×
سهم إبليس وقوسه: قال المصنف - حفظه الله -: «فإن من نعم الله التي لا تعد ولا تحصى نعمة البصر، وهي وإن كانت نعمة في ذاتها فإنها ربما أوردت صاحبها المهالك إذا أطلقها في غير ما أحل الله. ولتوسع الناس في أمر النظر المحرم وكثرته، أقدم للأحبة القراء الجزء الثالث عشر من سلسلة: «أين نحن من هؤلاء؟» تحت عنوان «سهم إبليس وقوسه» فيه أطايب الكلام من قول الله - جل وعلا - وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - وذكر حال السلف في مجاهدة أنفسهم وحفظ أبصارهم».

 سهم إبليس وقوسه

د. عبد الملك القاسم

 المقدمة

الحمد لله الذي خلق السمع والأبصار والأفئدة والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن من نعم الله التي لا تعد ولا تحصى نعمة البصر، وهي وإن كانت نعمة في ذاتها فإنها ربما أوردت صاحبها المهالك إذا أطلقها في غير ما أحل الله.

ولتوسع الناس في أمر النظر المحرم وكثرته، أقدم للأحبة القراء الجزء الثالث عشر من سلسلة: "أين نحن من هؤلاء؟" تحت عنوان "سهم إبليس وقوسه" فيه أطايب الكلام من قول الله جل وعلا وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - وذكر حال السلف في مجاهدة أنفسهم وحفظ أبصارهم.

نزه الله أسماعنا وأبصارنا وجوارحنا عن كل ما نهى عنه وجعلها عونا على الطاعة ومتعنا بها حتى نلقاه.

عبد الملك بن محمد بن عبد الرحمن القاسم


 مدخل

لقد أسبغ الله جل وعلا علينا نعما ظاهرة وباطنة لا تعد ولا تحصى ومن أعظم وأشرف تلك النعم نعمة البصر، قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ [الملك: 23].

ومن عظيم قدرها أن أبدل الله من سلب منه عينيه فصبر الجنة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ثم صبر، عوضته منها الجنة"([1]).

ونعمة الصبر من أعظم النعم إذا استخدمها العبد في طاعة الله سبحانه، أما إذا كان خلاف ذلك، فإنها تكون سببا للحسرة في الدنيا، والعذاب في الآخرة، ولذا جاء الأمر الإلهي للمؤمنين كافة بغض البصر وحفظه قال الله جل وعلا ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾ [النور: 30، 31].

قال ابن كثير: وهذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه وأن يغضوا أبصارهم عن المحارم، فإن اتفق أن وقع البصر على محرَّم من غير قصد فليصرف بصره عنه سريعًا([2]).

قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ﴾ أي أطهر لقلوبهم وأتقى لدينهم كما قيل: من حفظ بصره أورثه الله نورًا في بصيرته، ويروى في قلبه([3]).

وقال رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ....﴾.

 هذا أمر من الله تعالى للنساء المؤمنات وغيرة منه لأزواجهن عباده المؤمنين، وتمييز لهن عن صفة نساء الجاهلية وفعال المشركات([4]).

وقال الشوكاني رحمه الله أيضا حول هذه الآية:

خص الإناث بهذا الخطاب على طريق التأكيد لدخولهن تحت خطاب المؤمنين تغليبا كما في سائر الخطابات القرآنية([5]).

ومن في قوله تعالى:﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ للتبعيض فكأنه خص بالحظر والتحريم نوعا من النظر وأطلق بعض النظر إلى ذوي المحارم، وما تدعو الحاجة إليه، ثم عطف على ذكر النساء مفردا لهن بالذكر مع أنهن يدخلن في عموم خطاب الشرع تبعا للرجال فقال: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ تأكيدا لزمن النظر، واحتياطا لصيانة الفرج عن الزنى والخطر، ولئلا يتوهم متوهم أن الأمر يختص بالرجال([6]).

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وأمر الله تعالى نبيه أن يأمر المؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم، وأن يعلمهم أنه مشاهد لأعمالهم مطلع عليها: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ ولما كان مبدأ ذلك من قبل البصر جعل الأمر بغضه مقدما على حفظ الفرج، فإن الحوادث مبدؤها من البصر كما أن معظم النار من مستصغر الشرر تكون نظرة، ثم خطرة، ثم خطوة، ثم خطيئة، ولهذا قيل: من حفظ هذه الأربعة أحرز دينه: اللحظات والخطرات واللقطات والخطوات.

فينبغي للعبد أن يكون بواب نفسه على هذه الأبواب الأربعة، ويلازم الرباط على ثغورها فمنها يدخل عليه العدو فيجوس خلال الديار فيتبر ما علا تتبيرًا([7]).

 وقد جعل الله سبحانه العين مرآة القلب فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته.

ولما كان إطلاق البصر سببًا لوقوع الهوى في القلب، أمر الشرع بغض البصر عما يخاف عواقبه، قال ابن القيم معلقًا على حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "كتب على ابن آدم حظه من الزنا.."([8]) الحديث فبدأ بزنا العين لأنه أصل زنا اليد والرجل والقلب والفروج.

ثم قال أيضا: وهذا الحديث من أبين الأشياء على أن العين تعصي بالنظر وأن ذلك زناها ففيه رد على من أباح النظر مطلقًا وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية"([9]).

فاحذر يا أخي وفقك الله من شر النظر فكم قد أهلك من عابد، وفسخ عزم زاهد، فاتعظ بذلك وتلمح معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "النظرة سهم مسموم"([10]) لأن السم يسري إلى القلب فيعمل في الباطن قبل أن يرى عمله في الظاهر، فاحذر من النظر فإنه سبب الآفات إلا أن علاجه في بدايته قريب فإذا كرر تمكن الشر فصعب علاجه.

وأضرب لك في ذلك مثلاً: إذا رأيت فرسًا قد مالت براكبها، إلى درب ضيق فدخلت فيه ببعض بدنها، ولضيق المكان لا يمكن دخولها، فإن قبل وردها خطوة إلى ورائها، سهل الأمر، وإن توانى حتى ولجت، ثم قام بجذبها بذنبها طال تعبه وربما لم يتهيأ له.

وكذلك النظرة إذا كثرت في القلب، فإن عجل الحازم بغضها وحسم المادة من أولها سهل علاجه، وإن كرر النظر نقب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلب متفرغ فنقشها فيه فكلما تواصلت النظرات كانت كالمياه تسقي بها الشجرة، فلا تزال تنمى فيفسد القلب ويعرض عن الفكر فيما أمر به ويخرج بصاحبه إلى المحن ويوجب ارتكاب المحظورات ويلقى في التلف، والسبب في هذا الهلاك: أن الناظر أول نظرة التذ بها فكررها يطلب الالتذاذ بالنظر مستهينًا بذلك فأعقبه ما استهان به التلف، ولو أنه غض عند أول نظرة لسلم في باقي عمره([11]).

أخي الحبيب:

إن فتنة النظر إلى ما حرم الله أصل كل فتنة، ومنجم كل شهوة فالنظر هو رائد الشهوة ورسولها، وحفظه أصل حفظ الفرج فمن أطلق نظره أورد نفسه موارد الهلاك، وقد جعل الله سبحانه وتعالى العين مرآة القلب فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته.

لذلك لما أمر الله عز وجل في سورة النور بحفظ الفرج قدم الأمر بغض البصر لأنه هو بريد الزنى وبابه حيث قال عز وجل: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ [النور: 30، 31].

فمن سرح ناضرة أتعب خاطره، من كثرت نظراته ضاعت أوقاته ودامت حسراته، فيا من يريد السلامة، ويطلب الخلاص، غض من بصرك، وأقصر عن محارم الله طرفك، ولا تقلل من شأن النظر وتستصغره فإن كل الحوادث مبدؤها من النظر، كما أن معظم النار مبدؤها من مستصغر الشرر، تكون نظرة، ثم خطرة، ثم خطوة، ثم خطيئة.

أخي المسلم:

إن الذي أجمعت عليه الأمة واتفق على تحريمه علماء السلف والخلف من الفقهاء والأئمة هو نظر الأجانب من الرجال والنساء بعضهم إلى بعض، وهم من ليس بينهم رحم من النسب، ولا محرم من سبب، كالرضاع وغيره، فهؤلاء حرام نظر بعضهم إلى بعض، وهم كل من حرم الشرع تزويج بعض منهم ببعض على التأبيد، فالنظر والخلوة محرم على هؤلاء عند كافة المسلمين، لا يباح بدعوى زهد وصلاح، ولا توهم عدم آفة ترفع عنهم الجناح، إلا في أحوال نادرة من ضرورة أو حاجة، فما سوى ذلك محرم، سواء كان عن شهوة، أو عن غيرها، وكذلك لا يجوز النظر إلى الأمرد([12]). بشهوة وغيرها من غير حاجة كل ذلك لخوف الفتنة والوقوع في الهلكة.

ففي غض البصر: زكاة وطهارة لقلوب المؤمنين، وحفظ لفروجهم وقد قدم الله سبحانه الأمر بغض البصر على الأمر بحفظ الفرج ، لأن مبدأ المعاصي من النظر، وهو بريد الزنا، والنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية، فإن لم تقتله جرحته، وهي بمنزلة الشرارة من النار ترمى في الحشيش اليابس، فإن لم تحرقه كله، أحرقت بعضه، كما قيل:

كل الحوادث مبدؤها من النظر

ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة فتكت في قلب صاحبها

فتك السهام بلا قوس ولا وتر

والمرء ما دام ذا عين يقلبها

في أعين الغيد موقوف على خطر

يسر مقلته ما ضر مهجته

لا مرحبا بسرور عاد بالضرر([13]) .

والله سبحانه مطلع على أعمالنا سرها وعلانيتها ألا ترى أنه سبحانه وتعالى عقب على الأمر بغض البصر وحفظ الفرج بقوله: ﴿إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ وهو سبحانه: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾([14]).

 عن ابن عباس - رضي الله عنه -ما قال: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة: فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله ويكذبه" متفق عليه.

قال الشنقيطي رحمه الله: محل الشاهد منه قوله - صلى الله عليه وسلم - "فزنا العين النظر" فإطلاق اسم الزنا على نظر العين إلى ما لا يحل دليل واضح على تحريمه والتحذير منه.

ومعلوم أن النظر سبب الزنا، فإن من أكثر من النظر إلى جمال امرأة مثلا قد يتمكن بسببه حبها من قلبه تمكنا يكون سبب هلاكه والعياذ بالله، فالنظر بريد الزنا([15]).

قال البخاري: قال سعيد بن أبي الحسن للحسن: إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورءوسهن قال: اصرف بصرك عنهن يقول الله عزوجل ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ قال قتادة : عما لا يحل لهم ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾.

يقول الشنقيطي في تلك الآيات: وبه تعلم أن قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾ فيه الوعيد بمن يخون بعينه بالنظر إلى ما لا يحل له، وهذا الذي دلت عليه الآيتان من الزجر عن النظر إلى ما لا يحل جاء موضحًا في أحاديث كثيرة([16]).

قال أطباء القلوب: بين العين والقلب منفذ وطريق فإذا خربت العين وفسدت خرب القلب وفسد وصار كالمزبلة التي هي محل النجاسات والقاذورات والأوساخ، فلا يصلح لسكن معرفة الله ومحبته والإنابة إليه والأنس به، والسرور بقربه، وإنما يسكن فيه أضداد ذلك([17]).

وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أردف الفضل بن عباس خلفه في الحج، فجاءت جارية من خثعم تستفتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلوى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنق الفضل لئلا ينظر إليها، فقال له عمه العباس: لم لويت عنق ابن عمك يا رسول الله، فقال عليه السلام: "رأيت شابًا وشابة، فلم آمن الشيطان عليهما"([18]) يعني: أن يشغل قلب أحدهما بصاحبه إذا نظر إليه.

فانظر كيف فعل بابن عمه وهو في حضرته متلبس بأسباب حجه، ولم يأمن الطباع من الفتنة، والشيطان من الوسوسة والمحنة.

وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال يومًا لعلي بن أبي طالب: "يا علي، إن لك كنـزًا في الجنة، فلا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة"([19]) يعني أن النظرة الأولى نظرة الفجأة من غير قصد يمنح لك عفو بلا إثم، وليست لك الثانية إذا اتبعتها نظرة تمتع.

 هذا خطابه لعلي - رضي الله عنه -، مع علمه بكمال زهده وورعه، وعفة باطنه وصيانة ظاهره يحذره من النظر، ويؤمنه من الخطر لئلا يدعي الأمن كل بطال، ويغتر بالعصمة والأمن من الفتنة ﴿فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف: 99].

وعن جرير بن عبد الله البجلي، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظر الفجأة، فقال لي: "اصرف بصرك"([20]) يعني: عن النظر الثاني، لأنك لا تأمن فيه الشهوة والفتنة .

ولا شك أن حفظ البصر أشد من حفظ اللسان، فإن العين مبدأ الزنا فحفظها مهم، وهو عسر من حيث إنه قد يستهان به ولا يعظم الخوف منه والآفات كلها منه تنشأ.

والنظرة الأولى إذا لم تقصد لا يؤاخذ بها والمعاودة يؤاخذ بها.

 قال مجاهد: إذا أقبلت المرأة جلس الشيطان على رأسها فزينها لمن ينظر وإذا أدبرت جلس على عجزها فزينها لمن ينظر([21]).

قال العلاء بن زياد: لا تتبع بصرك رداء المرأة فإن النظر يزرع في القلب شهوة، وقلما يخلو الإنسان في ترداده عن وقوع البصر على النساء والصبيان فمهما تخايل إليه الحسن تقاضى الطبع المعاودة وعنده ينبغي أن يقرر في نفسه أن هذه المعاودة عين الجهل فإنه إن حقق النظر فاستحسن ثارت الشهوة وعجز عن الوصول فلا يحصل له إلا التحسر، وإن استقبح لم يلتذ لأنه قصد الالتذاذ فقد فعل ما آلمه، فلا يخلو في كلتا حالتيه، عن معصية وعن تألم وعن تحسر، ومهما حفظ العين بهذا الطريق اندفع عن قلبه كثير من الآفات، فإن أخطأت عينه وحفظ الفرج مع التمكن فذلك يستدعي غاية القوة ونهاية التوفيق([22]).

 وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل دم امرئ مسلم، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" وهذا الحديث في اقتران الزنى بالكفر وقتل النفس نظير الآية التي في الفرقان، ونظير حديث ابن مسعود.

فقد بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأكثر وقوعًا والذي يليه، فالزنا أكثر وقوعًا من الردة، وأيضا فإنه انتقل من الأكبر إلى ما هو أكبر منه، ومفسدة الزنى مناقضة لصلاح العالم، فإن المرأة إذا زنت أدخلت العار على أهلها وزوجها وأقاربها، ونكست رءوسهم بين الناس وإن حملت من الزنى، فإن قتلت ولدها جمعت بين الزنى والقتل، وإن حملته على الزوج أدخلت على أهله وأهلها أجنبيا ليس منهم، فورثهم وليس منهم، ورآهم وخلا بهم وانتسب إليهم وليس منهم، إلى غير ذلك من مفاسد زناها، وأما زنى الرجل فإنه يوجب اختلاط الأنساب أيضا، وإفساد المرأة المصونة، وتعريضها للتلف والفساد، وفي هذه الكبيرة خراب الدنيا والدين، وإن عمرت القبور في البرزخ والنار في الآخرة، فكم في الزنى من استحلال لحرمات، وفوات حقوق، ووقوع مظالم.

ومن خاصيته: أنه يوجب الفقر ، ويقصر العمر، ويكسو صاحبه سواد الوجه وثوب المقت بين الناس.

ومن خاصيته أيضًا: أنه يشتت القلب ويمرضه إن لم يمته ويجلب الهم والحزن والخوف، ويباعد صاحبه من الملك ويقربه من الشيطان، فليس بعد مفسدة القتل أعظم من مفسدته ، ولهذا شرع فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها، ولو بلغ العبد أن امرأته أو حرمته قتلت كان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زنت.

قال سعد بن عبادة - رضي الله عنه -: "لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح"([23]) فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "تعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن"([24]) متفق عليه.

أخي المسلم:

خل الذنوب صغيرها

وكبيرها ذاك التقى

واصنع كماش فوق أر

ض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة

إن الجبال من الحصى

قال محمد بن عبد العزيز: جلسنا إلى أحمد بن رزين من غدوة إلى العصر فما التفت يمنة ولا يسرة، فقيل له في ذلك فقال: إن الله عز وجل خلق العينين لينظر بهما العبد إلى عظمة الله تعالى، فكل من نظر بغير اعتبار كتبت له خطيئة.

الله أكبر.. أين من يطلق بصره ليل نهار؟ بل أين هذا الذي يقصد الأسواق وغيرها للنظر في ما لا يحل له؟ بل أين من يبقى ساعات طوال ليشاهد القنوات والمحطات؟ الرجل ينظر إلى النساء والمرأة تنظر إلى الرجال.. أين غض البصر وحفظه عن تلك المحرمات؟

قال سعيد بن المسيب: ما يئس الشيطان من شيء إلا أتاه من قبل النساء.

وقال سعيد وهو ابن أربع وثمانين سنة وقد ذهبت إحدى عينيه وهو يعثو بالأخرى: وما من شيء أخوف عندي من النساء([25]).

أخي: اختلت الموازين واختلفت المعايير، وإلا فأين من يطلق بصره من قول عمرو بن مرة؟ نظرت إلى امرأة فأعجبتني فكف بصري، فأرجو أن يكون ذلك كفارة.

وانظر إلى ما يتواصون به ويحرصون عليه، ونحن أحق به وأولى خاصة في هذا الزمن الذي انتشرت فيه الفتن وعمت به المحن.

قال وكيع: خرجنا مع سفيان الثوري في يوم عيد، فقال: إن أول ما نبدأ به في يومنا غض أبصارنا([26]).

 قال سفيان الثوري: عليك بالمراقبة لمن لا تخفى عليه خافية ، وعليك بالرجاء ممن يملك الوفاء، وعليك بالحذر ممن يملك العقوبة.

أين أنت أيها المسلم من الثواب العظيم إذا صرفت بصرك وأطعت ربك، ألا فأبشر بوعد من لا يخلف الوعد.

﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات: 40، 41].

أخي الحبيب: أين نحن من هؤلاء؟

قال ابن سيرين: إني أرى المرأة في المنام فأعرف أنها لا تحل لي فأصرف بصري عنها.

الله أكبر... في المنام ويصرف بصره.. لأنه يعلم أنها لا تحل له، ومن صرف بصره في النهار لم يرض بغير ذلك في المنام..

 وأما من زلت به العين فماذا يرى كفارة ذلك.. أهي المعاودة وتكرار النظر أم التوبة إلى الله.

قال عمرو بن مرة: ما أحب أني بصير أني أذكر أني نظرت نظرة وأنا شاب([27]).

وحين خرج حسان بن أبي سنان يوم العيد فلما رجع قالت له امرأته: كم من امرأة حسنة قد نظرت اليوم إليها؟ فلما أكثرت عليه، قال: ويحك، ما نظرت إلا في إبهامي منذ خرجت حتى رجعت إليك([28]).

أيها الحبيب:

أعجب الأشياء اغترار الإنسان بالسلامة، وتأميله الإصلاح فيما بعد وليس لهذا الأمل منتهى، ولا للاغترار حد فكلما أصبح وأمسى معافى زاد الاغترار وطال الأمل.

وأي موعظة أبلغ من أن ترى ديار الأقران وأحوال الإخوان وقبور المحبوبين فتعلم أنك بعهد أيام مثلهم، ثم لا يقع انتباه ينتبه الغير بك، هذا والله شأن الحمقى([29]).

وكنت متى أرسلت طرفك رائدا

لقلبك يوما اتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه

ولا عن بعضه أنت صابر

قال أبو الدرداء: يا بني لا تتبع بصرك كلما ترى في الناس فإنه من يتبع بصره كلما يرى في الناس يطل تحزنه ولا يشف غيظه ومن لا يعرف نعمة الله إلا في مطعمة أو مشربة فقد قل علمه وحضر عذابه ومن لا يكن غنيًّا من الدنيا فلا دنيا له([30]).

أيها الحبيب:

اعلم أن شهوة الفرج والعين هي أغلب الشهوات على الإنسان وأعصاها عند الهيجان على العقل، إلا أن مقتضاها قبيح يستحيا منه و يخشى من اقتحامه، وامتناع أكثر الناس عن مقتضاها إما لعجز أو لخوف أو لحياء أو لمحافظة على جسمه، وليس في شيء من ذلك ثواب فإنه إيثار حظ من حظوظ النفس على حظ آخر: نعم من العصمة أن لا يقدر ففي هذه العوائق فائدة وهي دفع الإثم، فإن من ترك الزنا اندفع عنه إثمه بأي سبب كان تركه، وإنما الفضل والثواب الجزيل في تركه خوفا من الله تعالى مع القدرة وارتفاع الموانع وتيسر الأسباب.

وزنا العين من كبائر الصغائر وهو يؤدي إلى القرب على الكبيرة الفاحشة وهي زنا الفرج.. ومن لم يقدر على غض بصره لم يقدر على حفظ فرجه.

قال عيسى عليه السلام: إياكم والنظرة فإنها تزرع في القلب شهوة وكفى بها فتنة.

قال داود عليه السلام: يا بني امش خلف الأسد والأسود ولا تمش خلف المرأة.

وقيل ليحيى عليه السلام: ما بدء الزنا؟ قال: النظر والتمني وقال الفضيل: يقول إبليس هو قوسي القديمة وسهمي الذي لا أخطئ به يعني النظر([31]).

وقال بعض الحكماء: كل يجري من عمره إلى غاية تنتهي إليها مدة أجله وتنطوي عليها صحيفة عمله، فنخذ من نفسك لنفسك وقس يومك بأمسك، وكف عن سيئاتك وزد في حسناتك قبل أن تستوفي الأجل، وتقصر عن الزيادة في السعي والعمل([32]).

هذه نصائح غالية ودرر ثمينة ممن يعرفون عظم الذنب وقدر من يطلع على السرائر فيخافون ربهم ويخشونه.

قال يحيى بن معاذ: ألا إن العاقل المصيب من عمل ثلاثا: ترك الدنيا قبل أن تتركه وبنى قبره قبل أن يدخله، وأرضى ربه قبل أن يلقاه([33]).

