الوصف المفصل
ستون فائدة في العقيدة
عوض بن علي عبد الله
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فهذه «فوائد في العقيدة» جمعتها من كتب العقيدة مع ذكر المرجع لكل فائدة حتى تعين من أراد الرجوع إلى المرجع للاستفادة، وهذه الفوائد ضمن «سلسلة الفوائد الشرعية» وهذه أولها، لعل الله تعالى يعين علي إخراج باقي الفوائد في كل من الحديث، والتفسير، والفقه، وغيرها، وقد اجتهدت في جمع هذه الفوائد فما كان فيها من صواب فمن الله وما كان فيها من خطأ فمن نفسي والشيطان.
وفي الختام أسأل الله تعالى القبول.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه
عوض بن علي بن عبد الله
فوائد في العقيدة
الفائدة الأولى
بعض البراهين والشواهد على وجود الله عز وجل:
1- أقام الله تعالى الحجة وأفحم الخصم في آية واحدة فقال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35].
وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} [الطور: 35-37] كاد قلبي أن يطير.
2- الأطوار العجيبة المختلفة التي مر بها الإنسان من تراب إلى نطفة فعلقة فمضغة ثم إنسان سوي ذي روح وعقل، ينشيء المدائن، ويركب متون البحار، ويجمع الأموال، ويحارب ويقاتل، وينشر مبادئ وأفكارًا، وينظم شعرًا ويصيغ أدبًا ... إلخ فسبحان من أقدره على ذلك!! وهذا فضلاً عن العجائب في خلقه الكائنات الأخرى كالحشرات والحيوانات.
3- خلق زوجين من كل شيء في الكون.
4- بسط الأرض للخلائق، وخلق السموات والأجرام العلوية وإمساك كل عن الزوال أو الارتطام بغيره.
5- الليل والنهار وثبات طولهما مجموعين معًا، بحيث لم يحدث مرة واحدة أن كان هناك يوم من الأيام (نهاره مع ليله) أقل أو أكثر طولاً من الآخر ولو بجزء من الثانية، فسبحان من نظم تلك الدورة الفلكية بهذه الدقة.
6- إبداع الماء خاصية حمل الأخشاب والأجسام ذات الكثافة الخفيفة فبذلك سهلت حياة البشر باستخدام الفلك التي تجري في البحر.
7- إقدار الإنسان على كثير من الأمور، وتسخير الكائنات له، حتى أن البعير الضخم ليقوده الطفل الصغير.
8- تسخير الرياح تارة للرحمة وتارة للعذاب.
9- اختلاف ألسنة الناس وألوانهم وهيئاتهم حتى ولو وقع التشابه الشديد، فمع أن لكل إنسان عينين وحاجبين وأنفًا واحدًا وخدين وغير ذلك فلا بد من شيء يميز كل إنسان عن الآخر؛ فكل إنسان خلقة فريدة بذاته لا يمكن أن تتكرر تمامًا، فسبحان من جعل لكل إنسان شخصيته المميزة، بسمت أو هيئة أو كلام أو لهجة أو...
10- خاصية النوم التي خلقها الله تعالى، فهي ضرورية لتجديد طاقة الإنسان ونشاطه وفيها راحة نفسه وأعصابه.
11- إحياء الأرض بالماء فإذا هذه الأرض الهامة الجامدة تخرج نباتًا مختلفًا ألوانه وطعومه مع أن الكل يسقى بماء واحد، ثم من الذي أودع في الأرض هذه الخاصية وهي الإنبات، ثم من جعل هذا التوافق بين وجود هذه الخاصية في الأرض وخلق البشر المحتاجين إلى ذلك النبات عليها، هذا فضلاً عن الخصائص الأخرى في الأرض والجو التي لا يعيش البشر بدونها.
12- وبعد ذلك وقبله فإن الفطرة نفسها شاهدة بوجود الله تعالى والنفس لا تستطيع الفرار من تلك الحقيقة، وهي الشعور بوجود الخالق القدير([1]).
***
الفائدة الثانية
الاستدلال على وجوده تعالى
1- قول الرسل لأقوامهم {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10].
2- قول إبراهيم للنمرود {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] وقوله – على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258].
3- إجابة موسى عليه السلام على أسئلة فرعون: قال تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 23-28].
4- دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ومخاطبته للناس بهذا القرآن الذي يتجلى فيه هذا المنهج من بدايته إلى ختامه وهو مملوء بالتوجيه إلى النظر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء.
5- استدلال الإمام أبي حنيفة يسير الموجدات وفق تدبير ونظام محكم وأن ذلك لا يمكن حدوثه بدون رب قادر مدبر وضرب لذلك مثلاً بالسفينة التي تسير دون قائد وتنقل البضائع، هل يعقل ذلك؟
6- إجابة الإمام مالك لما سأله الرشيد عن ذلك مستدلاً باختلاف الأصوات والنغمات واللغات.
7- استدلال الإمام الشافعي بورق التوت يأكله الدود فيخرج منه الإبريسم أي الحرير وتأكله النحل فيخرج منه العسل، وتأكله الشاء والبقر والأنعام فتلقيه بعرًا وروثًا.
8- استدلال الإمام أحمد بخروج الديك من البيضة، وذلك بمقام خروج حيوان ذي سمع وبصر وصوت وشكل حسن من حصن أملس ليس له منفذ، هل يحدث ذلك بلا خالق؟
9- استدلال الأعرابي بالسماء ذات الأبراج والأرض ذات الفجاج والبحار ذات الأمواج وأن دلالة ذلك على الله عز وجل من باب دلالة الأثر على المؤثِّر، ومثل ذلك بدلالة الأثر على المسير والبعير على البعير.
10- خطبة قس بن ساعدة الإيادي وفيها لفت الأنظار لمختلف العجائب في الكون والحياة ليكون ذلك دافعًا للرجوع إلى الله صاحب هذه التقديرات والعجاب.
ومن أمثلة الشعر الموافق لهذا المنهج – بغض النظر عن قائله:
تأمل في نبات الأرض وانظر | إلى آثار ما صنع المليك | |
عيون من لجين شاخصات | بأحداق هي الذهب السبيك | |
على قضب الزبر جد شاهدات | بأن الله ليس له شريك | |
فيا عجبًا كيف يعصي الإله | أم كيف يجحده الجاحد | |
ولله في كل تحريكة | وفي كل تسكينة شاهد | |
وفي كل شيء له آبة | تدل على أنه واحد ([2]) |
***
الفائدة الثالثة
معنى الإيمان بالأسماء والصفات
هو الإيمان بما وصف الله تعالى به نفسه ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الأسماء الحسنى والصفات العلى وإمرارها كما جاءت.
تنبيهان:
أ- أسماء الله تعالى توفيقية؛ أي أن ليس كل فعل يتعلق بالله يشق له منه اسم إلا ما أثبته الله تعالى لنفسه أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
مثال: قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [البقرة: 20] فإنه لا يجوز اشتقاق اسم الذاهب على أنه اسم له تعالى ما دام أن الله لم يذكر ذلك اسمًا في كتابه، ولم يذكره رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ب- ورد في القرآن أفعال أطلقها الله على نفسه على سبيل الجزاء والعدل والمقابلة، وهي فيما سبقت له مدح وكمال، ولكن لا تطلق عليه عز وجل مجردة بدون ذكر ما تتعلق به.
مثال: قوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال: 30]، وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15]، فلا يقال أنه سبحانه يمكر ويستهزئ ويخادع، ومن باب أولى لا يقال أن من أسمائه الماكر والمخادع و ... تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، لكن يصح أن يقال أنه تعالى يمكر بالكافرين ويستهزئ بالمنافقين ... وهكذا في كل ما ذكره الله تعالى عن نفسه من اسم أو فعل متعلقًا أو مقيدًا بشيء، أو مقترنًا بمقابله بحيث يوهم ذكره بدونه نقصًا لم يجز إطلاقه عليه تعالى مجردًا دون ذكر متعلقه، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 22] وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران: 4] و [المائدة: 94].
ولم يرد إطلاق المنتقم، ومن ذلك المعطي المانع، والضار النافع، فلا يطلق على الله المانع الضار على الانفراد؛ بل لا بد من ازدواجها بمقابلاتها، فإنها لم تطلق على الله في الوحي منفردة ([3]).
***
الفائدة الرابعة
الإلحاد في الأٍسماء والصفات
أ- معناه:
لغة: العدول عن القصد والميل والجور والانحراف، ومنه اللحد في القبر لانحرافه إلى جهة القبلة عن سمة الحفر. واصطلاحًا: العدول والميل بأسمائه تعالى وصفاته عن معانيها.
ب- وأقسامه:
1- إلحاد المشركين المتضمن تنزيل المخلوق منزلة الخالق كتسميتهم أصنامهم آلة واشتقاقهم أسماء لها من أسماء الله عز وجل كالعزى من العزيز، ومناة من المنان.
2- إلحاد المشبهة المتضمن تشبيه الخالق بالمخلوق، وذلك بتكييف صفاته تعالى وتشبيهها بصفات خلقه.
3- إلحاد النفاة، وهم قسمان: قسم أثبتوا ألفاظ أسمائه دون ما تتضمنه من صفات الكمال، فقالوا رحمن رحيم بلا رحمة، عليم بلا علم، سميع بلا سمع وقسم صرحوا بنفي الأسماء والمعاني ([4]).
***
الفائدة الخامسة
فضل شهادة أن لا إله إلا الله
كلمة لا إله إلا الله هي سبيل السعادة في الدارين؛ فبالتزامها النجاة من النار وبعدم التزامها البقاء في النار، وبها تثقل الموازين وبدونها تخف الموازين وبها أخذ الله الميثاق {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] ولأجلها خلقت الدنيا والآخرة والجنة والنار، لذا فقد اجتمعت لهذه الكلمة العظيمة كثير من الفضائل:
1- فهي أعظم نعمة أنعم الله عز وجل على عباده أن هداهم إليها، ولهذا ذكرها في سورة النحل التي هي سورة النعم فقدمها أولاً قبل كل نعمة، فقال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل: 2].
2- وهي العروة الوثقى، قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256] قاله سعيد بن جبير والضحاك.
3- وهي العهد الذي ذكره الله عز وجل إذ يقول: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87] قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو شهادة أن لا إله إلا الله، والبراءة من الحول والقوة إلا بالله وأن لا يرجو إلا الله عز وجل.
4- وهي الحسنى التي ذكرها تعالى في قوله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 5-7] قاله أبو عبد الرحمن السلمي والضحاك، ورواه عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما.
5- وهي كلمة الحق التي ذكرها الله عز وجل إذ يقول: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] قاله البغوي.
6- وهي كلمة التقوى التي ذكرها تعالى في قوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26] رواه ابن جرير وعبد الله بن أحمد والترمذي.
7- وهي القول الثابت الذي ذكره تعالى في قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ} [إبراهيم: 27] وقد ثبت ذلك في الصحيحين عن البراء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
8- وهي الكلمة الطيبة المضروبة مثلاً في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24]. وهو مروي عن علي بن طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما، فأصلها ثابت في قلب المؤمن وفرعها العمل الصالح في السماء صاعد إلى الله عز وجل، وكذا قال الضحاك وابن جبير وعكرمة ومجاهد وغيرهم.
9- وهي سبب النجاة من النار، كما في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع مؤذنًا يقول أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: «خرجت من النار» وفيه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله حرم الله عليه النار» وفي حديث الشفاعة: «أخرجوا من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه مثقال ذرة من إيمان».
10- وهي سبب دخول الجنة؛ ففي الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة».
11- وهي أفضل ما ذكر الله به عز وجل كما يقول عليه الصلاة والسلام: «أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله»([5]).
12- وهي أثقل شيء في الميزان كما في المسند عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نوحًا عليه السلام قال لابنه عند موته: آمرك بلا إله إلا الله فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعن في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة لرجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة ([6]) لفصمتهن لا إله إلا الله ([7]). وفي الترمذي والنسائي والمسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مثل مد البصر ثم يقول: أتنكر من هذا شيئًا، أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول لا يا رب. فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب. فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: فإنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطالة ولا يثقل مع اسم الله تعالى شيء»([8]).
13- ويكفي في فضلها إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها أعلى جميع شعب الإيمان كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة؛ فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق». وهذا لفظ مسلم. فمن قال هذه الكلمة عالمًا ومتيقنًا معناها وعاملاً بمقتضاها على وفق ما علمه منها وتيقنه في القول والعمل – قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح – ومات على ذلك دخل الجنة ([9]).
الفائدة السادسة
شروط النذر لله تعالى
1- أن يكون طاعة، للحديث عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه». رواه الجماعة إلا مسلمًا.
2- أن يكون مما يطيقه العبد؛ لما في الصحيحين عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفتيه فقال: «لتمش ولتركب». وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب إذ هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم فلا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مره فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه»([10])؛ فأمره - صلى الله عليه وسلم - بترك ما لم يكن مطيقه ولم يكن مشروعًا وأمره بإتمام الصوم لكونه يطيقه ولكونه مشروعًا.
3- أن يكون فيما يملك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: « لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما يملك ابن آدم»([11]).
4- أن لا يكون في موضع كان يعبد فيه غير الله تعالى لئلا يكون ذريعة لعبادة غير الله تعالى لحديث ثابت بن الضحاك أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال: «أكان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟» فقالوا: لا قال: «فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟» قال: لا قال: «أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك بن آدم»([12]).
5- عدم اعتقاد الناذر تأثير النذر في حصوله – لمن كان معلقًا نذره بحصول شيء معين – لما في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن النذر لا يقدم شيئًا ولا يؤخره، وإنما يُستخرج بالنذر من البخيل»([13]).
***
الفائدة السابعة
أمثلة لبعض أمور شركية يفعلها العامة، وفيها حكم الرقى والتمائم
هذه الأمور غالبها من الشرك الأصغر لكن إذا اعتمد العبد عليها بحيث يثق بها ويضيف إليها النفع والضر كان ذلك شركًا أكبر والعياذ بالله، لأنه حينئذ يصير متوكلاً على غير الله عز وجل ملتجئًا إلى غيره. وفيما يلي ذكر أمثلة لهذه الأمور:
أ- التعاليق: قال - صلى الله عليه وسلم -: «من علق تميمة فقد أشرك»([14]). وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره أرسل رسولاً أن لا يبقين في رقبة بَعِير قلادةً من وتر أو قلادة إلا قطعت.
ومن التعاليق:
1- الودعة: وهي شيء أبيض يجلب من البحر يعلق في حلوق الصبيان وغيرهم لرد العين.
2- الناب: وهو ناب الضبع يؤخذ ويعلق من العين.
3- الحلقة: يلبسونها من العين والواهنة (مرض العضد).
4- أعين الذئاب: يعلقونها إذا مات الذئب على الصبيان ونحوهم زعمًا أن الجن تفر منها.
