الوصف المفصل
الإسلام والإيمان والإحسان
تأليف
عبد الله بن جار الله بن إبراهيم آل جار الله
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
مقدمة
الحمد لله المتوحد في الجلال بكمال الجمال تعظيماً وتكبيراً، المتفرد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديراً وتدبيراً المتعالي بعظمته ومجده الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين وقيوم السموات والأرضين الذي لم يزل ولا يزال عليماً قديراً، والحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً.
والحمد لله الذي أنعم علينا بنعمه العظيمة وآلائه الجسيمة حيث أنزل علينا خير كتبه القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وأرسل إلينا أفضل رسله محمد ﷺ إلى جميع العالمين شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا والحمد لله الذي شرع لنا أفضل شرائع دينه المشتمل على الإسلام والإيمان والإحسان وأكمله لنا ورضيه منا.
والحمد لله الذي جعلنا خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، والحمد لله الذي هدانا لمعالم دينه الذي ارتضاه لنفسه وبناه على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام، والحمد لله على ما يسره من صيام رمضان وقيامه وتلاوة كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، والذي ضمنت الهداية لمن أطاعه، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمره صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد واحشرنا في زمرته وأدخلنا في شفاعته وأوردنا حوضه واسقنا منه شربة لا نظمأ بعدها أبدا يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
وبعد فقد جاء جبريل الرسول الملكي عليه السلام الموكل بالوحي جاء إلى النبي ﷺ وهو جالس بين أصحابه جاءهم بصورة رجل لا يعرف فجلس بين يدي النبي ﷺ جلسة المتعلم المسترشد فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان فأجابه النبي ﷺ بأن الإسلام مبناه وأسسه على خمس دعائم لا يصح بدونها وهي الإقرار بالله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة والمحافظة على الصلوات الخمس مع القيام بشروطها وأركانها وواجباتها، وإعطاء الزكاة لمستحقيها عند وجوبها وهم الفقراء والمساكين ومن ذكر معهم في آية مصارف الزكاة الثمانية، وصيام شهر رمضان بنية خالصة لله تعالى، وأداء فريضة الحج على من استطاع إليه سبيلا من زاد وراحلة أي نفقة ومركوب أو أجرته وكان طريقه إلى الحج آمنا.
والإيمان بالله الواحد القهار لا إله غيره ولا رب سواه ولا خالق ولا رازق غيره المتصف بالكمال المنزه عن النقص.
والإيمان بالملائكة الكرام وأنهم عباد مكرمون لا يعصون الله تعالى وبأمره يعملون وأنهم يسبحون الليل والنار لا يفترون.
والإيمان بالكتب المنزلة على الرسل من عند الله تعالى.
والإيمان بالرسل المبلغين عن الله تعالى شرعه ودينه.
وأنه ينبغي للإنسان أن يعبد الله تعالى كأنه يشاهده سبحانه ويعلم أنه مطلع عليه يراه ويسمعه لا تخفى عليه خافية، وأن علم الساعة لا يعلمه أحد من الخلق وإنما علمها عند الله، وأن من علامات الساعة كثرة السراري وأولادها أو كثرة عقوق الأولاد لأمهاتهم حيث يعاملوهن معاملة الإماء، وأن رعاة الغنم والفقراء تبسط لهم الدنيا في آخر الزمان فيتفاخرون في زخرفة المباني وتشييدها وكل هذه الأشياء التي أخبر بها الصادق المصدوق قد حصلت، وكل هذه الأسئلة والأجوبة عليها لتعليم هذا الدين الحنيف من جبريل عليه السلام لقول رسول الله ﷺ «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم».
ولأهمية هذا الحديث العظيم الجامع لأركان الإسلام والإيمان والإحسان شرحته وذكرت ما يستفاد منه من فوائد وأضفت إليه شرح حديث «قل آمنت بالله ثم استقم» وبيان من هو المسلم والمؤمن والمهاجر والمجاهد([1]).
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينفع بهذه الرسالة وما تضمنته من عقائد وأعمال وأن يحيينا على الإسلام والإيمان ويتوفانا عليه وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة وأن لا يزغ قلوبنا بعد إذا هدانا وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب.
والحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.
وسبحان الله وبحمده زنة عرشه، ورضا نفسه وعدد خلقه ومداد كلماته وصلوات الله وسلامه على خير خلقه وأنبيائه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.
الإسلام والإيمان والإحسان
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله ﷺ ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد فجلس إلى النبي ﷺ فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ قال رسول الله ﷺ «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» قال: صدقت فعجبنا له يسأله ويصدقه قال: أخبرني عن الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره» قال: أخبرني عن الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» قال: أخبرني عن الساعة؟ قال: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل».