 أيها الشاب:

إن إطلاق البصر فيما لا يحل ذنب قد يؤدي بك إلى المهالك وقد ترى أثره في الدنيا قبل الآخرة كما قال حماد بن زيد - رضي الله عنه -: إذا أذنب العبد بالليل أصبح ومذلته في وجهه([34]).

يا راقدًا الليل مسرورًا بأوله

إن الحوادث قد يطرقن أسحارا

أفنى القرون التي كانت مسلطة

مر الجديدين إقبالاً وإدبارا

يا من يكابد دنيا لا مقام بها

يمسي ويصبح في دنياه سيارا

كم قد أبادت صروف الدهر من

ملك قد كان في الأرض نفاعا

وفضول النظر يدعو إلى الاستحسان، ووقوع صورة المنظور في قلب الناظر؛ فيحدث أنواعا من الفساد في قلب العبد.

منها: ما ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في المسند: "والنظرة سهم من سهام إبليس؛ فمن غض بصره لله أورثه حلاوة يجدها في قلبه إلى يوم يلقاه"([35]).

منها: دخول الشيطان مع النظرة، فإنه ينفذ معها أسرع من نفوذ الهواء في المكان الخالي، ليزين صورة المنظور، ويجعلها صنما يعكف عليه القلب، ثم يعده ويمنيه ويوقد على القلب نار الشهوات ويلقي حطب المعاصي التي لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة.

منها: أنه يشغل القلب، وينسيه مصالحه، ويحول بينه، وبينها؛ فيفرط عليه أمره، ويقع في اتباع الهوى والغفلة، قال تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾([36])[الكهف: 28].

قال: داود الطائي: كانوا يكرهون فضول النظر([37]).

والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان فإن النظرة تولد الخطرة ثم تولد الخطرة فكره، ثم تولد شهوة، ثم تولد الشهوة إرادة، ثم تقوى فتصير عزيمة حازمة فيقع الفعل ولا بد ما لم يمنع مانع، وفي هذا قيل الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده.

قيل: إن حسان بن ثابت - رضي الله عنه - خرج يوم عيد، فصلى ثم عاد إلى زوجته فقالت له: يا حسان كم رأيت من وجه مليح؟ فقال: والله ما رفعت طرفي ولا علمت ما كان من الناس ولقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من نظر إلى ما لا يحل له حرم الله عليه النظر إلى وجهه وألقاه في النار"([38]).

وهذه الدنيا مزرعة الآخرة ودار عمل وتعب ونصب فإن أحسن العبد فيها فهنيئا له وإن قصر وفرط ندم في يوم تشخص فيه الأبصار.

قال أحمد تنهدت عند أبي سليمان الداراني يوما فقال: إنك مسئول عنها يوم القيامة فإن كانت على ذنب سلف فطوبى لك وإن كانت على فوت دنيا أو شهوة فويل لك([39]).

 قال الثوري: يسألون والله عن كل شيء حتى التبسم فيم تبسمت يوم كذا وكذا، فذلك قوله: ﴿يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾.

أخي الحبيب:

إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل

خلوت ولكن قل علي رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعة

ولا أن ما تخفيه عنه يغيب

ألم تر أن اليوم أسرع ذاهب

وأن غدا للناظرين قريب

قال الله عز وجل في كتابه العزيز: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ﴾ [الحشر: 16].

قال علماء التفسير: كان هذا الإنسان المذكور عابدًا في صومعة له، مشهورًا بالعبادة، ومشهورًا بالزهادة يستشفى بدعائه المرضى، وإذا عرض بأحد مرض أو جنون حمل إلى صومعته ليدعو له ليبرأ فمرضت ابنة بعض كبراء البلدة. ذات جمال فجاءوا بها ومضوا، فلما خلا بها نظر إليها فأعجبته، فواقعها فعلقت (حملت) منه، فجاءه الشيطان الذي أغراه حتى نظر إليها، وأمنه الفتنة حتى خلا بها، فقال له: اقتلها وادفنها في جانب الصومعة، فإذا جاءوا يطلبونها تقول: ماتت فيقبلوا قولك لموضعك عندهم، وإلا أتوا فرأوها حبلى منك، فتفضح وربما قتلوك، فقبل منه وقتلها ودفنها، فلما جاء أهلها أخبرهم بموتها، وأنه دفنها فصدقوا قوله ومضوا.

فمضى الشيطان إلى إخوتها وأخبرهم بخبر العابد وفعله بأختهم وقتله لها، وقال: علامة ذلك دفنها في الموضع الفلاني من صومعته فجاءوا إلى العابد، ودخلوا الصومعة ونبشوا الموضع، فوجدوا ابنتهم فأخذوا العابد ليصلبوه فلما رقي به الخشبة ليصلب أتاه الشيطان فقال له: أعلمت أني فعلت بك هذا كله وأنا أقدر أن أخلصك مما أنت فيه؟ فقال: افعل، قال: بشرط أن تسجد لي سجدة واحدة، أخلصك فسجد له فكفر بها وصلب، فولى الشيطان عنه يقول: إني بريء منك. فاغتر أولاً بعبادته واغتر آخرًا بعدة عدوه، فهكذا العبادة بالجهل، يخيل لصاحبها الأمن، وكان سبب هلاك هذا العابد نظرة أصابه فيها سهم من الشيطان، فلا ينبغي للعاقل أن يغتر بالعبادة، وقبول العام، ولا يأمن من فتنة النظر على مر الأيام.

ولعظم الأمر المترتب على النظر وما يقود إليه من فساد وربما الوقوع في فاحشة الزنا فقد حرمه الله سبحانه ورحمة بعباده لئلا يقعوا في تلك الجريمة الشنعاء تلك الجريمة التي خص الله حد فاعلها بخصائص قال ابن القيم رحمه الله: خص سبحانه حد الزنا من بين الحدود بثلاث خصائص:

أحدهما: القتل فيه بأشنع القتلات، وحيث خففه جمع فيه بين العقوبة على البدن بالجلد وعلى القلب بتغريبه عن وطنه سنة.

الثاني: أنه نهى عباده أن تأخذهم بالزناة رأفة في دينه بحيث تمنعهم من إقامة الحد عليهم، فإنه سبحانه من رأفته ورحمته بهم شرع هذه العقوبة فهو أرحم بهم، ولم تمنعه رحمته من أمره بهذه العقوبة فلا يمنعكم أنت ما يقوم بقلوبكم من الرأفة من إقامة أمره.

وهذا وإن كان عاما في سائر الحدود، ولكن ذكر في حد الزنا خاصة لشدة الحاجة إلى ذكره، فإن الناس لا يجدون في قلوبهم من الغلظة والقسوة على الزاني ما يجدونه على السارق والقاذف وشارب الخمر، فقلوبهم ترحم الزاني أكثر مما ترحم غيره من أرباب الجرائم، والواقع شاهد بذلك، فنهوا أن تأخذهم هذه الرأفة وتحملهم على تعطيل حد الله.

وسبب هذه الرحمة: أن هذا ذنب يقع من الأشراف والأوساط والأراذل، وفي النفوس أقوى الدواعي إليه، والمشارك فيه كثير، وأكثر أسبابه العشق والقلوب مجبولة على رحمة العاشق، وكثير من الناس يعد مساعدته طاعة وقربة، وإن كانت الصورة المعشوقة محرمة عليه.

 وأيضا فإن هذا ذنب غالبا ما يقع مع التراضي من الجانبين، ولا يقع فيه من العدوان والظلم والاغتصاب ما تنفر النفوس منه، وفي النفوس شهوة غالبة له فيصور ذلك لها فتقوم بها رحمة تمنع إقامة الحد، وهذا كله من ضعف الإيمان، وكمال الإيمان أن تقوم به قوة يقيم بها أمر الله ورحمة يرحم بها المحدود، فيكون موافقا لربه تعالى في أمره ورحمته.

الثالث: أنه سبحانه أمر أن يكون حدهما بمشهد من المؤمنين فلا يكون في خلوة بحيث لا يراهما أحد، وذلك أبلغ في مصلحة الحد وحكمة الزجر([40]).

وأعقل الناس من لم يرتكب سببًا

حتى يفكر ما تجني عواقبه

كان وهيب بن الورد يقول: خلف الله على قدر قدرته عليك واستح منه على قدر قربه منك.

وقال له رجل عظني فقال له: اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك

أيها المسلم: تخشى رجال الحسبة والأمن وعامة الناس، ولا تخشى الله عز وجل وهو مطلع على خلوتك وسريرتك، لا يبلغ بك الجهل أن يكون الله أهون الناظرين إليك.

أخي الحبيب: هاك جواب لمن يبرر النظرة الثانية وأنها تطفئ لهب النظرة الأولى..

سئل ابن قيم الجوزية:

ما تقول السادة العلماء في رجل نظر إلى امرأة نظرة فعلق حبها بقلبه واشتد عليه الأمر، فقالت له نفسه، هذا كله من أول نظرة فلو أعدت النظر إليها لرأيتها دون ما في نفسك فسلوت عنها، فهل يجوز له تعمد النظر ثانيًا لهذا المعنى؟

فكان الجواب: الحمد لله لا يجوز هذا لعشرة أوجه:

أحدها: أن الله سبحانه أمر بغض البصر ولم يجعل شفاء القلب فيما حرمه على العبد.

 الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن نظرة الفجأة، وقد علم أنه يؤثر في القلب فأمر بمداواته بصرف البصر لا بتكرار النظر.

الثالث: أنه صرح بأن الأولى له وليست له الثانية، ومحال أن يكون داؤه مما له ودواؤه فيما ليس له.

الرابع: أن الظاهر قوة الأمر بالنظرة الثانية لا تناقصه، والتجربة شاهدة والظاهر أن الأمر كما رآه أول مرة فلا تحسن المخاطرة بالإعادة.

الخامس: أنه ربما رأى ما هو فوق الذي في نفسه فزاد عذابه.

السادس: أن إبليس عند قصده للنظرة الثانية يقوم في ركائبه فيزين له ما ليس بحسن لتتم البلية.

السابع: أنه لا يعان على بليته إذا أعرض عن امتثال أوامر الشرع وتداوى بما حرمه عليه، بل هو جدير أن تتخلف عنه المعونة.

 الثامن: أن النظرة الأولى سهم مسموم من سهام إبليس، ومعلوم أن الثانية أشد سمًا فكيف يتداوى من السم بالسم.

التاسع: أن صاحب هذا المقام في مقام معاملة الحق عز وجل في ترك محبوب كما زعم، وهو يريد بالنظرة الثانية أن يتبين حال المنظور إليه، فإن لم يكن مرضيًا تركه، فإذا يكون تركه، لأنه لا يلائم غرضه لا لله تعالى، فأين معاملة الله سبحانه بترك المحبوب لأجله؟

العاشر: يتبين بضرب مثل مطابق للحال، وهو: أنك إذا ركبت فرسًٍا جديدًا فمالت بك إلى درب ضيق لا ينفذ ولا يمكنها أن تستدير فيه للخروج، فإذا همت بالدخول فيه فاكبحها لئلا تدخل، فإذا دخلت خطوة أو خطوتين فصح بها وردها إلى وراء عاجلا قبل أن يتمكن دخولها، فإن رددتها إلى ورائها سهل الأمر، وان توانيت حتى ولجت وسقتها داخلاً ثم قمت تجذبها بذنبها عسر عليك أو تعذر خروجها، فهل يقول عاقل: إن طريق تخليصها سوقها إلى داخل؟ فكذلك النظرة إذا أثرت في القلب، فإن عجل الحازم وحسم المادة من أولها سهل علاجه، وإن كرر النظر ونقب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلب فارغ فنقشها فيه تمكنت المحبة، وكلما تواصلت النظرات كانت كالماء يسقي الشجرة فلا تزال شجرة الحب تنمى، حتى يفسد القلب ويعرض عن الفكر فيما أمر به فيخرج بصاحبه إلى المحن ويوجب ارتكاب المحظورات والفتن ويلقى القلب في التلف.

