فإن قلت ما علاج هذا الداء فإن كثيرًا من الناس يعطون ما يرونه قليلاً بالنسبة إليهم.
قلت العلاج أن ينظر إلى نفسه، ويرى هل يستحق على الله شيئًا، وما أصله وكيف وصل إلى ما وصل.
فما من أحد يعتبر حاله من أول منشئه إلى إيصال النعمة التي هو فيها مفكر ولها مستقل إلا ويجدها ليست في حسابه وكثيرة عليه (هذا إذا كان عاقلاً).
ودواء آخر وهو أن تأخذ النعمة من الله تعالى وتعلم أن العظيم إذا أسدى إلى عبده الحقير معروفًا وإن قل فقد ذكره وما حقرك من ذكرك.
وما ذكرك الكريم إلا وهو يريد أن يجبرك.
وإن كان ما أسداه إليك قليلا عليك فهو بالنسبة إلى أنه من عطائه كثير عليك وبالنسبة إلى أنه طريق إلى عطاء آخر أكثر منه إذا شكرته كثير أيضًا وإنما يجيئك الاستقلال من نظرك إلى النعمة دون المنعم.
وأما اللسان فالمراد منه حمد الله تعالى على النعمة، والتحدث بها، لقوله تعالى ]وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ[ فيتحدث بها لا للرياء والسمعة والتفاخر بل للثناء على الله جل وعلا.
كان جماعة من السلف يجتمعون فيتذاكرون نعم الله عليهم وعلى المسلمين، وأما الأفعال فالمراد منها امتثال الأوامر، واجتناب النواهي.
ولكل نعمة شكر يخصها والضابط لذلك أن تستعمل نعم الله جل وعلا في طاعته، ولا يستعان بها على معاصيه.
فمن شكر نعمة البصر النظر به في الكتاب والسنة للعمل بها ومن ذلك غضهما عن كل قبيح محرم كالتلفاز والفيديو والنساء الأجنبيات والعورات والمردان ونحو ذلك.
ومن شكر نعمة السمع ألا تتسمع حرامًا كالقذف والنميمة والغيبة والكذب والبهت والسخرية والهجاء والإطراء والأغاني والاستماع للمطربين والمطربات وسب المسلم.
ومن شكر نعمة الفم أن لا يدخله حرامًا ويحفظ لسانه عن جميع ما تقدم مما ذكرنا في شكر نعمة السمع قال الله جل وعلا ]إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً[.
ومن شكر نعمة الفرج حفظه عما حرم الله قال الله جل وعلا ]وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ {5} إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ[.
شعرًا:
وَاخَجْلَةِ القَلْبِ مِنْ إِحْسَانِ سَيِّدِهِ وَاحَسْرَةَ الطَّرْفِ كَمْ يَرْنُوا لِخَائِنَةٍ فَكَمْ أَسَأْتُ وَبالإِحْسَانِ عَامَلني وَكَمْ لَهُ مِنْ أَيَادٍ غَيْرِ وَاحِدَةٍ بِلُطْفِهِ وبِفَضْلٍ مِنْهُ عَرَّفَني يَا نَفْسُ تُوبِي مِنْ العِصْيَانِ وانْزَجِرِي | وَاحَيْرَةَ القَلْبِ مِنْ أَلْطَافِ نَعْمَاهُ مِنْ المآثِم لا يَرْضَى بِهَا اللهُ وَاخَجْلَتِي وَإِحَيَائِي حِيْنَ أَلْقَاهُ وَافَتْ إِليَّ تُريْنِي أَنَّهُ اللهُ فِي حُبِّهِ كَيْفَ أَرْجُوْهُ وأَخْشَاهُ فَقَدْ كَفَى مَا جَرَى لِي حَسْبِي اللهُ |
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
موعظة
عباد الله انتبهوا وتفكروا واعتبروا أين الذين جمعوا الأموال ولم يغنهم ما جمعوا.
أما كلهم في القبور قد جمعوا، أين الذين قطعوا أيامهم في الشهوات واللذات وما شبعوا.
أترونهم أعجبهم المقام أم حبسوا، أين الذين غرتهم الحياة الدنيا خذلوا والله بالشهوات والمعاصي وخدعوا.
أين الذين نصبت لهم الأسباب شباك الغفلة حتى وقعوا.
نزل بهم مفرق الأحباب فذلوا لسطوته وخضعوا.
أزعجهم من بين الأهل والأقارب والأحباب والجيران وقد فجعوا.
يبكيهم الأهلون والأحباب يا ليتهم نجحوا أفردوهم بأعمالهم ونسوهم وانقطعوا.
ينادونهم بلسان الحزن والحسرات يا ليتهم سمعوا ارحموا من صار رهينًا في التراب بلا عمل ينجيه ولا مفزع يؤيه.
هيهات شربوا كأس الأسف والندامة وتجرعوا مزقت الديدان أوصالهم فتقطعوا.
يودون لو ردوا فصاموا بالنهار وبالليل ما هجعوا، هيهات والله قد حصدوا من أعمالهم ما زرعوا.
فبادروا رحمكم الله بالأعمال الصالحة، فبين أيديكم الحشر والصراط والحساب، وأهوال من سكرات الموت صعاب.
ويوم يا له من يوم تنقطع فيه الأرحام والأنساب، ولا ينفع فيه الأهل والأموال والأصحاب والأنساب.
وما هو والله إلا نعيم في الجنان أو تقلب في العذاب، وكم من مناد ينادي بلسان الحسرات والندامات يا ويلتنا ما لهذا الكتاب.
فيا من قادتهم الشهوات إلى الحفائر، يا من دنس الحرام منهم البواطن والظواهر، ويا من أعماهم الهوى فعميت منهم البصائر.
قال الله جل وعلا وتقدس ]أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ[.
انتبه يا من سبقه القوم وتخلف في الشهوات يا من قطع زمانه بالتسويف والبطالات، وقسا قلبه بالمعاصي وجمدت عيناه عن الدموع والعبرات، وشاب رأسه وهو مقيم على الزلات.
إلى متى وأنت تبارز بالمعاصي من يعلم الظواهر والخفيات، تيقظ يا مسكين فإنك عن قريب ستندم على ما فاتك من اكتساب الباقيات الصالحات.
قال بعضهم لما زار المقابر:
أأحْبَابُنَا فَارَقتُموْنَا فأُوْحِشَتْ فَكَمْ قَدْ تَذَاكَرْنَا مَحَاسِنَ مَن مَضَى قَضَوْا وقَضْيتمُ ثم نَقْضِيْ فَلا بَقَا وكُنَّا وإِيَّاكُم نَزُرْرُ مَقَابِرًا سَقَتْ دِيْمَةُ الرِضْوَانِ رَيَّا ثَراكُمُوْا | قُلُوبٌ لَنَا مِنْ بَعْدِكُمْ ودِيَارُ فَجَاءَتْ دُمُوعٌ لِلْفِرَاق غِزارُ لِحَيٍّ وكَاسَاتُ المنُونِ تُدَارُ ومُتُّمْ فَزَرُنَاكُم وسَوْف نُزَارُ وسَحَّتْ لَهَا فِي سَاحَتَيْهِ بِحَارُ |
فأجيب:
يَقُول لِسَانُ الحَالِ إِذْ أَخْرَسَ الرَّدَى شَرِبْنَا بِكَأسٍ أَسْكَرَتْنَا مَرِيْرَةً فَلا تَغْتَرِرْ بِاللهِ مَنْ عَاشَ بَعْدَنَا وإِنَّا وَجَدْنَا خَيْرَ أَزْوَادِنَا التُّقَى وما العَيْشُ إِلا زوْرَةُ الطَّيْفِ فِي الكَرى | لِسَانًا لَهُمْ مِنْهُ الفَصِيْحُ يَغَارُ أَلارُبَّ سُكْرٍ مَا حَوَاهُ عُقَارُ بِعَيْشٍ فأَيَّامُ الحَيَاةِ قِصَارُ هُوَ الرِّيْحُ حَقًا مَا عَدَاهُ خَسَارُ وَمَا هَذِهِ الدُنْيَا الدَّنَيَّةِ دَارُ |
اللهم جد علينا بكرمك، وأفض علينا من نعمك، وتغمدنا برحمتك، وعاملنا برأفتك، ووفقنا لخدمتك، واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
قال ابن القيم رحمه الله في الكلام على مراحل العالمين وكيفية قطعهم إياها فلنرجع إليه فنقول أما الأشقياء فقطعوا تلك المراحل سائرين إلى دار الشقاء متزودين غضب الرب سبحانه.
ومعاداة كتبه ورسله، وما بعثوا به ومعادات أوليائه والصد عن سبيله ومحاربة من يدعو إلى دينه ومقاتلة الذين يأمرون بالقسط من الناس وإقامة دعوة غير دعوة الله التي بعث بها رسله لتكون الدعوة له وحده.
فقطع هؤلاء الأشقياء مراحل أعمارهم في ضد ما يحبه الله ويرضاه: وأما السائرون إليه فظالمهم قطع مراحل عمره في غفلاته وإيثار شهواته ولذاته على مراض الرب سبحانه وأوامره مع إيمانه بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر.
لكن نفسه مغلوبة معه مأسورة مع حظه وهواه يعلم سوء حاله ويعترف بتفريطه ويعزم على الرجوع إلى الله فهذا حال المسلم.
وأما من زين له سوء عمله فرآه حسنًا وهو غير معترف ولا مقر ولا عازم على الرجوع إلى الله والإنابة إليه أصلاً.
فهذا لا يكاد إسلامه أن يكون صحيحًا أبدًا ولا يكون هذا إلا منسلخ القلب من الإيمان ونعوذ بالله من الخذلان.
وأما الأبرار المتقصدون فقطعوا مراحل سفرهم بالاهتمام بإقامة أمر الله وعقد القلب على ترك مخالفته ومعاصيه فهممهم مصروفة إلى القيام بالأعمال الصالحة واجتناب الأعمال القبيحة.
فأول ما يستيقظ أحدهم من منامه يسبق إلى لبه القيام إلى الوضوء والصلاة كما أمره الله فإذا أدى فرض وقته اشتغل بالتلاوة والأذكار إلى حين تطلع الشمس فيركع الضحى.
ثم يذهب إلى ما أقامه الله فيه من الأسباب فإذا حضر فرض الظهر بادر إلى التطهر والسعي إلى الصف الأول من المسجد فأدى فريضته كما أمر مكملاً لها بشرائطها وأركانها وسننها وحقائقها الباطنة من الخشوع والمراقبة والحضور بين يدي الرب.
فينصرف من الصلاة وقد أثرت في قلبه وبدنه وسائر أحواله آثارًا تبدو على صفحاته ولسانه وجوارحه ويجد ثمرتها في قلبه من الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور وقلة التكالب والحرص على الدنيا وعاجلها.
قد نهته صلاته عن الفحشاء والمنكر وحببت إليه لقاء الله ونفرته عن كل قاطع يقطعه عن الله فهو مغموم مهموم كأنه في سجن حتى تحضر الصلاة.
فإذا حضرت قام إلى نعيمه وسروره وقرة عينه وحياة قلبه فهو لا تطيب له الحياة إلا بالصلاة هذا وهم في ذلك كله مراعون لحفظ السنن لا يخلون منها بشيء ما أمكنهم.
فيقصدون من الوضوء أكمله ومن الوقت أوله ومن الصفوف أولها عن يمين الإمام أو خلف ظهره.
ويأتون بعد الفريضة بالأذكار المشروعة كالاستغفار ثلاثًا وقول اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام.
وقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.
ثم يسبحون ويحمدون ويكبرون تسعًا وتسعين ويختمون المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
ومن أراد المزيد قرأ آية الكرسي والمعوذتين عقب كل صلاة فإن فيها أحاديث رواها النسائي وغيره.
ثم يركعون السنة على أحسن الوجوه هذا دأبهم في كل فريضة.
فإذا كان قبل غروب الشمس توفروا على أذكار المساء الواردة في السنة نظير أذكار الصباح الواردة في أول النهار ولا يخلون بها أبدًا.
فإذا جاء الليل كانوا فيه على منازلهم من مواهب الرب سبحانه التي قسمها بين عباده.
فإذا أخذوا مضاجعهم أتوا بأذكار النوم الواردة في السنة وهي كثيرة تبلغ نحوًا من أربعين.
فيأتون منها ما علموه وما يقدرون عليه من قراءة سورة الإخلاص والمعوذتين ثلاثًا ثم يمسحون بها رؤوسهم ووجوههم وأجسادهم ثلاثًا ويقرؤون آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة ويسبحون ثلاثًا وثلاثين ويحمدون ثلاثًا وثلاثين ويكبرون أربعًا وثلاثين.
ثم يقول أحدهم اللهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك.
آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت.
وإن شاء قال باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه فإن أمسكت نفسي فاغفر لها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين.
وإن شاء قال: اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم ربي ورب كل شيء فالق الحب والنوى منزل التوراة والإنجيل والقرآن أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها.
أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عني الدين وأغنني من الفقر.
وبالجملة فلا يزال يذكر الله على فراشه حتى يغلبه النوم فهذا نومه عبادة وزيادة له من قربه من الله.
فإذا استيقظ عاد إلى عادته الأولى ومع هذا فهو قائم بحقوق العباد من عيادة المرضى وتشييع الجنازة وإجابة الدعوة والمعاونة لهم بالجاه والبدن والنفس والمال وزيارتهم وتفقدهم. وقائم بحقوق أهله وعياله.
فهو متنقل في منازل العبودية كيف نقله فيها الأمر فإذا وقع منه تفريط في حق من حقوق الله بادر إلى الاعتذار والتوبة والاستغفار ومحوه ومداواته بعمل صالح يزيل أثره فهذا وظيفته دائمًا. اهـ.
لا نِلْتُ مِمَّا أَرْتَجِيْهِ سُرُوْرَا والمرءُ لَيْسَ بِصَادِقٍ فِي حُبِّهِ للهِ قَوْمٌ أَخْلَصُوْا فِي حُبِّهِ ذَكَرُوْا النَّعِيْمَ فَطَلَّقُوْا دُنْيَاهُمُوْا قَامُوْا يُنَاجُوْنَ الإِلهَ بِأَدْمُعٍ سَتَروْا وُجُوهَهُمُوْا بِأَسْتَار الدُّجَى عَمِلُوا بِمَا عَلِمُوْا وَجَادُوْا بِالذِي وَإِذَا بَدَا لَيْلٌ سَمِعْتَ حَنِيْنَهُمْ تَعِبُوْا قَلِيْلاً فِي رِضَا مَحْبُوبِهِمْ صَبَرُوا عَلَى بَلْوَاهُمُوا فَجَزَاهُمُوْا يَا أَيُهَا الغِرُّ الحَزيْنُ إِلَى مَتَى بَادِرْ زَمَانَكَ واغتنمْ سَاعَاتِهِ واضْرعْ إِلَى المَولى الكريم ونَادِه مَا لِيْ سِوَاكَ وأَنْتَ غَايَةُ مَقْصَدِي | إِنْ كَانَ قَلْبِي عَنْ رَجَاكَ نَفُوْرَا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي النَائِبات صَبُوْرَا فَكَسَا وجُوهَهُمُ الوَسِيْمَةَ نُوْرَا زُهْدًا فَعَوضَهُمْ بِذَاكَ أَجُوْرَا تَجْرِي فَتَحْكِيْ لُؤلُؤًا مَنْثُورًا لَيْلاً فأَضْحَتْ فِي النهار بُدُوْرَا وَجَدُوا فأَصْبَحَ حَظهُم موفُورَا وشَهدْتَ وجْدًا مِنْهُمُوْا وزَفِيْرَا فأَراحَهُمْ يَوْمِ اللِّقَاءِ كَثِيْرَا يَوْمَ القِيَامَةِ جَنَّةً وحَرِيْرَا تُفني زَمَانَكَ بَاطِلاً وغُرُوْرَا واحْذَرْ تَواناكي تَحَوُزَ أَجُوْرَا يَا وَاحِدًا فِي مُلكِهِ وقَدِيْرَا وإِذَا رَضِيْتَ فَنِعْمَةٌ وسُرُوْرَا |
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله أجمعين.
(فصل)
وقال إن شرور الدنيا والآخرة إنما هو الجهل بما جاء به الرسول ﷺ والخروج عنه.
وهذا برهان قاطع على أن لا نجاة للعبد ولا سعادة إلا بالاجتهاد في معرفة ما جاء به الرسول ﷺ علمًا والقيام به عملاً.
وكمال هذه السعادة بأمرين أحدهما دعوة الخلق إليه، والثاني صبره واجتهاده على تلك الدعوة.
فانحصر الكمال للإنسان على هذه المراتب الأربع.
أحدها العلم بما جاء به النبي ﷺ.
والثانية العمل به.
والثالثة نشره في الناس والدعوة إليه.
والرابعة صبره وجهاده في أدائه وتنفيذه.
ومن طلعت همته إلى معرفة ما كان عليه الصحابة y وأراد اتباعهم فهذه طريقتهم حقًا.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات وحب المساكين وإذا أردت فتنة في قوم فتوفنا غير مفتونين.
وقال رحمه الله الهجرة هجرتان: هجرة بالجسم من بلد إلى بلد وهذه أحكامها معلومة وليس المراد الكلام فيها.
والهجرة الثانية بالقلب إلى الله ورسوله وهذه هي المقصود هنا وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية وهي الأصل.
وهجرة الجسد تابعة لها هي هجرة تتضمن (من) و (إلي) فيها جسر بقلبه من غير الله إلى محبته ومن عبودية غيره إلى عبوديته ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه ومن دعاء غيره وسؤاله، والخضوع له والذل له والاستكانة له إلى دعاء الله وسؤال الله والخضوع له والذل له والاستكانة له.
وهذا بعينه معنى الفرار إليه قال تعالى: ]فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ[ والتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه.
وتحت (من) و (إلى) في هذا سر عظيم من أسرار التوحيد فإن الفرار إليه سبحانه يتضمن إفراده بالطلب والعبودية فهو متضمن لتوحيد الإلهية التي اتفقت عليها دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وأما الفرار منه إليه فهو متضمن لتوحيد الربوبية وإثباته القدر وأن كل ما في الكون من المكروه والمحذور الذي يفر منه العبد فإنما أوجبته مشيئة الله وحده.
فإن ما شاء كان ووجب وجوده بمشيئته وما لم يشأ لم يكن وامتنع وجوده لعدم مشيئته.
فإذا فر العبد إلى الله فإنما يفر من شيء إلى شيء وجد بمشيئة الله وقدره فهو في الحقيقة فار من الله إليه.
ومن تصور هذا حق تصوره فهم معنى قوله ﷺ: "وأعوذ بك منك" وقوله: "لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك" فإنه ليس في الوجود شيء يفر منه ويستعاذ منه ويلتجأ منه إلا هو من الله خلقًا وإبداعًا.
فالفار والمستعيذ فار مما أوجد قدر الله ومشيئته وخلقه إلى ما تقتضيه رحمته وبره ولطفه وإحسانه، ففي الحقيقة هو هارب من الله إليه مستعيذ بالله منه.
وتصور هذين الأمرين يوجب للعبد انقطاع تعلق قلبه من غيره بالكلية، خوفًا ورجاء، ومحبة.
فإنه إذا علم أن الذي يفر منه ويستعيذ منه إنما هو بمشيئة الله وقدرته وخلقه لم يبق في قلبه خوف من غير خالقه وموجده.
فتضمن ذلك إفراد الله وحده بالخوف والحب والرجاء. ولو كان فراره مما لم يكن بمشيئته ولا قدرته لكن ذلك موجبًا لخوفه منه مثل ما يفر من مخلوق إلى مخلوق آخر أقدر منه.
فإنه في حال فراره من الأول خائف منه حذرًا أن لا يكون الثاني يفيده منه بخلاف ما إذا كان الذي يفر إليه هو الذي قضى وقدر وشاء ما يفر منه فإنه لا يبقى في القلب التفات إلى غيره.
فتفطن إلى هذا السر العجيب في قوله: "أعوذ بك منك" و "لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك" فأن الناس قد ذكروا في هذا أقوالاً، وقل من تعرض منهم لهذه النكتة التي هي لب الكلام ومقصوده. وبالله التوفيق.
فتأمل كيف عاد الأمر كله إلى الفرار من الله إليه وهو معنى الهجرة إلى الله تعالى، ولهذا قال النبي ﷺ: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه".
ولهذا يقرن سبحانه وتعالى الإيمان والهجرة في غير موضع لتلازمهما واقتضاء أحدهما للآخر.
