ترجمات المادة
الوصف المفصل
ذم الاختلاف والفرقة
إن الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفِرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرور أنفُسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
نص الخطبة الأولى
أما بعد: فاتَّقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى، وراقِبُوه في السرِّ والنجوَى.
أيها المسلمون: خلقَ الله آدم واستخلفَه في الأرض لعبادته، فاجتمَعَت ذريَّتُه من بعده عشرة قُرونٍ على توحيدِ الله ومحبَّته، ثم استزلَّهم الشيطانُ فحرَفَهم عن دين الله وطاعتِه، وتفرَّقُوا بعد أن كانوا أمةً واحدةً، قال تعالى في الحديث القُدسي: «خلقتُ عبادي حُنفاءَ كلَّهم، وإنهم أتَتهم الشياطينُ فاجتالَتهم عن دينِهم» [ رواه مسلم (2865)].
فذمَّهم الله على اختلافِهم، وبعثَ فيهم رسُلاً لجمع كلمتِهم والتأليف بين قلوبِهم على الحقِّ، قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) [البقرة: 213]؛ أي: بعد أن تفرَّقُوا.
واصطفَى الله بني إسرائيل وجعلَ فيهم أنبياءَ ورسُلاً، فخالفُوهم ونبذُوا الكتابَ وراءَ ظهورهم، وتفرَّقُوا شِيَعًا وأحزابًا، قال - عليه الصلاة والسلام -: «افترقَت اليهودُ على إحدى وسبعين فرقة، وافترقَت النصارَى على اثنتَين وسبعين فرقة، وتفترِقُ أمَّتي على ثلاثٍ وسبعين فرقة» [ رواه أهل السنن وصححه جمع من أهل العلم ] .
وأخبرَ - عليه الصلاة والسلام - بوقوع الفُرقة في هذه الأمة، وكلما تأخَّر العصرُ عن النبُوَّة كثُر التفرُّق والاختِلاف، قال - عليه الصلاة والسلام -: « فإنه من يعِش منكم بعدي فسيرَى اختلافًا كثيرًا» [ أخرجه أبو داود (٤٦٠٧)، والترمذي (٢٦٧٦)، وابن ماجه (٤٢)، وأحمد (١٧١٤٤) بسند صحيح]
وحذَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفُرقة لينجُو منها من شاءَ الله له السلامة، فقال: «إياكم والفُرقة» [ رواه الترمذي (2165) وأحمد (23145) بسند حسن ]
والله نهَى عبادَه عن التفرُّق فقال: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103].
وأخبرَ - سبحانه - أن سبيلَه واحدٌ، وكلَّ ما خالفَ الكتابَ والسنَّةَ فهي سبُلُ الشيطان تُفرِّقُ الخلق وتُبعِدُهم عن الرحمن.
وأوصَى الله الأُمم بما أوصَى به الأنبياءَ من إقامة الدين والبُعد عن الافتِراق، فقال: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى: 13].
وذمَّ - سبحانه - الفُرقةَ وعابَ على أهلها، فقال: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) [البقرة: 176]، ووصفَ حالَهم بقوله: (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [المؤمنون: 53].
والسعيُ فيها من خِصال المُنافقين، قال - سبحانه -: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة: 107]، وعليها طُبِعُوا: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) [الحشر: 14].
وهي من أخصِّ سُنن الجاهِلين، قال -عليه الصلاة والسلام-: «من خرجَ من الطاعة، وفارقَ الجماعةَ، فماتَ ماتَ ميتةً جاهليَّةً» [ رواه مسلم (1848)].
ونهَى - سبحانه - عن مُشابهَة أهل الاختِلاف وسُلوك طريقِهم، فقال: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) [آل عمران: 105].
وبرَّأ الله رسولَه من أهل الفُرقة، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) [الأنعام: 159].
وأهلُها مُشاقُّون للرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، مُخالِفون للمُؤمنين، قال - سبحانه -: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء: 115].
وأعظمُ الفُرقة: الانحِرافُ عن توحيدِ ربِّ العالمين، قال - سبحانه -: (وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ) [يونس: 106].
والإحداثُ في الدين مُفارقةٌ لاتباع خيرِ المُرسَلين، قال - عليه الصلاة والسلام -: «من عمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»؛ [ متفق عليه ].
