الوصف المفصل
وسائل التوحيد أو دلائله
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الكتاب
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، فسبحانك رب العالمين! إياك نعبد، وإياك نستعين، وبك نؤمن، وعليك نتوكل، وبذكرك يا رب تطمئن القلوب.
وأشهد أن خاتم الأنبياء والمرسلين وإمام المتقين المهتدين المجاهدين عبد الله ورسوله محمد، صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته عليه وعلى آله المؤمنين الذين اتبعوه بإحسان إلى يوم الدين، لقد كان ﷺ مع الله فكان الله معه. وكان إذا ما ادلهمت الخطوب، ورجفت حوله الدنيا بالملمات، وأغرى به الشيطان جبارا عنيدا ـ يعوذ بنور وجه الله الذي أشرقت له الظلمات، فإذا بالخطوب بشائر ورحمة، وإذا بالملمات مجالي خير ونعمة، وإذا بكل جبار طاغية ينشد منه ﷺ العفو الأمان.
وأصغ بالقلب إلي مناجاة الرسول ربَّه ـ وقد أعرض عنه الناس، ونبذت دعوته ممن أمل أن يجد عندهم مجابا من بني ثقيف، فكانوا عليه إلبًا أشد من قريش: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟! إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملَّكته أمري؟» ثم تتجلى نفس الرسول في إشراقها الأعظم، فترسل النجوى هدى ونورا ويقينا وإيمانا، كأنما تعتذر بها عن تلك اللحظة الهافية الآسية التي استشعرت فيها ضعفا وهوانا، فيقول ﷺ: «إن لم يكن بك سخط علي فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل علي غضبك، أو أن ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك».
فأية نفس في الوجود أصفى إيمانا، وأسمى يقينا، وأجل ثقة، وأعظم حبا لله من هذه النفس التي حيت عن بينة لله، وعاشت للجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله؟! فصل اللهم وسلم على عبدك الكريم ورسولك محمد الصادق الأمين.
"وبعد" فهذا الكتاب أبتغي به وجه الله الكريم، وما أنتصر فيه إلا لدعوة الحق مشرقة الجلال والهدى والنور والبرهان من كتاب الله الحق، وسنة رسوله الحق. وإني أقدمه للمسلمين في كل قطر بعامة، وللجماعات الدينية في مصر بخاصة، أناشدهم فيه اللياذ بالحق، والتوحد الكامل الشامل تحت راية القرآن، والاعتصام بالكتاب والسنة في الدين والحياة، مذكرا إياهم بما هدى إليه الله ورسوله من الحق، وإلى صراط مستقيم.
وإني لأضرع إلى الله سبحانه أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم، وأن يكون هذا الكتاب شعاع نور في هذه الظلمة الساجية، وإسفار صبح لهذا الليل الرهيب، حتى يتجلى الحق واضحا، وتنقشع ظلمات الجاهلية التي أركست الناس فقعدوا صاغرين.
وما كان في الكتاب من هدى وحق فمن الله وبتوفيق من الله، وما كان فيه من غير ذلك فمني وأستغفر الله منه، ولا أزعم لنفسي ـ وبالله أعوذ ـ أني أديت الواجب، بل حاولت أن أؤديه، مستعينا بالله، متوكلا عليه، مهتديا بهداه.
وإني لأناشد كل مسلم وكل جماعة دينية، أن يأخذوا من هذا الكتاب ما ذكرتهم به من آيات الله وأحاديث رسول الله ﷺ ، عافين عما قد يكون فيه من أسلوب ألهبه الحماس، وأججت لظاه الحمية لدين الله، وأن يقوموا ما فيه ـ بعد ذلك ـ بالعدل والحق وروح الإيمان، لا بالعصبية والحمية للأسماء، أو تراث الشيوخ والآباء. إنها دعوة يقول صاحبها ويؤمن أنها حق، ولله.
فانظروا فيها ـ عادلين مؤمنين ـ على ضوء الهدى من الكتاب والسنة، فإن رأيتموها كما يقول ويؤمن فقولوا لها كلمة منصفة عادلة، تؤيدون بها الحق في هذا العصر الذي استعلن فيه الباطل، واستظهر الظلم، ورمي دين الله الحق بكل فرية، وكل بهتان زنيم.
وإن رأيتم في الكتاب ما تحسبونه منكرا، فتعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، تعالوا إلى الكتاب والسنة نحتكم إليهما، كما أمرنا الله الحكيم الخبير: ]فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ[ [سورة النساء: 59]. وما أتعصب لقولي، ولكن أقول لكم: ]وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ[ [سورة سبأ: 24]. فهل أنتم فاعلون؟
المؤلف
عبد الرحمن الوكيل
وسائل التوحيد أو دلائله
لتوحيد الله في الربوبية والإلهية وسائله أو دلائله، فهي وسائل لمن شاء أن يكون خالص التوحيد اعتقادا وعملا، ودلائل يفصل بها المؤمن الصادق بين الموحد والمشرك، وتلك الوسائل هي حسب ما فهمته من كتاب الله واستنبطها منه.
أولا: طاعة الله ورسوله ﷺ .
ثانيا: تقوى الله سبحانه وتعالى وحده فيما يطيع به الإنسان ربه، والرسول، ليكون لله الدين الخالص.
ثالثا: اتباع الكتاب والسنة، حتى تكون الطاعة عن بينة هادية، والعمل خالصا من كل شائبة، والاعتقاد في الله حق اليقين.
رابعا: الاحتكام إلى كتاب الله وسنة رسوله كلما وقع بين المسلمين خلاف سواء أكان في شئون الدنيا أم في شئون الدين، حتى تظل وحدة المسلمين ثابتة مكينة، والتآخي بينهم قويا صادق الشعور.
خامسا: الحكم بكتاب الله وسنة رسوله بين المختلفين أو المتخاصمين، مسلمين أو غير مسلمين، حتى تظل الدولة الإسلامية قوية العماد، لا ينتقض عليها أفرادها، ولا يختلف فيها محكوم على حاكم، ما دام حكم الله يشمل الجميع، ويطبق عليهم تطبيقا صحيحا عادلا.
سادسا: الرضى بحكم الله، والصبر عليه، والإذعان الكامل له.
تلك هي دلائل التوحيد ـ أو هي وسائله ـ التي يجب على المسلمين أن يتوصلوا بها وحدها إذا شاءوا أن يكونوا أولياء الله، وأن يكون الله وليهم، وأن يسودوا العالم كله بالحق والعدل والسلام والرحمة.
وتلك الوسائل متلازمة، لا تنفصل إحداها عن الأخرى، فلن تكون مسلما إذا ادعيت طاعة الله ورسوله وأنت تتبع في دينك غير الكتاب والسنة، ولن تكون الدولة مسلمة إذا لم تحكم بالكتاب والسنة، ولن يكون المسلم مسلما إذا ما اتقى في عمله غير الله أو ابتغى به غير وجه الله.
وإني لشديد العجب ممن يفترون على الله الكذب، ويقولون عليه بغير علم، فيزعمون أن الدين لا صلة له بشئون الحكم ولا بشئون الحياة!! كأنما الدين تشريع الفرد في نفسه ولا صلة لأحكامه بشئون الجماعة!! أو كأنما الدين عبادة للصومعة، أما خارج الصومعة فمباح للفرد أن يعمل كيف شاء، وأن يحكم بما شاء أن يجعله قانونا له في الحياة بمقتضاها ]يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا[ [سورة النساء: 60]! هذا ما يريده أولئك المفترون، ببغاوات التقليد لوثنية الغرب وإلحاده! عباد المرأة وسفورها الماجن!
* * * * *
الوسيلة الأولى: طاعة الله ورسوله ([1])
]قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ[. والذي يقترف البدعة يزعمها حسنة متولٍّ عن طاعة الله، جاحد بسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وهو ممن عناهم الله سبحانه ـ والله أعلم ـ بقوله: ]فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ[ [سورة آل عمران: 106]. وما وجبت طاعة الرسول إلا بأمر الله وإذنه: ]وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ[ [سورة النساء].
وقد نبتت للشيطان فتنة جديدة دفعت بعض من ختم الله على قلوبهم إلى حمأة جديدة من الكفر، إذ يفترون الكذب على الله، فيزعمون أن القرآن وحده هو مصدر التشريع، أما السنة فلا!! وهؤلاء أشد على الدين خطرا ممن ينابذونه العداوة جهرا، إذ يتراءون بالتقديس الخاشع لكتاب الله، فيحسبهم الغِرُّ المفتون من ذوي الفكر الثاقب الحر، والتجديد الموهوب!! ولا أدري كيف تصدق طاعة الله إذا عصيت سنة رسول الله؟! كيف يتحقق الإيمان بالقرآن إذا كفر بسنة من نزَّل الله عليه القرآن؟! أيؤمنون به رسولا جاء بالقرآن، ويكفرون به رسولا بيَّن ما في القرآن؟! والأمين الذي ائتمنه الله على كتابه، فبلغه، وشهد الله له أنه بلغه، أليس هو الأمين الذي بيَّن وفصَّل أحكام أمانة ربه؟ ]وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى[ [سورة النجم: 3]، ]وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ[ [سورة النحل: 44]، ]وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ[ [سورة النحل: 64]. ويقول ﷺ «لا ألفين الرجل منكم يأتيه الأمر من أمري، إما أَمرت به، أو نَهيت عنه. وهو مُتكئ على أريكته، فيقول: ما ندري ما هذا!؟ فعندنا كتاب الله وليس هذا فيه!! وما لرسول الله أن يقول ما يُخالف القرآن، وبالقرآن هداه الله». أبو داود، والترمذي.
وإن هذا الحديث ليُعد من أعلام النبوة، فما أخبر به واقع اليوم!!
جزاء الطاعة:
كل نفس إنسانية يشغفها الظفر بالخير الدائم حبا، وتصور لها أحلامها الشاعرة أن تظفر بذلك الخير في مكان تُباكره الآمال، وتُغاديه السعادة، وزمان يطول كالأبدية، ترف بالطمأنينة أنهاره، وتسمىِِ على السلام لياليه، بين أخلاء أمجاد أعزه، خلُّص القلوب، يحيونه بالإيثار، ويُصافحونه بالمحبة. غير أن هذه الآمال النفسية لن تكون في هذه الحياة إلا صورا يسحر بها الخيال صاحبه. ولكن الله سبحانه وعد المطيع ـ ووعده الحق ـ بما هو أسمى وأجل وأصدق من تلك الآمال: وعده أن يُظفره بالخير العظيم الدائم الثابت السليم العواقب ]وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[ [سورة الأحزاب: 71].
ولكن ما هذا المكان الذي ينعم فيه المطيع بهذا الفوز العظيم؟ ]وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ[ [سورة الفتح: 17]. فوز عظيم يسعد به المطيع في مكان كريم هو جنة الله الخالدة.
ولكن تراه يمضي مع الديمومة في الخلود تُسئمه الوحدة ويُقلقه التفرد في مجاليه الوضاء الفساح؟ كلا. بل سيكون مع صحاب آخرين. فمن هم أولئك الصحاب البررة؟ وما مكان ذلك المطيع السعيد بينهم؟ ]وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا[ [سورة النساء: 69].
فوز خيره دائم ثابت، وعاقبة كلها أمن وسلامة، ومكانة ما فوقها للسمو مكانة، وصحاب وهم المصطفون الأخيار عند الله، كل هذا في جنة الله الخالدة.
* * * * *
الوسيلة الثانية: تقوى الله
الطاعة نية قبل أن تكون قولا أو عملا. وقد يكون الباعث النفسي عند الطيع خشية الناس، وتكون الغاية من طاعته ابتغاء الذكر الحسن، فيجهد نفسه في الطاعة حتى يسلم من التقوُّل عليه بما يُسيء إلى مكانته التي يحرص عليها، ويشيدها بالنفاق والرياء، ويكدح في العمل ليعبق ذكرها بين لِدَاته وأشياعه بالصلاح والتقوى!! والله سبحانه يحب أن يكون عبده ملكا له، لا يشركه أحد في نيته، وقوله، وعمله، واعتقاده، فإذا كان قد أذن للعبد في طاعة رسله، فإنه لم يأذن له أن يتقي أحدا غيره سبحانه، بل أوجب أن تكون تقوى الله وحده هي الباعث على الطاعة والغاية منها. والتقوى هي جعل النفس في وقاية مما تخاف. وأشد ما تخافه النفس البصيرة غضب الله، وسوء المصير يوم القيامة. والله وحده هو القادر على أن يقي عبده من كل ما يخاف، فإن الغضب غضبه، والرضى رضاه، والملك كله ملكه ـ جل شأنه ـ ، ولئن كان بعض الملك في الدنيا عارية لبعض خلقه في الحياة، فالملك كله للرحمن يوم القيامة: ]الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا[ [سورة الفرقان: 26].