والمقصود أن الهجرة إلى الله تتضمن هجران ما يكرهه وإتيان ما يحبه ويرضاه وأصلهما الحب والبغض.
فإن المهاجر من شيء إلى شيء لابد أن يكون ما يهاجر إليه أحب مما هاجر منه فيؤثر أحب الأمرين إليه على الآخر.
وإذا كان نفس العبد وهواه، وشيطانه إنما يدعونه إلى خلاف ما يحبه ويرضاه، وقد بلي بهؤلاء الثلاث.
فلا يزالون يدعونه إلى غير مرضاة ربه، وداعي الإيمان يدعوه إلى مرضاة ربه، فعليه في كل وقت أن يهاجر إلى الله ولا ينفك في هجرته إلى الممات.
وهذه الهجرة تقوى وتضعف بحسب داعي المحبة في قلب العبد فإن كان الداعي أقوى كانت هذه الهجرة أقوى وأتم وأكمل وإذا ضعف الداعي ضعفت الهجرة حتى لا يكاد يشعر بها علمًا، ولا يتحرك لها إرادة.
والذي يقضي منه العجب أن المرء يوسع الكلام ويفرع المسائل في الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وهي الهجرة التي انقطعت بالفتح، وهذه هجرة عارضة. وربما لا تتعلق به في العمر أصلاً.
وأما هذه الهجرة التي هي واجبة على مدى الأنفاس لا يحصل فيها علمًا ولا إرادة وما ذاك إلا للإعراض عما خلق له، والاشتغال بما لا ينجيه وحده عما لا ينجيه غيره.
وهذا حال من عشيت بصيرته وضعفت معرفته بمراتب العلوم والأعمال والله المستعان. وبالله التوفيق لا إله إلا غيره ولا رب سواه.
وأما الهجرة إلى الرسول ﷺ فعلم لم يبق منه سوى اسمه ومنهج لم تترك بنيات الطريق سوى رسمه، ومحجة سفت عليها السوافي فطمست رسومها وغارت عليها الأعادي فغورت مناهلها وعيونها.
فسالكها غريب بين العباد فريد بين كل حي وناد. بعيد على قرب المكان وحيد على كثرة الجيران.
مستوحش مما به يستأنسون، مستأنس مما به يستوحشون مقيم إذا ظعنوا، ظاعن إذا قطنوا، منفرد في طريق طلبه لا يقر قراره، حتى يظفر بإربه. فهو الكائن معهم بجسده البائن منهم بمقصده، نامت في طلب الهدى أعينهم، وما ليل مطيته بنائم، وقعدوا عن الهجرة النبوية، وهو في طلبها مشمر قائم.
يعيبونه بمخالفة آرائهم ويزرون عليه إزراءًا على جهالاتهم وأهوائهم، قد رجموا فيه الظنون وأحدقوا فيه العيون، وتربصوا به ريب المنون ]فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ[ ]قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ[ انتهى.
للهِ دَرّ السَّادَة العُبَّادِ أَلْوَانُهُم تُنْبِيْكَ عَنْ أَحْوَالِهم كَتَمُوْا الضِّنَى حِفْظًا لَهُمْ وتَحَمَّلُوْا هَجَروْا المَرَاقِدَ فِي الظَّلامَ لِرَبِّهِمْ لا يفترون إذا الدجى وافاهُمُوا ورَأَوْا عَلامَاتِ الرَّحِيْلِ فَبَادَرُوْا فإِذَا اسْتَمَالَ قُلُوْبَهُم دَاعِي الهَوَى نَظَرُوا إِلَى الدُنْيَا تَغُرُّ بِأَهْلِهَا فَتَجَنَّبُوْهَا عِفَّةً وتَزَهُّدًا ومَضَوْا عَلَى مِنْهَاجِ صَحْب نَبيَّهمْ | فِي كُلِّ كَهْفٍ قَدْ ثَوَوْا أَوْ وَادِي ودُمُوعُهُمْ عَنْ حُرْقَةِ الأَكْبَادِ سُقْمَ الهَوَى ومَشَقَّةَ الأَجْسَادِ واسْتَبْدَلوا سَهَرًا بِطِيْبِ رُقَادِ مِنْ كَثْرَةِ الأَذْكَارِ والأَوْرَادِ تَحْصِيْل مَا الْتَمَسُوْا مِنْ الأَزْوَادِ ذَكرُوا البِلَى فِي ظُلْمَةِ الأَلْحَادِ بوِصَالِهَا وتَكِرُّ بالأَبْعَادِ وتَزوُّدُوْا مِن صَالِحِ الأَزْوَادِ فَنَجْوْا غَدًا مِنْ هَوْلِ يَوْمِ مَعَادِ |
اللهم إنك تعلم سرنا وعلانيتنا وتسمع كلامنا وترى مكاننا لا يخفى عليك شيء من أمرنا نحن البؤساء الفقراء إليك المستغيثون المستجيرون بك نسألك أن تقيض لدينك من ينصره ويزيل ما حدث من البدع والمنكرات ويقيم علم الجهاد ويقمع أهل الزيغ والكفر والعناد ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
وقال رحمه الله من فوائد محاسبة النفس أنه يعرف بذلك حق الله تعالى، ومن لم يعرف حق الله تعالى عليه فإن عبادته لا تكاد تجدي عليه، وهي قليلة المنفعة جدًا.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج حدثنا جرير بن حازم عن وهب قال: بلغني أن نبي الله موسى عليه السلام مر برجل يدعو ويتضرع فقال: يا رب ارحمه، فإني قد رحمته، فأوحى الله تعالى إليه: "لو دعاني حتى تنقطع قواه ما استجبت له حتى ينظر في حقي عليه".
فمن انفع ما للقلب النظر في حق الله على العباد، فإن ذلك يورثه مقت نفسه، والإزراء عليها، ويخلصه من العجب ورؤية العمل ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه، واليأس من نفسه.
وإن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته، فإن من حقه أن يطاع ولا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.
فمن نظر في هذا الحق الذي لربه عليه، علم علم اليقين أنه غير مؤد له كما ينبغي وأنه لا يسعه إلا العفو والمغفرة، وأنه إن أحيل على عمله هلك.
فهذا محل أهل المعرفة بالله تعالى وبنفوسهم، وهذا الذي أيأسهم من أنفسهم وعلق رجاءهم كله بعفو الله ورحمته.
وإذا تأملت حال أكثر الناس وجدتهم بضد ذلك، ينظرون في حقهم على الله ولا ينظرون في حق الله عليهم.
ومن ههنا انقطعوا عن الله وحجبت قلوبهم عن معرفته ومحبته والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره، وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه.
فمحاسبة النفس هو نظر العبد في حقه الله أولاً، ثم نظره هل قام به كما ينبغي ثانيًا.
وأفضل الفكر الفكر في ذلك، فإنه يسير القلب إلى الله ويطرحه بين يديه ذليلاً خاضعًا منكسرًا كسرًا فيه جبره، ومفتقرًا فقرأ فيه غناه، وذليلاً ذلاً فيه عزه، ولو عمل من الأعمال ما عساه أن يعمل فإنه إذا فاته هذا فالذي فاته من البر أفضل من الذي أتى.
وقال رحمه الله تعالى: فائدة قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه في الذوات والأعيان، فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات.
فإذا كان القلب ممتلئًا بالباطل باعتقاده ومحبته لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع كما أن اللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه إلا إذا فرغ لسانه من النطق بالباطل.
وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة لم يمكن شغلها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها. فكذلك المشغول بمحبة غير الله وإرادته والشوق إليه والأنس به لا يمكن شغله بمحبة الله وإرادته وحبه والشوق إلى لقائه إلا بتفريغه بغيره.
ولا حركة اللسان بذكره والجوارح بخدمته إلا إذا فرغها من ذكر غيره وخدمته. فإذا امتلأ القلب بالشغل بالمخلوق والعلوم التي لا تنفع لم يبق فيها موضع للشغل بالله ومعرفة أسمائه وصفاته، وأحكامه.
وسر ذلك في إصغاء القلب كإصغاء الأذن، فإذا أصغى إلى غير حديث الله لم يبق فيه إصغاء وفهم لحديثه، كما إذا مال إلى غير محبة الله لم يبق فيه ميل إلى محبته. فإذا نطق القلب بغير ذكره لم يبق فيه محل للنطق بذكره كاللسان.
ولهذا في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرًا" رواه مسلم وغيره.
فبين أن الجوف يمتلي بالشعر، فكذلك يمتلئ بالشبه والشكوك والخيالات، والتقديرات التي لا وجود لها، والعلوم التي لا تنفع، والمفاكهات والمضحكات والحكايات ونحوها.
وإذا امتلأ القلب بذلك جاءته حقائق القرآن والعلم الذي به كماله وسعادته فلم تجد فيه فراغًا لها ولا قبولاً وجاوزته إلى محل سواه.
كما إذا بذلت النصيحة لقلب ملآن من ضدها لا منفذ لها فيه فإنه لا يقبلها وتلج فيه لكن تمر مجتازة لا مستوطنة.
وقال لا يزال العبد منقطعًا عن الله حتى تتصل إرادته ومحبته بوجهه الأعلى، والمراد بهذا الاتصال، أن تفضي المحبة إليه، وتتعلق به وحده، فلا يحجبها شيء دونه.
وأن تتصل المعرفة بأسمائه وصفاته وأفعاله، فلا يطمس نورها ظلمة التعطيل، كما لا يطمس نور المحبة ظلمة الشرك.
وأن يتصل ذكره به سبحانه فيزول بين الذاكر والمذكور حجاب الغفلة والتفاته في حال الذكر إلى غير مذكوره.
فحينئذ يتصل الذكر به، ويتصل العمل بأوامره ونواهيه، فيفعل الطاعة لأنه أمر بها وأحبها، ويترك المناهي لكونه نهي عنها، وابغضها.
فهذا معنى اتصال العمل بأمره ونهيه. وحقيقة زوال العلل الباعثة على الفعل والترك من الأعراض والحظوظ العاجلة.
ويتصلالتوكل والحب به بحيث يصير واثقًا به سبحانه، مطمئنًا إليه، راضيًا بحسن تدبيره له غير متهم له في حال من الأحوال.
ويتصل فقره وفاقته به سبحانه دون من سواه.
ويتصل خوفه ورجاؤه، وفرحه وسروره، وابتهاجه به وحده، فلا يخاف غيره، ولا يرجوه، ولا يفرح به كل الفرح ولا يسر به غاية السرور.
وإن ناله بالمخلوق بعض الفرح والسرور، فليس الفرح التام والسرور الكامل، والابتهاج والنعيم وقرة العين، وسكون القلب إلا به سبحانه.
وما سواه إن أعان على هذا المطلوب فرح به وسر به. وإن حجب عنه فهو بالحزن به والوحشة منه واضطراب القلب بحصوله له أحق منه بأن يفرح به، فلا فرحة ولا سرور إلا به، أو بما أوصل إليه وأعان على مرضاته. وقد أخبر سبحانه أنه لا يحب الفرحين بالدنيا وزينتها.
وأما الفرح بفضله ورحمته، وهو الإسلام والإيمان والقرآن كما فسره الصحابة والتابعون. والمقصود أن من اتصلت له هذه الأمور بالله سبحانه فقد وصل، وإلا فهو مقطوع عن ربه متصل بحظه ونفسه، فلبس عليه في معرفته وإرادته وسلوكه. انتهى كلامه رحمه الله.
يَا غَافِلاً فِي نَوْمِهِ وسِنَانِهِ لا يَسْتَفِيْقُ مِن الذُنُوبِ وكُلَّمَا قَدْ ضَلَّ عَنْ طُرْقِ الهِدَايَة والتُقَى فلو اسْتَقَال إِلَى الكَريم فَرُبَّمَا | مُتَشَاغِلاً باللَّهْوِ فِي غَفَلاتِهِ وعَظُوْهُ جَازَ الحَدَّ فِي زَلاتِهِ والشَّيْبُ وَافَى مُنْذِر بِوَفَاتِهِ يَعْفُو بِفَضْلٍ مِنْهُ عَنْ هَفَواتِهِ |
اللهم وفقنا لما وفقت إليه القوم وأيقظنا من سنة الغفلة والنوم وأرزقنا الاستعداد لذلك اليوم الذي يربح فيه المتقون اللهم وعاملنا بإحسانك وجد علينا بفضلك وامتنانك واجعلنا من عبادك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون اللهم ارحم ذلنا بين يديك واجعل رغبتنا فيما لديك، ولا تحرمنا بذنوبنا، ولا تطردنا بعيوبنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
وقال رحمه الله لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين: نظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخستها وألم المزاحمة عليها والحرص عليها وما في ذلك من الغصص والأنكاد.
وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب ذلك من الحسرة والأسف فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها وهم في حال الظفر بها وغم بعد فواتها فهذا أحد النظرين.
(النظر الثاني) النظر في الآهرة وإقبالها ومجيئها ولابد ودوامها وبقائها وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا فهي كما قال الله سبحانه ]وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى[ فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة، منقطعة مضمحلة.
فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره وزهد فيما يقتضي الزهد فيه فكل أحد مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة إلى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة إلا إذا تبين له فضل الآجل على العاجل وقويت رغبته في الأعلى الأفضل فإذا آثر الفاني الناقص، كان ذلك إما لعدم تبين الفضل له وإما لعدم رغبته في الأفضل.
وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الإيمان وضعف العقل والبصيرة فإن الراغب في الدنيا الحريص عليها المؤثر لها إما أن يصدق أن ما هناك أشرف وأفضل وأبقى وإما أن لا يصدق فإن لم يصدق بذلك ولم يؤثره كان فاسد العقل سيء الاختيار لنفسه.
وهذا تقسيم حاضر ضروري لا ينفك العبد من أحد القسمين منه فإيثار الدنيا على الآخرة إما من فساد في الإيمان وإما من فساد في العقل وما أكثر ما يكون منهما ولهذا نبذها رسول الله ﷺ وراء ظهره هو وأصحابه، وصرفوا عنها قلوبهم وطرحوها ولم يألفوها وهجروها ولم يميلوا إليها وعدوها سجنًا لا جنةً فزهدوا فيها حقيقة الزهد ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب ولوصلوا منها إلى كل مرغوب.
فقد عرضت عليه مفاتيح كنوزها فردها وفاضت على أصحابه فآثروا بها ولم يبيعوا بها حظهم من الآخرة وعلموا أنها معبر وممر لا دار مقام ومستقر وأنها دار عبور لا دار سرور وأنها سحابة صيف تنقشع عن قليل وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى آذن بالرحيل.
قال النبي ﷺ: "ما لي وللدنيا إنما أنا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها" وقال "ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم ترجع".
وقال خالقها سبحانه ]إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ[.
فأخبر عن خسة الدنيا وزهد فيها وأخبر عن دار السلام ودعا إليها وقال تعالى ]وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً[.
وقال تعالى ]اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ[.
وقال ]زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ[ ]قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ[.
وقال تعالى ]وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ[ وقد توعد سبحانه أعظم الوعيد لمن رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها وغفل عن آياته ولم يرج لقاءه فقال ]إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ[ وعير سبحانه من رضي بالدنيا من المؤمنين فقال: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ[.
وعلى قدر رغبة العبد في الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الآخرة ويكفي في الزهد في الدنيا قوله تعالى ]أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ[.
وقوله ]وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ[ وقوله ]كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ[.
وقوله تعالى ]يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا[.
وقوله ]وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ[.
وقوله ]قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ[.
وقوله ]يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا[.
يروى أن أحد العباد أتى إلى قبر صاحب له كان يألفه فأنشد:
مَا لِي مَرَرْتُ عَلَى القُبُورِ مُسَلِّمَا أَحَبَيْبُ مَالَكَ لا تُجِيْبُ مُنَاديًا لَوْ كَانَ يَنْطِقُ بِالجَوَابِ لَقَالَ لِيْ | قَبْرَ الحَبِيْبِ فَلَمْ يُرُدَّ جَوَابِي أَمَللْتَ بَعْدِي خُلَّةَ الأَصْحَابِ أَكَلَ التُّرَابُ مَحَاسِنِي وَشَبَابِي |
فأجيب عن الميت:
قَالَ الحَبِيْبُ وَكَيْفَ لِيْ بِجَوَابِكُمْ أَكَلَ التُرَابُ مَحَاسِنِي فَنَسِيْتُكُمْ فَعَلَيْكُمُوْا مِنِّي السَلامُ تَقَطَعتْ وتَمَزَّقَتُّ تِلْكَ الجُلُودُ صَفَائِحًا وتَفَصَّلَتْ تِلْكَ الأَنَامِلُ مِنْ يَدِيْ وتَسَاقَطَتْ تِلْكَ الثَّنَايَا لُؤلُؤًا | وأَنَا رَهِيْنُ جَنَادِلٍ وتُرَابِ وحُجِبْتُ عَنْ أَهْلِي وعَنْ أَصْحَابِيْ عَنِّي وعَنْكُمِ خُلَّةُ الأَصْحَابِ يَا طَالَمَا لَبِسَتْ رَفِيْعَ ثِيَابِيْ مَا كَانَ أَحْسَنَهَا لِخَطِّ كِتَابِيْ مَا كَانَ أَحْسَنَهَا لِرَدِّ جَوَابِيْ |
اللهم يا فالق الحب والنوى، يا منشئ الأجساد بعد البلى يا مؤي المنقطعين إليه، يا كافي المتوكلين عليه، انقطع الرجاء إلا منك، وخابت الظنون إلا فيك، وضعف الاعتماد إلا عليك نسألك أن تمطر محل قلوبنا من سحائب برك وإحسانك وأن توفقنا لموجبات رحمتك وعزائم مغفرتك إنك جواد كريم رؤوف غفور رحيم.
اللهم إنا نسألك قلبًا سليمًا، ولسانًا صادقًا، وعملاً متقبلاً، ونسألك بركة الحياة وخير الحياة، ونعوذ بك من شر الحياة، وشر الوفاة.
اللهم ثبت قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك واختم لنا بخاتمة السعادة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
وقال رحمه الله من أفضل ما يسأل الرب تبارك وتعالى الإعانة على مرضاته وهو الذي علمه النبي ﷺ لحبه معاذ بن جبل t.
فقال يا معاذ والله إني لأحبك فلا تنس أن تقول في دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
فأنفع الدعاة طلب العون على مرضاته وأفضل المواهب إسعافه بهذا المطلوب.
وجميع الأدعية المأثورة مدارها على هذا وعلى دفع ما يضاده وعلى تكميله وتيسير أسبابه فتأملها.
وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته ثم رأيته في الفاتحة ]إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[.
ومقابل هؤلاء القسم الثاني وهم المعرضون عن عبادته والاستعانه به فلا عبادة ولا استعانة.
بل إن سأله أحد واستعان به فعلى حظوظ شهواته.
لا على مرضاة ربه فإنه سبحانه يسأله من في السموات والأرض.
يسأله أوليائه وأعداؤه ويمد هؤلاء وهؤلاء وأبغض خلقه عدوه إبليس ومع هذا فقد سأله حاجة فأعطاه إياها ومتعه.
ولكن لما لم تكن عونًا على مرضاته كانت زيادة في شقوته وبعده عن الله وطرده عنه.
وهكذا كل من استعان به على أمر وسأله إياه ولم يكن عونًا على طاعته كان مبعدًا له عن مرضاته قاطعًا له عنه ولابد.
وليتأمل العاقل هذا بنفسه وفي غيره وليعلم أن إجابة الله لسائليه ليست لكرامة السائل عليه.
بل يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه وشقوته ويكون قضاؤها له من هوانه عليه وسقوطه من عينه.
ويكون منعه منها لكرامته عليه ومحبته له فيمنعه حماية وصيانة وحفظًا لا بخلاً.
وهذا إنما يفعله بعبده الذي يريد كرامته ومحبته ويعامله بلطفه فيظن بجهله أن الله لا يحبه ولا يكرمه.
ويراه يقضي حوائج غيره فيسيء ظنه بربه وهذا حشو قلبه ولا يشعر به والمعصوم من عصمه الله والإنسان على نفسه بصيرة.
وعلامة هذا حمله على الأقدار وعتابه الباطن لها، فاحذر كل الحذر أن تسأله شيئًا معينًا خيرته وعاقبته مغيبة عنك.
وإذا لم تجد من سؤاله بدًا فعلقه على شرط علمه تعالى فيه الخيره وقدم بيد يدي سؤالك الاستخارة.
ولا تكن استخارة باللسان بلا معرفة بل استخارة من لا علم له بمصالحه ولا قدرة له عليها.
