الوصف المفصل
- مذكرة
التوحيد
- [مقدمة في تعريف التوحيد وبيان الحكم وأقسامه]
- [مسائل المسألة الأولى إثبات أن العالم ممكن]
- [المسألة الثانية الممكن محتاج إلى موجد ومؤثر]
- [المسألة الثالثة في إثبات وجوب الوجود لله سبحانه وتعالى]
- [المسألة الرابعة في أنواع التوحيد]
- [المسألة الخامسة في الفرق بين النبي والرسول وبيان النسبة بينهما]
- [المسألة السادسة في إمكان الوحي والرسالة]
- [المسألة السابعة في حاجة البشر إلى الرسالة]
- [المسألة الثامنة في المعجزة الفرق بينها وبين السحر]
- [المسألة التاسعة في أنواع المعجزة]
- [خاتمة وتشتمل على أمرين]
- [الفرق الإسلامية]
مذكرة التوحيد
[مقدمة في تعريف التوحيد وبيان الحكم وأقسامه]
مذكرة التوحيد
(/)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. وبعد: فهذه كلمة مختصرة في جملة من مسائل التوحيد، كتبتها وفق المنهج المقرر على طلاب السنة الثالثة من كلية اللغة العربية، وأسأل الله أن ينفع بها، وتشتمل على مقدمة، ومسائل، وخاتمة. مقدمة في تعريف التوحيد وبيان الحكم وأقسامه 1 - تعريف علم التوحيد التّوحيد لغة: جعل المتعدّد واحدًا، ويُطلق على اعتقاد أن الشيء واحد متفرد، ويطلق شرعًا على تفرّد الله بالربوبية والألهية، وكال الأسماء والصفات. وعلم التوحيد يبحث عما يجب لله من صفات الجلال والكمال، وما يستحيل عليه من كل ما لا يليق به، وما يجوز من الأفعال، وعما يجب للرسل والأنبياء، وما يستحيل عليهم، وما
(1/3)
يجوز في حقهم، وما يتصل بذلك من الإيمان بالكتب المنزلة، والملائكة الأطهار، ويوم البعث والجزاء، والقدر والقضاء، وفائدته تصحيح العقيدة، والسلامة في العواقب، ونيل السعادة في الدارين، واسمه: " علم التوحيد، وعلم أصول الدين ". 2 - بيان الحكم وأقسامه الحكم إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه. مثاله: محمد رسول الله، ومسيلمة ليس برسول. وينقسم إلى ثلاثة أقسام: عقلي، وشرعي، وعادي. فالعقلي إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه بناء على تفكير دون توقف على شرع، ولا تجربة أو تكرار. مثاله: الله موجود، لا إله إلا الله. والشرعي إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه بناء على وحي من الله، مثل: الصلوات الخمس فريضة على المكلفين، ولا يجوز شرب الخمر. والعادي إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه بناء على تجربة أو تكرار مثل: الأمطار تكثر بالشواطئ. وينقسم الحكم الشرعي إلى تكليفي: كوجوب الزكاة، وتحريم القمار، واستنان ركعتي الفجر، وكراهية الأكل باليسار،
(1/4)
وإباحة الطيبات من الطعام، والشراب، واللباس ونحوها. ووضعي: كسببية دخول الوقت لوجوب الصلاة، وشرطية الطهارة لصحتها، وكمنع الجنون من وجوبها، والحدث من صحتها، ومن ذلك: الصحة، والفساد، والرخصة، والعزيمة. وينقسم العادي إلى أربعة أقسام: ربط وجود بوجود، كربط الشبع بالأكل، وربط عدم بعدم: كربط عدم المطر بعدم السّحاب، وربط وجود بعدم: كربط البرد بعد اللباس والغطاء، وربط عدم بوجود: كربط عدم الصحة بوجود ميكروب المرض. وينقسم الحكم العقلي إلى ثلاثة أقسام: الوجوب، والاستحالة، والجواز. فالواجب: هو الثّابت الذي لا يقبل الانتفاء لذاته: كثبوت العلم، والقدرة، والمحبَّة، والرِّضا، والوجه، واليدين، ونحوها من الكمالات للهّ، فإنها صفات ثابتة له- تعالى- لا تقبل الانتفاء. والمستحيل: هو المنفي الذي لا يقبل الثبوت: كشريك الباري، والجمع بين النقيضين، ورفعهما، والجمع بين الضّدّين.
(1/5)
والجائز: ويقال له: "الممكن" هو ما يقبل الوجود والعدم: كالمخلوقات التي نشاهدها، فإنها كانت معدومة فقبلت الوجود، ثم بعد وجودها فهي قابلة للعدم. "وقد يطلق الواجب على الأمر الثابت من حيث تعلق علم الله بثبوته، وإن كان ممكنًا في ذاته ". ويسمى الواجب لغيره، كوجود إنسان على كيفية معينة في عصر معين، فإن وقوعه على تلك الصفة في ذلك العصر واجب، باعتبار تعلّق علم الله به كذلك، وإن كان ممكنا في ذاته. وقد يُطلق المستحيل على أمر معدوم يجوز أن يوجد لكنه امتنع وجوده لتعلق علم الله ببقائه على العدم، ويقال له: المستحيل لغيره. والذي يُحتاج إليه من أقسام الحكم في مباحث التوحيد، وعليه تدور مسائله، الحكم العقلي. أما الشرعي: فيُبحث عنه في علم الفقه، وأصوله، وفي الأخلاق، وآداب السلوك. وأما العادي: فله اتصال وثيق بالكونيات، وسنن الله فيها، وما يُجريه البشر عليها من التجارب، وما يُستفاد منها بالتَكرار. ومعنى كون الوجوب والاستحالة والجواز حكما عقليا أنها لازمة لما حكم له بها، لا تقبل التخلف عنه ولا الانفكاك،
(1/6)
فقولنا: الله عليم وحكيم، والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، والضدان لا يجتمعان، قضايا لا تختلف أحكامها كما تختلف الأحكام العادية إكرامًا من الله لأوليائه، أو إثباتًا لرسالة رسله، وكما تختلف الأحكام الشرعية الفرعية بنسخ أو استثناء، وليس المراد أنها تثبت بالعقل دون نصوص الشرع، فإن نصوص الشرع قد جاءت بأصول الدين، وكشفت للعقل عما خفي عليه، وقصر عن إدراكه من تفاصيل عقائد التوحيد، وسلكت به طريق الحق، وهدته إلى سواء السبيل. ولولا ما جاء فيها من البيان لارتَكَسَ العقل في حمأة الضلالة، وقام للناس العذر، وسقطِ عنهم التكليف، قال الله - تعالى-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وقال: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165] وقال: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134] بل جاءت الرسل بما تُحار في إدراك حقيقته العقول، وتعجز عن فهم كُنْههِ الأفكار: كسؤال الميت في قبره، ونعيمه، وعذابه، وحياة أهَل النار في
(1/7)
النار، ولكنها لا تحيله، ولا تقوى على ردّه، ولا تجد لديها من الأدلة الصحيحة ما ينقضه، بل وصلت العقول بتيسير الله لها، وهدايته إياها إلى ما يصدق هذا، وأمثاله مما جاءت به الرسل، ووقفت بما أتاح اللهّ لها من الوسائل، وسخر لها من الكون، وهداها إليه من التجارب على حقائق سبق أن أنكرتها، وسخرت ممن تحدث بها، وربما رمته بالسحر، والكهانة، أو الخيال، والجنون. وليس ذلك لشيء أكثر من أنها لم تقع تحت حسها، ولم تكن من إلفها، ومعهودها، فوجب أن تعترف بقصورها، وأن تقرّ بأن لِإدراكها غاية لا تعدوها، وحدا تقف عنده، وتؤمن بما صح من وحي الله لرسله، وأن تسلم وجهها إلى الله. فإن اتهمت فلتتَّهم نفسها بالقصور والتَقصير، دون أن تتَهم الله ورسله، فإنها بذلك أولى، وهي به أقعد. قال- تعالى-: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ - أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت: 53 - 54] فإن حجب الإِنسان بعد ذلك ركوبه لرأسه، لجهالة، أو كبر،
(1/8)
أو هوى في نفسه، وحاول بالباطل ليدحض به الحق، غلب على أمره، ودارت عليه الدوائر. قال- تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ - لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر: 56 - 57] وقال- تعالى-: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]
(1/9)
[مسائل المسألة الأولى إثبات أن العالم ممكن]
مسائل
(1/11)
المسألة الأولى إثبات أن العالم ممكن إنَ ما شاهدناه في ماضينا من الكائنات، وما نشاهده منها في حاضرنا ممكن: أي جائز الوجود، والعدم؛ وذلك لأنَّا نراه يتحول من عدم إلى وجود، ومن وجود إلى عدم، وهذا التغير والتحوُّل دليل إمكانه، إذ لو كان واجبًا لما سبق وجوده العدم، ولما لحقه فناء، ولو كان مستحيلا لما قبل الوجود لأن المستحيل لذاته لا يوجد، وحيث إننا قد شاهدناه موجودًا بعد عدم ثبت أنه ممكن.
(1/13)
[المسألة الثانية الممكن محتاج إلى موجد ومؤثر]
المسألة الثانية الممكن محتاج إلى موجد ومؤثر وحيث ثبت أن العالم ممكن، والممكن ما استوى طرفاه - الوجود والعدم- بالنسبة إلى ذاته، فوجوده ليس من ذاته، وعدمه بعد وجوده ليس من ذاته، إذن لا بد له من سبب يرجح وجوده على العدم، إذ لو وجد بدون سبب خارج عن ذاته وحقيقته للزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر بلا مرجح، وهو باطل؛ ولو أوجد الممكن نفسه للزم من ذلك أن يكون متقدمًا على نفسه باعتباره خالقًا لها، ومتأخرا على نفسه باعتباره مخلوقًا لها، وتقدّم الشيء على نفسه، وتأخره عنها محال بالضرورة لما فيه من التناقض الواضح، فثبت أن الممكن لا بدّ له من مُوجد غير ذاته وحقيقته، يوجده ويدبر شئونه في كل أحواله، هذا المغاير: إما المستحيل، وإما الواجب، لا جائز أن يكون موجده هو المستحيل؛ لأن المستحيل غير موجود فلا يؤثر، ولأن فاقد الشيء لا يُعطيه. فثبت أن مُوجده هو الواجب، وهو الله- تعالى-.
(1/14)
وقد أرشدنا الله- تعالى- إلى ذلك في كثير من آيات القرآن الكريم. قال- تعالى-: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] فقد أنكر- سبحانه- أن يكونوا قد خُلقوا بلا خالق، وأن يكونوا قد خَلقوا أنفسهم، فإذن لا بدّ لهم من خالق موجود مغاير لهم وهو الله- تعالى-. ومن ذلك يتضح اتفاق الفطرة، والعقل السليم والسمع، على أن العالم محتاج إلى صانع، ومستند إلى موجد أوجده.
(1/15)
[المسألة الثالثة في إثبات وجوب الوجود لله سبحانه وتعالى]
المسألة الثالثة في إثبات وجوب الوجود لله -سبحانه وتعالى- إن لفظ الوجود، ومعناه المطلق، يشترك فيهما كل من الممكن والواجب، والحادث والقديم الأزلي. فالله يُوصف بأنه موجود، والحادث يُقال له- أيضًا-: إنه موجود، ولكن للممكن وجود يخصّه، فإنه حادث سبق وجوده عدم، ويلحقه الفناء، وهو في حاجة دائمة ابتداءً، ودوامًا، إلى من يكسبه، ويعطيه الوجود، بل يحفظه عليه. ولله- تعالى- وجود يخصّه، فهو- سبحانه- واجب الوجود لم يسبق وجوده عدم، ولا يلحقه فناء، ووجوده من ذاته لم يكسبه من غيره. وذلك لأنه- تعالى- الغني عن كل ما سواه، وبذلك جاء السمع، وشهد العقل. أما السمع: فمنه قوله- تعالى-: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3] وأما العقل: فبيانه أنه- تعالى- لو كان مستحيل الوجود لم يصح أن يستند إليه الممكن في حدوثه بداهة؛ لأن المستحيل ما
(1/16)
لا يتصور في العقل وجوده، وفاقد الشيء لا يُعطيه. ولو كان ممكنًا لافتقر في حدوثه إلى من يرجّح وجوده على عدمه لما تقدم، فإن استمرت الحاجة، فاستند كل في وجوده إلى نظير له من الممكنات لزم إما الدور القبلي (1) وإما التسلسل في _________ (1) الدور السبقي، ويقال له القبلي: هو توقف الشيء على ما توقف عليه، وهو قسمان: مصرح، ومضمر. فالمصرح ما كانت الواسطة فيه واحدة، مثاله كأن يقال مثلا: خالد أوجد بكرًا، وبكر أوجد خالدا، فبكر متوقف في وجوده على خالد ثم خالد توقف في وجوده على بكر والواسطة واحدة وهي بكر. ويقال له: هذا دور بمرتبة. فإن تعددت المراتب كانت بحسبها، وهذا الدور باطل لما يلزمه من التناقض، إذ يلزمه أن يكون الشيء سابقًا لا سابقًا مؤثرًا لا مؤثرًا إلخ. بل يلزم أن يكون الشيء نقيض نفسه ضرورة المغايرة بين المتقدم والمتأخر، والأثر والمؤثر. أما الدور المعي مثل توقف الأبوة على البنوة، والبنوة على الأبوة، فجائز. لأنه من باب الإضافات، وهي اعتبارية لا وجود لها، والتسلسل هو ترتب أمور بعضها على بعض بحيث يكون كل متأخر منها يتوقف في وجوده على سابق عليه. يكون علة له في وجوده إلى غير نهاية. ويسمى هذا النوع التسلسل في العلل، وفي المؤثرات، وهو باطل باتفاق العقلاء لما يلزمه من عدم وجود شيء من الحوادث، وهذا باطل بالمشاهدة. وقد عرف السعد [هو مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني، سعد الدين، من أئمة العربية، والبيان، والمنطق، ولد بتفتازان عام 712 هـ، وأقام بسرخس وأبعده تيمورلنك إلى سمرقند وتوفي فيها عام 793 هـ. له مصنفات عديدة] . في "شرح المقاصد" الدور، والتسلسل بعبارة جامعة لهما فقال: هما أن يتوالى عروض العلية والمعلولية لا إلى نهاية، بأن يكون كل ما هو معروض للعلية معروضا للمعلولية، ولا ينتهي إلى حالة تعرض له العلية دون المعلولية، فإن كانت المعروضات متناهية، فهو الدور بمرتبة إن كان اثنين، وبمراتب إن كانت المعروضات فوق اثنين، وإلا فهو التسلسل.