والسبب في هذا أن الناظر التذت عينه بأول نظرة فطلبت المعاودة، كأكل الطعام اللذيذ إذا تناول منه لقمة، ولو أنه غض أولاً لاستراح قلبه وسلم، وتأمل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "النظرة سهم من سهام إبليس" فإن السهم شأنه أن يسري في القلب فيعمل فيه عمل السم الذي يسقاه المسموم، فإن بادر واستفرغه وإلا قتله ولا بد.

قال المروذي: قلت لأحمد: الرجل ينظر إلى المملوكة قال: أخاف عليه الفتنة، كم نظرة قد ألقت في قلب صاحبها البلاء([41]).

 قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

وقد أمر الله في كتابه بغض البصر، وهو نوعان: غض البصر عن العورة وغضها عن محل الشهوة، والثاني أشد من الأول.

وأما ما يجوز من النظر إلى الأجنبية لحاجة ما ففي، حالات:

منها: إذا أراد الرجل التزوج بامرأة فإنه يجوز له أن ينظر إلى وجهها وكفيها وما يدعو إلى نكاحها، لما روى جابر بن عبد الله، قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا خطب أحدكم المرأة فاستطاع أن ينظر إلى ما يدعه إلى نكاحها، فليفعل"([42]) يعني الوجه والكفين وهي مستترة، ولا يباح له النظر إلى جسمها، ولا شيء من عورتها بحال.

الحالة الأخرى: إذا أردت شراء جارية، فيجوز أن تنظر إلى ما دون السرة والركبة، ومواضع التقليب لأجل الشراء لا متمتعا بالنظر عبثا، فإن قصد التمتع بالنظر، وأظهر إرادة الشراء، كان عاصيا لمولاه، كاذبا في دعواه، كمن يظهر أخوة النسوان بناموس الزهد، وقصده التمتع بمعاشرتهن، فهو ملعون ممقوت عند الله، مارق عن شريعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

الحالة الأخرى: في المعاملة المفتقرة إلى الشهادة عليها، والتعريف لها، للرجوع بالعهدة، إلى غير ذلك مما تدعو إليه ضرورة المعاملة فينظر الشاهد إلى وجهها، لتحقيق الشهادة، لا ليتمتع بالمشاهدة، فإن قصد هذا فسق وعصى، وإن كان الأولى صيانتهن عن المعاملات المفضية إلى هذا النوع من تبذلهن، والتعرض لفتنتهن، والافتتان بسببهن.

ويجب على من نظر للحاجات المذكورة أن يتحفظ يقصر نظره على محل الضرورة، ولا يتعدى إلى التمتع فيقع في الخطر والتحريم والفتنة.

والحالة الأخرى: يجوز للطبيب أن ينظر من المرأة إلى المحل الذي تدعو الضرورة إلى نظر إليه لمداواة العلة.

كما أبيح النظر إلى العورة لوجوب الختان ضرورة.

وربما تسامح بعض الجهال من العوام في نظر الأخ إلى زوجة أخيه، والمرأة تنظر إلى زوج أختها، لا سيما إن اجتمعوا في منزل واحد، وربما خلا كل واحد من الأخوين بزوجة الأخرى في غيبته، وكل ذلك محرم ممنوع شرعًا، لا يسيغه مذهب.

وقد روى عقبة بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إياكم والدخول على النساء" فقال رجل من الأنصار: أرأيت الحمو؟ فقال عليه السلام: "الحمو الموت" وروي فيه أنه قال: "الحمو القبر".

قال العلماء: أراد بالحمو ههنا أخا الزوج.

فانظر كيف كان بالغ في الزجر عن التسامح في نظر أخي الزوج إلى امرأة أخيه، حتى آثر الموت في القبر عليه ومن سد الأبواب التي تؤدي إلى النظر وما وراءه أنه لا يجوز الدخول على من غاب عنها زوجها، وإن كان قد وكله بأمرها أو نفقتها، فضلا عن من هو أجنبي منه ومنها([43]).

قال ابن عباس - رضي الله عنه -ما: لم يكفر من كفر ممن مضى إلا من قبل النساء، وكفر من بقى من قبل النساء([44]).

والإسلام عندما حرم النظر إلى ما لا يحل فإنه أيضا سد جميع الوسائل التي تفضي إلى تحريك الشهوة والوقوع في الحرام حتى ولو كان بالوصف أو بالتشبيه، لأن الأذن تعشق قبل العين أحيانا.

عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنعت المرأة المرأة لزوجها كأنه ينظر إليها"([45]).

 فانظر رحمك الله كيف نهى عن وصف المرأة المرأة لزوجها صفة امرأة أجنبية؛ لئلا تسمو همته إليها، لأن الوصف يقوم مقام النظر، كل ذلك احتياط وزجر عن النظر ما يدانيه.

وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنه -ما، قال: ما رأيت شيئًا أشبه باللمم مما روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنى، أدرك ذلك لا محالة، فزنى العين بالنظر، وزنى اللسان النطق، زنى اليدين اللمس، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه"([46]).

فسمى النظر إلى غير المحارم، والحديث معهن ولمسهن أجزاء من الزنى الحقيقي، الذي يصدق إلى تحقيقه الفرج، ويصدقه في وجوب الحد في الدنيا، واستحقاق النار في الأخرى.

وفي الحديث الآخر عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس".

معناه: أن النظر من الرجل إلى المرأة، أو المرأة إلى الرجل سهم يرمي به العدو إلى النفس والقلب، فقد يهلكها دنيا وأخرى، كالسهم، المسموم؛ لأنه يجرح الظاهر بحده، ويفسد الباطن بسمه.

وأما الخطوات: فحفظها بأن لا ينقل قدمه إلا فيما يرجو ثوابه فإن لم يكن في خطاه مزيد ثواب فالقعود عنها خير له ويمكنه أن يستخرج من كل مباح يخطو إليه قربة ينويها لله، فتقع خطاه قربة.

ولما كانت العثرة عثرتين: عثرة الرجل، وعثرة اللسان جاءت إحداهما قرينة الأخرى في قوله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: 63].

فوصفهم بالاستقامة في لفظاتهم وخطواتهم، كما جمع بين اللحظات والخطوات في قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19]([47]).

كتب ابن السماك الواعظ إلى أخ له: أما بعد، أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيك في سريرتاك ورقيبك في علانيتك فاجعل الله من بالك على كل حال في ليلك ونهارك، وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك، واعلم أنك بعينه ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره ولا من ملكه إلى ملك غيره، فليعظم منه حذرك وليكثر منه وجلك والسلام([48]).

أيها الشاب:

دافع الخطرة فإن لم تفعل صارت فكرة، فدافع الفكرة، فإن لم تفعل صارت شهوة، فحاربها، فإن لم تفعل صارت عزيمة وهمة، فإن لم تدافعها صارت فعلا، فإن لم تتداركه بضده صار عادة فيصعب عليك الانتقال عنها([49]).

ولا تنس أن كل ذلك في صحائفك التي ستنشر لك وتراها يوم القيامة إن خيرا فخيرا وإن شرًّا فشر.

نموت ونبلى غير أن ذنوبنا

إذا نحن متنا لا تموت ولا تبلى([50])

أخي الحبيب:

التقوى ثلاث مراتب:

إحداها: حمية القلب والجوارح عن الآثام والمحرمات.

الثانية: حميتها عن المكروهات.

الثالثة: الحمية عن الفضول وما لا يغني.

فالأولى تعطي العبد حياته، والثانية تفيده صحته وقوته، والثالثة تكسبه سروره وفرحه وبهجته([51]).

واعلم أن باب الخير مفتوح وكذلك باب الشر، فجاهد نفسك وخذها بقوة تستقم أمورك ويصلح حالك وتفوز في العاجلة والآجلة.

من خلقه الله للجنة لم تزل هداياها تأتيه من المكاره، ومن خلقه للنار لم تزل هداياها تأتيه من الشهوات([52]).

عليك أيها الشاب بنصيحة اجتهد في تطبيقها وسترى أنها ستثمر في قلبك حلاوة وخيرا.

عن أبي روح عن أنس قال: إذا مرت بك امرأة فغمض عينيك حتى تجاوزك([53]).

وماذا يضرك لو أغمضت عينيك وصرفت بصرك طاعة لله ولرسوله؟ إنها أسهل من النظرة الثانية وما بعدها ثم الحساب والجزاء.

 وفي غض البصر عدة فوائد:

أحدها: تخليص القلب من ألم الحسرة، فإن من أطلق نظره، دامت حسرته، فأضر شيء على القلب إرسال البصر، فإنه يريه ما يشتد طلبه، ولا صبر له عنه، ولا وصول له إليه.

 الفائدة الثانية: أنه يورث القلب نورًا وإشراقًا يظهر في العين وفي الوجه وفي الجوارح، كما أن إطلاق البصر يورثه ظلمة تظهر في وجهه وجوارحه.

الفائدة الثالثة: أنه يورث صحة الفراسة، فإنها من النور وثمراته، وإذا استنار القلب، صحت الفراسة.

الفائدة الرابعة: أنه يفتح له طرق العلم وأبوابه، ويسهل عليه أسبابه، وذلك بسبب نور القلب.

الفائدة الخامسة: أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته، فيجعل له سلطان البصيرة مع سلطان الحجة.

الفائدة السادسة: أنه يورث القلب سرورًا وفرحة وانشراحًا أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر، وذلك لقهره عدوه بمخالفته، وحبس شهوته لله، وفيها مسرة نفسه الأمارة بالسوء، أعاضه الله سبحانه مسرة ولذة أكمل منها.

الفائدة السابعة: أنه يخلص القلب من أسر الشهوة، فإن الأسير هو أسير شهوته وهواه.

 الفائدة الثامنة: أنه يسد عنه بابًا من أبواب جهنم، فإن النظر باب الشهوة الحاملة على مواقعة الفعل، وتحريم الرب تعالى وشرعه حجاب مانع من الوصول، فمتى هتك الحجاب، ضري على المحظور، ولم تقف نفسه منه عند غاية فإن النفس في هذا الباب لا تقنع بغاية تقف عندها، وذلك أن لذتها في الشيء الجديد.

الفائدة التاسعة: أنه يقوي عقله، ويزيده ويثبته فإن إطلاق البصر وإرساله لا يحصل إلا من خفة العقل وطيشه وعدم ملاحظته للعواقب فإن خاصة العقل ملاحظة العواقب ومرسل النظر لو علم ما تجني عواقب نظره عليه، لما أطلق بصره.

الفائدة العاشرة: أنه يخلص القلب من سكر الشهوة ورقدة الغفلة فإن إطلاق البصر يوجب استحكام الغفلة عن الله والدار الآخرة ويوقع في سكرة العشق.