ولا اهتداء له إلى تفاصيلها ولا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا بل إن وكل إلى نفسه هلك كل الهلاك وانفرط عليه أمره.
وإذا أعطاك ما أعطاك بلا سؤال فاسأله أن يجعله عونًا لك على طاعته وبلاغًا إلى مرضاته ولا يجعله قاطعًا عنه ولا مبعدًا عن مرضاته.
ولا تظن أن عطاءه كل ما أعطى لكرامة عبده عليه ولا منعه كل ما يمنعه لهوانة عبده عليه.
ولكن عطاؤه ومنعه ابتلاء وامتحان يمتحن به عباده.
قال الله تعالى ]فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلاَّ[.
أي ليس كل من أعطيته ونعمته وخولته فقد أكرمته وما ذاك لكرامته علي ولكنه ابتلاء مني وامتحان أيشكرني فأعطيه فوق ذلك أم يكفر بي فأسلبه إياه وأخول فيه غيره.
يَا غَافِلاً عَنْ صُرُوْفِ الدهر فِي سَنَةٍ ارْغَبْ بِنَفْسِكَ عَمَّا سَوْفَ تَتْرُكُهُ مَاذَا يَغُرُّكَ مِنْ دَارِ الفَنَاءِ ومِنْ فامْهَدْ لنَفْسِكَ فالسَّاعَاتُ فَانِيَةٌ | والدَّهْرُ يُوْقِظُ فِي الآيَاتِ والعِبَرِ فعل اللَّبِيْبِ أخي التَّحْقِيْق والنَظَرِ عُمْرٍ يَمُرُّ كَمَرِّ الرِيْحِ بالْبَصَرِ والعُمْرُ مُنْتَقَصٌ وَالمَوتُ فِي الأَثَرِ |
اللهم يا من فتح بابه للظالمين واظهر غناءه للراغبين وأطلق للسؤال السنة السائلين وقال في كتابه المبين ]ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[ نسألك يا حي يا قيوم أن تجعلنا من أوليائك المتقين وحزبك المفلحين الذين ]لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ[ وأن تغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
وقال رحمه الله أول منازل العبودية التي ينتقل فيها القلب منزلة منزلة في حال سيره إلى الله يقظة.
وهي انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغافلين.
ولله ما أنفع هذه الروعة وما أعظم قدرها وخطرها وما أشد إعانتها على السلوك.
فمن أحسن بها فقد أحس والله بالفلاح وإلا فهو في سكرات الغفلة.
فإذا انتبه شمر لله في السفر إلى منازله الأولى وأوطانه التي سبي منها.
فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فإِنَّهَا ولَكِنَّنَا سَبْيُ العَدُوِّ فَهَلْ تَرَى | مَنَازلُكَ الأُوْلَى وفِيْهَا المُخَيَّمُ نُرَدُ إِلَى أَوْطَانِنَا ونُسَلمُ |
فأخذ في أهبة السفر فانتقل إلى منزلة العزم وهو العقد الجازم على المسير ومفارقة كل قاطع ومعوق ومرافقة كل معين وموصل.
وبحسب كمال انتباهه ويقظته ويكون عزنه وبحسب قوة عزمه يكون استعداده.
فإذا استيقظ أوجبت له اليقظة الفكرة وهي تحديق القلب نحو المطلوب الذي قد استعد له مجملاً ولما يهتدي إلى تفصيله وطريق الوصول إليه.
فإذا صحت فكرته أوجبت له البصيرة وهي نور في القلب يبصر به الوعد والوعيد والجنة والنار وما أعد الله في هذه لأوليائه وفي هذه لأعدائه.
فأبصر الناس وقد خرجوا من قبورهم مهطعين لدعوة الحق وقد نزلت ملائكة السموات فأحاطت بهم.
وقد جاء الله وقد نصب كرسيه لفصل القضاء وقد أشرقت الأرض بنوره ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء.
وقد نصب الميزان وتطايرت الصحف واجتمعت وتعلق كل غريم بغريمه ولاح الحوض وأكوابه وكثر العطاش وقل الوارد.
ونصب الجسر للعبور عليه والنار يحطم بعضها بعضًا تحته ولز الناس إليه.
وقسمت الأنوار دون ظلمته للعبور عليه والمتساقطون في النار أضعاف أضعاف الناجين.
فينفتح في قلبه عين يرى بها ذلك ويقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة ودوامها والدنيا وسرعة انقضائها.
فالبصيرة نور يقذفه الله في القلب يرى به حقيقة ما أخبرت به الرسل كأنه يشاهده رأي عين.
فيتحقق مع ذلك انتفاعه بما دعت إليه الرسل وتضرره بمخالفتهم.
وهذا معنى قول بعض العارفين البصيرة تحقق الانتفاع بالشيء والتضرر به.
شعرًا:
أَستَغْفِرُ اللهَ مِمَّا كَانَ مِنْ زَلَلٍ يَا رَبِّ فاغْفِرْ ذُنُوبِي يَا كَرِيْمُ فَقَدْ إِنَّ الملُوكَ إِذَا شَابَتْ عَبِيْدُهُمُوْا وأَنْتَ يَا خَالِقي أَوْلَى بِذَا كَرَمًا وقَدْ رَوَى عَنْكَ خَيْرُ الخَلْقِ مِنْ مُضَرٍ بِأَنَّكَ اللهُ رَبُّ العَرْشِ قُلْتَ لَنَا أَنَا الذِي مَنْ أَتَانِي لَيْسَ يُشْرِكُ بِي وإِنَّنِي شِبْتُ فِي الإِسْلامِ يَا أَمْلَي | ومِنْ ذُنُوبِي وتَفْرِيْطِي وإِصْرَارِي أَمْسَكْتُ حَبْلَ الرَّجَا يَا خَيْرَ غَفَّارِ فِي رِقِّهِمْ أَعْتَقُوهم عِتْقَ أَحْرَارِ قَدْ شِبْتُ فِي الذَّنْبِ فاعْتِقْنِي مِن النَّارِ المُصْطَفِى المُجْتَبَى مِن خَيْرِ أَطْهَارِ وقَوْلُكَ الْحَقُّ فِي نَقْلٍ وأَخْبَارِ أَغْفِرْ لَهُ مَا جَنَى مِنْ قُبْحِ أَوْزَارِ فاغْفِرْ ذُنُوبِي واسْبِلْ حُسْنَ أَسْتَارِ |
اللهم وفقنا لصالح الأعمال، ونجنا من جميع الأهوال، وأمنا من الفزع الأكبر يوم الرجف والزلزال، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
قال بعض العلماء عجبت لمن بلي بالضر كيف يذهل عن أن يقول "ربي إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين".
والله تعالى يقول وهو أصدق القائلين وأوفى الواعدين ]فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ[.
وعجبت لمن بلي بالغم كيف يذهل عن أن يقول ]لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).
والله جل وعلا يقول وهو أصدق القائلين وأوفى الواعيدن ]فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ[.
وعجبت لمن خاف شيئًا كيف يذهل عن أن يقول "حسبي الله ونعم الوكيل" والله تعالى يقول ]فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ[.
وعجبت لمن كيد في أمر كيف يذهل عن أن يقول "وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد".
والله جل وعلا يقول وهو أقدر القادرين ]فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا[.
وعجبت لمن أنعم الله عليه نعمة خاف زوالها كيف يذهل عن أن يقول "ما شاء الله لا قوة إلا بالله".
وعجبت لمن تعسرت عليه أموره كيف يذهل عن تقوى الله وهو سبحانه يقول ]وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا[.
وعجبت لمن بلي بضيق الرزق والهم والكرب كيف يذهل عن امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه والله جل وعلا يقول ]وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ[.
وعجبت لمن بلي بالذنوب كيف يذهل عن الاستغفار والله جل وعلا يقول ]اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا[.
وعجبت لمن احتاج إلى أمر ديني أو دنيوي كيف يذهل عن الدعاء والله يقول ]ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[ (الآية) اهـ.
شعرًا:
قُمْ فِي ظَلامِ اللَّيْلِ واقْصُدْ مُهَيْمِنًا وقُلْ يَا عَظِيْمَ العَفْوِ لا تَقْطَعِ الرَّجَا فَيَا رَبِّ فاقْبَلْ تَوْبَتِي بِتَفَضُل فإِنْ أَنْتَ لَمْ تَعْفُو وأَنْتَ ذَخِيْرَتِي حَقِيْقٌ لِمَنْ أَخْطَأ وعَادَ لِمَا مَضَى ويَبْكِيْ عَلَى جِسْمٍ ضَعِيْفٍ مِنَ البِلَى رَجَوْتُ إِلَهِي رَحْمَةً وَتَفَضُّلاً | يَرَاكَ إِليْهِ فِي الدُجَى تَتَوسَّلُ فأَنْتَ المنَى يَا غَايَتِي والمُؤَمَّلُ فَمَا زِلْتَ تَعْفُو عَنْ كَثِيْر وتُمْهِلُ لِمَنْ أَشْتَكِي حَالِي ومَنْ أَتَوَسَّلُ ويَبْقَى عَلَى أَبْوَابِهِ يَتَذَلّلُ لَعَلَّ يَجُودُ السَّيِّدُ المُتَفضِّلُ لِمَنْ تَابَ مِنْ زَلاتِهِ يَتَقَبَّلُ |
اللهم عافنا من مكرك وزينا بذكرك واستعملنا بأمرك ولا تهتك علينا جميل سترك وامنن علينا بلطفك وبرك وأعنا على ذكرك وشكرك الله سلمنا من عذابك وآمنا من عقابك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(موعظة)
عباد الله إن شأن الصلاة عظيم جدًا في ديننا معشر المسلمين وفي كل دين وأسرارها العظيمة وبركاتها العميمة وفوائدها الكثيرة لا تخفى على كثير من المؤمنين.
وليست الصلاة مجرد أقوال يلوكها اللسان وحركات تؤديها الجوارح بلا تدبر من عقل ولا تفهم ولا خشوع من قلب ليست تلك التي ينقرها صاحبها نقر الديكة ويخطفها خطف الغراب ويمر بها مر السحاب كأن وراءه طالب حثيث ويلتفت فيها التفات الثعلب يمينًا وشمالاً وفوقًا وتحتًا.
كلا فالصلاة المقامة تمامًا هي التي تأخذ حقها من التأمل والخشية والحضوع والسكون واحتضار عظمة المعبود جل جلاله وتقدست أسماؤه.
وذلك أن القصد من الصلاة وسائر العبادات هو تذكير الإنسان بربه الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى.
والصلاة صلة بين العبد وربه تقوى بها محبة العبد لربه كلما تكررت قال ابن القيم رحمه الله فإن المحب يتلذذ بخدمة محبوبه وتصرفه في طاعته وكلما كانت المحبة أقوى كانت لذة الطاعة والخدمة أكمل فليزن العبد إيمانه ومحبته بهذا الميزان ولينظر هل هو ملتذ بخدمة محبوبه أو متكره لها يأتي بها على السآمة والملل والكراهة فهذا محك إيمان العبد ومحبته لله.
قال بعض السلف إني أدخل في الصلاة فأحمل هم خروجي منها ويضيق صدري إذا فرغت لأني خارج منها ولهذا قال النبي ﷺ وجعلت قرت عيني في الصلاة ومن كانت قرة عينه في شيء فإنه لا يود أن يفارقه ولا يخرج منه فإن قرة عين العبد نعيمه وطيب حياته به.
وقال بعض السلف إني لأفرح بالليل حين يقبل لما تتلذذ به عيشتي وتقر به عيني من مناجاة من أحب وخلوتي بخدمته والتذلل بين يديه واغتم للفجر إذا طلع لما اشتغل به بالنهار عن ذلك فلا شيء ألذ للمحب من خدمة محبوبه وطاعته أين هؤلاء ممن لذتهم وأنسهم عند المنكرات.
وقال بعضهم تعذبت بالصلاة عشرين سنة ثم تنعمت بها عشرين سنة وهذه اللذة والتنعم بالخدمة إنما تحصل بالمصابرة على التكره والتعب أولاً فإذا صبر عليه وصدق في صبره أفضى به إلى هذه اللذة.
وقال أبو زيد سقت نفسي إلى الله وهي تبكي فما زلت أسوقها حتى انساقت إليه وهي تضحك اهـ.
وقال الله تعالى ]وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي[.
وقال ﷺ إنما فرضت الصلاة وأمر بالحج وأشعرت المناسك لإقامة ذكر الله رواه أبو داود ولهذا كانت عنوان على الفلاح قال تعالى ]إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ[ (الآية).
والمراد بعمارتها بالصلاة والقربات وقال ﷺ إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان، فإن الله يقول: ]إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ[.
وجاء ذكر الصلاة في القرآن في مواضع كثيرة وأثنى جل وعلا على المقيمين لها والمحافظين عليها وأخبر أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ومن دعاء الخليل عليه السلام أنه يسأل ربه أن يجعله مقيمًا لها قال تعالى: ]رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي[.
ومدح بها إسماعيل قال تعالى: ]وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا[ وأمر جل وعلا موسى بإقامتها أول ما يأمره به في ساعات الوحي الأولى قال تعالى ]وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي[ وقال له ولهارون ]أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ[.
وفي وصية لقمان لابنه ]يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ[ الآية. وينطق الله عيسى وهو في مهده فيقول ]وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا[.
ويأمر الله بها صفوة خلقه وخاتم أنبيائه فيقول جل وعلا ]اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ[ ويقول جل وعلا وتقدس ]وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا[.
ويبتدوء بها أوصاف المؤمنين ويختم بها فيقول سبحانه وتعالى ]قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ[ الآيات إلى قوله ] وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ[.
ويؤكد المحافظة عليها حضرًا وسفرًا وفي الأمن والخوف والسلم والحرب ]حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ (238) فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا[.
وأخبر جل وعلا عمن أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات أن عاقبة أعمالهم وسوء مآلهم شر وخسران فقال ]فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا[.
وجعلها النبي ﷺ الشعار الفاصل بين المسلم والكافر فقال بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة وقال العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر وفي الحديث الآخر من ترك الصلاة متعمدًا فقد برئت منه ذمة الله ورسوله وقال عليه الصلاة والسلام من فاتته صلاة فكأنما وتر أهله وماله.
ومما يدل على شأن الصلاة مع ما تقدم اهتمام المسلمين بتوجيه المحتضر وهو في سكرات الموت إلى القبلة وكذلك وضعه في قبره متجهًا إلى القبلة وما ذاك إلا لأنها الجهة التي يتجه إليها كلما أراد أن يتعرف إلى ربه ويدعوه ويجدد الصلة بينه وبين ربه في الصلاة.
إِذَا مَا الْفَتَى صَلَّى وأَرْضَى إِلَههُ وَإِنْ هُوَ لَمْ يَظْفُرْ بِحُسْنِ رِضَائِهِ | تُضِيءُ لَهُ الآفَاقُ مِنْ كُلِّ جَانِبِ كَسَتْهُ يَدُ الآثَامِ حُلَّةَ خَائِبِ |
اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يقربنا إلى حبك، اللهم ثبت إيماننا ثبوت الجبال الراسيات ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات واعصمنا يا مولانا عن المحرمات والمشتبهات واغفر لنا جميع الخطايا والزلات وافتح لدعائنا باب القبول والإجابات يا أجود الأجودين وأكرم الأكرمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
عن أبي ذر أن رسول الله ﷺ خرج في الشتاء والورق يتهافت فأخذ بغصن من شجرة قال فجعل ذلك الورق يتهافت.
فقال "يا أبا ذر" قلت لبيك يا رسول الله.
قال "إن العبد المسلم ليصلي الصلاة يريد بها وجه الله فتهافت عنه ذنوبه كما تهافت هذا الورق عن هذه الشجرة" رواه أحمد بإسناد حسن.
وعن معدان بن أبي طلحة قال لقيت ثوبان مولى رسول الله ﷺ فقلت أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة أو قلت بأحب الأعمال إلى الله تعالى فسكت.
ثم سألته فسكت ثم سألته الثالثة فقال سألت عن ذلك رسول الله ﷺ فقال "عليك بكثرة السجود فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة" رواه مسلم.
وعن عبادة بن الصامت t أنه سمع رسول الله ﷺ يقول "ما من عبد يسجد لله سجدة إلا كتب الله له بها حسنة ومحا عنه بها سيئة ورفع له بها درجة فاستكثروا من السجود" رواه ابن ماجه بإسناد صحيح.
وروت أم حبيبة أنها سمعت رسول الله ﷺ يقول "ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى كل يوم اثنتي عشرة ركعة تطوعًا من غير الفريضة إلا بنى الله له بيتًا في الجنة" انفرد به مسلم.
وعن عقبة بن عامر t أنه سمع رسول الله ﷺ يقول "ما منكم من مسلم يتوضأ فيحسن الوضوء.
ثم يقول فيصلي ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة" رواه مسلم.
وعن أبي هريرة t قال كان رجلان من بلي حيٍ من قضاعة أسلما مع رسول الله ﷺ فاستشهد أحدهما وأخر الآخر سنة.
قال طلحة بن عبيد الله فرأيت المؤخر منهما أدخل الجنة قبل الشهيد فتعجبت لذلك فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ أو ذكر ذلك لرسول الله ﷺ.
فقال رسول الله ﷺ "أو ليس قد صام بعده رمضان وصلى ستة آلاف ركعة وكذا وكذا ركعة صلاة سنة".
رواه أحمد بإسناد حسن ورواه ابن ماجة وابن حبان بنحوه أطول منه وزاد عن رسول الله ﷺ "فلما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض".
وعن سعد بن أبي وقاص t قال كان رجلان أخوان فهلك أحدهما قبل صاحبه بأربعين ليلة فذكرت فضيلة الأول منهما عند رسول الله ﷺ.
فقال رسول الله ﷺ "ألم يكن الآخر مسلمًا" قالوا بلى وكان لا بأس به.
فقال رسول الله ﷺ "وما يدريكم ما بلغت به صلاته إنما مثل الصلاة كمثل نهر عذب بباب أحدكم يقتحم فيه كل يوم خمس مرات فما ترون في ذلك يبقى من درنه فإنكم ما تدرون ما بلغت به صلاته" رواه أحمد والنسائي وابن خزيمة.
وعن أبي عثمان قال كنت مع سلمان الفارسي تحت شجرة فأخذ غصنًا منها يابسًا فهزه حتى تحات ورقه. ثم قال يا أبا عثمان ألا تسألني لم أفعل هذا قلت ولم تفعله.
قال هكذا فعل رسول الله وأنا معه تحت شجرة وأخذ منها غصنًا يابسًا فهزه حتى تحات ورقه. فقال يا سلمان ألا تسألني لم أفعل هذا قلت ولم تفعله. قال "إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى الصلوات الخمس تحاتت خطاياه كما يتحات هذا الورق".
وقال الله تعالى "وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ" رواه أحمد والنسائي.
وعن عبد الله بن عمر م أن رجلاً أتى رسول الله ﷺ فسأله عن أفضل الأعمال.
فقال رسول الله ﷺ "الصلاة" قال ثم مه قال "ثم الصلاة" قال ثم مه قال "ثم الصلاة" ثلاث مرات قال ثم مه قال "الجهاد في سبيل الله" رواه أحمد وابن حبان.
وعن أبي هريرة وأبي سعيد ـ رضي الله عنهم ـ قالا خطبنا رسول الله ﷺ يومًا فقال "والذي نفسي بيده" ثلاث مرات ثم أكب.
فاكب كل رجل منا يبكي لا يدري على ماذا حلف ثم رفع رأسه في وجهه البشرى وكانت أحب إلينا من حمر النعم.
قال "ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويخرج الزكاة ويجتنب الكبائر السبع غلا فتحت له أبواب الجنة".
وقيل أدخل بسلام. رواه النسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان.
وعن حذيفة t قال قال رسول الله ﷺ "ما من حالة يكون العبد عليها أحب إلى الله من أن يراه ساجدًا يعفر وجهه في التراب" رواه الطبراني بإسناد حسن.
اللهم طهر قلوبنا من النفاق وعملنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة وآذاننا عن الاستماع إلى ما لا يرضيك وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
من نصائح بعض العلماء
إخواني أحضروا القلوب مع الأبدان في الصلاة، وقوموا لله قانتين بخشوع وهيبة واستكانة وتعظيم.
ألا فراقبوا الله واعرفوا قدر من قمتم له، وعظموه وهابوه، فقد روي عن بعض السلف في قوله عز وجل ]وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ[ قال القنوت الخشوع في الركوع والسجود وغض البصر وخفض الجناح من رهبة الله عز وجل.