(1/17)
المؤثرات إلى ما لا نهاية، وكلاهما محال. وإذا انتفى عنه الإمكان. والاستحالة ثبت له الوجوب ضرورة. لأن أقسام الحكم العقلي ثلاثة، وقد انتفى اثنان، فتعين الثالث، وهو الوجوب فالله- تعالى- واجب الوجود. وقد أرشدنا الله إلى ذلك في كثير من الآيات. منها قوله- تعالى-:
(1/18)
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] وهذه الآية، وإن سيقت للاستدلال على توحيد الألوهية الذي تقدم قبلها في قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] إلا أنها تدلّ دلالة قاطعة على توحيد الربوبية، فإن استحقاقه- تعالى- للعبادة، واختصاصه بها فرع عن وجوده، وانفراده بالخلق، والتدبير، والتصريف، والتقدير. ومنها قوله- تعالى-: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ - أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ - نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ - عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ - وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ - أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ - أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ - لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 58 - 65] إلخ الآيات من سورة الواقعة. فهذه الآيات، وإن ذكرت لتنزيه الله- تعالى- وتقديسه عما
(1/19)
ظنه به منكرو البعث، وسيقت لِإثبات قدرته على المعاد. كما يرشد إليه ما قبلها من الآيات، فهي دليل- أيضًا- على وجوب وجوده- تعالى- لاستناد ما ذكر في الآيات من المخلوقات إليه. وحدوثه بقدرته، ولا يعقل ذلك إلا إذا كان واجب الوجود. فمن نظر إلى ما ترشد إليه هذه الآيات، ونحوها من سنن الله في العالم نظرًا ثاقبًا، وفكر في عجائب خلقها، وحسن تنسيقها، وشدة أسرِها تفكيرًا عميَقَا، وبحث في أحكامها، وبديع صنعها بحثًا بريئَا من الهوى، والحمية الجاهلية، وأنصف مناظره من نفسه، فلم يمنعه من فهم ما عرض عليه من الحق، والإذعان له كبر يرديه، ولا عناد يطغيه، اتضح له طريق الهدى. واضطره ذلك أن يستيقن النتيجة، ويؤمن من أعماق قلبه، بأن للعالم ربّا خلَاقًا فاعلًا مختارًا حكيمًا في تقديره، وتدبيره أحاط بكل شيء علمًا، وهو على كل شيء قدير. ومع قيام الدليل، ووضوح السبيل، تعامى فرعون موسى عن الحق، وتجاهل ما استيقنته نفسه، وأنكر بلسانه ما شهدت به الفطرة، ودل عليه العقل من وجود واجب الوجود، فأقام موسى عليه الحجة، بدلالة الأثر على المؤثر، والصنعة على الصانع، ووجود العالم، وعظم خلقه على وجود الخالق، وعظيم
(1/20)
قدرته، وسعة علمه، وكمال حكمته، فغلبه بحجته. وذلك بيّن واضح فيما حكاه اللهّ عنهما من الحوار، والسؤال، والجواب: قال- تعالى-: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ - قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ - قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ - قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ - قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ - قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ - قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 23 - 29] فانظر كيف وقف موسى موقف من يصدع بالحق، ويقيم عليه البرهان؟ وكيف وقف فرعون من موسى موقف السفهاء، لا يملك إلا الشتم، والسباب، والسخرية، والاستهزاء، والتهديد بأليم العذاب؟!! . وقال- تعالى-: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا - قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 101 - 102]
(1/21)
وقال- تعالى-: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ - وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 13 - 14] وإن فرعون حينما أخذته الحجة، وانتصر عليه موسى، لم يبق بيده سلاح إلا التمويه على قومه، وإنذار موسى، ومن آمن به أن يذلهم، ويذيقهم العذاب الأليم. وأنى له ذلك! والله من ورائهم محيط؟! وقد كتب على نفسه أن يجعل العاقبة للمتقين. وقال- تعالى-: {فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا} [الإسراء: 103] وقد ورث ذلك الزيغ، والإلحاد أناس ظهروا في عصور متعاقبة بأسماء مختلفة، واشتهروا بألقاب متنوعة. فتارة يسمون بالدهريين: وأخرى برجال الحقيقة، ووحدة الوجود. وأحيانًا بالشيوعيين، وأخرى بالوجوديين. (اللقب الجديد) وآونة بالبهائيين. إلى غير ذلك من العبارات التي اختلفت حروفها ومبانيها،
(1/22)
وائتلفت مقاصدها، واتحدت معانيها، فكلها ترمي إلى غرض واحد، وتدور حول محور واحد، هو أنه ليس للعالم رب يخلق ويدبر، وليس له إله يُعبد ويقصد. وبما تقدم من دليل حاجة الممكن إلى موجد، ودليل وجوب وجوده- تعالى- يظهر لك فساد مذهبهم، وخروجه عن مقتضى النظر، وموجب العقل، وما يصدَق ذلك، ويؤيده من أدلة السمع. فإن زعم زاعم منهم بعد ذلك، أن وجود العالم وليد الصدفة والاتفاق. أو أنه نشأت أطواره عن تفاعل بين عناصر المادة، فتفرقت إلى وحدات بعد اجتماع، أو اجتمعت، وائتلفت بعد تفرق، واختلاف. وصار لتلك الوحدات، أو المركبات من الخواص ما لم يكن لها قبل هذا التفاعل، وبذلك تجدّدت الظواهر، وحدث ما نشاهده من تغيير وآثار مع جريانها على سنة لا تتبدل، وناموس لا يختلف، ولا يتغير. قيل له: من الذي أودع تلك المادة طبيعتها، وأكسبها خواصها، فإنها إن كانت لها من ذاتها، ومقتضى حقيقتها لم تقبل
(1/23)
التغير والزوال لأن ما بالذات لا يتخلف ولا يزول، وقد رأيناها تتبدل، فلا بدّ لها من واهب يهبها، وفاعل مختار حكيم عليم يدبّرها، ويضعها في محالّها، وليس ذلك من المادة وحدها، ولا من خواصها، أو طبيعتها القائمة بها، فإنها ليس لها من سعة العلم، وكمال الحكمة، وشمول المشيئة، وعظيم القدرة ما ينتظم معه الكون على ما نشاهد من إحكام تبهر العقول دقَّته وجماله، ومن إبداع يأخذ بمجامع القلوب ما فيه من شدة الأسر، وقوة الربط بين وحداته، وكمال التناسب، والتكافؤ بين أجزائه، وقيام كل من الآخر مقام الخادم من سيده، والراعي من رعيته. ألا إن الطبيعة صمَّاء لا تسمع، بكماء لا تنطق، عمياء لا تبصر، جاهلة لا تعلم، مسخَّرة لمن أودعها المادة، خاضعة لتصريفه وتقديره، سائرة على ما رُسِمَ لها من سُنن لا تعدوها، ونواميس لا تخرج عنها، فأنى يكون لها خلق وإبداع أو إليها تنظيم وتدبير أو منها وحي وتشريع؟! إنَّما ذلك إلى الله وحده، تعالى الله عمَّا يقول الملحدون: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا} [الإنسان: 28] {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 1 - 2]
(1/24)
{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ - ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ - وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك: 3 - 5] ولا يعيب الحق بعد ذلك أن يتنكب طريقه من مسخت فطرته، واتَّخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، وختم على سمعه، وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، ولا يضير الدعاة إلى الحق أن عدل عن طريقه المستقيم من انحرف مزاجه، أو غلبته شهوته، فخشي أن تحدّ الشريعة من نزعاته الخبيثة، وتحول دون وصوله إلى نزواته الدنيئة، أو أطغاه كبره وسلطانه، وخاف أن تذهب الشريعة بزعامته الكاذبة، وسلطانه الجائر، فوقف في سبيلها، ولج في خصامها بغيًا وعدوانًا. فإن الله ناصر دينه، ومؤًيد رسله، وأوليائه. {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]
(1/25)
{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]
(1/26)
[المسألة الرابعة في أنواع التوحيد]
[توحيد الربوبية] المسألة الرابعة في أنواع التوحيد أنواع التوحيد: ثلاثة: 1 - توحيد الربوبية. 2 - توحيد الأسماء والصفات. ويقال له أيضًا: توحيد الخبر، وتوحيد المعرفة والإثبات. 3 - توحيد العبادة ويسمى - أيضًا -: توحيد الإلهية، وتوحيد الإرادة والقصد، وتوحيد الطلب. توحيد الربوبية أما توحيد الربوبية: فهو توحيد الله- تعالى- بأفعاله. والإقرار بأنه خالق كل شيء ومليكه، وإليه يرجع الأمر كله في التصريف والتدبير. فهو الذي يُحيي ويميت، وهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وهو الذي يرسل الرسل، ويشرعّ الشّرائع، ليُحق الحقّ بكلماته، ويُقيم العدل بين عباده شرعًا وقدرًا إلى غير ذلك مما لا
(1/27)
يُحصيه العد، ولا تُحيط به العبارة. وهذا النوع من التوحيد قد أقرت به الفطرة، وقام عليه دليل السمع والعقل، ولم يعرف عن طائفة بعينها القول بوجود خالقين متكافئين في الصفات والأفعال. ومن نقل عنهم من طوائف المشركين نسبة شيء من الآثار والحوادث لغير الله، كقوم هود، حيث قالوا فيما حكاه الله عنهم: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54] فإن ما نسبوه إلى آلهتهم إنما كان لزعمهم أنها وثيقة الصلة باللهّ، وأنها شفيعة لمن عبدها، وتقرب إليها بالقرابين عند الله، في جلب النفع له، ودفع الضرّ عنه. ومن أجل هذه الشائبة من الشرك في الربوبية نبه الله على بطلانه، وأنكر على من زعمه فقال- تعالى-: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ - عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 91 - 92] فبين- سبحانه- أنه لو كان معه إله يشركه في استحقاقه العبادة لكان له: خلق، وملك، وقهر، وتدبير. إذ لا يستحق العبادة إلا من كان كذلك، ليرجى خيره ونفعه، فيطاع أمره،
(1/28)
وينفذ قصده، ويخشى بأسه وبطشه. فلا يعتدى على حدوده، ولا يُنتهك حماه، ولو كان له خلق، وتدبير، وملك، وتقدير لعلا على شريكه، وقهره إن قوي على ذلك ليكون له الأمر وحده، ولذهب بخلقه، وتفرد بملكه دون شريكه. إن لم يكن لديه القوة والجبروت ما يفرض به سلطانه على الجميع. فإن من صفات الرب- تعالى- كمال العلو، والكبرياء، والقهر، والجبروت. وفي معنى هذه الآية قوله- تعالى-: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42] إذا كان المعنى المراد لاتخذوا سبيَلاَ إلى مغالبته. وقيل: المعنى لاتخذوا سبيلا إلى عبادته، وتأليهه، والقيام بواجب حقه. وابتغوا إلى رضاه سبيلا. كما قال- تعالى-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57] وقد استخلص بعض العلماء من ذلك دليلا سموه: دليل التمانع، استدلوا به على توحيد الربوبية. قالوا: لو أمكن أن يكون هناك ربان يخلقان، ويدبران أمر العالم لأمكن أن يختلفا
(1/29)
بأن يريد أحدهما وجود شيء، ويريد الآخر عدمه، أو يريد أحدهما حركة شيء، ويريد الآخر سكونه. وعند ذلك إما أن يحصل مراد كل منهما، وهو محال. لما يلزمه من اجتماع النقيضين، وإما أن يحصل مراد واحد منهما دون الآخر فيكون الذي نفذ مراده هو الرب دون الآخر لعجزه، والعاجز لا يصلح أن يكون ربا. [توحيد الأسماء والصفات] توحيد الأسماء والصفات وأما توحيد الأسماء والصفات: فهو أن يسمى الله ويوصف، بما سمى ووصف به نفسه، أو سماه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف، ولا تأويل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل. ومن تبصر في العالم، وعرف شئونه وأحواله تبين له كمال تعلقه خلقًا وأمرًا بأسماء الله الحسنى، وصفاته العليا، وارتباطه بها أتم ارتباط، وظهر له أن الوجود كله آيات بينات، وشواهد واضحات على أسماء الله، وصفاته. وقد ذكر (ابن القيم) في: " مدارج السالكين " طريقين لِإثبات الصفات:
(1/30)
1 - الوحي الذي جاء من عند الله- تعالى- على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. 2 - الحس الذي شاهد به البصير آثار الصنعة قال- رحمه الله تعالى- في بيان الطريق الأول: فأما الرسالة فإنها جاءت بإثبات الصفات إثباتًا مفصلا على وجه أزال الشبهة، وكشف الغطاء، وحصل العلم اليقين، ورفع الشكّ المريب، فثلجت له الصدور، واطمأنت به القلوب، واستقر به الإيمان في نصابه. ففصلت الرسالة الصفات، والنعوت، والأفعال، أعظم من تفصيل الأمر والنهي، وقررت إثباتها أكمل تقرير. فما أبلغ لفظه وأبعده من الإجمال، والاحتمال، وأمنعه من قبول التأويل، ولذلك كان التأويل لآيات الصفات، وأحاديثها بما يخرجها عن حقائقها من جنس تأويل آيات المعاد، وأخباره. بل أبعد منه. لوجوه كثيرة ذكرتها في كتاب: " الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ". بل تأويل آيات الصفات بما يخرجها عن حقائقها، كتأويل آيات الأمر والنهي سواء، فالباب كله باب واحد، ومصدره واحد، ومقصده واحد، وهو إثبات حقيقتها، والإيمان بها. وكذلك سطا على تأويل آيات المعاد قوم. وقالوا: فعلنا فيها،
(1/31)
كفعل المتكلمين في آيات الصفات، بل نحن أعذر. فإن اشتمال الكتب الإلهية على الصفات، والعلوم، وقيام الأفعال أعظم من نصوص المعاد للأبدان بكثير، فإذا ما ساغ لهم تأويلها، فكيف يحرم علينا نحن تأويل آيات المعاد! وكذلك سطا قوم آخرون على تأويل آيات الأمر، والنهي، وقالوا: فعلنا فيها، كفعل أولئك في آيات الصفات مع كثرتها، وتنوعها، وآيات الأحكام لا تبلغ زيادة على خمسمائة آية. قالوا: وما يظن أنه معارض من العقليات لنصوص الصفات، فعندنا معارض عقلي لنصوص المعاد من جنسه، وأقوى منه. وقال متأولو آيات الأحكام على خلاف حقائقها، وظواهرها، والذي سوغ لنا هذا التأويل القواعد التي اصطلحتموها لنا، وجعلتموها أصلًا نرجع إليه، فلما طردناها كان طردها أن الله ما تكلم بشيء قط، ولا يتكلم، ولا يأمر، ولا ينهى، ولا له صفة تقوم به، ولا يفعل شيئًا. وطرد هذا الأصل لزوم تأويل آيات الأمر، والنهي، والوعد، والوعيد، والثواب، والعقاب، وقد ذكرنا في كتاب الصواعق أن تأويل آيات الصفات، وأخبارها بما يخرجها عن حقائقها هو أصل فساد الدنيا والدين، وزوال الممالك، وتسليط
(1/32)
أعداء الإسلام عليه إنما كان بسبب التأويل. ويعرف هذا من له اطلاع، وخبرة بما جرى في العالم. ولهذا يُحرِّم عقلاء الفلاسفة التأويل مع اعتقادهم بصحته؛ لأنه سبب لفساد العالم، وتعطيل للشرائع. ومن تأمًل كيفية ورود آيات الصفات في القرآن والسنة علم قطعًا بطلان تأويلها بما يخرجها عن حقائقها، فإنها وردت على وجه لا يحتمل التأويل بوجه. فانظر إلى قوله- تعالى-: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] هل يحتمل هذا التقسيم والتنويع تأويل إتيان الرب- جلّ جلاله- بإتيان ملائكته وآياته؟ وهل يبقى مع هذا السياق شبهة أصلا في أنه إتيانه بنفسه! وكذلك قوله- تعالى-: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] إلى أن قال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] ففرق بين الإيحاء العام، والتكليم الخاص، وجعلهما نوعين، ثم أكد فعل التكليم بالمصدر الرافع لتوهم ما يقوله المحرفون. كذلك قوله:
(1/33)
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51] فنوع تكليمه إلى تكليم بواسطة، وتكليم بغير واسطة، وكذلك قوله لموسى عليه السلام: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] ففرق بين الرسالة، والكلام. والرسالة إنما هي بكلامه. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم ترون ربكم عيانا كما ترون القمر ليلة البدر في الصحو ليس بينه سحاب وكما ترون الشمس في الظهيرة صحوًا ليس دونها سحاب» (1) ومعلوم أن هذا البيان، والكشف، والاحتراز ينافي إرادة التأويل قطعًا، ولا يرتاب في هذا من له عقل ودين. الطريق الثاني: من طرق إثبات الصفات دلالة الصفة عليها، فإن المخلوق يدل على وجود خالقه، وعلى حياته، وعلى قدرته، وعلى علمه، ومشيئته. فإن الفعل الاختياري يستلزم ذلك استلزامًا ضروريا. فما فيه من الإِتقان، والإحكام، ووقوعه على أكمل الوجوه يدل على حكمة فاعله وعنايته، وما فيه من _________ (1) "مختصر صحيح مسلم" (86) و" صحيح الجامع الصغير " (6905) عن أبي هريرة- رضي الله عنه-.
(1/34)
الإحسان، والنفع، ووصول المنافع العظيمة إلى المخلوق يدل على رحمة خالقه، وإحسانه، وجوده، وما فيه من آثار الكمال يدل على أن خالقه أكمل منه، فمعطي الكمال أحق بالكمال. وخالق الأسماع، والأبصار، والنطق أحق أن يكون سميعًا بصيرا متكلمًا. وخالق الحياة، والعلوم، والقدر، والإرادات أحق بأن يكون هو كذلك في نفسه، فما في المخلوقات من أنواع التخصيصات هو من أدل شيء على إرادة الرب- سبحانه- ومشيئته، وحكمته التي اقتضت التخصيص، وحصول الإجابة عقيب سؤال الطالب على الوجه المطلوب دليل على علم الرب تعالى بالجزئيات، وعلى سمعه لسؤال عبيده، وعلى قدرته على قضاء حوائجهم، وعلى رأفته ورحمته بهم، والإحسان إلى المطيعين، والتقرب إليهم، والإكرام لهم، وإعلاء درجاتهم يدل على محبته ورضاه. وعقوبته للعصاة، والظلمة، وأعداء رسله بأنواع العقوبات المشهودة تدل على صفة الغضب. والسخط، والإبعاد، والطرد، والإقصاء يدل على المقت، والبغض. فهذه الدلالات من جنس واحد عند التأمل، ولهذا دعا - سبحانه - عباده إلى الاستدلال بذلك على صفاته. فهو يثبت
(1/35)
العلم بربوبيته، ووحدانيته، وصفات كماله بآثار صنعته المشهودة، والقرآن مملوء بذلك، فيظهر شاهد اسم الخالق من المخلوق نفسه، وشاهد اسم الرازق من وجود الرزق، والمرزوق، وشاهد اسم الرحيم من شهود الرحمة المبثوثة في العالم، واسم المعطي من وجود العطاء الذي هو مدرار لا ينقطع لحظة واحدة، واسم الحليم من حلمه على الجناة، والعصاة، وعدم معاجلتهم بالجزاء، واسم الغفور، والتواب من مغفرة الذنوب، وقبول التوبة. ويظهر اسم الحكيم من العلم بما في خلقه، وأمره من الحكم، والمصالح، ووجود المنافع. وهكذا كل اسم من أسمائه الحسنى له شاهد في خلقه وأمره. يعرفه من عرفه، ويجهله من جَهِلَه. فالخلق، والأمر من أعظم شواهد أسمائه وصفاته. وكل سليم العقل، والفطرة يعرف قدر الصانع. وحذقه على غيره، وتفرده بكمال لم يشاركه فيه غيره من مشاهدة صنعته فكيف لا تعرف صفات من هذا العالم العلوي والسفلي، وهذه المخلوقات من بعض صنعه، وإذا اعتبرت المخلوقات، والمأمورات وجدتها بأسرها كلها دالة على النعوت، والصفات، وحقائق الأسماء الحسنى، وعلمت أن المعطلة من أعظم الناس عمى، ومكابرة، ويكفي ظهور شاهد
(1/36)
الصنع فيك خاصة، كما قال- تعالى-: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] فالموجودات بأسرها شواهد صفات الرب- جل جلاله- ونعوته، وأسمائه، هي كلها تشير إلى الأسماء الحسنى، وحقائقها، وتنادي بها وتدل عليها، وتخبر بها بلسان النطق والحال، كما قيل: تأمل سطور الكائنات فإنها ... في الملك الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملتها ... ألا كل شيء ما خلا الله باطل تشير بإثبات الصفات لربها ... فصامتها يهدي ومن هو قائل فلست ترى شيئًا أدل على شيء من دلالة المخلوقات على صفات خالقها، ونعوت كماله، وحقائق أسمائه. وقد تنوعت أدلتها بحسب تنوعها فهي تدل عقلا، وحسا، وفطرة، ونظرًا، واعتبارا. اهـ.
(1/37)
[توحيد الإلهية] توحيد الإلهية وأما توحيد الإِلهية: فهو إفراد الله بالعبادة: قولا، وقصدا، وفعلًا، فلا يُنذر إلا له، ولا تُقرب القرابين إلا إليه، ولا يُدعى في السَراء والضراء إلا إياه، ولا يُستغاث إلا به، ولا يُتوكل إلا عليه، إلى غير ذلك من أنواع العبادة. وهذا النوع هو الذي بعثت به الرسل، وأنزلت به الكتب، وبدأ به كل رسول دعوته، ووقعت فيه الخصومة بينه وبين أمته. وهو الذي من أجله شرع الجهاد، وقامت الحرب على ساقها بين الموحّدين والمشركين. والطريق الفطري لِإثبات توحيد الإلهية الاستدلال عليه بتوحيد الربوبية. فإن قلب الإِنسان يتعلَق أولا بمصدر خلقه، ومنشأ نفعه وضرّه، ثم ينتقل بعد ذلك إلى الوسائل التي تقربه إليه، وترضيه عنه، وتوثق الصلات بينه وبينه، فتوحيد الربوبية باب لتوحيد الإلهية. من أجل ذلك احتجّ الله على المشركين، وقرّرهم وأرشد رسوله إلى هذه الطريقة، وأمره أن يدعو بها قومه، قال- تعالى-:
(1/38)
{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ - قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ - قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84 - 89] فقد استدل بتفرده بالربوبية، وكمال التصرف، وحمايته ما يريد أن يحميه، على استحقاقه وحده للعبادة، ووجوب إفراده بالإلهية قال- تعالى-: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 1] فأخبر بأن البعث آت لا محالة، ونزّه نفسه عما زعمه المشركون من الشركاء، ثم استدل- سبحانه- على قدرته على البعث، وتفرده باستحقاقه الإلهية بآياته الكونية، فقال- تعالى-: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ - وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 4 - 5] إلى قوله- تعالى-: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ - وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ - وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ - وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ - أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 17 - 21]
(1/39)
{إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 22] وقال- تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] إلى أن قال: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] فجعل- سبحانه- تفرده بالربوبية خلقًا للحاضرين والسابقين، وتمهيده الأرض، ورفعه السماء بغير عمد يرونها، وإنزاله الأمطار ليحيي بها الأرض بعد موتها، ويخرج بها رزقًا لعباده بابًا إلى توحيد الإِلهية وآية بيّنة على استحقاقه وحده العبادة. وقال- تعالى-: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} [يونس: 31] إلى أن قال: {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 35] فقررهم- سبحانه- بما لا يسعهم إنكاره، ولا مخلص لهم من الاعتراف به من تفرده بالرزق، والملك، والتدبير، والإِحياء، والإماتة، والبدء، والإعادة، والإرشاد، والهداية ليقيم به عليهم الحجة في وجوب تقواه دون سواه. وينكر عليهم حكمهم الخاطئ، وشركهم الفاضح،
(1/40)
وعكوفهم على من لا يملك لهم ضرا ولا نفعًا، ولا حياة ولا نشورًا. قال- تعالى-: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ - أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 59 - 60] إلى قوله - تعالى-: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64] (1) [سورة النمل، الآيات: 59- 64] . فأنكر- سبحانه- أن يكون معه من خَلَقَ، ودبر، أو صرف، وقدَّر، أو يُجيب المضطرّ إذا دعاه، ويكشف السّوء، أو يولي، أو يعزل، وينصر، ويخذل، أو يُنقذ من الحيرة، ويهدي من _________ (1) وتمامها: (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) .