فالنظر كأس من خمر، والعشق هو سكر ذلك الشراب، وسكر العشق أعظم من سكر الخمر، فإن سكران الخمر يفيق، وسكران العشق قلما يفيق إلا وهو في عسكر الأموات.

وفوائد غض البصر وآفات إرساله أضعاف أضعاف ما ذكرنا وإنما نبهنا عليه تنبيهًا([54]).

أيها الشاب:

إن مما يعين على غض البصر المسارعة إلى الزواج قال - صلى الله عليه وسلم - حاثًا على ذلك: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر واحفظ للفرج"([55]).

وقال عمر - رضي الله عنه -: لا يمنع من النكاح إلا عجز أو فجور([56]).

وكان ابن مسعود - رضي الله عنه - يقول: لو لم يبق من عمري إلا عشرة أيام لأحببت أن أتزوج لكيلا ألقى الله عزبًا([57]).

واختار أحمد بن حنبل عوراء على أختها وكانت أختها جميلة فسأل من أعقلهما؟ فقيل العوراء، فقال: زوجوني إياها([58]).

وتأمل في نظرتهم العلوية في اختيار الزوجة وأن هذه الدار دار عمل وجد. إنها أنفس سمت عن هذه الدنيا وفتنتها وتطلعت إلى جنة عرضها السموات والأرض.

قال: شميط بن عجلان: رحم الله رجلاً تبلغ بامرأة وإن كانت نصفًا، وكان في وجهها رداءة، أن كان موقنًا بنساء أهل الجنة([59]).

قال ابن طاوس: قلت لأبي: أريد أن أتزوج فلانة قال: اذهب فانظر إليها قال: فذهبت فلبست من صالح ثيابي وغسلت رأسي وادهنت، فلما رآني في تلك الهيئة قال: اقعد لا تذهب.

وما ذاك إلا لأنه تجاوز الحد الذي يخشى والده عليه وعليها أيضا.

كان مالك بن دينار: رحمه الله يقول: يترك أحدكم أن يتزوج يتيمة فيؤجر فيها إن أطعمها وكساها تكون خفيفة المؤنة ترضى باليسير، ويتزوج بنت فلان وفلان يعني أبناء الدنيا، فتشتهي عليه الشهوات وتقول اكسني كذا وكذا([60]).

تلك هي نظرتهم للزواج الإسلامي أنه مودة ورحمة وسكن وراحة وهو قبل ذلك من أنواع العبادة التي يحبها الله ورسوله، فيها إعفاف مسلمة وحسن معاشرة وإنفاق وصدقة وصلة رحم وذرية يعبدون الله ويوحدونه ويجاهدون لإعلاء دينه.. وفيها ما شاء الله من الخير والأجر...

 قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:

لكل أبٍ بنت يراعي شئونها

ثلاثة أصهار إذا حمد الصهر

فبعل يراعيها وخدر يكفها

وقبر يواريها وأفضلها القبر([61])

روي عن أسماء بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -ا أنها قالت: تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير فرسه وناضحه فكنت أعلف فرسه وأكفيه مؤنته وأسوسه وأدق النوى لناضحه وأعلفه وأستقي الماء وأخرز غربه وأعجن وكنت أنقل النوى على رأسي من ثلثي فرسخ حتى أرسل إلي أبو بكر بجارية فكفتني سياسة الفرس فكأنما أعتقني([62]).

وقال أبو هاشم الزاهد: أخذ المرء نفسه بحسن الأدب تأديب أهله([63]).

فإن من حسن خلقه وجمل أفعاله رأى ذلك في تصرفاته وأفعال أهله، وهل هو إلا صورة لمنزله ينعكس ضوءه فينير دروب الزوجة والأبناء؟

وفي حسن العشرة وكمال الخلق تسير مركبة الأسرة في بحور من نور كل منهم يشد الآخر ويدله على طريق الآخرة، يتجاوز عن زللـه ويصفح عن خطئه.

قال عمرو بن العاص: لا أمل ثوبي ما وسعني، ولا أمل زوجتي ما أحسنت عشرتي ولا أمل دابتي ما حملتني، إن الملال من سيئ الأخلاق([64]).

وهذه صورة مشرقة من صور صدر الإسلام.. تعيدك قرونا لترى حال الآباء والأجداد ممن صنعوا مجد هذه الأمة بإيمانهم وأعمالهم.

عن مالك بن دينار قال: لما أتى عمر - رضي الله عنه - الشام طاف بكورها (مدنها) قال: فنزل بحضرة حمص، فأمر أن يكتبوا لهم فقراءهم قال: فرفع إليه الكتاب فإذا فيه سعيد بن عامر بن حزيم أميرها، فقال من سعيد بن عامر؟ قالوا: أميرنا، قال: أميركم؟ قالوا: نعم، فعجب عمر ثم قال: كيف يكون أميركم فقيرًا، أين عطاؤه، أين رزقه؟ قالوا: يا أمير المؤمنين لا يمسك شيئًا، قال فبكى عمر، ثم عمد إلى ألف دينار فصرها، ثم بعث بها إليه وقال: أقرئوه مني السلام وقولوا بعث بهذه إليك أمير المؤمنين تستعين بها على حاجتك.

قال فجاء بها إليه الرسول فنظر فإذا هي دنانير، قال فجعل يسترجع، قال: تقول له امرأته: ما شأنك أمات أمير المؤمنين؟ قال: بل أعظم من ذلك، قالت فما شأنك قال: الدنيا أتتني الفتنة دخلت عليَّ، قالت: فاصنع فيها ما شئت، قال: عندك عون؟ قالت: نعم قال: فأخذ دريعة قميص المرأة فصر الدنانير فيها مرارا ثم جعلها في مخلاة ثم اعترض جيشا من جيوش المسلمين فأمضاها كلها، فقالت له امرأته: رحمك الله لو كنت حبست منها شيئًا نستعين به، قال: فقال لها إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى أهل الأرض لملأت بريح مسك([65]) وإني والله ما كنت لأختارك عليهن، فسكتت:

خذي العفو مني تستديمي مودتي

ولا تنطقي في سورتي حين أغضب

ولا تنقريني نفرك الدف مرة

فإنك لا تدرين كيف المغيب؟

ولا تكثري الشكوى فتذهب بالهوى

ويأباك قلبي والقلوب تقلب

فإن رأيت الحب في القلب والأذى

إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب([66])

 أيها الحبيب:

تعدد الزوجات أمر مندوب إليه لمن استطاع العدل فكيف حالهم رحمهم الله في هذا العدل؟ وكيف حفظوه وقاموا به؟ هذه صورة من ذلك العدل وتلك الصور المشرقة في حياتهم كما يفعل البعض من الظلم وقهر إحدى الزوجتين على حساب الأخرى.

كانت تحت معاذ بن جبل امرأتان، فإذا كان عند إحداهما لم يشرب من بيت الأخرى الماء([67])([68]).

وعندما وقع طاعون (عمواس)([69]) توفيت زوجتاه في يوم واحد وكان الناس في شغل عن حفر قبر لكل إنسان لكثرة الموتى بسبب هذا الوباء، فدفنهما رضى الله عنه في قبر واحد، ولكنه من شدة عدله أسهم بين زوجتيه في أيتهما تقدم في اللحد أولاً:

 أما احتمال أذى الزوجة والصبر عليها وعلى سوء خلقها فإنه من صلاح الحال والصبر على العيال.. فقد راجعت امرأة عمر - رضي الله عنه - في الكلام، فقال: أتراجعيني يا لكعاء فقالت: إن أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يراجعنه وهو خير منك([70]).

واعلم أيها الحبيب أنه ليسن حسن الخلق معها كف الأذى عنها بل احتمال الأذى منها والحلم عند طيشها وغضبها اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كانت أزواجه تراجعنه الكلام وتهجره الواحدة منهن يوما إلى الليل([71]).

وعند نهاية العشرة الزوجية فإنه يبقى للمؤمنة حقها في الحفظ والصون ويبقى الفضل مذكورًا والخير منشورًا، أولئك الرجال الذين غشى قلوبهم الإيمان وزينهم بتعاليمه وأفاض عليهم من آدابه امتثالا لقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ [البقرة: 237].

 يروى عن بعض الصالحين أنه أراد طلاق امرأته فقيل له: ما الذي يريبك فيها؟ فقال: العاقل لا يهتك ستر امرأته ، فلما طلقها قيل له: لم طلقتها؟ فقال: مالي ولامرأة غيري([72]).

سبحان الله ما أعظم إيمانهم وما أصدق سرائرهم وما أحفظ ألسنتهم لو لحظت الأمر اليوم كيف حال النساء وسوء عشرتهن وإيذائهن وظلمهن قبل الطلاق وبعده. لرأيت اختلال الموازين ونقص المكاييل.

أخي الحبيب:

رأيت المعافى لا يعرف قدر العافية إلا في المرض، كما لا يعرف شكر الإطلاق إلا في الحبس.

وتأملت على الآدمي حالة عجيبة، وهو أن تكون معه امرأة لا بأس بها إلا أن قلبه لا يتعلق بمحبتها تعلقا يلتذ به. ولذلك سببان:

أحدهما: أن تكون غير غاية في الحسن.

والثاني: أن كل مملوك مكروه، والنفس تطلب ما لا تقدر عليه.

فتراه يضج ويشتهي شيئًا يحبه أو امرأة يعشقها، ولا يدري أنه إنما يطلب قيدًا وثيقًا يمنع القلب من التصرف في أمور الآخرة أو في أي علم أو عمل، ويخبطه في تصريف الدنيا، فيبقى ذلك العاشق أسير المعشوق، همه كله معه.

فالعجب لمطلق يؤثر القيد، ومستريح يؤثر التعب.

فإن كانت تلك المرأة تحتاج أن تحفظ فالويل له لا قرار له ولا سكون، وإن كانت من المتبرجات اللواتي لا يؤمن فسادهن فذاك هلاكه بمرة.

فلا هو إن نام يلتذ بنومه، ولا إن خرج من الدار يأمن محله، وإن كانت تريد نفقة واسعة وليس له فكم يدخل مدخل سوء لأجلها؟ وإن كانت تؤثر الجماع وقد علت سنة فذاك الهلاك العظيم، وإن كانت تبغضه فما بقيت من أسباب تلفه بقية، فيكون هذا ساعيًا في تلف نفسه.

وهذا على الحقيقة كعابد صنم.

فليتق الله من عنده امرأة لا بأس بها: وليعرض عن حديث النفس ومناها فما له منتهى.

ولو حصل له غرضه كما يريد وقع الملل وطلب ثالثة، ثم يقع الملل ويطلب رابعة، وما لهذا آخر، إنما يفيده ذلك في العاجلة تعلق قلبه وأسر لبه، فيبقى كالمبهوت.

فكره كله في تحصيل ما يريد محبوبه، فإن جرت فرقة أو آفة فتلك الحسرات الدائمة إن بقي أو التلف عاجلا.

وأين المستحسن المصون الدين القنوع بمن يحبه هذا أقل من الكبريت الأحمر.

فلينظر في تحصيل ما يجمع معظم الهم، ولا يلتفت إلى سواد الهوى وغاية المنى، يسلم([73]).

 شكا رجل من بغضه لزوجته لابن الجوزي: فقال: ما أقدر على فراقها لأمور، منها كثرة دينها عليَّ وصبري قليل، ولا أكاد أسلم من فلتات لساني في الشكوى، وفي كلمات تعلم بغضي لها.