5- الخيط: كثيرًا ما يعلقونه على المحموم ويعقدون فيه عقدًا بحسب اصطلاحاتهم ويربطونه بيد المحموم أو عنقه طلبًا للشفاء.
6- العضو من النسور: كالعظم ونحوه يجعلونه خرزًا ويعلقونها على الصبيان يزعمون أنها تدفع العين.
7- الوتر: كانوا في الجاهلية إذا عتق وتر القوس أخذوه وعلقوه على الصبيان والدواب لدفع العين.
8- التمائم: وهي شيء يعلقونه على الأولاد لدفع العين وحكمها حكم التعاليق سواء كانت كتابة أو غير كتابة إلا إذا كانت كتابة من خالص الوحيين فبعض السلف أجازها والبعض كرهها ومنعها والأحوط البعد عن ذلك.
ب- الرقى:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك»([15])، والتولة شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته وحملت الرقى المذكورة في الحديث على الرقى الممنوعة. وفي السنة ما يدل على جواز بعض الرقى بشروط ثلاثة:
1- أن تكون من الكتاب والسنة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم لما قال له آل عمرو بن حزم: يا رسول الله إنها كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب وإنك نهيت عن الرقى فقال: «لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك». وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا زار مريضًا رقاه، وفي ذلك أذكار كثيرة في صحيح البخاري وغيره؛ مثل: «اللهم رب الناس مذهب البأس اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت، شفاء لا يغادر سقمًا». وفي صحيح مسلم: رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرقية من العين والحمة والنملة. والحمة تطلق على لدغ ذوات السموم؛ كالحية والعقرب ونحوها. والنملة قروح تخرج في الجنب.
2- أن تكون باللغة العربية محفوظة ألفاظها، مفهومة معانيها، فلا يجوز تغييرها إلى لسان آخر فإن في ذلك فرصة الشياطين في إيقاع الناس في الشرك والكفر وهم يقولون ما لا يدرون معناه.
3- أن يعتقد أنها سبب من الأسباب لا تأثير لها إلا بإذن الله، فلا يعتقد فيها نفعًا بذاتها ([16]).
***
الفائدة الثامنة
زيارة المقابر وأقسامها
وتنقسم الزيارة إلى ثلاثة أقسام:
1- زيارة شرعية: وهي زيارة القبور لتذكر الدار الآخرة والدعاء لأموات المسلمين ولنفسه كما علمنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن نقول: دون شد للرحال أو فعل أو قول من أفعال وأقوال الشرك وألا تقع من النساء وأدلة هذه الزيارة ما يلي: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها ترق القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة ولا تقولوا هجرًا»([17]). أي: محظورًا شرعًا.
- كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين» رواه مسلم.
وقال عليه الصلاة والسلام: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» والحديث في الصحيحين.
- وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه لعن زوارات القبور. حديث حسن.
2- زيارة بدعية: وهي ما صاحبها الاعتكاف عند القبر أو شد الرحال أو الصلاة أو التوسل بأهلها. قال - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»([18])، وقال: «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة»([19]). وأما حديث الأعمى الذي فيه أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ادع الله أن يعافيني. قال: «إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك». قال: فادعه. قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي، اللهم فشفعه في». وفي رواية: «وشفعني به». فهذا الحديث ضعفه كثير من العلماء، وإن جزمنا بصحته فليس فيه أنه توسل بغائب أو ميت؛ وإنما توسل بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حاضر؛ حيث طلب منه الدعاء وأجابه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك، وتوسل هو بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودعا هو بنفسه، فاجتمع الدعاء من الجهتين، وهذا مشروع كان يفعله الصحابة مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفعلوه من بعده حين توسلوا بدعاء العباس رضي الله عنه في الاستسقاء، ولو كان معلومًا لديهم جواز التوسل بالأشخاص أنفسهم لما عدلوا عن التوسل به - صلى الله عليه وسلم - إلى العباس رضي الله عنه؛ وإنما توسلهم كان بالدعاء كما في قولهم: «اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا» كما هو مذكور في صحيح البخاري.
3- زيارة شركية: وهي دعاء المقبور نفسه - والعياذ بالله - وسؤاله ما لا يقدر عليه: قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117]، وقال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 106، 107]([20]).
***
الفائدة التاسعة
الرافضة وأقسامهم
والرافضي نسبة إلى الرفض وهو الترك بازدراء واستهانة، سموا بذلك لرفضهم الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وزعموا أنهما ظلما عليًا واغتصباه الخلافة ومنعا فاطمة رضي الله عنها فَدَك([21]).
وهم أقسام كثيرة لا أكثرهم الله تعالى:
1- السبئية: أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي قبحه الله، وهم أعظمهم غلوًا وأسوأهم قولاً وأخبثهم اعتقادًا بل وأخبث من اليهود والنصارى، فقد كانوا يعتقدون في علي رضي الله عنه الإلهية؛ كما يعتقد النصارى في عيسى عليه السلام، وهم الذين أحرقهم علي رضي الله عنه بالنار، وأنكر ذلك عليه ابن عباس رضي الله عنهما كما في صحيح البخاري والمسند وأبي داود والترمذي والنسائي عن عكرمة رضي الله عنه قال: أتى علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تعذبوا بعذاب الله». ولقتلتهم؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من بدل دينه فاقتلوه».
وكان كبيرهم عبد الله بن سبأ يهوديًا ثم أظهر الإسلام وابتدع هذه المقالة وتفصيل ذلك ما ذكره في الفتح من طريق عبد الله بن شريك العامري عن أبيه قال: قيل لعلي رضي الله عنه: إن هنا قومًا على باب المسجد يزعمون أنك ربهم، فدعاهم فقال لهم: ويلكم ما تقولون؟ قالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا. قال: ويلكم إنما أنا عبد مثلكم آكل الطعام كما تأكلون وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني إن شاء وإن عصيته خشيت أن يعذبني، فاتقوا الله وارجعوا. فأبوا، فلما كان الغد غدوا عليه، فجاء قنبر ([22]) فقال: قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام، فقال: أدخلهم. فقالوا كذلك، فلما كان الثالث قال: لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة فأبوا إلا ذلك، فأمر علي رضي الله عنه أن يُخدَّ لهم أخدود بين المسجد والقصر وأمر بالحطب أن يطرح في الأخدود ويضرم بالنار ثم قال لهم: إني طارحكم فيها أو ترجعوا. فأبوا أن يرجعوا، فقذف بهم حتى إذا احترقوا قال:
إني إذًا رأيت أمرًا منكرًا | أو قدت ناري ودعوت قَنْبَرًا |
قال الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح.
2- ومنهم طائفة يعتقدون أن لا إله إلا عليّ وهم النصيرية الذين يقول شاعرهم قبحه الله:
أشهد ألا إله إلا | ||
ولا سبيل إليه إلا | محمد الصادق الأمين | |
ولا حجاب عليه إلا | سلمان ذو القوة المتين |
3- ومنهم من يدعي فيه الرسالة وأن جبريل خانها فنزل بها على محمد - صلى الله عليه وسلم -.
4- ومنهم من يدعي فيه العصمة ويرى خلافة أبي بكر وعثمان باطلة، ويشتمون طلحة والزبير وعائشة ويرمونها بما رماها به ابن سلول قبحهم الله.
5- ومنهم من يدعي أنه رفع إلى السماء كما رفع عيسى وسينزل كما نزل عيسى عليه السلام، وهم أصحاب الرجعة.
6- ومنهم من يدعي أنه وصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمته وأنه عهد إليه ما لم يعهده إلى غيره وبلغه ما كتمه الناس، وغير ذلك من فرقهم الضالة وشيعهم الخاطئة.
7- وأما الزيدية الذين يدعون أنهم أصحاب زيد بن علي وأتباعه، فهؤلاء لا يشتمون الشيخين – أبا بكر وعمر – ولا عائشة ولا سائر العشرة، ولكنهم يفضلون عليًا رضي الله عنه ويقدمونه في الخلافة ثم أبا بكر ثم عمر ثم يسكتون عن عثمان رضي الله عنه ويحطون ([26]) على معاوية غفر الله له.
هذا الذي تحصَّل من بعض رسائلهم، وفي بعضها السكوت عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلا يذكرونهما بخير ولا شر، ولا بخلافة ولا غيرها، ثم يحصرون الخلافة في علي رضي الله عنه وذريته؛ ففرقة تدعي عصمتهم، وأخرى لا تدعي ذلك، والمقصود أنهم فرق كثيرة متفاوتون في أقوالهم وأفعالهم واعتقاداتهم، وأخفهم بدعة الزيدية.
- هذا في شأن أهل البيت طهرهم الله تعالى، وأما في مسألة الصفات والقرآن والقدر والوعد والوعيد وسائر المعتقدات، فقد دهى كل فرقة منهم ما دهى غيرهم من الناس، ولكن المشهور من غالبهم اعتمادهم كتب العلاف والجُبَّائي ([27]) وأشباهه والزيدية عمدتهم في تفسير القرآن كشاف الزمخشري وقد شحنه بقول القدرية والمعتزلة.
وأما كون عليٍّ رضي الله عنه له منزلة من الرسول - صلى الله عليه وسلم - كمنزلة هارون من موسى عليهما السلام فهذا في الاستخلاف؛ فموسى عليه السلام استخلف هارون عليه السلام في مدة الميعاد، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - استخلف عليًّا رضي الله عنه في غزوة تبوك؛ ففي الصحيحين من رواية مصعب بن سعد عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى تبوك واستخلف عليًا رضي الله عنه، فقال: أتخلفني في الصبيان والنساء؟ قال: «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي». وهذا الاستثناء يزيل الإشكال من الرواية التي فيها: «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟» - بدون استثناء، وهي أيضًا في الصحيحين عن إبراهيم بن سعد عن أبيه – ويخصص عموم المنزلة بخصوص الأخوة والاستخلاف في أهله فقط لا في النبوة كمشاركة هارون لموسى ([28]).
***
الفائدة العاشرة
البدعة وأنواعها
معنى البدعة: هو شرع ما لم يأذن به الله ولم يكن عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه.
- قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].
- وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31].
وفي الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». وفي رواية لمسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد».
وفي السنن عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أنه قال: ألا إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فينا فقال: «ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين: اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي الجماعة»([29]) وفي رواية: «ما أنا عليه وأصحابي». حديث حسن.
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لتتبعن سنَنَ من كان قبلكم شبرًا شبرًا وذراعًا ذراعًا حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم». قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: «فمن!». ثم اعلم أن البدع كلها مردودة ليس منها شيء مقبول وكلها قبيحة ليس فيها حسن، وكلها ضلال، ليس فيها هدى، وكلها أوزار ليس فيها أجر، وكلها باطل ليس فيها حق. وهذا ظاهر في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». وفي صفة الفرقة الناجية بأنهم من كانوا على مثل ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ومن ذلك أيضًا يتبين معنى البدعة الذي سبق ذكره، وقد أعلمنا الله عز وجل أن العمل المقبول الذي ينفع صاحبه يوم القيامة لا بد وأن يجتمع فيه أمران: الأول: الإخلاص له تبارك وتعالى وابتغاء وجهه وحده، والثاني: المتابعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وموافقة سنته؛ فقال عز من قائل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
أولاً: أقسام البدع بحسب إخلالها بالدين:
أ- البدع المكفرة:
وضابطها من أنكر أمرًا مجمعًا عليه متواترًا من الشرع معلومًا من الدين بالضرورة من جحود مفروض أو فرض ما لم يفرض أو إحلال محرم أو تحريم حلال، أو اعتقاد ما ينزه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وكتابة عنه من نفي أو إثبات - لأن ذلك تكذيب بالكتاب وبما أرسل الله به رسله صلوات الله وسلامه عليهم؛ كبدعة الجهمية في إنكار صفات الله والقول بخلق القرآن أو خلق أي صفة من صفات الله، وإنكار أن يكون الله اتخذ إبراهيم خليلاً وكلم موسى تكليمًا وغير ذلك، وكبدعة المجسمة الذين يشبهون الله تعالى بخلقه وغير ذلك من الأهواء؛ ولكن هؤلاء منهم من علم أن عين قصده هدم قواعد الدين وتشكيك أهله فيه - فهذا مقطوع بكفره؛ بل هو أجنبي عن الدين من أعدى عدو له.
وآخرون مغرورون ملبس عليهم فهؤلاء إنما يحكم بكفرهم بعد إقامة الحجة عليهم وإلزامهم بها.
ب- البدع التي ليست بمكفرة:
وهي ما لم يلزم منه تكذيب بالكتاب ولا بشيء مما أرسل الله به رسله كبدع المروانية التي أنكرها عليهم فضلاء الصحابة ولم يقروهم عليها ولم يكفروهم بشيء منها ولم ينزعوا يدًا من بيعتهم لأجلها؛ كتأخيرهم بعض الصلوات إلى آخر أوقاتها وتقديمهم الخطبة قبل صلاة العيد، وجلوسهم في نفس الخطبة في الجمعة وغيرها، وسبهم كبار الصحابة على المنابر ونحو ذلك مما لم يكن منهم على اعتقاد شرعيته بل بنوع تأويل وشهوات نفسانية وأغراض دنيوية.
2- أقسام البدع بحسب ما تقع فيه:
أ- البدع في العبادات: وهي قسمان:
1- التعبد بما لم يأذن الله تعالى أن يعبد به البتة؛ كتعبد جهلة الصوفية بآلات اللهو والرقص والصفق والغناء وأنواع المعازف وغيرها مما هم فيه مضاهون فعل الذين قال الله فيهم {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً ([30]) وَتَصْدِيَةً ([31])} [الأنفال: 35].
2- التعبد بما أصله مشروع ولكن وضع في غير موضعه؛ ككشف الرأس مثلاً؛ فهو في الإحرام عبادة مشروعة، فإذا فعله غير المحرم في الصوم أو الصلاة أو غيرها بنية التعبد كان بدعة محرمة.
وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب إذ هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «مره فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه». فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بإتمام الصوم الذي هو عبادة مشروعة وضعت في محلها، وإلغاء قيامه وسكوته؛ لكونه وإن كان عبادة في بعض الأحوال لكن ليس هذا محله، وأمره بالاستظلال لأن تركه ليس بعبادة مشروعة.
أما عن حكم العبادة التي وقعت فيها البدعة فقسمان أيضًا:
- فقد تكون البدعة الواقعة في العبادة مبطلة لها؛ كمن صلى الرباعية خمسًا، وقد تكون مخالفة مذمومة ولا تبطل العمل الذي تقع فيه كالوضوء أربعًا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الوضوء المشروع: «فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم»([32])، ولم يقل: فقد بطل وضوؤه. وكذا قراءة القرآن راكعًا وساجدًا منهيٌّ عنه شرعًا ولا يبطل الصلاة.