(1/41)
الضلالة، أو يبدئ ويعيد، ويبسط الرزق لمن يشاء، ويَقْدِر. إلى غير ذلك مما استأثر الله به. وهذا مما استقرّ في فطرتهم، ونطقت به ألسنتهم، وبه قامت الحجة عليهم فيما دعتهم إليه الرسل من توحيد العبادة. وما ذكر من الآيات قليل من كثير. ومن سلك طريق القرآن في الاستدلال، واهتدى بهدي الأنبياء في الحجاج اطمأنت نفسه، وقوي يقينه، وخصم مناظره (أي انتصر عليه) . فإن في ذلك الحجة، والبرهان من جهتين: الأولى: أنه خبر المعصوم. والثانية: أنه موجب الفطرة، ومقتضى العقل الصحيح.
(1/42)
[المسألة الخامسة في الفرق بين النبي والرسول وبيان النسبة بينهما]
المسألة الخامسة في الفرق بين النبي والرسول وبيان النسبة بينهما النبي: مشتق من النبأ، بمعنى: الخبر، فإن كان المراد أنه يخبر أمته بما أوحى الله إليه، فهو فعيل، بمعنى: فاعل، وإن كان المراد أن الله يخبره بما يوحي إليه، فهو فعيل، بمعنى: مفعول، ويصح أن يكون مأخوذًا من النًبء (بالهمزة وسكون الباء) ، أو النبوة، أو النباوة (بالواو) ، وكلها بمعنى: الارتفاع والظهور، وذلك لرفعة قدر النبي، وظهور شأنه، وعلوَ منزلته. والفرق بين النبي والرسول: أن الرسول من بعثه الله إلى قوم، وأنزل عليه كتابًا، أو لم ينزل عليه كتابًا لكن أوحى إليه بحكم لم يكن في شريعة من قبله؛ والنبي من أمره الله أن يدعو إلى شريعة سابقة دون أن ينزل عليه كتابًا، أو يوحي إليه بحكم جديد ناسخ أو غير ناسخ، وعلى ذلك، فكل رسول نبي، ولا عكس، وقيل: هما مترادفان، والأول أصح.
(1/43)
[المسألة السادسة في إمكان الوحي والرسالة]
المسألة السادسة في إمكان الوحي والرسالة الوحي لغة: الإعلام في خفاء بإشارة، أو كتابة، أو إلهام، أو مناجاة، أو نحو ذلك. وشرعًا: هو إعلام الله نبيه بحكم شرعي، ونحوه، بواسطة، أو بغير واسطة. ولا يبعد في نظر العقل، ولا يستحيل في تقدير الفكر، أن يختص واهب النعم، ومفيض الخير بعض عباده: بسعة في الفكر، ورحابة في الصدر، وكمال صبر، وحسن قيادة، وسلامة في الأخلاق، ليعدّهم بذلك لتحمّل أعباء الرسالة، ويكشف لهم عما أخفاه عن غيرهم، ويوحي إليهم بما فيه سعادة الخلق، وصلاح الكون، رحمةً للعالمين، وإعذارًا إلى الكافرين، وإقامة للحجة على الناس أجمعين، فإنه- سبحانه- بيده ملكوت كل شيء، وهو الفاعلِ المختار، لا مانع لما أعطى، ولا مُعطي لما منع، ولا رادّ لما قَضى، وهو على كل شيء قدير. وآية ذلك أنًا نشاهد أن الله- سبحانه- خلق عباده على
(1/44)
طرائق شتى في أفكارهم، ومذاهب متباينة في مداركهم، فمنهم من سما عقله، واتسعت مداركه، واطلع من الكون على كثير من أسراره، حتى وصل به ثاقب فكره، وانتهت به تجاربه إلى أن اخترع للناس ما رفع أولو الألباب من أجله رءوسهم إليه، إعجابًا به، وشهادة له بالمهارة، وأنكره عليه صغار العقول حتى عدوه شعوذة، وكهانةً، أو ضربًا من ضروب السحر، ولا يزالون كذلك حتى يستبين لهم بعد طول العهد، ومرّ الأزمان ما كان قد خفي عليهم، فيذعنوا له، ويوقنوا بما كانوا به يكذّبون، ومنهم من ضعف عقله، وضاقت مداركه، فعميت عليه الحقائق، واشتبه عليه الواضح، فأنكر البدهيات، وردّ الآيات البينات، بل منهم من انتهى به انحراف مزاجه، واضطره تفكيره، إلى أن أنكر ما تدركه الحواس كطوائف السونسطائية (1) . _________ (1) السونسطائية ثلاث فرق الأولى: العنادية وهي التي تنكر حقائق الأشياء الحسية، والعقلية، وتكذب حواسها، وعقلها فيما تشاهد. أو تدرك وتراه وهمًا وخيالَاَ. الثانية: اللاأدرية: وهي التي تشك في حقائق الأشياء، وتتردد فيها فتقول: لا أدري، ألها وجود أم لا؟ الثالثة: العندية: وهي التي ترى أن ليس للأشياء حقيقة ثابتة في نفسها، بل تتبع إدراك، من أدركها وعقيدة من خطرت بباله، وهذه المذاهب باطلة بضرورة الحس، والعقل. والقائلون بها قد سقطوا عن رتبة البحث والمناظرة.
(1/45)
وكما ثبت ذلك التفاوت بين الناس في العقول بضرورة النظر، وبديهة العقل، ثبت التفاوت بينهم- أيضًا- في قوة الأبدان وضعفها، وسعة الأرزاق وضيقها، ونيل المناصب العالية، والاستيلاء على زمام الأمور، وقيادة الشعب، والحرمان من ذلك، إما للعجز أو القصور، ليتخذ بعضهم بعضًا سخريا. وإما لحكمة أخرى يعلمها مدبّر الكائنات؛ وربما كشف عن كثير منها الغطاء لمن تدبر القرآن، وعرف سيرة الأنبياء، وتاريخ الأمم، ومما جرى عليها من أحداث. فمن شاهد ما مضت به سنة الله في عباده من التفاوت بينهم في مداركهم، وقواهم، وإرادتهم، وغير ذلك من أحوالهم، لم يسعه إلا أن يستسلم للأمر الواقع، ويستيقن بأن لله أن ينبئ من يشاء من خلقه، ويصطفي من أراد من عباده. {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]
(1/46)
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68] {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ - أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 31 - 32] إن الحوار الذي دار بين الرسل وأممهم يدل على أنهم لم يكونوا ينكرون الرسالة، ولم يكونوا يستبعدون حاجتهم إلى هداية من الله عن طريق روح طيبة يختارها الله لوحيه، أو نفس طاهرة يصطفيها لتبليغ شرعه، لكنهم استبعدوا أن يكون ذلك الرسول من البشر، وظنوا خطأ أنه إنما يكون من الملائكة، زعمًا منهم أن البشرية تنافي الرسالة، فمهما صفت روح الإنسان، وسمت نفسه، واتَسعت مداركه، فهو في نظرهم أقل من أن يكون أهلا لأن يُوحي الله إليه، وأحقر من أن يختاره اللهّ لتحمُل أعباء رسالته. ومن نظر في الكتب المُنزلة، وتصفَح ما رواه علماء الأخبار، اتضح له ما ذكر من إمكان الوحي، وحاجة الناس إليه.
(1/47)
قال الله- تعالى-: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ - أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ - فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 25 - 27] وقال- تعالى-: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ - فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ - أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [القمر: 23 - 25] وقال- تعالى-: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ - إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ - قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [يس: 13 - 15] وقال- تعالى-: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام: 91]
(1/48)
وقال- تعالى-: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ - قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [إبراهيم: 10 - 11] وقال- تعالى-: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ - لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ - قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنبياء: 2 - 4] إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أن إنكار الأمم لم يكن لأصل الرسالة ولا لحاجتهم إليها، إنما كان لبعث رسول من جنسهم. ولو قال قائل: إن أئمة الكفر، وزعماء الضلالة كانوا يوقنون بإمكان أن يرسل الله رسولا من البشر غير أنهم جحدوا ذلك بألسنتهم حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم
(1/49)
الحق، وتمويهًا على الطغام من الناس، وخداعًا لضعفاء العقول، وتلبيسًا عليهم خشية أن يسارعوا إلى مقتضى الفطرة، ويستجيبوا لداعي الدين، ومتابعة المرسلين، لو قال قائل ذلك ما كان بعيدًا عن الحقيقة، ولا مجافيًا للصواب! بل بدت منهم البوادر التي تؤيد ذلك، وتصدقه وسبق إلى لسانهم ما يرشد البصير إلى ما انطوت عليه نفوسهم من الحسد والاستكبار أن يؤتَى الرسل ما أوتوا دونهم، وينالوا من الفضيلة، وقيادة الأمم إلى الإصلاح ما لم ينل هؤلاء. قال الله- تعالى-: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] وقال- تعالى-: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] وقالَ- تعالى-: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ - أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ - فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف: 51 - 53]
(1/50)
وليس بدعًا أن يختار الله نبيا من البشر، أو يبعث في الناس رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته، ويزكّيهم، ويعلّمهم الكتاب والحكمة، بل ذلك هو مقتضى الحكمة، وموجب العقل، فإن الله- سبحانه- قد مضت سنَّته في خلقه بأن يكونوا أنواعًا مختلفة على طرائق شتى، وطبائع متباينة، لكل نوع غرائزه وميوله، أو خواصه ومميزاته التي تقضي بالأنس، والتآلف بين أفراده، وتساعد على التفاهم والتعاون بين الجماعات، ليقوم الوجود، وينتظم الكون، فكان اختيار الرسول من الأمة أقرب إلى أخذها عنه، وأدعى إلى فهمها منه، وتعاونها معه، لمزيد التناسب، ولمكان الإلف بين أفراد النوع الواحد. ولو كان عُمار الأرض من الملائكة لاقتضت الحكمة أن يبعث الله إِليهم مَلَكًا رسولا، وقد أرشد الله إلى ذلك في ردّه على من استنكر أن يرسل إلى البشر رسولا منهم، قال الله- تعالى-: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا - قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء: 94 - 95] ولكن شاء الله أن يكون الخليفة في الأرض من البشر،
(1/51)
فاقتضت حكمته أن يكون رسوله إليهم من جنسهم، بل اقتضت حكمته ما هو أخص من ذلك، وأقرب إلى الوصول للغاية، وتحصيل المقصود من الرّسالة، فكتب على نفسه أن يُرسل كل رسول بلسان قومه. قال- تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم: 4] ولو قدّر أن الله أجاب الكفار على ما اقترحوا من إرسال مَلَكٍ إليهم لأرسل- سبحانه- الملك في صورة رجل، ليتمكَنوا من أخذ التشريع عنه، والاقتداء به فيما يأتي ويذر، ويخوض معهم ميادين الحجاج والجهاد، وبذلك يعود الأمر سيرته الأولى، كما لو أرسل- سبحانه- رسولا من البشر، ويقعون في لَبْس وحيرة، جزاء وِفاقًا. قال- تعالى-: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ - وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 8 - 9] ومن نظر في آيات القرآن، وعرف تاريخ الأمم، تبين له أن سنَة الله في عباده أن يرسل إليهم رُسُلا من أنفسهم.
(1/52)
قال- تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ - بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 43 - 44] وقال- تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20]
(1/53)
[المسألة السابعة في حاجة البشر إلى الرسالة]
المسألة السابعة في حاجة البشر إلى الرسالة الأفعال الاختيارية: منها ما تُحمد عقباه فيجمل بالعاقل فعله، والحرص عليه، ولو ناله في سبيل تحصيله حرج ومشقَّة، وأصابه في عاجل أمره كثير من الآلام. ومنها ما تسوء مغبته، فيجدر بالعاقل أن يتماسك دونه، وأن يتنكب طريقه، خشية شره، وطلبًا للسّلامة من ضُرّه، وإن كان فيه ما فيه من الملذات العاجلة التي تغري الإنسان بفعله، أو تخدعه عما فيه سلامة نفسه. غير أن عقله قد يقصر في كثير من شئونه، عن التمييز بين حَسَن الأفعال وقبيحها، ونافعها وضارها، فلا بدّ من معينٍ يساعده على ما قصر عنه إِدراكه، وقد يعجز عن العلم بما يجب عليه علمه، لأنه ليس في محيط عقله، ولا دائرة فكره، مع ما في علمه به من صلاحه وسعادته، وذلك: كمعرفته بالله، واليوم الآخر، والملائكة تفصيلا، فكان في ضرورة إلى من يهديه الطريق في أصول دينه، وقد يتردد في أمر إما لعارض هوى
(1/54)
وشهوة، أو لتزاحم الدواعي واختلافها، فيحتاج إلى من ينقذه من الحيرة، ويكشف له حجاب الضلالة بنور الهداية، فبان بذلك حاجة الناس إلى رسول يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويكمّلهم بمعرفة ما قصرت عنه أفهامهم، ويوقفهم على حقيقة ما عجزوا عنه، ويدفع عنهم الألم والحيرة، ومضرة الشكوك. أضف إلى ذلك أن تفاوت العقول والمدارك، وتباين الأفكار، واختلاف الأغراض، والمنازع، ينشأ عنه تضارب الآراء، وتناقض المذاهب، وذلك يفضي إلى سفك الدماء، ونهب الأموال، والاعتداء على الأعراض، وانتهاك الحرمات، وبالجملة ينتهي إلى تخريب، وتدمير لا إلى تنظيم، وحسن تدبير، ولا يرتفع ذلك إلا برسول يأتي بفصل الخطاب، ويقيم الحجة، ويوضّح المحجّة، فاقتضت حكمة الله أن يُرسل رسله رحمة بعباده، وإقامة للعدل بينهم، وتبصيرًا لما يجب عليهم من حقوق خالقهم، وإعانة لهم على أنفسهم، وإعذارًا إليهم، فإنه لا أحد أحبّ إليه العذر من الله. من أجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب. فقد ثبت أن " سعد بن عبادة " قال: «لو رأيت رجلًا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح (أي بحده لا صفحته) ؛
(1/55)
فبلغ ذلك رسول اللهّ، صلى الله عليه وسلم، فقال: "تعجبون من غيرة سعد لأنا أغْيَرُ منه والله أغْير مني ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين ولا أحد أحبّ إليه المدح من الله، ومن أجل ذلك وعد الله بالجنة» . رواه البخاري. ومما تقَدم يعلم أن إرسال الله الرسل مما يدخل في عموم قدرته- تعالى- وتقتضيه حكمتُه، فضلًا منه، ورحمة، والله عليم حكيم، وهذا هو القول الوسط، والمذهب الحق. وقد أفرط المعتزلة فقالوا: إن بعثة الرسل واجبة على اللهّ - تعالى- إبانة للحقّ، وإقامة للعدل، ورعاية للأصلح، وهذا مبنيّ على ما ذهبوا إليه من القول بالتحسين والتقبيح العقليين، وهو أصل فاسد. وتطرّف البراهمة (1) فأحالوا أن يصطفي الله نبيًّا، ويبعث _________ (1) البراهمة: قيل: إنهم جماعة من حكماء الهند تبعوا فيلسوفًا يسمى برهام فنسبوا إليه، وقيل: إنهم طائفة عبدت صنمًا يسمى (برهم) فنسبت إليه، والقصد بيان مذهبهم في الرسالة. والرد عليه بما يدفع شبهتهم، مع أن بعضهم قد اعترف برسالة آدم. وآخرين منهم اعترفوا برسالة إبراهيم، - عليهما السلام-.
(1/56)
من عباده رسولا، وزعموا أن إرسالهم عبث، إما لعدم الحاجة إليهم اعتمادًا على العقل في التمييز بين المفاسد والمصالح، واكتفاءً بإدراكه ما يحتاج إليه العباد في المعاش والمعاد، وإما لاستغناء الله عن عباده، وعدم حاجته إلى أعمالهم، خيرًا كانت أم شرًّا، إذ هو- سبحانه- لا ينتفع بطاعتهم، ولا يتضررُ بمعصيتهم، وقد سبق بيان عدم كفاية العقل في إدراك المصالح والمفاسد. وحاجة العالم إلى الرسالة مع غنى الله عن أعمال الخلق، فليس إرسالهم عبثا بل هو مقتضى الحكمة.
(1/57)
[المسألة الثامنة في المعجزة الفرق بينها وبين السحر]
المسألة الثامنة في المعجزة. الفرق بينها وبين السحر كل ما لم تبلغه طاقة البشر، ولم يقع في دائرة قدرتهم، فهو معجزة، وقد تُطلق المعجزة على ما خرج عن طاقة العامة من الخلق دون الخاصّة، كبعض المسائل العلمية، واختراع بعض الآلات، والأجهزة الحديثة، وغيرها مما لا يقوى عليه إلّا خواص الناس، وكالغوص، والسباحة، وحمل الأثقال، وهذا عجز نسبي يكون في مخلوق دون آخر. وأما المراد من المعجزة هنا (أي في علم التوحيد) : فهي الأمر الخارق للعادة الخارج عن سنة الله في خلقه، الذي يظهره الله على يد مُدّعي النبوة تصديقًا له في دعواه، وتأييدًا له في رسالته، مقرونًا بالتحدّي لأمته، ومطالبتهم أن يأتوا بمثله، فإذا عجزوا كان ذلك آية من الله- تعالى- على اختياره إيّاه، وإرساله إليهم بشريعته. أما السحر: فهو في اللغة كل ما دق، ولطف، وخفي
(1/58)
سببه، فيشمل قوة البيان، وفصاحة اللسان، لما في ذلك من لطف العبارة، ودقَة المسلك، ويشمل النميمة لما فيها من خفاء أمر النَّمام، وتلطفه في خداع من نم بينهما ليتم له ما يُريد من الوقيعة، ويشمل العزائم والعُقَد التي يعقدها الساحر، وينفث فيها مستعينا بالأرواح الخبيثة من الجن، فيصل بذلك في زعمه إلى ما يريد من الأحداث والمكاسب. وبذلك يتبين الفرق بين المعجزة والسحر: 1 - فالمعجزة ليست من عمل النبي، وكسبه. إنما هي خلق محض من الله- تعالى- على خلاف سنته في الكائنات. وأما السحر: فمن عمل الساحر، وكسبه سواء أكان تعويذات، أم بيانا، أم نميمة، أم غير ذلك، وله أسبابه ووسائله التي قد تنتهي بمن عرفها ومهر فيها، واستعملها إلى مسبباتها، فليس خارقا للعادة، ولا مخالفًا لنظام الكون في ربط الأسباب بمسبباتها، والوسائل بمقاصدها. 2 - والمعجزة: تظهر على يد مدعي النبوة لتكون آية على صدقه في رسالته التي بها هداية الناس من الضلالة، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، والأخذ بأيديهم إلى ما ينفعهم في عقائدهم، وأخلاقهم، وأبدانهم، وأموالهم.
(1/59)
أما السحر: فهو خلق ذميم، أو خرافة، أو صناعة يموه بها الساحر على الناس، ويضللهم، ويخدعهم بها عن أنفسهم، وما ملكت أيديهم، ويتخذها وسيلة لكسب العيش من غير حله، ويفرق بها بين المرء وزوجه، والصديق وصديقه، وبالجملة يفسد بها أحوال الأمة بخفاء، والناس عنه غافلون. 3 - سيرة من ظهرت على يده المعجزة حميدة. وعاقبته مأمونة، فهو صريح في القول والفعل، صادق اللهجة، حسن العشرة، سخي، كريم، عفيف عما في أيدي الناس، يدعو إلى الحق، وينافح دونه بقوة وشجاعة. أما الساحر: فسيرته ذميمة، ومغبته وخيمة، خائن خداع سيئ العشرة، يأخذ ولا يُعطي، يدعو إلى الباطل، ويسعى جهده في ستره، خشية أن يفتضح أمره، وينكشف سره، فلا يتم له ما أراد من الشرّ والفساد. 4 - من ظهرت على يده المعجزة يقود الأمم والشعوب إلى الوحدة والسعادة، ويهديها طريق الخير، وعلى يده يسود الأمن والسلام، وتفتح البلاد، ويكون العمران. أما الساحر: فهو آفة الوحدة، ونذير الفرقة، والتخريب والفوضى، والاضطراب.
