ترجمات المادة
الوصف المفصل
- المختصر
في العبادات
- مقدمة
- أحكام الطهارة والمياه
- أحكام الآنية وثياب الكفار
- ما يحرم على المحدث عمله
- آداب قضاء الحاجة
- باب في السواك وخصال الفطرة
- باب في أحكام الوضوء
- أحكام المسح على الخفين وغيرهما من الحوائل
- باب في بيان نواقض الوضوء
- أحكام الغسل
- باب في أحكام التيمم
- أحكام إزالة النجاسة
- باب في أحكام الحيض والنفاس
- أحكام الصلاة
- باب في أحكام الأذان والإقامة
- باب في شروط الصلاة
- باب في آداب المشي إلى الصلاة
- باب في أركان الصلاة وواجباتها وسننها
- سنن الصلاة
- باب في صفة الصلاة
- باب في بيان ما يكره في الصلاة
- باب في بيان ما يستحب أو يباح فعله في الصلاة
- باب في السجود للسهو
- باب في الذكر بعد الصلاة
- باب في صلاة التطوع
- صلاة الوتر وأحكامها
- صلاة التراويح وأحكامها
- باب في السنن الراتبة مع الفرائض
- صلاة الضحى
- سجود التلاوة
- باب في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها
- باب في وجوب صلاة الجماعة وفضلها
- أحكام الإمامة
- من لا يولى الإمامة في الصلاة
- باب فيما يشرع للإمام في الصلاة
- باب في صلاة أهل الأعذار
- أحكام صلاة الجمعة
- أحكام صلاة العيد
- أحكام صلاة الكسوف
- صلاة الإستسقاء
- أحكام الجنائز
- أحكام الزّكاة
- زكاة بهيمة الأنعام
- زكاة الحبوب والثمار
- زكاة النقدين
- زكاة عروض التجارة
- زكاة الفطر
- أهل الزكاة، ومن لا يجوز دفع الزكاة إليهم
- الصدقة المستحبة
- أحكام الصيام
- أحكام القضاء
- أحكام الحج
- مواقيت الحج
- كيفيه الإحرام
- أنواع النسك
- محظورات الإحرام
- أعمال يوم التروية و يوم عرفة
- الدفع إلى مزدلفة وأعمال يوم العيد
- أحكام أيام التشريق ، وطواف الوداع
- أحكام الأضحية والهدي، والعقيقة
المختصر في العبادات
تأليف : خالد بن علي المشيقح
مقدمة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[ [آل عمران:102].
]يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً[ [النساء:1].
]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً[ [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن من أجل العلوم قدرًا، وأعلاها فخرًا، وأبلغها فضيلة علم الفقه، ففيه فهم الكتاب والسنة، ومعرفة الحلال والحرام، والاطلاع على مقاصد الشريعة وأسرارها ولما كانت الحاجة إلى معرفته قائمة بدا لي أن أكتب فيه كتابة مختصرة مبينة على ما دلَّ عليه كتاب الله وسنة رسوله وآثار صحابته بأسلوب سهل واضح لكي يكون في متناول الجميع، وقد سميته: (المختصر في العبادات).
أسأل الله - جلَّ وعلا - أن ينفع به كاتبه وقارئه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
كتبه
أبو محمد خالد بن علي بن محمد المشيقح
الأستاذ في كلية الشريعة بجامعة القصيم
في 25/2/1424 هـ
أحكام الطهارة والمياه
الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي الفارقة بين المسلم والكافر، وهي عمود الإسلام، وأول ما يُحاسب عنه العبد، فإن صَحَّت وقُبِلَت قُبِل سائرُ عملِهِ، وإن رُدَّت رُدَّ سائرُ عمله.
ولما كانت هذه الصلاة لا تصح إلا بطهارة المصلي من الحدث والنجس ناسب تقديم مقدماتها، ومنها الطهارة فهي مفتاح الصلاة.
فالطهارة من أوكد شروط الصلاة، والشرط لابد أن يقدم على المشروط.
معنى الطهارة:
الطهارة لغة: النظافة والنزاهة عن الأقذار الحسية والمعنوية .
ومعناها شرعاً: ارتفاع الحدث وزوال النجس .
(ارتفاع الحدث) يحصل باستعمال الماء مع النية في جميع البدن إن كان حدثاً أكبر، أو في الأعضاء الأربعة إن كان حدثاً أصغر، أو استعمال ما ينوب عن الماء عند عدمه أو حصول المشقة والحرج عند استعماله - وهو التراب - على صفة مخصوصة، وسيأتي - إن شاء الله - بيان لصفة التطهر من الحدثين.
(وزوال الخبث) والخبث : النجس .
والنجاسة: اسم لعين مستقذرة شرعًا . ويأتي كيفية تطهير الخبث.
الأصل في الماء :
اعلم أن الماء إذا كان باقياً على خلقته لم تخالطه مادة أخرى فهو طهور بالإجماع، وهذا هو الأصل فيه، وإن تغير أحد أوصافه الثلاثة - ريحه أو طعمه أو لونه - بنجاسة فهو نجس بالإجماع ، وإن تغيَّر أحد أوصافه بمخالطة مادة طاهرة ، كأوراق الأشجار ، أو الصابون ، أو الإشنان والسدر ، أو غير ذلك من المواد الطاهرة ولم يغلب ذلك المخالط عليه ، فلبعض العلماء في ذلك تفاصيل وخلاف ، والصحيح أنهُ طهور يجوز التطهر به من الحدث ، والتطهر به من النجس .
فعلى هذا يصح لنا أن نقول : إن الماء ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : طهور يصح التطهر به ، وهو الذي لم يتغير بنجاسة ولا مادة طاهرة تسلبه اسم الماء المطلق ، سواء كان باقياً على خلقته ، أو خالطته مادة طاهرة لم تغلب عليه ولم تسلبه اسمه المطلق .
القسم الثاني : نجس لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس وهو ما تغير لونه ، أو ريحه ، أو طعمه بالنجاسة .
مسألة : ويطهر الماء النجس وكذا سائر المائعات بأي مطهر يزيل وصف النجاسة ، كالإضافة ، أو النـزح أو تغيره بنفسه ، أو الطبخ ، أو نحو ذلك ؛ لأن الحكم يدور مع علَّته وجودًا وعدمًا .
مسألة : ويجوز استعمال النجاسة على وجه لا يتعدى بالأكل والشرب ؛ لحديث جابر رواه مسلم ، وفيه إقرار النبي الصحابة على قولهم في شحوم الميتة : (( فإنها تدهن بها الجلود ، وتطلى بها السفن ، ويستصبح بها الناس )) .
مسألة : إن شك في نجاسة ماء طاهر ، فالأصل الطهارة ، والعكس بالعكس ؛ لحديث عبدالله بن زيد متفق عليه ، والله تعالى أعلم .
أحكام الآنية وثياب الكفار
الآنية : هي الأوعية التي يحفظ فيها الماء وغيره ، سواء كانت من الحديد أو الخشب أو الجلود أو غير ذلك .
والأصل فيها : الإباحة ، قال الله -تعالى-: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: 29] ، وقال تعالى : وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ [الرحمن:10] فيباح استعمال واتخاذ كل إناء طاهر .
مسألة : إناء الذهب والفضة ، والإناء الذي فيه ذهب أو فضة ، طلاءً أو تمويهاً أو غير ذلك من أنواع جعل الذهب والفضة في الإناء ، فاستعماله في الأكل والشرب ، أو اتخاذه لذلك محرَّم ، ما عدا الضبَّة اليسيرة من الفضة تجعل في الإناء للحاجة إلى إصلاحه فلا بأس .
ودليل تحريم إناء الذهب والفضة قوله في حديث حذيفة : (( لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ، ولا تأكلوا في صحافهما ، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة )) متفق عليه . وقوله في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- : (( الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم )) متفق عليه .
والنهي عن الشرب يتناوله خالصاً أو مجزًا ، فيحرم الإناء المطلي ، أو المموه بالذهب أو الفضة ، أو الذي فيه شيء من الذهب والفضة ، ما عدا الضبة اليسيرة من الفضة ، وهي ما يجمع بين طرفي الإناء المنكسر ، أو يسد ثلمة ، أو خرقاً فيه ، بدليل حديث أنس بن مالك : (( أن قدح النبي انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسة من فضة )) رواه البخاري ، وقد اُختُلِف فيمن إتخذ هذه السلسة هل هو النبي أو أنس بن مالك ؟ وقد حُكي الإجماع على جواز الضبة اليسيرة .
وتحريم الاستعمال والاتخاذ للأكل والشرب يشمل الذكور والإناث ؛ لعموم الأخبار وعدم المخصص ، وإنما أبيح التحلي للنساء لحاجتهن إلى التزين للزوج .
مسألة : وأما استعمال آنية الذهب والفضة ، في غير الأكل والشرب ، أو اتخاذها لغرض من الأغراض دون مباشرتها بالاستعمال ، فموضع خلاف بين أهل العلم ، والأحوط تركه .
آنية الكفار : تباح آنية الكفار التي يستعملونها ما لم تعلم نجاستها ؛ لأن النبي أكل من طعام اليهود في آنيتهم ، فإن علمت نجاستها فإنها تغسل وتستعمل بعد ذلك .