وإذا كان الأمر كذلك فكيف يخشى عبد الله إنسانا، أو يرهب سلطانا، أو يتقى في طاعته غير خالقه ومالكه ومولاه؟ ولهذا وجه الله الأمر بتقواه إلى الإنسانية ممثلة في إنسانها الأعظم محمد بن عبد الله ﷺ فقال: ]يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ[ [سورة الأحزاب: 1]. أمر لأول المتقين وأفضلهم أن يتقي الله وحده، فما بالك بسواه؟! ولو أن التقوى كانت تجوز لأحد غير الله لجازت لرسوله، إذ جعل طاعته طاعة لله جل شأنه، ولكن الله تعالى يهديك إلى الحق إذ يقول: ]وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ[ [سورة النور: 52]. يأذن الله في طاعة رسوله ويوجبها، أما التقوى فيوجب أن تكون لله وحده، ويقول: ]فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ[ [سورة الأنفال: 1].
وهكذا في كل آية قرآنية تذكر فيها الطاعة والتقوى تجد الأمر بتقوى الله وحده مع الأمر بطاعة الله ورسوله، ولذا كان رسوله يأمر قومه بتقوى الله وحده، وإن كانت طاعته واجبة عليهم بأمر الله مع طاعة الله. أمر بها نوح أول الرسل عليه السلام قومه: ]فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ[ [سورة الشعراء: 108]. وأمر بها هود: ]إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ[ [سورة الشعراء: 125 - 126]، وصالح: ]إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ[ [سورة الشعراء: 143 - 144]، ولوط: ]إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ[ [سورة الشعراء: 162 - 163]، وشعيب: ]إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ[ [سورة الشعراء: 178 - 188].
واجب الأمر بالتقوى:
يوجب الله سبحانه على من يأمر الناس بالتقوى أن يكون الله متقيا قبل من يدعوهم إلى تقوى الله، وأن ينأى بدينه عمن لا يتقون ربهم، فلا يشركهم في مجلس طعام، أو شراب، أو سمر، أو غير ذلك: ]أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ[ [سورة البقرة: 44]، والبر في العبادة: تقوى الله وحده.
ويقول ﷺ : «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل، فيقول له: يا هذا اتق الله، ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد، وهو على حاله ـ فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: ]لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ[ [المائدة: 78 - 81]، ـ إلى قوله ـ ]فَاسِقُونَ[، ثم قال: كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا (أي تردونه إلى الحق)، أو: لتقصرنه على الحق قصرا»([2]) أبو داود والترمذي.
وكما دخل النقص على بني إسرائيل دخل علينا نحن المسلمين، ومازال يدخل، ولن يبرأ المسلمون من هذا النقص الذي أباحهم عبيدا لعدو الله إلا إذا أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وأخذوا على يد الظالم بقوة وشدة.
جزاء التقوى:
يقول سبحانه: ]وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ[ [سورة آل عمران: 179] ترك الجزاء هنا مجملا موصوفا بالعظم ليثير في النفس أشواق المتشوف إليه، ولكن الله سبحانه فصل لنا ثواب التقوى بعد ذلك في كثير من آيات كتابه المبين، والمتأمل فيها يدرك إنه سبحانه جعل للتقوى ثوابا في الدنيا وثوابا في الآخرة، وأنه منه الحسي المادي: تشهده الحواس وتنعم به، والمعنوي الروحي: تشهده الروح، وتسعد به النفس، ويغنم به الفكر.
فثواب التقوى في الدنيا: ]وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ[ [سورة الأعراف: 96]، وثوابها في الآخرة: ]لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ[ [سورة آل عمران: 15]، وهذا هو الثواب الحسي المادي، أي المتقوَّم في ذوات تدرك بإحدى الحواس، أما الثواب المعنوي الروحي فمالي إلا أن أذكرك بآياته، فهو فوق كل بيان بشري مرهوب: ]بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ[ [سورة آل عمران: 76]. فمن ثواب التقوى حب الله لعبده، وما بعد حب الله ثواب في الدنيا والآخرة! ولا أمل تتشوف إليه روح المؤمن الشهيد! وهو ليس بالحب الذي يُولي الجميل والنعمة مرة أو مرات ثم يقطع جوده وفيضه، بل هو حب يعد المتقين بأن الله دائما معهم: ]إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ[ [سورة النحل: 128]، أما الثواب الذي تسعد به النفس: ]فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[ [سورة الأعراف: 35]. اطمئنان رضىُّ الآمال، رفاف البشائر إلى المستقبل، وذكريات تثير في النفس الرضي عن الماضي، والنفس ـ بين اطمئنانها ورضاها ـ صفاء مشرق، وسعادة غامرة، لا يمسها خوف من الغد، ولا حزن على أمس. فأية نفس تسمو إلى أفق هذه السعادة؟! إنها نفس من يتقى الله. إن النفس الإنسانية في الحياة يربطها الماضي بذكراه، ويربطها المستقبل بالرجاء فيه أو الخوف منه، وكمال السعادة النفسية أن يكون رباطها بماضيها الرضى عنه، وبالمستقبل لرجاء المحقق، وانتفاء الخوف من صروفه، فهل توجد هذه السعادة النفسية الكاملة التي يكون المستحيل أحيانا تخيلها؟ وهل يوجد في الحياة البشرية من ينعمون بهذه السعادة؟ إنها توجد في التقوى، والذين ينعمون بها هم المتقون، أما ما يغنهم الفكر والعقل من التقوى، أو ما تغنمه المعرفة الإنسانية وهي تجد في البحث عن الحقيقة: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا[ [سورة الأنفال: 29]، وما يغنم الفكر البشري في الوجود شيئا أجلَّ من أن يكون له فرقان يفرق به بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وبين الهدى والضلال، أي يفصل بالحق بين حقائق الأشياء، ويقوم بالقسط والحكمة كل قيم الدين والمعرفة والأخلاق، فلا تخدعه ظنون، ولا تفته شبهات، ولا تزيغه شكوك. هذا هو الثواب العام، يكفله الله سبحانه لمن يتقيه، ويفيضه نعما تشمل وجوديه المادي والروحي.
ثوابها المخصص ببعض الأحوال:
للنفس الإنسانية في دنياها آمال وأمنيات تسعى إليها وتكدح في سبيلها، وقد يعترض سبيلها الذي ارتضيته مسلكا للرزق عقبات تجعل الرحب الفسيح ضيقا، حتى لتكاد تشعر النفس بانسداد الطريق عليها، وقد تتوجه آمال النفس إلى أمر جليل تحسبه يسيرا، حتى إذا شارفت حماه استعصى عليها وألفته عسيرا لا تستطيع بلوغه إلا بعون كريم، وقدرة أخرى فوق إمكانيات قدرتها. فهل يدعه الرحمن للضيق يستنفذ قوته وصبره، وللعسير يعذب شعوره وحسه وفكره؟ كلا فالله أرحم بعبده من أمه وأبيه، إذ جعل للتقوى ثوابا يرعى به عبده في مثل هذه الأحوال الخاصة كما جعل لها ثوابها العام في كل أحواله العامة، لقد وعده الله أنه معه، فإذا أحاط به الضيق، أو جهده العسر، جعل له من الضيق مخرجا، ومن العسر يسرا ]وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا[ [سورة الطلاق: 2 - 3]. فالمتقي الله لا يجد من الضيق مخرجا فحسب، بل ينعم بالرزق من سبيل كان لا يحتسب فيه رزقا، لأنه على الله متوكل، والمتوكل على الله يكفيه الله كل شئونه، ويبلغ له أمره يريده: ]وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا[ [الطلاق: 4]. لقد اتقى هذا العبد ربه، فكان الله معه، فكيف يستشعر بعد ذلك ضيقا أو عسرا؟! والمؤمن التقي يجاهد قوى الشر التي تحارب إيمانه وتقواه، وهي شهوات نفسه، وفتون دنياه، ووسوسة الشيطان، إنسانا كان أم جنًّا، وقد يمس التقي طائف من الشيطان، فيلقى على بصره غشاوة تختلط بها أمامه الأشياء وقيمها، فيقترف الذنب، أو يتكسب السوء. ولكنه يلوذ بذكر الله، فيبصر الحقيقة التي غشى بصره عنها الشيطان، فيستغفر الله: ]إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ[ [سورة الأعراف: 201]، ]وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ[ [سورة آل عمران: 135].
ولقد وعد الله من يتقيه بمحبته ـ والحب الكريم فياض السماحة والرحمة والمغفرة ـ ومحبة الله لعبده فوق كل حب وأسى وأعظم كرما وأبر جودا، ولهذا يثيب سبحانه عبده ـ التقي ـ إذا أذنب بثوابين، أحدهما: محو أو سلبي، والثاني: إثبات، أو إيجابي: فالأول تكفير ذنبه ومغفرته، والثاني إعظام أجره على حسناته حتى يوارى به كل ذنوبه وسيئاته: ]وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا[ [سورة الطلاق: 5]. وذلك كله ثواب التقوى العام الشامل لكل حال، وثوابها الخاص ببعض الأحوال.
تحقق وعد الله بالثواب على التقوى:
ولما لثواب التقوى من عظم وجلال وجمال، فإن الله سبحانه يؤكد لعبده التقي أنه بالغ ـ ولا ريب ـ ثواب تقواه، لكيلا يمس الشيطان بالشك يقين العبد في صدق وعد الله، أو يُخيل إليه أن هذا الثواب العظيم تهاويل شاعرية، وتصاوير خيال، كما يصنع الشيطان مع من لا يثقون بوعد الله، ولا يؤمنون بكلماته: ]وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ[ [سورة محمد: 36]، فكيف يرتاب عبد تقي بعد ذلك فيما وعده الله به من الثواب على تقواه؟!
جلال فضل الله سبحانه:
أنت تؤمن مع الحق أن تقوى الله سبحانه حق له على عباده واجب عليهم أداؤه، ولكن يأبى الله ـ بفضله ـ إلا أن يثيب عبده على حق أدَّاه، وواجب قام به، فتأمل جود الله وكرمه ورحمته، وفضله، وبره، واسأل من يتقون غير الله ويدعون غير الله ويتوسلون بالموتى، سلهم جميعا: أعند آلهتهم بعض هذا الثواب الذي يعد به ويوليه الإله الحق، الله رب العالمين؟!
* * * * *
الوسيلة الثالثة: اتباع الكتاب والسنة
عبادة الله سبحانه قائمة على أصلين:
أن يعبد الله وحده، وأن لا يعبد إلا بما شرعه جل شأنه، ولهذا فرض الله سبحانه على كل مسلم أن يتبع في دينه كتاب الله وسنة رسوله ﷺ ، ففيهما ما يحب الله أن يعبد به، ويرضاه، ويثيب عليه. فإذا لم تكن طاعة المؤمن وتقواه لله عن بينة منهما، وعلى نور من هداهما، كانت طاعته معصية شرك، وتقواه رجس وثنية، وكان ممن يجحدون بآيات الله، ويكفرون به، ويتهمون الكتاب والسنة بالنقص والقصور، وأنهما لا يهديان النفس في عبادة الله إلى سواء السبيل، وأن ما يشرعه الناس لعبادة اله أهدى مما يشرعان، وأقوم سبيلا، وأصدق قليلا.
أليسوا بهذا يزعمون أنه لا يحسن أن يعبد الله بما شرع، ولكن يحسن بما يفترى الخيال من أساطير الكهان والأحبار.
يقول العلي الكبير العليم سبحانه: ]ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ[ [سورة الجاثية: 18 - 19]، ]وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ[ [سورة يونس: 109].
هذا الرسول العظيم، هذا العبد القانت الذي كان لا يقشعر إلا من خشية الله، وإن رجفت الدنيا به، أو زلزل بطش الطاغين بناء الحياة حوله!! هذا العبد الكريم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، والرسول الذي شهد ملكوت السماوات في تجلية الأعظم: يصلصل الوحي الأمين في سمعه بقول الله: ]وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ[ [سورة يونس: 109].
وبهذا يتوجه الأمر والنهي إلى العالم كله، إذ وجه إلى أعظم عبد كريم طيب الوجود كله برسالته، وأمر المؤمنين بالصلاة عليه. ولكن في كتاب الله من الآيات ما يتوجه به ذلك الأمر والنهي إلى كل مسلم توجيها مباشرا.
]اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ[ [سورة الأعراف: 3]. يجمع أسلوب هذه الآية المعجزة بين الإثبات والنفي، أو بين الإيجاب والسلب، أو بين التحلية والتخلية ـ كما يعبرون ـ . إنها تثبت وتوجب اتباعا، وتنفي وتسلب آخر. وفيها تحلية النفس بنور الحق وصفاء الإيمان الموحد، وتخليتها من ظلام الباطل ودنس الشرك. فما ينفع المريض غذاء، إذا لم يشف من الداء بالدواء.