ب- البدع في المعاملات:
كاشتراط ما ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما في خطبته - صلى الله عليه وسلم -: «...أما بعد، فما بال رجال منكم يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؛ فأيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، فقضاء الله حق، وشرط الله أوثق؛ ما بال رجال منكم يقول أحدهم: أعتق يا فلان ولي الولاء. إنما الولاء لمن أعتق». والحديث في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها ([33]).
***
الفائدة الحادية عشرة
فضل لفظ الجلالة (الله)
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: لهذا الاسم الشريف عشر خصائص لفظية، وساقها ثم قال: وأما خصائصه المعنوية فقد قال أعلم الخلق - صلى الله عليه وسلم -: «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك». وكيف نحصي خصائص اسم لمسماه كل كمال على الإطلاق، وكل مدح وحمد وكل ثناء وكل مجد وكل جلال وكل كمال وكل عز وكل جمال، وكل خير وإحسان، وجود وفضل وبر، فله ومنه؛ فما ذكر هذا الاسم في قليل إلا كثره، ولا عند خوف إلا أزاله ولا عند كرب إلا كشفه، ولا عند هم وغم إلا فرجه، ولا عند ضيق إلا وسعه، ولا تعلق به ضعيف إلا أفاده القوة، ولا ذليل إلا أناله العز، ولا فقير إلا صيره غنيًا، ولا مستوحش إلا آنسه، ولا مغلوب إلا أيده ونصره، ولا مضطر إلا كشف ضره، ولا شريد إلا آواه؛ فهو الاسم الذي تكشف به الكربات، وتستنزل به البركات، وتجاب به الدعوات، وتقال به العثرات، وتستدفع به السيئات، وتجاب به الدعوات، وتقال به العثرات، وتستدفع به السيئات، وتستجلب به الحسنات، وهو الاسم الذي قامت به الأرض والسماوات، وبه أنزلت الكتب، وبه أرسلت الرسل، وبه شرعت الشرائع، وبه قامت الحدود، وبه شرع الجهاد، وبه انقسمت الخليقة إلى السعداء والأشقياء، وبه حقت الحاقة، ووقعت الواقعة، وبه وضعت الموازين القسط ونصب الصراط، وقام سوق الجنة والنار، وبه عبد رب العالمين وحمد، وبحقه بعثت الرسل وعنه السؤال في القبر ويوم البعث والنشور، وبه الخصام وإليه المحاكمة، وفيه الموالاة والمعاداة، وبه سعد الخلق والأمر، وبه قاما وثبتا، وإليه انتهيا؛ فالخلق به وإليه ولأجله؛ فما وجد خلق ولا أمر ولا ثواب ولا عقاب إلا مبتدئًا منه ومنتهيًا إليه، وذلك موجبه ومقتضاه: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى ([34]).
***
الفائدة الثانية عشرة
قول ابن القيم في الكي
قال ابن القيم - رحمه الله: قد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع: «أحدها» فعله «والثاني» عدم محبته «والثالث» الثناء على من تركه «والرابع» النهي عنه. ولا تعارض بينها بحمد الله؛ فإن فعله يدل على جوازه، وعدم محبته له لا يدل على المنع منه، وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل، وأما النهي عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهة.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعًا: «الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهي أمتي عن الكي». وفي لفظ: «وما أحب أن أكتوي»([35]).
***
الفائدة الثالثة عشرة
قول ابن القيم في حكم التداوي
وأما مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهة فيه، فغير قادح في التوكل، فلا يكون تركه مشروعًا، لما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا: «ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله». وعن أسامة بن شريك قال: «كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاءت الأعراب، فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ قال: «نعم يا عباد الله تداووا؛ فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء، غير داء واحد». قالوا: وما هو؟ قال: «الهرم». [رواه أحمد].
وقد اختلف العلماء في التداوي: هل هو مباح وتركه أفضل، أو مستحب أو واجب؟
فالمشهور عن أحمد: الأول لهذا الحديث وما في معناه، والمشهور عند الشافعية الثاني، حتى ذكر النووي في شرح مسلم أنه مذهبهم ومذهب جمهور السلف وعامة الخلف، واختاره الوزير أبو المظفر، قال: ومذهب أبي حنيفة أنه مؤكد حتى يدانى به الوجوب. قال: ومذهب مالك أنه يستوي فعله وتركه؛ فإنه قال: لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه.
وقال شيخ الإسلام: ليس بواجب عند جماهير الأئمة؛ وإنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد ([36]).
***
الفائدة الرابعة عشرة
الشهادتين
قال شيخ الإسلام: وقد عُلم بالاضطرار من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلمًا، والعدو وليًا، والمباح دمه ومال معصوم الدم والمال. ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل الإيمان وإن قاله بلسانه دون قلبه؛ فهو في ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان. قال: وأما إذا لم يتكلم بها مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين باطنًا وظاهرًا، عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير العلماء. اهـ.
ولا بد في شهادة أن لا إله إلا الله من سبعة شروط، لا تنفع قائلها إلا باجتماعها، أحدها: العلم المنافي للجهل. الثاني: اليقين المنافي للشك. الثالث: القبول المنافي للترك. الرابع: الإخلاص المنافي للشرك. الخامس: الصدق المنافي للكذب.
السادس: المحبة المنافية لضدها ([37]).
***
الفائدة الخامسة عشرة
الحكمة في عدم هداية أبي طالب
ومن حكمة الرب تعالى في عدم هداية أبي طالب إلى الإسلام ليبين لعباده أن ذلك إليه وهو القادر عليه دون من سواه، فلو كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - - الذي هو أفضل خلقه – من هداية القلوب وتفريج الكروب، ومغفرة الذنوب والنجاة من العذاب، ونحو ذلك شيء، لكان أحق الناس بذلك وأولاهم به عمه الذي كان يحوطه ويحميه وينصره ويؤويه، فسبحان من بهرت حكمته العقول، وأرشد العباد إلى ما يدلهم على معرفته وتوحيده وإخلاص العمل له وتجريده ([38]).
***
الفائدة السادسة عشرة
النهي عن اتخاذ المساجد على القبور
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ المساجد على القبور لأنها هي التي أوقعت كثيرًا من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك؛ فإن النفوس قد أشركت بتماثيل الصالحين وتماثيل يزعمون أنها طلاسم الكواكب ونحو ذلك؛ فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر، ولهذا تجد أهل الشرك يتضرعون عندها ويخشعون ويخضعون، ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد؛ فلأجل هذه المفسدة حسم النبي - صلى الله عليه وسلم - مادتها؛ حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقًا، وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته كما يقصد بصلاته بركة المساجد، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها؛ لأنها أوقات يقصد فيها المشركون الصلاة للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد ما قصده المشركون، سدًا للذريعة، وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركًا بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ولرسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله؛ فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -: أن الصلاة عند القبور منهي عنها، وأنه - صلى الله عليه وسلم - لعن من اتخذها مساجد، فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك: الصلاة عندها واتخاذها مساجد وبناء المساجد عليها، وقد تواترت النصوص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن ذلك والتغليظ عليه، وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها؛ متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة، وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك، وطائفة أطلقت الكراهة. والذي ينبغي أن تحمل على كراهة التحريم؛ إحسانًا للظن بالعلماء، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن فاعله والنهي عنه. اهـ ([39]).
الفائدة السابعة عشرة
الشؤم
وقد جاءت أحاديث ظن بعض الناس أنها تدل على جواز الطيرة؛ كقوله: «الشؤم في ثلاث: في المرأة، والدابة، والدار». ونحو هذا.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: إخباره - صلى الله عليه وسلم - بالشؤم في هذه الثلاثة ليس فيه إثبات الطيرة التي نفاها الله سبحانه؛ وإنما غايته أن الله سبحانه قد يخلق منها أعيانًا مشؤومة على من قاربها وساكنها، وأعيانًا مباركة لا يلحق من قاربها منها شؤم ولا شر، وهذا كما يعطي سبحانه الوالدين ولدًا مباركًا يريان الخير على وجهه ويعطي غيرهما ولدًا مشؤومًا يريان الشر على وجهه؛ وكذلك ما يعطاه العبد من ولاية وغيرها، فكذلك الدار والمرأة والفرس.
والله سبحانه خالق الخير والشر والسعود والنحوس؛ فيخلق بعض هذه الأعيان سعودًا مباركة، ويقضي بسعادة من قاربها وحصول اليمن والبركة له، ويخلق بعضها نحوسًا يتنحس بها من قاربها، وكل ذلك بقضائه وقدره كما خلق سائر الأسباب وربطها بمسبباتها المتضادة والمختلفة، كما خلق المسك وغيره من الأرواح الطيبة ولذذ بها من قاربها من الناس، وخلق ضدها وجعلها سببًا لألم من قاربها من الناس، والفرق بين هذين النوعين مدرك بالحس؛ فكذلك في الديار والنساء والخيل؛ فهذا لون والطيرة الشركية لون. انتهى ([40]).
الفائدة الثامنة عشرة
الأسباب الجالبة للمحبة عشرة
أحدها: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به.
الثاني: التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض.
الثالث: دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال؛ فنصيبه من المحبة على قدر هذا.
الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى.
الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها وتقلبه في رياض هذه المعرفة وميادينها.
السادس: مشاهدة بره وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة.
السابع: وهو أعجبها – انكسار القلب بين يديه.
الثامن: الخلوة وقت النزول الإلهي وتلاوة كتابة ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيدًا لحالك ومنفعة لغيرك.
العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل.
فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة ودخلوا على الحبيب ([41]).
الفائدة التاسعة عشرة
حقيقة الإيمان
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر، أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله فهم مسلمون ومعهم إيمان مجمل؛ لكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم يحصل شيئًا فشيئًا إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون إلى اليقين ولا إلى الجهاد، ولو شُكِّكوا لشكوا، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا.
إذ ليس عندهم من علم اليقين ما يدرأ الريب، ولا عندهم من قوة الحب لله ورسوله ما يقدمونه على الأهل والمال؛ فهؤلاء إن عوفوا من المحنة ماتوا ودخلوا الجنة، وإن ابتلوا بمن يدخل عليهم شبهات توجب ريبهم فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب وإلا صاروا مرتابين وانتقلوا إلى نوع من النفاق. انتهى ([42]).
***
الفائدة العشرون
المصائب
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: المصائب نعمة؛ لأنها مكفرات للذنوب، وتدعو إلى الصبر فيثاب عليها، وتقتضي الإنابة إلى الله والذل له، والإعراض عن الخلق، إلى غير ذلك من المصالح العظيمة؛ فنفس البلاء يكفر الله به الذنوب والخطايا، وهذا من أعظم النعم.
فالمصائب رحمة ونعمة في حقوق عموم الخلق إلا أن يدخل صاحبها بسببها في معاصي أعظم مما كان قبل ذلك فيكون شرًا عليه من جهة ما أصابه في دينه، فإن من الناس من إذا ابتُلي بفقر أو مرض أو وجع حصل له من النفاق والجزع ومرض القلب والكفر الظاهر وترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات ما وجب له الضرر في دينه، فلهذا كانت العافية خيرًا له من جهة ما أورثته المصيبة لا من جهة نفس المصيبة، كما أن من أوجبت له المصيبة صبرًا وطاعة كانت في حقه نعمة دينية؛ فهي بعينها فعل الرب عز وجل ورحمة للخلق، والله تعالى محمود عليها؛ فمن ابتلي فرزق الصبر كان الصبر عليه نعمة في دينه، وحصل له بعدما كفر من خطاياه رحمة، وحصل له بثنائه على ربه صلاة ربه عليه، قال تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] وحصل له غفران السيئات ورفع الدرجات؛ فمن قام بالصبر الواجب حصل له ذلك. انتهى ملخصًا ([43]).
***
الفائدة الحادية والعشرون
أصل الشكر
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: أصل الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له، والذل والمحبة، فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلاً بها لم يشكرها، ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها لم يشكرها أيضًا، ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها كما يجحد المنكر لنعمة المنعم عليه بها فقد كفرها، ومن عرف النعمة والمنعم بها، وأقرّ بها ولم يجحدها، ولكن لم يخضع له ولم يحبه ويرض به وعنه، لم يشكره أيضًا، ومن عرفها وعرف المنعم بها وأقر بها، وخضع للمنعم بها، وأحبه ورضي به وعنه، واستعملها في محابه وطاعته فهذا هو الشاكر لها؛ فلا بد في الشكر من علم القلب، وعمل يتبع العلم، وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له ([44]).
***
الفائدة الثانية والعشرون
سفر القلب
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في مفتاح دار السعادة – بعد كلام فيما يُعرف العبد بنفسه وبربه من عجائب مخلوقاته - قال بعد ذلك: والثاني: أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة فتفتح له أبواب السماء، فيجول في أقطارها، وملكوتها وبين ملائكتها ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن فينظر سعته وعظمته وجلاله ومجده ورفعته، ويرى السماوات السبع والأرضين السبع بالنسبة إليه كحلقة ملقاة بأرض فلاة، ويرى الملائكة حافين من حول العرش لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتقديس والتكبير، والأمر ينزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها إلا ربها ومليكها، فينزل الأمر بإحياء قوم وإماتة آخرين، وإعزاز قوم وإذلال آخرين، وإنشاء ملك وسلب ملك، وتحويل نعمة من محل إلى محل وقضاء الحاجات على اختلافها وتبيانها وكثرتها: من جبر كسير، وإغناء فقير، وشفاء مرض، وتفريج كرب، ومغفرة ذنب، وكشف ضر ونصرة مظلوم، وهداية حيران وتعليم جاهل، وردُ آبق، وأمان خائف، وإجارة مستجير، ومدد لضعيف، وإغاثة لملهوف، وإعانة لعاجز، وانتقام من ظالم، وكف لعدوان؛ فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل، والحكمة والرحمة تنفذ في أقطار العوالم، لا يشغله سمع شيء منها عن سمع غيره، ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلاف لغاتها وتبيانها واتحاد وقتها، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، ولا تنقص ذرة من خزائنه، لا إله إلا هو العزيز الحكيم؛ فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن طرقًا لهيئته خاشعًا لعظمته عانيًا لعزته، فيسجد بين يدي الملك الحق المبين سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد فهذا سفر القلب، وهو في وطنه وداره ومحل ملكه، وهذا من أعظم آيات الله وعجائب صنعه، فيا له من سفر ما أبركه وأروحه، وأعظم ثمرته وربحه، وأجل منفعته وأحسن عاقبته، سفر هو حياة الأرواح ومفتاح السعادة، وغنيمة العقول والألباب لا كالسفر الذي هو قطعة من العذاب. اهـ ([45]).
***
الفائدة الثالثة والعشرون
الخوف وأنواعه
الخوف هو الذعر وهو انفعال يحصل بتوقع ما فيه هلاك أو ضرر أو أذى، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن خوف أولياء الشيطان وأمر بخوفه وحده.