والخروجُ على الأئمَّة ووُلاة الأمر، ومُنازعةُ الأمر أهلَه فسادٌ عظيم، قال - عليه الصلاة والسلام -: «من نزَعَ يدًا من طاعةِ الله، فإنه يأتي يوم القيامة لا حُجَّة له، ومن ماتَ وهو مُفارِقٌ للجماعة فإنه يموتُ ميتةً جاهليَّةً» [ أخرجه مسلم (1851) وأحمد (٥٥٥١) واللفظ له]
وأهلُ العلم قُدوةٌ في المُجتمعات، وهم أولَى الناس بائتِلاف قلوبهم، واجتِماع كلمتِهم، والخلافُ بينهم داعٍ لعدم القبولِ منهم، لذا أوصَى النبي - صلى الله عليه وسلم - مُعاذًا وأبا مُوسى - رضي الله عنهما -، لما بعثَهما إلى اليمن بقوله: «يسِّرا ولا تُعسِّرا، وبشِّرا ولا تُنفِّرا، وتطاوَعا ولا تختلِفا» [ متفق عليه ].
ونهَى عن الاختِلاف في الحقِّ، فقال: «اقرؤُوا القرآنَ ما ائتلَفَت عليه قلوبُكم، فإذا اختلفتُم فيه فقُوموا»؛ [ متفق عليه].
والتفرُّقُ في إقامة الصلاةِ، وعدمُ الاجتماع عليها من استِحواذ الشيطان، قال - عليه الصلاة والسلام -: «ما من ثلاثةٍ في قريةٍ ولا بدوٍ لا تُقامُ فيهم الصلاةُ، إلا قد استحوَذَ عليهم الشيطانُ، فعليك بالجماعة؛ فإنما يأكلُ الذئبُ القاصِية» [ أخرجه أبو داود (٥٤٧)، والنسائي (٨٤٧) واللفظ لهما، وأحمد (٢١٧١٠) بسند حسن].
وأنكرَ - عليه الصلاة والسلام - التفرُّقَ عند انتِظار الصلاةِ، قال جابرُ بن سمُرة - رضي الله عنه -: خرجَ علينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فرآنا حلَقًا، فقال: «ما لِي أراكُم عِزين» - أي: مُتفرِّقين – [ رواه مسلم (430) ].
ونهَى عن اختِلاف المُصلِّين في صفُوفهم، وتوعَّد أهلَه باختِلاف وجوهِهم، وأخبرَ أن مآلَه اختِلافُ القلوب؛ فاختِلافُ الظاهر سببٌ لاختِلاف الباطِن، قال - عليه الصلاة والسلام -: «لتسُوُّنَّ صفوفَكم أو ليُخالفنَّ الله بين وجوهِكم» [متفق عليه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه ]
ومُخالفةُ الإمام في الصلاةِ من مظاهر الاختِلاف والفُرقة التي نهَى الإسلامُ عنها، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إنما جُعِلَ الإمامُ ليُؤتمَّ به، فلا تختلِفُوا عليه» [رواه البخاري (722) ]
وكما نهَى الإسلامُ عن التفرُّق في أمور الدين، نهاهُم أيضًا عن الفُرقة في أمور الدنيا؛ فالاجتماعُ على الطعام يُورِثُ البركة، والتفرُّقُ فيه يُذهِبُها.
شكَا أناسٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إنا نأكلُ ولا نشبَع، فقال: «فلعلَّكم تفترِقُون؟»، قالوا: نعم، قال: «فاجتمِعُوا على طعامِكم، واذكُروا اسمَ الله عليه يُبارَك لكم فيه» [ رواه أبو داود (3764) وحسنه الألباني ]
وتفرُّقُ الرُّفقةِ في السفَر من سبيلِ الشيطان، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن تفرُّقَكم في هذه الشِّعابِ والأودِية إنما ذلكم من الشيطان» [أخرجه أبو داود (٢٦٢٨)، وابن حبان (٢٦٩٠)، والحاكم (٢٥٤٠) وصححه الألباني ].
وفي علاقةِ أفرادِ المُجتمع ببعضِهم نهَى عن التهاجُر والقطيعَة بين المُسلمين، وأخبَرَ أن أبوابَ الجنة تُفتَحُ يوم الاثنين ويوم الخميس، فيُغفرُ لكل عبدٍ لا يُشرِكُ بالله شيئًا، إلا رجُلاً كانت بينه وبين أخيه شَحناء، «فيُقال: أنظِرُوا هذَين حتى يصطلِحَا، أنظِرُوا هذَين حتى يصطلِحَا» [رواه مسلم (2565) ]
ونهَى عن العصبيَّة ودعاوَى الجاهليَّة، قال رجلٌ من الأنصار: يا للأنصار! وقال آخر: يا للمُهاجِرين! فقال - عليه الصلاة والسلام -: «ما بالُ دعوَى الجاهلية! دعُوها فإنها مُنتِنة» (متفق عليه).