قال أخبرني عن أماراتها؟ قال: «أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان» ثم انطلق فلبثت مليا ثم قال لي: «يا عمر أتدري من السائل»؟ قلت الله، ورسوله أعلم قال: «فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» رواه المسلم هذا حديث عظيم متفق عليه على صحته وجلالة قدره وكثرة فوائده فهو كالأم للسنة كما سميت الفاتحة أم القرآن لجمعها معاني القرآن.
قوله: فأسند ركبتيه إلى ركبتيه أي إلى ركبتي النبي ﷺ وقد تضمن هذا الحديث التعريف الشرعي للإسلام والإيمان والإحسان، والأسس التي ينبني عليها كل واحد منها، فالإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله وهو ثلاث مراتب الإسلام والإيمان والإحسان، وكل مرتبة لها أركان فأركان الإسلام خمسة:
الأول: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله لا معبود في الأرض ولا في السماء بحق إلا الله وقد اشتملت على النفي والإثبات فنفت عبادة جميع ما يعبد من دون الله من الملائكة والأنبياء والصالحين والأولياء والأشجار والأحجار والقبور والشمس والقمر وجميع المخلوقات التي لا تنفع ولا تضر ولا تخلق ولا ترزق ولا تحيي ولا تميت وأثبتت العبادة لله الواحد القهار النافع الضار المنفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار وحده لا شريك له في عبادته كما أنه ليس له شريك في ملكه كما قال تعالى: ]شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[ [آل عمران: 18] وقال تعالى: ]وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلهُمْ يَرْجِعُونَ[ [الزخرف: 26-28] وهذه الكلمة العظيمة تستلزم المحبة لله والخوف والرجاء منه وامتثال أوامره واجتناب مناهيه وفعل ما أوجب واجتناب ما حرم فمن قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه عارفا بمعناها عاملا بمقتضاها قائما بشروطها دخل الجنة وشروطها ثمانية نظمها بعضهم بقوله:
محبة وانقياد والقبول لها | علم يقين وإخلاص وصدقك مع | |
سوى الإله من ارتداد قد ألها | وزيد ثامنها الكفران منك بما |
وهي العلم واليقين والإخلاص والصدق والمحبة والانقياد لها والقبول والكفر بما يعبد من دون الله كائنا من كان، قال ﷺ «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل»([2]) أما من قال هذه الكلمة ولم يعرف معناها ولم يعمل بمقتضاها لم ينفعه مجرد التكلم بها وإن ادعى أنه يحب الله فإن محبته تستلزم طاعته كما قيل:
هذا محال في القياس شنيع | تعصي الإله وأنت تزعم حبه | |
إن المحب لمن يحب مطيع | لو كان حبك صادقا لأطعته |
ولما ادعى قوم أنهم يحبون الله جعل لمحبته دليلا وهو متابعة رسوله ﷺ قال تعالى: ]قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ[ [آل عمران: 31] فأوجب اتباع الرسول محبة الله لمن اتبعه ومغفرة ذنوبه.
قوله: «وأن محمدا رسول الله» أي تقر وتعترف أن الله أرسل محمدا إلى الناس كافة أرسله بالحق شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وشهادة أن محمدًا رسول الله تستلزم طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر أن لا يعبد الله إلا بما شرع فهو ﷺ عبد لا يعبد ورسول لا يكذب بل يطاع ويتبع شرفه الله بالعبودية الخاصة والرسالة العامة، قال تعالى: ]سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ[ [الإسراء: 1] ]تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا[ [الفرقان: 1] وقال تعالى: ]قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا[ [الأعراف: 158].
وقد أوجب الله طاعة رسوله ومتابعته والانقياد لحكمه والاستسلام لأمره وذلك من مستلزمات شهادة أن محمدا رسول الله فمن لم يطعه ﷺ في ما أمر ونهى فهو لم يحقق هذه الشهادة قال تعالى: ]وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا[ [الحشر: 7] وقال تعالى: ]فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[ [النور: 5] قال تعالى: ]فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[ [النساء: 65].
وما أمر به ﷺ فقد أمر الله به وما نهى عنه فقد نهى الله عنه ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ومن يعصي الرسول فقد عصى قال تعالى: ]وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى[ [النجم: 3، 4] وقال تعالى: ]مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ[ [النساء: 80].
الركن الثاني من أركان الإسلام:
إقام الصلاة: وهي الإتيان بها بشروطها المعروفة وأركانها وواجباتها ومستحباتها وخشوعها وبجميع ما يجعلها كاملة فدخل في ذلك الطهارة، واجتناب النجاسة، وأداؤها مع الجماعة في المسجد وحضور القلب فيها والإخلاص واجتناب مراءات الناس فيها، فبذلك تكمل وينمو ثوابها ويعظم أجرها ويستحق صاحبها الفلاح والفوز بجنات الفردوس الأعلى بما فيها من الكرامات، وتكون ناهية لصاحبها عن الفحشاء والمنكر، ومكفرة للذنوب والآثام، ونورا لصاحبها في وجهه وقلبه وقبره ونجاة له يوم القيامة.