وكان العلماء العاملون المخلصون إذا قام أحدهم للصلاة هاب أن يلتفت أو يعبث بشيء أو تحدثه نفسه بشيء من شؤون الدنيا إلا ناسيًا.
وقيل لبعض التابعين إنا نجد وسوسة في الصلاة قال أنا أجد ذلك، فقيل ما الذي تجد قال أجد ذكر الجنة والنار وكأني واقف بين يدي ربي.
فقالوا إنا نجد ذكر الدنيا وحوائجها، فقال لأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن يعلم الله ذلك في قلبي.
قال ولقد بلغنا أن بعض الصحابة كان يصلي في نخيل له فشغل بالنظر إلى النخيل فسها في صلاته.
فاستعظم ذلك وقال أصابني في مالي فتنة.
فجعل النخيل في الأرض صدقة في سبيل الله.
فبلغ ثمنة خمسين ألفًا فمن منكم استعظم سهوه فتصدق بقيراط.
قال وبلغنا أن بعض أهل العلم قال إن القوم يكونون في الصلاة الواحدة وإن بينهم من الفضل كما بين السماء والأرض.
وبلغنا أن الرجل إذا قام للصلاة وقال الله أكبر أتاه الشيطان فقال له اذكر كذا، وذكر حوائجه وفتنه وذكره شغله.
فيقول له الملك أقبل على صلاتك، والملك يناديه في أذنه اليمنى، والشيطان يناديه في اليسرى، وقلبه ينازع إلى الأمرين.
فإن أطاع الملك ضرب الملك بجناحه الشيطان وأخسأه، وإن أطاع الشيطان قال له الملك سحقًا سحقًا، أما إنك لو أطعتنى لم تقم من صلاتك إلا وقد غفر الله لك كل ذنب.
وأنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها، وعن بعض أئمة الهدى أنه قال إذا كان أحدكم في الصلاة فليجعلها من همه.
ألا فكونوا وجلين من الاستهانة بأمر الله كيلا تنقلبوا من الصلاة خائبين، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
ألا فراقبوا الله وجاهدوا أنفسكم على إحضار قلوبكم في الصلاة.
ولا يغرنكم الشيطان وأولياؤه فإنهم يحضرون أبدانهم في الصلاة ويلهون قلوبهم بأباطيل الدنيا وأمانيهم.
ثم يطلبون المعاذير لأنفسهم ويزعمون أن أخيار الصحابة y قد سهوا في الصلاة يريدون أن يعذروا بذلك أنفسهم في الغفلة عن الله عز وجل باغتياب الأخيار.
يا قوم إن الصحابة كانوا إذا بلوا بالسهو في الصلاة تعاظموا ذلك وأشفقوا منه ولم يرضوا به لأنفسهم.
وبلغنا أن رسول الله ﷺ وبخ قومًا على سهوهم فراعهم ذلك كثيرًا، واستدركوا السهو بالمراجعة إلى الذكر، وبذلوا المجهود في إحضار القلوب والفهم عن الله عز وجل والهيبة له.
ولم يعذروا أنفسهم كما تعذرون أنفسكم، ولم يطلبوا الحجج والمعاذير كما تطلبون.
وبعد أفتحسبون أن غفلة الصحابة وفكرتهم في الصلاة كانت على حسب غفلتكم، ومثل فكرتكم في البيوع والخصومات والخسارات.
لئن ظننتم ذلك لقد أسأتم الظن وازدريتم على سادات الأمة إذا شبهتوهم بأنفسكم.
ولئن ظننتم أن غفلتكم في الصلاة قليلة على حسب غفلة الصحابة فلقد أحسنتم الظن بأنفسكم ورفعتموها.
بئسما سولت لكم أنفسكم.
فتدبروا ما دهاكم من الشيطان حين ألهى قلوبكم في الصلاة عن الله عز وجل، ثم زين لكم الاحتجاج بهؤلاء الأتقياء.
ويحكم لو رجعتم بالازدراء على أنفسكم عند الغفلة واعترفتم بإساءتكم وتضرركم لكان أقرب إلى العفو من طلب الحجج وذكر سهو الأخيار.
وبعد فهلا تأسيتم بخشوع خيار هذه الأمة ومثل تعظيمهم لأمر الله عز وجل، لقد بلغنا أن بعضهم كالثوب الملقى.
وبعضهم ينفتل من صلاته متغير اللون لقيامه بين يدي الله عز وجل.
وبعضهم إذا كان في الصلاة لا يعرف من على يمينه وشماله.
وبعضهم يتغير وجهه إذا توضأ للصلاة يصفر، فقيل له إنا نراك إذا توضأت للصلاة تغيرت أحوالك قال إني أعرف بين يدي من أقوم له.
وكان علي بن أبي طالب t إذا حضرت الصلاة يتزلزل.
ويتلون وجهه فقيل له ما لك فيقول جاء وقت أمانة عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتها.
وكان سعيد التنوخي إذا صلى لم تنقطع الدموع من خديه على لحيته.
قال وبلغنا عن بعض التابعين أنه كان إذا أقام إلى الصلاة تغير لونه وكان يقول أتدرون بين يدي من أقف ومن أناجي فمن منكم لله في قلبه مثل هذه الهيبة.
وبلغنا أن من تعظيمهم لأمر الله أن أحدهم إذا فاتته تكبيرة الإحرام وهي التكبيرة الأولى عزوه بمصيبته ثلاثة أيام استعظامًا منهم لفواتها.
فبالله يا قوم هل أنتم مثلهم إذا فاتتكم التكبيرة الأولى مع الإمام أو فاتكم بعض أعمال البر يعزونكم على هذه المصيبة.
وقال سعيد بن المسيب ما أذن مؤذن منذ عشرين سنة إلا وأنا في المسجد.
وكانوا يجعلون أول النهار وآخره للآخرة والوسط للتجارة ثم مهما سمعا الأذان في وسط النهار للظهر وللعصر فينبغي أن لا يعرج على شغل ويسرع الخروج من مكانه ويترك كل ما كان فيه فما يفوته من فضيلة التكبيرة الأولى مع الإمام في أول الوقت التي عنده لا توازنها الدنيا بما فيها ولهذا كان السلف يبتدرون عند الأذان ويخلون الأسواق في أوقات الصلاة. انتهى.
قُلُوبٌ بِتَقْوَى اللهِ والذِّكْرِ تَعْمُرُ يُنَاجُوْنَ مَوْلاهُم بِفَرْطِ تَضَرُّعٍ | وأَوْجُهُهُمْ بِالقُرْبِ والبِشْرِ تَزْهُرُ وأَدْمُعُهُمْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ تَقْطُرُ |
وقال حاتم الأصم فاتتني الصلاة في الجماعة فعزاني أبو إسحاق البخاري وحده ولو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشرة آلاف لأن مصيبة الدين أهون عند الناس من مصيبة الدنيا.
وكان المحدث الثقة بشر بن الحسن يقال له الصفي لأنه كان يلزم الصف الأول في مسجد البصرة خمسين سنة ومثله إبراهيم بن ميمون المروزي.
وقال سليمان بن حمزة المقدسي لم أصل الفريضة قط منفردًا إلا مرتين وكأني لم أصلهما مع أنه قارب التسعين.
وذكر عن الأعمش أنه قال لم تفتني الصلاة مع الجماعة ما يقرب من أربعين سنة إلا مرة واحدة حين ماتت والدته اشتغل بتجهيزها.
وذكر عن بعضهم أنه لم تفته تكبيرة الإحرام مع الجماعة أربعين سنة، وكان بعضهم يمرض إذا فاتته الصلاة مع الجماعة.
وسمع عامر بن عبد الله المؤذن وهو يجود بنفسه أي يعاني سكرات الموت ومنزله قريب من المسجد فقال خذوا بيدي.
فقيل له إنك عليل فقال أسمع داعي الله أفلا أجيبه فأخذوا بيده فدخل في صلاة المغرب فركع مع الإمام ركعة ثم مات.
وجاء في تفسير قوله تعالى ]رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ[ أنهم كانوا حدادين وخرازين.
فكان أحدهم إذا رفع المطرقة أو غرز الأشفاء وهو إبرة الخراز فسمع الأذان لم يخرج الأشفى (أي المخراز) ولم يوقع المطرقة.
ويرمي بالمطرقة والمخراز ويقوم إلى الصلاة من شدة المحافظة على الصلاة.
وقال محمد بن واسع ما أشتهي من الدنيا إلا ثلاثة أخا إن تعوجت قومني، وقوتًا من الرزق عفوًا من غير تبعة، وصلاة في جماعة يرفع عني سهوها ويكتب لي فضلها.
وروي أن ميمون بن مهران أتى المسجد فقيل له إن الناس قد انصرفوا فقال "إنا لله وإنا إليه راجعون" لفضل هذه الصلاة مع الجماعة أحب إلي من ولاية العراق.
وذكر أنه مات لأحد العلماء ابن فعزاه أكثر من نصف أهل البلد وفاتته مرة واحدة الصلاة مع الجماعة فلم يعزه إلا أحد أصدقائه.
فحزن لذلك لأن فوات صلاة الجماعة عنده أعظم من مصيبته بابنه بكثير. انتهى.
قلت فلله درهم على الاعتناء بالصلاة والمحافظة عليها والحرص على تكميلها ورفض الأعمال عند حضورها خوفًا من فواتها.
للهِ قَوْمٌ أَطَاعُوْا اللهَ خَالِقَهُمْ والوَجْدُ والشَوْقُ والأَفْكَارُ قُوتُهمُوْا وبَادَرُوْا لِرِضَا مَوْلاهُمُوْا وسَعَوْا وشَمَّرُوْا واسْتَعَدُّوْا وِفْقَ مَا طُلِبُوا وجَاهَدُوْا وانْتَهَوْا عَمَّا يُبَاعِدُهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ لَهُمِ مَا يَشْتَهُوْنَ بِهَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لا شَيءَ يَعْدِلُهُ "ثُمَّ الرِّضَا عَنْهُمُوْا أَعْلا نَعِيْمِهُمُوْا ثُمَّ الصَلاةُ عَلَى المُخْتَارِ مَا طَلَعَتْ | فآمَنُوْا واسْتَقَامُوْا مِثْلَ مَا أُمِرُوْا ولازَمُوْا الجَدَّ والادْلاجَ فِي البُكَر قَصْدَ السَّبِيْلِ إِلْيَهِ سَعْيَ مُؤْتَمِرَ واسْتَغْرقُوْا وَقْتَهُمْ فِي الصَّوم والسَّهَرِ عَنْ بَابِهِ واسْتَلانُوا كُلَّ ذِي وَعَرِ فِي مَقْعَدِ الصِّدْقِ بَيْنَ الرَّوْضِ والزَّهَرِ سَمَاعُ تَسْلِيمِهِ والفَوزُ بالنَّظرِ فاسْلُكْ طَرِيْقَهُمُوْا يَا بَاغِي الضَّفَرِ" شَمْسٌ ومَا اهْتَّزَتِ الأَغْصَانُ بالشَجَرِ |
اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة، نسألك أن تبدل منا الفساد بالصلاح، والخسران بالأرباح، وأن تعاملنا بالعفو والسماح، يا من مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن مداواة مرض القلب واجبة وهي تأتي من وجوه كثيرة جدًا نشير إلى بعضها.
أحدها وهي من أنفعها العزلة المصحوبة بالاشتغال بالعلوم النافعة. فبالعزلة يتقيد الظاهر عن مخالطة من لا تصلح مخالطته ومن لا يأمن دخول الآفات عليه بصحبته.
فيتخلص من المعاصي التي يتعرض لها بالمخالطة مثل الغيبة والمداهنة والتملق والرياء والتصنع.
ويحصل له بذلك السلامة من مسارقة الطباع الرديئة والأخلاق الدنيئة.
ويستفيد بذلك أيضًا صيانة دينه ونفسه عن التعرض للخصومات وأنواع الشرور والفتن.
فإن للنفس تولعًا وتسرعًا إلى الخوض في مثل هذا.
فينبغي للإنسان أن يكف لسانه عن السؤال عن أخبار الناس وما هم مشغولون فيه وما هم منهمكون فيه ومنكبون عليه من القيل والقال مما لا فائدة فيه وضرره يزيد على نفعه وربما أنه ضرر خالص.
وقال آخر وإذا هممت بالباطل وما لا فائدة فيه فاجعل مكانه تسبيحًا وتهليلاً.
وينبغي أن يصون سمعه عن الإصغاء إلى أراجيف البلدان وما شملت عليه من الأحوال التي تضر ولا تنفع.
وليحرص على أن لا يأتيه من شأنه التطلع والبحث عن شؤونه وأحواله كأصحاب المقابلات والمولعين بأكل لحوم الغوافل.
وليجتنب صحبة من لا يتورع في منطقه ولا يضبط لسانه عن الاسترسال في دقائق الغيبة والوقيعة والتعرض بالطعن على الناس والقدح فيهم.
فإن ذلك مما يكدر صفاء القلب ويؤدي إلى ارتكاب مساخط الرب.
فليهجره وليفر منه فراره من الأسد ولا يتجمع معه في مكان البتة.
وفي الخبر "مثل الجليس السوء كمثل الكير إن لم يحرقك بشرره علق بك من ريحه".
وفي الأخبار السالفة أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام "يا ابن عمران كن يقظانًا وارتد لنفسك إخوانًا وكل أخٍ أو صاحب لا يؤازرك على مبرتي فهو لك عدو".
وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام فقال له "يا داود ما لي أراك منتبذًا وحدانيًا" فقال إلهي قليت الخلق من أجلك.
فقال "يا داود كن يقظانًا وارتد لنفسك أخدانًا وكل خدنٍ لا يوافقك على مبرتي فلا تصحبه فإنه لك عدو ويقسي قلبك ويباعدك مني".
قال الشاعر:
فَخَفْ أَبْنَاءَ جِنْسِكَ واخْشَ منهم وخَالِطْهُمْ وزَايِلهُمْ حِذَارًا | كَمَا تَخْشِى الضَّراغِم والسَّبِنْتَا وكُنْ كالسَّامِري إِذَا لُمِسْتَا |
وروي عن عيسى عليه السلام لا تجالسوا الموتى فتموت قلوبكم قيل من الموتى قال "المحبون للدنيا الراغبون فيها وبالابتعاد عن الناس إلا لضرورة أو حاجة ماسة ينكف بصر الإنسان عن النظر إلى زينة الدنيا وزهرتها وزخرفها".
وينصرف خاطره عن الاستحسان إلى ما ذمه الله منها فتمتنع بذلك النفس عن التطلع إلى الدنيا والاستشراف لها ومنافسة أهلها فيها.
قال جل وعلا وتقدس ]وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا[ الآية.
موعظة
إخواني إن الغفلة عن الله مصيبة عظيمة قال تعالى: ]وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ[ فمن غفل عن ذكر الله وألهته الدنيا عن العمل للدار الآخرة أنساه العمل لمصالح نفسه فلا يسعى لها بما فيه نفعها ولا يأخذ في أسباب سعادتها وإصلاحها وما يكملها وينسى كذلك أمراض نفسه وقلبه وآلامه فلا يخطر بباله معالجتها ولا السعي في إزالة عللها وأمراضها التي تؤل إلى الهلاك والدمار وهذا من أعظم العقوبات فأي عقوبة أعظم من عقوبة من أهمل نفسه وضيعها ونسي مصالحها وداءها ودواءها وأسباب سعادتها وفلاحها وحياتها الأبدية في النعيم المقيم ومن تأمل هذا الموضع تبين له أن كثيرًا من الخلق قد نسوا أنفسهم وضيعوها وأضاعوا حظها وباعوها بثمن بخس بيع المغبون ويظهر ذلك عند الموت ويتجلى ذلك كله يوم التغابن ]يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ[ الآية.
]يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا[ أنها لحسرة على كل ذي غفلة دونها كل حسرة، هؤلاء هم الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
نَتُوبُ مِنَ الذُنُوبِ إِذَا مَرِضْنَا إِذَا مَا الضُرُّ مَسَّكَ أَنْتَ بَاكٍ فَكَمْ مِنْ كُرْبَةٍ نَجَّاكَ مِنْهَا وَكَمْ غَطَّاكَ فِي ذَنْبٍ وعَنْهُ أَمَا تَخْشَى بِأَنْ تَأْتِي المَنَايَا وتَنْسَى فَضْلَ رَبٍّ جَادَ فَضْلاً وَكَمْ عَاهَدْتَ ثُمَّ نَفَضْتَ عَهْدًا فَدَارِكْ قَبْلَ نَقْلِكَ مِنْ دِيَارِكْ | ونَرْجِعُ لِلذُّنُوبِ إِذَا بَرينَا وأَخْبَثُ مَا تَكُونُ إِذَا قَويْتَا وكَمْ كَشَفَ البَلاءَ إِذَا بُلِيْتَا مَدَى الأَيَّامِ جَهْرًا قَدْ نهُيْتَا وأَنْتَ عَلَى الخَطَايَا قَدْ دُهِيْتَا عَليْكَ ولا ارْعَوَيْتَ ولا خَشِيْتَا وأَنْتَ لِكُلِّ مَعْرُوْفٍ نَسِيْتَا إِلَى قَبْرٍ تَصِيْرُ وقَدْ نُعِيْتَا |
اللهم اجعلنا من عبادك المخبتين، الغر المحجلين الوفد المتقبلين.
اللهم إنا نسألك حياة طيبة، ونفسًا تقية، وعيشة نقية، وميتة سوية، ومردًا غير مخزي ولا فاضح.
اللهم اجعلنا من أهل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك.
اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة واغفر لنا ولوالدنيا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
قال بعض العلماء من علامات إتباع الهوى المسارعة إلى نوافل الخيرات والتكاسل عن القيام بالواجبات وهذه حال كثير من الناس.
فترى الواحد منهم يهتم للنوافل ويكثر منها والفروض ما يهتم لها تجده يصوم مثلاً البيض والاثنين والخميس ولا تجده يحفظ لسانه عن القذف والغيبة والكذب.
ولا يفتش على نفسه بدقة فتجد عنده عقوق والدين أو قطيعة رحم أو أكل من مشتبه أو يعامل في الربا أو في شركات تتعامل مع البنوك في الربا أو يبيع ويشتري في المحرمات كآلات الملاهي وتصليحها.
ومن ناحية الزكاة تجده يخرجها إلى من يتقاضى منه خدمة أو يدفعها إلى من تجب عليه نفقته أو لمن يهدي إليه أو يتسامح معه في المعاملة أو نحو ذلك.
ومن قبل الصلاة التي هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين وهي التي إذا صلحت وأديت تمامًا صلح سائر الأعمال فلا تجده يعتني بها.
ويحرص على تحضير قلبه لها وطرد الأفكار التي تخل بأدائها ولا يعتني بمعرفة معاني ما يتلو.
المهم أنه مع ذلك لا تجده مستدركًا لما فرط فيه ولا لما أهمله وما ذاك إلا أنهم لم يشتغلوا بالتفتيش والتفقد لأنفسهم التي خدعتهم ولم يحفلوا بمجاهدة أهوائهم التي استرقتهم وملكتهم.
ولو اشتغلوا في تصليح ذلك لكان لهم فيه أعظم شغل ولم يجدوا فسحة واسعة لشيء من النوافل.
وقال بعض العلماء من كانت النوافل والفضائل أهم إليه من أداء الفرائض فهو مخدوع.
وقال آخر: هلاك الناس في اثنتين اشتغال بنافلة وتضييع فريضة.
وعمل بالجوارح بلا مواطاة القلب وإنما حرموا الوصول بتضييع الأصول.
وقال آخر: "انقطع الخلق عن الله بخصلتين إحداهما أنهم طلبوا النوافل وضيعوا الفرائض".
والثانية "أنهم عملوا أعمالاً بالظاهر ولم يأخذوا أنفسهم بالصدق فيها والنصح لها ولا يقبل العمل إلا بالصدق وإصابة الحق".
وقال آخر: أفضل شيء للعبد معرفته بنفسه ووقوفه على حده وإحكامه لحالته التي أقيم فيها وابتداؤه بالعمل بما افترض الله عليه واجتنابه لما نهى الله عنه بعلم يرشده في جميع ذلك.
وقال آخر: أنعم الله عليك فيما أمرك به من الطاعات المؤقتة بالأوقات بنعمتين عظيمتين.
إحداهما تقييدها لك بأعيان الأوقات لتوقعها فيها فتفوز بثوابها ولولا التوقيت لسوفت بها ولم تعمل بها حتى تفوت فيفوتك ثوابها.