جلود الميتة : يحرم استعمال جلود الميتة إلا إذا دبغت فتطهر ، ويجوز استعمالها بعد الدبغ إلا جلود السباع فلا يجوز استعمالها ؛ وإنما جاز ماعدا جلود السباع ؛ لورود الأحاديث الصحيحة بجواز استعماله بعد الدبغ ، ولأن نجاسته طارئة ، فتزول بالدبغ ، كما قال النبي في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: (( يطهره الماء والقرظ )) رواه أحمد والدارقطني ، وقوله في حديث عائشة - رضي الله عنها -: (( طهوركل أديم دباغه )) رواه الدارقطني ، وقال : "إسناده كلهم ثقات" ، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا : (( أيما إهاب دبغ فقد طهر )) رواه مسلم .
مسألة : لا يجوز استعمال جلود السباع ؛ لنهي النبي عن ركوب جلود النمور ، رواه أحمد ، وأبو داود .
ثياب الكفار : تباح ثياب الكفار إذا لم تعلم نجاستها ؛ لأن الأصل الطهارة فلا تزول بالشك ، ويباح ما نسجوه أو صبغوه ؛ لأن النبي وأصحابه كانوا يلبسون ما نسجه الكفار وصبغوه ، والله تعالى أعلم .
ما يحرم على المحدث عمله
هناك بعض الأعمال يحرم على المسلم إذا لم يكن على طهارة أن يزاولها لشرفها ومكانتها .
فالأشياء التي تحرم على المحدث حدثا أصغر ، أو أكبر :
(1) مس المصحف الشريف ، فلا يمسه المحدث بدون حائل ؛ لقوله-تعالى-: لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79] أي : المتطهرون من الحدث جنابة أو غيرها ، على قول بعض العلماء .
وحتى لو فسرت الآية بأن المراد بهم الملائكة ، فإن ذلك يتناول البشر بدلالة الإشارة ، ولما ورد في الكتاب الذي كتبه الرسول لعمرو بن حزم قوله : (( لا يمس المصحف إلا طاهر )) رواه النسائي وغيره متصلاً بإسنادٍ صحيح .
ولا بأس أن يحمل غير المتطهر المصحف في غلاف أو كيس من غير أن يمسه ، وكذلك لا بأس أن ينظر فيه ، ويقرأ بقلبه ، ويتصفحه من غير مس .
(2) الصلاة فرضاً أو نفلاً ، وهذا بإجماع أهل العلم ، إذا استطاع الطهارة ؛ لقوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا.. [المائدة: 6].
ولما روى ابن عمر - رضي الله عنهما- أن النبي قال : (( لا يقبل الله صلاة بغير طهور )) رواه مسلم وغيره .
لكن العالم العامد إذا صلى من غير طهارة يأثم ويعزر ، وإن كان جاهلاً أو ناسياً ، فإنه لا يأثم ، لكن لا تصح صلاته .
وأما الأشياء التي تحرم على المحدث حدثاً أكبر خاصة ، فهي :
(1) قراءة القرآن للجنب ؛ لحديث علي : (( كان لا يحجبه - يعني النبي عن القرآن شيء ، ليس الجنابة )) رواه الترمذي ، وغيره ، وقد ورد عن عمر صححه البيهقي ، وورد عن علي موقوفاً رواه الدارقطني وصححه .
أما الحائض والنفساء فلهما القراءة ؛ لعدم الدليل المانع ، وما ورد من الأحاديث المانعة فضعيفة .
ولا بأس أن يتكلم المحدث بما وافق القرآن إن لم يقصد القرآن بل على وجه الذكر ، مثل : بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد لله رب العالمين ، لحديث عائشة - رضي الله عنها -: (( أن النبي كان يذكر الله على كل أحيانه )) متفق عليه .
(2) ويحرم على المحدث حدثاً أكبر من جنابة أو حيض أو نفاس اللبث في المسجد بغير وضوء ؛ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء:43] أي : لا تدخلوا المسجد للبقاء فيه .
ولقوله لعائشة لما حاضت : (( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت ، حتى تطهري )) متفق عليه ، فمنعت من الطواف ؛ لمنعها من المسجد ، ولحديث عائشة - رضي الله عنها- أنها قالت : (( كن المعتكفات إذا حضن أمر رسول الله بإخراجهن من المسجد )) ، عزاه ابن قدامة في "المغني" لأبي حفص العكبري ، وقال في "الفروع" : " إسناد جيد ".
ولحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت : قال رسول الله : (( ناوليني الخمرة من المسجد ، قالت : فقلت : إني حائض ، فقال : إن حيضتك ليست في يدك )) رواه مسلم .
فإذا توضأ من عليه حدث أكبر جاز له اللبث في المسجد ؛ لقول عطاء بن يسار رحمه الله : " رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة " رواه سعيد بن منصور بإسناد حسن .
والحكمة من هذا الوضوء : تخفيف الجنابة .
وكذلك يجوز للمحدث حدثاً أكبر أن يمر بالمسجد لمجرد العبور منه أو أن يدخل لحاجة من غير جلوس فيه ، لقوله تعالى: إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ .. [النساء: 43] ، أي : متجاوزين فيه للخروج منه ، والاستثناء من النهي إِباحة .
آداب قضاء الحاجة
دين الإسلام كامل ، ما ترك شيئاً مما يحتاجه الناس في دينهم ودنياهم إلا بينه ، ومن ذلك آداب قضاء الحاجة ؛ ليتميز الإنسان الذي كرمه الله عن الحيوان بما كرمهُ الله به ، فديننا دين النظافة ودين الطهر ، فهناك آداب شرعية تفعل عند دخول الخلاء وحال قضاء الحاجة .
فإذا أراد المسلم دخول الخلاء - وهو المحل المعد لقضاء الحاجة- ؛ فإنه يستحب له :
1- أن يقول : ( بسم الله ، أعوذ بالله من الخبث والخبائث ) ؛ لثبوت ذلك في السنة .
2- يقدم رجله اليسرى حال الدخول .
3- عند الخروج يقدم رجله اليمنى ، ويقول : ( غفرانك ) ؛ وذلك لأن اليمنى تستعمل فيما من شأنه التكريم ، واليسرى تستعمل فيما من شأنه إزالة الأذى ونحوه ، والأصل : استعمال اليد اليمنى ، والرجل اليمنى ، إلا ما يتعلق بإزالة الأذى ونحوه .
4- وإذا أراد أن يقضي حاجته في فضاء – أي : في غير محل معد لقضاء الحاجة - ؛ فإنه يستحب له أن يبعد عن الناس ؛ بحيث يكون في مكان خال ، ويستتر عن الأنظار بحائط أو شجرة أو غير ذلك .
5- يحرم أن يستقبل القبلة وأن يستدبرها حال قضاء الحاجة ، في الفضاء ، وفي البنيان ؛ بل ينحرف عنها ؛ لأن النبي نهى عن استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة .
6- وعليه أن يتحرز من رشاش البول أن يصيب بدنه أو ثوبه ، فيرتاد لبوله مكاناً رخواً ، حتى لا يتطاير عليه شيء منه ، فإن عدم التنـزُّه من البول من موجبات عذاب القبر .
7- ولا يمس فرجه بيمينه ؛ لنهيه عن ذلك .
8- وكذلك لا يجوز له أن يقضي حاجته في طريق الناس ، أو في ظلهم ، أو موارد مياههم ؛ ونحو ذلك مما يحتاجه الناس للمرور ، أو البقاء فيه ، أو بين قبور المسلمين ، لنهي النبي عن ذلك لما فيه من الإِضرار بالناس وأذيتهم .
9- ولا يدخل موضع الخلاء بشيء فيه قرآن ، وكذا الأحسن أن لا يدخل بيت الخلاء بشيء فيه ذكر الله .
10- ولا يتكلم حال قضاء الحاجة ؛ لما روى ابن عمر - رضي الله عنهما – قال: (( مرَّ رجلٌ بالنبي ، فسلَّم عليه وهو يبول ، فلم يرد عليه )) رواه مسلم .
11- ولا بأس بالكلام حال الوضوء والغسل .
فإذا فرغ من قضاء الحاجة ، فإنه ينظف المخرج بالاستنجاء بالماء أو الاستجمار بالحجارة أو ما يقوم مقامها ، وإن جمع بينهما أفضل ، وإن اقتصر على أحدهما كفى ، كل ذلك وردت به السنة .
ويشترط للاستجمار :
1- أن يكون ثلاث مسحات منقية فأكثر .
2- ألا يكون بالعظام ورجيع الدواب – أي : روثها - ؛ لأن النبي نهى عن ذلك .
3- أن لا يكون محترمًا من طعام آدمي ، أو بهيمة ، أو كتب علم ونحو ذلك .
وضابط الإستجمار المجزيء : أن يبقى أثر لا يزيله إلا الماء .
وضابط الاستنجاء المجزيء : نظافة المحل من النجاسة كلها ، ويكفي الظن في ذلك.
باب في السواك وخصال الفطرة
روت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أن النبي قال : (( السواك مطهرة للفم مرضاة للرب )) رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم .
وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : (( خمس من الفطرة : الاستحداد ، والختان ، وقص الشارب ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظافر )) .
وفي الصحيحين أيضاً عن ابن عمر - رضي الله عنهما – مرفوعاً : (( أحفوا الشوارب ، وأعفوا اللحى )) .
من هذه الأحاديث وما جاء بمعناها أخذ العلماء ، الأحكام التالية :
أولا : السواك :
فيشرع السواك في جميع الأوقات ، وهو استعمال عود أو نحوه مما يطهر الأسنان واللثة ، مما علق بهما من صفرة ورائحة .
ويسن السواك في جميع الأوقات ، حتى للصائم في جميع اليوم على الصحيح للعمومات ، ويتأكد في أحوال مخصوصة :
1- عند الوضوء ؛ لقوله في حديث أبي هريرة : (( لولا أن أشق على أمتي ؛ لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء )) رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم ، ويكون ذلك حال المضمضة .