(1/60)
[المسألة التاسعة في أنواع المعجزة]
المسألة التاسعة في أنواع المعجزة إن آيات المعجزات التي أيد الله بها رسله قد اختلفت أنواعها، وتباينت مظاهرها وأشكالها، إلا أنها تجتمع في أن كلا منها قد عجز البشر عن أن يأتوا بمثله، منفردين أو مجتمعين، فكانت بذلك شاهد صدق على الرّسالة، وحجًة قاطعة تخرس الألسنة، وينقطع عندها الخصوم، ويجب لها التّسليم والقبول. ويغلب أن تكون معجزة كل رسول مناسبة لما انتشر في عصره، وبرز فيه قومه، وعُرفوا بالمهارة فيه، ليكون ذلك أدعى لفهمها، وأعظم لدلالتها على المطلوب، وأمكن في الالتزام بمقتضاها، ففي عهد موسى، عليه السلام، انتشر السحر، ومهر فيه قومه، حتى أثروا به على النفوس، وسحروا به أعينَ الناظرين، وأوجس في نفسه خيفة منه من شهده، وإن كان عالي الهمّة، قوي العزيمة، فكان ما آتاه اللهّ نبيه موسى فوق ما تبلغه القوى والقدر، وما لا يدرك بالأسباب والوسائل، وقد أوضح الله
(1/61)
ذلك في كثير من الآيات، منها قوله- تعالى-: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى - قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى - قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى - فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى - قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى - وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى - لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} [طه: 17 - 23] ولهذا بُهت السحرة، وبطل ما جاءوا به من التمويه والتضليل، وامتاز الحق عن الباطل. قال- تعالى-: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ - قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ - رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 120 - 122] وفي عهد المسيح عيسى ابن مريم، عليه السلام، برع بنو إسرائيل في الطب فكان مما آتاه الله أن يصوّر من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه، فيكون طيرًا بإذن الله، وإبراءُ الأكمه والأبرص بإذن الله، وإحياء الموتى بإذن الله، إلى غير ذلك من الآيات التي ثبتت بها رسالته، وقامت بها الحجة على قومه. وفي عهد محمد، صلى الله عليه وسلم، كان العرب قد بلغوا الغاية في فصاحة اللسان، وقوة البيان، وجرت الحكمة على ألسنتهم حتى
(1/62)
اتخذوا ذلك ميدانًا للسباق والمباراة، فأنزل الله القرآن على رسوله محمد، صلى الله عليه وسلم، فكانت بلاغته، وبيانه، وما تضمنه من الحِكم والأمثال جانبًا من جوانب إعجازه، قال، صلى الله عليه وسلم: «ما من الأنبياء نبي إلا وقد أعطيَ من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وَحْيًا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة» (1) . وليست معجزات موسى، وعيسى، ومحمد، عليهم السلام، مقصورة على ما ذُكِرَ، وإنما ذلك بيان لما تحدى به كل منهم قومه، وجعله قاعدة يَبْني عليها دعوته، وتثبت بها رسالته، وإلا فلهؤلاء وغيرهم من الأنبياء كثير من الآيات البيّنات، والعلامات الواضحات التي دلّت على صدقه سوى ما تحدّى به كل نبي قومه. ومنها ما يرجع إلى سيرتهم قبل الرسالة، فإن الله - تعالى- قد أعدّهم لتحمل أعباء رسالته، ومنها ما يرجع إلى ثبات جأشهم، وقوة بأسهم في مقام الدعوة، والجهاد في سبيل نصرتها، ونشرها بنفسه، وبمن آمن معه، وما أقلهم عددًا، _________ (1) "مختصر صحيح مسلم " (19) عن أبي هريرة- رضي الله عنه-.
(1/63)
وأضعفهم شوكة، مع غنى عدوهم، وكثرة عَدَدهم، وعُددهم، وقوة سلطانهم، إلى غير ذلك ممَا يدل على صدق الدّاعي في دعوته، وكمال يقينه بها. ومنها: ما يرجع إلى سلامة الشريعة التي يدعون إليها، وحكمتهم في حمل الناس عليها، وقوة حجاجهم في الدفاع عنها، وما شوهد من آثارها في صلاح من اهتدى بها من الأمم في الدولة، والسياسة، والاجتماع، والاقتصاد، والحرب، والسلم، وغير ذلك من أحوال الشعوب، حتى إذا حرّفوها عن مواضعها، فأولوها على غير وجهها، أو أعرضوا عنها، وتركوا العمل بها دالت دولتهم، وساءت حالتهم، فإن العاقبة للمتقين، والخيبة والخزي على المفسدين. ومنها ما يرجع إلى آيات حسية أكرم بها رسله، ومن آمن بهم من: تفريج كربة، وإزالة شدّة، أو خوارق عادات طلبتها الأمة بغيًا وعنادًا، فأجيبت إليها دفعًا للحرج عن الرسل، وزيادة في التثبيت لهم، والإِعذار إلى من كفر بهم. ومنها: ما يرجع إلى تعليم الصناعات، وتيسير طرقها: كإسالة عين القطر، وإلانة الحديد لداود، عليه السلام، على خلاف سنة الكون، ليكون ذلك آية له وكرامة، وليكون سعة
(1/64)
للعباد ورحمة لهم، إلى غير ذلك مما لا يحصيه إلا الله. [قصة يوسف عليه السلام] وإليك أمثلة من قصص الأنبياء في القرآن ترشدك إلى كثير مما ذكرت، وتبين لك سنة الله - تعالى- الماضيةَ في إعداده الأنبياء لتحمل أعباء الرسالة، وحكمته البالغة في تأييده إياهم بالمعجزات الباهرات، لتقوم بها الحجة على أممهم، إعذارًا إليهم، ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وكان عزيزا حكيمًا. فمن ذلك: قصة يوسف عليه الصلاة والسلام: إن هذه القصة فيها كثير من العجائب، والعبر، والعظات، والأحكام، والأخلاق، وألوان الامتحان، والابتلاء، والفضل، والإحسان، والذي أقصد إليه من مباحثها هنا أمرين لمزيد اتصالهما بالموضوع: الأول: كيف كانت هذه القصة معجزة لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم. الثاني: كيف كانت دليلا على أن الله يعدّ رسله في حياتهم الأولى قبل الرسالة لتحمّل أعبائها حين إرسالهم إلى أممهم. أما الأول: فإنه- تعالى- ذكر قصة يوسف، عليه الصلاة
(1/65)
والسلام، في القرآن مفصّلة لتكون بجملتها آية بل آيات على نبوة رسوله محمد، عليه الصلاة والسلام. وبيان ذلك أنهَّ كان أميًّا لم يقرأ شيئًا من كتب الأولين، ولا درس شيئًا من تاريخهم، ولا خطّ من ذلك شيئًا بيمينه حتى يُرتاب في أمره، ويُتَهم بأنه تكلم بما قرأ أو درس. قال- تعالى-: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] بل كان من الغافلين عن قصة يوسف وأمثالها، لم تخطر له ببال، ولم تقرع له سمعًا قبل أن يُوحي الله بها إليه، ويذكرها له في محكم كتابه. قال- تعالى- في مطلع سورة يوسف: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ - إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ - نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 1 - 3] وقال بعد ذكر يوسف لرؤياه، وعرضها على أبيه، ووصية أبيه له: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [يوسف: 7]
(1/66)
ولم تكن قصة يوسف بالأمر الذي اشتهر في العرب، وتناولوه بالحديث فيما بينهم، بل كانت غيبًا بالنسبة إليهم، ولا كان محمد مع يوسف وإخوته، ولا شهد مكرهم به، ولا كيدهم له، فيتهم بأنه تكلم بأمر شهده، أو انتشر بين قومه. قال- تعالى- لنبيه محمد في ختام قصة يوسف، عليهما الصلاة والسلام: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف: 102] ولا يسع أحد أن يقول: إنه عرف تفاصيل القصة من اليهود، فإن السورة مكية، واليهود كانوا يعيشون بالشام والمدينة وما حولها، ولم يعرف عنه أنَه اتَصل بهم قبل الهجرة، ولا دارسهم شيئا من العلوم، ولو كان تم شيء من ذلك لانكشف أمره لطول العهد، وكثرة الخصوم، وحرج قومه من دعوته، وسعيهم جهدهم في الكيد له، والصدّ عنه، وحرصهم على تشويه سمعته، والقضاء عليه وعلى دعوته، حتى رموه بالسحر، والكهانة، والجنون، واتهموه زورًا بالكذب، وهو في قرارة أنفسهم الصادق الأمين، وتبادلوا الرأي فيما يوقعونه به من حبسه، أو طرده من بينهم، وتشريده، وانتهى أمرهم بالاتفاق
(1/67)
على قتله، فأنجاه الله من كيدهم، وكتب له الهجرة إلى المدينة حيث عزَ الإسلام، وقامت دولته. قال- تعالى-: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] فقوم هذا شأنهم معه لا يخفى عليهم أمرِه، وهو يعيش بين أظهرهم، وهم له بالمرصاد، فلو وجدوا سبيلا إلى الطعن عليه باتصاله باليهود، والأخذ عنهم لسارعوا إلى فضيحته، والتشنيع عليه بذلك، ولم يضطروا إلى الافتراء عليه، ولا إلى التفكير في قتله أو تشريده، ولا إلى نشوب الحرب بينه وبينهم سنين طويلة، ولم يلجأوا إلى اتهامه تهمة تحمل ردها في طيها، فقد اتهموه برجل أعجمي بمكة، وادعوا أنه يعلّمه، فسفَه الله أحلامهم وألقمَهُم الحجر. قال- تعالى-: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] وليست قصة يوسف خبرًا مقتضبًا عبًر عنه بالجملة أو الجملتين، فيقال: إن صدقه في الحديث عنها وليد الصدفة
(1/68)
والاتفاق، بل هي قصة كثيرة العجائب، متشعبة الموضوعات، وقعت بين أطراف مختلفة في أزمان متباعدة، فمن رؤيا صادقة، إلى مؤامرة، ثم نجاة، يتبعها بيع، ثم إيواء، إلى مراودة، يتبعها هم، ثم عصمة من الفحشاء، إلى سجن فيه دعوة إلى التوحيد، مع رفق وحُسْن سياسة، وتأويل للرؤيا أصدق تأويل، يتبع ذلك خروجه عليه السلام، من السجن بريئًا من التهمة، وتولًيه شئون الدولة، واجتماع إخوته به، مع معرفته لهم، وإنكارهم إياه، وما أكثر ما دار بينه وبينهم من الأحاديث وما جرى من الأحداث، إلى أن انتهى ذلك بتعريفه لهم بنفسه، وعفوه عنهم، وحضور أبيه إليه على خير حال، إلى غير ذلك من التفاصيل التي يعرفها البصير بكتاب اللهّ. وقد سيقت القصة مفصلة في جميع نواحيها، مستوفاة في جميع فصولها، في أدق عبارة، وأحكم أسلوب، أفيعقل بعد ذلك أن يًقال: إن صدقه، عليه الصلاة والسلام، فيما سرده من قضاياها، ووقائعها، وعجائبها على هذا النهج الواضح، والطريق السوي وليدُ الصدفة والاتفاق؟! ختم- سبحانه- سورة يوسف بمثل ما بدأها به من الإرشاد إِجمالًا إلى القصد الذي من أجله سيقت القصة، وهو أن تكون
(1/69)
آية على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصدقه فيما جاء به من التشريع، وأن قصة يوسف، ونحوها مما نزل به الوحي مستقى من المشكاة التي أخذ منها الأنبياء، فليس حديثًا مفترى، ولكنه تصديق لما بين يديه من كتب المرسلين، وتفصيل لما يحتاج إليه المكلفون من التشريع في معاشهم ومعادهم، وجماع الهداية والرحمة لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد. أفيمكن أن تكون هذه القيادة الرشيدة بهذا التشريع المستقيم من إنسان أميّ عاش في أمة أمية من عند نفسه دون وحي من الله!؟ كلا إنَها العناية الربانيَّة، والرسالة الحقّة، والوحي الصادق المبين، نزل به الروح الأمين، على قلب محمد، صلى الله عليه وسلم، ليكون رحمة للعالمين. {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] أما الثاني: فإن في تفاصيل قصة يوسف، عليه الصلاة والسلام، كثيرًا من الأسرار، والعجائب التي يعد بها الله رسله، ويهيئ بها أنبياءه لقيادة الأمم، من أخلاق سامية، وآداب عالية،
(1/70)
وحكمة بالغة، وقرة عزيمة، وعقائد صحيحة، ويتبَينّ ذلك بوجوه كثيرة: الأول: صفاء روح يوسف، ونقاء سريرته، وهذا واضح من الرؤيا الصادقة التي رآها في صغر سنة، وأول نشأته، فتحقق تأويلها بسجود أبويه وإخوته له في كبر سنه، وختام. حياته. قال- تعالى-: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] وقال: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف: 100] الثاني: ما خصَّهُ الله به من المميزات التي زادت تعلق والده به، وحملت إخوته على التآمر عليه، والكيد له، فأشار بعضهم بقتله ليخلو لهم وجه أبيهم، وتطيب لهم الحياة، ورأى آخرون أن في إبعاده عن والده الكفاية، فلما أجمعوا أمرهم على ذلك، ورموه في غيابة الجبّ أوحى الله إليه: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [يوسف: 15] إيناسًا له، وإزاحة للغمة عن نفسه، وهيأ له من أخرجه من البئر لكنهم باعوه بثمن
(1/71)
بخس دراهم معدودة، فرعاه الله، وجعله عند من يكرم مثواه، ومكَن له في الأرض، وعلمه من تأويل الأحاديث، والله غالب على أمره، ولكنَ أكثر الناس لا يعلمون. وبعد أن مكَّن الله له، واجتمع بإخوته لم ينتقم لنفسه، بل صَفَحَ عن الزَلَّة، وعفا عند القدرة، ونبأهم بما سبق من سوء صنيعهم معه في الصًغر. {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ - قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ - قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ - قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 89 - 92] الثالث: عفَة فرجه، ونزاهة نفسه، مع توافر دواعي الشهوة، وتهيئ أسباب الجريمة، من دوام الخلوة، ومزيد الخلطة، والدعوة إلى الفاحشة، وحياته معها في بيتها، وأخذها الحيطة في إغلاق الأبواب. لقد كان يوسف من المخلصين لله، فاستعاذ به، واستقبح أن يقابل جميل من أحسن مثواه بخيانته في عرضه. وذكر ما يصيب الظالمين في العواقب من الخسار أو الدمار،
(1/72)
وبذلك صرف الله عنه السوء والفحشاء، وأظهر براءته. {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف: 29] ثم اشتدّ بامرأة العزيز الأمر، فأنذرت يوسف بالسجن والعذاب، أو يفعل ما تأمره به. فقال: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33] الرابع: أنه لم يشغله ما أصيب به من تتابع البلاء عن ربه ودينه، والدعوة إلى ما ورثه من التوحيد الخالص عن آبائه: إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، عليهم السلام، فانتهز حاجة من معه في السجن إليه في تأويل ما رأياه في التعريف بنفسه، فبدأ ببيان مكانته، والحديث عن نفسه، ليُقْبَل منه قوله، ونصح لهما في التوحيد وزيَّنه، وحذرهما من الشرك وقبحه، وأقام على ذلك الحجة، كل ذلك قبل تأويل الرؤيا، ليكون أدعى إلى الإصغاء والقبول، وأبعد عن الإعراض عنه، وقد أطال في ذلك، ثم ختم بتأويل الرؤيا لهما في آية قصيرة. الخامس: أن يوسف أراد أن يأخذ بأسباب الخلاص من
(1/73)
السجن، فقال للذي ظَنَ أنًه ناج من صاحبيه في السجن: اذكرني عند ربّك. فأدَّبه الله ببقائه في السجن بضع سنين، ليعلق قلبه بربِّه دون غيره، ويتم له صدق التوكّل عليه وحده - سبحانه- دون سواه. السادس: أنه- سبحانه- شاء أن تكون نجاته بما آتاه الله من العلم، وبما علَمه من تأويل الأحاديث، لا بشفاعة أحد، ولحاجة الأمة راعيها ورعيتها إليه، دون حاجته إليهم، ليكون ذلك أكرم له، وأعزَ لنفسه، ولئلا يكون لأحد عليه سوى الله منَة، فأرى الله ملك مصر رؤيا هاله أمرها، وعجز أشراف قومه ووجهاؤهم عن تعبيرها، وقالوا: أضغاث أحلام، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين!! ولما انتهى أمر الرؤيا إلى يوسف أوَّلها أصدق تأويل، وبين أنها كشفت للأمة عنِ مستقبلها في رخائها وشدتها أربعٍ عشرة سنة. {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ - ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ - ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف: 47 - 49] فأخذ تفسير يوسف من قلب الملك مأخذه، ولم يسعه إلا أن
(1/74)
يرسل بإحضاره، فأبى يوسف حتى ينظر في قضيته مع النسوة، فإنه قد زُجً به في السجن من أجلهن، ففعل الملك، وظهرت براءته، عليه السلام، وحضر إلى الملك فقال له: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ - قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 54 - 55] فاستجابَ له الملكَ، وأتم الله ليوسف ما شاء منِ نعمته. {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 56] وبذلك يتبين أن الله محّصه ورعاه، بتتابع البلاء والإنجاء، ابتلاه بكيد إخوته له، ورميه في الجب، ثم أنجاه. وابتلاه ببيع السيارة له، ثم هيأ له من أحسن مثواه. وابتلاه بتسليط امرأة العزيز عليه، وبالنسوة اللاتي قطًعن أيديهن، ثم عصمه وحماه. وابتلاه بالسجن، ثم أخرجه منه بريئًا من التُهمة عليمًا بربه، وبشئون الأمة، في وقت اشتدت فيه حاجة البلاد إلى حفيظ عليم يدبر أمرها، ويقودها في حياتها خير قيادة، فتولّى أمرها، واستسلم له أهلها. وفي قصة يوسف، عليه السلام، سوى ما ذكر شيء كثير
(1/75)
يدل على أن الله تعهد يوسف برعايته، وتولاه في أطوار حياته، ليتخذه رسولا، ويجعل من سيرته الحميدة آيات بيّنات على صدقه، وأمانته فيما يدعيه من الرسالة.
(1/76)
[قصة موسى عليه السلام] قصة موسى عليه السلام ذكر الله- سبحانه وتعالى- في أول سورة القصص بيانًا عن نشأة موسى، عليه السلام، وحاله قبل الرسالة، وأتبع ذلك بيانًا عن رسالته إلى أن أنجاه، ومن آمن معه، وأهلك أعداءه ليكون ذلك القصص في جملته آية على نبوة محمد، عليه الصلاة والسلام، وصدقه فيما أنزل عليه من الوحي، ودعا إليه أمته، كما يرشدنا إلى ذلك، بقوله- تّعالى- في مطلع السورة: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ - نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 2 - 3] وقوله- تعالى- عند انتهاء ما أراد ذكره من القصة: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 46] أما ما ذكر في هذه السورة من تفاصيل القصة فآيات بيِّنات تدل على كمال رعاية الله لموسى، عليه الصلاة والسلام، في جميع شئونه: في رضاعته، وكفالته، وعلمه وحكمته، وإعداده
(1/77)
بالقوة، والأخلاق الفاضلة، من نصرة المظلوم، وإعانة الضعيف، وعزَة النفس، وصدق التوكّل على الله، والأمانة، وحسن المعاملة، ليكون رسولا ينقذ به- سبحانه- الشعوب من الاستعباد، ويخلصها من الطغيان، والاستبداد، ويهدي به القلوب، وينير به البصائر، وإليك شيئًا من تفصيلها ترى منه ما ذكرت: 1 - قَدم الله بين يدي هذه القصة جملة من الآيات بين فيها سنته العادلة، وحكمته البالغة، في القضاء على من علا في الأرض، وأفسد فيها، ومنّه على المستضعفين، والتمكين لهم، وإدالتهم من عدوهم، فضلًا منه ورحمة، والله عليم حكيمٍ. {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} [الفتح: 23] ثم فصَّل ذلك فيما ذكره بعد من القصة. 2 - ولد موسى بن عمران، عليه السلام، في مصر، وكان ملكها إذ ذاك جبارًا جائرًا، يقتل ذكران بني إسرائيل، ويستحيي نساءهم، فأوحى الله إلى أم موسى أن تلقيه في اليم إذا خافت عليه من فرعون وجنوده، ووعدها وعدًا صادقًا أن يردّه إليها، ففعلت، وأنجاه الله، والتقطه آل فرعون، وتداولوا الرأي فيه.