والنعمة الثانية توسيع أوقاتها عليك ليبقى لك نصيب من الاختيار حتى تأتي الطاعات في حال سكون وتمهل من غير حرج ولا ضيق.
واعلم أن الله جل وعلا وتقدس غني عن خلقه لا تنفعه طاعتهم ولا تضره معصيتهم وأن التكاليف كلها إنما أوجبها عليهم لما يرجع إليهم من مصالحهم لا غير.
فمن وفقه الله ونور بصيرته وشرح صدره وكتب في قلبه الإيمان وبغض إليه العصيان لم يقتصر على الفرائض واجتناب النواهي.
بل يضيف إلى ذلك المبادرة إلى أعمال الطاعات والمسارعة إلى نوافل العبادات وفعل الخيرات.
وقال: واعلم رحمك الله أنا تلمحنا الواجبات فرأينا الحق جل وعلا جعل في كل ما أوجبه تطوعًا من جنسه في أي الأنواع كان.
ليكون ذلك التطوع من الجنسي جابرًا لما عسى أن يقع من خلل في قيام العبد بالواجبات.
وكذلك جاء في الحديث "أنه ينظر في مفروض صلاة العبد فإن نقص منها شيء كمل من النوافل".
فافهم رحمك الله هذا واجتهد ولا تكن مقتصرًا على ما فرض الله عليك بل لتكن فيك عزيمة وناهضة قوية توجب اجتهادك وإكبابك على معاملة الله فيما يجب وفيما يسن.
ففي الحديث ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه (الحديث).
ولو كان العباد لا يجدون في موازينهم إلا فعل الواجبات وثواب ترك المحرمات لفاتهم من الخير والمنة ما لا يحصره حاصر ولا يحزره حازر.
فسبحان من فتح لعباده باب المعاملة وهيء لهم أسباب المواصلة فالموفقون أهل الفهم والمعرفة وجعلوا الأوقات كلها وقتًا واحدًا والعمر كله نهجًا إلى الله تعالى قاصدا.
وعلموا أن الوقت كله لله فلم يجعلوا منه شيئًا لغيره.
جعلوا أوقاتهم في طاعة الله فعلاً ونية. قال تعالى ]وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ[.
علموا أن الأنفاس أمانات عندهم وودائع لديهم.
وعلموا أنهم مطالبون برعايتها فوجهوا همهم لحفظها وأدائها.
قال بعضهم إحالتك الأعمال إلى وجود الفراغ حمق وجهل ووجه ذلك: أولاً أنه إيثار للدنيا على الآخرة، وليس هذا من شأن عقلاء المؤمنين وهو خلاف ما طلب منك قال الله جل وعلا وتقدس ]بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا {16} وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى[.
والثاني أن تسويف العمل إلى أوان الفراغ غلط لأنه قد لا يجد مهلة بأن يختطفه الموت قبل ذلك.
أو يزداد شغله لأن أشغال الدنيا يتداعى بعضها إلى بعضه كما قيل:
فَمَا قَضَى أَحَدٌ مِنْهَا لُبَانَتَهُ | وَلا انْتهَى أَرَبٌ إِلا إِلَى أَرَبِ |
والثالث أنه ربما يفرغ منها إلى الذي لا يرضيه من تبدل عزمه وضعف نيته.
المهم أن الواجب عليه المبادرة إلى الأعمال الصالحة على أي حال كان.
وأن ينتهز فرصة الإمكان قبل مفاجأة الموت وحلول الفوت.
وأن يتوكل على الله ويسأله تيسيرها عليه وصرف الموانع الحائلة بينها.
شعرًا:
أَمَّا المَشِيْبُ فَقَدْ كَسَاكَ رِدَاؤُه ولَقَدْ مَضَى القَومُ الذِيْنَ عَهِدْتَهُمْ وَلَقَلَّمَا تَبْقَى فَكُنْ مُتَفَطِّنًا وَهُوَ السَّبِيْل فَخُذْ لِذَلِكَ عُدَّةً لا يُشْغِلَنَّكَ لَوْ وَلَيْتَ عَنْ الذِي عَلَمُ المَحَجَّةِ بَيِّنٌ لِمُرِيْدِهِ ولَقَدْ عَجِبْتُ لِهَالِكٍ ونَجَاتُهُ وعَجِبْتُ إِذْ أَخْشَى الحِمَامَ ولَيْسَ لِي مَعَ أَنَّ سَاعَاتِ النَّهَارِ تَدِبُّ لِيْ فَلَئِنْ نَجَوْتُ فإِنَّمَا هِيَ رَحْمَةُ الرَّ يَا سَاكِنَ الدُنْيَا أَمِنْتَ زَوَالَهَا أَيْنَ الَّذِيْ بَنَوْ الحُصُوْنَ وجَنَّدُوْا وذَوُوْ الْمَفَاخِر والْمَنَابِر والْمَحَا أَفْنَاهُمُوْا مِلَكُ المُلُوكِ فأَصْبَحُوْا جَتَى مَتَى لا تَرْعَويْ يَا صَاحِبِيْ | وأَزَالَ عَنْ كَتْفَيْكَ أَرْدِيَةَ الصِّبَا لِسَبِيْلِهمْ ولَتَلْحَقَنَّ بِمَنْ مَضَى ولَقَلَّمَا يَصْفُوْ سُرُوْرُكَ إِنْ صَفَا فَكَأَنَّ يَوْمَكَ عَنْ قَلِيْلٍ قَدْ أَتَى أَصْبَحْتَ فِيْهِ ولا لَعَلَّ ولا عَسَى وأَرَى القُلُوْبَ عَنْ المَحَجَّةِ فِي عَمَى مَوْجُودَةٌ ولَقَدْ عَجِبْتُ لِمَنْ نَجَا دُوْنَ الحِمَامِ وإِنْ تَأَخَّرَ مُنْتَهَى رُسُلاً وإِنِّي لا أَزَالُ عَلَى الخَطَا بِّ الرحيم وإِنْ هَلَكْتُ فبالْجَزَا وَلَقَدْ نَرَى الأَيامَ دَائِرةَ الرَّحَا فِيْهَا الجُنُودَ وأَوْثَقُوْا فِيْهَا الْعُرَى ضر والْعَسَاكِرِ والدَّسَاكِرِ والقُرَا مَا فِيْهِمُوْا أَحَدٌ يُحَسُّ وَلا يُرَى حَتَّى مَتَى وإِلَى مَتَى وإِلَى مَتَى |
اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا وتجمع بها شملنا وتلم بها شعثنا وترفع بها شاهدنا وتحفظ بها غائبنا وتزكي بها أعمالنا وتلهمنا بها رشدنا وتعصمنا بها من كل سوء يا أرحم الراحمين.
اللهم أرزقنا من فضلك وأكفنا شر خلقك، واحفظ علينا ديننا وصحة أبداننا.
اللهم يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين ومقيل عثرات العاثرين نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
موعظة
الحمد لله المستحق لغاية التحميد، العلي القوي الحميد الغني المغني المبدئ المعيد، المعطي الذي لا يفنى عطاؤه ولا يبيد.
المانع فلا معطي لما منع ولا راد لما يريد خلق الخلائق وهداهم إلى أحسن طريق إلى الأمر الرشيد.
وصورهم فأحسن صورهم وبشر من أطاعه بالجنة وبالنعيم والتخليد، وبصرهم بعين الاعتبار وحذرهم من عذاب النار الشديد.
وحثهم على شكره ووعدهم بالمزيد، وحكم عليهم بالفناء فما لأحد عنه محيد قال تعالى ]كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ[.
فيا عباد الله استعدوا لهاذم اللذات فكم أبكى خليلا بفراق خليله، وكم أيتم وليدًا وشغله ببكائه وعويله.
أوحش المنازل من أهلها ونفر طيور الأرواح من أوكارها وعوضوا من لذة العيش بالتنغيص والتنكيد.
فالغني والصعلوك، والملك والمملوك، والكبير والصغير، والمأمور والأمير، والوالد والوليد.
أخرجوا من سعة المساكن إلى ضيق اللحود وقطع حبل أملهم المديد.
أفلا يعتبر الغافل بمصرعهم الشديد، أفناهم الموت وفرق شملهم بالتبديد.
فكيف يغتر الإنسان وهو يشاهد هادم اللذات يفتك بالأحرار والعبيد والوالد والوليد، أين أهل المدن والحصون، أين أرباب المعاني والفنون.
أين المتحصنون بكل حصن منيع وقصر مشيد، أين الأمم الماضية، أين أصحاب القصور العالية، حق عليهم الوعيد.
فلو عاينتهم في قبورهم لعجبت من أمورهم، قد غير البلى أحوالهم، ومزق أوصالهم، وبدد عظامهم.
شعرًا:
كَأَسُ المَنِيَّةِ دَائِرٌ مَا بَيْنَنَا فِي المَوْتِ أَعْظَمُ عِبْرَةِ لِمُبَصِّرٍ فَهُوَ المُصِيْبَةُ وَهُوَ أَكْبَرُ آَيَةٍ وَهُوَ الرَّزِيَّةُ والبَليَّةُ والذِي فاشْدُدْ حَيَازِيْمَ الرَّحِيْلِ إِلَى الأُولَى إِنَّ الغَنَائِمَ فِي التَّوَكُلِ والرِّضَا لَوْ أَنَّ عُمْرًا مِن طَبِيْبَ يُشْتَرَى يَا مَوْتُ أَقْرَبُ مَنْ يَكوُن عَلَى الفَتَى يَا مَوْتُ مَا لَكَ لا تُبَقِّي مَاجِدًا يَا فِتْنَةَ الأُمَرَاءِ والوُزَرَاء يَا يَا حَسْرَةَ الظُرَفَاءِ واللطَفَاء يَا المَوْتُ حَتْمٌ يَوْمَ يَأتِي وَعْدُهُ كَمْ فَلَّ جَيْشًا كَمْ رَمَى مِنْ أَسْهُمٍ كَمْ خَصَّ طِفْلاً كَمْ كَوَى مِنْ وَالِدٍ كَمْ فَضَّ نَفْسًا كَمْ بَرَى مِنْ حَاكِمٍ لا عِزَّ للِدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ أَهْلُهَا ثُمَّ الصَلاةُ عَلَى النَبِي المُصْطَفَى والآلِ والأَصْحَابِ أَعْلامِ الهُدَى | يَسْقِيْكُمُوْا وَيَدُوْرُ لِلنُّدَمَاءِ أَوْ عِبْرَة مَمْزُوْجَةٍ بِدِمَاءِ مُفْنِي الوَرَاء ومِحْنَةُ العُقَلاءِ يَسْطُوْ عَلَى الآبَاءِ والأَبْنَاءِ واخْرُجْ مِنْ الأَدْوَاءِ والحُكَمَاءِ لَيْسَتْ مَعَ الصَّفْرَاءِ والحَمْرَاءِ عَاشَ الطَّبِيْبُ وَلَمْ يَمُتْ بالدَّاءِ تُلْقِيْهِ فِي الصَّعْقَاءِ والرَّمْضَاءِ يَا هَاذِمَ اللَّذَاتِ والسَّرَاءِ مُسْتَهْلِك الشُّرفَاءِ والخُلَفَاءِ مُسْتَأَصلَ النُبَلاءِ والنُجَبَاءِ مَا وَعْدُهُ وَعْدًا بِغَيْرِ وَفَاءِ كَمْ فَضَّ شَمْلاً كَمْ قَضَى بِعَزَاءِ كَمْ هَدَّ رُكْنًا بَعْدَ دَكِّ بِنَاءِ مِنْ بَعْدِ عِزٍّ قَائِمٍ وحِصَاءِ دَارِ الفَنَا لَيْسَتْ بِدَارِ بَقَاءِ من صَفْوَةُ الفُصَحَاءِ والنُجَبَاءِ مَا سَارَ رَكْبُ الحَجِ فِي البُطْحَاءِ |
(فصل)
(مسائل ينبغي لمتعاطي البيع والشراء أن يلم بها)
عن بريدة t قال كان رسول الله ﷺ إذا خرج إلى السوق قال بسم الله اللهم إني أسألك من خير هذه السوق وخير ما فيها وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها.
اللهم إني أعوذ بك أن أصيب فيها يمينًا فاجرة أو صفقة خاسرة.
فينبغي لك أيها المسلم أنك إذا أردت أن تأتي السوق أو شيئًا لمعاشك أو صنعة أو وكالة أو نحو ذلك.
لطلب الحلال والإتباع للسنة وللثواب في نفسك وعيالك والاكتساب عليهم والاستغناء عن الناس بالكفاف والتعطف على الأخ والجار وأداء كل حق واجب.
فأمل في ذلك أن تلقى الله ووجهك كالقمر ليلة البدر.
فقد روي أبو هريرة t عن النبي ﷺ "من طلب حلالاً استعافًا عن المسألة وكدًا على عياله وتعطفًا على جاره لقي الله ووجهه كالقمر ليلة البدر" أخرجه النسائي في سننه.
وتنوي الصدق والإخلاص في بيعك وشرائك ومع من تشتري منه، أو تعامله في صنعة أو وكالة.
وتنوي عون أخيك المسلم بجاهك أو بنصرك له إذا ظلم أو نحو ذلك وأن تذكر الله في سوقك محتسبًا فقد جاء في الحديث "إن الله عز وجل تعجب من الذي يذكره في السوق".
وعن عمر بن الخطاب t أن رسول الله ﷺ قال من دخل السوق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة ورفع له ألف ألف درجة. رواه الترمذي وقال حديث غريب.
قال المعلي وإسناده متصل حسن ورواته ثقات.
وعن أبي قلابة t قال التقى رجلان في السوق فقال أحدهما للآخر تعال نستغفر الله في غفلة الناس.
ففعل فمات أحدهما فلقيه الآخر في النوم فقال علمت أن الله غفر لنا عشية التقينا في السوق. رواه بن أبي الدنيا وغيره.
وروي عن معاذ بن جبل وعبد الله بن عمر y أن إبليس يقول لولده سر بكتائبك.
فأت أصحاب الأسواق زين لهم الكذب والحلف والخديعة والمكر والخيانة وكن مع أول داخل وآخر خارج.
وفي الخبر شر البقاع الأسواق وشر أهلها أولهم دخولاً وآخرهم خروجًا.
وقال ﷺ "أحب البلاد إلى الله تعالى المساجد وأبغض البلاد إلى الله الأسواق" رواه مسلم.
وروي البرقاني في صحيحه عن سلمان t قال قال رسول الله ﷺ لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فبها باض الشيطان وفرخ.
وورد أنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته قال بعضهم أتى على الناس زمان كان الرجل يدخل السوق ويقول من ترون لي أن أعامل من الناس.
فيقال له عامل من شئت.
ثم أتى زمان آخر كانوا يقولون عامل من شئت إلا فلانًا وفلانًا.
ثم أتى زمان آخر فكان يقال لا تعامل أحدًا إلا فلانًا وفلانًا وأخشى أن يأتي زمان يذهب هذا أيضًا.
اللهم أعطنا من الخير فوق ما نرجو واصرف عنا من السوء فوق ما نحذر. اللهم علق قلوبنا برجائك واقطع رجاءنا عمن سواك. اللهم إنك تعلم عيوبنا فاسترها وتعلم حاجاتنا فاقضها كفى بك وليًا وكفى بك نصيرًا يا رب العالمين اللهم وفقنا لسلوك سبيل عبادك الأخيار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
قال أحد العلماء ينبغي لمتعاطي البيع والشراء أن يراقب مجاري معاملته.
فإنه مراقب ومحاسب فليعد الجواب ليوم الحساب والعقاب في كل فعلة وقولة إنه لم أقدم عليها ولأجل ماذا.
فإنه يقال يوقف التاجر يوم القيامة مع كل رجل كان باعه شيئًا وقفة.
ويحاسب عن كل واحد محاسبة على عدد من عامله.
وليحذر من الكذب قال ﷺ إن أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا.
وإذا ائتمنوا لم يخونوا وإذا وعدوا لم يخلفوا وإذا اشتروا لم يذموا وإذا باعوا لم يطرو (أي لم يمدحوا).
وإذا كان عليهم لم يمطلوا وإذا كان لهم لم يعسروا. رواه البيهقي والحكيم والترمذي.
وليحذر من الحلف الكاذب فعن أبي ذر t عن النبي ﷺ قال "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم".
قال فقرأها رسول الله ﷺ ثلاث مرات فقلت خابوا وخسروا من هم يا رسول الله.
قال المسبل والمنان والمنافق سلعته بالحلف الكاذب. رواه مسلم ورواه ابن ماجه إلا أنه قال "المسبل إزاره والمنان في عطائه والمنفق سلعته بالحلف الكاذب".
وروى بن حبان في صحيحه عن أبي سعيد الخدري t قال من أعرابي بشاة فقلت تبيعها بثلاثة فقال لا والله ثم باعها فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ قال "باع آخرته بدنياه".
وعن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده م أنه خرج مع رسول الله ﷺ إلى المصلى فرآى الناس يتبايعون فقال يا معشر التجار فاستجابوا له ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه.
فقال إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارًا إلا من أتقى الله وبر وصدق. رواه الترمذي.
وقال حديث حسن صحيح وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد.
وعن عبد الرحمن بن شبل قال سمعت رسول الله ﷺ يقول إن التجار هم الفجار قالوا يا رسول الله أليس قد أحل الله البيع.
قال "بلى ولكنهم يحلفون فيأثمون ويحدثون فيكذبون" رواه أحمد بإسناد جيد والحاكم واللفظ له وقال صحيح الإسناد.
وعن أبي هريرة t أن رسول الله ﷺ مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال ما هذا يا صاحب الطعام.
قال أصابته السماء يا رسول الله قال: أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس من غشنا فليس منا. رواه مسلم.
وعن عقبة بن عامر عن النبي ﷺ قال "المسلم أخو المسلم ولا يحل لمسلم إذا باع من أخيه بيعًا فيه عيب إلا يبينه" رواه أحمد وابن ماجه والطبراني في الكبير والحاكم وقال صحيح على شرطهما.
وروى الحاكم وغيره وقال صحيح الإسناد عن أبي سباع قال اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسقع t.
فلما خرجت بها أدركني يجر إزاره فقال اشتريت قلت نعم قال بين لك ما فيها قلت وما فيها إنها لسمينة ظاهرة الصحة.
قال أردت بها سفرًا أو أردت بها لحمًا قلت أردت بها الحج قال فارتجعها فقال صاحبها ما أردت إلى هذا أصلحك الله تفسد علي.
قال إني سمعت رسول الله ﷺ يقول لا يحل لأحد يبيع شيئًا إلا بين ما فيه ولا يحل لمن علم ذلك إلا بينه.
اللهم ألحقنا بعبادك الصالحين الأبرار، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
روى البخاري ومسلم عن حذيفة t قال قال رسول الله ﷺ "إن رجلاً كان فيمن كان قبلكم أتاه الملك ليقبض روحه.
فقيل له هل عملت من خير قال ما أعلم قيل له انظر قال ما أعلم شيئًا.
غير أني كنت أبايع الناس في الدنيا وأجازيهم فأنظر الموسر وأتجاوز عن المعسر فأدخله الله الجنة".
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة t عن النبي ﷺ قال "كان رجل يداين الناس.
فكان يقول لفتاه إذا أتيت معسرًا تجاوز عنه لعل الله يتجاوز عنا.
فلقي الله فتجاوز عنه".
وفي رواية النسائي عن أبي هريرة t إن رجلاً لم يعمل خيرًا قط.
وكان يداين الناس فقال لرسوله خذ ما تيسر واترك ما تعسر وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا.
فلما هلك قال الله تعالى هل عملت خيرًا قط قال لا.
إلا أنه كان لي غلام وكنت أداين الناس.
فإذا بعثته يتقاضى قلت له خذ ما تيسر ودع ما تعسر وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا.
قال الله تعالى قد تجاوزت عنك.
وعن ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ "من أراد أن تستجاب دعوته وأن تكشف كربته فليفرج عن معسر".
وروى الترمذي عن جابر t قال قال رسول الله ﷺ "غفر الله لرجل كان قبلكم كان سهلاً إذا باع سهلاً إذا اشترى سهلاً إذا اقتضى".
وعن عثمان بن عفان t أن رسول الله ﷺ قال "أدخل الله عز وجل الجنة رجلاً كان سهلاً بائعًا ومشتريًا وقاضيًا ومقتضيًا" أخرجه النسائي وابن ماجه والإمام أحمد.
معنى قاضيًا مؤديًا لحق عليه، ومقتضيًا للحق الذي عند الناس له.
وروى الترمذي عن أبي هريرة t عن النبي ﷺ "إن الله يحب سمح البيع سمح الشراء سمح القضاء".