فقال له ابن الجوزي: هذا لا ينفع وإنما تؤتى البيوت من أبوابها، فينبغي أن تخلو بنفسك فتعلم أنها إنما سلطت عليك بذنوبك فتبالغ في الاعتذار والتوبة.

فأما التضجر والأذى لها فما ينفع كما قال الحسن عن الحجاج : عقوبة من الله لكم فلا تقابلوا عقوبته بالسيف قابلوها بالاستغفار.

واعلم أنك في مقام مبتلى ولك أجر بالصبر ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ فعامل الله سبحانه وتعالى بالصبر على ما قضى واسأله الفرج، فإذا جمعت بين الاستغفار وبين التوبة من الذنوب والصبر على القضاء وسؤال الفرج، حصلت ثلاثة فنون من العبادة تثاب على كل منها، ولا تضيع الزمان بشيء لا ينفع، ولا تحتل ظانا منك أنك تدفع ما قدر: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ﴾ [الأنعام: 17]([74]).

قال داود الطائي: ما أخرج الله عبدًا من ذل المعاصي إلى عز التقوى إلا أغناه بلا مال، وأعزه بلا عشيرة، وآنسه بلا بشر([75]).

عليك أخي المسلم: بترك المعاصي في السر وإلى هذا المعنى الإشارة في القرآن بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ كان بعض السلف يقول لأصحابه: زهدنا الله وإياكم في الحرام زهد من قدر عليه في الخلوة فعلم أن الله يراه فتركه من خشيته أو كما قال.

وقال الشافعي: أعز الأشياء ثلاثة: الجود من قلة، والورع في خلوة، وكلمة الحق عند من يرجى أو يخاف([76]).

 ذكر أن أعرابيًّا قال: خرجت في بعض الليالي الظلم فإذا أنا بجارية كأنها علم فأردتها عن نفسها فقالت: ويلك أما كان لك زاجر من عقل إذا لم يكن ناهٍ من دين؟ فقلت: إنه والله ما يرانا إلا الكواكب، قالت: فأين مكوكبها([77]).

واتق الله فتقوى الله ما

أورت قلب امرئ إلا وصل

وهناك الآن من يحاول إفساد المرأة بالنظر والمهاتفة.. أو عن طريق نشر الفساد بين نساء المسلمين.. رحم الله من كانوا قبلنا... كانوا يسعون لإعفاف المسلمة وسد جميع طرق الفساد حتى لا ترى إلا طريق الحق فتنقاد له و تعرض عن الشر وتبتعد عنه.. إنهم أهل إيمان وأصحاب قلوب حية يرون أن كل مسلمة لهم أخت وعليهم واجب إعفافها وسترها.

جاءت امرأة عليها ثوب قد نفض من الصبغ فسألت حسان بن أبي سنان، فقال لشريكه هكذا وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى فذهب شريكه يزن درهمين قال: زن لها مائتين فقالوا: يا أبا عبد الله، كنت ترضى بذا، كذا وكذا من سائل، فقال: إني ذهبت في شيء لم تذهبوا فيه، إني رأيت بها بقية من الشباب، وخشيت أن تحملها الحاجة على بعض ما يكره([78]).

أنعم به من مال يصون به عرض أخته المسلمة التي يرى فيها حاجة ويخشى عليها من الانحراف، كم من مسلمة يقوم بهذا العمل اليوم؟

كان بعض السلف يقول: أتراك ترحم من لم يقر عينيه بمعصيتك حتى علم أن لا عين تراه غيرك؟

وقال بعضهم: ابن آدم إن كنت حيث ركبت المعصية لم تصف لك من عين ناظرة إليك، فلما خلوت بالله وحده صفت لك معصيتك، ولم تستح منه حياءك من بعض خلقه، ما أنت إلا أحد رجلين: إن كنت ظننت أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت علمت أنه يراك فلم يمنعك منه ما منعك من أضعف خلقه لقد اجترأت([79]).

قال مجرز أبو القاسم الجلاب: حدثني سعدان قال: أمر قوم امرأة ذات جمال بارع أن تتعرض للربيع بن خثيم فلعلها تفتنه([80]) وجعلوا لها إن فعلت ذلك ألف درهم، فلبست أحسن ما قدرت عليه من الثياب، وتطيبت بأطيب ما قدرت عليه، ثم تعرضت له حين خرج من مسجده، فنظر إليها فراعه أمرها، فأقبلت عليه وهي سافرة، فقال لها الربيع: كيف بك لو قد نزلت الحمى بجسمك فغيرت ما أرى من لونك وبهجتك؟ أم كيف بك لو قد سألك منكر ونكير؟ فصرخت صرخة فسقطت مغشيا عليها، فوالله لقد أفاقت وبلغت من عبادة ربها أنها كانت يوم ماتت كأنها جذع محترق([81]).

وكان بالكوفة شاب متعبد لازم المسجد الجامع لا يكاد يفارقه وكان حسن الوجه حسن القامة حسن السمت، فنظرت إليه امرأة ذات جمال وعقل فشغفت به وطال عليها ذلك، فلما كان ذات يوم وقفت له على الطريق وهو يريد المسجد فقالت يا فتى: اسمع مني كلمات أكلمك بها ثم اعمل ما شئت: فمضى ولم يكلمها، ثم وقفت له بعد ذلك على طريقه وهو يريد منزله فقالت له: يا فتى اسمع مني كلمات أكلمك بها، فأطرق مليًّا وقال لها: هذا موقف تهمة وأنا أكره أن أكون للتهمة موضعًا فقالت له: والله ما وقفت موقفي هذا جهالة مني بأمرك ولكن معاذ الله أن يتشوف العباد إلى مثل هذا مني، والذي حملني على أن لقيتك في مثل هذا الأمر بنفسي لمعرفتي أن القليل من هذا عند الناس كثير، وأنتم معاشر العباد على مثال القوارير أدنى شيء يعيبها.

وجملة ما أقول لك أن جوارحي كلها مشغولة بك، فالله الله في أمري وأمرك، فمضى الشاب إلى منزله وأراد أن يصلي فلم يعقل كيف يصلي، فأخذ قرطاسا وكتب كتابا ثم خرج من منزله وإذا بالمرأة واقفة في موضعها فألقى الكتاب إليها ورجع إلى مكانه، وكان فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، اعلمي أيتها المرأة أن الله عز وجل إذا عصاه العبد حلم وإذا عاد إلى المعصية مرة أخرى ستره، فإذا لبس لها ملابسها غضب الله تعالى لنفسه غضبة تضيق لها السموات والأرض والجبال والشجر والدواب.

فمن ذا يطيق غضبه، فإن كان ما ذكرت باطلاً فإني أذكرك يوما تكون فيه السماء كالمهل، وتصير الجبال كالعهن، وتجثو الأمم لصولة الجبار العظيم ، وإني والله قد ضعفت عن إصلاح نفسي فكيف بإصلاح غيري؟ وإن كان ما ذكرت حقًّا فإني أدلك على طبيب هدى يداوي الكلوم الممرضة والأوجاع المرفضة ذلك الله رب العالمين فاقصديه بصدق المسألة فإني مشغول عنك بقوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 18، 19].

فأين المهرب من هذه الآية، ثم جاءت بعد ذلك بأيام فوقفت له على الطريق فلما رآها من بعيد أراد الرجوع إلى منزله كيلا يراها فقالت: يا فتى لا ترجع فلا كان الملتقى بعد هذا اليوم أبدا إلا غدًا بين يدي الله تعالى، ثم بكت بكاء شديدًا وقالت: أسأل لك الله الذي بيده مفاتيح قلبك أن يسهل ما قد عسر من أمرك، ثم إنها تبعته وقالت: أمنن عليَّ بموعظة أحملها عنك وأوصني بوصية أعمل عليها، فقال لها: أوصيك بحفظ نفسك من نفسك وأذكرك قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾ [الأنعام: 60]([82]).

أيها الحبيب: الزم الجادة وعليك بتقوى الله والبعد عن محارمه فإن في ذلك صلاح قلبك وفلاح آخرتك.. ولا يكفي أن تقول نعم بل استقم كما أمرت وجاهد نفسك واحرص على حفظ نظرك من الحرام في كل مكان ولا تكن كمن يريد النجاة وهو مستمر على معصيته مقيم على ذنبه..

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها

إن السفينة لا تجري على اليبس

قال شعبة: عن منصور، عن إبراهيم، كلم رجل من العباد امرأة فلم يزل بها حتى وضع يده على فخذها ، فانطلق فوضع يده على النار حتى نشت «احترقت»([83]).

أخي المسلم:

لقد كان العرب قبل الإسلام يعدون غض الطرف أدبا عظيما بل ويتفاخرون به، ومن ذلك قول عنترة:

وأغض طرفي ما بدت لي جارتي

حتى تواري جارتي مأواها

كان هذا حالهم هم مشركون بالله تعالى يعدون ذلك أدبا رفيعا وخلقا عظيما، فكيف بنا نحن المسلمين وبأيدينا كتاب الله وسنة نبينا فيهما التحذير من الوقوع من شر النظر وإطلاق البصر فيما لا يحل.

فكم جرح النظر من قلب، وأوقع في غفلة وأشعل نار الفتنة ورب نظرة زرعت شهوة، وشهوة ساعة أورثت حزنا طويلا.

حق لمن غض طرفه، وقاوم شهوته أن يقول الشاعر فيه

ليس الشجاع الذي يحمي مطيته

يوم النزال ونار الحرب تشتعل

لكن فتى غض طرفًا أو ثنى بصرًا

عن الحرام فذاك الفارس البطل([84])

وانظر إلى أدب الاستئذان لدخول المنازل فإن فيه من الآداب البعد عن إطلاق النظر وعدم الوقوف أمام الباب مباشرة بل يتنحى يمنة ويسرة حتى لا يرى ما بداخل الدار من المحارم أو غيرها قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جعل الاستئذان من أجل البصر" متفق عليه. وأهدر العلماء عين من نظر في دار قوم بغير إذنهم، وقالوا لا قصاص فيها ولا دية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو أن امرءًا اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح" متفق عليه.

إنها آداب إسلامية رفيعة فيها من العفة وغض النظر الكثير قال ابن عمر: من تضييع الأمانة، النظر في الحجرات والدور([85]).

روي عن بكر بن عبد الله المزني: أن قصابا أولع بجارية لبعض جيرانه فأرسلها أهلها في حاجة لهم إلى قرية أخرى فتبعها وراودها عن نفسها فقالت له: لا تفعل لأنا أشد حبا لك منك لي ولكني أخاف الله، قال: فأنت تخافينه وأنا لا أخافه، فرجع تائبًا فأصابه العطش حتى كاد يهلك فإذا برسول لبعض أنبياء بني إسرائيل فسأله فقال: ما لك؟ قال: العطش، قال: تعالى حتى ندعو الله بأن تظلنا سحابة حتى ندخل القرية، قال ما لي من عمل صالح فأدعو الله، فادع أنت، قال: أنا أدعو وأمن أنت على دعائي فدعا الرسول وأمن هو فأظلتهما سحابة حتى انتهيا إلى القرية، فأخذ القصاب إلى مكانه فمالت السحابة معه فقال له الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم: زعمت أن ليس لك عمل صالح، وأنا الذي دعوت وأنت الذي أمنت فأظلتنا سحابة ثم تبعتك، لتخبرني بأمرك فأخبره فقال الرسول، إن التائب عند الله تعالى بمكان ليس أحد من الناس بمكانه([86]).