(1/78)
وعند ذلك مر موسى بطَوْرٍ آخر من أطوار الخطر، ثم كتب الله أن ينتهي بهم التفكير في أمره إلى أن يتخذه فرعون ولدًا، وأن ينشأ في بيت ملك يتربًى فيه على العزة، وشدة البأس، وقوة العزم، والأخذ بالحزم، ولا يصاب بما أصيب به قومه من العذاب، والذّل، والهوان. وبذلك يصلح لحمل أعباء الرسالة، ومواجهة فرعون في جبروته وطغيانه (1) . ثم أولاه الله نعمة أخرى، فكتب عليه ألا يرضع إلا من أمه، حتى اضطر فرعون، ومن معه إلى أن يردّوه إلى أمه، وهم لا يشعرون، وبهذا التدبير الحكيم، واللطف الخفي، أنجز الله لأم موسى وعده، فرجع إليها ولدها لتكفله، ويتمتع بعطفها، وينعم بحنانها، وتقر به عيناها ولا تحزن، ولتعلم أن وعد الله حق. 3 - هذه الحلقة الأولى من حياة موسى كلها عبِرٌ وآيات منها: أن الله- سبحانه وتعالى- جعل نجاته مما أصاب غيره من أبناء قومه فيما يراه الناس دمارًا، وإلقاءً بالنفس إلى التهلكة. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي} [القصص: 7] ومنها: أنه- سبحانه- كتب لموسى الحياة السعيدة في بيت _________ (1) انظر آية (38) من سورة القصص وآية (24) من سورة (النازعات) .
(1/79)
من يخشى عليه منه، فعاش بين أظهرهم عيشة الملوك. {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص: 9] ومنها: أن الله حرَّم عليه تحريمًا كونيا أن يرضع من امرأة سوى أمه، فكان ذلك فيما يرى الناس، بلاءً أصابه، وهو في الأمر نفسه كمالُ اللطف من الله، والرحمة بموسى، ليرجعه إلى أمه، وهم لا يشعرون، فاجتمع له إلى السلامة، والنجاة، عطف الأمهات وعزُّ الملوك. {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ - فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 12 - 13] ومنها: حفظ الله- سبحانه- على موسى صفاء روحه وسلامة فطرته، فمع أنه عاش في بيت ملك، وأوساط ظلم، وطغيان فإنه لم يتأثر بما تأثر به مَنْ قضى أيامه الأولى من حياته في بيئة استشرى فيها الفساد، وطبعت بطابع الجبروت، والاستبداد، ولم يصب بما يصاب به أبناء الملوك، ومن يتقلب في
(1/80)
النعمة، ورغد العيش حين تهمل تربيته، من جهل واستهتار، أو رخاوة وخلاعة ومجون، بل صانه الله من كل ما يشينه، وآتاه العلم النافع، والحكمة البالغة، وسداد الرأي، كما حفظ عليه نعمته من قبل في بدنه. {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص: 14] 4 - جَبَلَ الله نبَيّه موسى على الحزم والأخذ بقوة في نصرة المظلوم، والضرب على يد الظالم، وذلك يتجَلى في الخصومة التي كانت بين إسرائيلي وفرعوني، فإن موسى لم يلبث أن أغاث من استغاث به، فوكز القبطي، فقضى عليه، إقامة للعدل، وإنصافًا للمظلوم، كما طبعه على الرفق بالضعيف، والعطف عليه، ومد يد المعونة إليه. ويتجلى ذلك منه في قوله- تعالى-: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ - فَسَقَى لَهُمَا} [القصص: 23 - 24] فجمع له بين شدَّة البطش على الظالمين، وكمال الرّفق بالمستضعفين.
(1/81)
5 - كان من آثار عناية الله بموسى، ورعايته له أن قَوَى فيه الوعي الديني، واستحكمت الصلة بينه وبين ربه، فأحبّ ما يحبّه الله من العدل والإنصاف، وكره ما يبغضه الله من الظلم والعدوان؛ لذلك فزع إلى ربه، واعترف بظلمه لنفسه، حينما قضى القبطي نحبه من وكزته، وأسرع إلى الاستغفار لله - تعالى- من ذنبه. {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ - قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 16 - 17] وفاض قلبه إيمانا بالله، فعظمت ثقته، وتوكله عليه؛ لذلك قصد إليه وحده في غربته وحيرته رجاء أن يهديه سواء السبيل. {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22] ولما استبدت به الحاجة وأخذ منه الجوع مأخذه توجه إلى ربه، فسأله من فضله، فأبت عليه عزَة نفسه أن يشكو حاجته لغيره، أو يعرض لمن سقى لهمِا بطلب الأجر. {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]
(1/82)
وقد استجاب الله دعاءه، وهيأ له بيئة صالحة يحيا فيها حياة طيبة، فقد عرض عليه شعيب لما عرفه عنه من القوة والأمانة أن يزوجه إحدى ابنتيه على أن يرعى له الغنم ثماني حجج، وإن أتمَّ عشر سنوات كان ذلك مكرمة منه، فالتزم موسى بذلك، ولم يمنعه ما كان فيه أولا من رغد العيش، وحياة الملوك أن يكون أجيرًا، يأكل ويتزوج من كسب يده، وأشهد ربه على ذلك: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 28] وقد ثبت أنه أتم أبعد الأجلين. فهذه سلسلة من حياة موسى قبل الرسالة، تضمنت شيئًا مما حباه الله به من العلم، والحكمة، والمروءة، والنجدة، ونصرة المظلوم، والأخذ على يد الظالم، والعطف على الضعيف، وقوة الإيمان بالله، والصدق في الالتجاء إليه، والتوكل عليه، والتواضع مع عزة النفس، وغير ذلك من مكارم الأخلاق التي يعد بها الله من يختاره للرسالة، وقيادة الأمم. 6 - طلب موسى من ربه أن يشدّ أزره بأخيه هارون، فأرسله معه ليكون عونا له في الحِجَاج، وخاف أن يبطش بهما فرعون وجنوده، وأن يقتلوا موسى بالقبطي الذي سبق أن قتله،
(1/83)
فقال الله له: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] وجعل لهما سلطانًا من الآيات تقوم به الحجة، وتنخلع به قلوب الجبارين، وتمتلئ بالوهن والضعف، وبذلك يثبت موسى في ميدان الدعوة إلى اللهّ، فبات واثقًا بربه مؤمنًا بما يدعو إليه من الهدى والنور، وتجلى في حجاجه صولة الحق، وأحس من نفسه بالعزة والقوة، وبذلك ذلَّ جبروت فرعون، وتلاشى عنده تألّهه وتعاليه، ولم يعد يملك لموسى من الكيد إلا أن يرعد ويبرق، ويموّه ويخدع. {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26] ولم يكن ليأخذ على يديه أحد، ولا هناك من الأسباب الداعية ما يمنعه أن يبطش بموسى، فإن الدولة دولته، والجنود جنوده، لكنها عناية الله برسوله، وما آتاه من آيات، وسلطان قد بهر فرعون، وقطع نياط قلبه، ولم يملك- أيضًا- ملأ فرعون سوى أن يُثيروا حفيظته، ويُغروه بموسي ومن آمن به: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127]
(1/84)
أفلا يرى العاقل أن موسى وهو وحيد غريب، وقومه مستعبدون، لم يقف هذا الموقف من فرعون وملئِهِ، والدولة دولتهم إلاُ هو مؤيّد من ربه، صادق في دعوته، وأن هذا هو الحق المبين. 7 - جرت سنة الله العادلة أن يفتح بالحق بين رسله، ومن آمن بهم من الأمم، ومن سار سيرهم، ويجعلهم خلفاء الأرض، ويهلك من كذَب بهم، وانحرف عن طريقهم ليكون ذلك من آيات اللهّ التي يفصل بها بين الصادق والكاذب، والحق والباطلِ، والشريعة العادلة، والقوانين الجائرة. {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51] {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [القصص: 37] {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ - قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 128 - 129]
(1/85)
وهذا هو ما انتهى به أمر موسى وقومه مع فرعون وملئه. {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [القصص: 40] {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ - وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ - وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ - ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} [الشعراء: 63 - 66] فانظر كيف اتحدت وسيلة النجاة للأولياء، والهلاك للأعداء، إنها آية الله الباهرة، وقدرته القاهرة، لقد أهلك فرعون وجنده بما جعله طريقًا لنجاة موسى وقومه، هذا إلى جانب انفلاق البحر، وتماسك مائه، وخروجه عن طريق السيلان بضربة عصا. وفي قصص موسى من الآيات سوى ذلك ما يبهر العقول، ويأخذ بمجامع القلوب، ولا يدع قولا لقائل إلا من سَفه نفسه، وسعى في هلاكها، وذلك قوله:
(1/86)
{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ - فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 130 - 131]
(1/87)
[خاتمة وتشتمل على أمرين]
[الأمر الأول الطريقة المثلى للدعوة إلى الله]
خاتمة وتشتمل على أمرين
(1/89)
الأول الطريقة المثلى للدعوة إلى الله (أ) تختلف أحوال الدعاة إلى الله في أداء مهمتهم، فبينما يكون بعضهم: خبيرا بجوهر الموضوع، ملما بأطرافه، محسنا للأداء والتعبير عما أراد، منسقا لنقاط الموضوع، مقدما منها ما يجب أن يقدم، مراعيا لظروف السماعين وأحوالهم، يكون البعض الآخر محسنا في بعض النواحي دون بعض. وقد خلق الله الإنسان مختارا، وأودع فيه غريزة حب الاستطلاع، وطبعه على النفرة من النقص، والفرار منه، والرغبة في الدرجات العليا، وطلب المزيد مما ينهض به في حياته ويرفع مستواه، وجعل فيه استعدادا للتأثر بما يرى ويسمع ومحاكاة ما يجده في بيئته من الخير، اللهم إلا من مسخت فطرته وانسلخ مما هو الأصل في إنسانيته. وخير طريق يحتذيه الدعاة في القيام بمهمتهم، وأمثل منهاج يسلكونه في استمالة قلوب الناس إلى الخير، والإعذار إلى من لم
(1/91)
يستجب للحق بعد بيان الحجة، وإقامة البرهان هو طريق الرسل، عليهم الصلاة والسلام، ومنهاجهم في دعوتهم إلى الله بقولهم المفصل وسيرتهم الحميدة. وفيما يلي، إلماعة من سيرة رسول الله وخليله إبراهيم، - عليه الصلاة والسلام -. كان إبراهيم الخليل، عليه الصلاة والسلام، مثلا أعلى في صدق اللهجة، والإيمان بما يدعو إليه من التوحيد، وشرائع الإسلام، والتصديق به على وجه اطمأنَت به نفسه، ورسخ في سويداء قلبه، وقد أثنى الله عليه بذلك في مُحكم كتابه في مطلع الحديث عنه حينما قام يدعو أباه إلى التوحيد، فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم: 41] فعلى الداعي إلى الحق أن يكون مؤمنًا به، مخلصا لما يدعو إليه، صادق اللهجة فيه، وإلا انكشف سره، وافتضح أمره، فإن ثياب الزور تشف عما وراءها، وعند ذلك يكون وبالًا على الدعوة. بدأ إبراهيم الخليل بأبيه في الدعوة إلى التوحيد، فإنه أقرب الناس إليه، وألصقُهم به، فكان أولى بمعروفه، وبرّه،
(1/92)
وإحسانه، وإلى جانب ذلك يكون ردءا له إذا استجاب لدعوته، وظهرًا له يحميه بدافع أخوة الإيمان، وعصبيّة النسب. قال- تعالى- في وصفه لِإبراهيم في دعوته: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42] وقد تلطف معه في الدعوة، فذكّره بما بينهما من الرحم، ووشائج النسب، استمالة لقلبه، وتنبيهًا له إلى أنه لو كذَبَ الناس جميعًا ما طابت نفسه بالكذب عليه، وأنه لو غشهم جميعًا لم يكن منه إلا النصح له لما بينهما من أواصر القربى والنسب. وبدأ دعوته لأبيه بالتوحيد الذي هو أصل الدين، وجوهر الشرائع السماوية، وعليه تقوم فروع الإسلام، وبه صلاح القلب، وبصلاحه تصلح سائر الجوارح، وتستقيم أحوالها. «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صَلَحَت صَلَحَ الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» . وسلك في دعوته إلى التوحيد طريق الاستدلال عليه بأن ما يعبده أبوه وقومه لا يسمعهم إذا دعوه لكشف غمة، أو تفريج كربة، ولا يراهم إذا عبدوه، وتضرعوا إليه، ولا يجلب لهم نفعًا، ولا يدفع عنهم ضرًا، وإذا كان لا يرجى نفعه، ولا يُخشى بأسه، فكيف يستحق
(1/93)
أن يعبد، أو يتقرب إليه؟!! وبذلك أقام عليهم الحجة، وقطع عذرهم. فيجب على من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر أن يقتفي أثر إبراهيم الخليل في دعوته، فيتلطف مع من يدعوهم، ويسوسهم حسب ما تقتضيه أحوالهم، ويبدأ بأقرب الناس إليه، وأولاهم بإرشاده، ويقدم الإرشاد إلى عقيدة التوحيد، ويركز الحديث فيها، ويقيم على ذلك الدليل ليقنعهم بالحجة، ويسقط أعذارهم. ادعى إبراهيم الخليل، عليه الصلاة والسلام، أن الله آتاه من العلم ما لم يؤت أباه، لا ليفخر بذلك، أو يتعالى على أبيه حتى يكون خلقًا ذميمًا، ينفَرُ الناس من حوله، ويمقتونه من أجله، بل ادَّعى ذلك ليلفت النظر إلى وجوب الإصغاء إليه، واتباعه فيما جاء به من الحق المبين، ليهديهم به إلى الصراط المستقيم. قال- تعالى- في وصفه لِإبراهيم في دعوته: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم: 43] نهى إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، أباه عن طاعة
(1/94)
الشيطان في وسوسته، واتباعه فيما يسوله، ويزينه له من الشرك بالله، وسائر المنكرات، فإن طاعته له، وإسلام قياده إليه عبادة له من دون الله، ونبه أباه إلى عصيان الشيطان لربه، وتمرده عليه، وإذنْ فليس على هدى في وسوسته، ولا يزين للناس إلا ما هو شر وضلال. قال- تعالى- في وصف دعوة خليله: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} [مريم: 44] فعلى الداعية إلى الحق أن يكشف الغطاء عن معنى العبادة، ويزيدها إيضاحًا حماية لعقيدة التوحيد، وبيانًا لأصولها، ويستعمل أسلوب التنفير من عبادة غير الله اقتداء بخليل الرحمن، عليه الصلاة والسلام. أنذر إبراهيم أباه إنذار المتلطف معه، المشفق عليه، بأنه يخشى عليه مغبة شركه، وعاقبة عبادته للشيطان، وطاعته له، فيعذبه الله على ذلك، ولا يجد ممن تولاهم بالعبادة من يدفع عنه بأس الله وعذابه. قال- تعالى- في وصف إبراهيم في دعوته: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 45] فعلى الداعية أن يستعمل أسلوب الإنذار، والتخويف من
(1/95)
سوء العواقب، والتذكير بعذاب الله، وأليم عقابه يوم يتبرأ دعاة السوء ممن غرروا بهم، ويتمنّى المخدوعون بزخرف القول أن لو عادوا إلى الدنيا، فيتبرءوا من دعاة السوء كما تبرءوا منهم يوم القيامة، وأنى لهم ذلك؟ لا تأثير للدعوة إلى الحق وإن كانت صادقة إلا إذا وجدت آذانًا صاغية، وقلوبا واعية، وفطرة سليمة لم تفسدها الأهواء، ولذا لم يستجب لِإبراهيم أبوه، بل أنذره لئن لم ينته ليرجمنه، وأمره بهجره مليا، فصبر إبراهيم على أذاه، وقابل سيئته بالحسنة، وقال له: {سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم: 47] واعتزلهم وما يدعون من دون الله، بعدًا عن الفتنة، إذ لم يستطع القضاء عليها، وأملًا في أن يجد لدعوته أرضا خصبة، فوهب الله له: إسحاق، ويعقوب، وجعل كلًا منهما نبيا، جزاء وفاقًا بصدقه في الدعوة، وإخلاصه فيها، وصبره على الأذى في سبيل نشرها، وهجره للشرك وأهله، اتقاء للشرّ، وبعدًا عن مواطنه ومظاهره. قال الله- تعالى-: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} [مريم: 46]
(1/96)
فعلى الدعاة أن يتذرّعوا بالصبر، وسعة الصدر، وأن يقابلوا السيئة بالحسنة، وأن لا ينتقموا لأنفسهم ما استطاعوا إلى العفو سبيلا، لكن إذا انتهكت حرمات الشريعة انتصفوا لها، وأخذوا على أيدي العابثين، وعليهم أن يهجروا الشرّ وأهله، إذا لم يمكنهم إزالته أو تخفيفه، خشية أن تصيبهم الفتنة، أو يعمهم البلاء، أو تكون مخالطتهم حجة عليهم، أو معرة لهم، وذريعة للنيل منهم، وعدم الاستماع لنصائحهم، وعليهم أن يتحرّوا المجالس التي يرجى فيها قول الحق، والله الموفق.
