الوصف المفصل
الفتنة ودور الشيطان في إشعالها
نبذة مختصرة عن الخطبة:
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبدالله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "الفتنة ودور الشيطان في إشعالها"، والتي تحدَّث فيها عن عداوة الشيطان لبني آدم منذ أن خلق الله آدمَ وأمره بالسجود له فأبَى، وذكر مظاهر عداوة الشيطان، وكيفية استخدامه جميع السبل والوسائل لإشعال الفتن والاضطرابات في صفوف المسلمين؛ وذلك بالتحريش بينهم، ثم حذَّر من الانسياق خلف دعاوى أعداء الإسلام الذين يريدون زعزعة الصف المسلم وتفريق وحدته.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، أحمده - سبحانه - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالقُ الأرض والسماوات العُلَى، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله النبيُّ المُجتَبَى، والرسولُ المُرتضَى، والحبيبُ المُفتدَى، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أهل البرِّ والتُّقَى.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكروا وقوفكم بين يديه يوم تُعرَضون عليه يوم يفِرُّ المرءُ من أخيه، وأمِّه وأبيه، وصاحبته وبنِيه، لكل امرئٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يُغنِيه.
عباد الله:
ديدَنُ اللبيب الواعي وشأنُ الأريب اليَقِظ: كمالُ الحَذَر من كيد العدو، وأخذُ الأُهبَة لاتِّقاء مكره ودرء خطره، ولئن تفاوتَ هذا الخطر بحسب قوة العدو وعلى قدر تمكُّنه من وسائل الإثخان في عدوه وإيصال الأذى إليه، فإن من أشد العداوات ضررًا وأبعدها أثرًا: عداوة من ذكَر الله في كتابه مُحذِّرًا منه بقوله: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6].
وتتجلَّى هذه العداوة التي ابتدأَت بإبائه السجود لآدم - عليه السلام - وخروجه من الجنة في توعُّده لبني آدم بالإضلال وتربُّصه بهم، وقُعوده لهم كل مرصَد، كما أخبرنا - سبحانه - عن ذلك بقوله - عزَّ اسمه -: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف: 16، 17].
ويتجلَّى في تعهُّده الذي أخذه على نفسه بألا يدَع سبيلاً للإغواء إلا سلَكَه: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء: 119].
وإذا كان إضلالُه لهم وشغلُه بالأمانِيِّ الكاذبة ودعوتُه لهم إلى تشقيق آذان الأنعام وتغيير خلق الله وهيئتِه التي فُطِروا عليها بعضَ ما في كِنانتِه؛ فإن فيها ضربًا لا يقل عن ذلك خطرًا؛ ذلك أن من أظهر ما يُبغِضُه ما يرى من أُلفَة المؤمنين وتوادِّهم وتراحُمهم واجتماع كلمتهم واتحاد صفوفهم، فيحمِله ذلك على إثارة أسباب الفُرقة والشِّقاق بينهم، وبذل بذور الفتنة بضرب بعضهم ببعض سعيًا إلى قطع رابطة الأُخُوَّة، والقضاء على وشيجة الإيمان، وهو التحريش الذي أخبر عنه نبيُّ الرحمة - صلى الله عليه وسلم - مُحذِّرًا منه أمَّتَه بقوله: «إن الشيطان قد أيِسَ أن يعبُدَه المُصلُّون في جزيرة العرب، لكن في التحريش بينهم»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه"، وأحمد في "مسنده"، والترمذي في "جامعه" من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -.
إن سعيَه إلى التحريش وأملَه في الظَّفَر بآثاره باقٍ لم يتطرَّق إليه يأس، ولذا فهو يعمل له ويدأَبُ فيه، ويتوسَّل إليه بإعمال الحِيلة لإغراء بعض أبناء الأمة على بعضها الآخر؛ بإثارة عوامل النزاع وإهاجة أسباب التناحُر بطرائق ومسالك يُزيِّنها ويُظهِرها في صورة مصالح ومنافع تبدو خلاَّبةً للعقول، آخِذةً بمجامِع النفوس، ويستعينُ على بلوغ ما يريد بمن رضِيَ باتباع خُطواتِه، والانضِواء تحت لوائه، والاستجابة لوسوستِه، كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال:
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن عرش إبليس على البحر فيبعَثُ سراياه فيفتِنون بين الناس، فأعظمُهم عنده أعظمُهم فتنة، يجيءُ أحدهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا، فيقول: ما صنعتَ شيئًا، ثم يجيءُ أحدهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا، فيقول: ما صنعتَ شيئًا، ويجيءُ أحدهم فيقول: ما تركتُه حتى فرَّقتُ بينَه وبين امرأته، فيُدنيه منه ويقول: نِعْم أنت».