وروى مسلم عن أبي هريرة t عن النبي ﷺ قال "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة.
ومن يسر على معسر في الدنيا يسر الله عليه في الدنيا والآخرة.
ومن ستر مسلمًا ستر الله عليه في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه".
وروى الإمام أحمد وابن ماجه والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين عن بريدة t قال سمعت رسول الله ﷺ يقول "من أنظر معسرًا فله كل يوم صدقة قبل أن يحل الدين فإذا حل الدين فأنظره بعد ذلك فله كل يوم مثله صدقة".
وروى الإمام أحمد بإسناد جيد عن ابن عباس م قال دخل رسول الله ﷺ المسجد وهو يقول "أيكم يسره أن يقيه الله فيح جهنم.
أيكم يسره أن يقيه الله من فيح جهنم" قلنا يا رسول الله كلنا يسره.
قال "من أنظر معسرًا أو وضع له وقاه الله من فيح جهنم".
وروى البخاري عن أبي هريرة t عن النبي ﷺ قال "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله".
وروى البخاري عن سلمة بن الأكوع t قال كنا جلوسًا عند النبي ﷺ إذ أتى بجنازة فقالوا صل عليها فقال هل عليه دين قالوا لا فصلى عليها.
ثم أتى بجنازة أخرى فقال هل عليه دين قيل نعم قال فهل ترك شيئًا قالوا ثلاثة دنانير فصلى عليها.
ثم أتى بالثالثة فقال هل عليه دين قالوا ثلاثة دنانير قال هل ترك شيئًا قالوا لا قال صلوا على صاحبكم.
فقال أبو قتادة صل عليه يا رسول الله وعلى دينه فصلى عليه.
وروى الإمام أحمد وأبو داود عن أبي موسى t قال قال رسول الله ﷺ "إن أعظم الذنوب عند الله تعالى أن يلقاه به عبد بعد الكبائر التي نها الله عنها: أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء".
وروى مسلم عن عبد الله بن عمر م أن رسول الله ﷺ قال "يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين".
وعن كعب بن عجرة t قال مر على النبي ﷺ رجل فرآى أصحاب رسول الله ﷺ من جلده (أي رأو قوته) ونشاطه فقالوا يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله (أي في الجهاد في سبيل الله).
فقال رسول الله ﷺ "إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله.
وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله.
وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله.
وإن كان خرج رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان" رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
اللهم يا من خلق الإنسان في أحسن تقويم وبقدرته التي لا يعجزها شيء يحيي العظام وهي رميم. نسألك أن تهدينا إلى صراطك المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وأن تغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة t يا أيها الناس إن الله طيب ولا يقبل إلا طيبًا وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين.
فقال جل وعلا ]يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا[ وقال ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ[.
ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام وملبسه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك.
وفي الصحيحين من حديث النعمان بن بشير إن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس.
فمن أتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرى حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
ألا وإن لكل ملك حمى وحمى الله في الأرض محارمه.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي أو في بيتي فأرفعها لآكلها.
ثم أخشى أن تكون من الصدقة فألقيها وفي صحيح البخاري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج.
وكان أبو بكر يأكل من خراجه فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام أتدري ما هذا فقال أبو بكر t وما هو.
قال تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته فلقيني فأعطاني بذلك فهذا الذي أكلت منه قالت فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه.
وعن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب t شرب لبنًا فأعجبه فقال للذي سقاه من أين لك هذا اللبن.
فأخبره أنه ورد على ماء قد سماه فإذا نعم من نعم الصدقة وهم يسقون فحلبوا لي من ألبانها فجعلته في سقائي وهو هذا.
فأدخل عمر يده فاستقاءه (أي أخرجه من بطنه) وقال أحد علماء السلف إذا تعبد الشاب يقول إبليس أنظروا من أين مطعمه.
فإذا كان مطعمه مطعم سوء قال دعوه لا تشتغلوا به دعوه يجتهد ويتعب فقد كفاكم نفسه.
ونظر بعضهم إلى الناس يبادرون إلى الصف الأول فقال ينبغي أن يبادروا إلى الاعتناء في المأكل الحلال أيضًا.
وذكر عن بعض أهل العلم أن الشيطان يقول خصلة أريدها من ابن آدم ثم أخلي بينه وبين ما يريد من العبادة.
أجعل كسبه من غير حل إن تزوج تزوج من حرام وإن أفطر أفطر على حرام وإن حج حج من حرام.
فيا عباد الله راقبوا الله في اكتساب القوت وتحرزوا في مكاسبكم من فنون الربا فإنه بضع وسبعون بابًا.
واتقوا الخيانة والنجش والتطفيف والخداع والكذب والحلف والمدح والذم عند المبايعة.
فتورعوا واحتاطوا لأنفسكم فإن دلالة التقوى في الورع وبالورع يعرف المتقون.
ولما ولي يحيى بن أكثم القضاء كتب إليه أخوه عبد الله بن أكثم من مرو وكان من الزهاد الورعين.
ولُقْمَةٌ بِجَريْشِ المِلْحِ تَأَكُلُهَا وأَكْلَةٌ قَرَّبَتُ لِلْمَلْكِ صَاحِبَهَا | أَلَذُّ مِنْ تَمْرَةٍ تُحْشَى بِذُنْبُور كَحَبَّةِ الفَخِّ دَقَّتْ عُنْقَ عُصْفُوْرِ |
وأوصى بعضهم أخًا له عند وداعه فقال أوصيك أن تكون لقمتك صالحة وتأكل طيبًا.
لَيْسَ التَّقي بِمُتَّقٍ لإِلَهِهِ ويَطِيْبَ مَا يَجْنِي ويَكْسِب أَهْلَهُ نَطَقَ النبيُ لَنَا بِهِ عَنْ رَبِّهِ | حَتَّى يَطِيْبَ شَرَابُهُ وطَعَامُهُ ويَكُونُ فِي حُسْنِ الحَدِيْثِ كَلامُهُ فَعَلَى النبي صَلاتُهُ وسَلامُهُ |
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال تليت هذه الآية عند رسول الله ﷺ ]يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا[ فقام سعد بن أبي وقاص t فقال يا رسول الله أدع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة فقال له يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة والذي نفس محمد بيده إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه عمل أربعين يومًا وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به. رواه الطبراني في الصغير.
ويقال إن الله جل جلاله وتقدست أسماؤه ليحجب الدعاء بالطعمة أو بالكسرة يأكلها الإنسان من غير حلها وفي إجماعهم من طاب مطعمه صفت أعماله واستجيبت دعوته.
اللهم يا عالم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، يا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا أنت إليك المصير.
نسألك أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة رحمتك، يا أرحم الراحمين وأرأف الرائفين وأكرم الأكرمين.
اللهم اعتقنا من رق الذنوب، وخلصنا من أشر النفوس، وأذهب عنا وحشة الإساءة، وطهرنا من دنس الذنوب، وباعد بيننا وبين الخطايا وأجرنا من الشيطان الرجيم.
اللهم طيبنا للقائك، وأهلنا لولائك وأدخلنا مع المرحومين من أوليائك، وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وتلاوة كتابك، واجعلنا من حزبك المفلحين، وأيدنا بجندك المنصورين، وارزقنا مرافقة الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فوائد ومواعظ وإرشادات وأحكام
قال ابن مسعود t إني لأكره أن أرى الرجل فارغًا لا في أمر دنياه ولا في أمر دينه.
وقال عمر بن الخطاب t لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهم ارزقني فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة.
وكان محمد بن مسلمة يغرس في أرضه فقال عمر t أصبت استغن عن الناس يكون أصون لدينك وأكرم لك عليهم.
وسئل إبراهيم النخعي عن التاجر الصدوق أهو أحب إليك أم المتفرغ للعبادة.
قال التاجر الصدوق أحب إلي لأنه في جهاد يأتيه الشيطان من طريق المكيال والميزان، ومن قبل الأخذ والعطا فليجاهده.
وقيل للإمام أحمد ما تقول فيمن جلس في بيته أو مسجده وقال لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي.
فقال أحمد هذا رجل جهل العلم أما سمع قول النبي ﷺ "إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي".
وقوله ﷺ حين ذكر الطير "تغدوا خماصًا وتروح بطانًا" فذكر أنها تغدوا في طلب الرزق.
وكان أصحاب رسول الله ﷺ يتجرون في البر والبحر ويعملون في نخيلهم والقدوة بهم.
وجاءت ريح عاصفة في البحر فقال أهل السفينة لإبراهيم بن أدهم رحمه الله وكان معهم في السفينة.
أما ترى هذه الشدة فقال ما هذه شدة إنما الشدة الحاجة إلى الناس.
وروي أن الأوزاعي لقي إبراهيم بن أدهم وعلى رأسه حزمة حطب فقال يا أبا إسحاق إلى متى هذا إخوانك يكفونك.
فقال دعني عن هذا يا أبا عمرو فإنه بلغني أنه من وقف موقف مذلة في طلب الحلال وجبت له الجنة.
وقال أبو سليمان الدارني ليس العبادة عندنا أن تصف قدميك، وغيرك يقوت لك، ولكن ابدأ برغيفيك فأحرزهما ثم تعبد. اهـ.
فالإنسان البصير يتسبب ويسترزق الله ويبيع ويشتري بإخلاص ونصح لنفسه وللمسلمين.
كان عند يونس بن عبيد حلل مختلفة الأثمان قسم منها قيمة الحلة أربعمائة، وقسم قيمة الحلة مئتان.
فذهب مبادرًا إلى الصلاة وخلف ابن أخيه في الدكان فجاء أعرابي وطلب حلة بأربعمائة.
فعرض عليه من حلل المئتين فاستحسنها ورضيها فاشتراها بأربعمائة وذهب بها.
فلقيه يونس فقال بكم اشتريت هذه فقال بأربع مائة فقال لا تساوي أكثر من مائتين فارجع حتى تردها.
فقال هذه تساوي في بلدنا خمسمائة وأنا ارتضيتها فقال له يونس انصرف فإن النصح في الدين خير من الدنيا وما فيها.
ثم رده إلى الدكان ورجع عليه مئتي درهم ووبخ ابن أخيه وقال له أما استحييت أما اتقيت الله تربح مثل الثمن وتترك النصح للمسلمين.
فقال والله ما أخذها إلا وهو راضٍ بها قال فهلا رضيت له ما ترضاه لنفسك.
وكان يونس بن عبيد المذكور التابعي خزازًا (أي يبيع الخز) فطلب منه المشتري خزًا للشراء.
فأخرج غلامه سفط الخز ونشره ونظر إليه وقال اللهم ارزقنا الجنة.
فقال لغلامه رده إلى موضعه ولم يبعه، لأنه خاف ان يكون كلام الغلام تعريضًا بالثناء على السلعة ومدحًا لها فيكون من باب الغش والخداع.
اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا، وامنن علينا يا مولانا بتوبة تمحو بها كل ذنب واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
وكان لمحمد بن المنكدر قطع قماش بعضها بخمسة وبعضها بعشرة فباغ غلامه قطعة من القطع التي على خمسة بعشرة.
فلما علم محمد بذلك ذهب يطلب الذي اشترى من غلامه ليرد عليه خمسة فلم يزل يطلبه طول النهار حتى وجده.
فقال له إن الغلام قد غلط باعك ما يساوي خمسة بعشرة.
فقال يا هذا أنا قد رضيت فقال له وإن رضيت فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا.
فاختر إحدى ثلاث خصال إما أن تأخذ بدلها من القطع التي على عشرة بدراهمك وإما نرد عليك خمسة وإما أن ترد القطعة وتأخذ دراهمك.
فقال أعطني خمسة فرجع عليه خمسة وأخذها وانصرف.
فقال من هذا الرجل الناصح لنفسه وللمسلمين فقالوا هذا محمد بن المنكدر رحمه الله. هذا من رقم (1) في الزهد والورع.
وكان ليونس بن عبيد غلام يجهز إليه السكر فكتب إليه مرة أن قصب السكر قد أصابته آفة هذه السنة فاشتر السكر قال فاشترى سكرًا كثيرًا.
فلما جاء وقته ربح فيه ثلاثين ألفًا فانصرف إلى منزله، فأفكر ليلته وقال ربحت ثلاثين ألفًا وخسرت نصح رجل من المسلمين.
فلما أصبح غدا إلى بائع السكر فدفع إليه ثلاثين ألفًا وقال بارك الله لك فيها فقال من أين صارت لي فقال إني كتمتك حقيقة الحال وكان السكر قد غلا في ذلك الوقت.
فقال رحمك الله قد أعلمتني الآن وقد طيبتها لك قال فرجع بها إلى منزله وتفكر وبات ساهرًا وقال ما نصحته فلعله استحيا مني فتركها لي.
فبكر إليه من الغد وقال عافاك الله خذ مالك إليك فهو أطيب لقلبي فأخذ منه ثلاثين ألفًا. هذا من رقم (1) في الورع والزهد.
ونقل عن بعض الورعين أنه اشترى كر لوز وهو ستون قفيزًا بستين دينارًا.
وكتب في دفتره ثلاثة دنانير ربحه.
وكأنه رأى أن يربح على العشرة نصف دينار فصار اللوز بتسعين.
فأتاه الدلال فطلب اللوز فقال خده قال بكم قال بثلاثة وستين دينارًا.
فقال الدلال وكان من الصالحين المورعين قد صار اللوز بتسعين.
فقال قد عقدت عقدًا لا أحله لست أبيعه إلا بثلاث وستين.
فقال الدلال وأنا عقدت بيني وبين الله ألا أغش مسلمًا لست أخذه منك إلا بتسعين.
فتفرقا بدون بيع.
كل منهما ما يريد أن يفسد نيته وهذان من رقم واحد في الورع.
وباع ابن سيرين شاة فقال للمشتري إن فيها عيبًا "إنها تقلب العلف برجلها" قلت فعلى المسلم الناصح أن يبين لأخيه المسلم كل ما يعلمه في المبيع من العيوب ككون الدابة تأكل العذرة أو تأكل الخرق أو ما تحلب إلا على نوع من الطعام.
ويحكى أن واحدًا كان له بقرة يحلبها ويخلط لبنها بالماء ويبيعه فجاء سيل فغرق البقرة.
فقال أحد أولاده إن تلك المياه المتفرقة التي غيشنا فيها اللبن اجتمعت دفعة واحدة فأغرقت البقرة.
وعن أحد التابعين أنه قال لو دخلت الجامع وهو غاص بأهله وقيل لي من خير هؤلاء لقلت أنصحهم لهم، فإذا قالوا هذا قلت هو خيرهم.
ولو قيل لي من شرهم قلت أغشهم لهم فإذا قيل هذا قلت هو شرهم.
وباع الحسن بن صالح وهو من رجال البخاري جارية فقال للمشتري إنها تنخمت عندنا دمًا.
وختامًا فعلى المسلم أن يجتنب بيع المنكرات والملاهي كالصور والتلفاز والفيديو وجميع المحرمات والمنكرات وأواني الذهب والفضة لمن يستعملها.
والدخان وأوراق اللعب والطبول والمزامير وكل ما يشغل عن طاعة الله أو يعين على معاصي الله.
وينصح من يتعاطى هذه وأمثالها نسأل الله أن يعافينا وجميع المسلمين.
تَورَّعْ وَدَعْ مَا إِنْ يُرِيْبُكَ كُلَّهُ وحَافِظْ عَلَى أَعْضَائِكَ السَّبْعِ جُمْلَةً وكُنْ رَاضِيًا باللهِ رَبًا وحَاكِمًا | جَمِيْعًا إِلَى مَا لا يُرِيْبُكَ تَسْلَمِ ورَاع حُقُوقَ اللهِ فِي كُلّ مُسْلِمِ وفَوِّضْ إِلَيْهِ فِي الأُموْرِ وَسَلِّمِ |
اللهم وفقنا لصالح الأعمال، ونجنا من جميع الأهوال، وأمنا من الفزع الأكبر يوم الرجف والزلزال، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
موعظة
وعظ بعض العلماء فقال في موعظته أيها الناس تقووا بهذه النعم التي أصبحتم فيها على الهرب من نار الله عز وجل الموقدة التي تطلع على الأفئدة.
فإنكم في دار المقام فيها قليل، وأنتم منها ترحلون، خلائف بعد القرون الذي استقبلوا من الدنيا أولها وزهرتها.
فهم كانوا أطول منكم أعمارًا، وأمد منكم أجسامًا، وأعظم آثارًا.
قال الله عز وجل ]أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا[ الآية.
فخددوا الجبال، وجابوا الصخور، ونقبوا في البلاد، مؤيدبن ببطش شديد، وأجسام كالعماد.
فما لبثت الأيام والليالي أن طوت مدتهم، وعفت آثارهم، وأخوت منازلهم، وأنست ذكرهم، فما تحس منهم من أحد ولا تسمع لهم ركزًا.
كانوا بلهو الأمل آمنين، لبيات قوم غافلين، أو لصباح قوم نادمين.
ثم إنكم قد علمتهم الذي نزل بساحتهم بياتًا من عقوبة الله عز وجل، فأصبح كثير منهم في ديارهم جاثمين.
وأصبح الباقون ينظرون في آثار نقمة الله، وزوال نعمه.
وأمست مساكنهم خاوية، فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم، وعبرة لمن يخشى.
قال الله تبارك وتعالى ]فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ[.
وقال تبارك وتعالى ]إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى[ وأصبحتم بعدهم في أجل منقوص ودنيًا منقوصة وفي زمان قد ولى عفوه وذهب رجاؤه.
فلم يبق منه إلا حماة شر وصبابة كدر، وأهاويل عبر، وعقوبات غبر، وأرسال فتن، وتتابع زلازل ورذالة خلف، بهم ظهر الفساد في البر والبحر.
فلا تكونوا أشباها لمن خدعه الأمل، وغره طول الأجل فتبلغ بالأماني.
فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن وعى نذره فانتهى.
وعقل مسراه فمهد لنفسه قبل وضعه في قبره ورمسه.
أَرَى النَاسَ أَضْيَافًًا أَدَامُوْا بِغُرْبَةٍ بِدَارِ غُرُوْرٍ حُلْوَةٍ يَرْتَعُوْنَهَا لَهَا دَرَّةٌ تُضْني الحَكِيْمَ وتَحْتَهَا وقَد حَيَّرَتْ ذَا الجَهْلِ لا دَرَّ دَرُّهَا وكُلُّهُم حَيْرَانُ يُكْذِبُ قَوْلَهُ | تُقَلِّبُهُمْ أَيَّامُهَا وتَقَلِّبُ وقَدْ عَايَنُوْا فِيْهَا الزَّوَالَ وجَرَّبُوْا مِنَ المَوْتِ سُمٌّ مُجْهزٌ حِيْنَ يُشْرَبُ فأَصْبَحَ فِي جَدٍ وأَصْبَحَ يَلْعَبُ بِفِعْلٍ وخَيْرُ القَوْلِ مَا لا يُكَذَّبُ |
اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فصل يحتوي على ما يلي
نصائح وفوائد منوعة وحكم ووصايا ومواعظ وقصص وعبر
النصيحة هي الإرشاد إلى الصواب والتوجيه إلى العمل الصالح الذي يعود على المنصوح بالسعادة والعز.
وهي تبصير بالمضار حتى لا يقع فيها من لا يعرفها ولذلك ينبغي أن يكون الناصح صاحب عقل راجح ورأي ثاقب.
قد جرب الأمور وعركته الأيام والليالي وذاق حلوها ومرها وانتفع بما رآه فيها من عسر ويسر وفرح وحزن.
وخلص قلبه من هم قاطع وغم شاغل ليسلم رأيه وتخلص نصيحته والنصيحة طريق الأنبياء والمرسلين". قال بعضهم
احذر كل الحذر أن يخدعك الشيطان فيمثل لك التواني في صورة التوكل ويورثك الهوينى بالإحالة على القدر.
فإن الله جل وعلا أمر بالتوكل عند انقطاع الحيل وبالتسليم للقضاء بعد الإعذار.
قال الله جل وعلا ]خُذُواْ حِذْرَكُمْ[.
وقال ]وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ[.
وقال النبي ﷺ "اعقلها وتوكل".
ومما يروى عن الإمام علي t أنه قال إن لله عبادًا في الأرض كأنما رأوا أهل الجنة في جنتهم وأهل النار في نارهم، اليقين وأنواره لامعة على وجوههم، وقلوبهم محزونة.
وشرورهم مأمونة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أيامًا قليلة لراحة طويلة.