(1/97)
[الأمر الثاني الطريقة المثلى للدعوة إلى الله]
الثاني الطريقة المثلى للدعوة إلى الله (ب) لم يرسل الله- تعالى - رسولا إلا أمره بالتوحيد، والدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له. قال الله- تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] وقال- تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] وقد عني الرسل، عليهم الصلاة والسلام، بذلك، فبدءوا البلاغ بدعوة أممهم إلى أن يعبدوا الله وحده، ولا يشركوا به شيئًا، وقطعوا فيه شوطا بعيدا حتى شغلوا به الكثير من أوقات البلاغ. ولا عجب في ذلك فإن التوحيد أصل الدين وذروة سنامه، وملاك الإسلام ودعامته الأولى، لا تصح من إنسان قربة. ولا يتقبل الله منه عبادة إلا إذا كانت مقرونة بالتوحيد،
(1/98)
وإخلاص القلب لله وحده. قال- تعالى-: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ - أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 2 - 3] وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] وقد أرشد اللهّ الناس إلى أيسر الطرق في الدعوة إلى التوحيد، وأسهلها، وأقربها إلى معرفة الحق، وأعدلها. وهو الاستدلال بآيات الله، وسننه الكونية، وتفرده- سبحانه- بتصريفها، وتدبيرها على تفرده بإِلهيته واستحقاقه أن يعبد وحده لا شريك له، فذلك أهدى سبيلا، وأقوم دليلا، وأقوى في إقناع الخصم، وإلزامه الحجة، فإنه مقتضى العقل الصريح وموجب الفطرة السليمة. قال الله- تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ - الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21 - 22]
(1/99)
فرتب- سبحانه- نهيه إياهم عن اتخاذهم شركاء له في العبادة على علمهم، وإقرارهم بأنه- تعالى- وحده هو الذي خلقهم، وخلق الذين من قبلهم، وهو الذي جعل الأرض قرارًا، وذلّلها لهم ليمشوا في جوانبها، وليبتغوا من فضله، ورفع السماء بلا عمد، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقًا لهم، لينعموا بما آتاهم من النعم، وليتمتعوا بما أفاض عليهم من الخيرات لعلهم يتقون ربهم، وولي نعمتهم، فيعبدوه وحده لا شريك له مخلصين له الدين، شكرًا له على ما أسبغ عليهم من نعمه، وأفاض عليهم من بركاته. وفي القرآن كثير من النظائر لهاتين الآيتين في بيان أسلوب الدعوة، ورسم الطريق الناجحة في إقامة الحجة، وإلزام الخصم. لقد سلك الأنبياء والمرسلون هذه الطريقة في دعوتهم أممهم إلى الهدى ودين الحق، اهتداء بهدي الله، واسترشادًا بإرشاده، وهو العليم الحكيم، ومن أبرزهم في ذلك أولو العزم
(1/100)
من الرسل، ومنهم إبراهيم الخليل، عليهم الصلاة والسلام. أرسل الله- جل شأنه- خليله إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، إلى قوم من الفرس عُتاة جبّارين يعبدون التماثيل، فأنكر عليهم عكوفهم لها، وتقرّبهم إليها. قال- تعالى-: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ - إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 51 - 52] ولما لم يكن لديهم حجة يعتمدون عليها في عبادتهم الأصنام، تعللوا لباطلهم بما وجدوا عليه آباءهم من التقرب إلى التماثيل، وعبادتهم إياها، فألغوا عقولهم، وقلدوا آباءهم على غير هدى وبصيرة: {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 53] فسفه إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، أحلامهم، وحكم عليهم وعلى آبائهم بالحيرة، والضلال المبين، {قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء: 54] وبين لهم أن التماثيل لا تسمع النداء، ولا تستجيب الدعاء، ولا تملك نفعًا، ولا توقع ضرًا، فلا يليق بعاقل أن يتخذها آلهة مع من فطر السماوات والأرض، وإليه مقاليد الأمور، يؤتي الملك من يشاء،
(1/101)
وينزعه ممن يشاء، ويضر من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير. {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ - أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ - قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 72 - 74] فلما ركبوا رؤوسهم، وأبوا إلّا اللجاج والعناد، والعصبية الممقوتة في تقليد الآباء والأجداد، أعلن براءته منهم، وشدة عداوته لهم، ولما يعبدون من دون الله: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ - أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ - فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ - الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ - وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ - وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ - وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ - وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 75 - 82] وجد إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، أنه لا بد له من سلوك طريق آخر عملي في إقامة الحجة ليكون أقوى في الإبانة عن الحق، وأملك في إلزام الخصم، يضطرهم به إلى الاعتراف بما هم فيه من ضلال، وظلم، وانحراف، فأقسم بالله أن يكيد لأصنامهم وهم عنها غائبون، انتهز فرصة خروجهم من البلد لبعض شأنهم، وذهب إلى آلهتهم خفية لئلا يراه أحد فيصده عن
(1/102)
تنفيذ ما أراد، فجعلهم قطعًا صغارًا إلا كبيرًا لهم تركه سالمًا، ليكون له ولهم معه شأن عند التحقيق فيما جرى على أصنامهم، فلما عادوا إلى منازلهم، وشاهدوا ما أصيبت به آلهتهم: {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ - قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ - قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء: 59 - 61] فلما حضر مجلسهم أخذوا يقررونه بما صنع بآلهتهم: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 62] فأجابهم بنسبَةِ ما حدث إلى مَنْ لا يَتَأَتَّى منه، نسبه إلى كبير التماثيل وهو- كما يعلم ويعلمون- جماد لا حراك به، ذلك ليرشدهم إلى مكان الخطأ في عكوفهم على التماثيل، عبادة لها، وتقربا إليها، ويصرفهم عنها إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ويوحي إليهم بأنه هو الذي كاد لأصنامهم، وأنزل بهم ما يكرهون، وقد أكد ذلك بأمره إياهم أن يسألوا التماثيل عمَّن أصابهم بالتكسير والتحطيم إن كانوا يحيرون جوابا. {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63] وقد نجحت هذه الطريقة إلى حدّ ما، وأوجدت فيهم
(1/103)
وعيًا، فثابوا إلى رشدهم، وما كان في أصل فطرتهم، واعترفوا بأنهم هم الذين ظلموا أنفسهم بعبادتهم تماثيل لا تملك لنفسها نفعًا، ولا تدفع عنها بأسًا، وظلموا إبراهيم، عليه السلام، بصدهم عن دعوته، وإعراضهم عما جاءهم به من الآيات البينات على التوحيد، وإخلاص العبادة لله رب العالمين، لكنهم لم يلبثوا أن ركبوا رؤوسهم، ونكصُوا على أعقابهم، وارتكسوا في حمأة الضلال، والحيرة عصبية لما ورثوه عن آبائهم من الشرك، والبهتان المبين. قال الله- تعالى-: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ - ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 64 - 65] لقد ازداد طريق الحق وضوحًا، وبيانًا، واستحكمت حلقات الحجة لِإبراهيم على أبيه، وقومه، وحق له أن يضيق ذرعًا من صدودهم، وأن يتأفف ضجرًا من طغيانهم وشركهم، وأن يُنكر عليهم ذلك إنكارًا صارخًا، ويرميهم بالخبال، وإلغاء العقول، {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ - أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66 - 67]
(1/104)
لقد أخذت الحمية الجاهلية للباطل من نفوس قوم إبراهيم، عليه السلام، مأخذها، وتمكنت منهم العصبية لطاغوت التقليد للآباء، والأجداد فيما أصيبوا به من الشرك، والانحراف عن الحق حتى ملكت مشاعرهم، ووجهت عقولهم، وأفكارهم إلى شر وجهة، وصرفتهم عن الحق المبين، والصراط المستقيم، وزينت لهم أن يتخلصوا من إبراهيم، عليه السلام، وينزلوا به أشد العقاب انتصارًا لألهتهم الباطلة، وانتقاما منه جزاءً له عما صنع بها من تحطيم وتكسير. ويعلم الله أنه ما أراد بذلك إلا الخير لهم، وإخراجهم من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 68] لكن يأبى الله إلا أن ينصر رسوله وخليله إبراهيم، عليه السلام، وأن يخذل أعداءه، وأعداء دينه، ويُبطل ما كادوا به لأوليائه، فيبوءوا بالخسران المبين، إمضاءً لسنته العادلة الحكيمة في أوليائه وأعدائه. قال- تعالى-:
(1/105)
{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ - وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ - وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ - وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ - وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 69 - 73] وقال- تعالى-: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ - يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 51 - 52] وقال- تعالى-: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح: 23]
(1/106)
[الفرق الإسلامية]
[تمهيد] تمهيد كان الناسُ أمةً واحدةً على الحق بما أودع الله فيهم من فطرة الإسلام، وبما عهد إليهم من الهدى والبيان، فلما طال عليهم الأمد قست قلوبهم، فاجتالتهم الشياطين عن الصراط المستقيم، وسلكت بهم بنيات الطريق، فتمزقت وحدتهم، واختلفت كلمتهم. فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وكان الله عزيزًا حكيما. قال- تعالى-: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213] وقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] وقال، صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصرّانه، أو يمجسانه» . الحديث. وقد أمر الله- تعالى- في كتبه، وعلى ألسنة رسله بوحدة الكلمة، والاعتصام بشرعه،
(1/107)
وحذًر من الفرقة والاختلاف، وبين عاقبة ذلك بما ذكر من أحوال الأمم الماضية، وما حاق بها من الدَمار، وأصابها من الهلاك، وحثهم على البلاغ والبيان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، نصرة للحق، وإزالة للشبهة، وإحباطًا لكيد دعاة السوء واستهوائهم النفوس الضعيفة. قال الله- تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ - وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 102 - 103] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159] وقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] وعن العرباض بن سارية «قال: وعظنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأنَّها موعظة مودعٍّ، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: " أوصيكم بالسّمع والطّاعة، فإنه من يعش منكم بعدي، فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها
(1/108)
بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» . إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث. ومع ذلك دبّ الخلاف بين الناس، فما من أمة من الأمم إلا وقد اختلفت بهم الأهواء حتى وضع كل لنفسه أصولا عليها يبني مذهبه، وإليها يرجع في خصومته، فتناقضت مذاهبهم، وصار كل واحد حربا على أخيه، وشغل بذلك عن كتاب الله، وهدي رسوله، عليه الصلاة والسلام، إلا أنه- سبحانه- جرت سنته، واقتضت حكمته، أن يقيّض للحق في كل عصر جماعة تقوم عليه، وتهدي الناس إليه، إنجازًا للوعد بحفظ دينه، وإقامة للحجة، وإسقاطًا للمعاذير، قال- تعالى-: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وقال، صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» . وفي رواية، «قالوا: يا رسول الله! من الفرقة الناجية؟ قال: " من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ".» وفي رواية، قال: «هي الجماعة يد الله على
(1/109)
الجماعة» . رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم. وفي الحديث: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق. . . ".» الحديث. وقد تبين من ذلك أن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، وإن شعارها كتاب الله، وهدي رسوله، عليه الصلاة والسلام، وما كان عليه سلف الأمة الذين يؤمنون بمحكم النصوص، ويعملون بها، ويردون إليه ما تشابه منها، وأما الفرق الضالة، فشعارها مفارقة الكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة، واتباع الأهواء، وشرع ما لم يأذن به الله من البدع والآراء الزائفة بناء على أصول وضعوها، يوالون عليها، ويعادون، فمن وافقهم عليها، أثنوا عليه وقرّبوه، وكان في زعمهم من أهل السنة والجماعة، ومن خالفهم تبرءوا منه ونبذوه، وناصبوه العداوة والبغضاء، وربما رموه بالكفر، والخروج من ملة الإسلام لمخالفته لأصولهم الفاسدة. هذا، وليس في نصوص الكتاب والسنة ما يعتمد عليه في تعيين الفرق، ولا بيان ما يرجع إليه في تمييز بعضها من بعض، وإن كان فيها التحذير من فرق الضلال، وذكر عددهم، وبيان
(1/110)
شعارها إجمالًا، ولسنا بمكلّفين بتعيينها، وتحديدها، ولا نحن في ضرورة إلى ذلك في عقيدة، أو عبادة، أو معاملة، أو دعوة إلى الحق، بل يكفينا في جميع شئوننا أن يتميز لدينا الحق من الباطل بالحجة والبرهان، وبالحق يعرف رجاله والدعاة إليه، فلا يعيب الشريعة إن خلت من ذلك، ولا ينقص قدر العلماء أن يضربوا صفحًا عن استقصاء الفرق الضالة حتى يبلغوا بها ما ذكر في الحديث من العدد، ومع ذلك، فقد حمل بعض العلماء حب الاستطلاع، والولع، والبحث أن يصنّفوا في تعيين الفرق، ويذكروا لكل فرقة ما به تتميز عن الأخرى إشباعًا للرغبة، واستجابة لداعي الفكر، وحاولوا أن يبلغوا بما جمعوا وقسّموا، وأصلوا وفصّلوا ما ذكر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الحديث من غير أن يتجاوزوه أو يقفوا دونه. ومن أجل أن المسألة اجتهادية، ولا خبر فيها عن المعصوم تباينت مناهجهم في التصنيف، واختلفت مذاهبهم في التعيين، فمنهم من أخذ في عد الفرق من غير أن يبني على أساس، أو يستند إلى قانون يضبط ما ذكر من عدد الفرق ومذاهبها، ومنهم من أصل أصولا يتفرع عنها ما سواها، ووضع قواعد تضمنت المسائل التي وقع فيها النزاع، وذكر كبار الفرق التي ينشعب عنها
(1/111)
ما عداها. ومن هؤلاء الشهرستاني في كتابه: " الملل والنحل ". وإليك كلمته في أصول المذاهب، وكبار الفرق، فقال:
[المقدمة الثانية]
المقدمة الثانية: في تعيين قانون يبنى عليه تعديد الفرق الإسلامية: اعلم أن لأصحاب المقالات طرقًا في تعديد الفرق الإسلامية لا على قانون مستند إلى نصّ، ولا على قاعدة مخبرة عن الوجود، فما وجدت مصنفين منهم متفقين على منهاج واحد في تعديد الفرق. ومن المعلوم الذي لا مراء فيه أن ليس كل من تميز عن غيره بمقالة ما في مسألة ما عُدَّ صاحب مقالة. فتكاد تخرج المقالات عن حدّ الحصر، والعدد، ويكون من انفرد بمسألة في أحكام الجوهر مثلا معدودا في عداد أصحاب المقالات. فلا بدّ إذن من ضابط في مسائل هي: أصول، وقواعد يكون الاختلاف فيها اختلافًا يعتبر مقالة، ويعد صاحبها صاحب مقالة، وما وجدت لأحد من أرباب المقالات عناية بتقرير هذا الضابط، إلا أنهم استرسلوا في إيراد مذاهب الأمة كيفما اتفق وعلى الوجه الذي وجد، لا قانون مستقر، لا أصل مستمر، فاجتهدت على ما تيسر
(1/112)
من التقدير، وتقدر من التيسير، حتى حصرتها في أربع قواعد هي: الأصول الكبار. القاعدة الأولى: الصفات، والتوحيد فيها، وهي تشتمل على مسائل: الصفات الأزلية إثباتًا عند جماعة، ونفيًا عند جماعة، وبيان صفات الذات، وصفات الفعل، وما يجب للهّ - تعالى- وما يجوز عليه، وما يستحيل، وفيها الخلاف بين الأشعرية، والكرامية، والمجسمة، والمعتزلة. القاعدة الثانية: القدر، والعدل، وهي تشتمل على مسائل: القضاء، والقدر، والجبر، والكسب في إرادة الخير، والشر، والمحذور، والمعلوم إِثباتًا عند جماعة، ونفيا عند جماعة، وفيها الخلاف بين القدرية، والنجارية، والجبرية، والأشعرية، والكرامية. القاعدة الثالثة: الوعد، والوعيد، والأسماء، والأحكام، وهي تشتمل على مسائل: الإيمان، والتوبة، والوعيد، والإرجاء، والتكفير، والتضليل إثباتًا على وجه عند جماعة، ونفيًا عند جماعة، وفيها الخلاف بين المرجئة، والوعيدية، والمعتزلة، والأشعرية، والكرامية. القاعدة الرابعة: السّمع، والعقل، والرّسالة، والأمانة،
(1/113)
وهي تشتمل على مسائل: التحسين، والتقبيح، والصلاح، والأصلح، واللطف، والعصمة في النبوّة، وشرائط الإمامة نصَا عند جماعة، وإجماعا عند جماعة، وكيفية انتقالها على مذهب من قال بالنصّ، وكيفية إثباتها على مذهب من قال بالإجماع، والخلاف فيها بين الشيعة، والخوارج، والمعتزلة، والكرامية، والأشعرية. فإذا وجدنا انفراد واحد من أئمة الأمة بمقالة من هذه القواعد عددنا: مقالته مذهبًا، وجماعته فرقة، وإن وجدنا واحدًا انفرد بمسألة، فلا نجعل مقالته مذهبًا، وجماعته فرقة، بل نجعله مندرجًا تحت واحدة ممن وافق سواها مقالته، ورددنا باقي مقالته إلى الفروع التي لا تعد مذهبًا مفردا، فلا تذهب المقالات إلى غير النهاية، وإذا تعينت المسائل التي هي قواعد الخلاف تبينت أقسام الفرق، وانحصرت كبارها في أربع بعد أن تداخل بعضها في بعض.
(1/114)
[كبار الفرق الإسلامية أربع]
القدرية، الصفاتية، الخوارج، الشيعة ثم يتركب بعضها مع بعض، ويتشعّب عن كل فرقة أصناف، فتصل إلى ثلاث وسبعين فرقة، ولأصحاب كتب المقالات، طريقان في الترتيب. أحدهما: أنهم وضعوا المسائل أصولا ثم أوردوا في كل مسألة: مذهب طائفة طائفة، وفرقة فرقة. والثاني: أنهم وضعوا الرجال وأصحاب المقالات أصولا، ثم أوردوا مذاهبهم في مسألة مسألة، وترتيب هذا المختصر على الطريقة الأخيرة لأني وجدتها أضبط للأقسام وأليق بأبواب الحساب، وشرطي على نفسي أن أورد مذهب كل فرقة على ما وجدته في كتبهم من غير تعصب لهم، ولا كسر عليهم، دون أن أبيّن صحيحه من فاسده، وأعين حقه من باطله، وإن كان لا يخفى على الأفهام الذكية في مدارج الدلائل العقلية لمحات الحق، ونفحات الباطل. ومهما يكن المنهج الذي سلكه من ألف في الفرق
(1/115)
الإسلامية، وأيا كان اجتهادهم في تعيين الفرق، وتمييز بعضها من بعض لتبلغ العدد الذي ورد في الحديث، فلن يبرئهم ما وضعوا من الأصول والضوابط من معرة التكلف، ولن يعصمهم من مزالق التخمين، وما يوجه إليهم من طعنات النقاد. فإن النصوص وإن دلّت على حدوث الفِرق في هذه الأمة، وبيّنت عدد الفرق إجمالًا لم تخص بحدوث الفرق عهدًا دون عهد، والأمة لا تزال تتابع أجيالها، وتختلف آراؤها، والمستقبل غيب لا يعلمه إلا الله، فربما حدث من البدع، ومذاهب الضلال ما ليس في الحسبان مما لا يمكن رده إلى مذاهب الفرق الأولى. وإذا كان ذلك على ما وصفت كان تعيين الفرق رجمًا بالغيب، واقتحامًا لمتاهات لا تزيد من رمى بنفسه فيها إلا حيرة. مع ما في ذلك من التكلف في ضمّ بعض الفرق إلى بعض بإلغاء ضرب من الخلاف خشية أن يتجاوز العدد ما ذكر في الحديث، أو جعل الواحدة فرقتين باعتبار نوع من الخلاف حذرًا أن ينقص العدد عما ذكر في الحديث إلّا أن التأجيل، ووضع القواعد على النحو الذي صنفه " الشهرستاني " وغيره أقرب إلى الضبط، وأسرع للفهم والتحصيل، وأبعد عن نشر الكلام، وأدخل في
(1/116)
صناعة التأليف. لذلك اكتفيت بذكر أصول الفرق الكبار مع مراعاة ترتيبها حسب حدوثها من غير استقصاء، أو محاولة بلوغ العدد المذكور في الحديث. وذكر جملة من الفرق المشهورة التي تشعّبت عنها مع بيان شيء مما يتميز به كل منها. الخوارج: خرج جماعة من المسلمين على الخليفة الثالث عثمان بن عفان لأمور نقموها منه، وأحداث أنكروها عليه، وما زال بهم اللجاج في الخصومة معه حتى قتلوه. ولما انتهت الخلافة إلى علي بن أبي طالب كان ممن اختلف عليه، وقاتله: طلحة بن عبيد اللهّ القرشي، والزبير بن العوام. فأما الزبير فقتله ابن جرموز، وأما طلحة فرماه مروان بن الحكم بسهم فقتله، وكانت معهما عائشة - رضي الله عنها- على جمل لها، ولكنها رجعت سالمة مكرمة لم يعترض عليها أحد، وتسمى هذه الموقعة بـ "موقعة الجمل " (36هـ) . واختلف على عليّ - أيضًا - معاوية ومن تبعه- رضي الله عنهم- ودارت الحرب بين الفريقين في صِفين حتى كان التحكيم الذي زاد الفتنة اشتعالًا، ودبّ الخلاف في جيش علي، وخرج عليه ممن كان من أنصاره فرقة تعرف بالحرورية،
(1/117)
وبالشراة. واشتهرت باسم الخوارج. وحديث العلماء في الفرق الإسلامية عن الخوارج إنما هو عن هؤلاء الذين خرجوا على عليّ - رضي الله عنه- من أجل التحكيم. أما طلحة، والزبير، ومعاوية، ومن تبعهم، فلم يعرفوا عند علماء المسلمين بهذا الاسم. ثم صارت كلمة الخوارج تطلق على كل من خرج على إمام من أئمة المسلمين، اتفقت الجماعة على إمامته في أي عصر من العصور دون أن يأتي ذلك الإمام بكفر ظاهر ليس له عليه حجة، وإذن فأول من أحدث هذه البدعة في هذه الأمة، الجماعة التي خرجت على عليّ بن أبي طالب سنة 39 هـ، وأشدهم في التمرد، والخروج عليه، الأشعث بن قيس، ومسعود بن فدكي التميمي، وزيد بن حصين الطائي، والذي دعاهم إلى ذلك مسألة التحكيم المشهورة في التاريخ، ورضا الملومة به مع أنهم هم الذين أمروه به، واضطروه إليه، ثم أنكروه عليه. فقالوا: لم حكمت الرجال، لا حكم إلا الله. ورؤوسهم ستة: الأزارقة، والنجدات، والصفرية، والعجاردة، والأباضية، والثعالبة، وعنها تتفرع فرقهم. ومن أصولهم التي اشتركت فيها فرقهم، البراءة من علي،
(1/118)
وعثمان، وطلحة، والزبير، وعائشة، وابن عباس - رضي اللهّ عنهم- وتكفيرهم. والقول بأن الخلافة ليست في بني هاشم فقط، كما تقول الشيعة، ولا في قريش فقط، كما يقول أهل السنة، بل في الأمة عربها وعجمها، فمن كان أهلًا لها علمًا، واستقامة في نفسه، وعدالة في الأمة جاز أن يُختار إمامًا للمسلمين، والخروج على أئمة الجور، وكل من ارتكب منهم كبيرة. ولذلك سموا بالخوارج. والإيمان عندهم: عقيدة، وقول، وعمل. وقد وافقوا في هذا أهل السنة في الجملة، وخالفوا غيرهم من الطوائف. ومن أصولهم- أيضًا-: التكفير بالكبائر، فمن ارتكب كبيرة فهو كافر. وتخليد من ارتكب كبيرة في النار إلا النجدات في الأخيرين. ولذا سموا وعيدية، ومن أصولهم - أيضًا- القول بخلق القرآن. وإنكار أن يكون الله قادرًا على أن يظلم. وتوقف التشريع، والتكليف على إرسال الرسل، وتقديم السمع على العقل على تقدير التعارض، فمن وافقهم في هذه الأصول فهو منهم، وإن خالفهم في غيرها. ومن وافقهم في بعضها، ففيه منهم بقدر ذلك، وقد اجتمعوا بحروراء برئاسة عبد الله بن الكواء،
(1/119)
وعتاب بن الأعور، وعبد الله بن وهب الراسبي، وعروة بن حدير، ويزيد بن عاصم المحاربي، وحرقوص بن زهير المعروف بذي الثدية. وكانوا في اثني عشر ألف رجل. فقاتلهم عليّ يوم النهروان، فما نجا منهم إلا أقل من عشرة، فر منهم اثنان إلى عمان، واثنان إلى كرمان، واثنان إلى سجستان، واثنان إلى الجزيرة، وواحد إلى موزن، فظهرت بدع الخوارج في هذه المواضع. وأول من بويع منهم بالخلافة عبد الله بن وهب الراسبي، فتبرأ من الحكمين، وممن رضي بهما، وكفّر هو ومن بايعه عليا لتحكيمه الرجال، ورضاه بذلك.
