الوصف المفصل
الجن .. صفاتهم وسبل الوقاية منهم
عبد الحميد بن عبد الرحمن السحيباني
بسم الله الرحمن الرحيم
مقـدمــة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف خلقه، وأفضل رسله محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن من أهم الموضوعات التي لابد للمسلم أن يعرفها بجلاء, موضوع المخلوق المقابل للإنس، وهو الجن، ذلك المخلوق العجيب الذي امتلأت بذكره آيات القرآن، ودواوين السنة الشريفة، وتحدث عنهم أئمة الإسلام في مصنفاتهم الكثيرة.
ولأجل تلك المساحة الواسعة التي تركها موضوعها الجن في الكتاب والسنة، ودواوين الإسلام الكثيرة رأيت أن من الأهمية بمكان أن أفرد مصنفًا مختصرًا يعرف بهم، ويذكر صفاتهم، ويبين خيرهم وشرهم، والوسائل التي تعين على اتقاء شرهم، لا سيما في هذا الزمان الذي عم فيه الجهل، وكثر فيه الاتصال بالسحرة والكهان الذين يأخذون من كفرة الجن ليضلوا ويُضلوا.
كما أن في الحديث عنهم إرشادًا وتنبيهًا لما أصيب به كثير من الناس في زماننا هذا من تسلط كفرة الجن عليهم بالصرع، ليعلم هؤلاء المصابون بهذا الأمر أنه ابتلاء واختبار، وأن من أصيب بذلك فصبر كان جزاؤه الجنة؛ كما ورد ذلك في قصة المرأة التي كانت تصرع.
والموضوع له دقائق وخفايا مبثوثة في الكتب، لا تعرف إلا عن طريق كثرة النظر والتدقيق، وقد حاولت قدر جهدي استخراج ذلك في هذا المؤلف الصغير، وقسمت الموضوع إلى أربعة أمور رئيسة، وجعلت تحتها من الفروع ما توصلت إليه من العلوم المبثوثة في كتب أهل الإسلام، وهذه الأمور هي:
1- التعريف بهم مع الشرح والبيان.
2- ذكر صفاتهم.
3- بيان إيذاء الجن للإنس وكيفية ذلك.
4- سبل الوقاية من شرهم.
وقد بذلت في ذلك كل ما أملكه من جهد ووقت، والله تعالى أسأل أن يجعله في ميزان الحسنات يوم الدين، وأن ينفع به المسلمين أجمعين، وما توفيقي إلا بالله، وعليه أتوكل، وبه أستعين، وصلى الله وسلم على نبيه الأمين الكريم، وعلى جميع الصحب والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
كتبه
عبد الحميد بن عبد الرحمن السحيباني
في 28/8/1420هـ
* * * *
تعريف الجن: لغة واصطلاحًا
الجن لغة: اسم جنس جمعي، واحده جني، وهو مأخوذ من الاجتنان، وهو التستر والاستخفاء. وقد سموا بذلك لاجتنانهم من الناس فلا يرون([1])، والجمع جنان، وهم الجنة([2]).
وكل شيء وقيت به نفسك، واستترت به فهو جنة، ومنه قول النبي ﷺ فيما أخرجه البخاري في كتاب الصوم: «والصيام جنة» أي وقاية، حيث يقي صاحبه من المعاصي.
وسمي الجنين جنينًا لاستتاره في بطن أمه، ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ}([3])([4]).
وسميت الجنة – بفتح الجيم – بذلك لكثرة شجرها، بحيث يستر بعضها بعضًا([5]).
وأما الجن اصطلاحًا فهم: نوع من الأرواح العاقلة المريدة المكلفة على نحو ما عليه الإنسان، مجردون عن المادة، مستترون عن الحواس، لا يرون على طبيعتهم وصورتهم الحقيقية، يأكلون ويشربون ويتناكحون، ولهم ذرية، محاسبون على أعمالهم في الآخرة([6]).
فإن قال قائل: وما الفرق بين الجن والشياطين؟
فالجواب: أن الشياطين هم مردة الجن، ومنه قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ...} الآية ([7]).
وواحد الشياطين شيطان، مأخوذ من شطن بمعنى بعد ولا يقتصر هذا اللفظ على مردة الجن فقط، بل يطلق كذلك على كل عارم ومؤذ من الجن والإنس، قال الله تعالى: {شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ}([8])، وقال سبحانه عن المنافقين: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ}([9]) أي إلى أصحابهم من الجن والإنس([10]).
حكم الإيمان بوجود الجن
إن قال قائل: وما حكم الإيمان والاعتراف بوجود الجن؟ وهل على من أنكر وجودهم ذنب؟
فالجواب أن يقال: قد دل الكتاب العزيز والسنة المطهرة على وجودهم – كما سيأتي- ودل عليه كذلك الإجماع، وعليه فإنه لا يجوز لأي أحد من الناس إنكارهم، ولذا قال جمع من أهل العلم: إنه يكفر من أنكرهم، ففي كتاب «الفصل في الملل والأهواء والنحل»([11]) لابن حزم قوله: «وأجمع المسلمون كلهم على ذلك – أي على وجود الجن وأنهم خلق من خلق الله – نعم والنصارى والمجوس والصابئون وأكثر اليهود حاشا السامرة فقط، فمن أنكر الجن أو تأول فيهم تأويلاً يخرجهم به عن هذا الظاهر, فهو كافر مشرك حلال الدم والمال».
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن، ولا في أن الله أرسل محمدًا ﷺ إليهم، وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن، أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهم مقرون بهم كإقرار المسلمين، وإن وجد فيهم من ينكر ذلك كما يوجد في طوائف المسلمين كالجمهية والمعتزلة من ينكر ذلك، وإن كان جمهور الطائفة وأئمتها مقرين بذلك؛ وهذا لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء تواترًا معلومًا بالاضطرار، ومعلوم بالاضطرار أنهم أحياء عقلاء فاعلون بالإرادة، بل مأمورون منهيون، ليسوا صفات وأعراضًا قائمة بالإنسان أو غيره كما يزعم بعض الملاحدة، فلما كان أمر الجن متواترًا عن الأنبياء تواترًا ظاهرًا، تعرفه العامة والخاصة لم يمكن طائفة كبيرة من الطوائف المؤمنين بالرسل أن تنكرهم، كما لم يمكن لطائفة كبيرة من الطوائف المؤمنين بالرسل إنكار الملائكة، ولا إنكار معاد الأبدان، ولا إنكار عبادة الله وحده لا شريك له، ولا إنكار أن يرسل الله رسولاً من الإنس إلى خلقه، ونحو ذلك مما تواترت به الأخبار عن الأنبياء تواترًا تعرفه العامة والخاصة، كما تواتر عند العامة والخاصة مجيء موسى إلى فرعون، وغرق فرعون، ومجيء المسيح إلى اليهود وعداوتهم له، وظهور محمد ﷺ بمكة وهجرته إلى المدينة، ومجيئه بالقرآن والشرائع الظاهرة، وجنس الآيات الخارقة التي ظهرت على يديه، كتكثير الطعام والشراب، والإخبار بالغيوب الماضية والمستقبلة التي لا يعلمها بشر إلا بإعلام الله وغير ذلك ([12]).
* * * *
صفات الجن
إن الناظر في عالم الجن الكبير لا يمكنه معرفتهم معرفة جيدة حتى يدرس أوصافهم التي وردت في الكتاب العزيز وفي السنة الصحيحة، ولذا كان لابد من الحديث عن أوصافهم بوضوح، وأنا مبين ذلك في الأمور التالية:
1- أنهم خلقوا من نار، قال الله عز وجل: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ}([13])، وقال: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}([14]).
وأخرج مسلم في كتاب الزهد والرقاق من صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: «خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم».
2- أنهم أقدم خلقًا من الإنس، قال الألوسي في تفسيره «روح المعاني»([15]) عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ}([16]): «وتقديم الجن؛ لأنهم أعرف من الإنس، وأكثر عددًا، وأقدم خلقًا».
3- أنهم يأكلون ويشربون، ودليل ذلك ما ثبت في صحيح مسلم في كتاب الأشربة من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله». وثبت في سنن أبي داود، كتاب الطهارة، عن ابن مسعود t قال: «قدم وفد الجن على النبي ﷺ فقالوا: يا محمد، انهَ أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو حممة، فإن الله تعالى جعل لنا فيها رزقًا، فنهى النبي ﷺ عن ذلك». والحممة: الفحمة.
وقد قيل: إن طعام المؤمنين منهم ما ذكر اسم الله عليه، وطعام الكفار ما لم يذكر اسم الله عليه، قاله عماد الدين العامري في كتابه «بهجة المحافل».
وقال ابن عبد البر معلقًا على ما ذكر في السنة من أن طعام الجن العظم والروثة، وشرابهم الجدف، وهي الرغوة والزبد , هذه أشياء لا تدرك بعقل، ولا تقاس على أصل، وإنما فيه التسليم لمن آتاه الله من العلم ما لم يؤتنا وهو نبينا ﷺ وقال: «ويحتمل أن الجن كلهم يأكلون ويشربون ويحتمل أن يكون بعضهم»([17]).
وجاء في شرح الزرقاني: وقال ابن العربي: «من نفى عن الجن الأكل والشرب فقد وقع في حبالة إلحاد وعدم رشاد، بل الشيطان وجميع الجان يأكلون ويشربون وينكحون ويولد لهم، ويموتون، وذلك جائز عقلاً، وورد به الشرع، وتظافرت به الأخبار فلا يخرج عن هذا المضمار إلى حمار، ومن زعم أن أكلهم شم فما شم رائحة العلم، وقال صاحب آكام المرجان: «العمومات تقتضي أن كل أصناف الجن يأكلون ويشربون». اهـ.
4- أنهم يتناكحون ويتناسلون، ولهم ذرية.
قال الله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي}([18])، قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: «وذرية إبليس: الشياطين الذين يغرون بني آدم»([19])، وأخرج بسنده عن مجاهد {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} قال: ذريته: هم الشياطين»([20]).
ومما يستدل به على أن الجن يتناكحون ويتناسلون ما ثبت في الصحيحين وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي وأبي داود، عن أنس بن مالك t قال: كان رسول الله ﷺ إذا دخل الخلاء قال: «اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» قال في «عون المعبود شرح سنن أبي داود»([21]): «قال الخطابي: الخبث الشياطين وإناثهم الخبث بضم الباء جماعة الخبيث، والخبائث جمع خبيثة، يريد ذكران الشياطين وإناثهم». اهـ.
وإن قال قائل: هل يمكن التناكح بين الإنس والجن؟
قيل: الجواب ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: «وقد يتناكح الإنس والجن، ويولد بينهما ولد، وهذا كثير معروف»([22]). اهـ. قلت: ويمكن الاستدلال على ذلك بقوله تعالى عن الحور: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ}([23])، قال ابن الجوزي في «زاد المسير»([24]). «وفي الآية دليل على أن الجني يغشى المرأة كالإنسي». اهـ.
5- أنه يرحم بعضهم بعضًا.
ودليل ذلك ما أخرجه مسلم في كتاب التوبة من صحيحة عن أبي هريرة t عن النبي ﷺ قال: «إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها وأخر الله تسعًا وتسعين رحمة، يرحم بها عباده يوم القيامة».
6- أنهم مكلفون.
قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}([25]).
قال ابن القيم يرحمه الله: «أخبر سبحانه أنه إنما خلقهم للعبادة، وكذلك إنما أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه ليعبدوه، فالعبادة هي الغاية التي خلقوا لها، ولم يخلقوا لمجرد الترك فإنه أمر عدمي لا كمال فيه من حيث هو عدم، بخلاف امتثال المأمور؛ فإنه أمر وجودي، مطلوب الحصول»([26]). ا هـ.
وثبت في سنن الترمذي من حديث أبي هريرة t أن النبي ﷺ قال: «فضلت على الأنبياء بست» وذكر منها قوله: «وأرسلت إلى الخلق كافة» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
والمراد من قوله ﷺ: «وأرسلت إلى الخلق كافة» أي جنهم وإنسهم كما أخرج ما يشهد لذلك الدارمي في المقدمة من سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قيل له: فما فضله على الأنبياء؟ أي النبي ﷺ، فقال ابن عباس: قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}([27])، وقال الله عز وجل لمحمد ﷺ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ}([28]) فأرسله إلى الجن والإنس. وقال ابن حجر: «وإذا تقرر كونهم مكلفين فهم مكلفون بالتوحيد وأركان الإسلام وأما ما عداه من الفروع فاختلف فيه لما ثبت من النهي عن الروث والعظم وأنهما زاد الجن»([29]).
7- أن منهم المسلم والكافر، والصالح والفاسد.
قال الله تعالى مخبرًا عن الجن قولهم: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا}([30])، قال البغوي في تفسيره «معالم التنزيل»([31]): قوله: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي دون الصالحين. {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} أي جماعات متفرقين وأصنافًا مختلفة، والقدة: القطعة من الشيء، يقال: صار القوم قددًا إذا اختلفت حالاتهم، وأصلها من القد وهو القطع. قال مجاهد: يعنون: مسلمين وكافرين.