كان ابن السماك ينشد:

يا مدمن الذنب أما تستحي

والله في الخلوة ثانيكا

غرك من ربك إمهاله

وستره طول مساويكا

دخل بعضهم غيضة ذات شجر فقال: لو خلوت ههنا بمعصية من كان يراني؟ فسمع هاتفا بصوت ملأ الغيضة ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14]([87]).

أيها الحبيب:

كثير من الناس يتسامحون في أمور يظنونها قريبة، وهي تقدح في الأصول، كاستعارة طلاب العلم جزءًا لا يردونه وقصد الدخول على من يأكل ليؤكل معه، والتسامح بعرض العدو التذاذا بذلك واستصغارا لمثل هذا الذنب، وإطلاق البصر في المحرم استهانة بتلك الخطيئة.

وأهون ما يصنع ذلك بصاحبه أن يحطه من مرتبة المتميزين بين الناس، ومن مقام رفعة القدر عند الحق أو فتوى من لا يعلم لئلا يقال، هو جاهل ونحو ذلك مما يظنه صغيرًا وهو عظيم.

وربما قيل له بلسان الحال: يا من اؤتمن على أمر يسير فخان، كيف ترجو بتدليلك رضا الديان؟

قال بعض السلف: تسامحت بلقمة فتناولتها فأنا اليوم من أربعين سنة إلى خلف.

فالله الله، اسمعوا ممن قد جرب كونوا على مراقبة، وانظروا في العواقب، واعرفوا عظمة الناهي، واحذروا من نفخة تحتقر، وشررة تستصغر فربما أحرقت بلدا.

وهذا الذي أشرت إليه يسير يدل على كثير، وأنموذج يعرف باقي المحقرات من الذنوب([88]) .

رأى محمد بن المنكدر رجلا وافقًا مع امرأة يكلمها فقال: إن الله يراكما سترنا الله وإياكما.

قال الحارث المحاسبي: المراقبة علم القلب بقرب الرب.

وسئل الجنيد بما يستعان على غض البصر، قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق إلى ما تنظره([89])

وذكر أبو الفرج وغيره أن امرأة جميلة كانت بمكة، وكان لها زوج فنظرت يومًا إلى وجهها في المرأة فقالت لزوجها، أترى أحدًا يرى هذا الوجه ولا يفتن به؟ قال: نعم، قالت: من؟ قال: عبيد بن عمير، قالت فأذن لي فيه فلأفتننه، قال قد أذنت لك.

قال: فأتته كالمستفتية فخلا معها في ناحية من المسجد الحرام فأسفرت عن وجه مثل فلقة القمر، فقال لها: يا أمة الله استتري، فقالت: إني قد فتنت بك، قال: إني سائلك عن شيء فإن أنت صدقتني نظرت في أمرك قالت : لا

 تسألني عن شيء إلا صدقتك.

قال: أخبريني لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك أكان يسرك أن أقضي لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت.

قال: فلو دخلت قبرك وأجلست للمساءلة أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت.

قال: فلو أن الناس أعطوا كتبهم ولا تدرين أتأخذين كتابك بيمينك أم بشمالك أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت.

قال: فلو أردت الممر على الصراط ولا تدرين هل تنجين أو لا تنجين أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت.

قال: فلو جيء بالميزان وجيء بك فلا تدرين أيخف ميزانك أم يثقل أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت.

قال: فلو وقفت بين يدي الله للمساءلة أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت.

قال: اتقي الله فقد أنعم عليك وأحسن إليك، قال: فرجعت إلى زوجها فقال: ما صنعت؟ قالت: أنت بطال ونحن بطالون، فأقبلت على الصلاة والصوم والعبادة فكان زوجها يقول: ما لي ولعبيد بن عمير أفسد علي امرأتي، كانت في كل ليلة عروسا فصيرها راهبة([90]).

وإذا كنت لا ترضى بأن يراك من تجله وتحترمه وأنت على هذه المعصية فكيف ترضى بأن يراك خالقك ورازقك ومن بيده أمر هذا الكون وأنت على حال تغضبه جل وعلا؟!

قال ابن عباس: يا صاحب الذنب لا تأمن من فتنة الذنب وسوء عاقبته، ولخوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت على الذنب، ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب.

والرجل هو من عمر قلبه بمراقبة الله عز وجل كما قال ابن الجوزي: والرجل والله من إذا خلا بما يحب من المحرم وقدر عليه وتقلقل عطشا إليه، نظر إلى نظر الحق إليه فاستحى من إجالة همه فيما يكرهه فذهب العطش([91]).

 قال أبو الجلد: أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء: قل لقومك ما بالكم تسترون الذنوب من خلقي وتظهرونها لي إن كنتم ترون أني لا أراكم فأنتم مشركون بي، وإن كنتم ترون أني أراكم فلم تجعلوني أهون الناظرين إليكم([92]).

يا من يرى مد البعوض جناحها

في ظلمة الليل البهيم الأليل

ويرى نياط عروقها في مخها

والمخ في العظام النحل

اغفر لعبد تاب من زلاته

ما كان منه في الزمان الأول

قال أبو عياش القطان: كانت امرأة بالبصرة متعبدة يقال لها منيبة، وكانت لها ابنة أشد عبادة منها، فكان الحسن ربما رآها وتعجب من عبادتها على حداثتها، فبينما الحسن ذات يوم جالس إذ أتاه آت فقال: أما علمت أن الجارية قد نزل بها الموت فوثب الحسن فدخل عليها فلما نظرت الجارية إليه بكت فقال لها: يا حبيبتي ما يبكيك؟ قالت له: يا أبا سعيد التراب يحثى على شبابي ولم أشبع من طاعة ربي، يا أبا سعيد انظر إلى والدتي وهي تقول لوالدي: احفر لابنتي قبرًا واسعًا وكفنها بكفن حسن، والله لو كنت أجهز إلى مكة لطال بكائي كيف وأنا أجهز إلى ظلمة القبور ووحشتها وبيت الظلمة والدود([93]).

قالت عائشة بنت سعيد بن إسماعيل لابنتها: لا تفرحي بفانٍ، ولا تزعجي من ذاهب وافرحي بالله عز وجل، واجزعي من سقوطك من عين الله عز وجل([94]).

وهذه قصة تروي النهاية السيئة لطريق الفساد والضياع، بل ربما يكون آخر كلامه من الدنيا الهذيان بمحبوبه نظرها وتعلق قلبه بها، وهي قصة معروفة مشهورة يردد صاحبها، كيف الطريق إلى حمام منجاب؟!

وهذا الكلام له قصة، وذلك أن رجلا كان واقفا بإزاء داره، وكان بابها يشبه باب هذا الحمام فمرت به جارية لها منظر، فقالت: أين الطريق إلى حمام منجاب؟ فقال: هذا حمام منجاب، فدخلت الدار ودخل وراءها، فلما رأت نفسها في داره وعلمت أنه قد خدعها أظهرت له البشرى والفرح باجتماعها معه، وقالت له: يصلح أن يكون معنا ما يطيب به عيشنا وتقر به عيوننا، فقال لها: الساعة آتيك بكل ما تريدين وتشتهين، وخرج وذهبت ولم تخنه في شيء فهام الرجل وأكثر الذكر لها، وجعل يمشي في الطرق والأزفة ويقول:

يا رب قائلة يومًا، وقد تعبت

كيف الطريق إلى حمام منجاب؟!

فبينما هو يومًا يقول ذلك وإذا بجارية أجابته من طاق:

هلا جعلت سريعًا إذ ظفرت بها

حرزا على الدار أو قفلا على الباب؟!

فازداد هيمانه واشتد، ولم يزل على ذلك، حتى كان هذا البيت آخر كلامه من الدنيا.

ولقد بكى سفيان الثوري، ليلة إلى الصباح، فلما أصبح قيل له: كل هذا خوفًا من الذنوب؟ فأخذ تبنة من الأرض، وقال: الذنوب أهون من هذا، وإنما أبكي من خوف سوء الخاتمة.

 وهذا من أعظم الفقه: أن يخاف الرجل أن تخذله ذنوبه عند الموت فتحول بينه وبين الخاتمة الحسنى.

وقد ذكر الإمام أحمد عن أبي الدرداء أنه لما احضتر جعل يغمى عليه ثم يفيق ويقرأ ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الأنعام: 110].

فمن هذا خاف السلف من الذنوب أن يكون حجابًا بينهم وبين الخاتمة الحسنى.

قال الحافظ أبو محمد عبد الحق الأشبيلي: واعلم أن سوء الخاتمة أعاذنا الله تعالى منها: لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، ما سمع بهذا ولا علم به ولله الحمد، وإنما تكون لمن له فساد في الأصل أو إصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة، فيأخذه قبل إصلاح الطوية ويصطلم قبل الإنابة، فيظفر به الشيطان عند تلك الصدمة، ويختطفه عند تلك الدهشة والعياذ بالله.

أخي الحبيب:

إليك بعضًا من قصص أصحابها أردت بهم نظرة وذهبت بعقولهم لفتة فأصبحوا من الخاسرين يروى أنه كان بمصر رجل يلزم مسجدًا للأذان والصلاة وعليه بهاء الطاعة وأنوار العبادة فرقى يوما المنارة على عادته للأذان وكان تحت المنارة داره لنصراني فاطلع فيها فرأى ابنة صاحب الدار فافتتن بها، فترك الأذان ونزل إليها ودخل الدار عليها، فقالت له: ما شأنك وما تريد؟ قال: أريدك: قالت: لماذا؟ قال: أتزوجك قالت: أنت مسلم وأنا نصرانية وأبي لا يزوجني منك: قال: أتنصر قالت: إن فعلت أفعل، فتنصر الرجل ليتزوجها، وأقام معهم في الدار، فلما كان في أثناء ذلك اليوم رقى إلى سطح كان في الدار فسقط منه فمات فلم يظفر بها وفاته دينه([95]).

إنها النظرة الحرام التي ساقته إلى أن يترك ملة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويتنصر لأجل امرأة رأها.

تفنى اللذاذة ممن ذاق صفوتها

من الحرام ويبقى الإثم والعار

تبقى عواقب سوء في مغبتها

لا خير في لذة من بعدها النار([96])

قال عبدة بن عبد الرحيم: خرجنا في سرية إلى أرض الروم فصحبنا شاب لم يكن فينا أقرأ للقرآن منه ولا أفقه ولا أفرض، صائم النهار قائم الليل، فمررنا بحصن فمال عنه العسكر ونزل بقرب الحصن فظننا أنه يبول فنظر إلى امرأة من النصارى تنظر من وراء الحصن فعشقها فقال لها بالرومية: كيف السبيل إليك؟ قالت: حين تتنصر يفتح لك الباب وأنا لك ففعل فأدخل الحصن، قال فقضينا غزاتنا في أشد ما يكون من الغم كأن كل رجل منا يرى ذلك بولده من صلبه، ثم عدنا في سرية أخرى فمررنا به ينظر من فوق الحصن مع النصارى فقلنا: يا فلان ما فعلت قراءتك؟ ما فعل علمك؟ ما فعلت صلواتك وصيامك؟ قال: اعلموا أني نسيت القرآن كله ما أذكر منه إلا هذه الآية: ﴿رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الحجر: 2، 3].