(1/120)
[الفرق وتشعبها] (الفرق وتشعبها) الأزارقة: هم جماعة من الخوارج ينسبون إلى أبي راشد نافع بن الأزرق، خرج آخر أيام يزيد بن معاوية، ومات 65 هـ. وبايع الأزارقة من بعد موته قطري بن الفجاءة، وسموه بأمير المؤمنين، ومن بدعهم تصويب قاتل عليّ عبد الله بن ملجم. وفي ذلك يقول عمران بن حطان مفتي الخوارج: يا ضربة من منيب ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانًا إني لأذكره يومًا فأحسبه ... أو في البرية عند الله ميزانًا ومنها تكفير من قعد عن الجهاد معهم، وتكفير من لم يهاجر إليهم، وإسقاط الرجم لعدم وجوده في القرآن، وإسقاط الحد عمن قذف المحصنين دون المحصنات، وعدم جواز التُقية في قول أو عمل، وإباحة قتل أطفال المخالفين لهم ونسائهم، وعدم أداء الأمانة لمن خالفهم.
(1/121)
النجدات العاذرية: ينسبون إلى نجدة بن عامر الحنفي، وكان من شأنه أنه خرج من اليمامة مع عسكره يريد اللحاق بالأزارقة، فاستقبله أبو فديك، وعطية بن الأسود الحنفي في الجماعة الذين أنكروا على نافع الأزرق بدعه، فأخبروه بما أحدثه من تكفير القعدة عن القتال معه، وغير ذلك من بدعه، فكتب إليه، ينصح له، فلما أبى نافع أن يرجع، بايعه على الإمامة أبو فديك، وعطية، ومن معهما، وسموه بأمير المؤمنين. ومن بدعهم: جواز التقية في القول والعمل، وتناصفهم فيما بينهم بلا إمام، فإن عجزوا عن ذلك إلا بإمام جاز لهم أن يقيموه. وسموا بالعاذرية لأنهم يعذرون من أخطأ في أحكام الفروع لجهالته دون من أخطأ في الأصول: كمعرفة الله، ورسله، والإقرار بما جاء به محمد، صلى الله عليه وسلم، من عند الله جملة. ولم يلبث أبو فديك وعطية أن اختلفا عليه، وقتله أبو فديك، ثم اختلف أبو فديك وعطية، وبرئ كل منهما من الآخر، وصار لكل منهما أتباع. وسمي أتباع أبو فديك: فدكية، وأتباع عطية: العطوية، وقد أرسل عبد الملك بن مروان، عثمان بن
(1/122)
عبيد الله بن معمر إلى أبي فديك، فحاربه أيامًا، وقتله، وفر عطية إلى أرض سجستان. العجاردة: هم طائفة من الخوارج ينسبون إلى عبد الكريم بن عجرد، وهم من أصحاب عطية بن الأسود الحنفي ومن بدعهم: البراءة من الأطفال حتى يدعوا إلى الإسلام عند بلوغهم، ومن بدعهم - أيَضَا-: أن سورة يوسف ليست من القرآن، وأنهم يتولون القعدة، ويرون الهجرة فضلة لا فرضًا. وقد افترقت العجاردة فرقا كثيرة منها: الميمونية أتباع ميموِن بن خالد، وهو على مذهب المعتزلة في القدر. ومن بدعه - أيضَا- جواز نكاح بنات البنات والبنين، وبنات أولاد الإخوة والأخوات. ومنها الحمزية أتباع حمزة بن أدرك ثبتوا على قول ميمون في القدر، وقالوا بجواز إمامين في عصر واحد ما لم تجتمع الكلمة، أو تقهر الأعداء. ومنها الأطرافية: فرقة من الحمزية رئيسهم غالب بن شاذان السجستاني سموا أطرافية لأنهم يعذرون أصحاب الأطراف في ترك ما لم يعرفوه من الشريعة إذا أتوا بما عرفوه بالعقل، ومذهبهم: كالذرية في تحكيم العقل. ومنها الشعيبية
(1/123)
أصحاب شعيب بن محمد الذي تبرأ من ميمون لما أظهر القدر. ومنها الجازمية أصحاب جازم بن علي كان على قول شعيب في القدر. الثعالبة: هم أصحاب ثعلبة بن عامر. كان مع عبد الكريم بن عجرد يدًا واحدة إلى أن اختلفا في أمر الطفل، فقال ثعلبة - بولايته حتى نرى منه إنكار الحق، ورضا بالجور. فتبرأت العجاردة من ثعلبة، ونقل عنه- أيضًا- أنه لا يحكم في الطفل بشيء حتى يبلغ، ويدعى إلى الإسلام، فإن أجاب فبها، وإلا كفر!! وقد افترقت الثعالبة فرقًا كثيرة. منها: الشيبانية، وهم أتباع شيبان بن سلمة، خرج أيام أبي مسلم الخراساني وأعانه على نصر بن سيار والي خراسان من قبل هشام، وقتل أناسا ممن يوافقون في المذهب، وأخذ أموالهم، فبرئت منه الثعالبة، ولما قتل أخبروا بتوبته، فلم يقبلوها، لأنه لم يرد المظالم، ولم ينصف أولياء الدم. ومن بدعهم: تشبيه الله بخلقه، وموافقة جهم في قوله بالجبر، واعتقاد أن الولاية والعداوة من صفات الله الذاتية، لا من صفات الفعل. ومن لم يقبل توبة شيبان يسمون بالزيادية نسبة لرئيسهم زياد بن عبد الرحمن. ومنها: الرشيدية أتباع رشيد
(1/124)
الطوسي. ومن بدعهم: إخراج نصف العشر زكاة لما سقي بالأنهار. ومنها المكرمية أصحاب أبي مكرم بن عبد الله العجلي، ومن مقالته: تكفير تارك الصلاة لجهله بربه، وغفلته عن معرفته، وعدم مبالاته بالتكليف. وقالوا بإيمان الموافاة، بمعنى أن الله يوالي عباده، ويعاديهم على ما يوافونه به عند الموت من خير أو شر لا على أعمالهم قبل ذلك. ومنها المعلومية، والمجهولية: وهما في الأصل من الجازمية. فالمعلومية، قالت: لا يكون العبد مؤمنًا حتى يعرف الله بجميع أسمائه وصفاته. وقالوا فعل العبد مخلوق له، فبرئت منهم الجازمية. والمجهولية قالت: من علم البعض، وجهل البعض كان مؤمنًا. الأباضية: هم أتباع عبد الله بن أباض التميمي، الذي خرج أيام مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، قال: إن مخالفينا من أصل القبلة كفار غير مشركين، وأباح مناكحتهم، وموارثتهم، وأباح غنيمة أموالهم من السلاح، والكراع عند الحرب لا غير. وحرّم قتلهم، وسبيهم غيلة، وأباح ذلك بعد إقامة الحجة، ونصب القتال. وقال: مرتكب الكبيرة موحد لا مؤمن، وكافر نعمة لا
(1/125)
كفرًا يخرج من الملة، وأنه مخلَد في النار، وأفعال العباد مخلوقة للهّ مكتسبة للعبد. وهم فرق كثيرة. منها الحفصية أصحاب حفص بن أبي المقدام، تميز عن الأباضية بجعله الفرق بين الشرك والإيمان، معرفة الله وحده، فمن عرفه فهو مؤمن، وإن كفر بالرسل، وما جاءوا به. ومن ارتكب كبيرة، فهو كافر غير مشرك. ومنها الحارثية: أصحاب الحارث بن مزيد الأباضي، خالف الأباضية في القدر، فقال فيه بقول المعتزلة، ولذا كرهوه. وقال بالاستطاعة قبل الفعل لا معه. وقال بإثبات طاعة لا يُراد بها وجه الله، كما قال أبو الهذيل من المعتزلة.
(1/126)
[الشيعة] الشيعة الشياع: القوة والانتشار، يقال: شاع الخبر إذا انتشر، وكثر التكلم به. وشيعة الرجل: خواصه، وجماعته الذين ينتشرون، ويتقوى بهم لنسب يجمعهم، أو لاتباعهم إياه في مذهبه، وسيرهم على منهاجه وسننه، وتجمع الشيعة على شِيَع، وتُجمع شيع على أشياع. والمراد بالشيعة هنا: كل من شايع علي بن أبي طالب خاصة، وقال بالنص على إمامته، وقصر الإمامة على آل البيت. وقال بعصمة الأئمة من: الكبائر، والصغائر، والخطأ. وقال: لا ولاء لعلي إلا بالبراء من غيره من الخلفاء الذين في عصره قولا، وفعلًا، وعقيدة، إلا في حال التقية. وقد يثبت بعض الزيدية الولاء دون البراء. فهذه أصول الشيعة التي يشترك فيها جميع فرقهم، وإن اختلفت كل فرقة عن الأخرى في بعض المسائل، فمن قال ممن ينتسب إلى الإسلام بهذه الأصول، فهو شيعي. وإن خالفهم
(1/127)
فيما سواها ومن قال بشيء منها، ففيه من التشيع بحسبه. ورؤوس فرق الشيعة خمسة: الزيدية، والإمامية، والكيسانية، والغلاة، والإسماعيلية ومن العلماء من لم يجعل الإسماعيلية فرقة رئيسية.
(1/128)
[الزيدية] الزيدية الزيدية: هم أتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ومن مقالته: إن الإمامة تنعقد للمفضول مع وجود الفاضل للمصلحة في ذلك. ومن أجل هذا رأى انعقاد الخلافة لأبي بكر وعمر مع أن عليا أفضل منهما عقيدة، وكان لا يتبرأ منهما، ولما بلغ شيعة الكوفة عنه أنه لا يتبرأ منهما رفضوه، فسموا رافضة، ومن مذهبه: سوق الإمامة في أولاد فاطمة: الحسن، والحسين، وأولادهما، وجواز خروج إمامين في قطرين على أن يكون كل منهما من أولاد فاطمة. ويتحلى بالعلم، والزهد، والكرم، والشجاعة. وقد عاب عليه أخوه محمد الباقر أخذه العلم عن واصل بن عطاء الغزال من أجل أنه كان يجوز على جدهما عليّ الخطأ في قتال الخارجين عليه. كما عاب عليه: رأيه بأن الخروج شرط في كون الإمام إمامًا، وكان يذهب في القدر إلى مذهب القدرية، وبذلك نعرف السر
(1/129)
في أن أتباع زيد كلهم معتزلة. وقد خرج زيد على هشام بن عبد الملك أيام خلافته، وبويع له بالخلافة، فقتل، وصلب بكناسة الكوفة عام 121 هـ. وكان ابنه يحيى إمامًا بعده أيام الوليد بن يزيد بن عبد الملك. وذهب إلى خراسان، فبعث إليه أميرها نصر بن سيار، سلم بن أحوز، فقتله عام 125 هـ، ثم انحرفت الزيدية بعد عن القول بصحة إمامة المفضول، وطعنوا في الصحابة، كالإمامية. ومما أجمعت عليه الزيدية: تخليد من ارتكب كبيرة من المؤمنين في النار، وتصويب علي، وتخطئة مخالفه، وتصويبه في التحكيم، وإنما أخطأ الحكمان، ويرون السيف والخروج على أئمة الجور، وإنه لا يصلى خلف فاسق. وقد افترقت الزيدية ثلاث فرق: جارودية، وسليمانية، وبترية. الجارودية: هم أتباع أبي الجارود زياد بن المنذر العبدي، مات عام 150 هـ. وقد سماه أبو جعفر الباقر سر حزب (الشيطان) . ومن مقالته: إن النبي، صلى الله عليه وسلم، نص على إمامة عليّ بالوصف دون الاسم، وإن الصحابة كفروا بتركهم بيعة علي، وبذلك خالف إمامه زيد بن علي. ومن أصحاب أبي الجارود
(1/130)
فضيل الرسان، وأبو خالد الواسطي. السليمانية: هم أتباع سليمان بن جرير الزيدي الذي ظهر أيام أبي جعفر المنصور، ومن مقالته: إن الإمامة شورى، وإنها تنعقد ولو برجلين من خيار الأمة، وإنها تنعقد للمفضول مع وجود الفاضل. إلا أنهم كفَروا عثمان للأحداث التي نسبت إليه، وكفَّروا عائشة، وطلحة، والزبير لِإقدامهم على قتال علي بن أبي طالب، وطعنوا في الرافضة من أجل قولهم بالبداء وبالتقية. البترية والصالحية: أما البترية، فأتباع كثير الثواء الملقب بالأبتر مات سنة 169 هـ تقريبًا. وأما الصالحية، فأصحاب الحسن بن صالح بن حي الكوفي الهمداني مات عام 167 هـ ومذهبهما في الإمامة مثل مذهب السليمانية، إلا أنهم يتوقفون في كفر عثمان لتعارض نصوص فضائله، والأحداث التي نسبت إليه، ويتوقفون كذلك في إكفار قتلته. ذكر في مقالات الإسلاميين أن الزيدية ست فرق الثلاث السابقة: والنعيمية، أتباع نعيم بن اليمان، واليمانية، وهم أتباع محمد بن اليمان، واليعقوبية، وهم أتباع يعقوب بن علي الكوفي.
(1/131)
[الإمامية] الإمامية الإمامية: قالوا: بالنص الصريح على إمامة علي في مواضع، وبالإشارة إليه بعينه في مواضع أخرى، وقالوا: إنه الإمامة ركن الدين ليس في الإسلام شيء أهم منه، فلا يجوز أن يتركه الرسول، صلى الله عليه وسلم، لاختيار الأمة، بل يجب أن يعين له شخصًا، وقد عين له علي بن أبي طالب بالنص عليه، والإشارة إليه. وقالوا: بتكفير بعض الصحابة، واتفقوا على إمامة الحسين، فعلي زين العابدين، فمحمد الباقر، ثم افترقوا بعد ذلك فرقًا كثيرة في الوقوف بالإمامة عند الباقر، وسوقها إلى ابنه جعفر، ثم فيمن كان إمامًا من أولاد جعفر الستة: محمد، وإسحاق، وعبد الله، وموسى، وإسماعيل، وعلي. وإليك بعضها: الباقرية: هم أصحاب أبي جعفر محمد الباقر، وهم يثبتون إمامته بالنص من أبيه زين العابدين عليه، ويزعمون أنه لم يمت، وإنه المهدي المنتظر. الجعفرية أو الناوسية: نسبة إلى رجل يُقال له: ناوس أو
(1/132)
عجلان بن ناوس من أهل البصرة، أو قرية تسمى ناوسا، ومن مذهبهم سوق الإمامة إلى جعفر الصادق بنص أبيه الباقر عليه، ويزعمون أنه لم يمت، وإنه المهدي المنتظر. الشميطية: هم أصحاب يحيى بن أبي شميط. يقول: يموت جعفر الصادق، ونصه على إمامة ابنه محمد، وإنه المهدي المنتظر. الأفطحية أو العمارية: ينسبون إلى رجل يقال له: عمار، كان يقول: بموت جعفر الصادق، ونصه على إمامة ابنه عبد الله الأفطح. الموسوية: ينسبون إلى موسى الكاظم. قالوا: إن الإمامة انتقلت من جعفر الصادق إلى ابنه موسى الكاظم بنصه عليه، ثم إن هارون الرشيد حمل موسى إلى بغداد، وحبسه لإظهاره الإمامة. ويقال: إنه دس له سما فمات. ودفن ببغداد. ثم من قال: بموته سموا: بالقطعية. ومن قال: لا ندري أمات أم لا! سموا: بالممطورة. لقول علي بن إسماعيل فيهم، ما أنتم إلا كلاب ممطورة، ومن قال بغيبته، ولم يسق الإمامة فيمن بعد سموا: بالوقفية. الاثنا عشرية: فرقة من الموسوية، قالت: بموت موسى،
(1/133)
وسموا القطعية، كما تقدم، وهؤلاء ساقوا الإمامة في أولاد موسى بنص كل منهم على من بعده، فزعموا أن الإمام بعد موسى: علي الرضا، ثم محمد التقي، ثم علي بن محمد، ثم الحسن العسكري، ثم ابنه القائم المنتظر الذي اختفى في سرداب في سر مَنْ رَأى وهو الإمام الثاني عشر. الإسماعيلية الواقفية: قالوا: بموت جعفر الصادق، ونصه على إمامة ابنه إسماعيل، ثم انتقلت منه إلى ابنه محمد بن إسماعيل لموت إسماعيل في حياة جعفر، وقالوا: بغيبة محمد، ورجعته. الإسماعيلية الباطنية: فرقة من الإسماعيلية ساقت الإمامة بعد محمد بن إسماعيل بن جعفر في أئمة مستورين، ثم ظاهرين، وهم الباطنية، وهي الفرقة المشهورة في الفرق بهذا الاسم. ومن مقالتهم أن الأرض لا تخلو من إمام حي، إما ظاهر مكشوف، وإما باطن مستور. وأن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية! ومن مات وليس في عنقه بيعة لِإمام مات ميتة جاهلية! وسموا باطنية لحكمهم بأن لكل ظاهر باطنًا، ولكل تنزيل تأويلًا، ولهم ألقاب أخرى، منها أنهم يسمون بالعراق - أيضا- القرامطة أو المزدكية. وبخراسان: التعليمية،
(1/134)
والملاحدة. وهم يسمون أنفسهم: الإسماعيلية لامتيازهم عن الموسوية الاثنا عشرية بالقول بإمامة إسماعيل بن جعفر دون أخيه موسى الكاظم. ومن مقالتهم - أيضًا- أنهم لا يقولون بإثبات الصفات لله، ولا نفيها، فرارًا من التشبيه بالموجودات والمعدومات، ولهم سوى ذلك كثير من الشناعات الكفرية.