والاتباع الذي توجبه الآية هو اتباع ما أنزل إلى العبد من ربه، فليس فيه مسَّةٌ من غضاضة على كبرياء النفس الإنسانية، ولا وخزة لكرامة البشرية التي تحمد الخير، وتشكر النعمة، ولا إذلال بالباطل لحرية الفكر الذي يسمى الشيء باسمه الحق، بل فيه ما يسمو بالنفس، ويعلي من شأن الكرامة، ويهدي الفكر إلى حمى الحقيقة العليا، لأنه اتباع ما أنزله "الرب" الذي ربانا بالحق والرحمة، وغمرتنا فيوض جوده، وهو وحده العليم بما يقيمنا، ويصلح لنا الدين والدنيا، ويكفل لنا السعادة في الحياة الأولى، والحياة الآخرة، فيستحق الله وحده بهذه الربوبية أن نعبده بما شرعه هو سبحانه، إذ لا يشركه أحد في تلك الربوبية، وما اشد العجب من أولئك الذي يتعشقون ذل التبعية للعبيد، ويستنكفون عن عزة التبعية لله رب السماوات والأرض سبحانه!!
النهي عن اتباع غير كتاب الله:
للنفس البشرية عواطفها ومنازعها، ولكل فرد بيئة يعيش فيها، ولكل بيئة تاريخها وخصائصها واتجاهاتها في الحياة، وتجاوبها بالمشاعر والوجدانات مع الوجود، ولها أفراد تصور لهم أوهام عشاقهم صور النساك والقديسين، وتكسوهم الخيالات بوشى الأساطير، وتوشيهم العواطف بسحر الفتنة، فإذا هم محاريب القلوب عند المحبين، ومعابد الفكر عند المفتونين، وإذا هم لتلك البيئة أرباب وآلهة، وينشأ الفرد في بيئته، ويصله بما فيها ومن عليها حاجة النفس والقلب والحياة، فتفرض عليه البيئة سلطانها الجبار، فيسلك ما تسلك هي من سبيل، ويتخلق ويتدين بأخلاقها ودينها، ويقيس الأمور وينظر إلى الأشياء بمقاييسها ونظراتها، فلا يصنع هذا الفرد في تاريخ تلك البيئة إلا قصة هي في بدئها ونهايتها ككل ما طوى التاريخ من قصص أشياع بيئته الذاهبين. ولكن الإنسان الحر الذي يأبى أن تستعبده الأوهام، والشاعر بوجوده، وقيم ذاته، والذي يأبى أن يفنى وجوده ويمحو ذاته في وجود الآخرين وذواتهم ـ هذا الإنسان ـ يأبى أن يُطفئ بيده ما أودع الله فطرته من نور يميز به بين الخبيث والطيب، وبين الشر والخير، ويأبى أن يعطل ما منحه الله من عقل يفصل به بين الحق والباطل، فيستعلى بهذا على العبودية للعبيد، ويسمو بكرامته أن تنحط بها التبعية لبشري مثله، لا يميزه إلا شهوات تصرف دنياه، وأوهام تسيطر على فكره، ويزعم لها أنها إلهام من نور الحقيقة، وكذلك يأبى الحر الشاعر بإنسانيته وكيانه الذاتي أن يكون إمعة ساقط الهمة يقود حطامه الظن الذي جسده له الشيطان في هيكل ولي، وبهذا يتعالى بالصدق عن بيئته، ويوجه الفكر إلى الحق، والنفس إلى الهدى، والأخلاق إلى الخير، والحياة إلى الجهاد في سبيل ذلك كله، فيسجل في تاريخ بيئته سيرة البطولة، وقصة العبقرية، والحرية الفكرية الملهمة من اليقين، والاستشهاد النبيل الكريم في سبيل المثل العليا، في سبيل الإيمان الذي حماه من الطاغوت ثم حلق به فوق ما تستشرف النفس المؤمنة من آفاق السمو والجمال. ولا يكفيه أنه حطم القيد عن نفسه، ودمر الأغلال التي كانت تمسك به عبدا ذلولا للعبيد، بل إنه يمضي جبار القوة رحيمها، يحطم القيود الظالمة والأغلال الطاغية عن الأسارى الآخرين سجناء الأوهام.
ذلك ما تهدي إليه الآية الكريمة في تحذيرها ونهيها عن "اتباع الأولياء من دون الله"، تريد من كل فرد أن يكون بنفسه لله وليا، وأن يسمو ذاته عن ذل التبعية لبشر مثله، وأن يكون هو بقوله وعمله واعتقاده البطل الذي يقود إلى الحق، لا الإمعة التي تقاد إلى الباطل، وأن يمحو عن فكره غشاوة التقليد، ونزعات التأليه للبشر.
وبهذا تقوم الشريعة الإسلامية ذات الفرد تقويما كريما ساميا يربيها على الرعاية لكرامتها، والعمل لما فيه عزتها، ويثبت في قرار يقينها الإيمان بالمساواة المطلقة بين الناس جميعا.
قليلا من التذكر:
تنهى الآية عن اتباع الأولياء من دون الله، وتحذرنا من فتنة العاطفة التي تسخرنا لبعض عبيد الله عبيدا أذلة، ثم تختم بالملامة: ]قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ[ ! حقا قلما نتذكر أن الإنسان ليس له في وجوديه وحياتيه من ولي سوى الله، وهذه حقيقة يؤمن بها الفكر البصير، والنفس التي لمست خبرتها سرائر الحياة، بل قليلا من التذكر يمكن للإيمان بهذه الحقيقة من يقين النفس، وإيمان القلب. قليلا من تذكر النشأة الأولى، حيث كانت الإنسانية قدرا من الله في التراب، أو في الطين، ثم خلقا سويا بيدي الله، تلك هي انتفاضة البشرية الأولى من العدم إلى الوجود، فمن رب القدر حيث كانت الإنسانية عدما، ومن رب الخلق إذ استوت ذاتا يقوم بها الوجود، قليلا من تذكر الحياة الإنسانية الأولى وهي تكافح على الأرض، فمن ألهمها الكفاح، وعلمها سبيله، وحقق لها الغاية منه؟ لمن تلك الربوبية الرحيمة التي كانت تمدها بالعون وبالقوة، وهي تُجالد الزلازل، والأعاصير، بين هزيم الوعود، ودمدمة البراكين، وزئير الوحوش يتلمظ على أضراسها الموت؟! قليلا من تذكر النطفة والعلقة والمضغة، والحياة تسري في العظم واللحم من الجنين!! قليلا من تذكر الجنين غيبا مجهولا!! ترى من كان يمده بالري والغذاء، ويحميه من ظلمة الليل، وضوء النهار، ووهج الحر، وزمهرير البرد، وصخب الحياة حول أمه؟ من كان يربيه وهو بين فرث ودم وماء، ويحفظ عليه سمعه وبصره، ويجعل له من مكانه الضيق رحابا أوسع من رحاب الوجود؟ قليلا من تذكر ذلك الجنين وهو في اللحظة الفاصلة، إذ أذن الله له بالخروج، من الذي ألهمه أن يهبط إلى حيث ينفتح له باب الحياة، وأن يناضل برأسه الصغير لينفذ من بابها الضيق؟ ومن الذي ألهمه حينئذ أن يبحث عن غذائه في ثدي أمه؟ ومن الذي أودعه له نقيا خالصا سائغا في ثدي أمه الرءوم العطوف الحنون؟! يا للجنين الوليد يجرع أمه العذاب، فتسيغه برحمة الله شهدا صافي الرحيق، وتستشعره أنساما من رحمات الخلود!!
قليلا من تذكر الإنسان نفسه، وهو في مدارج الحياة طفلا وصبيا وشابا وكهلا وشيخا!! قليلا من تذكره النظرة الأولى يستقبل بها الحياة، والنظرة الأخيرة يودع بها الحياة والأحياء، وإغماضة العين على الحق الذي سطع عليه روعته وجلاله وهو في البرزخ الدقيق الفاصل بين الموت والحياة: ]وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ[ [سورة ق: 19]، ]لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[ [سورة ق: 22].
قليلا من تذكرك هذا ـ أو بعضه ـ يدفك إلى الإذعان المؤمن بقول: ]اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ[ [سورة الأعراف: 3].
نص الكتاب على وجوب اتباع السنة:
كل آية تنص على وجوب اتباع الكتاب تتضمن الدلالة على وجوب اتباع السنة، فما لم نتبع السنة فقد تركنا من القرآن بيانه. وفوق هذا نصت آيات كثيرة على جوب اتباع السنة: ]وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ[ [سورة الزخرف: 61]، ]فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ[ [سورة الأعراف: 158]، ]وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا[ [سورة الحشر: 9]، ]أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ[ [سورة يونس: 35]، وغير ذلك كثير في القرآن، وفي هذه الآية الأخيرة قضية جلية الطرفين تعرض على العقل الإنساني، وهذه القضية هي: هادٍ يؤمن العقل ويقر له بأنه يهدي بذاته وعلمه إلى الحق، وآخر يوقن العقل بأنه لا يملك أن يهدي نفسه، وإذا هدي فإنما بهداية الأول، فهو بالأولى لا يملك أن يهدي غيره، فأي الطرفين يحكم العقل بوجوب اتباعه؟! لن يتردد العقل لحظة في الحكم، ولن يرتاب في وضوحه وجلائه، فالحكم بيِّنٌ يدركه حتى الأمي الجهول، ويحكم به حتى الجحود إذا خلا إلى نفسه! في الآية هزة جبارة القوة توقظ الفكر البشري من سُباته العميق ليفزع إلى اليقظة البصيرة، حتى يدرك أنه في غفلته سمى النور ظلاما، وسمى الظلمة نورا، في الآية قضية الدين والوحي في سمو جلال نسبتهما إلى الله، وقضية الخرافة والأسطورة ينسج عناكبهما الأحبار، وينازعان بهما كتاب الله. فأما وحي الله الهادي بذاته فيدعو إلى الإذعان المطلق لما يشرع، والاستسلام التام إليه بالفكر والقلب والشعور، والنية الصادقة، والعزم المصمم يتجلى عملا إيجابيا، لا يبغي غير وجه الله ذي الجلال، وأما أولئك الكهان والأحبار فيدعون إلى أخذ الدين من كتب ما فيها من الحق سوى أنها ورق سودته المطبعة بباطل وضلال، أو أمشاج من باطل وحق، فأي الفريقين خير مقاما! وأيهما أولى بالطاعة والاتباع؟! ألا إن وضح الحق أجلى من وضح الشمس في الضحوة الصافية، ولكن شهوات السوء وفنون الجاه تأبى إلا أن تجعل الواضح غموضا مستغرقا في الإبهام، وأن تطمس الحقائق البينة، فتفسد على الناس الفطر والعقول.
حث الرسول على اتباع الكتاب والسنة:
قال ﷺ : «إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال: إني رأيت الجيش بعيني، وأنا النذير العريان، فالنجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا ـ (ساروا الليل كله) ـ فانطلقوا على مهلهم، فنجوا، وكذبت طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش، فأهلكهم، واجتاحهم ـ (أهلكهم) ـ فذلك مثل من أطاعني، واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني، وكذب ما جئت به من الحق» "الصحيحان". وقال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد» "الصحيحان وأبو داود وابن ماجة"، وفي رواية: «من صنع أمرا على غير أمرنا فهو رد». وقال ـ يهدي أمته سواء السبيل ـ : «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله» "الموطأ". وقال: «إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» "أبو داود والترمذي". ولكن بعض الشيوخ يقولون لك: البدعة قسمان: حسنة وسيئة!! في حين يقول الرسول:
«كل بدعة ضلالة»، فأيهما نصدق؟!!
جزاء اتباع الكتاب والسنة:
أوجب الله سبحانه على كل مسلم اتباع الكتاب والسنة، وهذا الواجب المفروض حق لله سبحانه على عباده، ولكن فضل الله الأسمى يجعل للعبد الذي أدى حق الله عليه ثوابا بالغ الجلال والجمال والعظم، وإليك من آي القرآن ما يدفعك تدبرها إلى تطييب لياليك بالتهجد له سبحانه، وتقويم حياتك بالجهاد في سبيله، وإخلاص عبادتك له باتباع كتابه وسنة رسوله ﷺ : ]فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[ [سورة البقرة: 38]، ]وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى[ [سورة طه: 47]، ]فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى[ [سورة طه: 133]، ]فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[ [سورة الأعراف: 157]. حياة رضية يفيض عليها الأمن والسلام، ونفس صافية البشائر طيبة الآمال، لا يمسها حزن على ماض خلا، ولا يقلقها الفكر الخائف من غد مغيب، بل يلتقي ماضيها وحاضرها ومستقبلها على الرضى والبشر والسعادة، وفكر رشيد بصير لا تشتبه عليه قيم الأشياء، ولا يلتوي عليه الحق منها، وهذا بعض ما يجزي به الله من اتبع رضوانه، واقتدى برسوله، وهذا الجزاء ليس في الآخرة فحسب، بل في الدنيا كذلك، فالمتبع للكتاب والسنة قد أصبح الفلاح من صفاته المقومة لوجوده في الحياة الأولى والآخرة.