قال منصور بن عمار: حججت حجة فنزلت سكة من سكك الكوفة فخرجت في ليلة مظلمة، فإذا بصارخ يصرخ في جوف الليل وهو يقول: إلهي وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وقد عصيتك إذ عصيتك وما أنا بنكالك جاهل، ولكن خطيئة عرضت لي أعانني عليها شقائي وغرني سترك المرخي عليَّ، وقد عصيتك بجهدي وخالفتك بجهلي ولك الحجة علي، فالآن من عذابك من يستنقذني؟ وبحبل من اتصل إذا قطعت حبلك مني؟ واشباباه، واشباباه قال: فلما فرغ من قوله تلوت آية من كتاب الله: ﴿نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ﴾ [التحريم: 6] الآية فسمعت حركة شديدة ثم لم أسمع بعدها حسًا فمضيت فلما كان من الغد رجعت في مدرجتي، إذا بجنازة قد وضعت، وإذا بعجوز كبيرة فسألتها عن أمر الميت، ولم تكن عرفتني فقالت: هذا رجل لا جزاه الله إلا جزاءه مر بابني البارحة وهو قائم يصلي، فتلا آية من كتاب الله فلما سمعها ابني تفطرت مرارته فوقع ميتًا([97]).

والرغبة في الله وإرادة وجهه، والشوق إلى لقائه هي رأس مال العبد وملاك أمره وقوام حياته الطيبة، وأصل سعادته وفلاحه ونعيمه وقرة عينه، ولذلك خلق، وبه أمر، وبذلك أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب([98]).

 ويروى أن رجلا علق شخصًا فاشتد كلفه به وتمكن حبه من قلبه حتى أوقع ولزم الفراش بسببه وتمنع ذلك الشخص عليه، واشتد نفارة عنه، فلم تزل الوسائط يمشون بينهما حتى وعده بأن يعوده فأخبره بذلك الناس ففرح واشتد فرحه وانجلى غمه فجعل ينتظره للميعاد الذي ضرب له فيما هو كذلك إذ جاءه الساعي بينهما فقال: إنه وصل معي إلى بعض الطريق ورجع، ورغبت إليه وكلمته فقال، إنه ذكرني وفرح بي، ولا أدخل مدخل الريبة، ولا أعرض نفسي لمواقع التهم، فعاودته فأبى وانصرف فلما سمع البائس أسقط في يده، وعاد إلى أشد مما كان به وبدت عليه علائم الموت فجعل يقول في تلك الحال:

أسلم يا راحة العليل

ويا شفا المدنف النحيل

رضاك أشهى إلى فؤادي

من رحمة الخالق الجليل

فقلت يا فلان: اتق الله قال: قد كان فقمت عنه فما جاوزت باب داره حتى سمعت صيحة الموت، فعياذًا بالله من وسوء العاقبة وشؤم الخاتمة([99]).

أيها الحبيب:

قال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 25] فتأمل جلالة المبشر ومنزلته وصدقه وعظمة من أرسله إليك بهذه البشارة وقدر ما بشرك به وضمنه لك على أسهل شيء عليك وأيسره، وجمع سبحانه في هذه البشارة بين نعيم البدن بالجنات وما فيها من الأنهار والثمار ونعيم النفس بالأزواج المطهرة ونعيم القلب وقرة العين بمعرفة دوام هذا العيش أبد الآباد وعدم انقطاعه، والأزواج جمع زوج والمرأة زوج للرجل وهو زوجها.

والمطهرة من طهرت من الحيض والبول والنفاس والغائط والمخاط والبصاق وكل قذر وكل أذى يكون من نساء الدنيا فطهر مع ذلك باطنها من الأخلاق السيئة والصفات المذمومة وطهر لسانها من الفحش والبذاء وطهر طرفها من أن تطمح به إلى غير زوجها وطهرت أثوابها من أن يعرض لها دنس أو وسخ قال عبد الله ابن المبارك ثنا شعبة عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "لهم فيها أزواج مطهرة" قال: من الحيض والغائط والنخامة والبصاق.

قال الله عز وجل: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ الليْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ [هود: 114].

وفي الصحيحين عن ابن مسعود أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلت هذه الآية فدعاه فقرأها عليه فقال رجل: هذا له خاصة؟ قال: بل للناس عامة، وقد وصف الله المتقين في كتابه بمثل ما وصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الوصية([100]) في قوله عز وجل: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ فوصف المتقين بمعاملة الخلق بالإحسان إليهم بالإنفاق وكظم الغيظ والعفو عنهم، فجمع بين وصفهم ببذل الندى واحتمال الأذى.

وهذا هو غاية حسن الخلق الذي وصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ([101]) ثم وصفهم بأنهم ﴿إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ ولم يصروا عليها، فدل على أن المتقين قد يقع منهم أحيانا كبائر وهي الفواحش، وصغائر وهي ظلم النفس، لكنهم لا يصرون عليها بل يذكرون الله عقب وقوعها ويستغفرونه ويتوبون إليه منها، التوبة، هي ترك الإصرار، ومعنى قوله: ذكروا الله: ذكروا عظمته وشدة بطشه وانتقامه وما يوعد به على المعصية من العقاب، فيوجب ذلك لهم الرجوع في الحال والاستغفار وترك الإصرار، وقال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ .

وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أذنب عبد ذنبًا فقال: رب إني عملت ذنبًا فاغفر لي فقال الله: علم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب قد غفرت لعبدي، ثم إذا أذنب ذنبًا آخر إلى أن قال في الرابعة فليعمل ما شاء" يعني ما دام على هذه الحال كلما أذنب ذنبًا استغفر منه([102]).

أيها الحبيب.. متع نظرك بقراءة القرآن وأطلق بصرك ليرى عظمة صنع الخالق جل وعلا، ليكن ذلك في ميزان حسناتك، واغضض بصرك عما حرم الله تهنأ نفسك وتؤجر على فعلك وتجد حلاوة ذلك في قلبك.

جعلني الله وإياك ممن إذا زل ثاب وتاب وإذا أخطأ استغفر وعاد وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.



([1]) رواه البخاري.

([2]) تفسير ابن كثير (6/43).

([3]) تفسير ابن كثير (6/ 44).

([4]) تفسير ابن كثير (6/46).

([5]) فتح القدير (4/ 22).

([6]) أحكام النظر (18).

([7]) الجواب الكافي (179).

([8]) رواه البخاري ومسلم.

([9]) روضة المحبين (93، 94). والحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي.

([10]) رواه أحمد والحاكم.

([11]) ذم الهوى (82).

([12]) الأمرد: الشاب طر شاربه ولم تنبت لحيته.

([13]) الجواب الكافي (224).

([14]) أحكام النظر لابن القيم (9).

([15]) أضواء البيان (6/ 91)

([16]) أضواء البيان (6/ 919).

([17]) تزكية النفوس (38).

([18]) رواه الترمذي.

([19]) رواه أحمد وابن حبان. تقدم تخريجه دون قوله: إن لك كنزا في الجنة فالله أعلم.

([20]) رواه مسلم.

([21]) الجامع لأحكام القرآن (12/ 227).

([22]) الإحياء (3/ 114).

([23]) بضم الميم وفتح الفاء، يقال: أصفحه بالسيف، أي ضربه بعرضه دون حده.

([24]) الجواب الكافي (147).

([25]) صفة الصفوة (2/ 80)، السير (2374).

([26]) الورع لابن أبي الدنيا (63).

([27]) صفة الصفوة (3/ 106).

([28]) الورع لابن أبي الدنيا (64).

([29]) صيد الخاطر (427).

([30]) الزهد: (196).

([31]) الإحياء (3/ 112).

([32]) العاقبة: (88).

([33]) صفة الصفوة (4/ 94).

([34]) تقدم تخريجه.

([35]) الزهر الفائح (95).

([36]) تزكية النفوس (37).

([37]) الورع لابن أبي الدنيا 62.

([38]) صفة الصفوة (3/ 337).

([39]) المنتخب (20).

([40]) الجواب الكافي (176).

([41]) أحكام النظر (10).

([42]) رواه أحمد وأبو داود.

([43]) أحكام النظر: 38.

([44]) أحكام النظر: 15.

([45]) رواه البخاري بلفظ لا تباشر المرأة المرأة فتعنتها لزوجها كأنه ينظر إليها. فتح الباري (9/ 338).

([46]) رواه البخاري دون قوله: وزنى اليدين اللمس.

([47]) الجواب الكافي: 174.

([48]) جامع العلوم والحكم 161.

([49]) الفوائد: 46.

([50]) البداية والنهاية (10/ 263).

([51]) الفوائد (46).

([52]) الفوائد (46).

([53]) الورع لابن أبي الدنيا (66).

([54]) أحكام النظر 17.

([55]) رواه البخاري ومسلم

([56]) الإحياء (2/ 26).

([57]) الإحياء: (2/ 26).

([58]) الإحياء (2/ 44).

([59]) حلية الأولياء (3/ 131).

([60]) الإحياء: (2/ 44).

([61]) أدب الدنيا والدين (162).

([62]) القصة رواها البخاري فتح الباري (9/ 319).

([63]) صفة الصفة (2/ 306).

([64]) السير (3/ 57).

([65]) رواه البزار من حديث سعيد بن عامر وأخرجه البخاري من حديث أنس بلفظ لو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأت ما بينهما ريحًا أي طيبًا قاله الحافظ ابن حجر فتح الباري (11/ 418، 442).

([66]) مكاشفة القلوب (398).

([67]) وأعرف من يفعل مثل ذلك الآن.

([68]) حلية الأولياء (1/ 234).

([69]) كان بالشام في زمن عمر رضي الله عنه مات فيه خمسة وعشرون ألفا.

([70]) رواه البخاري.

([71]) مكاشفة القلوب: 393.

([72]) الإحياء 2/ 64.

([73]) صيد الخاطر (498).

([74]) صيد الخاطر (498)

([75]) صيد الخاطر (513).

([76]) صفة الصفوة (3/ 132).

([77]) روضة المحبين (395).

([78]) حلية الأولياء (3/ 116).

([79]) جامع العلوم والحكم (161).

([80]) هذا من فعل الفساق ولا يجوز.

([81]) كتاب التوابين (262).

([82]) الإحياء (3/ 114).

([83]) روضة المحبين (397).

([84]) ذم الهوى (119).

([85]) الورع لابن أبي الدنيا (66).

([86]) الإحياء (3،/ 114).

([87]) جامع العلوم والحكم (161).

([88]) صيد الخاطر (187).

([89]) جامع العلوم والحكم (161).

([90]) روضة المحبين.

([91]) صيد الخاطر (137).

([92]) جامع العلوم الحكم (161).

([93]) صفة الصفوة (4/ 29).

([94]) صفة الصفوة (2/ 125).

([95]) الجواب الكافي (198).

([96]) روضة المحبين (442).

([97]) كتاب التوابين (289).

([98]) روضة المحبين (405).

([99]) الجواب الكافي (199).

([100]) وهي ما جاء في الحديث اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحوها وخالق الناس بخلق حسن، رواه الترمذي وحسنه.

([101]) في الحديث السابق.

([102]) جامع العلوم والحكم 163.