وقيل ذوو أهواء مختلفة. وقال الحسن والسدي: الجن أمثالكم فمنهم قدرية، ومرجئة ورافضة. وقال ابن كيسان: شيعًا وفرقًا لكل فرقة هوى كأهواء الناس. وقال سعيد بن جبير: ألوانًا شتى، وقال أبو عبيدة: أصنافًا. اهـ.
وقال سبحانه مخبرًا عنهم كذلك: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا}([32])، والقاسطون: الكافرون. ومما يشهد لوجود المسلمين الصادقين من الجن قوله سبحانه: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}([33]).
وهذا فيه إشارة عميقة إلى مدى التأثر الكبير الذي وقع لهؤلاء المؤمنين من الجن بالقرآن الذي استمعوا إليه، ويكشف عن تلك الميزة العظيمة التي اتسموا بها، عندما أصبحوا دعاة لقومهم إلى الإيمان والإسلام، وهي لحظات تجلب للقلب الخشوع واليقين، وفي الوقت نفسه تنذر وتهدد كل معرض عن القرآن والإيمان به أنه إن لم يخضع لخطاب هذا الكتاب، ويستسلم لمنزله فليس له جزاء إلا النار، وبئس القرار: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا}([34])، وهي كذلك تحفز نفوس المؤمنين إلى الجد في تبليغ الإسلام، ودعوته إلى الناس: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}([35]).
ومما يستدل به كذلك على أن من الجن مسلمين مؤمنين ما أخرجه مسلم في كتاب الصلاة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما قرأ رسول الله ﷺ على الجن وما رآهم. انطلق رسول الله ﷺ في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ([36])، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء. وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب. قالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث. فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها. فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة، وهو بنخل ([37])، عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له. وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا! إنا سمعنا قرآنا عجبًا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدًا. فأنزل الله عز وجل على نبيه محمد ﷺ: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ}.
ومما يستدل به كذلك على وجود المسلمين من الجن ما أخرجه مسلم كذلك في كتاب التفسير من صحيحه عن عبد الله ([38]): {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}([39]) قال: كان نفر من الإنس يعبدون نفرًا من الجن، فأسلم النفر من الجن، واستمسك الإنس بعبادتهم، فنزلت: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}.
وللمسلمين من الجن أعمال طيبة، وأفعال حسنة مثل ما ورد في شعب الإيمان للبيهقي أنهم يأمرون بالخير، ويكفون عن الكذب والشر، ومثل ما جاء في معجم الطبراني الكبير أن منهم من ينبه العبد إلى التوحيد ويحذره من الشرك ([40])، ومثل ما جاء في مسند البزار أن منهم من يصلي مع المؤمن إذا صلى، ويقرأ بقراءته ويستمع إليه([41])، ونحو ما ورد من بكاء نفر منهم على قتل عمر كما في مصنف ابن أبي شيبة([42])، والسنة للخلال([43])، وبكائهم كذلك على قتل عثمان كما في السنة للخلال كذلك([44]) وبكائهم على قتل الحسين([45]).
وإن قال قائل: هل في الجن من يعد صحابيًا؟
فيقال له: قال ابن حجر وهو يتحدث عن قول البخاري في تفسير الصحابي بأنه من صحب النبي ﷺ أو رآه من المسلمين: «وهل يختص ذلك بجميع بني آدم أو يعم غيرهم من العقلاء؟ محل نظر، أما الجن فالراجح دخولهم لأن النبي ﷺ بعث إليهم قطعًا، وهم مكلفون، فيهم العصاة والطائعون، فمن عرف اسمه منهم لا ينبغي التردد في ذكره في الصحابة وإن كان ابن الأثير عاب على أبي موسى ([46]) فلم يستند في ذلك إلى حجة»([47]) اهـ.
8- محاولة الشياطين منهم استراق السمع ليعينوا من يطيعهم من شياطين الإنس من السحرة وغيرهم.
ويشهد لذلك ما أخرجه مسلم في كتاب السلام من صحيحه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: أخبرني رجل من أصحاب النبي ﷺ من الأنصار أنهم بينما هم جلوس ليلةً مع رسول الله ﷺ رمي بنجم فاستنار، فقال لهم رسول الله ﷺ: «ماذا كنتم تقولون في الجاهلية، إذا رمي بمثل هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. كنا نقول: ولد الليل رجل عظيم، ومات رجل عظيم. فقال رسول الله ﷺ: فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته. ولكن ربنا تبارك وتعالى اسمه إذا قضى أمرًا سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا، ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ماذا قال. قال: فيستخبر بعض أهل السموات بعضًا حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا فتخطف الجن السمع، فيقذون إلى أوليائهم، ويرمون به، فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون».
قال النووي: ومعنى يقرفون: يخلطون فيه الكذب. والشاهد قوله: فتخطف الجن السمع، فيقذفون إلى أوليائهم، ويرمون به، ويوضح ذلك رواية أخرى في كتاب السلام كذلك من صحيح مسلم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل أناس رسول الله ﷺ عن الكهان؟ فقال لهم رسول الله ﷺ: «ليسوا بشيء» قالوا: يا رسول الله! فإنهم يحدثون أحيانًا الشيء يكون حقًا، قال رسول الله ﷺ: «تلك الكلمة من الجن، يخطفها الجني، فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة».
قال الخطابي وغيره: معناه أن الجني يقذف الكلمة إلى وليه الكاهن فتسمعها الشياطين، كما تؤذن الدجاجة بصوتها صواحباتها فتتجاوب. اهـ.
وفي هذا دليل على تحريم الكهانة وإتيان الكهان وحث على منع ذلك كما قال الماوردي في الأحكام السلطانية: «ويمنع المحتسب الناس من التكسب بالكهانة واللهو ويؤدب عليه الآخذ والمعطي». اهـ.
9- أن الشياطين منهم من يكذب الكذب العظيم، وقد دل على ذلك الحديثان السابقان.
10- أن المردة منهم يشدون ويوثقون بالأغلال عند دخول رمضان بحيث لا يخلصون من افتتان المسلمين إلى ما يخلصون إليه في غيره لاشتغالهم بالصيام الذي فيه قمع الشهوات، وبقراءة القرآن والذكر([48])، ويشهد لذلك ما أخرجه الترمذي في كتاب الصوم من سننه عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم تفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار» هذا لفظ الترمذي، ورواه بنحوه البخاري ومسلم. قال في «تحفة الأحوذي»([49]): «وأما ما يوجد خلاف ذلك في بعضهم فإنها تأثيرات من تسويلات الشياطين أغرقت في عمق تلك النفوس وباضت في رءوسها». اهـ.
11- أنهم لا يعلمون الغيب كغيرهم من المخلوقين.
قال الله تعالى عند ذكر موت نبيه سليمان عليه الصلاة والسلام: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}([50]).
قال القرطبي: «قيل كان رؤساء الجن سبعة، وكانوا منقادين لسليمان u وكان داود u أسس بيت المقدس، فلما مات أوصى إلى سليمان في إتمام مسجد بيت المقدس، فأمر سليمان الجن به، فلما دنت وفاته قال لأهله: لا تخبرهم بموتي حتى يتمنوا بناء المسجد، وكان بقي لإتمامه سنة. وفي الخبر أن ملك الموت كان صديقه، فسأل عن آية موته، فقال: أن تخرج من موضع سجودك شجرة يقاتل لها: الخرنوبة، فلم يكن يوم يصبح فيه إلا تنبت في بيت المقدس شجرة، فيسألها: ما اسمك؟ فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا، فيقول: ولأي شيء أنت؟ فتقول: لكذا وكذا، فيأمر بها فتقطع، ويغرسها في بستان له، ويأمر بكتب منافعها ومضارها، واسمها وما تصلح له في الطب، فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة نبتت بين يديه، فقال لها: ما اسمك؟ قالت: الخرنوبة، قال: ولأي شيء أنت؟ قالت: لخراب هذا المسجد، فقال سليمان: ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت الذي على وجهك هلاكي وهلاك بيت المقدس! فنزعها وغرسها في حائطه، ثم قال: اللهم عم عن الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب. وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء، وأنهم يعلمون ما في غد، ثم لبس كفنه، وتحنط، وخل المحراب، وقام يصلي واتكأ على عصاه على كرسيه، فمات ولم تعلم الجن إلى أن مضت سنة، وتم بناء المسجد.
قال أبو جعفر النحاس: وهذا أحسن ما قيل في الآية، ويدل على صحته الحديث المرفوع، روى إبراهيم بن طهمان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال: «كان نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه، فيسألها ما اسمك؟ فإن كانت لغرس غرست، وإن كانت لدواء كتبت، فبينما هو يصلي ذات يوم إذا شجرة نابتة بين يديه، قال: ما اسمك؟ قالت: الخرنوبة، فقال: لأي شيء أنت؟ فقالت: لخراب هذا البيت، فقال: اللهم عمِّ عن الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، فنحتها عصا، فتوكأ عليها حولاً لا يعلمون، فسقطت، فعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، فنظروا مقدار ذلك، فوجدوه سنة».
وقال القرطبي كذلك: وفي التفسير بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس، قال: أقام سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام حولاً لا يعلم بموته وهو متكئ على عصاه، والجن منصرفة فيما كان أمرها به، ثم سقط بعد حول، فلما خر تبينت الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ([51]).
والحديث أخرجه الحاكم في مستدركه، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
12- أنه يمكن خروجهم عن أصل خلقتهم التي هي كونهم لا يرون، فيتشكلون ويرون، وفي ذلك وجوه عديدة:
أ- أتيانهم في صورة بشر، ومما يستدل به على ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ}([52])، وهذا كان يوم بدر، عندما تمثل إبليس في صورة رجل، فقال ما قال، وخدع المشركين.
وقصة أبي هريرة t مع الشيطان الذي جاءه في صورة رجل لما وكله رسول الله ﷺ بحفظ زكاة رمضان معروفة معلومة ثابتة في كتاب الوكالة وغيره من صحيح البخاري.
ب- إتيانهم في صورة الكلب الأسود، ويدل على ذلك ما أخرجه مسلم في كتاب الصلاة من صحيحه عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر t قال: قال رسول الله ﷺ «إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار، والمرأة، والكلب الأسود» قلت: يا أبا ذر، ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر، من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي، سألت رسول الله ﷺ كما سألتني، فقال:« الكلب الأسود شيطان». ورواه بنحوه الترمذي في كتاب الصلاة من سننه، والنسائي في كتاب القبلة، وأبو داود كذلك في الصلاة، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها، وأحمد في مسنده، والدارمي في كتاب الصلاة من سننه، كلهم من حديث عبد الله ابن الصامت عن أبي ذر.
وهناك ما يدل على أن الأسود هو اللون الذي اختصت به الجن، وهو ما أخرجه أحمد في مسنده عن أبي ذر t قال: قال رسول الله ﷺ: «أوتيت خمسًا لم يؤتهن نبي كان قبلي، نصرت بالرعب، فيرعب مني العدو عن مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد كان قبلي، وبعثت إلى الأحمر والأسود، وقيل لي: سل تعطه، فاختبأتها شفاعة لأمتي، وهي نائلة منكم إن شاء الله، من لقي الله عز وجل لا يشرك به شيئًا»، قال الأعمش – وهو الشاهد هنا -: فكان مجاهد يرى أن الأحمر الإنس، والأسود الجن.
وفي معجم شيوخ أبي بكر الإسماعيلي: عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قال علي بن أبي طالب t: «الجن الكلاب المعينة» وقد قال رسول الله ﷺ: «اقتلوا الأسود البهيم ذا النقطتين فإنه شيطان). قال ابن عبد البر: «وقد قالوا: إن الأسود البهيم شيطان أي بعيد من المنافع قريب من المضرة والأذى، وهذه أمور لا تدرك بنظر، ولا يتوصل إليها بقياس، وإنما ينتهى فيها إلى ما جاء عنه ﷺ»([53]).
ومال ابن عبد البر يرحمه الله إلى أنه لا يقتل شيء من الكلاب حتى الأسود إذا لم تضر أحدًا، ولم تعقر أحدًا؛ لنهيه ﷺ أن يتخذ شيء فيه الروح غرضًا، ولأن الأمر بقتل الكلاب منسوخ بمثل قوله ﷺ كما في سنن أبي داود: «خمس من الدواب يقتلن في الحل والحرم».
فذكر منهن الكلب العقور؛ فخص العقور دون غيره، لأن كل ما يعقر المؤمن ويؤذيه ويقدر عليه فواجب قتله.
قال: ومن الحجة في ذلك كذلك ترك قتلها في كل الأمصار على اختلاف الأعصار بعد مالك رحمه الله، وفيهم العلماء والفضلاء ممن يذهب مذهب مالك وغيره، ممن لا يسامح في شيء من المناكر والمعاصي الظاهرة إلا ويبدر إلى إنكارها، وينبت إلى تغييرها.
وأما قول من ذهب إلى قتل الأسود منها بأنه شيطان على ما روي في ذلك فلا حجة فيه؛ لأن الله عز وجل قد سمى من غلب عليه الشر من الإنس والجن شيطانًا بقوله: {شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ}([54]) ولم يجب بذلك قتله ([55]).