حب الله وسبيله:
وأسمى من ذلك الجزاء وأجل: محبة الله سبحانه لمن يتبعون هداه، والنور الذي أنزل على عبده ورسوله محمد ﷺ : ]قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[ [سورة آل عمران: 31].
يتسامى الحب جلالا وصدقا وكمالا بفعل ما يرضي المحبوب، وتجنب ما يسخطه، والتزام هذا، حتى في النظرة العابرة، والهمسة الخافتة، واللمسة الذاهلة، الحب شعور وعمل، وأجل أنواع الحب ما امتلأ به القلب، واستكانت راضية لسلطانه النفس، ووجه القول منك والعمل إلى ما يرضي الحبيب، ويشهده على صدق الحب منك وصفائه، وإلى الإصغاء ـ يسكن به وجودك كله ـ إلى ما يريده ويأمر به، لتعمل ما يحقق إرادته فيك، ويمضي أمره لك، وليس ثم من يحب لذاته ومن كل وجه إلا الله سبحانه وتعالى، يُحب مبتليا بالسراء ويحب مبتليا بالضراء، يحب معطيا، ويحب مانعا، يحب باسطا، ويحب قابضا، فهو الله الرحمن الرحيم الحكيم الخبير رب السماوات والأرض، ندين له بالحمد على المكروه، كما ندين له بالحمد على المحمود، والمؤمن الحق من يحب الله في ذل الفقر، كما يحبه في عز الغنى، يحبه ولياليه بشائر آمال، كما يحبه ولياليه مآس حزينة، فالكل من سنن الله الكونية، وأصدق الأدلة على حب الله، الصبر على ابتلائه سبحانه بالنعمة وابتلائه بغيرها، فالله يقول: ]فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا[ [سورة النساء: 19] إذ لا يعلم حقائق الأشياء على ما هي عليه في علم الله إلا خالقها العليم الخبير، أما شكره على النعمة، وشكاة أقداره في غيرها، فكفر وجحود بالرب الرحيم: ]فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ[ [سورة الفجر: 15 - 16]. جعل الله الحالين ابتلاء للإنسان، فشكر في النعمة وكفر في غيرها، فكان شكره كفرا، ومن صور المستحيل أحيانا أن يجمع الحب الصدوق بين السيد وعبده في الدنيا، وحسب العبد سعادة ـ تغمر وجوده كله ـ بسْمة يُرنَّحها زهو الخيلاء على فم سيده، أو كلمة حلوة يتفلها طرف لسانه، أو لمسة حانية من كف سيده المترفة النعيم، وإذا تناهت محبة السيد لعبده ناده باسمه، فيحسب المسكين أن سيده يقول له: يا سيدي!! صور في ذهنك ـ بالخيال ذي الشاعرية المجنحة بالتهاويل ـ ملكا يقول لعبده من فوق عرش ملكه: عبدي إني أحبك!! ألا يشعر ذلك العبد حينئذ ـ من نشوة السعادة ـ أن الوجود كله بعض ملكه؟ وقد يكون في الملك هذا من هنات البشرية ما فيه، ومن بغي الجور ما يرجف منه الجماد، فما بالك ـ ولله المثل الأعلى ـ بالله يجزيك عن صدق اتباعك للكتاب والسنة: بحب إلهي كريم، وشتان ما حب العبد لله، وحب الله لعبده، ذك حب العبيد، وهذا حب مالك العبيد وخالقهم.
وليس هذا فحسب، بل ثم فضل يسابق فضلا، فاسمع للرسول ﷺ يبشرك: «إذا أحب الله العبد نادى: يا جبريل إني أحب فلانا، فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض» "متفق عليه".
تتبع الكتاب والسنة، فيصدق منك الحب لله، فيحبك الله، ويأمر جبريل أن يحبك، وأنا ينادي في السماء أن الله يحبك، فيحبك أهل السماء، ويضع لك الله في الأرض القبول في قلوب الناس. فهل في قدرة البيان البشري ـ يكاد يعجز البلاغة ـ أن يصف هذا الثواب؟! أو يبين عن لمحة من نور حب الله، إذ ينادي: «إني أحب فلانا فأحبوه»؟ لو أنا فرضنا وجود المستحيل، وزعمنا يجمع بين ملك وعبده، فلن يبلغ تصور المستحيل جدا نتصور فيه أن الملك يشع في مكان ذكر حبه لعبده، ولكن الله يحب عبده، ويذكر لملائكته أنه يحبه، ويأمرهم أن يحبوه معه!! ترى أعند من يتبعهم الناس من دون الله حتى حلم من هذا الثواب؟!
حب غفور:
ومن شيمة الحب الذي تناهى في السمو والصدق عدم الذنب فيه أو قلته، ولكن الله سبحانه القوي يرعى ضعفك البشري الذي يلمسك بالذهول لحظات عن حبك لربك، ويدفعك ـ بفتنة الشيطان لك ـ إلى اقتراف الذنب. يرعى الله القوي ضعفك هذا، فيعدك ـ حين يصدق حبك بصدق اتباعك ـ بغفران ذنبك، إذ يقول في الآية: ]إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[ [سورة آل عمران: 31]. فليس ثواب اتباع الكتاب والسنة حب الله وملائكته لك فحسب، بل حب الله ومغفرته، ولذا تختم الآية بالاسمين الجليلين اللذين يفيضان على قلب المؤمن المذنب طمأنينة الرجاء، وأنوار الأمل في مغفرة الله ورحمته ]وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[. فلا تعجب من العجب الإلهي الغفور، لأنه حب ربك المنان بالمغفرة، الجواد بالرحمة سبحانه وجلال الحق!
لولا حاجة من يحبك في الدنيا إليك، وافتقار روحه إلى أنس هواك وعذاب نفسه من هجرك ما غفر لك ذنبا، ولا صفح عن إساءة، ولكن الله غني عن العالمين جميعا، فسبحانك اللهم كتبت على نفسك الرحمة!!
الوسيلة الرابعة: الاحتكام إلى الكتاب والسنة
ربنا الله ـ جل شأنه ـ واحد، يحب أن يكون الناس أمة واحدة، تدين بالعبودية الخالصة لرب واحد، هو الله رب العالمين، ولهذه المحبة الإلهية نزل الله سبحانه للإنسانية جمعاء كتابا واحدا عربيا مبينا، فصل لهم فيه كل شيء يقيم الدين على الحق واليقين، ويقوم الحياة بالخير والسلام والمحبة، ويجمع على توحيد الله العقائد، وعلى حبه القلوب، وينزل على حكم الله الفصل كل حاكم في الدنيا ومحكوم، ولكن في الجبلة الإنسانية هوى المغالبة، والنزوع إلى المخالفة، وللفكر الإنساني متاهات يهيم بها، فتشتبه عليه حقائق الأشياء وقيمها، وللعواطف البشرية أهواء تستزلها عن الخير العام، وللنفس نزوات تثير فيها الأثرة الباغية، فتسعى إلى جعل الكل للبعض، وفي الدنيا فتون يرقصها الشيطان للناسك في صومعته، ليضله عن ذكر الله. أفيترك الإله الواحد الرحيم عباده يبدد جماعتهم الخلاف، وتفصم عرى وحدتهم المنازعة؟ كلا، فإن الله الرحمن الحكيم. ولذا بين لهم ما به يرأبون الصدع، ويلمون الشعث، ويجمعون الشتات، إذا ما لوى الخلاف عن الحق والحب أعنة القلوب والعقول، ذلك هو الاحتكام إلى كتاب الله وسنة رسوله، فلم يتركهم لسبحات الخيال، ولا لتهاويل الشاعرية، ولا لأساطير الفكر وخرافاته، ولا للطواغيت والأصنام البشرية يحكمون فيهم بالهوى والفتنة والشهوة، وفي إيجاب الله سبحانه ذلك تسام بالكرامة الإنسانية، وإعلاء من شأنها، إذ يوقفها بين يديه يحكم فيها برحمته التي سبقت غضبه، وبعدله الإلهي الأسمى، لا بين يدي فرد منها يوجه حكمه الهوى، وتفتن عدله الشهوة، وتسكنه عن قول الحق عاطفة. في إيجاب الله ذلك حجة من الله على خلقه وبرهان، على أن في الكتاب والسنة حكم كل شيء يختلف فيه عباده من شئون الدين والحياة، وإلا ما أمرهم بالاحتكام إليهما! وإليك من آي القرآن ما يوجب ذلك، ويهديك إلى الإيمان بوجوبه: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ ([3]) فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا[ [سورة النساء: 59]. فليس الاحتكام إلى الكتاب والسنة واجبا حين يختلف المسلم مع أخيه المسلم فحسب، بل واجبا كذلك حين تهم همسات الخلاف بإيقاع الفتنة بين المسلمين وبين أولي الأمر منهم، وهكذا تدك الشريعة الإسلامية هياكل الظلم والطغيان والاستبداد، وتعلي من شأن الحرية والعدالة والكرامة والمساواة إلى أفق علوي لا يحلم بالوصول إليه قانون بشري، إذ جعلت للمحكوم هذا الحق، وعلى الحاكم هذا الواجب.
ومعنى الرد إلى الله في الآية هو الاحتكام إلى كتابه، ومعنى الرد إلى الرسول الاحتكام إليه في حياته، وإلى سنته ﷺ بعد مماته، وقد جعل الله سبحانه هذا من أصول الإيمان وموجباته، فإذا ما انتفى الرد إلى الله ورسوله انتفى الإيمان بالله واليوم الآخر ]وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[ [سورة الشورى: 10] وردت كلمة ]شَيْءٍ[ هذا موردها في الآية السابقة، وهذا يمكن للإيمان واليقين من القلوب بوجوب الاحتكام إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ في قضايا الدين، وقضايا الحياة، ويقرر أنه ما من شيء يختلف فيه المسلمون إلا وفي الكتاب والسنة بيان حكمه، والفصل فيه.
]أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ[ [سورة المائدة: 50]؟ إلا أحد، فما ثم إلا حكمان: حكم الله، وحكم الجاهلية. وإن الطفل ليدرك أن طرفي هذه المقابلة لا يلتقيان، ولا يكونان معا، ليدرك أنه ليس بينهما تضاد فحسب، بل تناقض حاد. فإذا حكم بوجود أحدهما حكم بعدم الآخر، فإما حكم الله، وإما حكم الجاهلية: ]فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ[ [سورة يونس: 32]! فمن يحتكم إلى غير الكتاب والسنة فهو ممن يحتكمون إلى الجاهلية، فماذا تحكم على من يوجب الاحتكام إلى كتب مذهبه، وعلى من يستفتي في دينه رجلا لا يدين بما في الكتاب والسنة؟ وعلى من يقلد زنديقا يزعم أنه الله كما تلحد الصوفية؟! كتاب الله مهجور لا يذكره الأحبار إلا في مأتم، أو عند قبر، أو لتسطير تميمة، والسنة ـ ويا أسفي ـ يطغون عليها بالبدع، يسمونها "حسناوات"!! وصاحب السنة الأمين الصادق يقول: «كل بدعة ضلالة». أما الكتاب والسنة عند الصوفية؟! أسمعت بأبي جهل يحب الرسول ويصلي عليه؟! وبالإلحاد يؤمن بالله؟! وبالشرك يدين بالتوحيد؟! وبالنفاق يخلص الدين؟! وبالكفر يقيم وجهه الله خاشع الصلاة في المحراب؟! يريد منكم زعماء الصوفية وأقطابهم أن تسمع بهذا، وأن تؤمن به؟!
بم جازى الله المختلفين من الأمم السابقة؟
جازى الله من اختلفوا في الدين من أهل الكتاب بالشقاق البعيد، يقطع أرحام المودة، ويفتك بعلائق الأخوة، ويشتت شمل الجماعة، وجازاهم بإيقاع العداوة والبغضاء بينهم: ]ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ[ [سورة البقرة: 176]، وقال عن اليهود: ]وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ[ [سورة المائدة: 64]، وقال عن النصارى: ]فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ[ [سورة المائدة: 14]، وبمثل ذلك وأشد جوزي المسلمون لما اختلفوا في الكتاب والسنة، فاجتالهم عدوهم، وحازهم في بقاع صغيرة من الأرض أذلة، وربط خطامهم ببغيه وجوره، كلما ثارت حرب قاتل المسلمون معه ـ لا في سبيل إعلاء كلمة الله ـ بل في سبيل أن يزداد الغاصب المستعمر بطشا وعتوا وفجورا، وأن يستعبد خلق الله لأصنام الكفر وأوثان الطغيان!!
اتباع سنن اليهود والنصارى:
يماري في الحق الذين يستعبدون الناس بشهواتهم، فيزعمون أن المسلمين بخير، وأنهم مطمئنو القلوب إلى توحيد الله في ربوبيته وإلهيته، وإني أذكر أولئك بما نبأنا به الصادق الأمين من أربعة عشرة قرنا ـ رسول الله ﷺ ـ : «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة([4])، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه». قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟» "الصحيحان". ويقول: «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون شبرا بشبر، وذراعا بذراع». فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ قال: «ومن الناس إلا أولئك»([5]) (البخاري).
