الوصف المفصل
الحمد لله المتوحد بالعظمة والجلال، المتعالي عن الأشباه والأمثال، أحمده -سبحانه- وأشكره منَّ علينا بواسع الفضل وجزيل النوال.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله ومصطفاه من خلقه، كتب الفلاح لمن اتبعه وسار على شرعه، ففاز في الحال والمآل، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه خير صحب وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المؤمنون- فبتقوى الله تَزْكُو الأعمال، وتنال الدرجات، وارغبوا فيما عنده، فبيده الخير وهو على كل شيء قدير، اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم، ولا تتبعوا من دونه أولياء.
أيها المسلمون: أوجب الله علينا عبادته وحده لا شريك له، وحذرنا من مزالق الشيطان وخطواته، ومن ذلك الغلو في الصالحين؛ فسبب كفر بني آدم، أو سبب أول كفر بني آدم وتركهم دينهم الذي خلقوا له، ولا صلاح ولا فلاح لهم إلا به، -هو الغلو في الصالحين من الأنبياء والأولياء وغيرهم، بالقول والاعتقاد فيهم، وضابط الغلو: تعدي ما أمر الله به، وهو الطغيان الذي نهى الله عنه، ومن تأمل بعض ما يفعله عباد القبور مع الأموات من الشرك، علم علمًا يقينًا أن سبب ذلك الغلو فيهم؛ فعلى المسلم الحذر من الغلو مطلقًا، لاسيما في الصالحين، فإنه أصل الشرك قديمًا وحديثًا، لقرب الشرك بالصالحين من النفوس، فإن الشيطان يظهره في قالب المحبة والتعظيم.
وينقسم الناس -قديمًا وحديثًا- تجاه الصالحين إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الغلاة: وهم الذين يرفعون الصالحين فوق منزلتهم التي أنزلهم الله إياها، فيعظمون قبورهم بدعائها، والذبح لها، والطواف حولها، بل وصل الأمر إلى اعتقاد بعضهم أن هؤلاء الصالحين يُجيبون الداعي، وينجون الغريق، ويطفئون الحريق، ويتصرفون في الكون؛ وهذا هو الشرك الأكبر.
القسم الثاني: الجفاة: وهم الذين يتنقصون الصالحين ويجحدون فضلهم، ولا يقومون بحقهم من الحب والموالاة، وكلتا الطائفتين قد ضلت عن سواء السبيل.
والقسم الثالث: الوسط: وهم الذين يقتدون بالصالحين في أقوالهم وأعمالهم الصالحة، ويحبونهم ويحترمونهم ويدافعون عنهم، ولا يرفعونهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله إياها؛ وهذا هو الواجب تجاه الصالحين فلا إفراط ولا تفريط.
أيها المسلمون: نهى الله -سبحانه- اليهود والنصارى عن مجاوزة الحد مع الصالحين، وعن رفع المخلوق فوق منزلته التي أنزلها الله إياها، والغلو كثير في النصارى، فإنَّهم غلوا في عيسى -عليه السلام-؛ فرفعوه من مرتبة النبوَّة إلى أن اتخذوه إلهًا من دون الله، واليهود انتقصوا منه، فالنصارى أفرطوا واليهود فرَّطوا.
قال تعالى في محكم التنزيل: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ﴾ والخطاب وإن كان لأهل الكتاب، فهو تحذير لهذه الأمة منْ أن يفعلوا مع نبيهم محمد -صلى الله عليه وسلم- كما فعلت النصارى مع المسيح -عليه السلام-، واليهود مع عزير، ومن تشبَّه بهم من هذه الأمة وغلا في الدين بإفراط أو تفريط فهو منهم.
وفي الصحيح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ [نوح: 23] قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسموها بأسمائهم ففعلوا ولم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم عُبدت".
وقد كان الناس على التوحيد عشرة قرون منذ أن أهبط الله -سبحانه- آدم -عليه السلام- إلى الأرض حتى حدث الشرك بسبب الغلو في الصالحين؛ وذلك أن ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرا كانوا أهل دين وفضل وخير، وماتوا في زمن متقارب، فأسفوا عليهم، وصاروا يترددون على قبورهم، فأتاهم الشيطان وسول لهم أن يصوروا صورهم، ليكون أسهل عليهم من المجيء إلى قبورهم، ولم يكونوا قصدوا عبادتهم، وإنما قصدوا التذكر بهم، ليكون أدعى لهم على فعل الخير والتأسي بهم.
وقد أخرج الشيطان لهم هذه الحيلة في قالب المحبة؛ لعدم قدرته عليهم إلا بهذه الدرجة، ومقصوده من بعدهم الذين لم يعرفوا ما نصبت له، ليوسوس لهم أنهم كانوا معبودين في أولاكم.
حتى إذا هلك الذين صوروا الأصنام، ونُسي العلم الذي فيه بيان الشرك والتوحيد عُبدت تلك الصور؛ فأرسل الله -سبحانه وتعالى- نوحًا -عليه السلام- يدعوهم إلى عبادة الله وحده: (يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف: 59] وأفادت الآية مضرة فقد العلم، وأن بفقد العلم وموت العلماء؛ يحل الجهل الناس فيظهر الشرك وتنتشر البدع.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم".