جـ- إتيانهم في صور الحيات التي تلازم البيوت، ويشهد لذلك ما أخرجه مسلم في كتاب السلام من صحيحه عن أبي سعيد الخدري t قال: قال رسول الله ﷺ: «إن بالمدينة نفرًا من الجن قد أسلموا فمن رأى شيئًا من هذه العوامر فليؤذنه ثلاثًا فإن بدا له بعد فليقتله فإنه شيطان». والمراد بالعوامر: الحيات التي تلازم البيوت وغالبًا ما تكون من الجن، كما في مسند أحمد من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: «الحيات مسخ الجن».
د- إتيانهم في صور الهوام؛ وهي الحشرات الضارة، ويدل على ذلك ما أخرجه أبو داود في كتاب الأدب من حديث أبي سعيد الخدري t قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الهوام من الجن، فمن رأى في بيته شيئًا فليحرج عليه ثلاث مرات فإن عاد فليقتله فإنه شيطان».
13- سرعة الحركة والقدرة على الأعمال الشاقة.
إن عالم الجن عالم عجيب، ومن أشد أوجه العجب فيهم قدرتهم على سرعة التنقل؛ كما يشهد بذلك قوله سبحانه: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}([56]) حيث تكفل هذا العفريت من الجن بإحضار عرش بلقيس ملكة سبأ قبل قيام سليمان عليه الصلاة والسلام من مجلسه، وهذا دليل على تحركهم السريع.
ومن أوجه العجب فيهم كذلك قدرتهم على القيام بالأعمال الشاقة؛ نحو ما أخبر الله عز وجل به من أن من الجن من يعمل لسليمان ﷺ القصور والمحاريب، والجفان الواسعة للطعام، وحياض الماء الكبيرة ونحوها؛ كما قال جل شأنه: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}([57]).
* * * *
فصل في إيذاء الجن للإنس وكيفية ذلك
لشياطين الجن بخاصة تأثير على الإنس إذا شاء الله تعالى ذلك؛ إذ إن منهم من يؤذي الإنسي بقتله، أو وخزه لينتج عن ذلك مرض الطاعون، أو بصرعه، إو إصابته بالعين، أو خطفه، أو إيذائه في نومه وجلب الفزع إليه، أو قطع صلاته.
ومنهم من يسترق السمع لإفادة أعوانه من الكهنة والمشعوذين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
وفي السطور التالية أذكر عددًا من صور الشر عند هؤلاء، فمن ذلك:
1- قتلهم للإنسي، ويشهد لذلك ما أخرجه مسلم في كتاب السلام من صحيحه أن أبا السائب دخل على أبي سعيد الخدري t في بيته، قال: فوجدته يصلي، قال: فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكًا في عراجين ([58]) في ناحية البيت، فالتفت فإذا حية، فوثبت لأقتلها، فأشار إلي أن اجلس، فجلست، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار، فقال: أترى هذا البيت؟ فقلتُ: نعم. قال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس. قال: فخرجنا مع رسول الله ﷺ إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله ﷺ بأنصاف النهار، فيرجع إلى أهله، فاستأذنه يومًا، فقال له رسول الله ﷺ: «خذ عليك سلاحك، فإني أخشى عليك قريظة»، فأخذ الرجل سلاحه، ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة، فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به، وأصابته غيرة، فقالت له: اكفف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني. فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج، فركزه بالدار، فاضطربت عليه، فما يدرى أيهما كان أسرع موتًا: الحية أم الفتى؟
قال: فجئنا إلى رسول الله ﷺ فذكرنا ذلك له، وقلنا: ادع الله يحييه لنا، فقال: استغفروا لصاحبكم، ثم قال: «إن بالمدينة جنًا قد اسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان».
فدل هذا الحديث على أن الفتى قتل بسبب تلك الحية التي تمثل واحدًا من الجن، وسيأتي مزيد كلام على هذه الحادثة عند ذكر السبل التي تعين على دفع شر الجن بإذنه تعالى.
2- وخزهم للإنس؛ لينتج عن ذلك مرض الطاعون.
والطاعون: ورم ينشأ عن هيجان الدم، أو انصباب الدم إلى عضو فيفسده ([59]).
والدليل على أنه من وخز الجن ما ثبت في الأحاديث الواردة في ذلك، مثل ما أخرجه أحمد من حديث أبي موسى رفعه: «فناء أمتي بالطعن والطاعون. قيل: يا رسول الله: هذا الطعن قد عرفناه، فما الطاعون؟ قال: وخز أعدائكم من الجن، وفي كل شهادة».
وعن أحمد والحاكم وصححه من رواية عاصم الأحول عن كريب بن الحارث عن أبي بدرة بن قيس أخي أبي موسى الأشعري رفعه: «اللهم اجعل فناء أمتي قتلاً في سبيلك بالطعن والطاعون».
قال ابن حجر: «ومما يؤيد أن الطاعون إنما يكون من طعن الجن وقوعه غالبًا في أعدل الفصول، وفي أصح البلاد هواء، وأطيبها ماء، ولأنه لو كان بسبب فساد الهواء لدام في الأرض لأن الهواء يفسد تارة، ويصح أخرى، وهذا يذهب أحيانًا ويجئ أحيانًا على غير قياس ولا تجربة، فربما جاء سنة على سنة، وربما أبطأ سنين، وبأنه لو كان كذلك لعم الناس والحيوان، والموجود بالمشاهدة أنه يصيب الكثير، ولا يصيب من هم بجانبهم مما هو في مثل مزاجهم، ولو كان كذلك لعم جميع البدن، وهذا يختص بموضع الجسد ولا يتجاوزه، ولأن فساد الهواء يقتضي تغير على أنه من طعن الجن»([60]).
وقد ثبت في سنن ابن ماجه ومستدرك الحاكم أنه ﷺ قال: «لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا عليهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا»، وأخرج الحاكم كذلك: «إذا كثر الزنا كثر القتل، ووقع الطاعون» فبين في هذين الحديثين أن من أسباب الطاعون انتشار الفاحشة والرذيلة في المجتمع الذي ينشر فيه أسباب الفسق والفاحشة من دعوة للتبرج والسفور، وإعلان الصور الفاضحة والمسلسلات الخليعة التي تخدش الحياء، وتنفر منها الطباع، وتدعو الناس إلى احتذاء سير أصحابها وتقليدهم في فحشهم وفجورهم، ومن ثم كانت عقوبتهم أن يسلط الله عز وجل عليهم الطاعون، الذي يفتك بأجسامهم حتى يموتوا، وقد علق الشيخ المناوي على الحديث المتقدم: «إذا كثر الزنا كثر القتل، ووقع الطاعون» بقوله: «وذلك لأن حد الزنا القتل فإذا لم يقم الحد فيهم سلط الله عليهم الجن فقتلوهم»([61]). اهـ. وكلامه هذا خاص بالزاني المحصن، لأن عقوبته الرجم، وفي تفسيره هذا نظر، ويكفي أن يقال: إن الطاعون عقوبة لأهل الفسق والإجرام كغيره من العقوبات مثل التي ذكرها الله عز وجل في القرآن، مما جازى به سبحانه أهل الزيغ والفساد كما قال جل شأنه: {فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}([62]). ولا يتعارض هذا مع ما ورد أن الطاعون شهادة كما أخرج البخاري في كتاب الطب أنه ﷺ قال: «الطاعون شهادة لكل مسلم». وما ورد كذلك أن الطاعون رحمة من الله عز وجل كما أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه ([63]) وعبد بن حميد في مسنده ([64])، والطبراني في معجمه الكبير([65]) ولفظه مختصرًا عن الحارث بن عميرة الزبيدي قال: وقع الطاعون بالشام، فقام معاذ فخطبهم بحمص فقال: إن هذا الطاعون رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم..
قال ابن حجر بعد إيراده بعض الأحاديث التي تفيد أن الطاعون قد يقع عقوبة بسبب المعصية: «ففي هذه الأحاديث أن الطاعون قد يقع عقوبة بسبب المعصية، فكيف يكون شهادة؟ ويحتمل أن يقال: بل تحصل له درجة الشهادة لعموم الأخبار الواردة.. ولا يلزم من حصول درجة الشهادة لمن اجترح السيئات مساواة المؤمن الكامل في المنزلة، ولأن درجات الشهداء متفاوتة كنظيره من العصاة إذا قتل مجاهدًا في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا مقبلاً غير مدبر. ومن رحمة الله بهذه الأمة المحمدية أن يعجل لهم العقوبة في الدنيا، ولا ينافي ذلك أن يحصل لمن وقع به الطاعون أجر الشهادة، ولا سيما وأكثرهم لم يباشر تلك الفاحشة وإنما عمهم والله أعلم لتقاعدهم عن إنكار المنكر...»([66]).
فإن قال قائل: وهل الإصابة بالطاعون في كل بلد؟
قيل: لا؛ لأن الدليل قد جاء باستثناء مكة والمدينة كما أخرج عمر بن شبة في تاريخ مكة بسند صحيح([67]) عن أبي هريرة t مرفوعًا: «المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة على كل نقب([68]) منهما ملك فلا يدخلهما الدجال ولا الطاعون». وفي حديث أنس عند البخاري في الفتن: «فتجد الملائكة يحرسونها- يعني المدينة- فلا يقربها الدجال ولا الطاعون إن شاء الله تعالى». وقد اختلف في هذا الاستثناء فقيل: للتبرك، فيشملها، وقيل: للتعليق، وأن مقتضاه جواز دخول الطاعون المدينة([69])، والأول أولى؛ لحديث أبي هريرة المتقدم، والله أعلم.
3- أن منهم من يصرع الإنسي، ويؤثر فيه.
وذلك أن من كفرة الجن من يتسلط على عقل الإنسي وجسمه، فيتخبط المصاب في تحركاته وتصرفاته، وقد يصيب الجني جسم الإنسي دون عقله، وكل ذلك من ابتلاء الله تعالى لعباده، كما قال سبحانه: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}([70]).
فإن قيل: ولم يصرع الجني الإنسي؟
قيل: الجواب: إما أن يكون ذلك عن عشق وشهوة وهوى، أو أن يكون عن بغض ومجازاة؛ مثل أن يؤذيهم بعض الإنس، أو يظنوا أنهم يتعمدون أذاهم: إما ببول على بعضهم، وإما بصب ماء حار، وإما بقتل بعضهم، وإن كان الإنسي لا يعرف ذلك – وفي الجن جهل وظلم – فيعاقبونه بأكثر مما يستحقه، وقد يكون عن عبث منهم، وشر بمثل سفهاء الإنس. وفعل الجن في الأمرين السابقين يحتاج إلى بيان؛ وهو أن يقال: ما كان من الأمر الأول فهو من الفواحش المحرمة، ويعرف الجن بذلك، ويعلمون أنه يحكم فيهم بحكم الله ورسوله ﷺ الذي أرسله إلى جميع الثقلين الجن والإنس.
وأما ما كان من الأمر الثاني: فإن كان الإنسي لم يعلم فيخاطب الجن بأن هذا لم يعلم، ومن لم يتعمد الأذى لا يستحق العقوبة، وإن كان قد فعل ذلك في داره وملكه عرفوا بأن الدار ملكه فله أن يتصرف فيها بما يجوز، وأنه ليس للجن أن يمكثوا في ملك الإنس بغير إذنهم، بل لهم ما ليس من مساكن الإنس؛ كالخراب والفلوات، ولهذا يوجدون كثيرًا في الخراب والفلوات، ويوجدون في مواضع النجاسات؛ كالحمامات، والحشوش، والمزابل، والقمامين، والمقابر، والشيوخ الذين تقترن بهم الشياطين، وتكون أحوالهم شيطانية لا رحمانية، يأوون كثيرًا إلى هذه الأماكن التي هي مأوى الشياطين ([71]).
وإن قال قائل: وهل يقع الصرع من النفوس الخبيثة وغير الخبيثة.
قيل: قد أجاب ابن حجر على لك، فقال: «قد يكون الصرع من الجن، ولا يقع إلا من النفوس الخبيثة منهم...» ثم ذكر سبب الصرع على نحو مما تقدم([72])، ولأبي جعفر أحمد بن محمد الطبيب بن أبي الأشعث (ت: 360) كتاب عن الصرع، ذكره في كشف الظنون([73]).
4- أن منهم من يصيب الإنسي بالعين، قال ابن حجر معلقًا على ما أخرجه البخاري في الطب من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي ﷺ رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة ([74])، فقال: «استرقوا لها فإن بها النظرة». قال: «واختلف في المراد بالنظرة، فقيل: عين من نظر الجن، وقيل من الإنس، والأولى أنها أعم من ذلك»([75]).