وهكذا أوحى الله إلى رسوله بما سيقع لهذه الأمة، وصدق رسول الله ﷺ ، وكذب المفترون، فقد أخذ المسلمون مأخذ اليهود والنصارى وفارس والروم، فجازاهم الله بما جوزي به أولئك من قبل، فلنعترف بالداء الوبيل لعلنا بذلك ننشد الدواء ريان الشفاء، وإنه لفي كتاب الله: ]قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ[ [سورة فصلت: 44] أما أن تأخذنا العزة بالإثم، فنأبى أن يُقر المريض بدائه، أو نلقي تبعة ما نحن فيه على غيرنا، أو نسائل عن سبل العزة ومكانها، أو نحاول مداواة الداء بالسم الناقع من إلحاد الغرب وفسوقه، أما أن نفعل ذلك ـ وبيننا كتاب الله وسنة الرسول ﷺ يقولان للمسلمين عن الداء الذي يفتك بهم ويدلانهم على الدواء الذي يشفيهم ويبينان لهم سبيل العزة والقوة والمجد ـ فثقوا أيها المسلمون أنكم ستظلون كما أنتم: أحلاس فتنة، ومهاوى ذلة، ومغدى ومراح مستعمر. أما إذا فررتم إلى الله: ]فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ[ [سورة البقرة: 275].
أما أنتم يا علماء المسلمين في كل وطن فهذا واجبكم تذكركم به الآية الكريمة: ]لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ[ [سورة المائدة: 63].
افتتان الناس بعلمائهم:
يفتتن الدهماء والجهُّال دائما بعلمائهم، فإذا دعاهم إلى الدين الحق داع من غير العلماء صمت الأسماع، ونفرت القلوب، إذ يسول لهم الشيطان أن ما يدعوهم إليه دعاة الحق ليس إلا جمودا وتنطعا في الدين، ومقتا لرسول الله وأولياء الله. ويدلل لهم على صدق وسوسته بما ارتضاه دينا أولئك العلماء ذوو الجاه العريض، والصيت البعيد، فلو كان دعاة الحق صادقين لكان أولى بهذه الدعوة وتأييدها هؤلاء العلماء المشهود لهم بالكفاية، والدراية التامة، وقوة الاستظهار لكل متن وشرح وحاشية، والذين قضوا نصف قرن يردون ناهل العلم، ومشارع المعرفة! فعدم قول العلماء بقول دعاة الحق برهان على أنهم يرون هذا القول منكرا، وخطرا على روحانية الدين، وقداسة الأولياء والأئمة، فلا يجوز اتباع أولئك العوام دعاة الحق وترك الاقتداء بالعلماء ذوي الألقاب الفخمة الضخمة!! بهذا يوسوس الشيطان للدهماء، وبه يفتنهم عن دين الله، ويغريهم بعداوة الحق.
ولكن ما كان من يسميهم الناس علماء الدين في كل أمة دائما على حق، ألم أذكرك بآيات الله التي تقرر أن المختلفين في كتاب الله كانوا دائما من هم على بينة منه، من الذين يعقلونه، ويفهمون معانيه، فيحرفون الكلم عن مواضعه بغيا وفتنة؟! وأذكرك الآن بقول الله: ]وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ[ [الأنعام: 114]. ثم إليك من آي القرآن ما يبين لك صفات العلماء بحق، وعلى هديها احكم بالحق! ]إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[ [سورة فاطر: 28]، ]وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ[ [سورة الحج: 54]، ]وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا[ [سورة آل عمران: 7]، ويؤمنون بمحكم الآيات، ويؤمنون بالمتشابه منها بردها إلى المحكم، ولا يرتابون، ولا يمارون: ]لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ[ [سورة النساء: 162]. هذه هي صفات من يسميهم الله بالعلماء، ويصفهم بالرسوخ في العلم. إنها توحيد لله خالص اليقين، وإيمان صادق، وعبودية صافية، وخشوع طهور، وتقوى تطيب بها المحاريب، ويقين بما أنزل الله ثابت، واتباع صادق له، ودعوة إليه.
ومن علمائنا اليوم في مصر وغيرها ـ بحمد الله ـ طائفة أنعم الله عليهم بهذا، يصدعون بالحق، ويعلون من كلمة الله، لا يطمعهم وعد، ولا يرهبهم وعيد، ولا تستزلهم عن الدعوة إلى الله فتنة الجاه الكذوب. ولكنهم ـ ويا أسفاه ـ مضطهدون!! إنهم النجوم التي بقيت تتلألأ في ظلمات هذا الليل الرهيب، تحاول السحب الدكناء أن تحجب عن الحيارى السارين بريقها المتلألئ. إنهم منارات الحق وأعلامه، يهابهم قراصنة البحر، وقطاع الطريق، فيكيدون لهم بالبغي والعدوان؟! غير أني أقول لأولئك الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه: ليضطهدكم الأبالسة، وليؤلب الشيطان عليكم خيله ورجله، ولكنكم بالله تعتزون، فستنتصرون، فاضربوا بمعاول الحق معبد الصنم، وهيكل الطاغوت، إنه بدأ يهوى، وآن أن ينهار على رأس كل جبار عنيد من دعاة الوثنية وعشاق البغي من جور المستعمرين.
الفتنة بالأكثرية:
يفتن الشيطان كل إمعة بفتنة الأكثرية، إذ يسول له أن الحق معها، وليس مع هذه القلة التي تدعو الناس إلى الدين القيم. وبهذا الخبال الفاتن لا يقيم أولئك الإمعات للحق وزنا، ولا يقومون قيم الأشياء وحقائقها إلا بما يقومها به غيرهم ممن عاندوا الحق، فكانت منهم الأكثرية التي يلوذ بها الباطل. ولكم يستغرق في العجب أولئك المفتونون بالأكثرية من هذه القلة التي تدعوهم إلى الحق، ويبهتونهم بالمروق عما ارتضاه أكثر الناس دينا!! وهكذا يجعلون الناس أدلة على الحق والحقيقة، لا الحق أدلة على الناس، ويقومون القيم بالأشخاص، والحق تقويم الأشخاص بالقيم! فيؤمنون بالشيء، لأن فلانا آمن به، ويثقون به، لأن فلانا قال لهم ذلك، دون أن يكون لهم حجة على ما آمنوا به، ووثقوا، ولا أثارة من علم، أو شية من التفكير، فحسبهم على الحق دليلا شخص فلان!!! ولهذا شدد الله النكير على التقليد، ووصف المقلدة بأنهم شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون، وأوجب على كل مسلم أن يحتكم في دينه ـ لا إلى ما يؤمن به الناس ـ بل إلى الحق في ذاته، والهدى في ذاته، نزل بهما كتاب الله، ودعا بهما وإليهما رسوله الكريم. ثم إن الأكثرية لم تكن دائما على الحق دليلا، ولا سببا داعيا إلى الإيمان به عن طريقها.
ولهذا ذكر الله في كتابه من آياته المحكمات ما يحول بين النفس الصافية وبين الفتنة بالأكثرية تؤمن بشيء، فتتبع ما رضيته، ونسلك ما سلكته الأكثرية من سبيل عن عمى وجهالة: ]وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ[ [سورة يوسف: 103]، ]وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا[ [سورة الفرقان: 50]. يبين لنا هذا الهدي والحق أن أكثر الناس لا يؤمنون بالحق، وأنهم يأبون إلا كفورا بالحق، فكيف نجعل دين الأكثرية دليلا على الحق وصدق الإيمان؟! والحق هو ما في الكتاب والسنة، لا فيما آمنت به الأكثرية: ]إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ[ [سورة هود: 17].
أفيعقل بعد اليوم عباد الأكثرية؟ ثم إن الله سبحانه يبين لنا أن أكثر الناس في كل عصر كانوا جهالا ضلالا جاحدين للنعمة فساقا ينقضون عهد الله: ]وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[ [سورة يوسف: 21]، ]وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ[ [سورة البقرة: 243]، ]وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ[ [سورة الأعراف: 102]، ]مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ[ [سورة آل عمران: 110]، ويقرر لنا سبحانه أن هذه هي سنة البشرية، يضل الشيطان الأكثرية منها: ]وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ[ [سورة الصافات: 71].
ولذا ينهي الله سبحانه ويحذر من طاعة الأكثرية دون بصر أو تدبر، ومن الفتنة بها، حتى لا نضل عن سبيل الله: ]وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ[ [سورة الأنعام: 116].
فلا يفتنك بعد اليوم أحبار ولا أكثرية ضالة.
الوسيلة الخامسة: الحكم بالكتاب والسنة
من شريعة الإسلام تنصيب حاكم يحكم بين المسلمين بأمر الله، ويجتمعون على طاعته ما أطاع الله فيهم، وبهذا يسود النظام التام حياة الجماعة الإسلامية، ويمكن للحاكم من إقامة حدود الله، ففي الإسلام ـ فوق العقوبة الأخروية ـ عقاب دنيوي، كحد الزاني والسارق وشارب الخمر وقاذف المحصنة وقاطع الطريق والباغي على الجماعة الإسلامية التي تحكم بالكتاب والسنة والقاتل ظلما، ولم يجعل الله حق إقامة الحدود على مستحقيها إلا للحاكم بعد أن يرفع إليه أمرهم.
وفي الإسلام قصاص، وفيه إيجاب الاحتكام إلى الكتاب والسنة، فإذا لم يكن ثم حاكم إسلامي عام فمن ذا الذي يقيم الحدود، ويقتص للمظلوم، ويفصل بين المتخاصمين؟! ولهذا أوجب الله على المسلمين أن ينصبوا عليهم من أنفسهم حاكما عادلا ينفذ بالحق والعدل شريعة الله، حتى لا تكون فتنة ولا فوضى، ولا تِرَاتٌ في النفوس، ولا أحقاد، ولا أضغان في القلوب، حتى يستتب الأمن، ويسود السلام، وتصفو القلوب، وترضى النفوس، إذ يرون حكم الله نافذا في الجميع، له السلطان وحده فوق كل حاكم ومحكوم.
حق الحاكم على المحكوم:
حق الحاكم أن يطاع، وأن لا ينازع أمره: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ[ [سورة النساء: 59]، فإن وجد المحكوم عليه ـ أو: له ـ في حكم الحاكم ما يحسبه مخالفا لأحكام الشريعة الإسلامية راجعه فيما حكم به، واحتكم وإياه إلى الكتاب والسنة: ]فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ[ [سورة النساء: 59]، ويقول ﷺ : «اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة» ([6]) "البخاري". وعن أبي هريرة، قال: «أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا حبشيا مجدوع الأطراف»([7]) "مسلم". وعن عبادة بن الصامت: بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وألا تنازع الأمر أهله، قال: «إلا أن تروا كفرا بواحا (جهارا) ـ عندكم فيه من الله برهان»([8]) "الصحيحان". وقال ﷺ : «من رأى من أميره شيئا فكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية»([9]) "الصحيحان".
هذا حق الحاكم الإسلامي على المسلمين، وإن من يتأمل هذه الأحاديث ليؤمن بأن شريعة الإسلام تقرر مبدأ النظام التام والمساواة الكاملة تقريرا يسمو بهما إلى الذروة العليا من السمو مما لا تطمع في الدنو ـ حتى من قريب منها ـ أسمى قوانين البشر نظاما وعدلا، وأبرها سماحة ونبلا، في تقرير المساواة، والشريعة الإسلامية لا تكتفي بالدعوة إليهما، بل توضح مع ذلك السبيل العملي الذي يتحقق به وجودهما على أكمل وجه وأتمه.
والواجب أن يكون الباعث على طاعة الحاكم تقوى الله وحده، لا الرجاء في ثواب الحاكم، ولا الخوف من عقابه، وفيما ذكرتك به من آيات الله، وهدي السنة المطهرة، حجة تدحض بهتان أولئك الذين يزعمون أنه يجب فصل الدين عن الحكم، وعن شئون الحياة. يمهدون بذلك للبغي والجور والسفه والإلحاد ونقض قواعد الإسلام ودك أسسه، ولكن الله غالب على أمره ولو كره عبيد المرأة!!
حق المحكوم على الحاكم:
وكما وصى الله المسلمين بطاعة الحكام فإنه وصى الحكام بالعدل والبر والرعاية الرحيمة لكل فرد من أفراد الجماعة المؤمنة، وجعل كل حاكم مسئولا عن رعيته، يقول ﷺ : «من ولاه الله عز وجل شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله عنه دون حاجته وخلته وفقره»([10]) "أبو داود والترمذي". ويقول: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من ترك مالا فلأهله، ومن ترك دينا وضياعا فإلي وعلي» "أبو داود والترمذي". ويقول: «من ترك مالا فلورثته، ومن ترك كلا فإلينا»([11]) "الصحيحان". يوجب الله على الحاكم أن يكفل من مات من المسلمين في دينه وذريته الضعاف وأهله الذين لا يستطيعون ضربا في الأرض.