أما الليل فصافون أقدامهم، تجري دموعهم على خدودهم يجأرون إلى الله سبحانه "أي يتضرعون إلى الله بالدعاء".
قد حلا في أفواههم، وحلا في قلوبهم طعم مناجاته ولذيذ الخلوة به.
قد أقسم الله على نفسه بجلال عزته ليورثنهم المقام الأعلى في مقعد صدق عنده.
وأما نهارهم فحكماء علماء بررة أتقياء كالقداح (أي أجسامهم نحيفة).
ينظر إليهم الناظر فيقول مرضى، وما بالقوم من مرض، أو يقول قد خولطوا ولعمري لقد خالطهم أمر عظيم جليل.
وقال بعض العلماء في الحث على الاستقامة ومراقبة الله عز وجل.
إخواني اسمعوا نصيحة من جرب وخبر إنه بقدر إجلالكم لله عز وجل وتعظيمكم له يجلكم وبمقدار تعظيم قدره واحترامه يعظم أقداركم وحرمتكم.
ولقد رأيت والله من أنفق عمره في العلم إلى أن كبرت سنه ثم تعدى بعض الحدود فهان عند الخلق وكانوا لا يلتفتون إليه مع غزارة علمه وقوة مجاهدته.
ولقد رأيت من كان يراقب الله عز وجل في صبوته مع قصوره بالإضافة إلى ذلك العالم.
فعظم الله قدره في القلوب حتى علقته النفوس ووصفته بما يزيد على ما فيه من الخير.
ورأيت من كان يرى الاستقامة إذا استقام فإذا زاغ مال اللطف عنه.
ولولا عموم ستر الله وشمول رحمته لافتضح هؤلاء المذكورون، غير أنه في الأغلب تأديب أو تلطف في العقاب كما قيل:
ومَنْ كَانَ فِي سَخْطِهِ مُحْسِنًا | فَكَيْفَ يَكُوْنُ إِذَا مَا رَضِي |
غير أن العدل لا يحابي وحاكم الجزاء لا يجوز وما يضيع عند الأمين شيء.
وقال رحمه الله الواجب على العاقل أن يحذر مغبة المعاصي فإن نارها تحت الرماد.
وربما تأخرت العقوبة ثم جاءت فجأة وربما جاءت مستعجلة.
فليبادر بإطفاء ما أوقد من نيران الذنوب ولا ماء يطفئ تلك النار إلا ما كان من ماء العين، وهي الدموع.
التي تدفعها مخافة الله وخشيته والحياء منه اليوم ويوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وقال بعض العلماء هرب العبد من مولاه وإقباله على شهواته ومتابعة هواه نتيجة عمى قلبه ووجود جهله لأنه استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير وآثر الفاني على الباقي.
ولو كانت له بصيرة لآثر الباقي على الفاني قال الله جل وعلا ]بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى[.
أنظر إلى السحرة لما وفقهم الله جل وعلا آمنوا به ولم يحفلوا بما وعدهم به فرعون من العطاء والإنعام والتقريب والإكرام، ولم يبالوا بما توعدهم به من العذاب والقتل والصلب على جذوع النخل.
بل قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إلى أن قالوا "والله خير وأبقى".
بَكَتْ عَيْنِيْ وَحُقَّ لَهَا بُكَاهَا ومَنْ أَوْلَى بِطُوْلِ الحُزْنِ مِنْهَا فَلا تَقْوىً تَصُدُّ عَنْ المَعاصي تَتُوبُ مِن الإِسَاءِة فِي صَبَاحٍ وَتَنْكُثُ عَهْدَهَا حِيْنًا فَحِيْنَا وتَقْعُدُ عَنْ حُقُوقِ اللهِ عَمْدًا | عَلَى نَفْسِي التِي عَصَتِ الإِلَهَا وبالآثامِ قَدْ قَطَعَت مَدَاهَا ولا تَخْشَى الإِلَهَ ولا تَنَاهَى وتَنْقُضُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِي مَسَاهَا كَأَنَّ اللهَ فِيه لا يَرَاهَا وتَبْغِيْ دَائِمًا مَالاً وجَاهَا |
اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا وتجمع بها شملنا وتلم بها شعثنا وترفع بها شاهدنا وتحفظ بها غائبنا وتزكي بها أعمالنا وتلهمنا بها رشدنا وتعصمنا بها من كل سوء يا أرحم الراحمين.
اللهم أرزقنا من فضلك وأكفنا شر خلقك، واحفظ علينا ديننا وصحة أبداننا.
اللهم يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين ومقيل عثرات العاثرين نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
قال بعض العلماء وجد مكتوب في حجر: ابن آدم لو رأيت يسير ما بقي من أجلك لزهدت في طول ما ترجو من أملك ولرغبت في الزيادة من عملك ولقصرت من حرصك.
وإنما يلقاك ندمك إذا زلت بك قدمك وأسلمك أهلك وحشمك، وتبرأ منك القريب، وانصرف عنك الحبيب فلا أنت إلى دنياك عائد ولا في حسناتك زائد.
وقال آخر إخواني اقبلوا قول ناصح لكم اعملوا لآخرتكم في هذه الأيام التي تسير كأنها تطير، وتلوح كأنها الريح.
فما انقضت ساعة من أمسك إلا وأخذت بضعة من نفسك.
والسعيد من اعتبر بأمسه، واستدرك لنفسه، والشقي من جمع لغيره وبخل على نفسه وصار كما قال الشاعر:
وذِي حِرْصٍ تَرَاهُ يُلم وَفْرًا كَكَلَب الصَّيْدِ يُمْسِكُ وَهُوَ طَاو | لِوَارِثِهِ ويَدْفَعُ عَنْ حِمَاهُ فَرِيْسَتَهُ لِيَأَكُلَهَا سِوَاهُ |
آخر:
يُفْنِي البَخِيْلُ بِجَمْعِ مُدَّتَّهُ كَدُوْدَةِ القَزِّ مَا تَبْنِيْهِ يَهْدِمُهَا | ولِلْحَوَادِثِ والوُرَّاثِ مَا يَدَعُ وغَيْرُهَا بالذِي تَبْنِيْهِ يَنْتَفِعُ |
ووقال آخر ما أبله وأغفل من لا يعلم متى يأتيه الموت وهو لا يستعد للقائه، وأشد الناس بلها وتغفيلاً من قد عبر الستين وقارب السبعين ولم يستعد.
فإن ما بينهما معترك المنايا ومن نازل المعترك (وصله وتوسط فيه) استعد وهو غافل عن الاستعداد وأتاه الموت وهو في شهوته وغفلته.
قَالَ الشَبَابُ لَعَلَّنَا فِي شَيْبِنَا | نَدَع الذُّنُوبَ فَمَا يَقُول الأَشْيَبُ |
آخر:
أَتَاكَ نَذِيْرُ المَوتِ بالشَّيْبِ مُخْبِرًا ومَنْ سَارَ نَحَو الدَّارِ خَمْسِيْنَ حَجَّةً ومَنْ يَكُ عِزْرَائِيْلُ كَافِلَ رُوْحِهِ | بأَنَّكَ تَتْلُو القَوْمَ فِي اليَوْمِ أَوْ غَدِ فَقَدْ حَانَ مِنْهُ المُلْتَقَى وكَأَنْ قَدِ فإِنْ فَاتَهُ فِي اليَومِ لَمْ يَنْجُ مِن غَدِ |
وقال رحمه الله والله إن الضحك من الشيخ ما له معنى (أي ممن شاب) وإن المزاح منه بارد المعنى، وأن تعرضه بالدنيا وقد دفعته عنها يضعف القوى، ويضعف الرأي.
وهل بقي لابن ستين منزل فإن طلع في السبعين فإنما يرتقي إليها بعناء شديد (أي مشقة شديدة) إن قام دفع الأرض وإن مشي لهث وإن قعد تنفس (أي ثار نفسه).
ويرى شهوات الدنيا ولا يقدر على تناولها فإن أكل كد المعدة وصعب الهضم.
وإن وطئ آذى المرأة ووقع دنفًا لا يقدر على رد ما ذهب من القوة ولا تعود عليه إلا بعد مدة طويلة.
فإن طلع الثمانين فهو يزحف إليها زحفًا.
وختامًا فينبغي لمن وفقه الله وبلغ الخمسين أن يجعل همته التزود للدار الآخرة ويتفقد أحواله وما له وما عليه.
ويأخذ في الاستعداد للرحيل ويقبل بكليته إلى جمع زاد الآخرة ويهيء آلات السفر البعيد الذي أوله يوم القيامة فيا له من سفر ما أبعده وأصعبه وأشقه.
وليعتقد من بلغ من العمر خمسين أن كل يوم يحيا فيه غنيمة عظيمة ما هي في الحساب خصوصًا إذا دب الضعف في جسده بأن بدأت تساقط الأسنان وثقل السمع وضعف البصر واختل مشيه.
تَسَاقَطُ أَسْنَانٌ ويَضْعُفُ نَاظِرٌ | وتَقْصُرُ خُطْوَاتٌ ويَثْقُلُ مَسْمَعُ |
وكلما علت سنه فينبغي أن يزيد في الجد والاجتهاد في كل ما يقدر عليه من زاد الآخرة.
قال الله تبارك وتعالى ]وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً[.
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله أجمعين.
(فصل)
قال بعض السلف إن لله أقوامًا أنعم عليهم فعرفوه، وشرح صدورهم فأطاعوه، وتوكلوا عليه فسلموا الخلق والأمر له.
فصارت قلوبهم معادن لصفاء اليقين وبيوتًا للحكمة.
وقال آخر في موعظته عباد الله عاملوا الله بتقواه، لا تملوا من ذكره وحمده وشكره، ففيها النجاة من النار.
ولا تستصغروا الذنوب ولا تستحقروها فإن من احتقر الذنب واستصغره وقع فيه.
ومن ركب المعصية أهلك نفسه فإن الله عز وجل لم يترك صغير الذنوب للأنبياء فكيف للأشقياء.
وقال الشاعر:
خَلِّ الذُنُوبَ صَغِيْرها واصْنَعْ كَماشٍ فَوْقَ أَرْ لا تَحْقِرَنَّ صغِيْرَةً | وكَبِيْرَهَا ذَاكَ التُّقَى ضِ الشَوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى إِنَّ الجِبَالَ مِنَ الحَصَى |
وروي أن أحد الملوك مر بمدينة تملكها سبعة ملوك وهلك كلهم فقال هل بقي من نسلهم أحد.
قالوا نعم رجل يسكن المقابر فدعاه فأتاه فقال ما دعاك إلى لزوم المقابر.
قال أردت أن أميز عظام الملوك من عظام العبيد فوجدتها سواء.
قال هل لك أن تتبعني فأحيي شرفك، وشرف آبائك إن كانت لك همة قال همة قال همتي عظيمة.
قال وما هي قال حياة لا موت معها، وشباب لا هرم بعده وغنى لا فقر معه، وصحة من غير سقم، وسرور من غير مكروه.
قال هذا ما لا تجده عندي فقال دعني أطلبه ممن هو عنده فقال الملك ما رأيت رجلاً أحكم من هذا وخرج ولم يزل في المقابر حتى لحق بأهله رحمه الله.
وخطب بعضهم فقال أما بعد أيها الناس ما لأمواه العيون عائضة، وما لأفواه الذنوب فائضة.
وما للهمم عن طلب النجاة رابضة، وما للنفوس في ميدان الشهوات راكضة وما للأهواء في مجاري الزلات خائضة.
وما للعزائم إلى التوبة غير ناهضة أذهب عنكم الصواب أم عظمت عليكم المصائب لقد نصحت الرسل وأفصحت لولا صمم القلوب ووضحت السبل لولا كدر الذنوب.
ألا وإن الطريق صعب وبعيد، فاستعدوا له بزاد من التقوى سديد:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُقَى نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لا تَكُونَ كَمِثْلِهِ | وأَبْصَرْتَ بَعْدَ المَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا وَأَنَّكَ لَمْ تُرْصِدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا |
ألا وإن الحساب دقيق، وإن الناقد بصير، وإن العذاب أليم وشديد، فأعدوا لذلك اليوم عملاً صالحًا لعلكم أن تنجوا من الحريق.
عباد الله اغتنموا نفائس أوقات تسير بكم سيرًا حثيثًا، وأيامًا وليالي طالما أرتكم عبرة وأسمعتكم مواعظها حديثًا، لقد أخبرتكم بما أخلت من الديار.
وما أحلت بالقرون من قبلكم وأعفت من الآثار، ألم تروا كيف أوردت الأتراب مصارع المنايا، ألم تصل إليكم أخبار قوارع الرزايا أما دهتكم في أنفسكم بكثير من الآلام.
أما أذاقتكم في أنفسكم مرارة الأسقام فلو فكرتم في الدنيا لعلمتم أنكم في إدبار منها حثيث.
فكأنكم بالليل والنهار وقد وقفا بكم على الآجال وأزالا عنكم غرور الآمال ووصلا بكم إلى دار القرار، فيا حسرة منتقل إلى دار لم يتخذ بها منزلا ولم يقدم إليها من الباقيات الصالحات عملا.
فرحم الله امرأ أخلص لله وتابع النبي ﷺ فوسع له من القبور مضيقًا واتخذ من العمل الصالح صديقا.
فطيبوا أنفسًا بمعاملة الله فإنكم تربحون وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
وقال آخر يا قوم استبدلوا العواري بالهبات تحمدو العقبى في الحياة وبعد الممات.
واستقبلوا المصائب بالصبر تستحقوا النعمى واستديموا الكرامة بشكر الله تفوزوا بالزيادة قال جل وعلا ]لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ[.
واعرفوا فضل البقاء وطي صحائفه وحلول الأجل فإنما أنتم في الدنيا أغراض المنايا وأوطان البلايا.
ولن تنالوا نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يستقبل معمر منكم يومًا من عمره إلا بفراق آخر من أجله، ولا يحيا له أثر إلا مات له أثر.
فأنتم أعوان الحتوف على أنفسكم، وأنتم الأخلاف بعد الأسلاف، وستكونون الأسلاف قبل الأخلاف.
فمن أي وجه تطلبون البقاء، وهذا الليل والنهار لم يرتفع شيء قط إلا أسرعا في هدمه.
فالسعيد من اعتنم الأوقات التي تمر مر السحاب وملأ زمانه بالباقيات الصالحات قبل هجوم هادم اللذات ومفرق الجماعات.
أَتْعِصِي اللهَ وَهُوَ يَرَاكَ جَهْرًا وَتَخْلُوا بالمَعَاصِي وَهُوَ دَانٍ وَتُنْكِرُ فِعْلَهَا وَلَهُ شُهُوْدٌ فَوَيْل العَبْدِ مِنْ صُحْفٍ وفِيْهَا ويَا حَزَنُ المُسِيء لِشُؤم ذَنْبٍ ويَنْدَمُ حَسْرةً مِنْ بَعْدِ فَوْتٍ يَعَضُ يَدَيْهِ مِنْ أَسَفٍ وَحُزْنٍ فَكُنْ بِاللهِ ذَا ثِقَةٍ وَحَاذِرٍ وبَادِرْ بالمَتَابِ وأَنْتَ حَيٌ وتَقْفُ المُصْطَفَى خَيْرَ البَرَايَا عَلَيِهِ مِنْ المُهَيْمِن كُلَّ وَقْتٍ | وتَنَسَى فِي غَدٍ حَقًا لِقَاهُ إِلَيْكَ وَلَسْتَ تَخْشَى مَنْ سُطَاهُ عَلَى الإِنْسَانِ تَكْتُبُ مَا حَوَاهُ مَسَاوِيْهِ إِذَا وَافَى مَسَاهُ وبَعْدَ الحُزْنِ يَكْفِيهِ جَوَاهُ ويَبْكِي حَيْثُ لا يُجْدِيْ بُكَاهُ ويَنْدَمُ حَسْرةً مِمَّا دَهَاهُ هُجُومَ المَوْتُ مِنْ قَبْل أَنْ تَرَاهُ لَعَلَّكَ أَنْ تَنَالَ بِهِ رِضَاهُ رَسُوْلاً قَدْ حَبَاهُ واجْتَبَاهُ سَلامٌ عَطَّرَ الدُنْيَا شَذَاهُ |
اللهم ثبت إيماننا بك ثبوت الجبال الراسيات ونور قلوبنا بنور الإيمان واجعلنا هداة مهتدين وأصلح أولادنا واغفر لآبائنا وأمهاتنا واجمعنا وإياهم مع عبادك الصالحين في جنات النعيم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
خطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقال أيها الناس إن لكل سفر زادًا لا محالة فتزودوا من سفركم من الدنيا إلى الآخرة بالتقوى.
وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من ثوابه وعقابه فترغبوا وترهبوا ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم وتنقادوا لعدوكم.
فإنه والله ما بسط أمل لمن لا يدري لعله لا يمسي بعد إصباحه، ولا يضحي بعد إمسائه، وربما كانت بين ذلك خطرات المنايا.
وإنما يطمئن من وثق بالنجاة من العذاب وأهوال القيامة، فأما من ناحية أخرى كيف يطمئن.
أعوذ بالله من أن آمركم بما أنهى عنه نفسي فتخسر صفقتي، وتبدو مسكنتي ليوم لا ينفع فيه إلا الصدق.
وقيل كان عمر t بعث رسلاً إلى ملك الروم في فداء من عندهم من المسلمين فمات عمر وهم في بلاد الروم فبلغ ملك الروم موت عمر رحمه الله قبل أن يصل الخبر المسلمين فأعلمهم ملك الروم بموته.
فبكوا فقال لا تبكوا عليه فقد استراح من نصب الدنيا وهمومها وكربها وأنكادها وأعراضها، وكان إلى الروح والدعة والسرور.
إن بقاء أهل الخير مع أهل الشر قليل.
وإن صاحبكم كان أعجب عندي من الرهبان الذين تفردوا في الصوامع لأنه رفض الدنيا مع إقبالها عليه وتركها وهي في يديه.
عن يزيد بن حوشب قال ما رأيت أكثر خوفًا من الحسن ومن عمر عبد العزيز كأن النار لم تخلق إلا لهما وكان عمر بن عبد العزيز إذا ذكر الموت اضطربت أوصاله.
وروي أن عمر بن عبد العزيز قرأ يومًا قول الله جل وعلا ]وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ[ الآية فبكى بكاءًَا شديدًا حتى سمعه أهل الدار فجاءت زوجته فجلست تبكي معه وبكى أهل الدار لبكائهما.
فجاء ابنه عبد الملك وكان ولدًا صالحًا ودخل عليهم وهم يبكون فقال يا أبتي ما يبكيك فقال يا بني ود أبوك أنه لم يعرف الدنيا ولم تعرفه.
والله يا بني لقد خشيت أن أكون من أهل النار.
هذا مع عدله t ونحن نأمن مع الجور والظلم وسائر أنواع المعاصي.
وقدم على عمر وفد من العراق فنظر إلى شاب منهم يريد الكلام فقال عمر أولو الأسنان أولى.
فقال الفتى يا أمير المؤمنين إن الأمر ليس بالسن ولو كان كذلك لكان في المسلمين من هو أسن منك.
فقال عمر صدقت تكلم فقال يا أمير المؤمنين إنا لم نأتك رغبة ولا رهبة.
أما الرغبة فقدمت علينا في بلادنا وأما الرهبة فقد أمنا من جورك بما وهبك الله جل وعلا من العدل.
قال فمن أنتم قال وفد الشكر قال لله درك ما أحسن نطقك.
وكان عمر رحمه الله تعالى كثيرًا ما يتمثل بهذه الأبيات:
نَهَارُكَ يَا مَغْرُوْرُ سَهْوٌ وغَفْلَةٌ تُسَرٌّ بِمَا يَفْنَى وتَفْرَحُ بِالمُنَى وشُغْلُكَ فِيْمَا سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهُ | ولَيْلُكَ نَوْمٌ والرَّدَى لَكَ لازِمُ كَمَا غُرَّ باللَّذَاتِ فِي النَوْمِ حَالِمُ كَذَلِكَ فِي الدُنْيَا تَعِيْشُ البَهَائِمُ |
ووعظ أحد العلماء فقال إني أعظكم ولست بخيركم ولا أصلحكم وإني لكثير الإسراف على نفسي غير محكم لها ولا حاملها على الواجب في طاعة ربها.
ولو كان المؤمن لا يعظ أخاه إلا بعد إحكام أمر نفسه لعدم الواعظون وقل المذكرون.
ولما وجد من يدعو إلى الله جل ثناؤه ويرغب في طاعته وينهى عن معصيته.