5- أن من الجن من يخطف الإنسي، وشاهد ذلك ما أخرجه مالك في الموطأ، والشافعي، وعبد الرزاق، وأبو عبيد، والبيهقي، وابن أبي شيبة ([76])، وابن أبي الدنيا، ولفظه: عن عبد الرحمن بن أبي ليلة أن رجلاً من قومه خرج ليصلي مع قومه صلاة العشاء، ففقد، فانطلقت امرأته إلى عمر بن الخطاب، فحدثته بذلك، فسأل عن ذلك قومها، فصدقوها، فأمرها أن تتربص أربع سنين، فتربصت، ثم أتت عمر، فأخبرته بذلك، فسأل عن ذلك قومها، فصدقوها، فأمرها أن تتزوج، ثم إن زوجها الأول قدم، فارتفعوا إلى عمر بن الخطاب، فقال عمر: يغيب أحدكم الزمان الطويل لا يعلم أهله حياته؟ قال: إن لي عذرًا، قال: فما عذرك؟ قال: خرجت أصلي مع قومي صلاة العشاء، فسبتني الجن – أو قال: أصابتني الجن، فكنت فيهم زمانًا، فغزاهم جن مؤمنون، فقاتلوهم، فظهروا عليهم، وأصابوا لهم سبايا، فكنت فيمن أصابوا، فقالوا: ما دينك؟ قلت: مسلم، قالوا: أنت على ديننا، لا يحل لنا سبيك، فخيروني بين المقام وبين القفول، فاخترت القفول، فأقبلوا معي بالليل، يسير يحدو بي وبالنهار – إعصار ريح اتبعها -، قال: فما كان طعامك؟ قال: الفول وما لم يذكر اسم الله عليه، فما كان شرابك؟ قال: الجدف، قال قتادة: الجدف: ما لم يخمر من الشراب، قال: فخيره عمر بين المرأة والصداق.
قال ابن عبد البر رحمه الله في كتابه «التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد» عن الأثر السابق: «هذا خبر صحيح من رواية العراقيين والمكيين مشهور...»([77]).
6- حرصهم على إيذاء المسلم في نومه، ومحاولتهم جلب الفزع إليه، فقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه ([78]) قال: الرجل إذا قام من الليل ما يدعو به: حدثنا عبد الله بن نمير عن زكريا بن أبي زائدة عن مصعب عن يحيى بن جعدة قال: كان خالد بن الوليد يفزع من الليل حتى يخرج ومعه سيفه، فخشي عليه أن يصيب أحدًا، فشكا ذلك إلى رسول الله ﷺ فقال: «إن جبريل قال لي إن عفريتًا من الجن يكيدك، فقل: «أعوذ بكلمات الله التامة التي لا يجاوزهن من بر ولا فاجر، من شر ما ينزل من السماء، وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، وما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقًا يطرق بخير، يا رحمن». فقالهن خالد، فذهب ذلك عنه.
7- الحرص على قطع صلاة المسلم، ففي كتاب أحاديث الأنبياء من صحيح البخاري عن أبي هريرة t عن النبي ﷺ: «إن عفريتًا من الجن تفلت البارحة ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته، فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}([79])، فرددته خاسئًا». قوله ﷺ: «إن عفريتًا من الجن». العفريت هو المتمرد الخبيث([80]).
8- محاولتهم استراق السمع بإفادة الكهان والمشعوذين، ودليل ذلك تقدم، قال ابن حجر: «قال الخطابي: هؤلاء الكهان فيما علم بشهادة الامتحان قوم لهم أذهان حادة، ونفوس شريرة وطبائع نارية، فهم يفزعون إلى الجن في أمورهم، ويستفتونهم في الحوادث، فيلقون إليهم الكلمات»([81]).
وقال ابن حجر كذلك: «قال الخطابي: بين ﷺ أن إصابة الكاهن أحيانًا إنما هي لأن الجني يلقي إليه الكلمة التي يسمعها استراقًا من الملائكة فيزيد عليها أكاذيب يقيسها على ما سمع، فربما أصاب نادرًا، وخطؤه الغالب...»([82]).
9- ملازمة الجني الكافر لكل فرد من الناس، يأمره بكل شر، ودليل ذلك ما أخرجه مسلم في كتاب صفة القيامة من حديث عبد الله بن مسعود t قال: قال رسول الله ﷺ: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن. قالوا: وإياك يا رسول الله، قال: وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير».
وفي مسند أحمد من حديث ابن مسعود كذلك: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة. قالوا: وإياك يا رسول الله، قال: وإياي إلا أن الله أعانني عليه فلا يأمرني إلا بحق».
وفي كتاب الرقاق من سنن الدارمي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: «ما منكم من أحد إلا معه قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة. قالوا: وإياك، قال: نعم، وإياي، ولكن الله أعانني عليه، فأسلم». قال أبو محمد: من الناس من يقول: أسلم استسلم، يقول: ذل.
والحديث أخرجه كذلك ابن خزيمة([83])، وابن حبان([84])، والشاشي في مسنده([85])، والخلال في كتابه «السنة»([86])، وغيرهم([87]).
سبل الوقاية من شر شياطين الجن
إن مما يميز دين الإسلام ويجعله شامخًا عزيزًا، قدرته بإذن الله تعالى على الوقوف أمام الشدائد والمحن، وإعطاؤه للمسلم الطرق والسبل التي تعينه على العيش في أجواء مطمئنة، بعيدة عن الاضطراب والقلق، ومن ذلك ما ورد في السنة الشريفة من بيان الطرق والأساليب التي يستطيع المرء المسلم – بإذنه تعالى – إذا اتبعها والتزم بها أن يدفع عنه شر شياطين الجن، الذين يسعون بلا شك إلى إيصال الضرر إليه بكل ما يستطيعون من وسائل، وقد أبانت السنة المطهرة جميع الطرق التي تعين المسلم على دفع شر شياطين الجن عنه في جميع المجالات، وهذا بيان تفصيلي بذلك.
في مجال الأذكار
1- قراءة القرآن، ويشهد لذلك أدلة كثيرة، منها ما أخرجه ابن ماجه في كتاب الطب عن ابن أبي ليلى، عن أبيه أبي ليلى قال: كنت جالسًا عند النبي ﷺ إذ جاءه أعرابي، فقال: إن لي أخًا وجعًا، قال: ما وجع أخيك؟ قال: به لَمم. قال: اذهب فأتني به، قال: فذهب، فجاء به، فأجلسه بين يديه، فسمعته عوذه بفاتحة الكتاب، وأربع آيات من أول البقرة، وآيتين من وسطها {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، وآية الكرسي، وثلاث آيات من خاتمتها، وآية من آل عمران، أحسبه قال: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} وآية من الأعراف {إن ربكم الذي خلق} الآية، وآية من المؤمنين: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ}، وآية من الجن {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَخَّذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا}، وعشر آيات من أول الصافات، وثلاث آيات من آخر الحشر، {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}، والمعوِّذتين، فقام الأعرابي قد برأ ليس به بأس.
قوله: به لَممٌ: طرف من الجنون يلم بالإنسان.
وفي كتاب فضائل القرآن من سنن الدارمي عن عبد الله بن مسعود t قال: لقي رجل من أصحاب النبي ﷺ رجلاً من الجن فصارعه فصرعه الإنسي، فقال له الإنسي: إني لأراك ضئيلاً شَخِيتًا كأن ذريعتيك ذُريِّعتا كلب، فكذلك أنتم معشر الجن، أم أنت من بينهم كذلك، قال: لا والله إني منهم لضليع، ولكن عاودني الثانية، فإن صرعتني علمتك شيئًا ينفعك، قال: نعم. قال: تقرأ {اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} قال: نعم، قال: فإنك لا تقرؤها في بيت إلا خرج منه الشيطان له خبج كخبج الحمار، ثم لا يدخله حتى يصبح، قال أبو محمد: الضئيل: الدقيق، والشخيت: المهزول، والضليع: جيد الأضلاع، والخبج: الريح.
2- التعوذ بالله تعالى من الشيطان عند الغضب، والحرص على الوضوء، ودليل ذلك ما أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة من حديث سليمان بن صرد قال: استب رجلان عند النبي ﷺ فجعل أحدهما تحمر عيناه، وتنتفخ أوداجه، قال رسول الله ﷺ: «إني لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، فقال الرجل: وهل ترى بي من جنون؟ قال ابن العلاء، فقال: وهل ترى ولم يذكر الرجل. فهذا دليل الاستعاذة من الشيطان عند الغضب. وأما دليل الوضوء فهو ما أخرجه أبو داود في كتاب الأدب عن أبي وائل القاص، قال: دخلنا على عروة بن محمد السعدي فكلمه رجل، فأغضبه، فقام فتوضأ، ثم رجع وقد توضأ، فقال: حدثني أبي عن جدي عطية، قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ».
3- التعوذ كذلك بالله تعالى من الشيطان عند شراء البعير، ودليل ذلك ما أخرجه مالك في كتاب النكاح من الموطأ عن زيد بن أسلم أن رسول الله ﷺ قال: «إذا تزوج أحدكم المرأة أو اشترى الجارية فليأخذ بناصيتها وليدع بالبركة، وإذا اشترى البعير فليأخذ بذروة سنامه، وليستعذ بالله من الشيطان».
قال في «فيض القدير» بعد أن ذكر ما في الحديث من الحث على الاستعاذة من الشيطان عند شراء البعير: «لأن الإبل من مراكب الشيطان، فإذا سمع الاستعاذة فر... ويحتمل أن الأمر بالاستعاذة إنما هو لما في الإبل من العز والفخر والخيلاء كما يأتي إن شاء الله تعالى؛ فهو استعاذة من شر ذلك الذي يحبه الشيطان، ويأمر به، ويحث عليه»([88]). اهـ.
4- التعوذ بالله تعالى من الشيطان والتفل يسارًا عند وسوسته في الصلاة، ودليل ذلك ما أخرجه مسلم في كتاب السلام من صحيحه عن أبي العلاء أن عثمان بن أبي العاص أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي، يلبسها علي، فقال رسول الله ﷺ: «ذاك شيطان يقال له: خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثًا»، قال: ففعلت ذلك، فأذهبه الله عني.
5- التعوذ بالله تعالى من الشيطان عند دخول المسجد، ويشهد لذلك ما أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة من سننه عن حيوة بن شريح قال: لقيت عقبة بن مسلم، فقلت له: بلغني أنك حدثت عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي ﷺ أنه كان إذا دخل المسجد قال: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، قال: أقط، قلت: نعم، قال: فإذا قال ذلك قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم. قوله: أقط أي فقط وحسب.
6- التعوذ بالله تعالى من الخبث والخبائث عند دخول الخلاء، ويشهد له ما أخرجه أبو داود في الطهارة بسند صحيح أن النبي ﷺ كان إذا دخل الخلاء قال: «اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» والمراد: ذكور الشياطين وإناثهم، قاله في عون المعبود.
7- البسملة عند الأكل، ودليل ذلك ما أخرجه مسلم في كتاب ألشربة من صحيحة عن حذيفة t قال: كنا إذا حضرنا مع النبي ﷺ طعامًا لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله ﷺ فيضع يده، وإنا حضرنا معه مرةً طعامًا، فجاءت جارية كأنها تدفع، فذهب لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله ﷺ بيدها، ثم جاء أعرابي، كأنما يدفع، فأخذ بيده، فقال رسول الله ﷺ: «إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها، فأخذت بيدها، فجاءت بهذا الأعرابي ليستحل به، فأخذت بيده، والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يدها».
8- التسمية وذكر الله عند الجماع، ويشهد لذلك ما أخرجه مسلم كذلك في كتاب النكاح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله، قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبدًا».
9- ذكر الله تعالى عند دخول المنزل، ودليل ذلك ما أخرجه مسلم في كتاب الأشربة من صحيحه عن جابر بن عبد الله أنه سمع النبي ﷺ يقول: «إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء».
ووقع في سنن أبي داود ذكر الدعاء الذي يقال عند دخول البيت، وهو ما رواه في كتاب الأدب من حديث أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا ولج الرجل بيته فليقل: الهم إني أسألك خير المولج، وخير المخرج، بسم الله ولجنا، وبسم الله خرجنا، وعلى الله ربنا توكلنا، ثم ليسلم على أهله».
10- التسمية عند عثور الدابة وغيرها، كما أخرج أبو داود في كتاب الأدب من سننه عن أبي المليح عن رجل قال: كنت رديف النبي ﷺ فعثرت دابة، فقلت: تعس الشيطان، فقال: «لا تقل: تعس الشيطان فإنك إذا قلت ذلك تعاظم حتى يكون مثل البيت، ويقول: بقوتي، ولكن قل: بسم الله، فإنك إذا قلت ذلك تصاغر الشيطان حتى يكون مثل الذباب».
11- ذكر الله تعالى عند الخروج من البيت، ويشهد لذلك ما أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: «من قال: يعني إذا خرج من بيته: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: كفيت ووقيت، وتنحى عنه الشيطان» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
12- الحرص على ذكر الله عند النوم، والحذر من ضد ذلك. ودليل ذلك ما أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «خلتان لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة، ألا وهما يسير، ومن يعمل بهما قليل، يسبح الله دبر كل صلاة عشرًا، ويحمده عشرًا، ويكبره عشرًا» قال: فأنا رأيت رسول الله ﷺ يعقدها بيده، قال: فتلك خمسون ومائة باللسان، وألف وخمس مائة في الميزان، وإذا أخذت مضجعك تسبحه، وتكبره، وتحمده مائة، فتلك مائة باللسان، وألف في الميزان، فأيكم يعمل في اليوم والليلة ألفين وخمس مائة سيئة، قالوا: فكيف لا يحصيها؟ قال: يأتي أحدكم الشيطان وهو في صلاته، فيقول: اذكر كذا، اذكر كذا، حتى ينفتل، فلعله لا يفعل، ويأتيه وهو في مضجعه، فلا يزال ينومه حتى ينام. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
والحديث كذلك أخرجه الطبري في تفسيره سورة المزمل، وابن حبان في صحيحه([89])، وابن ماجه في سننه ([90])، كلهم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
في مجال العبادات
1- الحرص على الأذان، ويشهد لذلك ما أخرجه مسلم في كتاب الصلاة من حديث جابر t قال: سمعت النبي ﷺ يقول: «إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة ذهب حتى يكون مكان الروحاء». قال سليمان ([91]) فسألته ([92]) عن الروحاء فقال: هي من المدينة ستة وثلاثون ميلاً.