هذا هو الضمان الاجتماعي في سموه ورحمته، إنه ليس منحة تتفضل بها الدولة، بل فرضا مقدسا عليها للمحتاجين.
الواجب على الحاكم:
أوجب الله على كل مسلم أن يحتكم إلى الكتاب والسنة عند النزع، وأوجب على الحاكم أن يحكم بين المسلمين بالكتاب والسنة، وأن يكون بهداهما بصيرا حتى يكون حكمه عن بينة منهما، وأوجب عليه ألا يستبد أو يتعصب لما حكم به إذا ثبت له أنه على غير الحق من الكتاب والسنة وليرد ما نازعه فيه المحكوم عليه ـ أو : له ـ إلى الله ورسوله. وإليك من آي القرآن ما يقرر فرض هذا الواجب على الحاكم:
]وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ[ [سورة المائدة: 48].
وبهذا يتوجه الخطاب أمرا ونهيا في قوته وجلاله إلى كل حاكم إسلامي، بتوجيهه إلى صفوة الخلق ـ إمام الحاكمين جميعا عدلا وهداية ـ رسول الله ﷺ . يأمر الله الحاكم ويفرض عليه أن يكون حكمه عن بينة من الكتاب والسنة، ويحذره من أن يميل به عن الحق هواه مع الناس، أو هوى الناس معه، ولو كان بعض من يحكم بينهم من آبائه وأبنائه وإخوانه وخلانه وغيرهم ممن تربطهم به أية رابطة من روابط الوجود الإنساني، يحذره من الحكم بغير الكتاب المبين، لأن الله سبحانه جعل لكتابه الهيمنة الكاملة على كل كتاب سماوي، فما بالك بكتب القوانين الوضعية.
معنى هيمنة القرآن:
يفصل لنا الإمام الصبار الشكور ابن تيمية هذا المعنى تفصيلا جليلا شافيا، إذ يقول في كتابه جواب أهل الإيمان: "فإنه (أي القرآن) قرر ما في الكتب المتقدمة من الخبر عن الله، وعن اليوم الآخر، وزاد على ذلك بيانا وتفصيلا. وبين الأدلة والبراهين على ذلك، وقرر نبوة الأنبياء كلهم، ورسالة المرسلين، وقرر الشرائع الكلية التي بعثت بها الرسل كلهم، وجادل المكذبين بالكتب والرسل بأنواع الحجج والبراهين، وبين عقوبات الله لهم، ونصره المتبعين لها، وبين ما حُرف منها وبُدل، وما فعله أهل الكتاب في الكتب المتقدمة، وبين أيضا ما كتموه مما أمر الله ببيانه، وكل ما جاءت به النبوة بأحسن الشرائع والمناهج التي نزل بها القرآن، فصارت له الهيمنة على ما بين يديه من الكتب من وجوه متعددة: فهو شاهد بصدقها، وشاهد بكذب ما حرف منها، وهو حاكم بإقرار ما أقره الله، ونسخ ما نسخه، فهو شاهد في الخبريَّات، حاكم في الأمريَّات".
ثم يقول ـ رضي الله عنه ـ : "ومن تأمل ما تكلم به الأولون والآخرون في أصول الدين والعلوم والإلهية، وأمور المعاد والنبوات والأخلاق والسياسات والعبادات وسائر ما فيه كمال النفوس وصلاحها وسعادتها ونجاتها لم يجد عند الأولين والآخرين من أهل النبوات وأهل الرأي ـ كالمتفلسفة ـ وغيرهم إلا بعض ما جاء به القرآن، ولهذا لم تحتاج الأمة مع رسولها وكتابها إلى نبي آخر وكتاب آخر فضلا عن أن تحتاج إلى شيء لا يستقل بنفسه".
وإذا كان هذا هو شأن القرآن بالنسبة إلى الكتب السماوية، فما بالك بالكتب الوضعية التي يبتدعها البشر ليحكم بها المسلمون في دينهم ودنياهم؟! ما بالك بالكتب التي يزعم أصحابها أنها تفصل أحكام الدين وفقه الشريعة الإسلامية؟! ألا يجب أن يجعل المسلمون كما أمر الله للقرآن الهيمنة على كل كتاب يشرع قانونا، أو يفصل ـ بزعم واضعه ـ أحكاما في الدين؟ بلى يجب عرض كل كتاب قانوني أو ديني على حق كتاب الله وهداه، فإن كان ما في هذه الكتب يطابق ما جاء به القرآن، ويشرف بالانتساب إليه، والغاية منه الدعوة إلى الله، فهو حق وخير، وإلا فهو شر يجب استئصاله، والتحذير منه، والمتدينون لا يفتنون بكتب القوانين الوضعية كما يفتنون بالكتب الدينية!! فالأولى معروف نسبها وغايتها ومصدرها، أما الثانية فينسبها أصحابها إلى الشريعة، ويزعمون أنها تمثل الناحية الروحية في الإسلام، أو تفصل الحقائق العليا في شريعته الخالدة!! في حين أنك لو ابتليت ما في تلك الكتب لوجدتها قناع مجوسية، ولئام إلحاد ينافق بالرياء، ولاسيما كتب هذه الإمعات التي فتنتها امرأة، ومن أجلها فسقت عن أمر الله، وآمنت معها أن المرأة قوامة على الرجل، وأن الدين عمل فردي لا شأن له بالجماعة، ولا بنظم الحكم، ولا بشئون الحياة. قالوا ذلك من أجلها فمهدوا لهذا بهذا إلى الجريمة المستعلنة التي كانت تخفيها ببقية من خوف، وشفٍّ رقيق من الحياء، ولكنها وجدت من يعينها على أن تهتك الستر كله، وعلى أن تعلن الحرب ـ دنيئة مُلتاثة البغي ـ على سنة الله وفطرته التي فطر الناس عليها، وعلى دينه، ترميه بالجمود والعدوان الظالم على حقوق المرأة، وجدت من يعينها على ذلك، وكانوا ـ ويا أسفاه ـ ممن يفترون أنهم من رجال الدين وعلمائه!!
وجوب الرقابة على الكتب الدينية:
يجب مراقبة كل كتاب ديني، وعرضه على الكتاب والسنة، والحكم عليه بعد ذلك حكما عادلا مجردا من كل هوى وعاطفة، حكما لا يرعى غير وجه الله ذي الجلال، وذلك حتى نحول بين الناس ـ وبخاصة الشباب في هذا العصر العربيد المجون والإلحاد ـ وبين الزيغ والضلال والفتنة، وسيتهمنا بعض من يعيشون على افتراء الكذب والدجل باسم الحرية أننا بهذا نقيد حرية الفكر المطلقة المقدسة ونعاديها!! ولسنا ـ والله ـ من أعداء الفكر ولا حريته، وكيف ونحن دعاة إطلاق الفكر من إسار التقليد الوثني لتراث الجاهلية وأغلال العبودية لإباحة الغرب وإلحاده حتى يستطيع الفكر أن ينعم بصرا بالنور الإلهي يهديه إلى الحق وحمى الحقيقة؟! ولكنا أعداء المجون والإلحاد: يسميان حرية فكرية!!!
الحرية بين التقييد والإطلاق:
ليس في الوجود ولا عند العقل ما يسمى حرية مطلقة، بل كل حرية مقيدة بقيد قد يكون ظالما أو عدلا، أما القيود الظالمة فنحن أول الدعاة إلى تحطيمها، أما العادلة فنحن أول الدعاة إلى بقائها وحراستها، حفاظا على الفكر نفسه، وعلى الأخلاق، وعلى الدين.
فليست حريتك مطلقة في جمع المال، بل هي مقيدة بوجوب اتباع السبل المشروعة لجمعه، وإلا كان الغصب والنهب والسلب والسرقة، وليست حريتك مطلقة وأنت تسير في الطريق، بل هي مقيدة بوجوب مراعاة آدابه، وإلا كانت ضعة الأخلاق. ألا ترى الصحف في كل ساعة تلح على حماة الآداب من الشرطة أن يبالغوا في مراقبة الشباب الماجن المستهتر من أحلاس العربدة في الطريق، وأن يأخذوهم بالشدة الرادعة حماية للأخلاق وللأعراض؟! فهل حماية هذين أولى عند حرية الفكر من حماية الدين القيم وعقائد المؤمنين به، وهو الدين الذي تسمو به الأخلاق، ويجعل المقاتل دون عرضه من الشهداء؟! أحماية المرأة السافرة الماجنة السفور من ذئب تتقتل له الشاة ليأكلها أولى من حماية الدين ممن يدسون له السم، وهم خاشعوا النفاق في المحاريب؟!
لقد أذنت الحرية المطلقة للمرأة أن تسفر بالفتنة الآثمة في الطريق، وأن تبيح لحمها لشهوة كل ذئب منهوم، وأذنت الحرية المطلقة لهذه الحيوانات أن تتدين بما شاءت، وأن تتخلق بما تهوى، فكيف تريد الحرية المطلقة من شبابها المائع الماجن أن يكون على جوع الغريزة صبورا، ونهمها جلدا، فلا يأكل من لحم المرأة ما يريد؟! أتؤجج النار وتلهب السُّعار ثم تقول: أخمد أيها اللهب وأعقل أيها الكلب المسعور؟! يا للحرية المطلقة تلطخ بدم الجريمة يديها ثم تسميه أصباغ وجنات وشفاه!!
فإذا حاولنا حماية المرأة بما حماها به الدين، وتكريمها بما كرمها به، وسما بشأنها، وإذا حاولنا دعوة الشباب إلى حمى الدين يحتمي به من فجور الغي، ويجني من مجانيه العزة والكرامة والسمو ـ إذا حاولنا ذلك ـ قالت الحرية المطلقة: رجعية وجمود في القرن العشرين!! فلا تطيق الحرية المطلقة ـ وذئابها ـ أن يسمعن كلمة الله، ولو أن الإسلام دعاها إلى الخير لسمته بغي الشر، ولو دعاها "مستر فلان" إلى أن تلعق دم الرذيلة لبشرت بدعوته على أنها روح الفضيلة؟!
تلك هي الحرية المطلقة، وهذا هو هدفها، وتلك وسيلتها في تحطيم الأخلاق، وتدمير الفضائل!!
وليست حريتك مطلقة في الملكية، بل هي مقيدة بوجوب مراعاة ما يملك غيرك، وإلا كان البغي والجور، بل ليست حريتك مطلقة في التصرف فيما تملك، بل هي مقيدة بوجوب الإحسان فيه، وإلا كان السفه والخيال، وأقيم عليك قيم يتصرف لك في مالك وما تملك.
وليست حريتك مطلقة في الأم بمعروف، أو نهي عن منكر، بل هي مقيدة بوجوب مرعاة ما سماه الله معروفا، وما سماه الله منكرا ـ هذا قيدها العادل ـ ، أما قيدها الظالم الذين يجب أن يتحطم فشهوات الباغين ممن يضارون بالدعوة إلى المعروف، والنهي عن المنكر.
وهكذا لو فكرت في كل معاني الحرية لوجدت بجانب كل حرية قيدا عادلا رحيما حكيما، يقيد إطلاقها ويخصص عمومها، ويحدها بحدود ينبغي أن لا تعتديها، وإلا كانت الفوضوية المطلقة، وإلا كان عالم وحوش انفلتت غرائزها، وجمحت شهواتها، فاندفع كل وحش منها ليجعل الآخرين بعض صيده!! وهذا فرق ما بين الغاب بحيوانه، والعالم بإنسانه، فالإنسان له عقل يقيده، وضمير يحكمه، ودين يحدد له ما يصح أن يسلكه من سبيل، وكل هذه السلطات المعنوية تحد من حرية صاحبها وتقيدها، أما الحيوان المسعور فهو زعيم أولئك الذين ينشدون الحرية الفكرية المطلقة!!
فإذا كانت الجماعة البشرية قد تواضعت على ذلك، واستكانت لما قيدها به العقل، والضمير، والعرف الخاص ـ أو العام ـ من قيود، فلم تتعال على الحق الذي يوجب أن تكون الدعوة إلى الله في حدود ما أمر الله به، وبينه رسوله، لا كما يريد الشيوخ وتنمق الشهوات، وتتشهى امرأة الأساطير!!
فإذا طالبنا بجعل الهيمنة للقرآن على كل كتاب يؤلف في الدين، وبوجوب عرض هذه الكتب على هداه، حتى لا يصل إلى أيدي الشباب ما يحيل يقينهم ريبا، وما يبتليهم بالشبهات فوق الشبهات، وما يزلزل فيهم الثقة في أن هذا الدين هو خير الأديان وأسماها هدى وحقا وحكما وعدلا ـ أقول: إذا طالبنا بذلك ـ فلسنا بدعا في هذا الأمر، ولسنا أعداء حرية الفكر، إذ ثبت لك مما قدمته حرية الإنسانية حتى وهي في ذروة مدنيتها وحضارتها العليا رضخت لقيود العقل والعرف راضية، فكيف تتعالى هذه الحرية اليوم على الحق، وتأبى إلا أن تقول في الدين الإسلامي ما تشاء؟ وإدخال لو أن كتابا أُلف بحرية مطلقة في الناحية الجنسية لتعالت أصوات دعاة الحرية الفكرية تلح في مصادرته وإحراقه، والبطش بصاحبه، والتنكيل به ادعاء الحماية للفضيلة!! أما الدين الإسلامي؟!...