وانظروا إلى ما فعل بإخوة يوسف - عليه السلام - حين نزغ بينه وبينهم، ففعلوا ما فعلوا من الكيد له، والعدوان عليه.
غيرَ أن أولي الألباب الذين لم يجعل الله للشيطان سلطانًا عليهم يعلمون أن ربهم الرؤوف الرحيم بهم كما حذَّرهم من طاعة الشيطان ومن اتخاذه وليًّا من دون الله؛ فقد بيَّن لهم بما أنزل في كتابه من البيِّنات والهدى ما يستعصِمون به من تحريش الشيطان وتفريقه وفتنته.
وفي الطليعة من ذلك: الاعتصام بحبل الله كما أمر الله ورضِيَه لنا، فقال - سبحانه -: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 103].
وهو أمرٌ بالاستمساك بدين الإسلام أو بالقرآن، وكما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في "صحيحه"، وأحمد في "مسنده" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله تعالى يرضَى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا؛ فيرضَى لكم: أن تعبدوه ولا تُشرِكوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقوا، وأن تُناصِحوا من ولاَّه الله أمرَكم، ويكره لكم: قِيل وقَال، وكثرةَ السؤال، وإضاعَة المال».
ومن ذلك: تذكُّر نعمة الله على عباده وما منَّ عليهم من نعمة الأُخُوَّة في الدين بعد ما كانوا عليه من عداوات الجاهلية وقتالها وثاراتها.
ومنه: اتباع صراط الله المستقيم والحذَر من اتباع السُّبُل؛ لأن على كل سبيلٍ منها شيطانًا يدعو إليها، كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد في "مسنده"، والنسائي في "سننه"، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه" بإسنادٍ صحيح عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: خطَّ لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا خطًّا فقال: «هذا سبيلُ الله»، ثم خطَّ خطوطًا عن يمين الخط وعن شماله فقال: «هذه السُّبُل، على كل سبيلٍ منها شيطانٌ يدعو إليه»، ثم قرأ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153].
وهي وصيةٌ ربانيةٌ كريمةٌ من ربٍّ رحيم، وصية لعباده بأن يتخذوا من صراط الله منهاجًا يسلُكونه، ولا يحِيدون عنه، ولا يسلُكون طريقًا سواه، ولا يبغُون دينًا غيرَه؛ لأنهم إن اتَّبَعوا سُبُل الشيطان حادَت بهم وانحرَفَت عن طريق الله ودينه وشرعه الذي شرَعَه لهم ورضِيَه، وهو الإسلام الذي وصَّى به الأنبياء، وأمرَ به الأُمَمَ من قبلنا.
ومن أسباب السلامة من تحريش الشيطان أيضًا: تعويدُ الألسنة القولَ الحسنَ والكلمةَ الطيبة، كما قال - سبحانه -: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء: 53].
وهو كما قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "أمرٌ من الله - تبارك وتعالى - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر عبادَ الله المؤمنين أن يقولوا في مُخاطباتهم ومُحاوراتهم الكلامَ الأحسن والكلمةَ الطيبة؛ فإنه إذا لم يفعلوا ذلك نزَغَ الشيطانُ بينهم وأخرج الكلام إلى الفِعال، ووقع الشر والمُخاصَمة والمُقاتلة".
فالقولُ الحسن والكلمة الطيبة - يا عباد الله - رسولٌ إلى الخير، وقائدٌ إلى الأُلفة واجتماع الكلمة، وسبيلٌ إلى اتحاد الصفوف، وطريقٌ إلى إرغام الشيطان وإحباطِ سعيِه إلى الفتنة والفُرقة والتنازُع بين أبناء الأمة الواحدة، ذلك التنازُع الذي نهى اللهُ عبادَه عنه مُبيِّنًا قُبحَ مآله، وسوءَ عاقبتِه بقوله: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال: 46].