الركن الثالث من أركان الإسلام:
إيتاء الزكاة: الواجبة في أنواع الأموال لمستحقيها امتثالا لأمر الله وإحسانا إلى خلقه وسموا بالنفوس عن رذيلة البخل والشح، قال تعالى: ]وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ[ [البينة: 5] وقال تعالى: ]وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[ [التغابن: 16].
وفي ذلك مغفرة للذنوب وتطهير للقلوب وتزكية للنفوس، قال تعالى: ]خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا[ [التوبة: 103] وقال تعالى: ]إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ[ [التغابن: 17].
وعلاوة على ذلك فقد وعد بإخلاف النفقة ومضاعفة الأجر وحصول البركة والزيادة فعادت مصلحة الزكاة والصدقة ومنفعتها إلى المال نفسه والمنفق له، والمنفق عليه، ولهذا سميت زكاة وصدقة لأنها تزكي المال وتحل فيه البركة وتزكي المال له أي تنمي إيمانه وأخلاقه وحسناته وتزكي الفقير بمنفعته وسد حاجته وهي دليل على صدق إيمان المتصدق ولهذا سماها الرسول ﷺ برهانا وأخبر أنها تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وقد سبق شيء من فضل الصدقة في الآيات وشرحها وسيأتي بشيء من فضل الصدقة في الأحاديث الآتية إن شاء الله تعالى.
الركن الرابع: من أركان الإسلام:
صوم رمضان: وهو الإمساك عن الطعام والشراب والنكاح بنية من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس قال تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[ الآيات إلى قوله تعالى: ]شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ[ [البقرة: 183-185] وقال ﷺ «قال الله تعالى كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» رواه البخاري ومسلم.
الركن الخامس من أركان الإسلام:
حج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا: والحج معناه قصد مكة لعمل مخصوص في زمن معين والاستطاعة تتحقق بحصول ثلاثة أشياء وهي صحة البدن وأمن الطريق ووجود الزاد والراحلة أي النفقة والمركبة المؤدي إليه وهي متوفرة في هذه الأوقات قال تعالى: ]وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[ [آل عمران: 97] وفي الحديث أن النبي ﷺ «من استطاع الحج فلم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا»([3]).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لقد هممت أن أبعث إلى هذه الأمصار فينظروا كل من له جدة فلم يحج فليضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين([4])، وقال ابن عباس: من كان عنده مال فلم يؤد زكاته وأطاق الحج فلم يحج إلا سأل الرجعة عند الموت قال تعالى: ]وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[ [المنافقون: 10، 11] فهذه أركان الإسلام الخمسة التي من قام بها حق القيام فهو المسلم حقا واستحق مغفرة ربه ورضوانه ومن أخل بها أو ببعضها نقص إسلامه بحسبه واستهان بحق ربه وتعرض لعقوبته وعذابه وفي الحديث «من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيًا وجبت له الجنة»([5]).
وفي رواية «غفر له ذنبه» وفي رواية «فقد ذاق طعم الإيمان» وفي رواية «كان حقا على الله أن يرضيه» ولكن الرضا كما تقدم يستلزم الانقياد والمتابعة والطاعة فمن عصى الله ورسوله وأخل بأركان الإسلام وترك الواجبات وارتكب المحرمات ولم يمتثل المأمورات والمنهيات فهو لم يذق طعم الإيمان ويجب عليه التوبة إلى الله تعالى توبة صادقة قبل أن يموت، ومن استقام على ذلك فقد استحق هذا الوعد الكريم وذاق طعم الإيمان، وغفر له ذنبه، وكان حقا على الله أن يرضيه ويدخله الجنة بفضله ورحمته وتوفيقه وكرمه.
المرتبة الثانية من مراتب الدين: الإيمان:
وهو بضع وسبعون شعبة أعلاها وأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان وهو في اللغة التصديق وفي الشرع التصديق الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والتصديق بالقدر خيره وشره قال تعالى: ]لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ[ [البقرة: 177] وقال تعالى: ]إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ[ [القمر: 49] فهذه أسس الإيمان وأركانه وهي ستة:
1- الإيمان بالله: وهو التصديق بأنه سبحانه وتعالى موجود موصوف بصفات الكمال والجلال والعظمة منزه عن صفات النقص وأنه واحد أحد فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا حي لا يموت، قيوم لا ينام، عليم بكل شيء، قادر على كل شيء، خالق جميع المخلوقات، متصرف فيها بما يشاء، يفعل في ملكه ما يريد.