والخوف ثلاثة أنواع:
النوع الأول: خوف طبيعي كخوف الإنسان من السبع والنار والغرق وهذا لا يلام عليه العبد قال الله تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 18] لكن إذا كان هذا الخوف سببًا لترك واجب أو فعل محرم كان حرامًا، لأن ما كان سببًا لترك واجب أو فعل محرم فهو حرام ودليله قوله تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]. والخوف من الله تعالى يكون محمودًا، ويكون غير محمود.
فالمحمود: ما كانت غايته أن يحول بينك وبين معصية الله بحيث يحملك على فعل الواجبات وترك المحرمات، فإذا حصلت هذه الغاية سكن القلب واطمأن وغلب عليه الفرح بنعمة الله، والرجاء لثوابه.
وغير المحمود: ما يحمل العبد على اليأس من روح الله والقنوط وحينئذ يتحسر العبد وينكمش وربما يتمادى في المعصية لقوه يأسه.
النوع الثاني: خوف العبادة؛ أن يخاف أحدًا يتعبد بالخوف له؛ فهذا لا يكون إلا لله تعالى، وصرفه لغير الله تعالى شرك أكبر.
النوع الثالث: خوف السر؛ كأن يخاف صاحب القبر، أو وليًا بعيدًا عنه لا يؤثر فيه لكنه يخافه مخافة سرًّ فهذا أيضًا ذكره العلماء من الشرك ([46]).
***
الفائدة الرابعة والعشرون
التوكل وأنواعه
التوكل على الشيء: الاعتماد عليه.
والتوكل على الله تعالى: الاعتماد على الله تعالى كفاية وحسبًا في جلب المنافع ودفع المضار وهو من تمام الإيمان وعلاماته؛ لقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، وإذا صدق العبد في اعتماده على الله تعالى كفاه الله تعالى ما أهمه؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] أي: كافيه. ثم طمأن المتوكل بقوله: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3] فلا يعجزه شيء أراده.
واعلم أن التوكل أنواع:
الأول: التوكل على الله تعالى، وهو من تمام الإيمان وعلامات صدقه، وهو واجب لا يتم الإيمان إلا به.
الثاني: توكل السر؛ بأن يعتمد على ميت في جلب منفعة، أو دفع مضرة؛ فهذا شرك أكبر؛ لأنه لا يقع إلا ممن يعتقد أن لهذا الميت تصرفًا سريًا في الكون، ولا فرق بين أن يكون نبيًا أو وليًا، أو طاغوتًا عدوًا لله تعالى.
الثالث: التوكل على الغير فيما يتصرف فيه الغير مع الشعور بعلو مرتبته وانحطاط مرتبة المتوكل عنه؛ مثل أن يعتمد عليه في حصول المعاش ونحوه، فهذا نوع من الشرك الأصغر؛ لقوة تعلق القلب به والاعتماد عليه؛ أما لو اعتمد عليه على أنه سبب وأن الله تعالى هو الذي قدر ذلك على يده فإن ذلك لا بأس به إذا كان للمتوكل عليه أثر صحيح في حصوله.
الرابع: التوكل على الغير فيما يتصرف فيه المتوكل بحيث ينيب غيره في أمر تجوز فيه النيابة فهذا لا بأس به بدلالة الكتاب والسنة والإجماع؛ فقد قال يعقوب لبنيه {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف: 87]، ووكل النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصدقة عمالاً وحفاظًا، ووكل في إثبات الحدود وإقامتها، ووكل عليًّا بن أبي طالب رضي الله عنه في هديه في حجة الوداع أن يتصدق بجلودها وجلالها وأن ينحر ما بقي من المئة بعد أن نحر - صلى الله عليه وسلم - بيده ثلاثًا وستين ([47]).
***
الفائدة الخامسة والعشرون
الاستعانة وأنواعها
الاستعانة طلب العون وهي أنواع:
الأول: الاستعانة بالله وهي الاستعانة المتضمنة لكمال الذل من العبد لربه، وتفويض الأمر إليه، واعتقاد كفايته، وهذه لا تكون إلا لله تعالى ودليلها قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، ووجه الاختصاص أن الله تعالى قدم المعمول {إِيَّاكَ}، وقاعدة اللغة العربية التي نزل بها القرآن أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر والاختصاص؛ وعلى هذا يكون صرف هذا النوع لغير الله تعالى شركًا مخرجًا عن الملة.
الثاني: الاستعانة بالمخلوق على أمر قادر عليه؛ فهذه على حسب المستعان عليه؛ فإن كانت على بر فهي جائزة للمستعين مشروعة للمعين؛ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وإن كانت على مباح فهي جائزة للمستعين والمعين لكن المعين قد يثاب على ذلك ثواب الإحسان إلى الغير؛ ومن ثم تكون في حقه مشروعة؛ لقوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].
الثالث: الاستعانة بمخلوق حي حاضر غير قادر؛ فهذه لغو لا طائل تحتها؛ مثل أن يستعين بشخص ضعيف على حمل شيء ثقيل.
الرابع: الاستعانة بالأموات مطلقًا أو بالأحياء على أمر غائب لا يقدرون على مباشرته فهذا شرك لأنه لا يقع إلا من شخص يعتقد أن لهؤلاء تصرفًا خفيًا في الكون.
الخامس: الاستعانة بالأعمال والأحوال المحبوبة إلى الله تعالى، وهذه مشروعة بأمر الله تعالى في قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 153]، وقد استدل المؤلف رحمه الله تعالى للنوع الأول بقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا استعنت فاستعن بالله»([48]) ([49]).
***
الفائدة السادسة والعشرون
الاستعاذة وأنواعها
الاستعاذة: طلب الإعاذة، والإعاذة: الحماية من مكروه؛ فالمستعيذ محتم بمن استعاذ به ومعتصم به. والاستعاذة أنواع:
الأول: الاستعاذة بالله تعالى؛ وهي المتضمنة لكمال الافتقار إليه والاعتصام به واعتقاد كفايته وتمام حمايته من كل شيء حاضر أو مستقبل، صغير أو كبير، بشر أو غير بشر، ودليلها قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 1، 2]... إلى آخر السورة، وقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس: 1-4]... إلى آخر السورة.
الثاني: الاستعاذة بصفة من صفاته؛ ككلامه وعظمته وعزته ونحو ذلك، ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق»([50])، وقوله: «أعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي»([51])، وقوله في دعاء الألم: «أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر»([52])، وقوله: «أعوذ برضاك من سخطك»([53])، وقوله - صلى الله عليه وسلم - حين نزل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام: 65] فقال: «أعوذ بوجهك».
الثالث: الاستعاذة بالأموات أو الأحياء غير الحاضرين القادرين على العوذ؛ فهذا شرك، ومنه قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6].
الرابع: الاستعاذة بما يمكن العوذ به من المخلوقين من البشر أو الأماكن أو غيرها؛ فهذا جائز، ودليله قوله - صلى الله عليه وسلم - في ذكر الفتن: «من تشرف لها تستشرفه ومن وجد ملجأ أو معاذًا فليعذ به». متفق عليه. وقد بين - صلى الله عليه وسلم - هذا الملجأ والمعاذ بقوله: «فمن كان له إبل فليلحق بإبله». الحديث رواه مسلم، وفي صحيحه أيضًا عن جابر رضي الله عنه أن امرأة من بني مخزوم سرقت فأتى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فعاذت بأم سلمة... الحديث، وفي صحيحه أيضًا عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يعوذ عائد بالبيت فيبعث إليه بعث»... الحديث؛ ولكن إن استعاذ من شر ظالم وجب إيواؤه وإعاذته بقدر الإمكان، وإن استعاذ ليتوصل إلى فعل محظور أو الهرب من واجب حرم إيواؤه ([54]).
***
الفائدة السابعة والعشرون
الاستغاثة وأقسامها
الاستغاثة: طلب الغوث وهو الإنقاذ من الشدة والهلاك؛ وهو أقسام:
الأول: الاستغاثة بالله عز وجل، وهذا من أفضل الأعمال وأكملها وهو دأب الرسل وأتباعهم، ودليله ما ذكره الشيخ رحمه الله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]، وكان ذلك في غزوة بدر حين نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين في ألف رجل وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشرة رجلاً فدخل العريش يناشد ربه عز وجل رافعًا يديه مستقبل القبلة يقول: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض». وما زال يستغيث بربه رافعًا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأخذ أبو بكر رضي الله عنه رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله هذه الآية.
الثاني: الاستغاثة بالأموات أو بالأحياء غير الحاضرين القادرين على الإغاثة؛ فهذا شرك؛ لأنه لا يفعله إلا من يعتقد أن لهؤلاء تصرفًا خفيًا في الكون فيجعل لهم حظًا من الربوبية قال الله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62].
الثالث: الاستغاثة بالأحياء العالمين القادرين على الإغاثة فهذا جائز كالاستغاثة بهم، قال الله تعالى في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15].
الرابع: الاستغاثة بحي غير قادر من غير أن يعتقد أن له قوة خفية؛ مثل أن يستغيث الغريق برجل مشلول؛ فهذا لغو وسخرية بمن استغاث به فيمنع منه لهذه العلة، ولعلة أخرى وهي الغريق ربما اغتر بذلك غيره فتوهم أن لهذا المشلول قوة خفية ينقذ بها من الشدة([55]).
***
الفائدة الثامنة والعشرون
الذبح
الذبح: إزهاق الروح بإراقة الدم على وجه مخصوص ويقع على وجوه:
الأول: أن يقع عبادة؛ بأن يقصد به تعظيم المذبوح له والتذلل له والتقرب إليه؛ فهذا لا يكون إلا لله تعالى على الوجه الذي شرعه الله تعالى، وصرفه لغير الله شرك أكبر، ودليله قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].
الثاني: أن يقع إكرامًا لضيف أو وليمة لعرس أو نحو ذلك فهذا مأمور به إما وجوبًا أو استحبابًا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» وقوله - صلى الله عليه وسلم -: لعبد الرحمن بن عوف: «أَوْ لم ولو بشاة».
الثالث: أن يقع على وجه التمتع بالأكل أو الإتجار به ونحو ذلك فهذا من قسم المباح؛ فالأصل فيه الإباحة لقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 71، 72] وقد يكون مطلوبًا أو منهيًا عنه حسبما يكون وسيلة له ([56]).
***
الفائدة التاسعة والعشرون
الرد على من ترك الواجبات أو فعل المعاصي بأنه مقدر عليه باطل من وجوه
الأول: قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148]، ولو كان لهم حجة بالقدر ما أذاقهم الله بأسه.
الثاني: قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]، ولو كان القدر حجة للمخالفين لم تنتف بإرسال الرسل؛ لأن المخالفة بعد إرسالهم واقعة بقدر الله تعالى.
الثالث: ما رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار أو من الجنة». فقال رجل من القوم: ألا نتكل يا رسول الله؟ قال: لا اعملوا فكل ميسر ثم قرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5]... الآية، وفي لفظ مسلم: «فكل ميسر لما خلق له»، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعمل ونهى عن الاتكال على القدر.
الرابع: أن الله تعالى أمر العبد ونهاه، ولم يكلفه إلا ما يستطيع؛ قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، ولو كان العبد مجبرًا على الفعل لكان مكلفًا بما لا يستطيع الخلاص منه، وهذا باطل، ولذلك إذا وقعت منه المعصية بجهل، أو نسيان، أو إكراه، فلا إثم عليه؛ لأنه معذور.
الخامس: أن قدر الله تعالى سر مكتوم لا يعلمُ به إلا بعد وقوع المقدور وإرادة العبد لما يفعله سابقة على فعله فتكون إرادته الفعل غير مبنية على علم منه بقدر الله، وحينئذ تنتفي حجته بالقدر؛ إذ لا حجة للمرء فيما لا يعلمه.
السادس: أننا نرى الإنسان يحرص على ما يلائمه من أمور دنياه حتى يدركه ولا يعدل عنه إلا ما لا يلائمه، ثم يحتج على عدوله بالقدر، فلماذا يعدلُ عما ينفعه في أمور دينه إلى ما يضره ثم يحتج بالقدر؟!
أفليس شأن الأمرين واحدًا؟!
وإليك مثالاً يوضح ذلك: لو كان بين يدي الإنسان طريقان أحدهما ينتهي به إلى بلد كلها فوضى وقتل، ونهب، وانتهاك للأعراض وخوف وجوع، والثاني ينتهي به إلى بلد كلها نظام، وأمن مستتب، وعيش رغيد، واحترام للنفوس والأعراض والأموال، فأي الطريقين يسلك؟
إنه سيسلك الطريق الثاني الذي ينتهي به إلى بلد النظام والأمن، ولا يمكن لأي عاقل أبدًا أن يسلك طريق بلد الفوضى، والخوف، ويحتجُ بالقدر، فلماذا يسلك في أمر الآخرة طريق النار دون الجنة ويحتج بالقدر؟!
مثال آخر: نرى المريض يؤمر بالدواء فيشربه ونفسه لا تشتهيه، وينهى عن الطعام الذي يضره فيتركه ونفسه تشتهيه، كل ذلك طلبًا للشفاء والسلامة، ولا يمكن أن يمتنع عن شرب الدواء أو يأكل الطعام الذي يضره ويحتج بالقدر، فلماذا يترك الإنسان ما أمر الله ورسوله، أو يفعل ما نهى الله ورسوله ثم يحتج بالقدر؟!
السابع: أن المحتج بالقدر على ما تركه من الواجبات أو فعله من المعاصي لو اعتدى عليه شخص فأخذ ماله أو انتهك حرمته ثم احتج بالقدر، وقال: لا تلمني فإنَّ اعتدائي كان بقدر الله لم يقبل حجته، فكيف لا يقبل الاحتجاج بالقدر في اعتداء غيره عليه، ويحتج به لنفسه في اعتدائه على حق الله تعالى؟!
ويذكر أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رفع إليه سارق استحق القطع، فأمر بقطع يده فقال: مهلاً يا أمير المؤمنين، فإنما سرقت بقدر الله. فقال عمر: ونحن إنما نقطع بقدر الله([57]).
***
الفائدة الثلاثون
معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم -
وأما معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - فتتضمن خمسة أمور:
الأول: معرفته نسبًا؛ فهو أشرف الناس نسبًا؛ فهو هاشمي قرشي عربي فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم... إلى آخر ما قاله الشيخ رحمه الله.
الثاني: معرفة سنّه، ومكان ولادته، ومهاجره وقد بينها الشيخ بقوله: «وله من العمر ثلاث وستون سنة، وبلده مكة، وهاجر إلى المدينة». فقد ولد بمكة وبقي فيها ثلاثًا وخمسين سنة، ثم هاجر إلى المدينة فبقي فيها عشر سنين ثم توفي فيها في ربيع الأول سنة إحدى عشرة بعد الهجرة.
الثالث: معرفة حياته النبوية وهي ثلاث وعشرون سنة؛ فقد أوحي إليه وله أربعون سنة كما قال أحد شعرائه.