2- عند الصلاة فرضاً أو نفلاً ، لما روى أبو هريرة أن النبي قال : (( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة )) متفق عليه .
3- عند الانتباه من نوم الليل أو نوم النهار ؛ لحديث حذيفة أنه (( كان إذا قام من الليل ، يشوص فاه بالسواك )) متفق عليه . والشوص : الدلك ، وذلك لأن النوم تتغير معه رائحة الفم .
4- عند تغير رائحة الفم بأكل أو غيره ، لحديث حذيفة السابق .
5- عند قراءة القرآن لحديث علي وفيه قوله : (( فطهروا أفواهكم للقرآن )) رواه ابن خزيمة ، بسندٍ جيد .
6- عند دخول المنـزل ، لحديث عائشة - رضي الله عنها - ، أن النبي (( كان يبدأ إذا دخل بيته بالسواك )) رواه مسلم .
7- عند الاحتضار ؛ لحديث عائشة - رضي الله عنها - متفق عليه .
ثانيًا : سنن الفطرة :
سميت خصال الفطرة ؛ لأن فاعلها يتصف بالفطرة التي فطر الله عليها العباد ، وحثهم عليها ، واستحبها لهم ؛ ليكونوا على أكمل الصفات وأشرفها ، وليكونوا على أجمل هيئة وأحسن خلقة ، وهي السنة القديمة التي اختارها الأنبياء واتفقت عليها الشرائع .
وهذه الخصال هي :
1- الاستحداد : وهو حلق العانة ، وهي الشعر النابت حول الفرج ، سمي استحداداً ؛ لاستعمال الحديدة فيه وهي الموسى ، وفي إزالته تجميل ونظافة فيزيله بما شاء من حلق أو غيره ، والأفضل الحلق ، لوروده في السنة ، ولأن النتف يرخي المحل .
2- الختان : وهو إزالة الجلدة التي تغطي الحشفة حتى تبرز الحشفة ، ويكون زمن الصغر ؛ لأنه أسرع برءًا ، ويجب ختان الذكر عند البلوغ .
ومن الحكمة في الختان : تطهير الذكر من النجاسة المحتقنة في القلفة ، وتخفيف غلمة المرأة .
3- إحفاء الشارب : وهو المبالغة في قصه جميعه ، والإحفاء أفضل من القص ، لكونه يشمل القص ولما في ذلك من التجميل والنظافة ومخالفة الكفار .
4- تقليم الأظافر : وهو قطع ما طال عن اللحم ، بحيث لا تترك تطول ، لما في ذلك من التجمل وإزالة الوسخ المتراكم تحتها ، والبعد عن مشابهة السباع البهيمية .
5- نتف الإبط : أي : إزالة الشعر النابت في الإبط ، فيسن إزالة هذا الشعر بالنتف - وهو أفضل من الحلق لورود السنة بذلك - أو الحلق أو غير ذلك ، لما في إزالة هذا الشعر من النظافة وقطع الرائحة الكريهة التي تتضاعف مع وجود هذا الشعر .
مسألة : وقت حلق العانة ، وقص الشارب ، وتقليم الأظافر ، ونتف الإبط ، إذا طالت ، ويكره تركها فوق أربعين يومًا للنهي عن ذلك ، في حديث أنس ، ولا يجوز تركها حتى تطول جدًا ، بحيث يشبه المشركين والمجوس والسباع .
مسألة : ويجب إعفاء اللحية ، ويحرم حلقها ، أو أخذ شيء منها ، لما روى ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي قال : (( خالفوا المشركين ، أحفوا الشوارب ، وأوفوا اللحى )) متفق عليه .
باب في أحكام الوضوء
الوضوء : لغة : الحسن والنظافة .
واصطلاحًا : التعبد لله عز وجل بغسل الأعضاء الأربعة على وجه مخصوص .
يقول الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْن .. [المائدة: 6]. فهذه الآية الكريمة أوجبت الوضوء للصلاة ، وبينت الأعضاء التي يجب غسلها أو مسحها في الوضوء .
شروط الوضوء :
1- الإسلام .
2- العقل .
3- التمييز (1) .
4- والنية . فلا يصح الوضوء من كافر ، ولا من مجنونٍ ، ولا من صغير لا يميزه ، ولا ممن لم ينو الوضوء ؛ بأن نوى تبرداً ؛ أو غسل أعضاءه ؛ ليزيل عنها نجاسة أو وسخاً .
5- أن يكون الماء طهوراً - كما سبق - ، فإن كان نجساً لم يجزئه .
6- إزالة ما يمنع وصول الماء إلى الجلد من طين ، أو عجين ، أو شمع ، أو وسخ متراكم ، أو أصباغ سميكة ؛ ليجري الماء على جلد العضو مباشرة من غير حائل ؛ لأن الله - عز وجل - أوجب غسل العضو كاملاً ، ولا يتحقق مع وجود مانع .
سنن الوضوء وصفته
أولاً : السواك ، ومحله عند المضمضة ، وتقدم .
ثانيًا : غسل الكفين ثلاثًا في أول الوضوء قبل غسل الوجه ؛ لورود الأحاديث به .
ثالثًا : البداءة بالمضمضة والاستنشاق قبل غسل الوجه ، ويبالغ فيهما إن كان غير صائم ، فالمبالغة في المضمضة إدارة الماء في جميع الفم ، وفي الاستنشاق جذب الماء إلى أقصى الأنف .
رابعًا : ومن سنن الوضوء تخليل اللحية الكثيفة بالماء حتى يبلغ داخلها أحياناً ، وتخليل أصابع اليدين والرجلين ، بأن يدخل بعضهما ببعض ويكون ذلك أحياناً .
خامسًا : التيامن ، وهو البدء باليمنى من اليدين والرجلين قبل اليسرى .
سادسًا : الإتيان بصفات الوضوء الواردة في السنة ، فتارة يتوضأ مرة مرة ، بأن يغسل كل عضو مرة واحدة ، وتارة مرتين مرتين ، بأن يغسل كل عضو مرتين ، وتارة ثلاثاً ثلاثاً ، بأن يغسل كل عضو ثلاث مرات ، وتارة يخالف فيغسل الوجه مع المضمضة والاستنشاق ثلاثا ، واليدين مرتين ، والرجلين مرة واحدة .
سابعًا : أن يأتي بالأذكار الواردة في الوضوء ، ومنها : أن يسَمِّ في ابتدائه ، وبعد الفراغ يتشهد ، ( أشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ) ، ( سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ) .
صفة الوضوء :
أي الكيفية ، والهيئة التي يكون عليها .
- أن ينوي الوضوء لما يشرع له الوضوء من صلاة ونحوها .
- ثم يقول : بسم الله .
- ثم يغسل كفيه ثلاث مرات .
- ثم يتمضمض ، ويستنشق من كف واحدة ، وينثر الماء من أنفه بيساره .
- ويغسل وجهه ، وحد الوجه طولاً من منابت شعر الرأس المعتاد إلى ما انحدر من اللحيين والذقن ، واللحيان عظمان في أسفل الوجه :
أحدهما من جهة اليمين ، والثاني من جهة اليسار ، والذقن مجمعهما ، وشعر اللحية من الوجه ، فيجب غسله ، فإن كانت اللحية خفيفة الشعر وجب غسل باطنها وظاهرها ، وإن كانت كثيفة ( أي : ساترة للجلد ) وجب غسل ظاهرها ، ويستحب تخليل باطنها - كما تقدم – أحيانًا ، وحد الوجه عرضاً من الأذن إِلى الأذن ، ثم يغسل يديه مع المرفقين ، وحد اليد هنا : من رؤوس الأصابع مع الأظافر إلى أول العضد ، ولابد أن يزيل ما علق باليدين قبل الغسل من صبغ ونحو ذلك مما يمنع وصول الماء إلى البشرة ، ثم يمسح كل رأسه وأذنيه مرة واحدة بماء جديد غير البلل الباقي من غسل يديه .
وصفة مسح الرأس : أن يضع يديه مبلولتين بالماء على مقدم رأسه ، ويمرهما إلى قفاه ، ثم يردهما إلى الموضع الذي بدأ منه هذا هو الأفضل ، وكيف مسح رأسه أجزأه ، ثم يدخل أصبعيه السبابتين في خرقي أذنيه ، ويمسح ظاهرهما بإِبهاميه .
ثم يغسل رجليه مع الكعبين ، والكعبان : هما العظمان الناتئان في أسفل الساق .
ومن كان مقطوع اليد أو الرجل ، فإِنه يغسل ما بقي من الذراع أو الرجل ؛ لقوله – تعالى - : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] . وقوله : (( إِذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )) متفق عليه .
فإذا غسل بقية المفروض ، فقد أتى بما استطاع .
ثم بعد الفراغ على الصفة المتقدمة ، يقول ما ورد عن النبي من الأدعية في هذه الحالة ، ومن ذلك : (( أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، سُبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إِلا أنت ، أستغفرُك وأتوب إليك )) .
فروض الوضوء ، وهي أركانه :
الأول : غسل الوجه ، ومنه المضمضة ، والإستنشاق ، فمن غسل وجهه وترك المضمضة والاستنشاق أو أحدهما لم يصح وضوؤه ؛ لأن الفم والأنف من الوجه ، لقول الله تعالى : ... فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ .. [المائدة: 6] ؛ فأمر بغسل الوجه كله ، فمن ترك شيئاً منه لم يكن ممتثلاً أمر الله تعالى ، والنبي تمضمض واستنشق ، وأمر بهما ، ولم ينقل عنه أنه تركهما .