وكفى بالفشل وذهابِ الرِّيح المُعبِّرَيْن عن أسوأ عاقبة وأقبح مآل ينتظرُ المُتنازِعين، كفى به نذيرًا صارخًا لأُولِي الألباب ليأخذوا حِذرَهم من وساوِس الشيطان واتباع خُطواته، وانتهاج سُبُله التي يُزيِّنُها بزُخرف القول يغُرُّ به من أطاعَه وأسلم له قيادَه، ويُحسِّنُها بالوعود والأمانِيِّ الكاذبة التي اتخذَت لها في أعقاب الزمن صورًا لا يُحيطُ بها الحصرُ، ولا يستوعِبُها العدُّ، حتى صار لها اليوم من أجهزة الإعلام الحديثة وشبكات المعلومات العالمية بما فيها من قنواتٍ ومواقع وما تُتيحُه من قُدرات ووسائل، صار لها اليوم ساحةٌ لا حدود لها، وميدانٌ لنشر دعواتٍ والترويج لاتجاهات، والحثِّ على مسيرات، وما يُسمَّى: تظاهرات واعتصامات، يستيقِنُ كلُّ عاقلٍ مُخلِصٍ لله، ناصحٍ لعباده، مُحبٍّ لهم، عظيمِ الشفقةِ عليهم، مُريد الخير بهم أنها بابٌ عاجلٌ، وبعثُ فتنةٍ نائمة، وسبيلُ فُرقةٍ مائِجة، وطريقُ فوضَى عارِمة، وتعطيلُ مصالح لازمة، وعبَثٌ بأمنٍ راسِخ لا غناء عنه ولا بديل.
فإن شأن الفتنة أن ضررها يعُمّ ولا يخُصّ، وأن من استشرَفَ لها استشرَفَته؛ بل من تطلَّع إليها وتعرَّض لها أشرفَ منها على الهلاك، وأن القاعد فيها خيرٌ من القائم، وأن القائم فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، كما أخبر بذلك نبيُّ الرحمة الرؤوف الرحيم الناصحُ الأمين الصادق الذي لا ينطِق عن الهوى - صلوات الله وسلامه عليه - في الأحاديث الصحيحة في "الصحيحين" وغيرهما.
وإن كل من ذكر نعمَ الله عليه التي إن عدَّها لم يُحصِها من استشعَر مسؤوليتَه العُظمَى عن الدين، وسلامة الوطن، ووحدة الأمة، وأن كل من أُوتِي الحكمة ورُزِق حظًّا وافرًا من ذكاء الحِسّ وكمال الوعي وسداد الرأي، فنظَر في العواقِب، واتَّقى الفتن، ووازَنَ بين المصالح المتوهَّمة الظنية والمفاسد المُحقَّقة القطعية لن يكون أبدًا إلا مُجانِبًا لهذا النُّكْر، رافضًا ذا الفكر، مُعرِضًا عن هذا الطَّرْح، سبَّاقًا إلى الدعوة إلى ائتلاف القلوب واجتماعها، ونبذ أسباب الفُرقة.
والحَذَر من كل سبيلٍ يُفضِي إليها أو يُعين عليها، باذلاً وُسعه في البيان، مُستغرِقًا وقتَه في النُّصح، صارفًا همَّته إلى التحذير، وفي تضافُر جهده وجهد كل الحكماء والعقلاء ما يُسدِّد الله به الخُطى، ويُبارِك به السعي، وتُحفَظ به الحوزة، وتُطفَأ به الفتنة، وتحصُل به العاقبة.