ألا إنهم لا يدعون في الحق إلى الحرية الفكرية، وإنما يهدفون من وراء ذلك إلى الإلحاد والتشكيك في الإسلام باسم الحرية الفكرية.
عود إلى وجوب الحكم بالكتاب والسنة:
]وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ[ [سورة المائدة: 49]. يحث بها الله الحاكم الإسلامي على الحكم بما أنزل الله، ويوجب عليه الحكم به بين المتخاصمين، دون أن تكون له غاية من حكمه إلا ابتغاء وجه الله بتثبيت سلطان الحق، وإعلاء شأن العدل، مع الحذر الشديد البالغ من أن يفتنه أحد طرفي الخصومة، فيصرفه بالفتنة عن الحق، أو الحكم بالعدل، فقد يكون أحد المتخاصمين ذا جاه، أو حسب ونسب، أو ممن لهم بالحاكم صلة، وقد يكون من سحرة البيان، وشياطين الجدال، أو من المرائين بالتنسك والوقار، فيجب على الحاكم أن يحذر فتنة هؤلاء، وأن يكون شديد اليقظة لمداخل الفتنة، ومساربها حتى لا تتسرب في غفلة إلى قلبه، فتصرفه عما أنزل الله إليه، وما يحب الله للحاكم أن يصرفه صارف عن بعض ما أنزل الله ليحكم به في قضايا الدين والحياة.
]إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا[ [سورة النساء: 105] إيجاب على الحاكم أن يكن نافذ البصيرة في تدبر القرآن والسنة، وأن يظل الحياة كلها، منفذا لأحكامها، مقيما حدودهما على مستحقيها، فالكتاب حق نزل بالحق من الحق العلي الكبير، ومن نزل عليه الله الكتاب ـ وهو الرسول ﷺ ـ علمه الله سبحانه، واراه كيف ينفذ أحكام الشريعة الإسلامية، ويطبقها تطبيقا صحيحا حكيما عادلا، فكانت السنة ـ قولا وعملا ـ من الله وحيا وتعليما، فالحاكم بالسنة مع الكتاب إنما يحكم بما علمه الله لنبيه المعصوم، إنما يحكم بما في القرآن، وقد تمثل عملا هاديا يقتدى به الحكام المهتدون فيما يحكمون، والمؤمنون فيما يعملون.
والله يوجب على الحاكم بهذه الآية أن تتسامى عدالته فوق كل الأهواء النفسية، حتى لو اختصم إليه فريقان: هذا من شيعته، والآخر من عدوه، هذا أمين موصوف بالأمانة، والآخر خائن طبيعته الخيانة. وبمثل هذا يبتلي الله النفس الإنسانية، ليرفعها إلى تمجيد الحق حيث كان، رعاية للعدل الكامل في كل ما تحكم به أو تتناوله من شئون، ألا ترى الآية توجب على كل حاكم أن يحكم بالحق والعدل وإن كانا مرة في جانب عدوه؟! ولو أن كان عدو شريف بعض الأخلاق لأندى ذلك قليلا من غلة العاطفة النفسية. ولكنه عدو خائن، لازمته الخيانة في كل ما يقول أو يفعل حتى أصبحت صفة ثابتة له، ومقوما دائما من مقومات أخلاقه، لمثل هذا الخائن يوجب الله على الحاكم الإسلامي أن يوطئ له من أكناف عدله، وأن يحكم له بالحق إن كان معه، ويحذره من أن يحول بينه وبين الحاكم بالحق له علمه أنه خائن يخون العدل والحق والأمانة، مادام ذلك الخائن قد ارتضى الحاكم الإسلامي حكما. وجاء راغبا في النزول على حكم الله!
]إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا[ [النساء: 58]، إن من يتأمل هذه الكلمة ]النَّاسِ[ وهي في موضعها هذا المعجز يؤمن أن حقيقة المثل الأعلى للعدالة ما هي إلا شعاع علوي من نور الإسلام. إن الله ـ سبحانه ـ بهذه الكلمة المعجزة في موضعها من الآية الكريمة يوجب على الحاكم أن يكون حليف الحق وولي العدل في حكمه بين جميع أفراد الجماعة الإنسانية التي تحيا في ظل الدول الإسلامية، سواء في ذلك مؤمنهم وكافرهم، مسلمهم وغير مسلمهم، مهديهم وضالهم، أمينهم وخائنهم، وشريفهم ووضيعهم أمراؤهم وأراذلهم، غنيهم وفقيرهم، صديقهم وعدوهم.
يوجب على الحاكم ألا يحول بينه وبين العدل والحكم بالحق عصبية دينية، أو جنسية، أو وطنية، أو حمية لذوي قرباه، وأولياء حكمه، فكيف يخشى غير المسلمين من الحكم الإسلامي وها هم يرون القرآن ينص نصا قطعي الدلالة على وجوب العدل والحكم بالحق للمسلم وغير المسلم؟ وهل يرون شريعة أو قانونا أبر بالعدل وأرعى للحق وأرحم بغير أهله من الشريعة الإسلامية؟! وهل نص القانون على مثل هذا؟ وهل في تاريخ العدالة تبشر بسموها قوانين البشر ما يرف منه شعاع واحد على العالم كنوز هذا العدل الإلهي الأسمى؟؟
]سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[ [سورة المائدة: 42]. هم اليهود ترجمهم لعنة الله، ويهلكهم غضبه سبحانه، حتى هؤلاء الذين نعتهم الحكيم الخبير بما فيهم من نعوت تنحط بها الإنسانية إلى حضيض الضعة والدناءة والصغار المهين ـ حتى اليهود السماعون للكذب الأكالون للسحت ـ يوجب الله على الحاكم الإسلامي أن لا يمتنع عن الحكم بينهم وبين خصومهم، وأن يحكم لهم بالحق إن كان لهم، وأن يلتزم العدل التام فيما يحكم به بينهم، ماداموا يحيون في ظل حكومة الإسلام، يرضون حاكمها بينهم حكما...
وإلى أدنى منزلة من هذا لن تصل يوما عدالة البشر وقوانين البشر، وإن الآية لتعدل الحاكم الإسلامي بالحب الإلهي ثوابا على حكمه بالعدل والحق بين السماعين للكذب الأكالين للسحت، إذ تقول: ]فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[ [سورة المائدة: 42]. فهل يمكن للحاكم الإسلامي ألا يعدل بينهم والله يعده بثواب لا يدانيه أبدا ثواب آخر، وهو محبة الله له؟! ترى هل يفهم ذلك عدو الإسلام من ملاحدة الغرب وأوليائهم من ببغاوات الإلحاد في الشرق، أولئك الذين يفترون على الحكم الإسلامي الجور والبغي، ويبهتونه بالتخلف عن ركب الحضارة الإسلامية وعدالتها؟! ولشد ما يؤلم الحق أن يكون بعض من ينتسبون إلى الإسلام ويلقبون أنفسهم بأنهم من العلماء بوقا لهؤلاء الذين يكيدون للإسلام ويقترفون عليه المنكر، فيدفعهم خصيم الإسلام وعدوه إلى المناداة بفصل الدين عن الحكم، وشئون الحياة، حتى ينطلق الشرق الإسلامي ـ في زعمهم المخبول ـ إلى أقداس الحضارة، ويسمو إلى آفاق المدنية بعد أن يحطم عنه هذه الأغلال التي كبله بها الإسلام!!!
لقد سمعت هذه الببغاوات الجاهلة العمياء ما يقول عدو الإسلام، فمضت تردد هذا القول دون وعي أو إدراك، يقترف أولئك إثم هذا التقليد حتى يصفوا بالتجديد والتفكير الحر والاطلاع على ثقافة الغرب، وأحسن ما يكونون سعداء حين يقرأ الناس لهم: قال "جورج"! وغير ذلك من أسماء أصنام الغرب وأحلاسهم في الشرق، وأشد ما يكونون خزيا حين يضطرون ـ أحيانا! ـ إلى أن يقولوا: "قال الله .... قال محمد ...." بل يدمجون الآية في المقال دون نسبة حتى لا تفهم المرأة التي يعبدونها أنهم من الرجعيين الذين يقولون بقول الله، وقول محمد!!
يا هذه الببغاوات: تلك هي عدالة الإسلام يجليها كتاب الله، وذلك هو حكم الإسلام وحاكمه. فهل ستظلين على شتم الإسلام وهجوه؟!
وثم فريق آخر من الشيوخ ـ أصحاب العزة! ـ يحاول تأويل أحكام الشريعة الإسلامية بالباطل، حتى تتواءم وشهوات الغرب، وأهواء ملاحدته، أي يجعل قانون الغرب هو القاعدة، ويحاول بعد ذلك الملاءمة بين الشريعة وبينها، فينزل بشريعة الله إلى حضيض ظلم البشر، ويزعم هذا الفريق أنه بذلك يذود عن الإسلام كيد الكائدين له، ويرفع عنه تهمة أنه لا يمكن الأخذ بأحكامه في هذا العصر الذي شملت حضارته كل مقومات الوجود!! ولست أدري متى، كان الفتك بالشيء من أجل عدوه حماية له من خصومه وعدوه؟! أولى بهؤلاء الناعقين بالإلحاد المجددين في الوثنية ـ إن كانوا يريدون حقا عن الدين دفاعا ـ أن يبرزوا للناس، غربيهم وشرقيهم، حقائق هذا الدين كما هي في الكتاب والسنة إشراقا وجلالا وسموا وهداية وعدلا، دون تأويل لها بما اصطلح عليه البشر من أوضاع، ودون إلباس حقها بالباطل. أولى بهؤلاء أن يفعلوا ذلك، وأن يصدعوا بالحق المبين في قوة، ويقين وهو أن الشريعة الإسلامية أجل وأسمى من أي قانون شرقي أو غربي، وأن الفرق بينهما كالفرق بين الحق والباطل، بل بين الإيمان والكفر، هذا ما يجب أن يعتقده ويصرح به كل مسلم، وإلا فليصرح هؤلاء بما يكنون: وهو أن الطغاة من البشر وملحديهم أحكم وأعدل من أحكم الحاكمين جل وعلا! فإن ما يحاولونه من إخضاع الشريعة لقوانين الغرب، والحكم عليها بمصطلحاته، لا يدل على شيء إلا على أن نفوسهم تنطوي على عدم اليقين بالله خلاقا حكيما هاديا عليما خبيرا، وعدم الثقة بصلاح الشريعة الإسلامية في الهداية والإصلاح، وإرساء قواعد الحياة على أسس من العدل والنظام والمساواة.
]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ[ [سورة المائدة: 44]، ]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[ [سورة المائدة: 45].
]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[ [سورة المائدة: 47].
في القرآن والسنة تفصيل مشرق البيان والهداية لما يجب أن يحكم به في قضايا الدين والحياة، فلم يبق للحاكم من عذر يبيح له أن يحكم بغير الكتاب والسنة، وليس في الآيات ما يقيد الحكم بما أنزل الله بقيد ما، أو يخصصه بقضايا الدين ـ كما يزعم المتهوِّكون ـ ، بل إنها توجب الحكم به في كل قضية يختصم فيها المسلمون أو غير المسلمين الذين يعيشون في ظل الدولة الإسلامية، سواء كانت دينية أم دنيوية. ودليلنا على ذلك أن جميع الآيات التي ورد فيها وجوب الحكم بكتاب الله والسنة لا يقيد فيها الحكم بقيد سوى ما يفيد أنه بالكتاب والسنة، واقرب شاهد هذه الآيات: ]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ[ ولو كان مقصودا بها الحكم في شئون الدين لقيل ـ والله أعلم وأحكم ـ : "ومن لم يحكم في الدين بما أنزل الله"! ولكن ترك فيها جميعها الفعل ]يَحْكُمْ[ مطلقا، غير مقيد بقيد سوى أنه: ]بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ[ ، فكيف نقيد بالشهوة ما أطلقه الله، ونخصص ـ ابتغاء الإلحاد ـ ما جعله الله عاما؟!