الثاني : غسل اليدين مع المرفقين ؛ لقوله – تعالى - : وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِق [المائدة: 6] أي : مع المرفقين ؛ لأن النبي في حديث أبي هريرة : (( غسل يديه حتى أشرع في العضد )) رواه مسلم ، مما يدل على دخول المرفقين في المغسول .
الثالث : مسح الرأس كله ، ومنه الأذنان ؛ لقوله -تعالى- : ..وَامْسَحُوابِرُؤُوسِكُم.. [المائدة: 6] فيدخل في الرأس الأذنان ، ولفعله ، ولم ينقل عنه أنه اقتصر على مسح بعض الرأس ، وقال في حديث عبد الله بن زيد : (( الأذنان من الرأس )) رواه ابن ماجه ، والدارقطني وغيرهما ، فلا يجزئ مسح بعض الرأس .
الرابع : غسل الرجلين مع الكعبين ؛ لقوله – تعالى - : وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ… [المائدة: 6] ، فقوله ( وإلى ) : بمعنى ( مع ) ، وذلك للأحاديث الواردة في صفة الوضوء ، فإنها تدل على دخول الكعبين في المغسول ، لما تقدم من حديث أبي هريرة أن النبي قال : (( غسل الرجلين حتى أشرع في الساق )) رواه مسلم .
الخامس : الترتيب ، بأن يغسل الوجه أولاً ، ثم اليدين ثم يمسح الرأس ، ثم يغسل رجليه ؛ لقوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ .. [المائدة: 6] ، فإدخال الممسوح بين المغسولات يدل على اشتراط الترتيب ، والنبي رتَّب الوضوء على هذه الكيفية ، ولم يثبت عنه أنه أخل بهذه الكيفية .
السادس : الموالاة ، وهي أن يكون غسل الأعضاء المذكورة متوالياً بحيث لا يفصل بين غسل عضو والعضو الذي قبله بفاصل طويل عرفاً ، بل يتابع غسل الأعضاء .
وتسقط الموالاة بالعذر كما لو احتاج إلى إزالة ما يمنع وصول الماء إلى البشرة ، أو احتاج إلى زيادة ماء ونحو ذلك .
أحكام المسح على الخفين وغيرهما من الحوائل
المسح : لغة : الإمرار .
وفي الاصطلاح : إمرار اليد مبلولة على ما شرع المسح عليه .
قال الإمام أحمد : " فيه أربعون حديثًا عن النبي " ، وجمعها ابن منده عن ثمانين صحابيًا من أصحاب رسول الله .
حكم المسح على الخفين : رخصة فعله ، فإذا كان الإنسان لابسًا كان أفضل من نزع الخفين وغسل الرجلين أخذاً برخصة الله - عز وجل - واقتداءً بالنبي ومخالفة للمبتدعة ، وإن كان خالعًا فالأفضل غسل الرجلين ، وقد كان النبي لا يتكلف ضد حاله التي عليها قدماه ، بل إن كانتا في الخفين مسح على الخفين ، وإن كانتا مكشوفتين غسل القدمين ، فلا يشرع لبس الخف ؛ ليمسح عليه ، ولا يخلع ليغسل .
مدة المسح على الخفين : بالنسبة للمقيم يوم وليلة ، وبالنسبة لمسافر سفراً يبيح له القصر ، ثلاثة أيام بلياليها ، لما رواه علي أن النبي قال : (( للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن ، وللمقيم يوم وليلة )) رواه مسلم .
وابتداء المدة في الحالتين يكون من المسح بعد الحدث .
شروط المسح على الخفين ونحوها :
يشترط للمسح على الخفين وما يقوم مقامهما من الجوارب ونحوها :
1- أن يلبسها بعد كمال الطهارة بالماء من الحدث ؛ لما في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة وغيرهما أن النبي قال : (( دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين )) .
2- أن يكون الخف مما يمكن الانتفاع به عرفاً .
3- أن يكون ذلك في الوقت المحدد شرعًا .
4- طهارة عين الخف ونحوه ، فلا يصح المسح على جلد ميتة أو كلب ، ونحو ذلك .
ويجوز المسح على العمامة بشرطين :
أحدهما : تكون ساترة لما لم تجر العادة بكشفه من الرأس .
الثاني : لبسها بعد كمال الطهارة .
المسح على الجبيرة :
ويمسح على الجبيرة ، وهي أعواد ولفائف ، ونحوها تربط على الكسر ، ويمسح على الضماد الذي يكون على الجرح ، وكذلك يمسح على اللصوق الذي يجعل على القروح ، لورود ذلك عن ابن عمر - رضي الله عنهما - كل هذه الأشياء يمسح عليها ، بشرط أن تكون على قدر الحاجة بحيث تكون على الكسر أو الجرح وما قرب منه مما لابد من وضعها عليه لتؤدي مهمتها ، فإن تجاوزت قدر الحاجة ، لزمه نزع ما زاد عن الحاجة ، فإن تضرر بذلك ، مسح على الزائد وأجزأه .
ومن به جرح لا يخلو من أمور :
الأول : أن يكون عليه جبيرة ، أو لفافة ونحوها ، فإنه يمسح عليها .
الثاني : أن لا يكون عليه جبيرة ، أو لفافة ، فإن لم يتضرر بغسل الجرح أو مسحه ، غسله أو مسحه .
الثالث : أن لا يكون عليه جبيرة ولا لفافة ، ويتضرر بالمسح أو الغسل ، فإنه يتيمم بعد فراغه من الوضوء ، ولا تشترط الموالاة بين الوضوء والتيمم .
ويجوز المسح على الجبيرة ونحوها في الحدث الأصغر والأكبر ، وليس للمسح عليها وقت محدد ، بل يمسح عليها إلى نزعها أو برء ما تحتها ؛ لأن مسحها لأجل الضرورة إِليها ، فيتقدر بقدر الضرورة .
محل المسح من هذه الحوائل : يمسح ظاهر الخف والجورب ، ويمسح أكثر العمامة ، ويختص ذلك بدوائرها ، ويمسح على جميع الجبيرة ، أعلاها وأسفلها ، مما هو في محل الغسل .
وصفة المسح على الخفين ونحوهما : أن يضع أصابع يديه مبلولتين بالماء على أصابع رجليه ثم يمرهما إلى ساقه ، يمسح الرجل اليمنى باليد اليمنى ، والرجل اليسرى باليد اليسرى ، ويفرج أصابعه إِذا مسح ، ولا يكرر المسح .
باب في بيان نواقض الوضوء
نواقض الوضوء : أي مفسداته ومبطلاته ، وهي :
1- الخارج المعتاد من السبيل إما أن يكون بولاً ، أو منياً ، أو مذياً ، أو دم حيض ، أو غائطاً ، أو ريحاً .
قال تعالى في موجبات الوضوء : ..أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ.. [المائدة:6] .
ولما روى صفوان بن عسال قال : (( كان رسول الله يأمرنا إذا كنا سفرًا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ، ولكن من بول وغائط ونوم )) رواه أحمد ، والنسائي ، والترمذي وصححه .
وأمر بنضح الفرج من المذي والوضوء .
وكذا ينقض الوضوء خـروج الريح بدلالة الأحـاديث الصحيحة ، وبالإجماع ، قال : (( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )) ، فقال رجل : ما الحدث يا أبا هريرة ؟ قال فساء أو ضراط . متفق عليه .
والإجماع قائم على هذا .
وأما الخارج من البدن من غير السبيلين فإن كان بولاً أو غائطاً نقض ، وإن كان غيرهما كالدم والقيء والرعاف ، فموضع خلاف بين أهل العلم ، هل ينقض الوضوء أو لا ينقضه ؟
على قولين ، والراجح أنهُ لا ينقض ، لكن لو توضأ خروجاً من الخلاف لكان أحسن .
2- زوال العقل أو تغطيته ، وزوال العقل يكون بالجنون ونحوه ، وتغطيته تكون بالنوم أو الإغماء ونحوهما فمن زال عقله أو غطي بنوم ونحوه انتقض وضوؤه ، لحديث صفوان بن عسال ؛ لأن ذلك مظنة خروج الحدث ، وهو لا يحس به ، إِلا يسير النوم غير المستغرق ، فإنهُ لا ينقض الوضوء ؛ لأن الصحابة كما في حديث أنس بن مالك (( ينامون ثم يصلون ولا يتوضؤون )) رواه مسلم ، وفي لفظ (( يضعون جنوبهم )) رواه أبو داود ، ولم ينقل أنهم كانوا يتوضؤون ، وإنما ينقضه النوم المستغرق ، جمعاً بين الأدلة .
3- أكل لحم الإبل ، سواء كان قليلاً أو كثيراً ، لصحة الحديث فيه عن رسول الله وصراحته ، فقد روى جابر بن سمرة أن رجلاً سأل رسول : أنتوضأ من لحوم الغنم ؟ قال : (( إن شئت توضأ وإن شئت فلا تتوضأ )) ، قال : أنتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال : (( نعم ، توضأ من لحوم الإبل )) رواه مسلم .
قال الإمام أحمد - رحمه الله - : " فيه حديثان صحيحان عن النبي ".
ويلحق بلحم الإبل بقية أجزائها ، كالقلب والكبد ولحم الرأس ونحو ذلك .
وأما أكل اللحم من غير الإبل فلا ينقض الوضوء .
مسألة : أوجب كثير من العلماء الوضوء من مس الذكر ؛ لحديث بسرة بنت صفوان أن النبي قال : (( من مسَّ ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ )) رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، والترمذي وصححه .
وقد اختار شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله - استحباب الوضوء عقيب الذنب , ومن مس الذكر بشهوة ، وكذا مس النساء لشهوة .