وأخرج مسلم في الكتاب نفسه كذلك عن أبي هريرة t عن النبي ﷺ قال: «إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة أحال له ضراط حتى لا يسمع صوته، فإذا سكت رجع فوسوس، فإذا سمع الإقامة ذهب حتى لا يسمع صوته، فإذا سكت رجع فوسوس».
وفي شرح الزرقاني ([93]): «الشيطان: إبليس على الظاهر...، ويحتمل أن المراد جنس الشيطان، وهو كل متمرد من الجن أو الإنس، لكن المراد هنا شيطان الجن خاصة. وقوله: «له ضراط» جملة اسمية وقعت حالاً بدون واو لحصول الارتباط بالضمير، وفي رواية للبخاري: «وله» بالواو، وقال عياض: يمكن حمله على ظاهره، لأنه جسم متغذ، يصح منه خروج الريح، ويحتمل أنه عبارة عن شدة نفاره، ويقربه رواية عند مسلم: «له حُصاص» بمهملات، مضموم الأول، وفسره الأصمعي وغيره بشدة العدو، وقال الطيبي: شبه شغل الشيطان نفسه عن سماع الأذان بالصوت الذي يملأ السمع، ويمنعه عن سماع غيره، ثم سماه ضراطًا حتى لا يسمع النداء أي التأذين, وقيل: ظاهره أنه يتعمد إخراج ذلك إما ليشتغل بسماع الصوت الذي يخرجه عن سماع المؤذن، أو يصنع ذلك استخفافًا كما تفعله السفهاء، أو ليقابل ما يناسب الصلاة من الطهارة بالحدث، ويحتمل أنه لا يتعمد ذلك، بل يحصل له عند سماع الأذان شدة خوف يحدث له ذلك الصوت بسببها، وفيه استحباب رفع الصوت بالأذان؛ لأنه ظاهر في أنه يبعد إلى غاية ينتفي فيها سماعه للصوت، وقد بينت الغاية في قوله ﷺ في الحديث الآنف الذكر: «حتى يكون مكان الروحاء...».
2- الاستنثار ثلاث مرات عند الاستيقاظ من النوم، ويدل على ذلك ما أخرجه مسلم في كتاب الطهارة من صحيحه عن أبي هريرة t أن النبي ﷺ قال: «إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات فإن الشيطان يبيت على خياشيمه يعني على أنفه».
3- الحرص على الصلاة مع الجماعة، ويشهد لذلك ما أخرجه النسائي في كتاب الإمام من سننه عن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال: قال لي أبو الدرداء: أين مسكنك؟ قلت: في قرية دون حمص، فقال أبو الدرداء t: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية» قال السائب: يعني بالجماعة: الجماعة في الصلاة.
وفي مسند الإمام أحمد عن عبادة بن نسي قال: كان رجل بالشام يقل له معدان ([94]) كان أبو الدرداء يقرئه القرآن، ففقده أبو الدرداء، فلقيه يومًا وهو بدابق ([95])، فقال له أبو الدرداء: يا معدان، ما فعل القرآن الذي معك، كيف أنت والقرآن اليوم، قال: قد علم الله منه فأحسن، قال يا معدان، أفي مدينة تسكن اليوم أو في قرية، قال: لا بل في قرية قريبة من المدينة، قال: مهلاً، ويحك يا معدان، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ما من خمسة أهل أبيات لا يؤذن فيهم بالصلاة، وتقام فيهم الصلوات إلا استحوذ عليهم الشيطان، وإن الذئب يأخذ الشاذة» فعليك بالمدائن، ويحك يا معدان.
قال السيوطي: «استحوذ عليهم الشيطان: أي استولى عليهم وحولهم إليه، فعليكم بالجماعة، يأكل الذئب القاصية، قال في النهاية: هي المنفردة عن القطيع، البعيدة منه، يريد أن الشيطان يتسلط على الخارج من الجماعة وأهل السنة»([96]).
4- الحرص على تسوية الصفوف في الصلاة، ويشهد لذلك ما أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة من سننه عن أنس بن مالك عن رسول الله ﷺ قال: «رصوا صفوفكم وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق، فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنها الحذف». قوله: الحذف: أولاد الغنم.
قال أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي: «إسناده صحيح»([97]).
ومعنى الحديث: «صلوا صفوفكم بتواصل المناكب، وقاربوا بينها بحيث لا يسع بين كل صفين صف آخر حتى لا يقدر الشيطان أن يمر بين أيديكم، ويصير تقارب أشباحكم سببًا لتعاضد أوراحكم، وحاذوا بالأعناق بأن يكون عنق كل منكم على سمت عنق الآخر، يقال: حذوت النعل بالنعل إذا حاذيته به وحذاء الشيء إزاؤه؛ يعني لا يرتفع بعضكم على بعض، ولا عبرة بالأعناق أنفسها، إذ ليس على الطويل، ولا له أن ينحني حتى يحاذي عنقه عنق القصير الذي يجنبه»([98]).
5- اتخاذ السترة عند الصلاة، والقرب منها، ويشهد لذلك ما أخرجه النسائي في كتاب القبلة من حديث سهل بن أبي حثمة، قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته»، هذا لفظ النسائي، قال ابن عبد البر: «وهذا حديث مختلف في إسناده، ولكنه حديث حسن...»([99]).
وقد أخرجه كذلك الشافعي في «السنن المأثورة»([100])، وابن أبي شيبة في مصنفه ([101])، والطحاوي في «شرح معاني الآثار»([102])، والطبراني في «المعجم الكبير»([103])، وأبو الحسين عبد الباقي بن قانع في «معجم الصحابة»([104]).
6- الإقبال على الصلاة، والحذر من التفكير خارجها قدر المستطاع؛ ففي سنن النسائي، كتاب السهو ما يفيد أن الشيطان يبذل جهده ليجعل تفكير المسلم خارج صلاته لينقص أجره، حيث يقول عليه الصلاة والسلام: «إن الشيطان يأتي أحدكم وهو في صلاته، فيقول: اذكر كذا، اذكر كذا...» الحديث.
وفي سنن الترمذي، كتاب الدعوات: «يأتي أحدكم الشيطان وهو في صلاته، فيقول: اذكر كذا، اذكر كذا حتى ينفتل...» - أي ينصرف وينتهي – قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
7- الحذر من الالتفات في الصلاة، كما أخرج الترمذي في كتاب الجمعة من سننه عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله ﷺ عن الالتفات في الصلاة قال: «هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة الرجل». قال أبو عيسى: «هذا حديث حسن غريب»، والحديث رواه كذلك البخاري في الأذان، وأبو داود في الصلاة، والنسائي في السهو قال الشوكاني: «الاختلاس أخذ الشيء بسرعة، يقال: اختلس الشيء إذا استلبه... وفي النهاية: الاختلاس افتعال من الخلسة، وهو ما يؤخذ سلبًا, وقيل: المختلس الذي يخطف الشيء من غير غلبة، ويهرب، ونسب إلى الشيطان لأنه سبب له لوسوسته به، وإطلاق اسم الاختلاس على الالتفات مبالغة.
والحكمة في التنفير عنه ما فيه من نقص الخشوع، والإعراض عن الله تعالى، وعدم التصميم على مخالفة وسوسة الشيطان»([105]). اهـ.
8- الحرص على سجود السهو عند الشك في الصلاة، ودليل ذلك ما أخرجه مسلم في كتاب المساجد من صحيحه، والنسائي في السهو، وأحمد، والدارمي في كتاب الصلاة من سننه، من حديث أبي سعيد الخدري t قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى؟ ثلاثًا أم أربعًا، فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان قد صلى خمسًا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتمامًا لأربع كانتا ترغيمًا للشيطان». وهذا لفظ مسلم.
9- عدم الخروج من الصلاة عند وسوسة الشيطان حتى يسمع المصلي صوتًا، أو يجد ريحًا، ويشهد لذلك ما أخرجه أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: «إن أحدكم إذا كان في الصلاة جاءه الشيطان، فأبس به كما يأبس الرجل بدابته، فإذا سكن له أضرط بين أليته ليفتنه عن صلاته، فإذا وجد أحدكم شيئًا من ذلك فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا لا يشك فيه».
وقوله ﷺ: «فأبس به كما يأبس الرجل بدابته» أي ضربه، كما يضرب الرجل دابته ليزجرها.
والحديث أخرجه بنحوه مسلم في الحيض، والترمذي وأبو داود وابن ماجه كلهم في كتاب الطهارة من السنن، ورواه كذلك الدارمي في الطهارة كذلك.
وأخرج أحمد كذلك من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «إن أحدكم إذا كان في المسجد جاءه الشيطان فأبس منه كما يأبس الرجل بدابته، فإذا سكن له زنقه أو ألجمه». قال أبو هريرة: فأنتم ترون ذلك. أما المزنوق فتراه مائلاً كذا لا يذكر الله، وأما الملجوم فتراه فاتحًا فاه لا يذكر الله عز وجل.
وروى الطبراني في معجمه الكبير، والبزار، وسنده صحيح([106]) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ سُئل الرجل يخيل إليه في صلاته أنه أحدث في صلاته ولم يحدث، فقال رسول الله ﷺ: «إن الشيطان يأتي أحدكم وهو في صلاته حتى يفتح مقعدته، فيخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث، فإذا وجد أحدكم ذلك فلا ينصرف حتى يسمع صوت ذلك بأذنه، أو يجد ريح ذلك بأنفه».
10- الحذر من تحريك الحصى ونحوه والعبد يصلي، إذ أخرج النسائي في كتاب التطبيق من سننه عن عبد الله بن عمر أنه رأى رجلاً يحرك الحصى بيده، وهو في الصلاة، فلما انصرف قال له عبد الله: «لا تحرك الحصى وأنت في الصلاة، فإن ذلك من الشيطان، ولكن اصنع كما كان رسول الله ﷺ يصنع، قال: وكيف كان يصنع، قال: فوضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، وأشار بأصبعه التي تلي الإبهام في القبلة، ورمى ببصره إليها أو نحوها، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله ﷺ يصنع».
والحديث رواه كذلك الإمام ابن حبان في صحيحه ([107])، وابن أبي شيبة في مصنفه([108])، وعبد الرزاق كذلك في مصنفه ([109]) بنحوه، وغيرهم.
11- الحذر من الصلاة في أعطان الإبل ([110])، ويدل عليه ما أخرجه ابن ماجه في كتاب المساجد والجماعات من سننه وأحمد في المسند من حديث عبد الله بن مغفل المزني قال: قال النبي ﷺ: «صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الشياطين».
وأخرج الشافعي في مسنده([111]) من حديث عبد الله بن مغفل كذلك عن النبي ﷺ قال: «إذا أدركتم الصلاة وأنتم في مراح الغنم، فصلوا فيها؛ فإنها سكينة وبركة، وإذا أدركتم الصلاة وأنتم في أعطان الإبل، فاخرجوا منها، فصلوا فإنها جن من جن خلقت، ألا ترونها إذا نفرت كيف تشمخ بأنفها».
وقد اختلف في علة النهي عن الصلاة في معاطن الإبل، وأقرب الأقوال في ذلك كون الإبل لا تكاد تهدأ، ولا تقر في العطن، بل تثور، فربما قطعت على المصلي صلاته([112])، ويمكن أن يضاف إلى ذلك القول الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: «والصحيح أن العلة في الحمام وأعطان الإبل ونحو ذلك أنها مأوى الشياطين»([113])، فيجمع بين المعنيين، والله أعلم.
12- قيام الليل، كما أخرج مسلم في كتاب صلاة المسافرين من حديث أبي هريرة t يبلغ به النبي ﷺ: «يعقد الشيطان على قافية أحدكم ثلاث عقد، إذا نام بكل عقدة، يضرب عليك ليلاً طويلاً، فإذا استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عقدتان، فإذا صلى انحلت العقد، فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان».
وفي صحيح مسلم كذلك، كتاب صلاة المسافرين، من حديث أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال: ذكر عند رسول الله ﷺ رجل نام ليلة حتى أصبح قال:« ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه» أو قال:« في أذنه». قال ابن عبد البر في معنى الحديث الأول: «إن الشيطان ينوم المرء ويزيده ثقلاً وكسلاً بسعيه، وما أعطي من الوسوسة والقدرة على الإغواء والتضليل، وتزيين الباطل والعون عليه إلا عباد الله المخلصين. وفي هذا الحديث دليل على أن ذكر الله تعالى يطرد به الشيطان، وكذلك الوضوء والصلاة، ويحتمل أن يكون الذكر الوضوء والصلاة، لما فيهما من معنى الذكر، فخص بهذا الفضل في طرد الشيطان، ويحتمل أن يكون كذلك سائر أعمال البر – والله أعلم -، فمن قام من الليل يصلي انحلت عقده، فإن لم يفعل أصبح على ما قال ﷺ إلا أنه تنحل عقده بالوضوء للفريضة وصلاتها – والله أعلم -. وأما طرد الشيطان بالتلاوة والذكر والأذان فمجمع عليه، مشهور في الآثار.