والله لا يُحبُّ اختِلافَ عباده ولا يرضَاه، ولا تكون الفُرقةُ بينهم إلا من عند غير الله، وقد دلَّت أصولُ الشريعة على تحريم كلِّ ما يُوجِبُ الفُرقةَ واختِلافِ الكلمة، وذلك من مقاصِد النهيِ في دينِ المُرسَلين، فجاءَ النهيُ عن كل سبيلٍ قد يُؤدِّي إلى الفُرقةِ بين المُسلمين؛ من سُوء الظنِّ، والحسَد، والتجسُّس، والنَّميمة، والرِّبا، وبيع المُسلم على بيع أخيه، وخِطبته على خِطبته، وتتبُّع عورتِه، والغِشِّ.
وأمرَ الله بأطيَبِ الكلام، ونهَى عن سيِّئِه جمعًا للكلمة، ودفعًا لضِدِّه، فقال تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) [الإسراء: 53].
وأعظمُ مُوجِبات الفُرقة: الشركُ بالله، فهو داعٍ للاختِلاف وتعدُّد المعبُودات من دون الله، قال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا) [الروم: 31، 32].
والإعراضُ عن الكتابِ والسنَّة، أو أخذُ شيءٍ منهما وتركُ بعضِه سبيلُ النِّزاع والشِّقاق، قال - سبحانه -: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) [المائدة: 14].
واتِّباعُ المُتشابِه من النُّصوص زَيغٌ لأصحابِه وفتنةٌ للخلقِ، (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) [آل عمران: 7].
ووُلوجُ بابِ الشُّبهات والسَّيرُ وراءَ الشهوات داءٌ أفسَدَ الأُمم، وفرَّق أجيالَها، وسبيلُ كل شيطانٍ مآلُه الفُرقة، قال - سبحانه -: (وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام: 153].
وما بغَى قومٌ إلا افترَقُوا، قال تعالى: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) [البقرة: 213].
وإذا نشأَ الخلافُ عن هوًى وتعصُّبٍ، أو بغيٍ وتقليدٍ، أو حمِيَّةٍ وتحزُّبٍ، فهو سبيلٌ للفُرقة ويجبُ البُعد عنه.
قال شيخُ الإسلام - رحمه الله -: "مواضِعُ التفرُّق والاختِلاف عامَّتُها تصدُرُ عن اتباع الظنِّ وما تهوَى الأنفُس".
والتنافُسُ على الدنيا سببُ العداوة والبغضَاء، قال - عليه الصلاة والسلام -: «فوالله ما الفقرَ أخشَى عليكم، ولكن أخشَى عليكم أن تُبسطَ الدنيا عليكم كما بُسِطَت على من كان قبلَكم، فتنافسُوها كما تنافسُوها، وتُهلِكَكم كما أهلكَتهم»؛ [متفق عليه].
وإذا تفرَّق الناسُ شِيَعًا وأحزابًا تمكَّن الشيطانُ منهم، قال - عليه الصلاة والسلام -: «عليكم بالجماعة، وإياكم والفُرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنَين أبعَد» [ رواه الترمذي (2165) وأحمد (١٧٧)، والنسائي في «السنن الكبرى» (٩٢١٩) وصححه الألباني]
وأقربُ جنود إبليس منه منزلةً أشدُّهم في الأمة فُرقة، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن إبليسَ يضعُ عرشَه على الماء، ثم يبعَثُ سراياه، فأدناهم منه منزلةً أعظمُهم فتنةً، يجِيءُ أحدُهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا، فيقول: ما صنعتَ شيئًا، قال: ثم يجِيءُ أحدُهم فيقول: ما تركتُه حتى فرَّقتُ بينه وبين امرأتِه، قال: فيُدنِيه منه ويقول: نِعمَ أنت» [رواه مسلم (2813) ].
والاختِلافُ في الدين، واتباعُ الأهواء والآراء المُضِلَّة تصُدُّ عن صراطِ الله ودينِه،وعن طريقِ الأنبياء ومنهَجهم، فكلُّهم أمرُوا بإقامة الدينِ لله، والاجتِماع على الحقِّ وعدم التفرُّق فيه.
وإذا وقعَ الاختِلافُ فسَدَ دينُ أهله وحُرِمُوا بركةَ الأخذ من الكتاب والسنَّة، وغلبَت الأهواء، وذهبَ سُلطانُ العلم والهُدى.
وبالفُرقة اختِلافُ القلوب، وانقِطاعُ أواصِر الأُخوَّة، قال - عليه الصلاة والسلام -: «لا تختلِفُوا فتختلِفَ قلوبُكم» [رواه مسلم (432)].
وهي سببُ العداوة والبغضَاء، قال - سبحانه -: (وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) [آل عمران: 103].