2- والإيمان بالملائكة عليهم السلام: وهو التصديق بأنهم ]عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ[ ويجب الإيمان بهم إجمالا في الإجمال وتفصيلا في التفصيل فمن ساداتهم جبريل عليه السلام وهو أفضل الملائكة وهو الموكل بتبليغ الوحي إلى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وقد وصفه الله بالأمانة والقوة وحسن الخلق، وقد كان يأتي النبي ﷺ بصفات متعددة ورآه على صورته التي خلق عليها مرتين، ومن ساداتهم ميكائيل عليه السلام وهو موكل بالقطر والنبات.
ومن ساداتهم إسرافيل وهو أحد حملة العرش وهو الذي ينفخ في الصور، قال ابن كثير رحمه الله: إن الملائكة بالنسبة إلى ما هيأهم الله له أقسام: فمنهم حملة العرش، ومنهم كربيون الذين هم حول العرش وهم مع حملة العرش أشرف الملائكة وهم المقربون ومنهم موكلون بالجنات وإعداد الكرامات لأهلها وتهيئة الضيافة لساكنيها من ملابس ومآكل ومشارب ومساكن وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ومنهم الموكلون بالنار -أعاذنا الله منها- وهم الزبانية ومقدموهم تسعة عشر وخازنها مالك وهو مقدم على الخزنة، ومنهم الموكلون بحفظ بني آدم وحفظ أعمالهم([6]).
3- والإيمان بالكتب المنزلة من السماء: وهي مائة صحيفة وأربعة كتب على ما ورد في حديث أبي ذر([7]) وهي خمسون صحيفة نزلت على شيث بن آدم وثلاثون صحيفة على إدريس وعشر صحف على إبراهيم وعشر على موسى قبل التوراة وأربعة كتب وهي التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود والقرآن على محمد ﷺ وهو أفضلها وأعلاها وناسخا لها ومهيمنا عليها ومتضمنا لما فيها وزيادة فهو ]تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ[ فيه نبأ الأولين والآخرين وفيه جميع ما يحتاج إليه الناس في دينهم ودنياهم وأخراهم كما قال تعالى: ]مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ[ [الأنعام: 38] .
]لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[ [فصلت: 42].
4- الإيمان بالرسل: وهو التصديق بأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى أيديهم بالمعجزات الدالة على صدقهم، وأنهم بلغوا عن الله تعالى رسالاته وبينوا للمكلفين ما أمرهم الله به، وأنه يجب احترامهم وأن لا يفرق بين أحد منهم.
5- والإيمان باليوم الآخر: وهو التصديق بما يكون بعد الموت من فتنة القبر وعذابه ونعيمه والتصديق بيوم القيامة وما اشتمل عليه من الإعادة بعد الموت والنشر والحشر والحساب والميزان والصراط والجنة والنار وأنهما دار ثواب وعقاب للمحسنين والمسيئين إلى غير ذلك مما صح به النقل.
6- والإيمان بالقدر: وهو التصديق بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأن ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه قال ﷺ «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف»([8]).
ومراتب الإيمان بالقدر أربع:
الأول: علم الله بالأشياء قبل كونها.
والثاني: كتابته لها.
والثالث: مشيئته لها.
والرابع: خلقه لها وإيجاده وتكوينه وقد جمعت في بيت الشعر قال:
كذاك خلق وإيجاد وتكوين | علم كتابة مولانا مشيئته |
ثم إن أنواع التقادير أربعة:
الأول: التقدير السابق في علم الله وكتابته في اللوح المحفوظ.
والثاني: التقدير العمري وهو الذي يرسل به الملك إلى الجنين في بطن أمه فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقيا أو سعيدا.
والثالث: التقدير الحولي وهو الذي يكون في ليلة القدر يقدر فيها ما يكون في السنة من أقدار.
والرابع: التقدير اليومي وهو المذكور في قوله تعالى: ]كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ[ أي أمر يظهره على وفق ما قدره من إحياء وإماتة وإعزاز وإذلال وإغناء وإفقار وإجابة داع وإعطاء سائل وغير ذلك([9]).
قال ابن القيم رحمه الله: لما ذكر نحو ما تقدم: فهذا تقدير يومي والذي قبله تقدير حولي والذي قبله تقدير عمري والذي قبله تقدير سابق على وجوده لكن قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة كما أخبر بذلك النبي ﷺ وكل هذه التقادير كالتفصيل من القدر السابق وفي ذلك دليل على كمال علم الرب وقدرته ورحمته، ثم قال: وقد اتفقت الأحاديث على أن القدر السابق لا يمنع العمل ولا يوجب الاتكال عليه بل يوجب الجد والاجتهاد وبالله التوفيق.
والفرق بين الإسلام والإيمان حيث ذكرا جميعا فالإسلام أعم فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمن بدليل قول الله تعالى: ]قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ[ [الحجرات: 14] أو يفسر الإيمان باعتقاد القلوب والإسلام بأعمال الجوارح، أما إذا ذكر الإٍسلام، وحده أو الإيمان وحده دخل فيه الآخر وصار اسما لاعتقاد القلوب وأعمال الجوارح ونطق اللسان.