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكروا أن في اعتصامكم بحبل الله واتباع صراطه المستقيم والحذر من اتباع السُّبُل، والشدِّ على روابط القوة، والحفاظِ على أسباب الوحدة خيرَ عُدَّةٍ لبلوغ ما ترجون من رضوان الربِّ الرحيم الرحمن، ودحر عدوكم الشيطان، وردِّ كيدِه، وهزيمة جُنده وأتباعه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 168، 169].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنه نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده - سبحانه - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله خاتمُ النبيين، وإمام المرسلين، وقائدُ الغُرِّ المُحجَّلين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله:
إنه على الرغم من أن النعم التي منَّ الله بها على عباده كثيرةٌ لا يأتي عليها البيان ولا يُحصِيها العادُّ، كما قال - سبحانه -: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [إبراهيم: 34]، غيرَ أنه - سبحانه - حين أراد تذكيرَ قريشٍ بنِعَمه قال في مقام الامتنان: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 4]،
فذكر نعمتَيْن أنعم بهما عليهم، وهما: نعمة الشِّبَع ونعمة الأمن، وفي تخصيص هاتين النعمتين بالذكر سرٌّ عظيم وفَّق الله المُلهَمين من المُفسِّرين والخُبراء إلى كشفه وبيان أسراره، وحاصلُه: أن هاتين النعمتين الجليلتين هما الغايةُ القُصوى للحياة على ظهر الأرض؛ فالشِّبَع هو مِلاكُ الحريات الاقتصادية، والأمنُ هو مِلاكُ الحريات السياسية، وبهما يبسُط العدلُ الاجتماعي والعدلُ السياسي ظِلالَهما اللذان تهفُو إليهما الأُمم كافةً، وتسعدُ بهما الشعوب.
فإذا ظفِر بهما أيُّ بلدٍ من بلاد الله كان لزامًا عليه أداءُ حقٍّ الله عليه بالإيمان به، والمُسارعة إلى طاعته، وابتغاء مرضاته؛ بتحليل حلاله، وتحريم حرامه، ولذا قال - سبحانه -: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ [قريش: 3].
ويُؤكِّد هذا المعنى ويزيدُه وضوحًا: ما جاء في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله: «من أمسَى آمنًا في سِرْبه، مُعافًى في بدنه، عنده قُوتُ يومه وليلته؛ فكأنما حِيزَت له الدنيا»؛ أخرجه الترمذي في "جامعه" بإسنادٍ حسن.
فإذا نسيت الأُمم هذا الخيرَ كلَّه وتمرَّدَت على ربها حُرِمت ما يسَّر لها من ضروريات ومُتَع، كما قال - سبحانه -: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل: 112].
وفي مُقابلة الشِّبَع والأمن في النعم بالجوع والخوف في النِّقَم ما يجعل هذا المعنى شديد الوضوح، بيِّنَ المنزِع، غنيَّ الدلالة.
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكروا نعمة الله عليكم إذ هداكم للإسلام، ومنَّ عليكم بما لا تُحصُون من النعم العِظام، والمِنَن الجِسام، ولا تُبدِّلوا نعمة الله كفرًا، واذكروا أن السعيد هو المُعتبِرُ بعبَر الأيام، والمُتَّعِظُ بعِظات الزمان، فابتَغى الوسيلة إلى رضا الرب الرحيم الرحمن.
واذكروا على الدوام أن الله قد أمركم بالصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المتقين ورحمة الله للعالمين، فقال - سبحانه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحفظ بلاد المسلمين أجمعين من كيد الكائدين وحقد الحاقدين وحسد الحاسدين وتسلُّط الأعداء أجمعين.
اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئت، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئت، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئت يا رب العالمين، اللهم إنا نجعلك في نُحور أعدائك وأعدائنا، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلك في نُحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلك في نُحورهم ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم احفظ هذه البلاد سالمةً من كل سوء، حائزةً كل خير، وجميع بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم احفظ المسلمين في ليبيا، اللهم احفظ المسلمين في ليبيا وفي جميع بلاد المسلمين يا رب العالمين، وجنِّبنا وإياهم القلاقِل والفتن ما ظهر منها وما بطَن، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق وليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، ووفِّقه لما تحب وترضى يا سميع الدعاء.
اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانه إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح البلاد والعباد، يا من إليه المرجع يوم التناد.
اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شر.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وتركَ المنكرات، وحُبَّ المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردتَ بقومٍ فتنةً فاقبِضنا إليك غيرَ مفتونين.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].
وصلَّى اللهم وسلَّم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.