مسألة : من تيقن الطهارة ، ثم شك في حصول ناقض من نواقضها ، فالأصل الطهارة , فقد ثبت عن رسول الله في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله قال : (( إِذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً ، فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا ؟ فلا يخرج من المسجد ، حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً )) والقاعدة : اليقين لا يزول بالشك ، وكذا إذا تيقَّن الحدثَ وشكَّ في الطهارة هل تطهر أولا ؟ الأصل بقاء الحدث .
أحكام الغسل
وهو استعمال الماء في جميع البدن على صفة مخصوصة يأتي بيانها ، والدليل على وجوبه : قول الله تعالى : وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا... [المائدة: 6] .
وموجبات الغسل ستة أشياء :
الأول : خروج المني من مخرجه من الذكر أو الأنثى ، ولا يخلو خروج المني : إما أن يخرج في حال اليقظة ، أو حال النوم .
فإن خرج في حال اليقظة ، اشترط وجود اللذَّة بخروجه ، فإن خرج بدون لذَّة لم يوجب الغسل ، كالذي يخرج بسبب مرض ، أو عدم إمساك ونحو ذلك .
وإن خرج في حال النوم ، وهو ما يسمى بالاحتلام ، وجب الغسل مطلقاً ؛ لفقد إدراكه ، فقد لا يشعر باللذة .
والنائم إذا استيقظ من نومه ، فوجد بللاً ، فلا يخلو من أمور :
الأمر الأول : أن يعلم أنه مني ، فيجب عليه الغسل مطلقًا .
الأمر الثاني : أن يعلم أنه غير مني ، فلا يجب عليه الغسل ، ولكن يطهر ما أصابه .
الأمر الثالث : أن يشك في الأمر ، فلا يجب عليه الغسل ، ولكن يطهر ما أصابه .
الثاني : إيلاج الحشفة في الفرج ، والمراد : رأس الذكر ولو لم يحصل إنزال للواطئ والموطوءة ، لحديث عائشة - رضي الله عنها - ، عن النبي قال : (( إِذا قعد بين شعبها الأربع ثم مس الختانُ الختان ؛ فقد وجب الغسل )) رواه مسلم . وفي لفظ : ((وإن لم ينـزل )) .
الثالث : إسلام الكافر ، فإذا أسلم الكافر ، وجب عليه الغسل؛ لأن النبي أمر قيس بن عاصم لما أسلم بالغُسل . رواه أبو داود ، والنسائي ، والترمذي وحسنه ، وكذا (( أمر ثمامة بن أثال بالغسل لما أسلم )) رواه أحمد و عبد الرزاق .
الرابع والخامس : الحيض والنفاس ، لقول الله - تعالى- : فَإِذَا تَطَهَّرْنَ ... [البقرة: 222] ، يعني : الحُيَّض يتطهرن بالاغتسال بعد انتهاء الحيض .
ولما روته عائشة - رضي الله عنها - أن النبي قال : (( فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، فإذا أدبرت فاغتسلي وصلي )) رواه البخاري وغيره .
السادس : الموت ، لحديث أم عطية رضي الله عنها ، وفيه قوله للاَّتي غَسَّلن ابنته :
(( إغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك ... )) متفق عليه .
صفة الغسل :
للغسل صفتان :
أولا : صفة الغسل الكامل : وهو المشتمل على الواجب والمستحب .
- أن ينوي بقلبه .
- ثم يسمي ، ويغسل يديه ثلاثاً ويغسل فرجه .
- ثم يتوضأ وضوءاً كاملاً ، مع غسل رجليه ، وأحيانا يؤخر غسل الرجلين في آخر الغسل .
- ثم يحثي الماء على رأسه ثلاث مرات ، يروي أصول شعره .
- ثم يعم بدنه بالغسل مرة واحدة ، ويستحب أن يتيامن وأن يدلك بدنه بيديه ؛ ليصل الماء إليه .
- ثم يأتي بالأذكار الواردة في الوضوء كما تقدم .
ثانيا : صفة الغسل المجزيء : وهو أن ينوي ، وأن يعم بالماء جميع بدنه ، مع المضمضة والاستنشاق .
مسألة : النية ، لها أحوال :
الأول : أن ينوي غسلاً مسنوناً ، أو واجباً ، فيجزيء أحدهما عن الآخر .
الثاني : أن ينوي رفع الحدثين الأكبر والأصغر ، أو الحدث مطلقًا ، أو الصلاة ، أو قراءة القرآن ، فيرتفعان .
الثالث : أن ينوي رفع الحدث الأكبر ، فيرتفع الحدثان جميعا .
باب في أحكام التيمم
التيمم : لغة : القصد .
واصطلاحًا : التعبد لله - عز وجل - بمسح الوجه والكفين بالصعيد الطيب على وجه مخصوص .
قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة : 6].
وكما هو ثابت في القرآن الكريم ؛ فهو ثابت بسنة رسول الله وإِجماع الأمة ، وهو فضيلة لهذه الأمة ، اختصها الله به ولم يجعله طهوراً لغيرها توسعة عليها ، وإحساناً منه إليها ، ففي الصحيحين وغيرهما من حديث جابر قال : قال رسول الله :
(( أُعطيتُ خمساً لم يعطهنَّ أحدٌ قبلي : نُصرتُ بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة ؛ فليصل )) ، وفي لفظ : (( فعنده مسجده وطهوره )) .
وحكم التيمم : أنه رافع للحدث كالماء إلى وجود الماء ، أو زوال العذر ، فإذا وجد الماء أو زال عذره الذي من أجله تيمم بطل تيممه .
وينوب التيمم عن الماء في أحوال هي :
أولاً : إذا عدم الماء فلم يكن في محله ولا بقربه عرفاً ؛ لقوله تعالى : .. فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا .. [المائدة : 6] ، وسواءً عدمه في الحضر أو في السفر ، وطلبه ولم يجده .
ثانياً : إذا كان معه ماء يحتاجه لشرب وطبخ ، فلو تطهر منه لأضر حاجته بحيث يخاف العطش على نفسه ، أو عطش غيره من آدمي أو بهيمة محترمة .
ثالثاً : إذا خاف باستعمال الماء الضرر في بدنه بمرض أو تأخر برء ؛ أو الحرج والمشقة ، لقوله تعالى : .. وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى .. إلى قوله : فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً .. الآية [النساء: 43].
وإِن وجد ماء يكفي بعض طهره ، استعمله فيما يمكنه من أعضائه أو بدنه ، وتيمم عن الباقي الذي قصر عنه الماء ؛ لقوله تعالى : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم [التغابن:16].
وفروض التيمم :
1- مسح الوجه .
2- مسح اليدين إلى الكوعين .
3- الترتيب والموالاة بين مسح الوجه واليدين .
مسألة : ما يتيمم عليه :
ما يتيمم عليه ينقسم إلى قسمين :
أولاً : ما كان من جنس الأرض ، من تراب أو رمل أو حجر أو صخر أو غير ذلك ، فيصح التيمم عليه مطلقًا ؛ لقوله تعالى : فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً الآية [النساء: 43] ، وكان وأصحابه إذا أدركتهم الصلاة ؛ تيمموا على الأرض التي يصلون عليها ، تراباً أو غيره ، ولم يكونوا يحملون معهم التراب .
ثانيًا : ما ليس من جنس الأرض ، كالفرش والأخشاب والحديد ونحو ذلك ، فيشترط أن يكون عليه غبار .
وصفة التيمم : أن يضرب التراب بيديه ، ثم يمسح وجهه ، ثم يمسح كفيه ، وإن مسح بضربتين إحداهما يمسح بها وجهه والثانية يمسح بها يديه جاز ؛ لكن الصفة الأولى هي الواردة عن النبي ، والتيمم بضربتين وارد عن الصحابة .
ويبطل التيمم :
1- إذا كان عن حدث أصغر : بمبطلات الوضوء ، وإن كان حدثاً أكبر بموجبات الغسل من جنابة وحيض ونفاس ؛ لأن البدل له حكم المبدل .
2- ويبطل التيمم أيضاً بوجود الماء إن كان التيمم لعدمه ، وبزوال العذر الذي من أجله شرع التيمم من مرض ، ونحوه .
ومن عدم الماء والصعيد الطيب أو وصل إلى حال لا يستطيع معه لمس البشرة بماء ولا تراب ؛ فإنه يصلي على حسب حاله بلا وضوء ولا تيمم ؛ لأن الله لا يُكلف نفساً إلا وسعها ، ولا يعيد هذه الصلاة ؛ لأنه أتى بما أمر به ؛ لقوله تعالى : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم [التغابن:16] ، وقوله : (( إِذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )) .
مسألة : إذا وجد الماء في أثناء الصلاة :
إذا وجد الماء قبل الشروع في الصلاة بطل التيمم ، ووجب الوضوء ، وإن وجد بعد الفراغ من الصلاة صحت ، وإذا وجد أثناء الصلاة فإن أدى ركعة أكمل صلاته ، وإلاَّ استأنفها .
مسألة : ويستحب لمن ظن أو علم وجود الماء تأخير الصلاة إلى وجود الماء ، مالم يترك واجبًا كالجماعة ، وإلا صلى .
أحكام إزالة النجاسة
فكما أنه مطلوب من المسلم أن يكون طاهراً من الحدث إِذا أراد الصلاة ؛ فكذلك مطلوب منه طهارة البدن ، والثوب ، والبقعة من النجاسة ، قال – تعالى - في طهارة الثوب وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4].
وأمر النبي أسماء بغسل دم الحيض من ثوبها ، متفق عليه .
وأما طهارة البدن : فسائر أحاديث الاستجمار .
