ترجمات المادة
الوصف المفصل
بيان هيئة كبار العلماء : في ذم الغلو في التكفيـر وما ينشأ عنه من أثر خطير
القسم العلمي بموقع الإسلام سؤال وجواب
يلاحظ في هذه الأيام تسرع بعض الشباب في التكفير وانزلاقهم في هذا المنعطف الخطير وما يتبع ذلك من أمور لا تحمد عقباها تتعلق بالدماء والأعراض فهل من نصيحة شيخنا الفاضل ؟
الحمد لله
لاشك أن التسرع في التكفير ، والاستهانة بالدماء والأعراض ، من أخطر المنزلقات التي قد يقع فيها الشباب ، بتزيين من الشيطان ومكره ؛ لأن هذه المسائل الكبيرة لا ينبغي أن يتكلم فيها إلا العلماء الراسخون ، والخائض فيها بغير علم ، إنما يخوض في الفتنة ، ويرتكس في الضلالة، لأن الخطأ في هذه المسائل ليس كالخطأ في غيرها ، فالخطأ هنا يعني إخراج المسلم من دينه ، وإهدار دمه ، واستباحة ماله وعرضه، ولهذا كان الواجب على كل مؤمن أن يحذر من هذا المسلك ، وأن يحرص على طلب العلم ، ولزوم العلماء ، والتفقه في الدين ، قبل أن يتكلم في هذه المسائل .
وقد صدر عن هيئة كبار العلماء نصيحة بليغة، وبيان شاف في هذا الأمر، هذا نصه :
" الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه .
أما بعد :
فقد درس مجلس (هيئة كبار العلماء)- في دورته التاسعة والأربعين – المعنقدة بالطائف ، ابتداء من تاريخ (2/4/1419) ما يجري في كثير من البلاد الإسلامية – وغيرها – من التكفير والتفجير ، وما ينشأ عنه من سفك الدماء ، وتخريب المنشآت .
ونظراً إلى خطورة هذا الأمر ، وما يترتب عليه من إزهاق أرواح بريئة ، وإتلاف أموال معصومة ، وإخافة للناس ، وزعزعة لأمنهم واستقرارهم : فقد رأى المجلس إصدار بيان يوضح فيه حكم ذلك ؛ نصحا لله وعباده ، وإبراء للذمة ، وإزالة للبس في المفاهيم – لدى من اشتبه عليه الأمر في ذلك - .
فنقول وبالله التوفيق - :
أولا : التكفير حكم شرعي ، مرده إلى الله ورسوله ؛ فكما أن التحليل والتحريم والإيجاب : إلى الله ورسوله ، فكذلك التكفير . وليس كل ما وصف بالكفر من قول أو فعل ، يكون كفرا أكبر مخرجا عن الملة . ولما كان مرد حكم التكفير إلى الله ورسوله ، لم يجز أن نكفر إلا من دل الكتاب والسنة على كفره – دلالة واضحة - ، فلا يكفي في ذلك مجرد الشبهة والظن ؛ لما يترتب على ذلك من الأحكام الخطيرة . وإذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات – مع أن مما يترتب عليها أقل مما يترتب عل التكفير - ، فالتكفير أولى أن يدرأ بالشبهات .
ولذلك حذر النبي – صلى الله عليه وسلم – من الحكم بالتكفير على شخص ليس بكافر ، فقال ( أيما امرئ قال : لأخيه يا كافر فد باء بها أحدهما ، إن كان كما قال ، وإلا رجعت عليه ) متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما . وقد يرد في الكتاب والسنة ما يفهم منه أن هذا القول ، أو العمل ، أو الاعتقاد كفر ، ولا يكفر من اتصف به ؛ لوجود مانع يمنع من كفره . وهذا الحكم ، كغيره من الأحكام التي لا تتم إلا بوجود أسبابها وشروطها ، وانتقاء موانعها ، كما في الإرث ، فسببه القرابة – مثلا – وقد لا يرث بها ؛ لوجود مانع كاختلاف الدين ، وهكذا الكفر يُكره عليه المؤمن ، فلا يكفر به . وقد ينطق المسلم بكلمة الكفر ؛ لغلبة فرح ، أو غضب ، أو نحوهما ، فلا يكفر بها ؛ لعدم القصد ، كما في قصة الذي قال : ( اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح ) رواه مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه . والتسرع في التكفير يترتب عليه أمور خطيرة ، من استحلال الدم والمال ، ومنع التوارث ، وفسخ النكاح ، وغيرها مما يترتب على الردة ، فكيف يسوغ للمؤمن أن يقدم عليه لأدنى شبهة ؟! وإذا كان هذا في ولاة الأمور: كان أشد ؛ لما يترتب عليه من التمرد عليهم ، وحمل السلاح عليهم ، وإشاعة الفوضى ، وسفك الدماء ، وفساد العباد والبلاد ؛ ولهذا منع النبي - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم – من منابذتهم ، فقال : ( ... إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان ) متفق عليه من حديث عبادة رضي الله عنه .
- فأفاد قوله عليه الصلاة والسلام: " إلا أن تروا " أنه لا يكفي مجرد الظن والإشاعة.
- وأفاد قوله عليه الصلاة والسلام: " كفرا " أنه لا يكفي الفسوق – ولو كبر - ، كالظلم ، وشرب الخمر ، ولعب القمار ، والاستئثار المحرم.