وما زال الشيطان يوحي إلى عُبَّاد القبور، إلى أن دعوا الناس إلى عبادتها، واتخاذها أعيادًا ومناسك، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم، ثم نقلهم إلى أن عادوا من نهى عن ذلك، فقد تنقصوا أهل الرتب العالية، وعادوا أهل التوحيد، ووالوا أهل الشرك والتنديد، وزعموا أنهم أولياء الله: (وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أولياؤه إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) [الأنفال: 34]
عباد الله: من تأمل هذا تبين له غربة الإِسلام وأن أهل التوحيد قليل، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب، مع كثرة النصوص من الكتاب والسنة المحذرة من الشرك والداعية إلى التوحيد، ومن ذلك قوله -سبحانه وتعالى-: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء: 36] أي: أفردوه بالعبادة من صلاة ودعاء وذبح ونذر، ونرى اليوم من ينتسب إلى الإِسلام يدعو ويستغيث بالبرعي أو الجيلاني أو غيرهما عند الشدائد، والله -تعالى- يقول: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 18]
ومنهم من يذبح لغير الله؛ لأصحاب القبور أو الجن، والله -تعالى- يقول: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر: 2] ومنهم من يطوف حول قبور الصالحين، والله -سبحانه- يقول: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 29] ومنهم من يحلف بالنبي أو الولي، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من حلف بغير الله فقد أشرك أو كفر".وقد وصلوا إلى هذه الحالة بسبب الغلو في الصالحين وتقليد الآباء والأجداد.
عباد الله: عن عمر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا: عبد الله ورسوله" رواه البخاري ومسلم.
نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن مجاوزة الحد في مدحه كما تجاوزت النصارى الحد في مدح عيسى -عليه السلام- فقالت طائفة: هو الله، وقالت أخرى: هو ابن الله؛ وهذا شرك عظيم كفّرهم الله به، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ [المائدة: 72]
ولا شك أن أشرف مقامات الرسول -صلى الله عليه وسلم- العبودية والرسالة، وقد أرشد -صلى الله عليه وسلم- أمته إلى أن يصفوه بما وصفه به ربه: عبد الله ورسوله؛ وهذه أشرف مقاماته -صلى الله عليه وسلم-؛ فالعبد لا يستحق أن يُعبد، والرسول يجب أن يصدَّق ويطاع.
وذهب أقوام ممن ينتسب إلى الإِسلام إلى الغلو في الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فدعوه واستغاثوا به، وطلبوا الشفاعة منه، وحلفوا باسمه، ونذروا له، فوقعوا في الشرك الأكبر المنافي للتوحيد.
وذهب أقوام آخرون إلى ترك طاعته والإِعراض عن هديه، على المسلم الحذر من ذلك كله، والواجب طاعته كما أمر، من غير غلو ولا جفاء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [هود: 112]
بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، أحمده -سبحانه- وأشكره على نعمه الجمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، بعثه للعالمين رحمة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه خيار الأمة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
حذر -صلى الله عليه وسلم- أمته فقال: "إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو".نهى -صلى الله عليه وسلم- عن التعمق والتكلف في الدين ومجاوزة الحد في الأقوال والأفعال، سواء في مدح الشيء أو ذمه على ما يستحق، فهو الداء العضال الذي هلكت به الأمم الماضية.
فالتعمق والتكلف في محبة الصالحين هلاك؛ لأن ذلك يؤدي إلى عبادتهم، وكذا التعمق في الكلام وإظهار الباطل في صورة الحق هلاك، كمن يدعو إلى الاحتفال بالمولد النبوي بدعوى محبة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ متجاهلاً أن محبته -صلى الله عليه وسلم- باتباعه وطاعته، ولم يؤثر عنه -صلى الله عليه وسلم- أو عن أصحابه الاحتفال بذلك، بل هذا من صنيع أهل البدع.
إن خطر الغلو عظيم ونتائجه وخيمة، فالواجب تنزيل الصالحين منازلهم، وترك الغلو فيهم، وكذا الحذر من التنطع في جميع أمور الدين.
قال شيخ الإسلام: "هذا الحديث عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأفعال والأقوال". ومن الغلو في الاعتقاد: تعظيم الصالحين مما يكون سببًا في عبادتهم.
ومن الغلو في الأفعال: الرمي بجمرات كبيرة في الحج، ومن الغلو في الأقوال: الإتيان بأذكار زائدة عن المشروع. ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثًا.
أي المتكلفون المتعمقون المتأنقون، الغالون في الكلام، المتكلمون أو الغالون في عبادتهم، بحيث تخرج عن حدود الشريعة، أو الذي يدخل الباطل في قالب الحق، لقوة فصاحته، وأما الفصاحة التي توضح الحق وترد الباطل، وتظهر عظمة العلم والدليل فممدوحة.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "هلك المتنطعون" ثلاثًا، مبالغة في الإِبلاغ والتعليم، وقد بلغ -صلى الله عليه وسلم- البلاغ المبين.
هذا، وصلوا وسلموا.