وأما طهارة البقعة : فحديث أنس ، وفيه : (( صب النبي ذنوبًا من ماء على بول الأعرابي )) متفق عليه .
وتطهير النجاسة لا يخلو من أمرين :
الأول : إما أن تكون على وجه الأرض وما اتصل بها من الحيطان والأحواض والصخور ؛ فهذه يكفي في تطهيرها غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة ؛ بمعنى أنها تغمر بالماء بصبه عليها مرة واحدة ؛ لأمره بصب الماء على بول الأعرابي الذي بال في المسجد .
الثاني : وإن كانت النجاسة على غير الأرض وما اتصل بها ؛ فأقسام :
القسم الأول : نجاسة مغلظة ، وهي نجاسة الكلب ؛ فتطهيرها بسبع غسلات إحداهن بالتراب ؛ بأن يجعل التراب مع إحدى الغسلات ؛ لحديث أبي هريرة ، أن النبي قال : (( إِذا ولغ الكلب في إناء أحدكم ؛ فليغسله سبعاً أولاهن بالتراب )) رواه مسلم وغيره ، والأولى أن يكون التراب في الأولى .
القسم الثاني : نجاسة مخففة ، وهي بول الغلام الذي لم يأكل الطعام لشهوة ، وكذا نجاسة المذي .
ويكفي في ذلك رشه بالماء ؛ لحديث أم قيس : (( أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله فأجلسه في حجره ، فبال على ثوبه ، فدعا بماء ، فنضحه ولم يغسله )) متفق عليه .
وإن كان يأكل الطعام لشهوة واختيار ؛ فبوله مثل بول الكبير ، وكذا بول الأنثى الصغيرة مثل بول الكبيرة ، وفي جميع هذه الأحوال يغسل كغسل سائر النجاسات .
القسم الثالث : نجاسة متوسطة ، وهي ما عدا القسمين الأولين كنجاسة بول الأنثى ، والذكر الكبير ، والدم المسفوح ، وغير ذلك ؛ فطهارته غسله حتى يظن طهارته .
مسألة : وما يحل أكل لحمه بوله وروثه طاهر ؛ كالإبل ، والبقر ، والغنم ، ونحوها ؛ لأن النبي : (( أمر العرنييِّن أن يلحقوا بإبل الصدقة ؛ فيشربوا من أبوالها وألبانها )) متفق عليه .
وروى أبو هريرة أن رسول الله قال : (( صلوا في مرابض الغنم ، ولا تصلوا في أعطان الإبل )) رواه أحمد والترمذي وصححه .
مسألة : والأعيان النجسة هي :
1- كل حيوان محرم الأكل كالأسد والذئب والنمر ونحو ذلك ؛ لحديث أبي قتادة أن رسول الله قال في الهرة : (( إنها ليست بنجس ، إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات )) رواه الترمذي وغيره وصححه .
فدلَّ على نجاسة ماسواه مما لا يشق التحرز عنه ويستثنى من ذلك الآدمي حتى الكافر فطاهر ، وكذا ما لا نفس له سائلة أي ليس دم يسيل عند قتله كالبق ، والعقرب ، والباعوض ونحو ذلك ، وكذا ما يشق التحرز عنه كالهر والحمار ونحوهما مما يشق التحرز عنه ، لكثرة تطوافه فطاهر ، أي أن عرقه ، وريقه , وشعره طاهر .
2- ما خرج من محرم الأكل كالبول والغائط ، والدم ، ونحو ذلك فنجس ، ويستثنى من ذلك: مني الآدمي ، ومخاطه ، وريقه ، ولبنه ، ورطوبة فرج المرأة ، والريح ، وما خرج مما لا نفس له سائلة ، وريق ما يشق التحرز عنه ، وعرقه كما سبق .
3- كل ميتة نجسة إلا ميتة البحر ، والآدمي ، وما لا نفس له سائلة .
4- كل جزء انفصل من حيوان فهو نجس ، ويستثنى من ذلك : الشعر ، والريش ، والوبر ، والصوف ، والقرن ، والأضلاف ، وأجزاء الآدمي .
5- الدم المسفوح الخارج عند تذكية الحيوان أو الخارج من بقية بدن الحيوان حال الحياة ، غير الآدمي والدم الخارج من فرج الآدمي ، وما عداه من الدماء طاهر .
باب في أحكام الحيض والنفاس
أولاً : الحيض وأحكامه :
الحيض : لغة : السيلان .
واصطلاحًا : دم طبيعة وجبلة , يخرج من الأنثى في أوقات معلومة .
مسألة : هل الحيض محدد بالسنوات ، أو بالأيام ؟ بحيث لا يعتبر الدم الذي يصيب المرأة حيضاً شرعاً إلا في سن معينة ، أو في أيام محدودة ؟
الصواب : أن الحيض ليس محدداً بالسنوات ولا بالأيام ؛ لقول الله تعالى :
وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222] .
فدلَّت الآية على أنه متى وجد الأذى المعروف عند النساء فإن المرأة تأخذ أحكام الحائضات ، ولا يتقيد ذلك بسنوات محددة ، ولا أيام محدودة .
وللحائض خلال حيضها وعند نهايته أحكام مفصلة في الكتاب والسنة ، منها :
1- أنها لا تصلي ولا تصوم حال حيضها قال - عليه الصلاة والسلام - لفاطمة بنت أبي حبيش : (( إِذا أقبلت الحيضة؛ فدعي الصلاة )) رواه البخاري . فلو صامت الحائض أو صلت حال حيضها لم يصح لها صوم ولا صلاة ؛ لأن النبي نهاها عن ذلك ، والنهي يقتضي عدم الصحة ، بل تكون بذلك عاصية لله ولرسوله .
فإذا طهرت من حيضها ؛ فإنها تقضي الصوم دون الصلاة بإجماع أهل العلم ، قالت عائشة - رضي الله عنها - : (( كنا نحيض على عهد رسول الله فكنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة )) متفق عليه .
ولولم تطهر إلا بعد طلوع الفجر بلحظة أو حاضت قبل غروب الشمس بلحظة لم يصح صومها ذلك اليوم .
2- و لا يجوز لها أن تطوف بالبيت ، ولا تجلس في المسجد (1)، لحديث عائشة - رضي الله عنها - لما حاضت ، وفيه قوله في حديث عائشة - رضي الله عنها - (( افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت )) متفق عليه .
3- ويحرم على زوجها وطؤها في الفرج حتى ينقطع حيضها وتغتسل ، قال الله تعالى : وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222] ، ( ومعنى الاعتزال : ترك الوطء ) ، وقال النبي في حديث أنس - رضي الله عنه - : (( اصنعوا كل شيء إِلا النكاح )) رواه مسلم ، وفي لفظ : (( إِلا الجماع )) .
ويجوز لزوج الحائض أن يستمتع منها بغير الجماع في الفرج ؛ كالقبلة ، واللمس ، ونحو ذلك .
4- ولا يجوز لزوجها أن يطلقها وهي حائض ، قال تعالى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1] أي : طاهرات من غير جماع ، وقد أمر النبي ابن عمر - رضي الله عنهما - لما طلق امرأته وهي حائض أن يراجعها ثم يطلقها حال طهرها إِن أراد . متفق عليه .
5- ولا يجوز للحائض مس المصحف ؛ لما روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن النبي كتب إلى أهل اليمن كتابًا وفيه : (( وأن لا يمس القرآن إلا طاهر )) رواه مالك والنسائي والدارقطني .
والطهر : هو انقطاع الدم ، وعلامة الطهر شيئان :
1- القصة البيضاء ، وهي عبارة عن سائل أبيض يقذفه الرحم آخر الحيض .
2- الجفاف ، بأن ينقطع الدم ، ولا تتغير معه القطنة إذا احتشت بها .
فإذا انقطع دمها فقد طهرت وانتهت فترة حيضها ؛ فيجب عليها الاغتسال ، ثم تزاول ما منعت منه بسبب الحيض ، وإن رأت بعد الطهر كدرة أو صفرة ؛ لم تلتفت إليها ؛ لقول أم عطية - رضي الله عنها -: (( كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً )) رواه أبو داود وغيره ، وله حكم الرفع ؛ لأنه تقرير منه ، وقبل الطهر لها حكم الحيض ، إلا إذا تمت عادتها المعروفة وتطاولت معها الصفرة والكدرة اغتسلت ، وصلََّت ، وكذا الكدرة والصفرة قبل نزول دم الحيض لا تعتبر شيئا .
مسألة : إِذا طهرت الحائض أو النفساء قبل خروج الوقت بمقدار ركعة وجبت عليها صلاة هذا الوقت ، فمثلاً إذا طهرت قبل غروب الشمس بقدر ركعة لزمها أن تصلي العصر من هذا اليوم ، ومن طهرت قبل نصف الليل تصلي العشاء من هذه الليلة فقط .
وأما إِذا دخل عليها وقت صلاة ثم حاضت أو نفست قبل أن تصلي ؛ فالقول الراجح أنه يلزمها قضاء تلك الصلاة التي أدركت من أول وقتها قدر ركعة ثم حاضت أو نفست قبل أن تصليها .
ثانياً : الاستحاضة وأحكامها :
الاستحاضة : سيلان الدم في غير وقته على سبيل النـزيف من عرق يسمى العاذل .
وفي الاصطلاح : من ترى دماً لا يصلح أن يكون حيضاً ولا نفاساً .
فيدخل في ذلك من أطبق عليها الدم ، أو لا ينقطع إلا مدة يسيرة .