(1/135)
[الكيسانية] الكيسانية الكيسانية: هم أصحاب كيسان مولى علي بن أبي طالب. ويقال: إنه تتلمذ على محمد بن الحنفية. وقد زعم أتباعه أنه جمع العلوم كلها، وجمع أسرار علوم علي وابنه محمد، ويجمعهم القول بأن الدين طاعة رجل، ومن أجل ذلك ضل منهم كثير، وجاءوا بالكفر: كإنكار أركان الإسلام، والشك في البعث، والقول بالتناسخ، والحلول، والرجعة بعد الموت. ومن فرق الكيسانية: المختارية: وهم أصحاب المختار بن أبي عبيد الثقفي كان خارجيًّا، ثم زبيريّا، ثم شيعيًّا كيسانيا، ومن مقالته القول: بإمامة محمد بن الحنفية بعد علِي، أو بعد الحسن والحسين. وقد تبين خيبته لمحمد بن الحنفية، فأعلن براءته منه، والذي ساعد على ظهور أمره انتسابه إلى محمد بن الحنفية، وقيامه بثأر الحسين، واشتغاله بقتل الظلمة. ومن مذهبه جواز البداء على الله علمًا، وإرادة، وأمرًا ليبرر بذلك رجوعه فيما أبرمه مع دعواه أنه يوحى إليه. ومن المختارية من قال: بأن محمد بن الحنفية لم
(1/136)
يزل، وأنه المهدي، ومن هؤلاء: كثير عزة، وإسماعيل بن محمد الحميري الشاعران. ومنهم من قال: بموته، وانتقال الإمامة إلى غيره. الهاشمية: قالوا بسوق الإمامة من محمد بن الحنفية إلى ابنه أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، وأن والده أفضى إليه بالأسرار التي أفضى بها علي إلى ولده محمد بن الحنفية. البيانية: هم أتباع بيان بن سمعان التميمي النهدي، قالوا بسوق الإمامة من أبي هاشم إلى بيان، ومن مقالتهم: أن عليّا حل فيه جزء من الله، واتحد بجسده، فكان به إلها، وعلم به الغيب، وانتصر به في الحروب. . إلخ!! ثم ادّعى النبوة. الرزامية: هم أصحاب رزام من غلاة الشيعة، قالوا: بإمامة علي بن عبد اللهّ بن عباس بعد أبي هاشم بوصية منه، ثم انتقلت منه إلى ابنه محمد، ثم إلى ابنه إبراهيم بن محمد صاحب أبي مسلم الخراساني حتى انتهت إلى أبي جعفر المنصور، ومن مذهبهم: إسقاط التكاليف، والحلول، وتناسخ الأرواح. الغلاة: هم الذين غلوا في أئمتهم حتى ألهوهم، ويجمعهم القول بتشبيه الأئمة بالله: كالنصارى في عيسى، وغيره، أو تشبيه الله بالأئمة: كاليهود، والقول بالبداء، والرجعة،
(1/137)
والحلول، وتناسخ الأرواح، والإلهية. ومن بحث وأنصف تبين له أن أصول الغلاة دخلت عليهم من تعاليم اليهود، والنصارى، وماني، ومزدك التي انتشرت في العراق، ولهم في كل بلد لقب، فهم يلقبون في أصفهان: بالخرمية، والكردية. وفي الري: بالمزدكية، والسنبادية. وفي أذربيجان: بالذقولية. وفي موضع بالمحمرة، وفيما وراء النهر: بالمبيضة ومن فرقهم ما يأتي: السبائية: أتباع عبد الله بن سبأ الحميري اليهودي، أظهر الإسلام، وأثار الفتن الدينية والسياسية، فوضع قاعدة حلول الله في علي، ومنه انشعبت فرق الغلاة الذين قالوا: بتناسخ الجزء الإلهي في الأئمة بعد علي. ومنهم من قال: بحياة علي، وغيبته، ورجعته، وهو الذي أثار الفتن على عثمان، وألّب عليه فريقًا من الأمة، وقد نفاه علي إلى ساباط المدائن لما علمه فيه من الغلو، وإحداث الفتن، ويظهر أن فكرة حياة الإمام، والغيبة، والرجعة أنشأها عبد الله بن سبأ حينما يئس الشيعة من إقامة دولة لهم ليصرفهم بها عن البيعة لخليفة موجود إلى إمام مفقود. الكاملية: أتباع أبي كامل، ومذهبهم تكفير من لم يبايع عليا، والطعن في علي لعدم قتالهم، والخروج عليهم، ومع ذلك غلا أبو كامل في علي، ورأى أن الإمامة نور ينتقل من شخص
(1/138)
لآخر، ويتفاوت. ففي شخص يقوى حتى يكون نبيا، وفي آخر يكون إمامًا. وقال كغيره من الغلاة بفكرة الحلول الكلي، والجزئي، وتناسخ الأرواح. العليائية: أتباع العلياء بن ذراع الدوسي الأسدي، زعم أن عليَا أفضل من محمد! ثم منهم من زعم أن عليا هو الذي سمى محمدًا إلهًا! وبعثه ليدعو إليه، فدعا إلى نفسه، وذموه لذلك! فسموا بالذمية. ومنهم من ألّه عليا ومحمدًا، أو فضل عليا! وسموا بالعينية. ومنهم من ألههما، وقدم محمدًا وسموا بالميمية. ومنهم من أله أصحاب الكساء: محمدًا، وعليّا، وفاطمة، وحسنا، وحسيَنَا. وقالوا: هم شيء واحد حلت فيهم الروح بالسوية. المغيرية: أتباع المغيرة بن سعيد البجلي مولى خالد بن عبد الله القسري، زعم أن الإمام بعد محمد الباقر هو محمد بن عبد الله بن الحسن الذي خرج في المدينة، وزعم أنه حي لم يمت، ثم زعم الإمامة لنفسه، ثم ادعى النبوة. وفي زعمه أن الله صورة، وجسم ذو أعضاء على حروف الهجاء، وصورته صورة رجل من نور على رأسه تاج من النور، وله قلب تنبع منه الحكمة إلى غير ذلك من الشناعات.
(1/139)
المنصورية: أتباع أبي منصور العجلي، زعم أنه إمام حين تبرأ منه الباقر وطرده، ثم زعم بعد وفاة الباقر أن روحه انتقلت إليه، وله كثير من المزاعم. منها أنه عرج به إلى السماء. ومنها أن الكِسْف الساقط من السماء هو الله أو علي. ومنها أن الرسالة لا تنقطع. ومنها تسمية الجنة والنار، وأنواع التشريع بأسماء رجال لإسقاط التكاليف، واستحلال الدماء والأموال، وقد أخذه يوسف بن عمر الثقفي والي العراق أيام هشام بن عبد الملك، وصلبه لخبث دعوته، وهم صنف من الحزمية. الخطابية: أتباع أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي، انتسب أبو الخطاب إلى جعفر الصادق أولا، فلما تبرأ منه جعفر وطرده، زعم الإمامة لنفسه، ومن مزاعمه: أن الأئمة أنبياء، ثم آلهة! وأن جعفرا إله ظهر في صورة جسم، أو لبس جسمًا فرآه الناس! ولما وقف عيسى بن موسى صاحب المنصور على خبث دعوته قتله بسبخة الكوفة، وقد افترق أصحاب أبي الخطاب بعده إلى فرق، منها: المعمرية، أتباع معمر بن خيثم زعموا أن الإمام بعد أبي الخطاب معمر، وهؤلاء ينكرون فناء الدنيا، ويرون أن ما يصيب العالم فيها، من خير وشر هو الجزاء. ومنها: البزيغية أتباع بزيغ بن موسى، زعموا أنه
(1/140)
الإمام بعد أبي الخطاب، وهؤلاء ينكرون الموت لمن بلغ من الناس النهاية في الكمال، ويزعمون أن من مات فارق فقط، ورفع، ويزعمون أن المؤمن يوحى إليه. ومنها العجلية، زعموا أن الإمام بعد أبي الخطاب عمير أو عمرو بن بيان العجلي. ومنها: أتباع مفضل الصيرفي الذي قال بربوبية جعفر دون نبوته ورسالته. وقد تبرأ جعفر الصادق بن محمد الباقر من هؤلاء كلهم، فإنهم كلهم حيارى ضالون جاهلون بحال الأئمة. الكيالية: أتباع أحمد بن الكيال، كان له مزاعم لا أساس لها من العقل، ولا مستند لها من السمع، فتركه من انخدع به، ادعى أنه إمام، ثم ادعى أنه القائم وله تأويلات لنصوص الدين. منها: حملة الميزان على العالمين، والصراط على نفسه، والجنة على الوصول إلى علمه من البصائر، والنار على الوصول إلى ما يضاده. الهشامية: أتباع هشام بن الحكم، وهشام بن سالم الجواليقي، وكلاهما من أهل التشبيه، فأما هشام بن الحكم، فقال فيما نقل عنه: إن الله- تعالى- جسم ذو أبعاض له قدر من الأقدار، ولكن لا يشبه شيئًا من المخلوقات. ولا يشبهه شيء منها. ونقل عنه أنه قال: إنه شبر بشبر نفسه، إلى آخر شناعاته.
(1/141)
وغلا في عليّ حتى جعله إلهًا واجب الطاعة. وأما هشام الجواليقي، فقال: إن الله- تعالى- على صورة إنسان أعلاه مجوف، وأسفله مصمت، إلى آخر شناعاته، وأجاز المعصية على الأنبياء دون الأئمة لعصمتهم. النعمانية: هم أتباع محمد بن علي بن النعمان أبي جعفر الأحول الملقب بشيطان الطاق، ومذهبه في حدوث علم الله: كمذهب هشام بن الحكم، وكذلك مذهبه في ذات الله، إلا أنه يقول: إنها نور على صورة إنسان. اليونسية: هم أتباع يونس بن عبد الرحمن القمي مولى آل يقطين، وهو من المشبهة، يزعم أن الملائكة تحمل العرش، وأن العرش يحمل الله. وأن أطيط الملائكة من وطأة عظمة الله على العرش. النصيرية والإسحاقية: النصيرية أتباع محمد بن نصير النميري، والإسحاقية ينسبون إلى إسحاق بن الحارث، وكلاهما من غلاة الشيعة يرون ظهور الروحانيات في صور جسمية خيرة أو خبيثة، ويزعمون أن الله يظهر في صورة إنسان، وأن جزء منه حلّ في عليّ به يعلم الغيب، ويفعل ما لا طاقة لأحد به من البشر، إلا أن النصيرية أميل إلى مشاركة علي لله في الألوهية.
(1/142)
والإسحاقية أميل إلى مشاركة علي لمحمد في النبوة، وكلاهما يرى - أيضًا- إباحة المحارم، وإسقاط التكاليف. ومن الرافضة- أيضا- جماعة يقولون: بإمامة محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وأنه لم يزل حيا، وينتظرون خروجه، مع أن جيش أبي جعفر المنصور قد قتله بالمدينة، وأقر بذلك فرقة من أتباع إمامهم محمد.
(1/143)
[أسئلة منثورة من سنوات عدة]
أسئلة منثورة من سنوات عدة س1- من الفرق الإسلامية الخوارج. فمن هم الخوارج؟ ومتى نشأوا؟ اذكر فرقهم الرئيسية، والأصول التي اشتركوا فيها. ولم سمّوا وعيدية وخوارج؟ وبم تحكم فيهم؟ س2- (أ) - ذكر في مطلع سورة القصص، وفي أثنائها ما يدل على أن قصة موسى سيقت لتكون معجزة لمحمد، صلى الله عليه وسلم، فاذكر الآيات التي ترشد إلى ذلك، مع بيان وجه إرشادها إليه. وكيف كانت قصة موسى بجملتها آية على رسالة محمد، صلى الله عليه وسلم؟ وكيف كانت بتفصيلها دليلًا على أن الله يعد أنبياءه قبل النبوة بالعلم، والأخلاق الفاضلة لتحمل أعباء الرسالة؟ (ب) - ما معنى الشيعة لغة، وما المراد بها عند علماء الفرق الإسلامية؟ ومتى نشأت الشيعة مع بيان السبب، وما الأصول التي اشتركت فيها فرق الشيعة؟ اذكر فرقهم الرئيسية التي تتشعب عنها جميع فرقهم.
(1/144)
من الذي بدأ مذهب المعتزلة؟ ومتى كان ذلك؟ اذكر الأصول التي تشترك فيها فرقهم؟ وبيّن مرادهم بكل منها، ولم سموا معتزلة؟ اذكر أربعة من مشاهيرهم. من الفرق الإسلامية الخوارج، فاذكر ضابطًا يشملهم ويميزهم عن غيرهم. واذكر فرقهم الرئيسية وما الأصول التي اشتركت فيها فرقهم؟ ولم سموا وعيدية وخوارج؟ أسئلة امتحان النقل بكلية اللغة العربية لعام 82- 83 هـ س1- عرّف الحكم. واذكر الفرق بين أقسامه الثلاثة (الحكم الشرعي. الحكم العرفي. الحكم العقلي) . مع التوضيح بالأمثلة. ما معنى كون الوجوب والاستحالة والجواز أحكامًا عقلية؟ وضّح ما تقول بالأمثلة. وهل يكفي العقل في إثبات أحكام الدين دون نصوص الشرع؟ علل لما تقول مع التوضيح بالأمثلة؟ س 2- عرف توحيد الألوهية مع التمثيل؟ واذكر آيات من القرآن فيها الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية مع بيان وجه الدلالة، ولم كان توحيد الربوبية طريقا فطريّا لإثبات توحيد الألوهية؟ ولم كان طريق القرآن في
(1/145)
الحجاج، وهدي الأنبياء في الاستدلال أعظم طمأنينة للنفس، وأقوى في إثبات الحق وإقناع الخصم؟ س 3- (أ) - اذكر الفرق بين النبي والرسول، وأوضح النسبة بينهما؟ (ب) - كيف كانت المعجزة دليلًا على صدق من ظهرت على يده في دعوى الرسالة؟ ولم اختلفت المعجزات باختلاف الأمم؟ اشرح ذلك مستعينا بمعجزة موسى، وعيسى، ومحمد، عليهم الصلاة والسلام، ولم أرسل كل رسول بلسان قومه؟ اذكر ما يدل على ذلك من آيات القرآن. أسئلة امتحان النقل بكلية اللغة العربية لعام 82 -83 هـ س 1- أثبت بالدليل العقلي حاجة العالم إلى موجد، واذكر من آيات القرآن ما يرشدك إلى ما دل عليه العقل من حاجة العالم إلى موجد مع بيان وجه الدلالة؟ واذكر من الكتاب والسنة ما يرشدك إلى أن ذلك ثابت- أيضا- بشهادة الفطر مع بيان وجه الدلالة؟ س 2- هل الأمم التي كذبت الأنبياء في دعوى الرسالة أقرت بإمكان الرسالة اذكر من آيات القرآن في قصص
(1/146)
الأنبياء ما يدل على ذلك مع بيان وجه الدلالة، وبين الدواعي التي حملتهم على رد دعوة الرسل مع الحكمة في أن الله اختار رسله إلى الناس من البشر، اذكر ما يرشدك إلى ذلك من القرآن؟ س3 - ذكر في مطلع سورة يوسف، وفي أثنائها، وختامها ما يدل على أن قصة يوسف سيقت لتكون معجزة لمحمد، صلى الله عليه وسلم، فأشر إلى الآيات التي أرشدت إلى ذلك الغرض. وبين كيف كانت قصة يوسف بجملتها آيات لمحمد، صلى الله عليه وسلم، وكيف كانت دليلا- أيضا- على أن الله يعد أنبياءه قبل النبوة بالعلم، والأخلاق الفاضلة لتحمل أعباء الرسالة؟ س1 - (أ) - أذكر الفرق أولا: بين الواجب لذاته، والواجب لغيره. وثانيًا: بيّن المستحيل لذاته والمستحيل لغيره مع توضيح كل منها بالمثال؟ (ب) - اذكر الدليل العقلي على إثبات توحيد الربوبية، واذكر الآيات التي استخلص منها علماء المسلمين هذا الدليل العقلي مع بيان وجه دلالتها على المطلوب؟ ولماذا أنبه
(1/147)
الله على ذلك في القرآن مع أن المشركين قد أقروا بتوحيد الربوبية؟ (جـ) - بين المراد بتوحيد الأسماء والصفات، ثم بين كيف كان الوجود كله آيات بينات، وشواهد واضحات على إثبات أسماء الله وصفاته واذكر آيات من القرآن الكريم ترشد إلى ذلك؟ س2 - (أ) - استدل على إمكان الرسالة وحاجة العالم إليها، وما شبهة من قال: بوجوبها، ومن قال: باستحالتها؟ وبم ترد على كل منهما؟ (ب) - من المقرر أن معجزات الأنبياء ليست منحصرة فيما تحدى به كل نبي قومه، فأوضح ذلك ببيان عدم انحصار معجزة موسى في انقلاب العصا حيَّة، وخروج يده بيضاء مستعينًا في ذلك بما ذكر الله من سيرته قبل الرسالة وبعدها في القرآن الكريم، وما جرى عليه، وعلى قومه من الأحداث؟ س-1- (أ) - فرّق بين الواجب، والممكن، والمستحيل في العقليات مع التوضيح بالمثال؟ (ب) - استدل على وجوب الوجود لله- تعالى- بالدليل
(1/148)
النقلي، والدليل العقلي، واذكر آيات من القرآن الكريم ترشد إلى الدليل العقلي، مع توضيح وجه إرشادها إلى ذلك؟ (جـ) - هل أنكر فرعون وجود رب العالمين؟ بين ذلك وأجب عنه مسترشدًا فيما تذكر بالحوار الذي دار بين فرعون وموسى في هذه المسألة بدرجة تدفع شبهة من زعم أن وجود العالم وليد الصدفة والاتفاق. أو أنه نشأ عن تفاعل بين عناصر المادة، فتفرقت إلى وحدات، أو اتحدت بعد تفرق، وكان لتلك الوحدات، أو المركبات ما لها من الخواص؟ 2 - (أ) - عرف كلًّا من المعجزة، والسحر، ثم أوضح ذلك بذكر ثلاثة فروق يتمايز بها كل منهما عن الآخر؟ (ب) - أوضح وجه كون القرآن الكريم معجزة دالة على نبوة نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، من حيث النظم، وما اشتمل عليه من التشريع، وأحكام الغيب؟
(1/149)