المرتبة الثالثة: من مراتب الدين: الإحسان: وهو نوعان إحسان في عبادة الله، وإحسان إلى خلقه، فالإحسان في عبادة الله قد فسره النبي ﷺ بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وهذا مقام المشاهدة لأن من قدر أن يشاهد الملك استحيا أن يلتفت إلى غيره، وأن يشغل قلبه بغيره «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» فينبغي أن لا تقصر في إحسان العمل له والإخلاص فيه فإنه يرى مكانك ويسمع كلامك ويعلم سرك وعلانيتك فراقبه ولا تستهن بنظره إليك ورؤيته إياك غافلا عنه أو مسيئا في عبادته، وأما الإحسان إلى خلقه فهو بذل ما يمكن من أنواع الإحسان بالقول والفعل والمال والجاه والتعليم والنصيحة وبذل المعروف، والله يحب المحسنين وهو معهم بتوفيقه وتسديده قوله: «فأخبرني عن الساعة»؟ أي متى قيامها قوله: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل» أي علمي وعلمك فيها سواء لا يعلمها إلا الله لا يعلمها ملك مقرب لا نبي مرسل قال تعالى: ]إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ[ قوله: «فأخبرني عن أماراتها»،؟ أي علامات مجيئتها، وقوله: «أن تلد الأمة ربتها» أي سيدتها، قيل: هذا إخبار عن كثرة السراري وأولادهن فإن ولدها من سيدها بمنزلة سيدها، وقيل معناه أن الإماء يلدن الملوك فتكون أمه من جملة رعيته، ويحتمل أن يكون المعنى أن الشخص يستولد الجارية ولدا ويبيعها فيكبر الولد ويشتري أمه وهذا من أشراط الساعة، قال النووي قوله: «وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان» العالة الفقراء ومعناه أن أهل البادية وأشباههم من أهل الحاجة والفاقة يترقون في البنيان ويتطاولون فيه أي أن بعضهم يجيد بناء داره ويطيل ارتفاعها لتكون أطول من دار الآخر بعد أن تبسط لهم الدنيا يتباهون في البنيان، قوله: «فلبث مليا» قيل هو بفتح الثاء على أنه للغائب، وقيل فلبثت بزيادة تاء المتكلم وكلاهما صحيح.
قوله مليا معناه وقتا طويلا وفي رواية بعد ثلاثة أيام.
قال النووي: وفي هذا مخالفة لقول أبي هريرة في حديث ثم أدبر الرجل فقال النبي ﷺ «ردوا علي الرجل» فأخذوا يردونه فلم يروا شيئا فقال ﷺ «هذا جبريل» فيمكن الجمع بينهما بأن عمر رضي الله عنه لم يحضر قول النبي ﷺ لهم في الحال بل كان قد قام من المجلس فأخبر النبي ﷺ الحاضرين في الحال وأخبر عمر بعد ثلاث إذا لم يكن حاضرا عند الباقين والله أعلم.
ما يستفاد من هذا الحديث:
1- استحباب تحسين الهيئة عند الدخول على العلماء وأهل الفضل.
2- صفة الجلوس لطلب العلم وحسن الأدب في ذلك.
3- سؤال الإنسان عما يجهل من أمر دينه.
4- أن دين الإسلام ثلاث مراتب: الإسلام والإيمان والإحسان.
5- أن أسس الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام مع الاستطاعة.
6- أن أسس الإيمان هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره.
7- الفرق بين الإيمان والإسلام من حيث العموم والخصوص والعمل والاعتقاد.
8- تفسير الإحسان بمراقبة الله في القول والعمل والإخلاص له في ذلك.
9- أن لا يعلم متى تقوم الساعة أحد إلا الله.
10- من أشراط الساعة أن تلد الأمة المملوكة سيدتها وأن يتطاول الأعراب في البنيان.
11- فيه علم من أعلام النبوة حيث قد وجدت هذه الأمارات.
12- أن الدين يشمل قول اللسان واعتقاد القلب وعمل الجوارح.
13- أن الإسلام والإيمان والإحسان كلها تسمى دينا كما قال ﷺ «أتاكم يعلمكم دينكم».
14- وجوب الإيمان والرضا بالقضاء والقدر خيره وشره حلوه ومره.
15- فضل جبريل عليه السلام حيث جاء إلى النبي ﷺ يعلم الصحابة أمر دينهم.
16- فضل محمد ﷺ حيث أرشد أمته إلى ما ينفعهم ويقربهم إلى الله ودلهم الصراط المستقيم صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين([10]).
الإسلام والإيمان والهجرة والجهاد
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» متفق عليه، وزاد الترمذي والنسائي «والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم» وزاد البيهقي «والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله».