والمستحاضة لها ثلاث حالات :
الحال الأولى : أن تكون لها عادة معروفة لديها قبل إصابتها بالاستحاضة ؛ بأن كانت قبل الاستحاضة تحيض خمسة أيام أو ثمانية أيام مثلاً في أول الشهر أو وسطه ، فتعرف عددها ووقتها ؛ فهذه تجلس قدر عادتها ، وتدع الصلاة والصيام ، وتعتبر لها أحكام الحيض ، فإِذا انتهت عادتها ؛ اغتسلت وصلَّت ، واعتبرت الدم الباقي دم استحاضة ؛ لقوله لأم حبيبة : (( امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ، ثم اغتسلي وصلي )) رواه مسلم .
الحال الثانية : إذا لم يكن لها عادة معروفة ، لكن دمها متميز ، بعضه يحمل صفة الحيض ؛ بأن يكون أسود ثخيناً أو له رائحة ، وبقيته لا يحمل صفة الحيض ؛ بأن يكون أحمر ليس له رائحة ولا ثخيناً ؛ ففي هذه الحالة تعتبر الدم الذي يحمل صفة الحيض حيضاً ، فتجلس وتدع الصلاة والصيام ، وتعتبر ما عداه استحاضة ، تغتسل عند نهاية الذي يحمل صفة الحيض ، وتصلي وتصوم ، وتعتبر طاهراً ؛ لقوله لفاطمة بنت أبي حبيش : (( إِذا كان دم الحيض ؛ فإنه دم أسودُ يعرف ؛ فأمسكي عن الصلاة ، فإذا كان الآخر ؛ فتوضئي وصلي )) رواه أبو داود ، والنسائي ، وصححه ابن حبان ، والحاكم .
الحال الثالثة : إِذا لم يكن لها عادة تعرفها ولا صفة تميز بها الحيض من غيره ؛ فإنها تجلس غالب الحيض ستة أيام أو سبعة أيام من كل شهر ؛ لأن هذه عادة غالب النساء ؛
لقوله لحمنة بنت جحش : (( إنما هي ركضة من الشيطان ؛ فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام ، ثم اغتسلي ؛ فإذا استنقأت ؛ فصلي أربعة وعشرين أو ثلاثة وعشرين ، وصومي وصلي ؛ فإن ذلك يجزئك ، وكذلك فافعلي كما تحيض النساء )) رواه الخمسة ، وصححه الترمذي .
ما يلزم المستحاضة في حال الحكم بطهارتها :
1- يجب عليها أن تغتسل عند نهاية حيضتها المعتبرة حسبما سبق بيانه .
2- تجعل في المخرج قطناً ونحوه يمنع الخارج ، وتشد عليه ما يمسكه عن السقوط .
ثالثاً : النفاس وأحكامه :
لغة : مأخوذ من النفس ، وهو الخروج من الجوف .
وفي الاصطلاح : دم يرخيه الرحم للولادة وبعدها وقبلها مع الطلق .
وعلى هذا فما تراه قبل الولادة من الدم وليس معه أمارة ولادة من طلق فليس نفاسا .
النفاس كالحيض فيما يحل ؛ كالاستمتاع منها بدون الفرج ، وفيما يحرم كالوطء في الفرج، ومنع الصوم ، والصلاة ، والطلاق ، والطواف ، واللبث في المسجد ، وفي وجوب الغسل عند انقطاع دمها كالحائض ، ويجب عليها أن تقضي الصيام دون الصلاة كالحائض .
مسألة : وأكثر مدته أربعون يوماً ، لحديث أم سلمة - رضي الله عنها - ووروده عن الصحابة كعمر وأنس وابن عباس وأم سلمة وغيرهم فإذا ما تمت أربعين ، اغتسلت وصلََّت وأخذت أحكام الطاهرات .
فإذا انقطع دم النفساء قبل الأربعين يوماً ؛ فقد انتهى نفاسها ، فتغتسل وتصلي وتزاول ما مُنعت منه بسبب النفاس .
مسألة : وإذا ألقت الحامل ما تبين فيه خلق إنسان ؛ بأن كان فيه تخطيط ، ولو خفياً وصار معها دم بعده ؛ فلها أحكام النفساء ، والمدة التي يتبين فيها خلق الإِنسان في الحمل ثلاثة أشهر غالباً ، وأقلها واحد وثمانون يوماً ، وإن ألقت علقة أو مضغة لم يتبين فيها تخطيط إنسان ؛ لم تعتبر ما ينزل بعدها من الدم نفاساً ؛ فلا تترك الصلاة ولا الصيام ، وليست لها أحكام النفساء .
فرع : ماتراه الحامل من الماء قبل الولادة لاتترك من أجله العبادة ، وحكمه : أنه طاهر لا يجب معه غسل الفرج أو الملابس ، ولاينقض الوضوء .
أحكام الصلاة
باب في وجوب الصلوات الخمس
الصلاة هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين ، وقد فرضها الله على نبيه محمد خاتم الرسل ليلة المعراج في السماء ؛ بخلاف سائر الشرائع ؛ فدل ذلك على عظمتها وتأكد وجوبها ومكانتها عند الله .
والصلاة في اللغة : الدعاء ، قال الله تعالى : وَصَلِّ عَلَيْهِمْ .. [التوبة: 103] ؛ أي : ادع لهم .
ومعناها في الشرع : أقوال وأفعال مخصوصة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم ، سميت بذلك : لاشتمالها على الدعاء ؛ فالمصلي لا ينفك عن دعاء عبادة أو ثناء أو طلب ؛ فلذلك سميت صلاة ، وقد فرضت ليلة الإِسراء قبل الهجرة خمس صلوات في اليوم والليلة بدخول أوقاتها على كل مسلم مكلف ، قال تعالى : إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً [النساء : 103] أي : مفروضاً في الأوقات التي بينها رسول الله بقوله وبفعله . وقال تعالى : وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ [البينة : 5] .
وقال تعالى : قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [ابراهيم : 31].
وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين أن النبي قال : (( بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقامة الصلاة )) .
مسألة : يلزم ولي الصغير أن يأمره بالصلاة إذا بلغ سبع سنين ، وإن كانت لا تجب عليه ، ولكن ليهتم بها ، ويتمرن عليها ، وليكتب له ولوليه الأجر إِذا صلى ؛ لعموم قوله تعالى : مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [ الأنعام : 160] وقوله في حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- لما رفعت إليه امرأة صبياً ، فقالت : ألهذا حج ؟ قال : (( نعم ، ولك أجر )) رواه مسلم ، فيعلمه وليه الصلاة والطهارة لها .
وإذا بلغ الصبي في الوقت ، فإن كان قد صلى أجزأته ، وإلا وجب عليه أن يصلي إن بلغ قبل خروج الوقت بقدر ركعة فأكثر .
ولا تجب الصلاة على كافر ولا مجنون ، لكن إن أسلم الكافر أو عقل المجنون قبل خروج الوقت بقدر ركعة ، وجب عليهما أداؤها .
مسألة : لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها ، قال الله - تعالى- : إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً [النساء: 103] ، أي : مفروضة في أوقات معينة ، لا يجوز تأخيرها عنها ؛ إلا لمن يريد جمعها مع ما بعدها جمع تأخير إذا كانت مما يجمع ، وكان ممن يباح لهم الجمع ، فلا يجوز بحال من الأحوال تأخير الصلاة عن وقتها لا بجنابة ، ولا نجاسة ، ولا غير ذلك ، بل يصليها في وقتها على حسب حاله .
مسألة : من ترك الصلاة تهاوناً وكسلاً من غير جحد لوجوبها كفر على الصحيح من قولي العلماء ، بل هو الصواب الذي تدل عليه الأدلة كحديث جابر : (( بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة )) رواه مسلم وغيره من الأدلة .
وحديث بريدة أن النبي قال : (( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر )) رواه الخمسة بإسناد صحيح .
باب في أحكام الأذان والإقامة
الأذان في اللغة : الإعلام .
وفي الاصطلاح : التعبد لله تعالى بالإعلام في دخول وقت الصلاة بذكر مخصوص .
والإقامة : مصدر أقام الشيء إذا جعله مستقيمًا .
وفي الاصطلاح : التعبد لله تعالى بالإعلام بالقيام إلى الصلاة ، بذكر مخصوص .
وقد شرع الأذان في السنة الأولى للهجرة النبوية ، وسبب مشروعيته أنه لما عسر على الصحابة معرفة الأوقات عليهم ؛ تشاوروا في نصب علامة لها ؛ فأُرِي عبد الله بن زيد هذا الأذان في المنام ، وأقره الوحي ، قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة : 9] ، وقال تعالى : وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ .. [المائدة: 58].
والأذان والإقامة فرض كفاية ، وفرض الكفاية : ما يلزم جميع المسلمين إقامته بحيث أريد إقامة العمل ، فإذا قام به من يكفي ؛ سقط الإثم عن الباقين ، وهما من شعائر الإسلام الظاهرة ، وهما واجبان في حق الرجال حضراً وسفراً للصلوات الخمس ، يقاتل أهل بلد تركوهما ؛ لأنهما من شعائر الإسلام الظاهرة ؛ فلا يجوز تعطيلهما .
مسألة : يسن الأذان والإقامة للمنفرد ، لحديث عقبة بن عامر مرفوعًا : (( يعجب ربك من راعي غنم في رأس شظية جبل يؤذن بالصلاة ويصلي ... )) رواه النسائي .
مسألة : يشترط لصحة الأذان والإقامة : أن يكونا مرتبين متواليين من واحد ، ذكرًا عاقلاً مميزًا أمينًا ، بعد دخول الوقت ، ولا ينقص عن الجمل المشروعه .