قال ابن عبد البر: وفي هذا الحديث حض على قيام الليل، لأن فيه أنه يصبح طيب النفس نشيطًا بعد ذكر الوضوء والصلاة»([114]).
وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: «فأصبح نشيطًا طيب النفس» معناه: لسروره بما وفقه الله الكريم له من الطاعة، ووعده به من ثوابه، مع ما يبارك له في نفسه وتصرفه في كل أموره مع ما زال عنه من عقد الشيطان، وتثبيطه»([115]).
13- الحرص على الصيام، إذا أخرج أحمد في مسنده من حديث أبي ذر t قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر، ويذهب مغلة الصدر»، قال: قلت وما مغلة الصدر؟ قال: «رجس الشيطان».
والحديث أخرجه كذلك الطيالسي في مسنده ([116])، والبيهقي في شعب الإيمان ([117]) كلاهما عن أبي ذر رضي الله عنهما.
14- الحرص على الحج وشهود يوم عرفة، ويشهد لذلك ما أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الحج من حديث طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله ﷺ قال: «ما رئي الشيطان يومًا هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر»، قيل: وما رأى يوم بدر يا رسول الله؟ قال: «أما إنه قد رأى جبريل يزع الملائكة». قوله: يزع أي يصف ويرتب.
قال ابن عبد البر: «هذا حديث حسن في فضل شهود ذلك الموقف المبارك، وفيه دليل على الترغيب في الحج, وفيه الخبر عن حسد إبليس وعداوته...»([118]).
قلت: وهذا الحديث أخرجه كذلك الطبري في تفسيره، وعبد الرزاق في مصنفه، والبيهقي في شعب الإيمان، والديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب، والفاكهي في أخبار مكة.
في مجال التعامل مع الآخرين
ومن السبل التي يمكن للمسلم عن طريقها السلامة من أشرار الشيطان عند تعامله مع الآخرين ما يأتي:
1- الحرص على المودة والمحبة بين المسلمين، والحذر من التباغض والتنافر، ودليل ذلك ما أخرجه مسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار من صحيحه عن جابر t قال: سمعت النبي ﷺ يقول: «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم».
والحديث رواه جمع من الأئمة كذلك، منهم الترمذي في سننه، كتاب البر والصلة، وأحمد في عدة مواضع من المسند، وأبو يعلى في مسنده.
قال في «فيض القدير»: «فالمراد أن الشيطان أيس أن يعود أحد من المؤمنين على عبادة الصنم، ويرتد إلى شركه في جزيرة العرب، وارتداد بعض العرب لا ينافي يأسه، فلا يرد نقضًا، أو لأنهم لم يعبدوا الصنم، أو لأن المراد أن المصلين لا يجمعون بين الصلاة وعبادة الشيطان»، «ولكن في التحريش بينهم» خبر مبتدأ محذوف، أي وهو في التحريش، أو ظرف لمقدر، أي يسعى في التحريش، أي في إغراء بعضهم على بعض، وحملهم على الفتن والحروب والشحناء، قال القاضي: والتحريش الإغراء على الشيء بنوع من الخداع؛ من حرش الضب الصياد: خدعه، وله من دقائق الوسواس ما لا يفهمه إلا البصراء بالمعارف الإلهية، قال بعض الأئمة: إنما خص جزيرة العرب لأنها مهبط الوحي...»([119]).
2- لزوم الجماعة، ويشهد لذلك ما أخرجه الترمذي في كتاب الفتن من سننه عن ابن عمر قال: خطبنا عمر بالجابية، فقال: يا أيها الناس إني قمت فيكم كما قام رسول الله ﷺ فينا فقال: «أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يحلق الرجل ولا يستحلف، ويشهد الشاهد ولا يستشهد، ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان، عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، من سرته حسنته، وساءته سيئته، فذلكم المؤمن». قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه وأخرجه بنحوه البيهقي في السنن الكبرى، وابن أبي عاصم في السنة، وفي كتاب تحريم الدم من سنن النسائي من حديث عرفجة بن شريح الأشجعي قال: رأيت النبي ﷺ على المنبر يخطب الناس، فقال: «إنه سيكون بعدي هنات وهنات، فمن رأيتموه فارق الجماعة أو يريد أن يفرق أمة محمد ﷺ كائنًا من كان فاقتلوه، فإن يد الله على الجماعة، فإن الشيطان مع من فارق الجماعة يركض».
3- الحذر من الجدال والمراء بغير حاجة، ويشهد لذلك ما أخرجه الدارمي في المقدمة من سننه عن محمد بن واسع قال: كان مسلم بن يسار يقول: «إياكم والمراء فإنها ساعة جهل العالم، وبها يبتغي الشيطان زلته».
والحديث رواه كذلك أبو نعيم في: «حلية الأولياء»([120])، وابن سعد في الطبقات الكبرى»([121]).
4- عدم المبالغة في المدح، ويشهد لذلك ما أخرجه أبو داود في كتاب ألأدب من سننه عن أبي نضرة عن مطرف قال: قال أبي: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله ﷺ فقلنا: أنت سيدنا، فقال: « السيد لله تبارك وتعالى» قلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً، فقال: «قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان»، وروى أحمد في مسنده من حديث أنس t: أن رجلاً قال: يا محمد، يا خيرنا، وابن خيرنا، ويا سيدنا، وابن سيدنا، فقال: «قولوا بقولكم ولا يستجركم الشيطان»- أو الشياطين, قال: إحدى الكلمتين- « أنا محمد عبد الله ورسوله، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل».
5- أن يحرص القاضي على العدل ويحذر من الجور، ويشهد لذلك ما ثبت في سنن الترمذي كتاب الأحكام، من حديث عبد الله بن أبي أوفى، قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تخلى عنه، ولزمه الشيطان».
والحديث أخرجه البيهقي كذلك في سننه الكبرى([122]) بلفظ «إن الله عز وجل مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار برئ الله منه، ولزمه الشيطان»، وأخرجه كذلك الديلمي في «الفردوس بمأثور الخطاب»([123]) بلفظ: «إن الله عز وجل مع القاضي ما لم يخن، فإذا خان برئ الله منه، ولزمه الشيطان».
قال في «فيض القدير»([124]) شارحًا الحديث: «إن الله مع القاضي بعونه وإرشاده وإسعافه، وإسعاده ما لم يجر في حكمه أي يتعمد الظلم فيه، فإذا جار فيه تخلى الله؛ أي قطع عنه تسديده، وتوفيقه، ولزمه الشيطان يغويه، ويضله؛ ليخزيه غدًا، ويذله؛ لما أحدثه من الجور، وارتكبه، من الباطل، وتحلى به من خبيث الشمائل، وقبيح الرذائل».
6- عدم الإشارة إلى المسلم بالسلاح ولو مازحًا؛ كما أخرج ما يدل على ذلك مسلم في كتاب البر والصلة والآداب من صحيحه وغيره عن أبي هريرة t عن رسول الله ﷺ فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله ﷺ: «لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري أحدكم: لعل الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من النار».
قال النووي: «قوله ﷺ: «لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان ينزع في يده» هكذا في جميع النسخ «لا يشير» بالياء بعد الشين، وهو صحيح، وهو نهي بلفظ الخبر كقوله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ}([125])، وقد قدمنا مرات أن هذا أبلغ من لفظ النهي، «ولعل الشيطان ينزع» ضبطناه بالعين المهملة، وكذا نقله القاضي عن جميع روايات مسلم، وكذا هو في نسخ بلادنا، ومعناه: يرمي في يده، ويحقق ضربته، ورميته، وروي في غير مسلم بالغين المعجمة، وهي بمعنى الإغراء، أي يحمل على تحقيق الضرب به، ويزين ذلك»([126]). اهـ.
في مجال البيت والأسرة والمجتمع
1- إغلاق الأبواب، وإيكاء الأسقية، وتغطية الإناء، وإطفاء السراج عند النوم، ففي كتاب الأشربة من صحيح مسلم عن جابر t عن رسول الله ﷺ أنه قال: «غطوا الإناء، وأوكوا السقاء، وأغلقوا الباب، وأطفئوا السراج، فإن الشيطان لا يحل سقاء، ولا يفتح بابًا، ولا يكشف إناء، فإن لم يجحد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عودًا، ويذكر اسم الله فليفعل، فإن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم».
والحديث رواه كذلك أبو عوانة في مسنده ([127])، والبيهقي في السنن الكبرى ([128])، وابن ماجه في سننه، وغيرهم.
قال في «فيض القدير»: «غطوا الإناء» : أي استروه، والتغطية: الستر، والأمر للندب سيما في الليل، وأوكثوا السقاء مع ذكر اسم الله في هذه الخصلة وما قبلها وما بعدها من الخصال، فاسم الله هو السور الطويل العريض، والحجاب الغليظ المنيع من كل سوء»([129]).
وقال ابن حجر: «قال ابن دقيق العيد: في الأمر بإغلاق الأبواب من المصالح الدينية والدنيوية حراسة الأنفس والأموال من أهل العبث والفساد ولا سيما الشياطين، وأما قوله: «فإن الشيطان لا يفتح بابًا مغلقًا»: فإشارة إلى الأمر بالإغلاق لمصلحة إبعاد الشيطان عن الاختلاط بالإنسان، وخصه بالتعليل تنبيهًا على ما يخفى مما لا يطلع عليه إلا من جانب النبوة، قال: واللام في (الشيطان) للجنس، إذ ليس المراد فردًا يعينه»([130]).
وأما أمره عليه الصلاة والسلام بإطفاء السراج فقد جاء الخبر بذلك عن النبي ﷺ فيما أخرجه أبو داود، وصححه ابن حبان والحاكم من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «جاءت فأرة، فجرت الفتيلة، فألقتها بين يدي النبي ﷺ على الخمرة التي كان قاعدًا عليها، فأحرقت منها مثل موضع الدرهم، فقال النبي ﷺ: «إذا نمتم فأطفئوا سراجكم، فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا، فيحرقكم» قال ابن حجر: «وفي هذا الحديث بيان سبب الأمر أيضًا، وبيان الحامل للفويسقة – وهي الفأرة – على جر الفتيلة، وهو الشيطان، فيستعين- وهو عدو الإنسان- عليه بعدو آخر، وهي النار، أعاذنا الله بكرمه من كيد الأعداء إنه رءوف رحيم»([131]). اهـ.
وقد نقل بعض أهل العلم أنه لا يدخل ههنا ما يؤمن معه الضرر كالقنديل([132]).
2- عدم قتل الحيات في البيوت إلا بعد تهديدها ثلاثة أيام، ويستثنى من ذلك نوعان من الحيات تقتل بدون تهديد، لأن الجني لا يتصور بصورتهما، كما أخرج مسلم في كتاب السلام عن عمر ابن نافع قال: «كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يومًا عند هدم ([133]) له، فرأى وبيص جان، فقال: اتبعوا هذا الجان فاقتلوه، فقال أبو لبابة الأنصاري t: إني سمعت رسول اله ﷺ نهى عن قتل الجنان التي تكون في البيوت إلا الأبتر وذا الطفيتين، فإنهما اللذان يخطفان البصر، ويتبعان ما في بطون النساء» فنهى عليه الصلاة والسلام عن قتل الحيات في البيوت قبل تهديدها إلا هذين النوعين، وهما الأبتر، وهو قصير الذنب، وقال نضر بن شميل: هو صنف من الحيات أرزق مقطوع الذنب، لا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها، وذو الطفيتين وهما خطان أبيضان على ظهر الحية.
وأما الدليل على عدم قتل الحيات في البيوت إلا بعد تهديدها ثلاثة أيام فهو ما أخرجه مسلم كذلك في كتاب السلام من حديث أبي سعيد الخدري t قال: قال رسول الله ﷺ: «إن بالمدينة نفرًا من الجن قد أسلموا، فمن رأى شيئًا من هذه العوامر فليؤذنه ثلاثًا، فإن بدا له بعد, فليقتله فإنه شيطان».
ويدل على ذلك قصة الفتى الأنصاري التي تقدمت في موضع سابق عندما قتل تلك الحية العظيمة في بيته، فمات بعد قتلها، فلما ذكروا ذلك لرسول الله ﷺ قال: «استغفروا لصاحبكم» ثم قال: «إن بالمدينة جنًا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان».
قال الزرقاني: «ولا يفهم من الحديث أن الذي قتله الفتى مسلم، وأن الجن قتلته قصاصًا وإن شرع بين الإنس والجن لكن شرطه العمد، والفتى لم يتعمد قتل نفس مسلمة، وإنما قتل مؤذيًا يسوغ له قتل نوعه شرعًا، فهو من القتل خطأ، فالأولى أن يقال: إن فسقة الجن قتلته بصاحبهم عدوانًا، وإنما قال ﷺ: «إن بالمدينة جنًا قد أسلموا ليبين طريقًا يحصل بها التحرز عن قتل المسلم منهم، ويسلط به على قتل الكافر منهم»([134]).