وفي الآيات نذير ووعيد شديد للحاكم يصرفه الهوى عن الحكم بما أنزل الله. فليحذر الحاكم أن يفتنه الشيطان أو يضله أولياؤه عن الحكم بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ ، وإلا فهو "كافر فاسق ظالم". وصف بأنه مشرك، إذ الظلم هنا هو الشرك، لقوله تعالى: ]إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[ [سورة لقمان: 13] ووصف فوق هذا بصفة إبليس: وهي الفسق، لقوله تعالى: عن إبليس: ]كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ[ [سورة الكهف: 50]، والفسق هنا أشد من الكفر، لأنه المروق من الدين بعد علم، وهذا سر وصف الشيطان به، إذ كفر بعد علم، فكان بكفره هذا فاسقا، ووصف مع هذا بصفة من حادوا الله ورسوله، وهي الكفر. تلك هي صفات من لا يحكم بما أنزل الله.
على الحاكم دائما أن يهاب أمر الله:
الإمارة عمل كبير، وعلى الأمير تبعات ثقال شداد لا يستطيع حملها إلا بعون من الله، وتوكله عليه. لذا يجب على الأمير أن يكون هيابا لأمر الله، شديد الخوف من الله، متواضعا لا يغره جاه الإمارة، عادلا رحيما برا برعيته، مجهدا نفسه في سبيل خيرهم، مبيحا بابه لذوي الفاقة منهم والحاجة، وغير ذلك مما فرضه الله عليه، حتى يستحق من الله العون، وأن لا يكله الله فيها إلى نفسه. قال عليه الصلاة والسلام لعبد الرحمن بن سمرة: «لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت فيها إلى نفسك، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها» ([12]) "الصحيحان، أبو داود، الترمذي، النسائي". وقال: «إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة» ([13]) "البخاري، النسائي". وقال: «أهل الجنة ثلاث: ذو سلطان مقسط موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى مسلم، وعفيف متعفف ذو عيال»([14]) "مسلم". وقال: «ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا لا يفكه إلا العدل»([15]) "أحمد". وقال: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به»([16]) "مسلم، النسائي". وقال: «ما من عبد يسترعيه الله عز وجل رعية يموت يوم يموت وهو غاش رعيته إلا حرم الله تعالى عليه الجنة»، وفي رواية: «فلم يحطها بنصحه لم يرح رائحة الجنة»([17]) "الصحيحان".
الوزارة في الشريعة:
أوجب الله على الحاكم أن يكون وزراؤه وزراء صدق، يذكرونه دائما بأمر الله، ويعينونه على الحكم بما أمر الله سبحانه، وهكذا يسبق الإسلام بنظامه الحكيم كل نظام، وبتشريعه الأسمى كل تشريع. قال ﷺ : «إذا أراد الله بالأمير خيرا جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء: إن نسي لم يذكره، وإن ذكر لم يعنه» أبو داود.
القضاة والولاة:
يوجب الله سبحانه على الحاكم أن يكون محسنا في اختيار الولاة والقضاة، فلا يختار منهم إلا من كان على بصيرة بأحكام الشريعة الإسلامية، وعلى نور من الكتاب والسنة، وبينة منهما، وكان معروفا بالأمانة في الدين، والإخلاص في العمل، وتقوى الله: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ[ [سورة النساء: 135]، ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[ [سورة المائدة: 8]. هذا ما يجب أن يكون عليه كل مؤمن، وأولى أن يكون عليه قضاة المسلمين وولاتهم وحكامهم.
وقال ﷺ : «القضاة ثلاثة، واحد في الجنة، واثنان في النار. فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق، فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار» "أبو داود، والترمذي، وابن ماجة"، وقال: «إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تخلى عنه ولزمه الشيطان» "الترمذي، ابن ماجة، ابن حبان، الحاكم".
أما الولاة:
فإليك ما ينصحهم به الرسول، ويحذرهم منه: «ما من أمير يلي أمور المسلمين، ثم لا يجهد لهم، وينصح لهم، إلا لم يدخل الجنة معهم»([18]) مسلم والطبراني، وزاد: «كنصحه وجهده لنفسه». وقال: «من ولى أمر الناس ثم أغلق بابه دون المسكين، والمظلوم، وذي الحاجة: أغلق الله تبارك وتعالى أبواب رحمته دون حاجته وفقره أفقر ما يكون إليها» "أحمد، وأبو يعلى".
ذاك بعض ما يقوم عليه نظام الحكم الإسلامي الرشيد العادل، فكيف يفترى أن الإسلام يجب أن لا تكون له صلة بالحكم، إذ لا يصلح نظام حكمه في القرن العشرين!!؟ إن من يزعم هذا ممن يتزيا بزي العلماء يجمع ـ فوق الإلحاد ـ بين الجهالة والغباء، ولا يعرف من الإسلام أصلا ولا فرعا. فليتكلم هؤلاء للمرأة، وليحدثوها عن جمال الأصباغ، وليدعوا الكلام عن الدين لا يؤمنون بربه، ولا برسالة رسوله.
* * * * *
الوسيلة السادسة: الرضى بحكم الكتاب والسنة
إذا احتكم المتنازعان إلى الكتاب والسنة وجب عليهما الرضى بما يحكمان به، والاستسلام التام له، فكما أن الاحتكام إليهما واجب لا يتم الإيمان إلا به، فكذلك الرضى بالحكم من موجبات الإيمان التي لابد منها: ]فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[ [سورة النساء: 65].
إنما يملك أمر الإنسان خالقه، يملك عليه نفسه ومن حوله وما حوله مما هو في حاجة إليه ليقوم به حياته ووجوده، والله وحده هو الخالق لكل شيء، وهو الذي يعلم وحده حقيقة الخير وحقيقة الشر، وهو الخبير بظواهر الأشياء وبواطنها، لا تخفى عليه خافية، وما شرع سبحانه لعباده إلا ما هو الحق والخير والصلاح، وما يحفظ على الإنسان دينه ونفسه وعقله وماله ونسله. فإذا ما قضى الله بأمر لا يرضاه هوى النفس: فواجب المؤمن أن يلتزم بطاعته، وليطامن النفس على الرضى به، فما هو بالمختار حينئذ في تنفيذ ما حكم به الله، أو عدم تنفيذه، كلا، بل يفرض عليه أن يتوجه بكل ما فيه أو يملك من قوى عاملة إلى العمل بما حكم به الله سبحانه، مستسلم الخشوع، ريان الرضى، مذعن الإيمان.
]وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا[ [سورة الأحزاب: 36]، ]إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[. السمع والطاعة حين يدعى إلى الاحتكام فأولى أن يسمع ويطيع إذا حكم الله ورسوله.
هذا موقف المؤمن، أما غير المؤمن فهم من يقص علينا الله نفاقهم وكفرهم: ]وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ[ [سورة النور: 47 - 50].
تكاد هذه الآيات تشير إليك إشارة حسية تدلك بها على مكان هذا الفريق اليوم، إنهم أولئك الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، يزعمون أنهم بالله مؤمنون، وللسنة متبعون، وهم بما شرع لهم البشر يدينون، وبقانون الغرب المحد يفتنون. هم أولئك الذين لا يلجأون إلى الدين إلا حين يستشعرون خطرا داهما، أو ثورة مجنونة الباطل يخشون أوارها، فيستصرخون به، لا إيمانا بأنه الحق والهدى، بل لأنه يقيهم شر ما يرهبون!!
أيها المذعورون الذين يقض الخوف مضاجعهم:
إن شريعة الإسلام تكفل لكم السلامة والأمن مما يملأ لياليكم بالخوف والفزع والقلق الرهيب، وفيها دواء هذا الداء الذي نخشى أن يستفحل خطره، وأن يدهمنا طاعونه وسرطانه، فأقيموا الشريعة أصولا وفروعا وليكن ما تدينون به أقباسا من نورها وحقها وهداها، أو بمعنى شامل: كونوا مسلمين قلبا ونية واعتقادا وقولا وعملا، وليكن حكمكم باسم الله، وقانونكم من كتابه وسنة رسوله ﷺ : ]وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ[ [سورة الكهف: 57].
ولتسمعوا أيها المسلمون ـ في كل واد ـ ما يجزى الله به كل من أعرض من ذكره وخالف عن أمره: ]وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا[ [سورة طه: 124]، ]وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ[ [سورة السجدة: 22]، ]فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[ [سورة النور: 63].
وقد تحقق كل ما توعد به الله المعرضين عن ذكره، المخالفين عن أمره، فإذا المسلمون في كل ناحية شكاة من المعيشة الضنك، يستصرخون بالأوهام من جور المستعمر وبغية، ويسامون منه سوء العذاب، ولن يكون للمسلمين ما يأملون من مجد إلا بما كان لهم به أيام المسلمون جميعا يعتصمون بالكتاب والسنة حكاما ومحكومين.
* * * * *
الخاتمة
طاعة لله وللرسول، وتقوى القلوب لله وحده، واتباع صادق للكتاب والسنة، واحتكام إليهما عند النزاع، والحكم بما أمر الله، والرضى به حتى تستقر على الطمأنينة إليه القلوب، وعلى الإذعان التام له النفوس.
تلك هي وسائل توحيد الله في الربوبية والإلهية، أو هي الوسائل التي تجعل من المسلمين ـ بل العالم الإنساني كله ـ أمة واحدة من الإيمان والخير والسلام والمحبة، فلتتوسل بها الأمم الإسلامية إذا شاءت أن تكون لها العزة والمنعة والقوة والسلطان، إذا شاءت أن تكون أمة واحدة تركز أعلامها على ذرى العالم وقمم الوجود، ولا تغيب شمس حضارتها عن كل أفق، أمة تدعو فتستجيب لها السماء، وتستنصر بالله فيسخر لها كل قوى النصر، وترجو فيفجر لها الله الصخر بالينابيع، وتسير في الصحاري على هداه فيحيلها الرحمن لهم مجالي من جنات الربيع .... وفي رحاب هذه الأمة المسلمة يحيا الوجود كله في صفاء مشرق، وإخاء سماوي كريم، وتآلف روحي نبيل، يحل به الإيثار محل الأثرة، والعدل مكان الظلم، والسلاح مكان العدوان، وتتجاوب فيه المشاعر والقلوب والأرواح بالرحمة والعطف والمحبة.
والحمد لله رب العالمين.
عبد الرحمن الوكيل
([1]) الذي ارتضيته هنا منهجا هو التذكير ببعض ما يتعلق بكل وسيلة من الآيات القرآنية ومن أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، معقبا ـ في اختصار ـ على كل آية بما وفقني الله سبحانه إليه في فهمها.
([2]) رواه أبو داود 4336، والترمذي: 3050، وقال حسن صحيح.
([3]) والمتأمل في كلمة ]شَيْءٍ[ يجدها نكرة في سياق الشرط، فنعم كل ما يتنازع فيه المسلمون، صغيرا كان أو كبيرا، دقيقا أو جليلا، من شئون الدين أو من شئون الحياة، إذا وردت كلمة ]شَيْءٍ[ موردها هذا، ومطلقة غير مقيدة، بقيد يخصها بشئون الدين فقط، فهل يفهم عبيد المرأة وعبيد الطواغيت إعجاز القرآن في بلاغته، وشفاء الفصاحة في بيانه؟ هل يؤمنون بأنه لا يجوز فصل الدين عن الحياة؟
([4]) القذة ريشة السهام يضرب مثلا للشيئين يستويان ولا يتفاوتان.
([5]) رواه البخاري حديث رقم 7319 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب قول النبي ﷺ : «لتتبعين سنن من كان قبلكم».
([6]) رواه البخاري، حديث رقم 7142، كتاب الإمام، باب السمع والطاعة للإمام مالك تكن في معصية، من حديث سنن بن مالك.
([7]) رواه مسلم، حديث رقم 1837، الإمام باب وجوب طاعة الأبرار في غير معصية وتحريهما من حديث أبي ذر الغفاري.
([8]) رواه البخاري، حديث رقم 7056، كتاب الفتنة، ومسلم حديث رقم 1709، كتاب الإمارة باب وجوب طاعة الأبرار في غير معصية، من حديث عباس رضي الله عنه.
([9]) رواه البخاري حديث رقم 7054، كتاب الفتنة، مسلم حديث رقم 1849، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتنة.
([10]) رواه أبو داود، حديث رقم 2948، والترمذي، حديث رقم 1332.
([11]) رواه البخاري حديث رقم 1763، كتاب الفرائض، باب ميراث الأسير، ومسلم حديث رقم 1619، كتاب الفرائض، باب من ترك مالا فلورثته.
([12]) رواه البخاري، حديث رقم 7146 كتاب الأحكام، ومسلم حديث رقم 1652، كتاب الإمارة.
([13]) رواه البخاري، حديث رقم 7148، كتاب الأحكام.
([14]) رواه مسلم، حديث رقم 2865، كتاب الجنة وصفة تعميمها وأحكامها.
([15]) رواه أحمد في المسند.
([16]) رواه مسلم، حديث رقم 1828، كتاب الإمارة، والنسائي من حديث عائشة.
([17]) رواه البخاري، حديث رقم 7150، كتاب الأحكام، ومسلم، حديث رقم 2142، كتاب الإيمان.
([18]) رواه مسلم، حديث رقم 142، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر من حديث معقل بن يسار.