الرابع: بماذا كان نبيًا ورسولاً؛ فقد كان نبيًا حين نزل عليه قول الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5] ثم كان رسولاً حين نزل عليه قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1 - 7]؛ فقام - صلى الله عليه وسلم - فأنذر وقام بأمر الله عز وجل. والفرق بين الرسول والنبي كما يقول أهل العلم: إن النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول من أوحى الله إليه بشرع وأمر بتبليغه والعمل به فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً.
الخامس: بما أرسل ولماذا؛ فقد أرسل بتوحيد الله تعالى وشريعته المتضمنة لفعل المأمور وترك المحظور وأرسل رحمة للعالمين لإخراجهم من ظلمة الشرك والكفر والجهل إلى نور العلم والإيمان والتوحيد؛ حتى ينالوا بذلك مغفرة الله ورضوانه وينجوا من عقابه وسخطه([58]).
***
الفائدة الحادية والثلاثون
حكم السفر إلى بلاد الكفر
فنقول: السفر إلى بلاد الكفار لا يجوز إلا بثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات.
الشرط الثاني: أن يكون عنده دين يمنعه من الشهوات.
الشرط الثالث: أن يكون محتاجًا إلى ذلك.
فإن لم تتم هذه الشروط فإنه لا يجوز السفر إلى بلاد الكفار لما في ذلك من الفتنة أو خوف الفتنة وفيه إضاعة المال لأن الإنسان ينفق أموالاً كثيرة في هذه الأسفار.
أما إذا دعت الحاجة إلى ذلك لعلاج أو تلقي علم لا يوجد في بلده وكان عنده علم ودين على ما وصفنا فهذا لا بأس به.
وأما السفر للسياحة في بلاد الكفار فهذا ليس بحاجة وبإمكانه أن يذهب إلى بلاد إسلامية يحافظ أهلها على شعائر الإسلام، وبلادنا الآن والحمد لله أصبحت بلادًا سياحية في بعض المناطق؛ فإبمكانه أن يذهب إليها ويقضي زمن إجازته فيها.
وأما الإقامة في بلاد الكفار فإن خطرها عظيم على دين المسلم، وأخلاقه وسلوكه، وآدابه، وقد شاهدنا وغيرنا انحراف كثير ممن أقاموا هناك فرجعوا بغير ما ذهبوا به؛ رجعوا فُسَّاقًا، وبعضهم رجع مرتدًا عن دينه وكافرًا به وبسائر الأديان – والعياذ بالله – حتى صاروا إلى الجحود المطلق والاستهزاء بالدين وأهله السابقين منهم واللاحقين، ولهذا كان ينبغي - بل يتعين - التحفظ من ذلك ووضع الشروط التي تمنع من الهوى في تلك المهالك ([59]).
***
الفائدة الثانية والثلاثون
صفوة عقيدة أهل السنة وخلاصتها المستمدة من الكتاب والسنة
أولاً: وذلك أنهم يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره؛ فيشهدون أن الله هو الرب الإله المعبود المتفرد بكل كمال؛ فيعبدونه وحده، مخلصين له الدين؛ فيقولون أن الله هو الخالق البارئ المصور الرزاق المعطي المانع المدبَّر لجميع الأمور، وأنه المألوهُ المعبود الموحد المقصود، وأنه الأول الذي ليس قبله شيء، الآخر ليس بعده شيء، الظاهر الذي ليس فوقه شيء، الباطن الذي ليس دونه شيء، وأنه العلي الأعلى بكل معنى واعتبار، علو الذات وعلو القدر وعلو القهر، وأنه على العرش استوى استواءً يليق بعظمته وجلاله، ومع علوه المطلق وفوقيته فعلمه محيط بالظواهر والبواطن والعالم العلوي والسفلي، وهو مع العباد بعلمه، يعلم جميع أحوالهم وهو القريب المجيب، وأنه الغني بذاته عن جميع مخلوقاته، والكل إليه مفتقرون في إيجادهم وإيجاد ما يحتاجون إليه في جميع الأوقات، ولا غنى لأحد عنه طرفة عين وهو الرؤوف الرحيم، الذي ما بالعباد من نعمة دينية ولا دنيوية ولا دفع نقمة إلا من الله، فهو الجالب للنعم، الدافع للنقم، ومن رحمته أنه ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا يستعرض حاجات العباد حين يبقى ثلثُ الليل الآخر، فيقول: لا أسأل عن عبادي غيري، من ذا الذي يدعُوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه! من ذا الذي يستغفرني فأغفر له! حتى يطلع الفجر؛ فهو ينزل كما يشاء ويفعل كما يريد، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ويعتقدون أنه الحكيم الذي له الحكمة التامة في شرعه وقدره؛ فما خلق شيئًا عبثًا، ولا شرع الشرائع إلا للمصالح والحكم، وأنه التواب العفو الغفور، يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات، ويغفر الذنوب العظيمة للتائبين والمستغفرين والمنيبين، وهو الشكور الذي يشكر القليل من العمل، ويزيد الشاكرين من فضله، ويصفونه بما وصف به نفسه ووصفه به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الصفات الذاتية؛ كالحياة الكاملة، والسمع والبصر وكمال القدرة والعظمة والكبرياء، والمجد، والجلال، والجمال والحمد المطلق، ومن صفات الأفعال المتعلقة بمشيئته وقدرته؛ كالرحمة والرضا، والسخط والكلام، وأنه يتكلم بما يشاء كيف يشاء وكلماته لا تنفد، ولا تبيد، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق؛ منه بدأ، وإليه يعود.
وأنه لم يزل ولا يزال موصوفًا بأنه يفعل ما يريد، ويتكلم بما شاء، ويحكم على عباده بأحكامه القدرية، وأحكامه الشرعية وأحكامه الجزائية فهو الحاكم المالك، ومن سواه مملوك محكوم عليه؛ فلا خروج للعباد عن ملكه ولا عن حكمه، ويؤمنون بما جاء به الكتاب وتواترت به السنة: أن المؤمنين يرون ربهم تعالى عيانًا جهرة، وأن نعيم رؤيته والفوز برضوانه أكبر النعيم واللذة.
وأن من مات على غير الإيمان والتوحيد فهو مُخلد في نار جهنم أبدًا، وأن أرباب الكبائر إذا ماتوا على غير توبة ولا حصل لهم مُكفر لذنوبهم ولا شفاعة فإنهم وإن دخلوا النار لا يخلدون فيها، ولا يبقى في النار أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان إلا خرج منها.
وأن الإيمان يشمل عقائد القلوب وأعمالها، وأعمال الجوارح وأقوال اللسان؛ فمن قام بها على الوجه الأكمل فهو المؤمن حقًا الذي استحق الثواب وسلم من العقاب، ومن انتقص منها شيئًا نقص من إيمانه بقدر ذلك، ولذلك كان الإيمان يزيد بالطاعة وفعل الخير، وينقص بالمعصية والشر.
ومن أصولهم السعي والجد فيما ينفع من أمور الدين والدنيا مع الاستعانة بالله؛ فهم حريصون على ما ينفعهم ويستعينون بالله، وكذلك يحققون الإخلاص لله في جميع حركاتهم ويتبعون رسول الله في الإخلاص للمعبود والمتابعة للرسول، والنصيحة للمؤمنين أتباع طريقهم، ويشهدون أن محمدًا عبده ورسوله أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو خاتم النبيين، أرسل إلى الإنس والجن بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، أرسله بصلاح الدين وصلاح الدنيا، وليقوم الخلق بعبادة الله ويستعينوا برزقه على ذلك.
ويعلمون أنه أعلم الخلق وأصدقهم وأنصحهم وأعظمهم بيانًا؛ فيعظمونه ويحبونه، ويقدمون محبته على محبة الخلق كلهم ويتبعونه في أصول دينهم وفروعه، ويقدمون قوله وهديه على قول كل أحد وهديه، ويعتقدون أن الله جمع له من الفضائل والخصال والكمالات ما لم يجمعه لأحد؛ فهو أعلى الخلق مقامًا وأعظمهم جاهًا، وأكملهم في كل فضيلة، لم يبق خير إلا دلَّ أمته عليه ولا شر إلا حذرهم منه.
وكذلك يؤمنون بكل كتاب أنزله الله، وكل رسول أرسله الله، لا يفرقون بين أحد من رسله ويؤمنون بالقدر كله، وأن جميع أعمال العباد – خيرها وشرها - قد أحاط بها علم الله، وجرى بها قلمه، ونفذت فيها مشيئته، وتعلقت بها حكمته؛ حيث خلق للعباد قدرة وإرادة تقع بها أقوالهم وأفعالهم بحسب مشيئتهم، لم يجبرهم على شيء منها؛ بل جعلهم مختارين لها، وخص المؤمنين بأن حبَّب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان بعدله وحكمته.
ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يدينون بالنصيحة لله ولكتابه ورسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة، ويأمرون ببر الوالدين وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران والمماليك ببر الوالدين وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران والمماليك والمعاملين، ومن له حق، وبالإحسان إلى الخلق أجمعين.
ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسنها، وينهون عن مساوئ الأخلاق وأرذلها.
ويعتقدون أن أكمل المؤمنين إيمانًا ويقينًا وأحسنهم أعمالاً وأخلاقًا، وأصدقهم أقوالاً وأهداهم إلى كل خير وفضيلة وأبعدهم من كل رذيلة.
ويأمرون بالقيام بشرائع الدين على ما جاء عن نبيهم فيها وفي صفاتها ومكملاتها، والتحذير من مفسداتها ومنقصاتها، ويرون الجهاد في سبيل الله ماضيًا مع البر والفاجر، وأنه ذروة سنام الدين، جهاد العلم والحجة، وجهاد السلاح، وأنه فرض على كل مسلم أن يدافع عن الدين بكل ممكن ومستطاع، ومن أصولهم الحث على جمع كلمة المسلمين، والسعي في تقريب قلوبهم وتأليفها، والتحذير من التفرق والتعادي والتباغض والعمل بكل وسيلة توصل إلى هذا.
ومن أصولهم النهي عن أذية الخلق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم، والأمر بالعدل والإنصاف في جميع المعاملات. والندب إلى الإحسان والفضل فيها.
ويؤمنون بأن أفضل الأمم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأفضلهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خصوصًا الخلفاء الراشدون العشرة المشهود لهم بالجنة، وأهل بدر، وبيعة الرضوان والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار؛ فيحبون الصحابة ويدينون لله بذلك وينشرون محاسنهم ويسكتون عما قيل عن مساوئهم.
ويدينون لله باحترام العلماء الهداة وأئمة العدل ومن لهم المقامات العالية في الدين والفضل المتنوع على المسلمين، ويسألون الله أن يعيذهم من الشك والشرك والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، وأن يثبتهم على دين نبيهم إلى الممات؛ هذه الأصول الكلية بها يؤمنون ولها يعتقدون وإليها يدعون ([60]).
***
الفائدة الثالثة والثلاثون
فضائل التوحيد
1- مغفرة الذنوب وتكفير الذنوب.
2- من فضائله أنه السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة ودفع عقوبتهما.
3- ومن أجل فوائده أنه يمنع الخلود في النار، إذا كان في القلب منه أدنى مثقال حبة خردل، وأنه إذا كمل في القلب يمنع دخول النار بالكلية.
4- ومنها أنه يحصل لصاحبه الهدى الكامل والأمن التام في الدنيا والآخرة.
5- ومنها أنه السبب الوحيد لنيل رضا الله وثوابه، وأن أسعد الناس بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه.
6- ومن أعظم فضائله أن جميع الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها وفي ترتب الثواب عليها: على التوحيد؛ فكلما قوي التوحيد والإخلاص لله كملت هذه الأمور وتمت.
7- ومن فضائله أنه يُسهل على العبد فعل الخير وترك المنكرات ويسليه عن المصيبات؛ فالمخلص لله في إيمانه وتوحيده تخف عليه الطاعات لما يرجو من ثواب ربه ورضوانه ويهون عليه ترك ما تهواه النفس من المعاصي لما يخشى من سخطه وعقابه.
8- ومنها أن التوحيد إذا كمل في القلب حبب الله لصاحبه الإيمان وزينه في قلبه وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان وجعله من الراشدين.
9- ومنها أنه يخفف عن العبد المكاره ويهون عليه الآلام؛ فبحسب تكميل العبد للتوحيد والإيمان يتلقى المكاره والآلام بقلب منشرح ونفس مطمئنة وتسليم ورضا بأقدار الله المؤلمة.
10- ومن أعظم فضائله أنه يحرر العبد من رق المخلوقين والتعلق بهم وخوفهم ورجائهم والعمل لأجلهم، وهذا هو العز الحقيقي والشرف العالي، ويكون مع ذلك متألهًا متعبدًا لله لا يرجو سواه، ولا يخشى إلا إياه ولا ينيب إلا إليه وبذلك يتم فلاحه ويتحقق نجاحه.
11- ومن فضائله التي لا يلحقه فيها شيء أن التوحيد إذا تم وكمل في القلب وتحقق تحققًا كاملاً بالإخلاص التام فإنه يصير القليل من عمله كثيرًا وتضاعف أعماله وأقواله بغير حصر ولا حساب، ورجحت كلمة الإخلاص في ميزان العبد بحيث لا تقابلها السموات والأرض وعمارها من جميع خلق الله كما في حديث البطاقة التي فيها لا إله إلا الله التي وزنت تسعة وتسعين سجلاً من الذنوب كل سجل يبلغ مد البصر؛ وذلك لكمال إخلاص قائلها، وكم ممن يقولها لا تبلغ هذا المبلغ؛ لأنه لم يكن في قلبه من التوحيد والإخلاص الكامل مثل ولا قريب مما قام بقلب هذا العبد.
12- ومن فضائل التوحيد أن الله تكفل لأهله بالفتح والنصر في الدنيا والعز والشرف وحصول الهداية والتيسير لليسرى وإصلاح الأحوال والتسديد في الأقوال والأفعال.
13- ومنها أن الله يدافع عن الموحدين أهل الإيمان شرور الدنيا والآخرة، ويمن عليهم بالحياة والطمأنينة إليه والطمأنينة بذكره، وشواهد هذا الجمل من الكتاب والسنة كثيرة معروفة والله أعلم ([61]).
***
الفائدة الرابعة والثلاثون
الدين الإسلامي
الدين الإسلامي هو الدين الذي بعث الله به محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، ختم به الأديان وأكمله لعباده وأتم به عليهم النعمة ورضيه لهم دينًا، فلا يقبل من أحد دينًا سواه، قال الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]. وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
وقد فرض الله على جميع الناس أن يدينوا لله تعالى به؛ فقال مخاطبًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار».
والإيمان به: تصديق ما جاء به مع القبول والإذعان لا مجرد التصديق، ولهذا لم يكن أبو طالب مؤمنًا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - مع تصديقه لما جاء به وشهادته بأنه من خير الأديان.