ذكر في هذا الحديث كمال هذه الأسماء الجليلة التي رتب الله ورسوله عليها سعادة الدنيا والآخرة وهي الإسلام والإيمان، والهجرة والجهاد، وذكر حدودها بكلام جامع شامل، وأن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.
وذلك أن الإسلام الحقيقي: هو الاستسلام لله، وتكميل عبوديته والقيام بحقوقه، وحقوق المسلمين، ولا يتم الإسلام حتى يحب للمسلمين ما يحب لنفسه، ولا يتحقق ذلك إلا بسلامتهم من شر لسانه وشر يده، فإن هذا أصل هذا الفرض الذي عليه للمسلمين فمن لم يسلم المسلمون من لسانه أو يده كيف يكون قائما بالفرض الذي عليه لإخوانه المسلمين؟ فسلامتهم من شره القولي والفعلي وعنوان على كمال إسلامه.
وفسر المؤمن بأنه الذي يأمنه الناس على دمائهم وأموالهم، فإن الإيمان إذا دار في القلب وامتلأ به أوجب لصاحبه القيام بحقوق الإيمان التي من أهمها: رعاية الأمانات، والصدق في المعاملات والورع عن ظلم الناس في دمائهم وأموالهم، ومن كان كذلك عرف الناس هذا منه، وآمنوه على دمائهم وأموالهم، ووثقوا به، لما يعلموا منه من مراعاة الأمانات، فإن رعاية الأمانة من أخص واجبات الإيمان، كما قال ﷺ «لا إيمان لمن لا أمانة له»([11]).
وفسر ﷺ الهجرة التي هي فرض عين على كل مسلم بأنها هجر الذنوب والمعاصي، وهذا الفرض لا يسقط عن كل مكلف في كل حال من أحواله، فإن الله حرم على عباده انتهاك المحرمات والإقدام على المعاصي، والهجرة الخاصة التي هي الانتقال من بلد الكفر أو البدع إلى بلد الإسلام والسنة، جزء من هذه الهجرة، وليست واجبة على كل أحد، وإنما تجب بوجود أسبابها المعروفة.
وفسر المجاهد بأنه الذي جاهد نفسه على طاعة الله، فإن النفس ميالة إلى الكسل عن الخيرات، أمارة بالسوء سريعة التأثر عند المصائب وتحتاج إلى صبر وجهاد في إلزامها طاعة الله، وثباتها عليها، ومجاهدتها عن معاصي الله، وردعها عنها، وجهادها على الصبر عند المصائب، وهذه هي الطاعات، امتثال المأمور، واجتناب المحظور، والصبر على المقدور.
فالمجاهد حقيقة، من جاهدها على هذه الأمور، لتقوم بواجبها ووظيفتها.
ومن أشرف هذا النوع وأجله: مجاهدتها على قتال الأعداء، ومجاهدتهم بالقول والفعل، فإن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الدين.
فهذا الحديث من قام بما دل عليه فقد قام بالدين كله: من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأمنه الناس على دمائهم وأموالهم، وهجر ما نهى الله عنه، وجاهد نفسه على طاعة الله، فإنه لم يبق من الخير الديني والدنيوي الظاهري، والباطني شيئا إلا فعله، ولا من الشر شيئا إلا تركه، والله الموفق وحده([12]).
قل آمنت بالله ثم استقم
عن سفيان بن عبد الله الثقفي، قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك، قال: قل «آمنت بالله ثم استقم» رواه مسلم.
يخبرنا الصحابي راوي هذا الحديث أنه طلب من النبي ﷺ أن يعلمه ما يحتاج إليه في دينه قولا جامعا شاملا لمعاني الإسلام واضحا جليًا لا يحتاج إلى تفسير كافي لا يحتاج معه إلى سؤال غيره، فأمره الرسول ﷺ بأن يداوم على الإيمان، ثم يعتدل ويستقيم على ما يقتضيه الإيمان من امتثال الأوامر، ندبها وواجبها واجتناب النواهي حرامها ومكروهها، فإذا عمل بهذا فقد نجا وفاز في دنياه وآخرته، وقد ورد في القرآن العزيز الفضل العظيم لمن آمن بالله ثم استقام قال تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ[ [فصلت: 30-33]([13]).
فهذا الرجل طلب من النبي ﷺ كلاما جامعا للخير نافعا، موصلا صاحبه إلى الفلاح، فأمره النبي ﷺ بالإيمان بالله الذي يشمل ما يجب اعتقاده، من عقائد الإيمان، وأصوله، وما يتبع ذلك من أعمال القلوب، والانقياد والاستسلام لله، باطنا وظاهرا، ثم الدوام على ذلك، والاستقامة عليه إلى الممات، وهو نظير قوله تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ[ [فصلت: 30] فرتب على الإيمان والاستقامة: السلامة من جميع الشرور، وحصول الجنة وجميع المحاب.