فإن قال قائل: كيف الإنذار؟
قيل: جاء الجواب عن ذلك فيما رواه الترمذي وحسنه عن أبي ليلى قال، قال رسول الله ﷺ: «إذا ظهرت الحية في المسكن، فقولوا لها: نسألك بعهد نوح، وبعهد سليمان بن داود لا تؤذينا، فإن عادت فاقتلوها».
وقال مالك: يكفي أن يقال: أحرج عليكم بالله واليوم الآخر أن لا تبدوا لنا ولا تؤذونا. قال عياض: أظنه أخذه من رواية لمسلم عن أبي سعيد فقال: «إن لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم شيئًا منها فحرجوا عليها ثلاثًا»([135]).
وهل النهي عن قتل الحيات ببيوت المدينة أو عام؟ قولان للعلماء، وظاهر الحديث النهي عن قتل حيات البيوت على التعميم إلا بعد الإنذار، أما في البراري والصحاري فقتل من غير إنذار، ورجح ابن عبد البر أنه في بيوت المدينة خاصة ([136])، والأظهر والله أعلم الأول ([137]).
3- كف الصبيان عند دخول المساء، ودليل ذلك ما أخرجه مسلم في كتاب الأشربة من صحيحه من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم؛ فإن الشيطان ينتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل، فخلوهم...» الحديث.
قال في «فيض القدير»: «إذا كان جنح الليل- بضم الجيم وكسرها- أي أقبل ظلامه، قال الطيبي: جنح الليل طائفة منه، وأراد به هنا الطائفة الأولى منه عند امتداد فحمة العشاء، « فكفوا صبيانكم» : ضموهم وامنعوهم من الخروج ندبًا فيه، وقال الظاهرية: وجوبًا، «فإن الشيطان» يعني الجن، وفي رواية «للشيطان» ولامه للجنس، «تنتشر حينئذ» أي حين فحمة العشاء؛ لأن حركتهم ليلاً أمكن منها نهارًا، إذ الظلام أجمع لقوى الشيطان، وعند ابتداء انتشارهم يتعلقون بما يمكنهم التعلق به فخيف على الأطفال من إيذائهم. «فإذا ذهب ساعة من الليل» وفي رواية: «من العشاء» فحلوهم: بحاء مهملة مضومة في صحيح البخاري، وفي رواية له أيضًا بخاء معجمة مفتوحة، وحكي ضمها، أي فلا تمنعوهم من الخروج والدخول»([138]). اهـ.
ويحسن التنبيه ههنا إلى رواية موضوعة حول الحث على اتخاذ الحمام المقاصيص ([139])، وأنها تلهي الجن عن الصبيان، وهي ما روي عن ابن عباس مرفوعًا: «اتخذوا الحمام المقاصيص؛ فإنها تهلي الجن عن صبيانكم» وسبب كون هذه الرواية موضوعة، مكذوبة على النبي ﷺ لأنها من رواية محمد بن زياد اليشكري الميموني الطحان، وقد قال فيه أحمد بن حنبل: كذاب أعور، يضع الحديث. وقال ابن معين: كذاب، وقال ابن المديني: رميت بما كتبت عنه، وضعفه جدًا، وقال أبو زرعة: كان يكذب، وقال الدارقطني كذاب ([140]).
وقال أبو حاتم البستي: «كان ممن يضع الحديث على الثقات، ويأتي عن الأثبات بالأشياء المعضلات لا يحل ذكره في الكتب إلا على جهة القدح، ولا الرواية عنه إلا على سبيل الاعتبار عند أهل الصناعة خصوصًا عند غيرهم» ثم ذكر عدة روايات، ومنها اللفظ الآنف الذكر «اتخذوا الحمام المقاصيص» الخ ([141]).
4- الإعراض عن آلات الطرب، والمزامير، قال القرطبي عند قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا}: «وفي الآية ما يدل على تحريم المزامير والغناء واللهو لقوله: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ} على قول مجاهد: «وما كان من صوت الشيطان أو فعله وما يستحسنه فواجب التنزه عنه»([142]).
وأخرج البيهقي في «السنن الكبرى»([143]) عن عبد الله بن دينار قال: مر ابن عمر بجارية صغيرة تغني، فقال: لو ترك الشيطان أحدًا ترك هذه.
وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود t قال: إذا ركب الرجل الدابة ولم يسمِّ ردفه شيطان، فقال: تغنه، فإن كان لا يحسن قال له: تمنه ([144]).
وأخرج ابن أبي الدنيا كذلك أن مما كتب عمر بن عبد العزيز يرحمه الله إلى مؤدب ولده: «وليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من حملة العلم: أن حضور المعازف واستماع الأغاني، واللهج بهما ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء العشب»([145]).
5- إماطة الأذى عن اللقمة إذا سقطت ثم أكلها، ويشهد لذلك ما أخرجه مسلم في كتاب الأشربة من صحيحه عن جابر t قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الشيطان يحضر أحدكم عنك كل شيء من شأنه، حتى يحضره عند طعامه فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى، ثم ليأكلها، ولا يدعها للشيطان، فإذا فرغ فليلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه تكون البركة».
والحديث أخرجه كذلك ابن حبان في صحيحه ([146])، والبيهقي في السنن الكبرى ([147])، وأحمد في عدة مواضع من المسند، وعبد ابن حميد في المنتخب ([148]) والطبراني في معجمه الكبير ([149])، وأبو الشيخ في «طبقات المحدثين بأصفهان»، وغيرهم، والمراد بالشيطان الجنس، فلا يختص بواحد من الشياطين، قال أبو زرعة ([150])، قال في «شرح سنن ابن ماجة»([151]): «قوله: ولا يدعها للشيطان، إنما صار تركها للشيطان لأن فيه إضاعة نعمة الله تعالى, ثم إنه من أخلاق المتكبرين، والمانع عن تناول تلك اللقمة في الغالب هو الكبر، وذلك من عمل الشيطان».
6- كظم التثاؤب وعدم إخراج الصوت، ويدل على ذلك ما أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق عن أبي هريرة t أن رسول الله ﷺ قال: «التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع».
وأخرج كذلك في الكتاب نفسه عن سهيل بن أبي صالح قال: سمعت ابنًا لأبي سعيد الخدري يحدث أبي عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيه فإن الشيطان يدخل»، وأخرج الترمذي في كتاب الأدب من سننه من حديث أبي هريرة t أن رسول الله ﷺ قال: «العطاس من الله، والتثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه، وإذا قال: آه آه فإن الشيطان يضحك من جوفه، وإن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب».
وفي سنن الترمذي كذلك من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «التثاؤب في الصلاة من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع». قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح.
قال ابن حجر: «قال ابن بطال: إضافة التثاؤب إلى الشيطان بمعنى إضافة الرضا والإرادة؛ أي إن الشيطان يحب أن يرى الإنسان متثائبًا، لأنها حالة تتغير فيها صورته، فيضحك منه، لا أن المراد أن الشيطان فعل التثاؤب، وقال ابن العربي: قد بينا أن كل فعل مكروه نسبه الشرع إلى الشيطان لأنه واسطته، وأن كل فعل حسن نسبه الشرع إلا الملك لأنه واسطته. قال والتثاؤب من الامتلاء، وينشأ عنه التكاسل، وذلك بواسطة الشيطان، والعطاس من تقليل الغذاء، وينشأ عنه النشاط، وذلك بواسطة الملك. وقال بعضهم: «أضيف التثاؤب إلى الشيطان لأنه يدعو إلى الشهوات، إذ يكون عن ثقل البدن واسترخائه وامتلائه، والمراد: التحذير من السبب الذي يتولد منه ذلك وهو التوسع في المأكل»([152]).
7- عدم الخلوة بالمرأة الأجنبية، ويشهد لذلك ما أخرجه الترمذي في كتاب الرضاع من حديث عقبة بن عامر t أن رسول الله ﷺ قال: «إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، فأريت الحمو، قال: الحمو الموت».
قال: وفي الباب عن عمر وجابر وعمرو بن العاص. قال أبو عيسى: حديث عقبة بن عامر حديث حسن صحيح، وإنما معنى كراهية الدخول على النساء على نحو ما روي عن النبي ﷺ قال: «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان».
قال في «فيض القدير: «إلا كان ثالثهما الشيطان» بالوسوسة وتهييج الشهوة ورفع الحياء، وتسويل المعصية حتى يجمع بينهما بالجماع أو فيما دونه من مقدماته التي توشك أن توقع فيه، والنهي للتحريم، واستثنى ابن جرير كالثوري ما منه بد كخلوته بأمة زوجته التي تخدمه حال غيبتها»([153]).
وقال الشوكاني: قوله: لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان، سبب ذلك أن الرجل يرغب إلى المرأة؛ لما جبل عليه من الميل إليها؛ لما ركب فيه من شهوة النكاح، وكذلك المرأة ترغب إلى الرجل.. فمع ذلك يجد الشيطان السبيل إلى إثارة شهوة كل واحد منهما إلى الآخر، فتقع المعصية»([154]). اهـ.
وقد أدرك السلف رحمهم الله تعالى خطورة هذه الخلوة، فكانوا يحذرون منها أشد الحذر، كما قال عطاء بن أبي رباح يرحمه الله: «لو ائتمنت على بيت مال لكنت أمينًا، ولا آمن نفسي على أمة شوهاء»، قال الذهبي معقبًا: «قلت: صدق رحمه الله ففي الحديث: «ألا لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان»([155])، والحديث أخرجه أحمد، والترمذي في الفتن، والحاكم، وصححه، ووافقه الذهبي.
8- عدم خروج المرأة من منزلها إلا لضرورة ملحة؛ ففي كتاب الرضاع من سنن الترمذي عن عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ قال: «المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، وصححه الألباني يرحمه الله.
وأخرج ابن خزيمة في صحيحه ([156]) الحديث السابق، وزاد في آخره: «وأقرب ما تكون من وجه ربها وهي في قعر بيتها»، وأخرج هذه الزيادة بنحوها ابن حبان ([157]).
وعند الطبراني في الكبير ([158]): «إن المرأة عورة، وإنها إذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان، فتقول: ما رآني أحد إلا أعجبته، وأقرب ما تكون إلا الله إذا كانت في قعر بيتها».
قال في «فيض القدير»: «استشرفها الشيطان» يعني رفع البصر إليها ليغويها أو يغوي بها، فيوقع أحدهما أو كليهما في الفتنة, وقال الطيبي: المعنى المتبادر أنها ما دامت في خدرها لم يطمع الشيطان فيها، وفي إغواء الناس، فإذا خرجت طمع، وأطمع لأنها حبائله، وأعظم فخوخه».
والذي هو حق لا مرية فيه أن الإسلام إنما دعا المرأة المسلمة إلى لزوم بيتها لأن في ذلك صيانة عفتها، وحفظ حيائها، ودفع الفتن عنها وبها، ولذا حث السلف على لزومها بيتها، وذكروا أن صلاتها في بيتها خير لها من صلاتها في المسجد، قال الثوري: «ليس للمرأة خير من بيتها، وإن كانت عجوزًا»([159]).
وقال كذلك: «أكره اليوم للنساء الخروج إلى العيدين»([160]).
وقال ابن المبارك: «أكره اليوم للنساء الخروج في العيدين، فإن أبت المرأة إلا أن تخرج فليأذن لها زوجها أن تخرج في أطهارها، ولا تتزين، فإن أبت أن تخرج كذلك فللزوج أن يمنعها من ذلك»([161]).
وقال أبو حنيفة: «كان النساء يرخص لهن في الخروج إلى العيد، فأما اليوم فإني أكرهه، قال: وأكره لهم شهود الجمعة، والصلاة المكتوبة في الجماعة، وأرخص للعجوز الكبيرة أن تشهد العشاء والفجر، فأما غير فلا»([162]).
وهذا الكلام يقوله هؤلاء الأئمة عن زمانهم، فكيف لو رأوا زماننا هذا، وما فيه من فتن النساء، مع جلب الفساق لبلاد المسلمين كل ما يغري بهن من ألوان الفتن، فالله المستعان.
في مجال التجارة والدخول إلى الأسواق
1- أن يحرص التجار على الصدقة، يدل على ذلك ما أخرجه الترمذي في كتاب البيوع من سننه، عن قيس بن أبي غَرَزة، قال: خرج علينا رسول الله ﷺ ونحن نسمى السماسرة، فقال: «يا معشر التجار إن الشيطان والإثم يحضران البيع، فشوبوا بيعكم بالصدقة». قال أبو عيسى: حديث قيس بن أبي غرزة حديث حسن صحيح، رواه منصور، والأعمش، وحبيب بن أبي ثابت، وغير واحد عن أبي وائل عن قيس بن أبي غرزة، ولا نعرف لقيس عن النبي ﷺ غير هذا.
قوله: السماسرة مفرده سمسار، وهو القائم على بيع سلعة الغير بمقابل.