والدين الإسلامي متضمن لجميع المصالح التي تضمنتها الأديان السابقة، متميز عليها بكونه صالحًا لكل زمان ومكان وأمة؛ قال الله تعالى مخاطبًا رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] ومعنى كونه صالحًا لكل زمان ومكان وأمة: أن التمسك به لا ينافي مصالح الأمة في أي زمان أو مكان؛ بل هو صلاحها، وليس معنى ذلك أنه خاضع لكل زمان ومكان وأمة كما يريده بعض الناس.
والدين الإسلامي هو دين الحق الذي ضمن الله تعالى لمن تمسك به حق التمسك أن ينصره ويظهره على من سواه؛ قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
والدين الإسلامي عقيدة وشريعة؛ فهو كامل في عقيدته وشرائعه؛ يأمر بتوحيد الله تعالى وينهى عن الشرك؛ يأمر بالصدق وينهى عن الكذب، يأمر بالعدل وينهى عن الجور، يأمر بالأمانة وينهى عن الخيانة، يأمر بالوفاء وينهى عن الغدر، يأمر ببر الوالدين وينهى عن العقوق، يأمر بصلة الأرحام وهم الأقارب وينهى عن القطيعة، يأمر بحسن الجوار وينهى عن سيئه.
وعموم القول أن الإسلام يأمر بكل خلق فاضل، وينهى عن كل خلق سافل، ويأمر بكل عمل صالح، وينهى عن كل عمل سيئ؛ قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]([62]).
***
الفائدة الخامسة والثلاثون
أركان الإسلام
أركان الإسلام: أُسُسُه التي ينبني عليها، وهي خمسة مذكورة فيما رواه ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «بني الإسلام على خمسة: على أن يوحد الله» وفي رواية: «على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان والحج»، فقال رجل: الحج وصيام رمضان، قال: لا، صيام رمضان والحج. هكذا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. متفق عليه واللفظ لمسلم.
1- أما شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله فهي: الاعتقاد الجازم المعبر عنه باللسان بهذه الشهادة؛ كأنه بجزمه في ذلك مشاهد له، وإنما جعلت هذه الشهادة ركنًا واحدًا مع تعدد المشهود به، إما لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبلغ عن الله تعالى، فالشهادة له بالعبودية والرسالة من تمام شهادة أن لا إله إلا الله، وإما لأن هاتين الشهادتين أساس صحة الأعمال وقبولها؛ إذ لا صحة لعلم ولا قبول إلا بالإخلاص لله تعالى والمتابعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فبالإخلاص لله تتحقق شهادة أن لا إله إلا الله وبالمتابعة لرسول الله تتحقق شهادة أن محمدًا عبده ورسوله. ومن ثمرات هذه الشهادة العظيمة: تحرير القلب والنفس من الرق للمخلوقين والاتباع لغير المرسلين.
2- وأما إقام الصلاة: فهو التعبد لله تعالى بفعلها على وجه الاستقامة والتمام في أوقاتها وهيئاتها. ومن ثمراته: انشراح الصدر وقرة العين والانزجار عن الفحشاء والمنكر.
3- وأما إيتاء الزكاة: فهو التعبد لله تعالى ببذل القدر الواجب في الأموال الزكوية المستحقة، ومن ثمراته: تطهير النفس من الخلق الرذيل (البخل) وسد حاجة الإسلام والمسلمين.
4- وأما صوم رمضان: فهو التعبد لله تعالى بالإمساك عن المفطرات نهار رمضان. ومن ثمراته: ترويض النفس عن ترك المحبوبات طلبًا لمرضاة الله عز وجل.
5- وأما حج البيت: فهو التعبد لله تعالى بقصد البيت الحرام للقيام بشعائر الحج.
ومن ثمراته: ترويض النفس على بذل المجهود المالي والبدني في طاعة الله تعالى، ولهذا كان الحج نوعًا من الجهاد في سبيل الله تعالى. وهذه الثمرات التي ذكرناها لهذه الأسس وما لم نذكره تجعل من الأمة أمة إسلامية طاهرة نقية تدين لله دين الحق وتعامل الخلق بالعدل والصدق؛ لأن ما سواها من شرائع الإسلام يصلح بصلاح هذه الأسس، وتصلح أحوال الأمة بصلاح أمر دينها، ويفوتها من صلاح أحوالها بقدر ما فاتها من صلاح أمور دينها.
ومن أراد ذلك فليقرأ قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 96-99]. ولينظر في تاريخ من سبق؛ فإن في التاريخ عبرة لأولى الألباب وبصيرة لمن لم يحل دونه قلبه حجاب. والله المستعان ([63]).
***
الفائدة السادسة والثلاثون
أهداف العقيدة الإسلامية
الهدف لغة: يطلق على معان منها: الغرض ينصب ليرمى إليه وكل شيء مقصود.
وأهداف العقيدة الإسلامية: مقاصدها وغاياتها النبيلة المترتبة على التمسك بها؛ وهي كثيرة متنوعة؛ فمنها:
أولاً: إخلاص النية والعبادة لله تعالى وحده؛ لأنه الخالق لا شريك له فوجب أن يكون القصد والعبادة له وحده.
ثانيًا: تحرير العقل والفكر من التخبط الفوضوي الناشيء عن خلو القلب من هذه العقيدة؛ لأن من خلا قلبه منها فهو إما فارغ القلب من كل عقيدة وعابد للمادة الحسية فقط وإما متخبط في ضلالات العقائد والخرافات.
ثالثًا: الراحة النفسية والفكرية؛ فلا قلق في النفس ولا اضطراب في الفكر؛ لأن هذه العقيدة تصل المؤمن بخالقه فيرضى به ربًا مدبرًا وحاكمًا مشرعًا فيطمئن قلبه بقدره وينشرح صدره للإسلام فلا يبغي عنه بديلاً.
رابعًا: سلامة القصد والعمل من الانحراف في عبادة الله تعالى أو معاملة المخلوقين؛ لأن من أسسها الإيمان بالرسل المتضمن لاتباع طريقتهم ذات السلامة في القصد والعمل.
خامسًا: الحزم والجد في الأمور؛ بحيث لا يفوت فرصة للعمل الصالح إلا استغلها فيه رجاء للثواب ولا يرى موقع إثم إلا ابتعد عنه خوفًا من العقاب؛ لأن من أسسها الإيمان بالبعث والجزاء على الأعمال، {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 132]، وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذه الغاية في قوله: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل. فإن لو تفتح عمل الشيطان». [رواه مسلم].
سادسًا: تكوين أمة قوية تبذل كل غال ورخيص في تثبيت دينها وتوطيد دعائمه غير مبالية بما يصيبها في سبيل ذلك، وفي هذا يقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15].
سابعًا: الوصول إلى سعادة الدنيا والآخرة بإصلاح الأفراد والجماعات ونيل الثواب والمكرمات، وفي ذلك يقول الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
هذه بعض أهداف العقيدة الإسلامية نرجو الله تعالى أن يحققها لنا ولجميع المسلمين ([64]).
***
الفائدة السابعة والثلاثون
أسباب زيادة الإيمان
1- معرفة أسماء الله وصفاته؛ فإن العبد كلما ازداد معرفة بها وبمقتضياتها وآثارها ازداد إيمانًا بربه وحبًا له وتعظيمًا.
2- النظر في آيات الله الكونية والشرعية؛ فإن العبد كلما نظر فيها وتأمل ما اشتملت عليه من القدرة الباهرة والحكمة البالغة ازداد إيمانًا ويقينه بلا ريب.
3- فعل الطاعة؛ فإن الإيمان يزداد به بحسب حسن العمل وجنسه وكثرته؛ فكلما كان العمل أحسن كانت زيادة الإيمان به أعظم وحسن العمل يكون بحسب الإخلاص والمتابعة.
وأما جنس العمل فإن الواجب أفضل من المسنون وبعض الطاعات أوكد وأفضل من البعض الآخر, وكلما كانت الطاعة أفضل كانت زيادة الإيمان بها أعظم، وأما كثرة العمل فإن الإيمان يزداد بها؛ لأن العمل من الإيمان فلا جرم أن يزداد بزيادته.
4- ترك المعصية خوفًا من الله عز وجل وكلما قوي الداعي إلى فعل المعصية كان زيادة الإيمان بتركها أعظم، لأن تركها مع قوة الداعي إليها دليل على قوة إيمان العبد وتقديمه ما يحبه الله ورسوله على ما تهواه نفسه ([65]).
الفائدة الثامنة والثلاثون
أسباب نقص الإيمان
1- الجهل بالله تعالى وأسمائه وصفاته.
2- الغفلة والإعراض عن النظر في آيات الله وأحكامه الكونية والشرعية؛ فإن ذلك يوجب مرض القلب أو موته والتهاون بها وقوة الداعي إليها أو ضعفه.
فأما جنسها وقدرها فإن نقص الإيمان بالكبائر أعظم من نقصه بالصغائر، ونقص الإيمان بقتل النفس المحرمة أعظم من نقصه بأخذ مال محرم، ونقصه بمعصيتين أكثر من نقصه بمعصية واحدة وهكذا، وأما التهاون بها فإن المعصية إذا صدرت من قلب متهاون بمن عصاه ضعيف الخوف منه كان نقص الإيمان بها أعظم من نقصه إذا صدرت من قلب معظم لله تعالى شديد الخوف منه لكن فرطت منه المعصية.
وأما قوة الداعي إليها فإن المعصية إذا صدرت ممن ضعفت منه دواعيها كان نقص الإيمان بها أعظم من نقصه إذا صدرت ممن قويت منه دواعيها، ولذلك كان استكبار الفقير وزنى الشيخ أعظم إثمًا من استكبار الغني وزنى الشاب كما في الحديث: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم»، وذكر منهم: "الأشيمط الزاني" و"العائل المستكبر"؛ لقلة داعي تلك المعصية فيهما».
4- ترك الطاعة؛ فإن الإيمان ينقص به والنقص به على حسب تأكد الطاعة فكلما كانت الطاعة أوكد كان نقص الإيمان بتركها أعظم، وربما فقد الإيمان كله كترك الصلاة، ثم إن نقص الإيمان بترك الطاعة على نوعين يعاقب عليه وهو ترك الواجب بلا عذر، ونوع لا يعاقب وهو ترك الواجب لعذر شرعي أو حسي وترك المستحب؛ فالأول كترك المرأة الصلاة أيام الحيض، والثاني كترك صلاة الضحى والله أعلم ([66]).
***
الفائدة التاسعة والثلاثون
أقوال الناس في تعريف الإيمان
1- عند أهل السنة والجماعة: أنه اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان.
2- عند المرجئة: أنه اعتقاد بالقلب ونطق باللسان فقط.
3- عند الكرامية: أنه نطق باللسان فقط.
4- عند الجبرية: أنه الاعتراف بالقلب أو مجرد المعرفة في القلب.
5- عند المعتزلة: أنه اعتقاد القلب ونطق اللسان وعمل الجوارح.
والفرق بينهم - أي المعتزلة - وبين أهل السنة والجماعة أن مرتكب الكبيرة يسلب اسم الإيمان بالكلية ويخلد في النار عندهم، وعند أهل السنة لا يسلب الإيمان بالكلية؛ بل هو مؤمن ناقص الإيمان ولا يخلد في النار إذا دخلها، وكل هذه أقوال باطلة، والحق ما قاله أهل السنة والجماعة لأدلة كثيرة ([67]).
***
الفائدة الأربعون
أقسام العبودية
تنقسم العبودية إلى ثلاثة أقسام:
1- عامة وهي عبودية الربوبية، وهي لكل الخلق؛ قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] ويدخل في ذلك الكفار.
2- عبودية خاصة، وهي عبودية الطاعة العامة؛ قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ} [الفرقان: 63]، وهذه تعمُّ كل من تعبد لله بشرعه.
3- خاصة الخاصة، وهي عبودية الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ قال تعالى عن نوح {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3] وقال عن محمد: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [ص: 45] فهذه العبودية المضافة إلى الرسل خاصة الخاصة، لأنه لا يباري أحد هؤلاء الرسل في العبودية ([68]).
***
الفائدة الحادية والأربعون
تحقيق التوحيد
تحقيق التوحيد: تخليصه من الشرك، ولا يكون إلا بأمور ثلاثة:
الأول: العلم؛ فلا يمكن أن تحقق شيئًا قبل أن تعلمه؛ فلا بد من تصوره بعلمه قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19].
الثاني: الاعتقاد: فإذا علمت ولم تعتقد، واستكبرت، لم تحقق التوحيد؛ قال الله تعالى عن الكافرين {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] فما اعتقدوا انفراد الله بالألوهية.
الثالث: الانقياد: فإذا علمت واعتقدت ولم تنقد لم تحقق التوحيد، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات: 35، 36]([69]).
الفائدة الثانية والأربعون
أقسام الدعاء
الأول: جائز، وهو أن تدعو مخلوقًا بأمر من الأمور التي يمكن أن يدركها بأشياء محسوسة معلومة؛ فهذا ليس من دعاء العبادة بل هو من الأمور الجائزة، قال - صلى الله عليه وسلم -: «وإذا دعاك فأجبه»([70]).
الثاني: أن تدعو مخلوقًا مطلقًا سواء كان حيًا، أو ميتًا فيما لا يقدر عليه إلا الله فهذا شرك أكبر مثل: يا فلان اجعل ما في بطن امرأتي ذكرًا.
الثالث: أن تدعو مخلوقًا ميتًا لا يجيب بالوسائل الحسية المعلومة فهذا شرك أكبر أيضًا ([71]).
***
الفائدة الثالثة والأربعون
أقسام التعلق بغير الله
الأول: ما ينافي التوحيد من أصله؛ وهو أن يتعلق بشيء لا يمكن أن يكون له تأثير، ويعتمد عليه اعتمادًا كاملاً معرضًا عن الله؛ مثل تعلق عُبّاد القبور بمن فيها عند حلول المصائب، ولهذا إذا مستهم الضراء الشديدة يقولون: يا فلان أنقذنا، فهذا لا شك أنه شرك أكبر مخرج من الملة.
الثاني: ما ينافي كمال التوحيد: أن يعتمد على سبب شرعي صحيح من الإعراض عن المسبب، وهو الله عز وجل، وعدم صرف قلبه إليه فهذا نوع من الشرك ولا نقول شرك أكبر؛ لأن هذا السبب جعله الله سببًا.
الثالث: أن يتعلق بالسبب تعلقًا مجردًا؛ لكونه سببًا فقط، مع اعتماده الأصلي على الله؛ فيعتقد أن هذا السبب من الله وأن الله لو شاء لأبطل أثره، ولو شاء لأبقاه، وأنه لا أثر لسبب في مشيئة الله عز وجل فهذا لا ينافي التوحيد لا كمالاً ولا أصلاً. ومع وجود الأسباب الشرعية الصحيحة ينبغي للإنسان أن لا يُعلّق نفسه بالسبب بل يعلّقها بالله.