وقد دلت نصوص الكتاب والسنة الكثيرة على أن الإيمان يشمل ما في القلوب من العقائد الصحيحة وأعمال القلوب، من الرغبة في الخير، والرهبة من الشر، وإرادة الخير، وكراهة الشر، ومن أعمال الجوارح([14]) ولا يتم ذلك إلا بالثبات عليه([15]).
وهذا الحديث من جوامع الكلم التي أوتيها ﷺ فإن جمع لهذا السائل في هاتين الكلمتين معاني الإسلام والإيمان كلها وهذا كقوله تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا[ [فصلت: 30] قال عمر بن الخطاب: استقاموا والله على طاعته، ولم يروغوا روغان الثعلب، والاستقامة هي سلوك الصراط المستقيم وهو الدين القويم، ويشمل ذلك فعل الطاعات وترك المنهيات وقد قال النبي ﷺ «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» رواه الإمام أحمد([16])، وقال ﷺ «سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن ينجوا أحد منكم بعمله» قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل»([17]).
قال العلماء: معنى الاستقامة لزوم طاعة الله تعالى، والمقاربة: القصد الذي لا غلو فيه ولا تقصير، والسداد: الاستقامة والإصابة، قال ابن أبي جمرة: فيه دلالة على أنه ليس أحد من الخلق يقدر على توفية حق الربوبية، يؤخذ ذلك من قوله ﷺ «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» فإذا كان هو وهو خير البشر لا يقدر على ذلك فالغير أحرى وأولى، وإذا تأملت ذلك من جهة النظر تجده مدركا حقيقة، لأنه إذا طالبنا بشكر النعم التي أنعم علينا عجزنا عنه بالقطع ومنها ما لا نعرفه كما قال تعالى: ]وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا[ [إبراهيم: 34] فكيف غير ذلك من أنواع التكليفات، فما بقي إلا ما أخبر به الصادق وهو التغمد بالفضل والرحمة.
الفوائد:
1- الأمر بالاستقامة وهي الإصابة والاعتدال في جميع الأقوال والأفعال والمقاصد المحمودة.
2- اجتناب المحرمات وجميع ما كان مخالفا للشريعة من قول أو فعل أو اعتقاد.
3- جواز الفتوى إجمالا إذا كان الإنسان يفهمها بدون تفصيل.
4- في الحديث إثبات العموم والعمل بها يشتمل عليه([18]).
من أصول الدين وفروعه
عن أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ قال: «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها» حديث حسن رواه الدارقطني وغيره.
يرشدنا هذا الحديث بأن الله سبحانه وتعالى فرض علينا فرائض وألزمنا القيام بها والمحافظة عليها فلا نخالف أوامر الله فنتركها أو نتهاون بها فندخل عليها النقص والخلل فلا نؤديها كاملة وأن الله سبحانه حد حدودا وأمرنا بأن لا نتجاوزها ونتعداها إلى ما لا يحل ولا يجوز لنا ارتكابه وحرم علينا أشياء فلا يجوز لنا تناولها ولا القرب منها، وسكت عن أشياء فلم يذكر لها حكما في حل ولا حرمة ولا نسيان لبيان أحكامها فربنا سبحانه لا يضل ولا ينسى فلا يبحث عن حكمها لأن الله سبحانه حكيم عليم يضع الأشياء بمواضعها الصالحة لها ]لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[ فلا يترك شيئا إلا لحكمة.
قال العلماء رحمهم الله: هذا الحديث أصل كبير من أصول الدين وفروعه، ومن عمل بها فقد حاز الثواب، وأمن من العقاب، لأن من أدى الفرائض، واجتنب المحارم، ووقف عند الحدود، وترك البحث عما غاب عنه، فقد استوفى أقسام الفضل، وأوفى حق الدين قوله: «وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها» هذا موفق لقوله ﷺ «ذروني ما تركتكم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم»([19]).
قال بعض العلماء: كانت بنو إسرائيل يسألون فيجابون ويعطون ما طلبوا حتى كان ذلك فتنة لهم، وأدى ذلك إلى هلاكهم، وكانت الصحابة رضي الله عنهم قد فهموا ذلك، وكفوا عن السؤال إلا فيما لا بد منه، وكان يعجبهم أن يجيء الأعراب يسألون رسول الله ﷺ فيسمعون ويعون.
وأخرج البزار في مسنده والحاكم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو فأقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا»([20]) ثم تلا هذه الآية ]وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا[.
الفوائد:
1- أن الله تعالى فرض فرائض وأمر بالمحافظة عليها.
2- أن الله تعالى حرم أشياء فلا يجوز تناولها ولا القرب منها.
3- أن الله حد حدودا فلا تجوز مجاوزتها.
4- أنه سكت سبحانه عن أشياء فلا يبحث ويسأل عنها رحمة بالعباد لأنها حلال.
5- في هذا الحديث تقسيم أحكام الدين إلى أربعة أقسام فرائض ومحارم وحدود ومسكوت عنه.