"اعْمَلْ بِعِمْلِي وإِنْ قَصَّرْتُ فِي عَمَلِي | يَنْفَعْكَ عِلْمِي وَلا يَضرُرْكَ تَقْصِيْرِيْ" |
ولكن في اجتماع أهل البصائر ومذاكرة المؤمنين بعضهم بعضًا حياة لقلوب المتقين.
وإذكار من الغفلة وأمن من النسيان فالزموا عافاكم الله مجالس الذكر فرب كلمة مسموعة ومحتقر نافع.
"إِذَا اجْتَمعُوا جَاءوا بِكُلِّ غَرِيْبَةٍ | فَيَزْدَادُ بَعْضُ القَوْمِ مِنْ بَعْضِهِمْ عِلْمَا |
أيها الناس إنما لكم نفس واحدة إن نجت من العذاب لم يضرها من هلك وإن هلكت لم ينفعها من نجا.
قال الله تبارك وتعالى ]يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا[ فاحذروا يا عباد الله التسويف في الأعمال فإنه أهلك من كان قبلكم وإنكم لا تدرون متى تسيرون، ولا إلى أي شيء تصيرون، فرحم الله عبدًا عمل ليوم معاده قبل نفاد زاده.
تَزَوَّدْ لِلذي لابُدَّ مِنْهُ يَسُرُكَ أَنْ تَكُوْنَ رَفِيْقَ قَوْمٍ | فإِنَّ المَوْت مِيْعَادُ العِبْادِ لَهُمْ زَادٌ وأَنْتَ بِغَيْرِ زَادِ |
ولقد وري أنه لما نزل على رسول الله ﷺ ]مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا[.
قال أبو بكر الصديق t نزلت والله قاصمة الظهور.
فإذا قال ذلك أبو بكر وقد شهد له بالجنة فكيف يجب أن يكون قول من سواه.
فاعتبروا يا معشر المؤمنين وكونوا على حذر لعلكم تأمنون من عذاب عظيم ]يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[.
سمع الحسن ليلاً وهو يقول إلهي من أولى بالزلل والتقصير مني وأولى بالمغفرة والعفو منك غني وقد خلقتني ضعيفًا لا أملك لنفسي ضرًا ولا نفعًا.
إلهي علمك في سابق وقضاؤك بي محيط وأمرك في نافذ أطعتك بإذنك ومعونتك والمنة لك وعصيتك بعلمك والحجة لك.
فبوجوب رحمتك وانقطاع حجتي ثبت خوفك في قلبي حتى لا أرجو سواك ولا أخاف غيرك.
اللهم يا أرحم الراحمين صلى على محمد خاتم النبيين واغفر لي ولكافة المؤمنين وحسبي الله ونعم الوكيل.
وكان إذا عرض له هم أو أصابه كرب قال يا حابس يد إبراهيم عن ذبح ابنه وهما يتناجيان فيقول ابنه أرفق يا أبت ويقول إبراهيم اصبر لأمر بنا يا بني.
يا مقيض الركب ليوسف في الأرض القفر وغيابات الجب وجاعله بعد العبودية ملكًا.
يا راد بصر يعقوب عليه وجاعل حزنه فرحا.
يا راحم عبرة داود وكاشف ضر أيوب.
يا من لا يجيب دعوة المضطر إذا دعاه ويغيث من استغاث به ورجاه.
يا من لا يعبد سواه يا عالم النجوى وكاشف البلوى أسألك أن تصلي على نبيك المصطفى وعبدك المرتضى محمد وعلى آله وصحبه أن تكفيني ما أغمني وتفرج كربي يا خير من سئل وأفضل من رجي وأرحم من استرحم افعل بي من الخير ما أنت أهله يا أرحم الراحمين وحسبي الله ونعم الوكيل.
شعرًا:
تذكرت أيامي وما كان في الصبا وكيف قطعت العمر سهوًا وغفلة وناديت من لا يعلم السر غيره وعاد إليه من كبار ذنوبه أغثني إلهي واعف عني فإنني وخذ بيدي من ظلمة الذنب سيدي | من الذنب والعصيان والجهل والجفا فأسكبت دمعي حسرة وتلهفا ومن وعد الغفران من كان قد جفا فجاد عليه بالجميل تعطفا أتيت كئيبًا نادمًا متلهفًا وجد لي بما أرجوه منك تلطفًا |
وقال بعضهم يوبخ نفسه ويحك يا نفس كأنك لا تؤمنين بيوم الحساب وتظنين أنك إذا مت وانفلت وتخلصت تتركين.
هيهات هيهات، أما تعلمين أن الموت موعدك والقبر بيتك، والتراب فراشك، والدود أنيسك، والفزع الأكبر بين يديك.
اعملي يا نفس بقية عمرك في أيام قصار لأيام طوال، وفي دار زوال لدار مقام، وفي دار حزن ونكد وكبد ونصب ولغب وهموم.
لدار سرور وأفراح ونعيم وخلود وهناء، اعملي قبل طي الصحيفة أخرجي من الدنيا خروج الأتقياء الأحرار قبل أن تخرجي خروج الأشقياء على الاضطرار.
ولا تفرحي بما يساغد من زهرة الدنيا فرب مسرور مغبون، ورب مغبون لا يشعر.
وويل لمن له الويل ثم لا يشعر، يضحك ويفرح، ويلهو ويمرح، ويأكل ويشرب، وقد حق له في كتاب الله أنه من وقود النار.
نسأل الله المعافات في الدنيا والآخرة.
شعرًا:
لك الفضل يا مولاي والشكر والحمد ولو رمت أن أحصي جميلك لم أطق وكم لك من لطف أتاني مفرج قصدناك نستكفي العداة وشرهم ولكنني أرجو الذي عم فضله وصلى إلهي كل ما لاح بارق على المصطفى أزكى البرية كلهم | فما زلت تولي الخير مذ ضمني المهد فما لجميل قد مننت به حد من الكرب ما لولاه قد كان يشتد وعند عظيم الجود لم يخب القصد وإحسانه أن لا يخيب لنا قصد وما مطرت سحب وما قهقه الرعد صلاة مدى الأيام ليس لها عد |
اللهم نجنا برحمتك من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بفضلك الجنة دار القرار وعاملنا بكرمك وجودك يا كريم يا غفار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مطالب عالية وقصص رائقة
عن ربيعة بن كعب الأسلمي قال كنت أبيت مع النبي ﷺ فآتيه بوضوئه وحاجته فقال: سل.
فقلت أسألك مرافقتك في الجنة قال أو غير ذلك قلت هو ذاك قال فأعني على نفسك بكثرة السجود. انفرد به مسلم.
وعن علي t قال كان رسول الله ﷺ إذا سئل عن شيء فأراد أن يفعله قال نعم وإذا أراد أن لا يفعله سكت وكان لا يقول لشيء لا.
فأتاه أعرابي فسأله فسكت ثم سأله فسكت ثم سأله، فقال النبي ﷺ سل كهيئة المنتهر له سل ما شئت يا أعرابي فغبطناه وقلنا الآن يسأله الجنة.
فقال أسألك راحلة قال النبي ﷺ "لك ذاك" ثم قال سل.
قال ورحلها قال "لك ذاك" ثم قال سل قال أسألك زادًا قال وذاك لك فعجبنا من ذلك.
فقال النبي ﷺ أعطوا الأعرابي ما سأل قال فأعطي ثم قال النبي ﷺ كم بين مسألة الأعرابي وعجوز بني إسرائيل.
ثم قال إن موسى لما أمر أن يقطع البحر فانتهى إليه ضرب وجوه الدواب فرجعت فقال موسى ما لي يا رب.
قال إنك عند قبر يوسف فاحمل عظامه قال وقد استوى القبر في الأرض فجعل موسى لا يدري أين هو.
فسأل هل يدري أحد منكم أين هو فقالوا إن كان أحد يعلم أين هو فعجوز بني فلان لعلها تعلم أين هو.
فأرسل إليها موسى فانتهى إليها الرسول قالت ما لكم قال انطلقي إلى موسى فلما أتته قال لها تعلمين أين قبر يوسف.
قالت نعم قال فدلينا عليه. فالت لا والله حتى تعطيني ما أسألك.
قال لها لك ذلك قالت أسألك أن أكون معك في الدرجة التي تكون فيها في الجنة.
قال سلي الجنة قالت لا والله لا أرضى إلا أن أكون معك فجعل موسى يراودها.
قال فأوحى الله تعالى إليه أن أعطها ذلك فإنه لا ينقصك شيئًا.
فأعطاها ودلته على القبير فأخرجوا العظام وجاوزا البحر. رواه الطبراني في الأوسط عن علي t.
ومن ذلك طلب عكاشة بن محصن من النبي ﷺ أن يدعو الله أن يجعله من السبعين ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب.
ففي رواية للبخاري أن النبي ﷺ قال "اللهم اجعله منهم" فقتل شهيدًا t.
عن أنس بن مالك t قال بينما رسول الله ﷺ يمشي إذ استقبله شاب من الأنصار.
فقال له النبي ﷺ كيف أصبحت يا حارث قال أصبحت مؤمنًا.
قال انظر ما تقول فإن لكل قول حقيقة.
قال يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري.
وكأني أنظر إلى عرش بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون، وكأني أنظر إلى أهل النار يتعاوون فيها.
قال أبصرت فالزم، عبد نور الله الإيمان في قلبه، فقال يا رسول الله أدع الله لي بالشهادة.
فدعا له رسول الله ﷺ فنودي يومًا في الخيل، فكان أول فارس ركب وأول فارس استشهد.
فبلغ ذلك أمه فجاءت إلى رسول الله ﷺ فقالت يا رسول الله إن يكن في الجنة لم أبك ولم أحزن، وإن يكن في النار بكيت ما عشيت في الدنيا.
فقال يا أم حارثة إنها ليست بجنة ولكنها جنة في جنان وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى.
فرجعت وهي تضحك وتقول بخٍ بخٍ يا حارثة.
وعن أنس t قال انطلق رسول الله ﷺ وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر وجاء المشركون فقال رسول الله ﷺ "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض".
قال عمير بن الحمام: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض قال "نعم" قال بخٍ بخٍ.
فقال رسول الله ﷺ "ما يحملك على قولك بخٍ بخٍ" قال لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها.
قال "فإنك من أهلها فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال إن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة.
فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل t رواه مسلم.
وقال عبد الله بن عمرو بن حرام: رأيت في النوم قبل أحد مبشر بن عبد المنذر يقول لي: أنت قادم علينا في أيام. فقلت وأين أنت؟ فقال: في الجنة نسرح فيها حيث نشاء.
قلت له ألم تقتل يوم بدر؟ فقال: بلى، ثم أحييت، فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ، فقال "هذه الشهادة يا جابر".
وقال خيثمة وكان ابنه قد استشهد مع رسول الله ﷺ يوم بدر: لقد أخطأتني وقعة بدر، وكنت والله عليها حريصًا.
حتى ساهمت ابني في الخروج، فخرج سهمه فرزق الشهادة.
وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة، يسرح في ثمار الجنة وأنهارها، يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعد ربي حقًا.
وقد والله يا رسول الله أصبحت مشتاقًا إلى مرافقته في الجنة، وقد كبرت سني، ورق عظمي وأحببت لقاء ربي، فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة.
فدعا له رسول الله ﷺ بذلك، فقتل بأحد شهيدًا.
وقال عبد الله بن جحش في ذلك اليوم: اللهم أقسم عليك أن ألقى العدو غدا فيقتلوني ثم يبقروا بطني، ويجدعوا أنفي وأذني، ثم تسألني فيم ذلك فأقول: فيك.
وكان عمرو بن الجموح أعرج، شديد العرج، وكان له أربعة بنين شباب، يغزون مع رسول الله ﷺ إذا غزا، فلما توجه إلى أحد، أراد أن يتوجه معه.
فقال له بنوه: إن الله قد جعل لك رخصة، فلو قعدت ونحن نكفيك وقد وضع الله عنك الجهاد.
فأتى عمرو بن الجموح رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله إن بني هؤلاء يمنعوني أن أخرج معك، والله إني لأرجو أن أستشهد، فأطأ بعرجتي هذه في الجنة.
فقال له رسول الله ﷺ "أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد" وقال لبنيه "وما عليكم أن تدعوه، لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة" فخرج مع رسول الله ﷺ فقتل يوم أحد شهيدًا.
وعن أنس t قال: غاب عمي أنس بن النضر t عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع.
فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني أصحابه، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني المشركين.
ثم تقدم، فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع.
قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل ومثل به المشركون.
فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه قال أنس كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه ]مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ[ إلى آخرها متفق عليه.
شعرًا:
يا رب قد تبت فارحم زلتي كرما لا عدت أفعل ما قد كنت أفعله هذا مقام ظلوم خائف وجل فاصفح بعفوك ممن جاء معتذرا | وارحم بعفوك من أخطأ ومن ندما عمري فخذ بيدي يا خير من رحما لم يظلم الناس لكن نفسه ظلما واغفر ذنوب مسيء طالما اجترما |
روى البخاري عن أبي هريرة t عن رسول الله ﷺ أنه ذكر رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال ائتني بالشهداء أشهدهم فقال كفى بالله شهيدًا قال فائتني بالكفيل قال كفى بالله كفيلاً قال صدقت.
فدفعها إليه إلى أجل مسمى فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركبًا يركبها يقدم عليه للأجل فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه ثم زجج موضعها (أي أصلح موضع النقر بمسامير أو نحو ذلك).
ثم أتى بها إلى البحر فقال اللهم إنك تعلم أني كنت تسلفت فلانًا ألف دينار فسألني كفيلاً فقلت كفى بالله كفيلاً فرضي بك وسألني شهيدًا فقلت كفى بالله شهيدًا فرضي بذلك وإني جهدت أن أجد مركبًا أبعث إليه الذي له فلم أقدر وإني أستودعكها فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه.
ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبًا يخرج إلى بلده فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينتظر لعل مركبًا قد جاء بماله فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهل حطبًا فلما نشرها وجد المال والصحيفة.
ثم قدم الذي كان أسلفه فأتى بالألف دينار فقال والله ما زلت جاهدًا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبًا قبل الذي أتيت فيه قال هل كنت بعثت إلي بشيء.
قال أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل الذي جئت فيه قال فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت بالخشبة فانصرف بالألف دينار راشدًا".
اسمع يا من يسعى لقاعد، ويسهر لراقد، ويحرس لراصد، ويزع لحاصد، ويبخل لباذل، ويجوع لآكل، شعرًا:
وذي حرص تراه يلم وافرا ككلب الصيد يمسك وهو طاو | لوارثه ويدفع عن حماه فريسته ليأكلها سواه |
آخر:
يفني البخيل بجمع المال مدته كدودة القز ما تبنيه يهدمها | وللحوادث والوارث ما يدع وغيرها بالذي تبنيه ينتفع |
اسمع يا غافل ليس بمغفول عنه، عن قليل ينهد ركناك وفي القبر سكناك، قلب قاسي كقلوب الكفار وحرص كحرص الفار ينقب بالأظفار.
قل لي ما موقفك إذا وقعت الواقعة وقرعت القارعة وأزف لك الرحيل إلى قبرك واجتمع الغسال والغسيل، والعائد يغمز عينيه، والحبيب يقلب كفيه.
حتى إذا انقطع نفسك وحتى على جدثك، وانطوى زمانك وخوي جثمانك وأخرجت من منزلك الذي بنيته، وتركت مالك الذي جمعته وأبقيته.
أينفعك حيئذ خلال أصبته ومنعته، أو حرام غصبته أو نشب حصنته أو ولد حصنته، أو ربع أسسته، أو حطام حرسته أو أرض حوشتها.
كلا لا ينفعك إلا خير لوجه الله أمضيته، أو خصم أرضيته، أو قريب وصلته وأعطيته أو والدة أو والد بريته.
انتبه يا نائم واستقم يا قائم وأكثر من الزاد فإن الطريق بعيد والبحر عميث وخفف الحمل فإن الصراط دقيق وأخلص العمل فإن الناقد بصير.
وأخر نومك إلى القبر وفرحك إلى الميزان وشهواتك وراحتك إلى الآخرة ولذاتك إلى الحور العين.
وتقرب إلى الله جل وعلا بحب أهل الطاعة وبغض أهل المعاصي واهجرهم وتباعد عنهم وحذر عنهم واسأل ربك الثبات على الإيمان حتى الممات.
شعرًا:
مشيت النواصي للمنون رسول فصيح إذا نادى وإن كان صامتا فواعجبا من موقن بفنائه أمن بعد ما جاوزت سبعين حجة أؤمل آمالا وأرغب في الغنى وإن امرءا دنياه أكبر همه فكم عالم والجهل أولى بعلمه وكم من قصير في علوم كثيرة فمال العلم إلا خشية الله والتقى فيا رب قد علمتني سبل الهدى فيا رب هل لي منك عزما على التقى | يخبرنا أن الثواء قليل مثير المعاني للنفوس عذول وآماله تنمو وليس يحول وقد آن منى للقبور رحيل بدار غناها ينقضي ويزول ويؤثرها حبا لها لجهول له مقول عند الخطاب طويل له مخبر للصالحات وصول فكل تقي في العيون جليل فأصبحت لا تخفي علي سبيل فأنت الذي مالي سواه ينيل |
اللهم نسألك قلبًا سليمًا، ولسانًا صادقًا، وعملاً متقبلاً، ونسألك بركة الحياة وخير الحياة، ونعوذ بك من شر الوفاة.
اللهم إنا نسألك نفسًا مطمئنة، تؤمن بلقائك وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك، يا أرأف الرائفين، وأرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك التوفيق لما تحبه من الأعمال، ونسألك صدق التوكل عليك، وحسن الظن بك يا رب العالمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(خاتمة، وصية، نصيحة)
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن مما يحب الاعتناء به حفظًا وعملاً كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله ﷺ.
وأنه ينبغي لمن وفقه الله تعالى أن يحث أولاده على حفظ القرآن وما تيسر من أحاديث النبي ﷺ المتفق على صحتها عنه كالبخاري ومسلم.
ومن الفقه مختصر المقنع ليتيسر له استخراج المسائل ويجعل لأولاده ما يحثهم على ذلك.
فمثلاً يجعل لمن يحفظ القرآن على صدره حفظًا صحيحًا عشرة آلاف أو أزيد أو أقل حسب حاله من الغنى.
ومن الأحاديث عقد اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الإمامان البخاري ومسلم، يجعل لمن يحفظ ذلك ستة آلاف.
فإن عجزوا عن حفظها فالعمدة في الحديث يجعل لمن حفظها ثلاثة آلاف.
ويجعل لمن يحفظ مختصر المقنع في الفقه ألفين من الريالات فالغيب سبب لحفظ المسائل وسبب لسرعة استخراج ما أريد من ذلك وما أشكل معناه.
فمن وفقه الله لذلك وعمل أولادهبذلك كان سببًا لحصول الأجر من الله وسببًا لبرهم به ودعائهم له إذا ذكروا ذلك منه ولعله أن يكون سببًا مباركًا يعمل به أولاده مع أولادهم فيزيد الأجر له ولهم نسأل الله أن يوفق الجميع لحسن النية إنه القادر على ذلك.
اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير.
يا قوي يا عزيز يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام يا واحد أحد يا فرد صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد.
يا ودود ياذا العرش المجيد يا فعال لما تريد يا بديع السموات والأرض.
يا من خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسه من لغوب.
يا أول يا آخر يا ظاهر يا باطن يا من أحاط بكل شيء علمًا.
نسألك أن تجعلنا وإخواننا المسلمين ممن صلحت سريرته وعلانيته واستقام باطنه وظاهره على اعتقاد الحق.
وأن توفقنا لمراقبة قلوبنا وجوارحنا ومراعاتهما وبذل الجهد في حفظهما وكفهما عن مساخطك ومكارهك.
وأن توفقنا لاستعمالها فيما تحبه وترضاه ونسألك أن تثبتنا على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وأن تصلح نياتنا وذرياتنا وأن تفتح لدعائنا باب القبول والإجابة وأن ترحمنا وآباءنا وأمهاتنا إنك قريب مجيب وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من أراد طباعته لوجه الله تعالى لا يُريد عرضًا من الدنيا فقد أذن له وجزاه الله عني وعن المسلمين خيرًا. أسأل الله الكريم العلي العظيم الرؤوف الرحيم أن ينفع به من قرأه ومن سمعه وأن يأجر من دل عليه أو سعى به إلى من ينتفع به، اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عبد العزيز بن محمد بن سلمان