فالموظف الذي يتعلق قلبه بمرتبه تعلقًا كاملاً مع الإعراض عن الاعتقاد في المسبب وهو الله نوع من الشرك؛ أما إذا اعتقد أن المرتب سبب، والمسبب هو الله سبحانه وتعالى، وجعل الاعتماد على المسبب وهو يشعر أن المرتب سبب فهذا لا ينافي التوكل. والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ بالأسباب مع اعتماده على المسبب وهو الله عز وجل؛ أمّا إذا تعلّق بسبب لا تأثير له؛ كالذي يتعلق بميت في حصول رزق أو تسهيل أمر، أو دفع ضر، فهذا شرك أكبر ([72]).
الفائدة الرابعة والأربعون
أقسام الناس في موضوع الكرامات
انقسم الناس في موضوع الكرامات إلى ثلاثة أقسام:
- قسم غلوا في نفيها، حتى أنكروا ما هو ثابت في الكتاب والسنة من الكرامات الصحيحة التي تجري على وفق الحق لأولياء الله المتقين.
- وقسم غلوا في إثبات الكرامات، حتى اعتقدوا أن السحر والشعوذة والدجل من الكرامات، واستغلوها وسيلة للشرك والتعلق بأصحابها من الأحياء والأموات حتى نشأ عن ذلك الشرك الأكبر بعبادة القبور وتقديس الأشخاص والغلو فيهم لما يزعمون لهم من الكرامات والخرافات.
-والقسم الثالث: وهم أهل السنة والجماعة توسطوا في موضوع الكرامات بين الإفراط والتفريط فأثبتوا منها ما أثبته الكتاب والسنة ولم يغلوا في أصحابها ولم يتعلقوا بهم من دون الله ولا يعتقدون فيهم أنهم أفضل من غيرهم بل هناك من أولياء الله من هو أفضل منهم ولم تجر على يده كرامة ونفوا ما خالف الكتاب والسنة من الدجل والشعوذة والنصب والاحتيال واعتقدوا أنه من عمل الشيطان وليس هو من كرامات الأولياء فلله الحمد والمنة على وضوح الحق وافتضاح الباطل {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42]([73]).
الفائدة الخامسة والأربعون
التبرك
التبرك: طلب البركة، وطلب البركة لا يخلو من أمرين:
1- أن يكون التبرك بأمر شرعي معلوم، مثل القرآن؛ قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [ص: 29]؛ فمن بركته أن من أخذ به حصل له الفتح، فأنقذ الله بذلك أممًا كثيرة من الشرك، ومن بركته أن الحرف الواحد بعشر حسنات، وهذا يوفر للإنسان الوقت والجهد، وغير ذلك من بركاته الكثيرة.
2- أن يكون بأمر حسِّيٍّ معلوم مثل: العلم والدعاء ونحوه، فهذا الرجل يتبرك بعلمه، ودعوته إلى الخير؛ فيكون هذا بركة؛ لأننا نلنا منه خيرًا كثيرًا. ومن ذلك الفأل؛ فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه الفأل، قال أسيد بن خضير: «ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر». فإن الله يجري على بعض الناس من أمور الخير ما لا يجريه على يد الآخر.
وهناك بركات موهومة باطلة مثل ما يزعمه الدّجَّالون أن فلانًا الميت الذي يزعمون أنه وليّ أنزل عليكم من بركته وما أشبه ذلك، فهذه بركة باطلة، لا أثر لها وقد يكون للشيطان أثر في هذا الأمر، لكنها لا تعدو أن يكون آثارًا حسيّة بحيث أن الشيطان يخدم هذا الشيخ فيكون في ذلك فتنة ([74]).
الفائدة السادسة والأربعون
مواضع الشكر
والشكر فسَّروه بأنه: طاعة المنعم، وقالوا: إنه يكون في ثلاثة مواضع:
1- في القلب: وهو أن يعترف بقلبه أن هذه النعمة من الله فيرى الله متفضلاً عليه بها قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]، وأعظم نعمة هي نعمة الإسلام؛ قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17] وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ} [آل عمران: 164].
2- اللسان: وهو أن يتحدث بها على وجه الثناء على الله والاعتراف وعدم الجحود لا على سبيل الفخر والخيلاء والترفع على عباد الله فيتحدَّث بالغنى لا ليكسر خاطر الفقير بل لأجل الثناء على الله، وهذا جائز كما في قصة الأعمى من بني إسرائيل لما ذكرهم الملك بنعمة الله قال: «نعم كنت أعمى فردَّ الله عليَّ بصري، وكنت فقيرًا فأعطاني الله المال». فهذا من باب التحدُّث بنعمة الله، والنبي - صلى الله عليه وسلم - تحدَّث بنعمة الله عليه بالسيادة المطلقة فقال: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة»([75]).
3- الجوارح: وهو أن يستعملها بطاعة المنعم، وعلى حسب ما يختص بهذه النعمة.
فمثلاً: شرك الله على نعمة العلم: أن تعمل به، وتعلمه الناس، وشكر الله على نعمة المال: أن تصرفه بطاعة الله وتنفع الناس منه.
وشكر الله على نعمة الطعام: أن تستعمله فيما خلق له، وهو تغذية البدن، فلا تبني من العجين قصرًا مثلاً فهو لم يخلق لهذا الشيء([76]).
***
الفائدة السابعة والأربعون
أقسام الحقوق
واعلم أنَّ الحقوق ثلاثة أقسام وهي:
الأول: حق لله لا يشرك فيه غيره لا ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا، وهو ما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
الثاني: حق خاص للرسل، وهو إعانتهم وتوقيرهم وتبجيلهم بما يستحقون.
الثالث: حق مشترك وهو: الإيمان بالله ورسله وهذه الحقوق موجودة في الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الفتح: 9] فهذا حق مشترك {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] هذا خاص بالرسول - صلى الله عليه وسلم -: {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 9] هذا خاص بالله سبحانه وتعالى ([77]).
***
الفائدة الثامنة والأربعون
حكم الاحتفال بعيد الميلاد للأطفال
فائدة: كل شيء يتّخذ عيدًا يتكرر كل أسبوع أو كل عام فهو من البدع، والدليل على ذلك: أن الشارع جعل للمولود العقيقة ولم يجعل شيئًا بعد ذلك، واتخاذهم هذه الأعياد تتكرر كل أسبوع أو كل عام معناه أنهم شبهوه بالأعياد الإسلامية، وهذا حرام ولا يجوز، وليس في الإسلام شيء من الأعياد إلا الأعياد الشرعية الثلاثة.
وليس هذا من باب العادات لأنه يتكرر، ولهذا لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجد للأنصار عيدين يحتفلون بهما قال: «إن الله أبدلكما بخير منهما عيد الأضحى وعيد الفطر»([78]). مع أن هذا من الأمور العادية عندهم ([79]).
الفائدة التاسعة والأربعون
السحر وأقسامه
السحر لغة: ما خفي ولطف سببه، ومنه سمي السحر لآخر الليل، لأن الأفعال التي تقع فيه تكون خفية، وكذلك سمي السَّحور لما يؤكل في آخر الليل، لأنه يكون خفيًا، فكل شيء خفي سببه يسمى سحرًا.
وأما في الشرع فإنه ينقسم إلى قسمين:
الأول: عُقد ورقُى؛ أي قراءات وطلاسم يتوصل بها الساحر إلى استخدام الشياطين فيما يريد لتضرر المسحر؛ قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} [البقرة: 102] إلى قوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102].
الثاني: أدوية وعقاقير تؤثر على بدن المسحور وعقله وإرادته وميله فتجده ينصرف ويميل، وهو ما يسمى عندهم بالصرف والعطف.
فيجعلون الإنسان ينعطف على زوجته أو امرأة أخرى، حتى يكون كالبهيمة تقوده كما تشاء، والصرف بالعكس من ذلك. فيؤثر في بدن المسحور: بإضعافه شيئًا فشيئًا حتى يهلك. وفي تصوره بأن يتخيل الأشياء على خلاف ما هي عليه. وفي عقله فربما يصل إلى الجنون، والعياذ بالله ([80]).
الفائدة الخمسون
أقسام على النجوم
وعلم النجوم ينقسم إلى قسمين:
الأول: علم التأثير وهو ما يستدل به على الحوادث الأرضية، فهذا محرم باطل؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر». [رواه أبو داود وإسناده صحيح]. وقوله في حديث زيد بن خالد «من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب». أخرجه البخاري ومسلم. لأنه لا علاقة بينها وبين الحوادث الأرضية.
الثاني: علم التسيير، وهو ما يستدل به على الجهات والأوقات، فهذا جائز، وقد يكون واجبًا أحيانًا كما قال الفقهاء: إذا دخل وقت الصلاة يجب على الإنسان أن يتعلم علامات القبلة من النجوم والشمس والقمر؛ قال تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [النحل: 15] فلما ذكر الله العلامات الأرضية انتقل إلى العلامات السماوية فقال تعالى: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16]؛ فالاستدلال بهذه النجوم على الأزمان لا بأس به، مثل أن يقال: إذا طلع النجم الفلاني دخل وقت السيل، ودخل وقت الربيع ([81]).
***
الفائدة الحادية والخمسون
الصبر وأقسامه
الصبر في اللغة: الحبس ومنه قولهم: قتل صبرًا أي محبوسًا مأسورًا.
وفي الاصطلاح: حبس النفس وذلك بحبس القلب عن التسخط المحرم، واللسان عن القول المحرم، والجوارح عن الفعل المحرم.
أقسام الصبر ثلاثة:
الأول: الصبر على طاعة الله؛ قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الإنسان: 23، 24].
وهذا يشمل الصبر على الأوامر لأنه إنما نزل عليه القرآن ليبلغه فيكون مأمورًا بالصبر على الطاعة وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28] وهذا صبر على طاعة الله.
الثاني: الصبر على معصية الله؛ كصبر يوسف عليه السلام عن إجابة امرأة العزيز حيث دعته إلى نفسها في مكان لها فيه العزة والقوة والسلطان عليه ومع ذلك صبر وقال: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33] فهذا صبر عن معصية الله.
الثالث: الصبر على أقدار الله: قال تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الإنسان: 24] فيدخل في هذه الآية حكم الله القدري ومنه قوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35]؛ لأن هذا صبر على تبليغ الرسالة وعلى أذى قومه، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - لرسول إحدى بناته: «مرها فلتصبر ولتحتسب»([82]).
إذن الصبر ثلاثة أنواع أعلاها الصبر على طاعة الله، ثم الصبر عن معصية الله، ثم الصبر على أقدار الله ([83]).
***
الفائدة الثانية والخمسون
مراتب الناس حال المصيبة
والناس حال المصيبة على مراتب أربع:
الأولى: التسخط، وهو إما أن يكون بالقلب كأن يسخط على ربه ويغضب على ما قدر الله عليه، وقد يؤدي إلى الكفر قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ} [الحج: 11] وقد يكون باللسان كالدعاء بالويل والثبور وما أشبه ذلك، وقد يكون بالجوارح كلطم الخدود وشق الجيوب ونتف الشعور وما أشبه ذلك.
الثانية: الصبر وهو كما قال الشاعر:
الصبر مثل اسمه مر مذاقته | لكن عواقبه أحلى من العسل |
فيرى الإنسان أن هذا الشيء ثقيل عليه ويكرهه، لكنه يتحمله وليس وقوعه وعدمه سواء عنده، بل يكره هذا ولكن إيمان يحميه من السخط.
الثالثة: الرضا وهو أعلى من ذلك وهو أن يكون الأمران عنده سواء، لأنه رجل يسبح في القضاء والقدر أينما ينزل به القضاء والقدر فهو نازل به على سهل أو جبل، إن أصيب بنعمة أو أصيب بضدها؛ فالكل عنده سواء؛ لا لأن قلبه ميت؛ بل لتمام رضاه بربه سبحانه وتعالى يتقلب في تصرفات الرب عز وجل ولكنها عنده سواء؛ إذ إنه ينظر إليها باعتبارها قضاء لربه وهذا الفرق بين الرضا والصبر ([84]).
***
الفائدة الثالثة والخمسون
حكم اتباع العلماء أو الأمراء في تحليل ما حرّم الله أو العكس
واعلم أن اتباع العلماء أو الأمراء في تحليل ما حرّم الله أو العكس ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن يتابعهم في ذلك راضيًا بقولهم مقدمًا له ساخطًا لحكم الله، فهو كافر؛ لأنه كره ما أنزل الله فأحبط الله عمله ولا تحبط الأعمال إلا بالكفر فكل من كره ما أنزل الله فهو كافر.
الثاني: أن يتابعهم في ذلك راضيًا في حكم الله وعالمًا بأنه أمثل وأصلح للعباد والبلاد ولكن لهوى في نفسه اختاره كأن يريد مثلاً وظيفة لهذا لا يكفر ولكنه فاسق.
الثالث: أن يتابعهم جاهلاً فيظن أن ذلك حكم الله فينقسم إلى قسمين:
أ- أن يمكنه أن يعرف الحق بنفسه فهو مفرط أو مقصر فهو آثم، لأن الله أمر بسؤال أهل العلم عند عدم العلم.
ب- أن لا يكون عالمًا ولا يمكنه التعليم فيتابعهم تقليدًا ويظن أن هذا هو الحق فهذا لا شيء عليه لأنه فعل ما أمر به وكان معذورًا بذلك ولذلك ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن من أفتي بغير علم فإنما إثمه على من أفتاه». أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه وغيرهما، ولو قلنا بإثمه بخطأ غيره للزم من ذلك الحرج والمشقة ولم يثق الناس بأحد لاحتمال خطئه. فإن قيل لماذا لا يكفر أهل القسم الثاني؟
أجيب: أننا لو قلنا بكفرهم لزم من ذلك تكفير كل صاحب معصية يعرف أنه عاص لله ويعلم أنه حكم الله ([85]).
***
الفائدة الرابعة والخمسون
الاقتناع بالحلف بالله
والاقتناع بالحلف بالله لا يخلو من أمرين:
الأول: أن يكون ذلك من الناحية الشرعية؛ فإنه يجب الرضا بالحلف بالله فيما إذا توجهت اليمين على المدعي عليه فحلف؛ فيجب الرضا بهذا الحكم الشرعي.
الثاني: أن يكون ذلك من الناحية الحسية فإن كان الحالف موضع صدق وثقة فإنك ترضى بيمينه وإن كان غير ذلك فلك أن ترفض الرضا بيمينه، ولهذا لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحويصة ومحيصة: «تبرئكم يهود بخمسين يمينًا. قالوا: كيف نرضى يا رسول الله بأيمان اليهود!» أخرجه البخاري ومسلم، فأقرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ([86]).