من قام بالواجبات وانتهى عن المحرمات دخل الجنة
عن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: أن رجلا سأل رسول الله ﷺ فقال: أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئا أدخل الجنة؟ قال: «نعم» رواه مسلم ومعنى حرمت الحرام: اجتنبته ومعنى أحللت الحلال: فعلته معتقدا حله.
هذا الحديث يدل على أن من قام بالواجبات، وانتهى عن المحرمات دخل الجنة ويشهد لذلك قوله تعالى: ]إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا[ [النساء: 31] وفي الصحيحين أن أعرابيا جاء إلى رسول الله ﷺ ثائر الرأس فقال: يا رسول الله أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة؟ فقال: «الصلوات الخمس إلا أن تطوع شيئًا» فقال: أخبرني بما فرض الله علي من الصيام؟ فقال: «شهر رمضان إلا أن تطوع شيئا» فقال: أخبرني بما فرض الله علي من الزكاة؟ فأخبره الرسول ﷺ بشرائع الإسلام، فقال: والذي بعثك بالحق لا أتطوع شيئا ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا فقال رسول الله ﷺ «أفلح إن صدق» أو «دخل الجنة إن صدق» وخطب النبي ﷺ في حجة الوداع فقال: «يا أيها الناس اتقوا الله وصلوا خمسكم وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم»([21]) وفي رواية «وحجوا بيتكم» وإنما لم يذكر الحج والزكاة في هذا الحديث، لأن الزكاة لا تجب إلا على صاحب المال، والحج لا يجب إلا على من استطاع إليه سبيلا، وأما الصلاة والصيام وتحليل الحلال، وترك الحرام، فواجب على كل أحد والله أعلم.
الفوائد:
1- أن من قام بالواجبات وانتهى عن المحرمات دخل الجنة.
2- جواز ترك التطوعات إذا لم يكن من باب التساهل والاستهانة بها.
3- النظر إلى أحوال الناس، فلعل السائل حديث عهد بالإسلام فسهل عليه حتى يقوي إيمانه.
4- عظم أمر الصلوات الخمس، وصيام رمضان وإحلال الحلال واجتناب الحرام.
5- إن في اجتناب الحرام وأكل الحلال إصلاحا للفرد والمجتمع، فلو عمل بهذا الحديث لاستتب الأمن، وقويت الثقة بين الناس وانقطعت الخصومات والمنازعات بينهم، ولكن هيهات هيهات([22]).
([1]) كما أضيف إلى شرح هذين الحديثين العظيمين شرح ثلاثة أحاديث أخرى عن الإيمان والاستقامة، وحديث يتضمن أصول الدين وفروعه حديث دل على أن من قام بالواجبات وانتهى عن الحرمات دخل الجنة فهنيا له بذلك.
([2]) رواه مسلم.
([3]) رواه الترمذي والبيهقي وقال الترمذي حديث غريب وله شاهد عند البيهقي انظر الترغيب والترهيب للمنذري (2/ 334).
([4]) رواه سعيد بن منصور في سننه انظر تفسير ابن كثير (1/ 386).
([5]) رواه الترمذي وانظر تفسير ابن كثير (4/ 373).
([6]) انظر البداية والنهاية لابنكثير (1/49-52).
([7]) في عدد الأنبياء والرسل وغير ذلك رواه الإمام أحمد وابن مردويه في تفسيره وابن حبان في صحيحه وأبو الحسين الآجري (انظر تفسير ابن كثير جـ1 ص585-587) عند تفسير الآية 164 من سورة النساء.
([8]) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
([9]) انظر شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص19-50).
([10]) الكواكب النيرات من جوامع الحديث والآيات في المنجيات والمهلكات وأوصاف المؤمنين والمؤمنات (ص226-234).
([11]) رواه البيهقي في شعب الإيمان وفي السنن الكبرى، وأحمد في المسند قال الألباني وهو حديث جيد وله شواهد.
([12]) بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار بشرح جوامع الأخبار للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي (ص17-19).
([13]) شرح الأربعين النووية للشيخ عبد الله بن صالح المحسن (ص 43).
([14]) الأعضاء.
([15]) بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار بشرح جوامع الأخبار للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى (ص16).
([16]) ومالك وابن ماجه والدارمي وصححه الحاكم والمنذري.
([17]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها.
([18]) شرح الأربعين النووية للشيخ عبد الله بن صالح المحسن (ص43).
([19]) رواه مسلم.
([20]) انظر: المجموعة الجليلة للشيخ فيصل بن عبد العزيز آل مبارك (ص427) وشرح الأربعين النووية للشيخ عبد الله بن صالح المحسن (ص60).
([21]) رواه مسلم.
([22]) المجموعة الجليلة (ص414)، وشرح الأربعين النووية (ص42).