2- أن يحذر المرء من التردد على الأسواق بدون حاجة ملحة، وإذا خرج إليها قضى حاجته، وخرج بسرعة. أخرج مسلم في كتاب فضائل الصحابة من صحيحه عن معتمر بن سليمان قال: سمعت أبي حدثنا أبو عثمان عن سلمان قال: لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فإنها معركة الشيطان، وبها ينصب رايته... الحديث
قال النووي: «قوله في السوق «إنها معركة الشيطان» قال أهل اللغة: المعركة بفتح الراء، موضع القتال لمعاركة الأبطال بعضهم بعضًا فيها، ومصارعتهم، فشبه السوق وفعل الشيطان بأهلها، ونيله منهم بالمعركة، لكثرة ما يقع فيها من أنواع الباطل كالغش والخداع، والأيمان الخائنة، والعقود الفاسدة، والبيع على بيع أخيه، والشراء على شرائه، والسوم على سومه، وبخس المكيال والميزان. قوله: «وبها ينصب رايته» إشارة إلى ثبوته هناك، واجتماع أعوانه إليه للتحريش بين الناس وحملهم على هذه المفاسد المذكورة ونحوها، فهي موضعه، وموضع أعوانه»([163]).
وقال القرطبي إن هذا الحديث يدل على «كراهة دخول الأسواق لا سيما في هذه الأزمان([164]) التي يخالط فيها الرجال النسوان، وهكذا قال علماؤنا: لما كثر الباطل في الأسواق، وظهرت فيها المناكر كره دخولها لأرباب الفضل والمقتدى بهم في الدين، تنزيهًا لهم عن البقاع التي يعصى الله فيها، فحق على من ابتلاه الله بالسوق أن يخطر بباله أنه قد دخل محل الشيطان، ومحل جنوده، وأنه إن قام هنالك هلك، ومن كانت هذه حاله اقتصر منه على قدر ضرورته، وتحرز من سوء عاقبته وبليته»([165]).
في مجال السفر
1- أن يحرص المسافر إذا سافر أن يكون معه اثنان فأكثر؛ إذ أخرج ابن خزيمة، والحاكم، والترمذي، والبيهقي في السنن الكبرى، وأبو داود ومالك في الموطأ، وأحمد في المسند من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ قال: «الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب» وهذا لفظ أحمد. وحسنه في «الفتح»([166]).
قال ابن قتيبة في معنى الحديث: «إن الشيطان يطمع في الواحد كما يطمع فيه اللص والسبع، فإذا خرج وحده فقد تعرض للبلاء به فكان شيطانًا، والراكبان شيطانان؛ لأن كلاً منهما متعرض لذلك سيما بذلك لأن كل واحد من القبيلين يسلك سبيل الشيطان في اختياره الوحدة في السفر»([167]).
وقال النبي ﷺ: «والثلاثة ركب»؛ لزوال الوحشة وحصول الأنس وانقطاع الطماع عنهم.
ولا يتعارض ذلك مع خروج النبي ﷺ مع أبي بكر t مهاجرين؛ وذلك لضرورة الخوف على أنفسهما من المشركين، أو لأن من خصائصه عدم كراهة الانفراد في السفر وحده لأمنه من الشيطان بخلاف غيره كما ذكره الحافظ العراقي.
وإيراد النبي ﷺ البريد وحده إنما هو لضرورة طلب السرعة في إبلاغ ما أرسل به، على أنه كان يأمره أن ينضم في الطريق لرفقاء، فسقط ما لبعض الضالين هنا من زعم التناقض ([168]).
2- الحرص على الاجتماع وترك التفرق في الأودية والشعاب ونحوها عند النزول في منزل من المنازل حال السفر ونحوه.
أخرج أبو داود في كتاب الجهاد من سننه عن أبي ثعلبة الخشني t قال: كان الناس إذا نزلوا منزلاً تفرقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله ﷺ: «إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان» قال: فلم ينزلوا بعد منزلاً إلا انضم بعضهم إلى بعض، حتى لو بسط عليهم ثوب لعمهم.
والحديث رواه كذلك ابن حبان في صحيحه ([169])، والحاكم وصححه ([170])، والبيهقي في السنن الكبرى ([171]).
قال في «عون المعبود» مبينًا معنى: «إن تفرقكم من الشيطان» أي ليخوف أولياء الله، ويحرك أعداءه».
([1]) أي لا يرون على طبيعتهم وصورتهم الحقيقة كما سيأتي في تعريفهم، وبذلك يعلم عدم التعارض بين هذا القول، وما ورد أنهم يتشكلون في صور البشر، والحيات والكلاب وغير ذلك وبذلك يفهم قول الشافعي: «من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته» أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (9/141) فإنه يريد على طبيعتهم وصورتهم الحقيقية.
([2]) انظر «القاموس المحيط» ص1532، مادة (جنن)، و «لسان العرب» (13/95).
([3]) سورة النجم: 32.
([4]) انظر «المفردات» ص98.
([5]) انظر «تهذيب اللغة» للأزهري (10/499).
([6]) انظر «الفصل في الملل والأهواء والنحل» لابن حزم (5/12)، و «فتح الباري» (6/344)، و «فيض القدير» (1/113)
([7]) سورة البقرة: 102.
([8]) سورة الأنعام: 112.
([9]) سورة البقرة: 14.
([10]) المفردات للراغب الأصفهاني، وانظر «فتح الباري» (6/344).
([11]) (5/12).
([12]) «مجموع الفتاوى» (19/10، 11).
([13]) سورة الحجر: 27.
([14]) سورة الرحمن: 15. وانظر «الإحكام» لابن حزم (2/166).
([15]) (9/119).
([16]) سورة الأعراف: 179.
([17]) «التمهيد» (11/116).
([18]) سورة الكهف: 50.
([19]) «جامع البيان» (8/237).
([20]) المرجع السابق.
([21]) للإمام العظيم آبادي (1/12)، وانظر «فيض القدير» للمناوي (1/99).
([22]) «مجموع الفتاوى» (19/39)، وانظر «حاشية ابن القيم» (14/8).
([23]) سورة الرحمن: 56.
([24]) (7/315).
([25]) سورة الذاريات: 56-58.
([26]) بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم (4/248).
([27]) سورة إبراهيم: 4.
([28]) سورة سبأ: 28.
([29]) سورة الجن: 11.
([30]) (8/240).
([31]) «فتح الباري» (6/345)، وانظر «التمهيد» لابن عبد البر (11/117).
([32]) سورة الجن: 14، 15.
([33]) سورة الأحقاف: 29-32.
([34]) سورة الجن: 17، ومعنى (صعدًا) أي شاقًا.
([35]) سورة فصلت: 33.
([36]) موضع قرب مكة.
([37]) قال النووي: الصواب «بنخلة» مكان معروف.
([38]) هو ابن مسعود t.
([39]) سورة الإسراء: 57.
([40]) انظر «معجم الطبراني الكبير» (4/211).
([41]) انظر «مسند البزار» (7/97) برقم (2655)، وانظر «حلية الأولياء» (6/245)، وانظر «الإرشاد» لأبي يعلي (2/187).
([42]) (6/357).
([43]) (2/316).
([44]) (2/339).
([45]) قال في مجمع الزوائد (9/199): «رواه الطبراني وفيه من لم أعرفه»، وانظر «فيض القدير» (1/205).
([46]) لم أقف عليه.
([47]) «فتح الباري» (7/4)، وانظر «لسان الميزان» (7/301).
([48]) انظر «فتح الباري» (4/114)، وانظر «تحفة الأحوذي» للمبارك فوري (3/291).
([49]) (3/291).
([50]) سورة سبأ: 14.
([51]) «الجامع لأحكام القرآن» (14/179، 180).
([52]) سورة الأنفال: 48.
([53]) «التمهيد» (14/229).
([54]) سورة الأنعام: 112.
([55]) «التمهيد» (14/233، 234).
([56]) سورة النمل: 39.
([57]) سورة سبأ: 13.
([58]) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: أراد بها الأعواد التي في سقف البيت.
([59]) «فتح الباري» (10/180).
([60]) المرجع السابق (10/181).
([61]) «فيض القدير» (1/266).
([62]) سورة العنكبوت: 40.
([63]) (6/161).
([64]) (1/74).
([65]) (20/116).
([66]) «فتح الباري (10/193).
([67]) انظر «شرح الزرقاني» (4/299).
([68]) النقب: الثقب، قاله في القاموس.
([69]) «شرح الزرقاني» (4/299).
([70]) سورة الملك: 2.
([71]) «مجموع الفتاوى» (19/39-41).
([72]) انظر «فتح الباري» (10/114).
([73]) انظر «كشف الظنون» (2/1422).
([74]) أي إن في وجهها موضعًا على غير لونه الأصلي، انظر «فتح الباري» (10/202).
([75]) «فتح الباري» (10/202).
([76]) انظر «تلخيص الحبير» (3/235).
([77]) «التمهيد» (12/184)، وانظر «الدراية في تخريج أحاديث الهداية» (2/142).
([78]) (6/80).
([79]) سورة ص: 35.
([80]) «فتح الباري» (6/460).
([81]) «فتح الباري» (6/219).
([82]) المرجع السابق (6/220).
([83]) انظر «صحيح ابن خزيمة» (1/330).
([84]) انظر «صحيح ابن حبان» (14/327).
([85]) انظر «مسند الشاشي» (2/251).
([86]) انظر «السنة» للخلال (1/191).
([87]) انظر «معتصر المختصر» لأبي المحاسن الحنفي (2/245)، و «المعجم الأوسط» للطبراني (3/93)، و «الفردوس بمأثور الخطاب» (4/37)، و «علل الدارقطني» (5/342).
([88]) «فيض القدير» (1/282).
([89]) (5/350).
([90]) (1/299).
([91]) يعني الأعمش.
([92]) يعني أبا سفيان الراوي عن جابر.
([93]) (1/209).
([94]) هو معدان بن أبي طلحة اليعمري الوارد في الحديث السابق.
([95]) دابق: مدينة معروفة في أقاصي فارس، انظر «معجم ما استعجم» (2/531).
([96]) «شرح السيوطي» (2/98).
([97]) «الأحاديث المختارة» (7/42).
([98]) «فيض القدير» (4/5).
([99]) «التمهيد» (4/194).
([100]) (1/242).
([101]) (1/250).
([102]) (1/458).
([103]) (6/98).
([104]) (1/269).
([105]) «نيل الأوطار» (2/379).
([106]) انظر «مجمع الزوائد» (2/242).
([107]) (4/603).
([108]) (1/337).
([109]) (1/409).
([110]) جمع عطن وهو مبرك الإبل حول الماء «نيل الأزطار» (2/141).
([111]) (1/21).
([112]) انظر «التمهيد» لابن عبد البر (22/333)، و «شرح الزرقاني» (1/486)، و «تأويل مختلف الحديث» (1/132)، و «عون المعبود» (2/113)، و «حاشية السندي على سنن النسائي» (2/56).
([113]) انظر «مجموع الفتاوى» (19/41).
([114]) «التمهيد» (19/45-47).
([115]) «شرح النووي على صحيح مسلم» (6/66).
([116]) ص 65.
([117]) (3/391).
([118]) «التمهيد» (1/116).
([119]) «فيض القدير» (2/356)، وانظر «تحفة الأحوذي» (6/57).
([120]) (2/294).
([121]) (7/187).
([122]) (10/88).
([123]) (1/168).
([124]) (2/99).
([125]) سورة البقرة: 233.
([126]) «شرح النووي على مسلم» (16/170، 171).
([127]) (5/145).
([128]) (1/256).
([129]) «فيض القدير» (4/404).
([130]) «فتح الباري» (11/86).
([131]) «فتح الباري» (11/87).
([132]) المرجع السابق (11/86).
([133]) هو البيت القديم المتهدم.
([134]) «شرح الزرقاني» (4/497).
([135]) المرجع السابق.
([136]) «التمهيد» (16/25).
([137]) انظر «شرح الزرقاني» (4/494).
([138]) «فيض القدير» (1/423).
([139]) ربما أن المراد: «مقصوصة الآجنحة».
([140]) «ميزان الاعتدال في نقد الرجال» للذهبي (3/552، 553).
([141]) «المجروحين» (2/250)، وانظر «الكامل في ضعفاء الرجال» لابن عدي (6/130)، و «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (5/279)، و «نقد المنقول» للزرعي ص94.
([142]) «الجامع لأحكام القرآن» (10/290).
([143]) (10/223).
([144]) «الدر المنثور» (5/308).
([145]) المرجع السابق.
([146]) (12/54).
([147]) (7/278).
([148]) ص 324.
([149]) (3/88).
([150]) «فيض القدير» (2/350).
([151]) ص 236.
([152]) «فتح الباري» (10/613)، وانظر «الديباج على صحيح مسلم» للسيوطي (6/298)، و «شرح سنن ابن ماجه» للسيوطي ص68، و «النهاية في غريب الأثر» لابن الأثير (1/204).
([153]) «فيض القدير» (3/78).
([154]) «نيل الأوطار» (6/231).
([155]) «سير أعلام النبلاء» (5/88).
([156]) «صحيح ابن خزيمة» (3/93).
([157]) «صحيح ابن حبان» (12/413).
([158]) «معجم الطبراني الكبير» (9/295).
([159]) «التمهيد» (23/402).
([160]) المرجع السابق.
([161]) المرجع السابق.
([162]) المرجع السابق.
([163]) «شرح النووي على مسلم» (16/7).
([164]) هذا الكلام يقوله القرطبي عن زمانه، فكيف لو رأى زماننا هذا!
([165]) «الجامع لأحكام القرآن» (13/16).
([166]) (6/53).
([167]) «شرح الزرقاني» (4/500).
([168]) انظر «فيض القدير» (4/44).
([169]) (6/408).
([170]) (2/126).
([171]) (7/210).