وما تفرَّق قومٌ إلا هانُوا وضعُفُوا، قال - سبحانه -: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال: 46].
وإذا وقعَت في أمةٍ كانت أمارَة سخَط الله عليهم، قال - سبحانه -: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) [الأنعام: 65].
قال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما -: "أي: يُذيقَكم الأهواءَ والاختِلاف".
وعاجلُ عقوبة الفُرقة: تسلُّط الأعداء، والله وعدَ نبيَّه ألا يُسلِّط عليهم عدوًّا من سِوَى أنفسِهم يستبيحُ بيضتَهم، ولو اجتمعَ عليه من بأقطارِها، «حتى يكون بعضُهم يُهلِكُ بعضًا، ويسبِي بعضُهم بعضًا» [رواه مسلم (2889)].
وبالنِّزاع والاختِلاف والفُرقة ضياعُ الحقِّ وهدمُ أصول الدين، ومُشابهَةُ المُشرِكين، وفشُوُّ الضلال والكلام بلا علمٍ، والانشِغالُ بها عن العمل بالدين وتعليمِه والدعوة إليه، مع تعطيل شعائِر الدين الظاهرة؛ من الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر وغيره.
وبها تُرفعُ النِّعم، أُرِيَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ القدر، فخرجَ ليُخبِرَ بليلةِ القدر، فتلاحَى رجُلان من المُسلمين، فقال: «إني خرجتُ لأُخبِرَكم بليلةِ القدر، وإنه تلاحَى فلانٌ وفلانٌ فرُفعَت» [رواه البخاري (49)].
والفُرقةُ قد تُؤذِنُ بذنوبٍ عِظامٍ، وتُفضِي إلى الاقتِتال وسَفك الدماء، قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا) [البقرة: 253].
ووبالُ الاختِلاف: الهلاك، قال - عليه الصلاة والسلام -: «لا تختلِفُوا؛ فإن من كان قبلَكم اختلَفُوا فهلَكُوا» [رواه البخاري (3476) ].
وفي الآخرة تسوَدُّ وجوه أهله، قال تعالى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) [آل عمران: 106].
قال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما -: "تبيَضُّ وجوه أهل السنَّة والجماعة، وتسوَدُّ وجوه اهل البدعة والفُرقة".
ويدُ الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وبعدُ .. أيها المُسلمون: فالفُرقةُ ذلٌّ وهوان، والنِّزاعُ شرٌّ وبلاء، والاختِلافُ ضعفٌ وحيرَة، والشَّتاتُ فسادٌ للدنيا والدين، وكلُّها تُفرِحُ العدوَّ، وتُوهِنُ من قوة الأمة، وتُؤخِّرُ سيرَ الدعوة إلى الله، وتصُدُّ عن نشر العلم، وتُوغِرُ الصدور، وتُظلِمُ القلوبَ، وتُنغِّصُ المعيشَةَ، وتسلُبُ الأوقات، وتُشغِلُ العبدَ عن عمل الصالحات.
والعاقلُ من أعرضَ عن النِّزاع، واعتصمَ بالكتاب والسنَّة، وأصلحَ نفسَه وغيرَه، وتلك وصيَّةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - للأمة للنجاةِ من الفُرقة والاختِلاف.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء: 59].
باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم ولجميعِ المُسلمين.
مقدمة الخطبة الثانية
الحمدُ لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه، وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
نص الخطبة الثانية
أيها المسلمون: كلُّ من كان للكتاب والسنَّة وآثار الصحابة أتبَع، كان أكملَ وأولَى بالاجتِماع والهُدى، والاعتِصام بحبلِ الله وأبعَدَ عن التفرُّق والاختِلاف والفتنة.
ومن أعظم مقاصِد الإسلام: جمعُ كلمة أهله، والتأليفُ بين قلوبهم، وإصلاحُ ذات بينهم، ولا صلاحَ للخلقِ إلا باجتِماعهم على الحقِّ والدين.
والله حكَمَ بأخُوَّة المُؤمنين، فقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10].
وشبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - حالَ المُؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم «مثلَ الجسد إذا اشتكَى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسد بالسَّهر والحُمَّى»[متفق عليه]
«والمُؤمنُ للمُؤمن كالبُنيان يشُدُّ بعضُه بعضًا» (متفق عليه).
وتلك نعمةٌ منحَها الله لعباده فضلاً منه وكرَمًا، قال - سبحانه -: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) [الأنفال: 63].
ويجبُ على المُسلم أن يُحافظَ على هذه النعمة بسلامة الصدر، والنُّصح للناسِ، وحبِّ الخير لهم.
ثم اعلَمُوا أن الله أمرَكم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا محمدٍ.