الفائدة الخامسة والخمسون
سب الدهر
وسب الدهر ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن يقصد الخبر المحض دون اللوم، فهذا جائز مثل أن يقول: تعبنا من شدة حر هذا اليوم، أو برده وما أشبه ذلك؛ لأن الأعمال بالنيات واللفظ صالح لمجرد الخبر ومنه قول لوط عليه الصلاة والسلام: {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77].
الثاني: أن يسب الدهر على أنه هو الفاعل: كأن يعتقد بسبه الدهر أن الدهر هو الذي يقلب الأمور إلى الخير والشر فهذا شرك أكبر لأنه اعتقد أن مع الله خالقًا لأنه نسب الحوادث إلى غير ذلك وكل من اعتقد أن مع الله خالقًا فهو كافر كما أن من اعتقد أن مع الله إلهًا يستحق أن يعبد فإنه كافر.
الثالث: أن يسب الدهر لا لاعتقاد أنه هو الفاعل، بل يعتقد أن الله هو الفاعل لكن يسبه؛ لأنه محل لهذا الأمر المكروه عنده؛ فهذا محرم، ولا يصل إلى درجة الشرك، وذلك لأنه سبُّه إياه لا يخلو إما أن يعتقد أنه هو الفاعل وهذا شرك، وإما ألا يعتقد أن الله هو الفاعل فتكون حقيقة السب لله عز وجل؛ لأن الله تعالى هو الذي يصرفه ويكون فيه ما أراد من خير أو من شر فليس الدهر فاعلاً فسبه في الحقيقة يعود إلى سب الله عز وجل، فيكون هذا محرمًا وليس بشرك لأنه لم يسب الله تعالى مباشرة ([87]).
الفائدة السادسة والخمسون
استعمال (لو) على عدة أوجه
الوجه الأول: أن تستعمل في الاعتراض على الشرع.
وهذا محرم؛ قال تعالى: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران: 168] في غزوة أحد حينما تخلف أثناء الطريق عبد الله بن أبيٍّ في نحو ثلث الجيش فلما استشهد من المسلمين سبعون رجلاً اعترض المنافقون على تشريع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: لو أطاعونا ورجعوا كما رجعنا ما قتلوا فرأيُنا خير من شرع محمد وهذا محرم وقد يصل إلى الكفر.
الثاني: أن تستعمل في الاعتراض على القدر.
وهذا محرم أيضًا؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران: 156]؛ أي لو أنهم بقوا ما قتلوا؛ فهم يعترضون على قدر الله.
الثالث: أن تستعمل للندم والتحسر.
وهذا محرم أيضًا؛ لأن كل شيء يفتح الندم عليك فإنه منهي عنه؛ لأن الندم يكسب النفس حزنًا وانقباضًا والله يريد منا أن نكون في انشراح وانبساط قال - صلى الله عليه وسلم -: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا فإن "لو" تفتح عمل الشيطان»([88]).
مثال ذلك: رجل حريص أن يشتري شيئا يظن أن فيه ربحا فخسر فقال: لو أني ما اشتريته ما حصل لي خسارة. فهذا ندم وتحسر ويقع كثيرا وقد نهي عنه.
الرابع: أن تستعمل في التمني.
وحكمه حسب المتمني إن كان خيرًا فخير وإن كان شرًا فشر، وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة النفر الأربعة قال أحدهم: «لو أن عندي مال فلان لعملت فيه عمل فلان». فهذا تمنى خيرًا، وقال الثاني: «لو أن عندي مال فلان الذي ينفقه في غير مرضاة الله». فهذا تمنى شرًا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأول: «فهو بنيته فهما بالأجر سواء». وقال في الثاني: «فهو بنيته فهما في الوزر سواء».
الخامسة: أن تستعمل في الخير المحض.
وهذا جائز، مثل: لو حضرت الدرس لاستفدت. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم»([89]). فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لو علم أن هذا الأمر سيكون من الصحابة ما ساق الهدي ولأحل، وهذا هو الظاهر لي.
وبعضهم قال: إنه من باب التمني؛ كأنه قال: ليتني استقبلت من أمري ما استدبرت حتى لا أسوق الهدي؛ فالظاهر أنه خبر؛ لما رأى من أصحابه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتمنى شيئًا قدر الله خلافه ([90]).
الفائدة السابعة والخمسون
فوائد الإيمان بالقدر
وللإيمان بالقدر فوائد عظيمة منها:
1- أنه من تمام توحيد الربوبية.
2- أنه يوجب صدق الاعتماد على الله عز وجل؛ لأنك إذا علمت أن كل شيء بقضاء الله وقدره صدق اعتمادك على الله.
3- أنه يوجب للقلب الطمأنينة إذا علمت أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
4- منع إعجاب المرء بعمله إذا عمل عملاً يشكر عليه؛ لأن الله هو الذي من عليه وقدره له؛ قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ} [الحديد: 22، 23] أي فرح بطر وإعجاب بالنفس.
5- عدم حزنه على ما أصابه، لأنه من ربه فهو صادر عن رحمة وحكمة.
6- أن الإنسان يفعل الأسباب لأنه يؤمن بحكمة الله عز وجل، وأنه لا يقدر الأشياء إلا مربوطة بأسبابها ([91]).
الفائدة الثامنة والخمسون
حالات المسلمين مع المشركين
وليعلم أن لنا مع المشركين ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن لا يكون بيننا وبينهم عهد فيجب قتالهم بعد دعوتهم إلى الإسلام وإبائهم عنه وعن بذل الجزية بشرط قدرتنا على ذلك.
الحال الثانية: أن يكون بيننا وبينهم عهد يستقيمون فيه فهنا يجب الوفاء لهم بعهدهم؛ لقوله تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7]، وقوله: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4].
الحال الثالثة: أن يكون بيننا وبينهم عهد نخاف خيانتهم فيه فهنا يجب أن ننبذ إليهم العهد ونخبرهم أنه لا عهد بيننا وبينهم؛ لقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]([92]).
***
الفائدة التاسعة والخمسون
أقسام القسم
والقسم على الله ينقسم إلى أقسام:
الأول: أن يقسم على ما أخبر الله به ورسوله من نفي أو إثبات، فهذا لا بأس به، وهذا دليل على يقينه بما أخبر الله به ورسوله مثل: والله ليشفعن الله نبيه في الخلق يوم القيامة. ومثل: والله لا يغفر الله لمن أشرك به.
الثاني: أن يقسم على ربه لقوة رجائه وحسن الظن بربه، فهذا جائز لإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في قصة الربيع بنت النضر عمة أنس بن مالك رضي الله عنهما حينما كسرت ثنية لجارية من الأنصار فاحتكموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقصاص فعرضوا عليها الصلح فأبوا فقام أنس بن النضر فقال: أتكسر ثنية الربيع؟ والله يا رسول الله لا تكسر ثنية الربيع. وهو لا يريد به رد الحكم الشرعي فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «يا أنس كتاب الله القصاص، السن بالسن قال: والله لا تكسر ثنية الربيع». وغرضه بذلك أنه لقوة ما عنده من التصميم على أن لا تكسر ولو بذل كل غال ورخيص.
فلما عرفوا أنه مصمم ألقى الله في قلوب الأنصار العفو فعفوا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره»([93]) فهو لقوة رجائه بالله وحسن ظنه ألقى الله العفو في قلوب هؤلاء الذين صمموا أمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - على القصاص فعفوا.
فثناء الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليه شهادة بأن الرجل من عباد الله وأن الله أبر قسمه، ولين له هذه القلوب، وكيف لا وهو الذي قال بأنه يجد ريح الجنة دون أحد ولما استشهد وجد به بضعة وثمانون ما بين ضربة بسيف أو رمح، وقيل: إنه لم يعرفه إلا أخته ببنانه»([94]).
ويدل أيضًا لهذا القسم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره»([95]).
القسم الثالث: أن يكون الحامل له الإعجاب بالنفس، وتحجر فضل الله عز وجل وسوء الظن به تعالى، فهذا محرم وهو وشيك بأن يحبط الله عمل هذا المقسم ([96]).
***
الفائدة الستون
القنوط من رحمة الله واليأس من روحه
وللقنوط من رحمه الله واليأس من روحه سببان محذوران:
(أحدهما) أن يسرف العبد على نفسه ويتجرأ على المحارم فيصر عليها ويصمم على الإقامة على المعصية ويقطع طمعه من رحمة الله لأجل أنه مقيم على الأسباب التي تمنع الرحمة فلا يزال كذلك حتى يصير له هذا وصفًا وخلقًا لازمًا وهذا غاية ما يريده الشيطان من العبد ومتى وصل إلى هذا الحد لم يرج له خير إلا بتوبة نصوح وإقلاع قوي.
الثاني: أن يقوى خوف العبد بما جنت يداه من الجرائم ويضعف علمه بما لله من واسع الرحمة والمغفرة ويظن بجهله أن الله لا يغفر له ولا يرحمه ولو تاب وأناب وتضعف إرادته فييأس من الرحمة وهذا من المحاذير الضارة الناشئة من ضعف علم العبد بربه وما له من الحقوق ومن ضعف النفس وعجزها ومهانتها، فلو عرف هذا ربه، ولم يخلد إلى الكسل لعلم أن أدنى سعي يوصله إلى ربه وإلى رحمته وجوده وكرمه ([97]).
***
الفائدة الحادية والستون
الأمن من مكر الله تعالى
وللأمن من مكر الله أيضًا سببان مهلكان:
أحدهما: إعراض العبد عن الدين وغفلته عن معرفة ربه وماله من الحقوق وتهاونه بذلك فلا يزال معرضًا غافلاً مقصرًا عن الواجبات منهمكًا في المحرمات حتى يضمحل خوف الله من قلبه ولا يبقى في قلبه من الإيمان شيء؛ لأن الإيمان يحمل على خوف الله وخوف عقابه الدنيوي والأخروي.
السبب الثاني: أن يكون العبد عابدًا جاهلاً معجبًا بنفسه مغرورًا بعمله لا يزال به جهله حتى يدل بعمله ويزول الخوف عنه، ويرى أن له عند الله المقامات العالية فيصير آمنًا من مكر الله متكلاً على نفسه الضعيفة المهينة، ومن هنا يخذل ويحال بينه وبين التوفيق إذ هو الذي جنى على نفسه؛ فبهذا التفصيل تعرف منافاة هذه الأمور للتوحيد ([98]).
([1]) مختصر معارج القبول ص25-27.
([2]) مختصر معارج القبول ص27-29.
([3]) مختصر معارج القبول، ص32.
([4]) مختصر معارج القبول، ص37.
([5]) حسنه الألباني في الصحيحة رقم 1503، صحيح الجامع 1113.
([6]) أي مغلقة.
([7]) سنده صحيح، قاله الألباني في الصحيحة رقم 134.
([8]) صحيح الجامع الصغير 1772.
([9]) مختصر معارج القبول ص95.
([10]) رواه البخاري.
(2) ([12]) صحيح الجامع الصغير 2548.
([13]) مختصر معارج القبول 127.
([14]) صحيح الجامع 6270
([15]) صحيح الجامع الصغير 1638.
([16]) مختصر معارج القبول 141.
([17]) صحيح الجامع الصغير 4460.
([18]) رواه البخاري.
([19]) صحيح الجامع الصغير 2546.
([20]) مختصر معارج القبول 145.
([21]) فدك: قرية بخيبر.
([22]) قنبر: اسم رجل.
([23]) اسم من أسماء الأسد ويقصد بذلك عليًّا بن أبي طالب رضي الله عنه.
([24]) الأفصح.
([25]) يقال: هو بطين إذا عظم بطنه.
([26]) من الحَط وهو الوضع أو الحد من علو أي أنهم ينتقصونه وينزلون من قدره ويخفضون من شأنه.
([27])وهما من أئمة المعتزلة.
([28]) مختصر معارج القبول 396 - 401.
([29]) صحيح السلسلة الصحيحة 1492 وصحيح الجامع 1082.
([30]) المكاء: الضفير.
([31]) التصدية: التصفيق.
([32]) حديث حسن صحيح.
([33]) مختصر معارج القبول 435-440.
([34]) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص17.
([35]) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص80.
([36]) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص81.
([37]) فتح المجيد 95.
([38]) فتح المجيد 225.
([39]) فتح المجيد 242.
([40]) فتح المجيد 321.
([41]) فتح المجيد 348.
([42]) فتح المجيد 350.
([43]) فتح المجيد ص380.
([44]) فتح المجيد 458.
([45]) فتح المجيد 52.
([46]) شرح ثلاثة الأصول 52.
([47]) شرح ثلاثة الأصول 54.
([48]) رواه الترمذي.
([49]) شرح ثلاثة الأصول 58.
([50]) أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه.
([51]) أخرجه أبو داود وابن ماجه.
([52]) رواه مسلم.
([53]) أخرجه الترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه.
([54]) شرح ثلاثة الأصول 59.
([55]) شرح ثلاثة الأصول 60.
([56]) شرح ثلاثة الأصول 62.
([57]) شرح ثلاثة الأصول 110.
([58]) شرح ثلاثة الأصول 121.
([59]) شرح ثلاثة الأصول 131.
([60]) كتاب القول السديد في مقاصد التوحيد للشيخ عبد الرحمن السعدي ص3.
([61]) كتاب القول السديد في مقاصد التوحيد ص16.
([62]) رسائل في العقيدة ص5.
([63]) رسائل في العقيدة ص9.
([64]) رسائل في العقيدة 43.
([65]) رسائل في العقيدة 115.
([66]) رسائل في العقيدة 115.
([67]) شرح العقيدة الواسطية ص179.
([68]) القول المفيد على كتاب التوحيد 1/28.
([69]) القول المفيد على كتاب التوحيد 1/85.
([70]) رواه مسلم.
([71]) القول المفيد على كتاب التوحيد 1/154.
([72]) القول المفيد على كتاب التوحيد 1/80.
([73]) الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد 194.
([74]) القول المفيد على كتاب التوحيد 1/191.
([75]) رواه مسلم.
([76]) القول المفيد 1/271.
([77]) القول المفيد، 1/376.
([78]) أخرجه أحمد، وأبو داود والنسائي والحاكم.
([79]) القول المفيد 1/387.
([80]) القول المفيد على كتاب التوحيد 2/5.
([81]) القول المفيد 2/36.
([82]) أخرجه البخاري ومسلم.
([83]) القول المفيد 2/211.
([84]) القول المفيد 2/215.
([85]) القول المفيد 2/264.
([86]) القول المفيد 2/334.
([87]) القول المفيد: 2/351.
([88]) أخرجه مسلم.
([89]) أخرجه البخاري ومسلم.
([90]) القول المفيد على كتاب التوحيد 3/122.
([91]) القول المفيد 3/171.
([92]) القول المفيد 3/244.
([93]) أخرجه البخاري ومسلم.
([94]) أخرجه البخاري ومسلم.
([95]) أخرجه مسلم.
([96]) القول المفيد على كتاب التوحيد 3/261.
([97]) القول السديد في مقاصد التوحيد 104.
([98]) كتاب القول السديد في مقاصد التوحيد ص104.