- وأفاد قوله عليه الصلاة والسلام: " بواحا " أنه لا يكفي الكفر الذي ليس ببواح ، أي: صريح ظاهر.
- وأفاد قوله عليه الصلاة والسلام: " عندكم فيه من الله برهان " أنه لا بد من دليل صريح ، بحيث يكون صحيح الثبوت ، صريح الدلالة ، فلا يكفي الدليل ضعيف السند ، ولا غامض الدلالة.
- وأفاد قوله عليه الصلاة والسلام: " من الله “: أنه لا عبرة بقول أحد من العلماء مهما بلغت منزلته في العلم والأمانة ، إذا لم يكن لقوله دليل صريح صحيح من كتاب الله ، أو سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم -.
وهذه القيود تدل على خطورة الأمر.
وجملة القول : أن التسرع في التكفير له خطره العظيم ؛ لقول الله – عزوجل - : ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) الأعراف / 32 .
ثانيا : ما نجم عن هذا الاعتقاد الخاطئ من استباحة الدماء ، وانتهاك الأعراض ، وسلب الأموال الخاصة والعامة ، وتفجير المساكن والمركبات ، وتخريب المنشآت ، فهذه الأعمال – وأمثالها – محرمة شرعا – بإجماع المسلمين - ؛ لما في ذلك من هتك لحرمة الأنفس المعصومة ، وهتك لحرمات الأموال ، وهتك لحرمات الأمن والاستقرار ، وحياة الناس الآمنين المطمئنين في مساكنهم ومعايشهم ، وغدوهم ورواحهم ، وفيه هتك للمصالح العامة التي لا غنى للناس في حياتهم عنها .
قد حفظ الإسلام للمسلمين أموالهم ، وأعراضهم ، وأبدانهم ، وحرم انتهاكها ، وشدد في ذلك ، وكان من آخر ما بلغ به النبي – صلى الله عليه وسلم – أمته ، فقال في خطبة حجة الوادع : ( إن دماءكم ، وأموالكم ، وأعراضكم ؛ عليكم حرام : كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، ثم قال – صلى الله عليه وسلم - : ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد ) متفق عليه من حديث أبي بكرة رضي الله عنه .
وقال – صلى الله عليه وسلم - : ( كل المسلم على المسلم حرام دمه ، وماله ، وعرضه ) رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
وقال – عليه الصلاة والسلام - : ( اتقوا الظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ) رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه .
وقد توعد الله – سبحانه – من قتل نفسا معصومة بأشد الوعيد ، فقال – سبحانه – في حق المؤمن : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جنهم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ) النساء / 93 .
وقال سبحانه في حق الكافر - الذي له ذمة - إذا قتل الخطأ : ( وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة ) النساء / 92 .
فإذا كان الكافر الذي له أمان إذا قتل خطأ فيه دية والكفارة ، فكيف إذا قتل عمدا ؟! فإن الجريمة تكون أعظم ، و الإثم يكون أكبر .
وقد صح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال : ( من قتل معاهداً ، لم يرح رائحة الجنة ) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما .
ثالثا : إن المجلس إذ يبين حكم التكفير الناس – بغير برهان من كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – ، وخطورة إطلاق ذلك ؛ لما يترتب عليه من شرور وآثام - ، فإنه يعلن للعالم : أن الإسلام برئ من هذا المعتقد الخاطئ ، وأن ما يجري في بعض البلدان من سفك للدماء البريئة ، وتفجير للمساكن والمركبات ، والمرافق العامة والخاصة وتخريب للمنشآت : هو عمل إجرامي ، والإسلام منه برئ ، وهكذا كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر برئ منه ، وإنما هو تصرف من صاحب فكر منحرف ، وعقيدة ضالة ، فهو يحمل إثمه وجرمه ، فلا يحتسب عمله علي الإسلام ، ولا علي المسلمين المهتدين بهدي الإسلام ، المعتصمين بالكتاب والسنة ، المستمسكين بحبل الله المتين ، وإنما هو محض إفساد وإجرام تأباه الشريعة والفطرة ؛ ولهذا جاءت نصوص الشريعة بتحريمه ؛ محذرة من مصاحبة أهله :
قال تعالى : ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد * وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ) البقرة / 204 .
والواجب على جميع المسلمين – في كل مكان – التواصي بالحق ، والتناصح ، والتعاون على البر والتقوى ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة ، والجدال بالتي هي أحسن ؛ كما قال الله – سبحانه وتعالى- : ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) البقرة / 2 .
وقال – سبحانه- : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ) التوبة / 71 .
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( الدين النصيحة [ ثلاثا ] ، قيل : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم ) رواه مسلم من حديث تميم الداري رضي الله عنه .
وقال – عليه الصلاة والسلام - : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد ؛ اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) متفق عليه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما والآيات والأحاديث – في هذا المعنى – كثيرة.
نسأل الله سبحانه ـ بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ـ أن يكف البأس عن جميع المسلمين ، وأن يوفق جميع ولاة أمور المسلمين إلى ما فيه صلاح العباد والبلاد ، وقمع الفساد والمفسدين ، وأن ينصر بهم دينه ، ويعلى بهم كلمته ، وأن يصلح أحوال المسلمين – جميعا – في كل مكان ، وأن ينصر بهم الحق إنه ولي ذلك ، والقادر عليه . .