صفتا الأذان : والأذان له صفتان :
الأولى : أذان بلال ، وهو : خمسة عشر جملة كان بلال يؤذن به بحضرة رسول الله دائماً .
الثانية : أذان أبي محذورة ، وهو تسعة عشر جملة ، كأذان بلال ، ويزاد على ذلك الترجيع ، بأن يأتي بالشهادتين بصوت منخفض ، بحيث يسمعه من حوله , ثم يعود فيرفع صوته بهما .
فيستحب أن يأتي بهذا تارة ، وبذاك تارة .
مستحبات الأذان : يستحب أن يتمهل بألفاظ الأذان من غير تمطيط ولا مد مفرط ، ويقف على كل جملة منه تارة ، ويقرن بين كل جملتين تارة ، ويستحب أن يستقبل القبلة حال الأذان ؛ لأنه أرفع للصوت ، ويلتفت يميناً عند قوله : ( حي على الصلاة ) ، وشمالاً عند قوله : ( حي على الفلاح ) ، ويقول بعد : ( حي على الفلاح ) الثانية من أذان الفجر خاصة : ( الصلاة خير من النوم ) ؛ مرتين ؛ لأمره بذلك ؛ ولأنه وقت ينام فيه الناس غالباً .
ويستحب أن يحدر الإقامة - أي يسرع فيها- ؛ لأنها إعلام الحاضرين ؛ فلا داعي للترسل فيها ، ويستحب أن يتولى الإِقامة من تولى الأذان ، ولا يقيم إِلا بإذن الإِمام ؛ لأن الإقامة منوط وقتها بنظر الإِمام ؛ فلا تقام إلا بإشارته .
صفتا الإقامة :
الأولى : إقامة بلال ، وهي إحدى عشرة جملة .
الثانية : إقامة أبي محذورة ، وهي خمسة عشر جملة ، كأذان بلال ، فيستحب أن يأتي بهذا تارة ، وبهذا تارة .
مسألة : لا يجزئ الأذان قبل الوقت ؛ لأنه شرع للإعلان بدخوله ؛ فلا يحصل به المقصود ، ولأن فيه تغريراً لمن يسمعه والمشروع أن يكون الأذان العام : أول الوقت ، لأن هذا هو أذان مؤذنيه .
وإن كان الأذان خاصاً لجماعة مخصوصة ، شرع عند فعل الصلاة .
الأذان الأول : ويستحب أن يكون هناك أذان أول للفجر قبل الأذان الثاني الذي يكون عند طلوع الفجر ، لحديث عمر – رضي الله عنهما – أن النبي قال : (( إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم )) متفق عليه .
وتكون الفترة بين الأذانين بقدر ما يوقظ النائم , ويرجع القائم من صلاته إلى سحوره إن أراد صيامًا .
إجابة المؤذن : يسن لمن سمع المؤذن إِجابته ؛ بأن يقول مثل ما يقول ، ويقول عند حي على الصلاة ، وحي على الفلاح : (( لا حول ولا قوة إلا بالله )) ، ثم يقول بعدما يفرغ المؤذن : (( اللهم صل على محمد ، اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة ، آت محمداً الوسيلة والفضيلة ، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته )) ويجيب مؤذنًا ثانيًا وثالثًا ، وإذا سمع بعضه أجاب ما سمع .
ويحرم الخروج من المسجد بعد الأذان بلا عذر أو نية رجوع ، وإذا شرع المؤذن في الأذان والإنسان جالس ، فلا ينبغي له أن يقوم ، بل يصبر حتى يفرغ ؛ لئلا يتشبه بالشيطان ، ذكره شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله- .
باب في شروط الصلاة
الشرط لغة : العلامة .
وشرعاً : ما يلزم من عدمه العدم ، ولا يلزم من وجوده وجوده ولا عدم لذاته . وشروط الصلاة ما تتوقف صحتها عليها مع الإِمكان .
الشرط الأول : دخول وقتها :
قال تعالى : إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتا [النساء: 103] أي : مفروضاً في أوقات محددة ؛ فالتوقيت هو التحديد ، وقد وقت الله الصلاة ؛ بمعنى أنه سبحانه حدد لها وقتاً من الزمان ، وقد أجمع المسلمون على أن للصلوات الخمس أوقاتاً مخصوصة محدودة لا تجزئ قبلها .
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : ( الصلاة لها وقت شرطه الله لها لا تصح إلا به ) .
وهذه المواقيت هي كما يلي :
1- صلاة الظهر : يبدأ وقتها بزوال الشمس ؛ أي : ميلها إلى المغرب عن خط المسامتة ، وهو الدلوك المذكور في قوله تعالى : أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ .. [الاسراء:78] ويعرف الزوال بحدوث الظل في جانب المشرق بعد انعدامه من جانب المغرب ، ويمتد وقت الظهر إلى أن يصير ظل الشيء مثله في الطول ، سوى فيء الزوال ، ثم ينتهي بذلك ؛ لقوله في حديث عبد الله بن عمرو : (( وقت الظهر إِذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله )) رواه مسلم .
ويستحب تعجيلها في أول الوقت ؛ إلا في شدة الحر ؛ فيستحب تأخيرها للمنفرد والجماعة إلى أن ينكسر الحر قرب العصر ؛ لقوله في حديث أبي هريرة : (( إذا اشتد الحر ؛ فأبردوا بالصلاة ؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم )) متفق عليه .
2- صلاة العصر : يبدأ وقتها من نهاية وقت الظهر ؛ أي من مصير ظل كل شيء مثله ، سوى فيء الزوال ، ويمتد إلى اصفرار الشمس على الصحيح من قولي العلماء ، لقوله في حديث عبد الله بن عمرو : (( ووقت العصر مالم تصفر الشمس )) رواه مسلم .
هذا وقت الاختيار ، ويمتد وقت الضرورة إلى غروب الشمس لحديث أبي هريرة أن النبي : (( من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس ، فقد أدرك العصر )) متفق عليه .
وصلاة العصر هي الصلاة الوحيدة التي لها وقتان : وقت اختيار ، ووقت ضرورة.
ويسن تعجيلها في أول الوقت ، وهي الصلاة الوسطى التي نص الله عليها لفضلها ، قال الله -تعالى- : حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] وقد ثبت في الأحاديث أنها صلاة العصر .
3- صلاة المغرب : يبدأ وقتها بغروب الشمس ؛ أي : غروب قرصها جميعه ؛ بحيث لا يرى منه شيء ؛ لا من سهل ولا من جبل ، ويعرف غروب الشمس في البنيان بإقبال ظلمة الليل من المشرق ؛ لقوله في حديث عمر -رضي الله عنه-: (( إِذا أقبل الليل من ها هنا ، وأدبر النهار من ها هنا ؛ فقد أفطر الصائم )) ، متفق عليه ، ثم يمتد وقت المغرب إلى مغيب الشفق الأحمر ، والشفق : بياض تخالطه حمرة ، ثم تذهب الحمرة ويبقى بياض خالص ثم يغيب ، فيستدل بغيبوبة البياض على مغيب الحمرة .
ويسن تعجيل صلاة المغرب في أول وقتها ؛ لما روى الترمذي وصححه عن سلمة : (( أن النبي كان يصلي المغرب إِذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب )) . قال الترمذي : "وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم" ، ولأن جبريل صلاها بالنبي في اليوم الأول والثاني بعد غروب الشمس .
4- صلاة العشاء : يبدأ وقتها بانتهاء وقت المغرب ؛ أي : بمغيب الشفق الأحمر إلى نصف الليل ، لما روى عبد الله بن عمرو ، وفيه قوله : (( ووقت العشاء إلى نصف الليل )) رواه مسلم .
وتأخير الصلاة إلى آخر الوقت أفضل للمنفرد والجماعة ، فإن شق على المأمومين فالمستحب تعجيلها في أول وقتها ؛ دفعاً للمشقة ، فإن النبي إذا رآهم اجتمعوا عجل ، وإن رآهم تأخروا أخر . متفق عليه من حديث جابر .
ويكره النوم قبل صلاة العشاء ؛ لئلا يستغرق النائم فتفوته ، ويكره الحديث بعدها ، وهو : التحادث مع الناس ؛ لأن ذلك يمنعه من المبادرة بالنوم حتى يستيقظ مبكراً ؛ فينبغي النوم بعد صلاة العشاء مباشرة ؛ ليقوم في آخر الليل ، فيتهجد ويصلي الفجر بنشاط ؛ لأن النبي كان يكره النوم قبلها والحديث بعدها ، متفق عليه من حديث أبي برزة .
وهذا إذا كان سهره بعد العشاء من غير فائدة ، أما إِذا كان لغرض صحيح وحاجة مفيدة فلا بأس .
5- صلاة الفجر : يبدأ وقتها بطلوع الفجر الثاني ، ويمتد إِلى طلوع الشمس ، لحديث عبد الله عمرو ، وفيه قوله : (( ووقت الصبح من طلوع الفجر مالم تطلع الشمس )) رواه مسلم .
ويستحب تعجيلها إذا تحقق طلوع الفجر ؛ لأن النبي كان يصليها بغلس ، متفق عليه من حديث جابر .
ومن نسي الصلاة أو نام عنها ؛ يجب عليه المبادرة إلى قضائها ؛ قال في حديث أنس : (( من نسي صلاة أو نام عنها ؛ فليصلها إِذا ذكرها ، لا كفارة لها إلا ذلك )) متفق عليه . فتجب المبادرة لقضاء الصلاة الفائتة على الفور ، ولا ينتظر إلى دخول وقت الصلاة التي تشابهها لما يظن بعض العوام ، ولا يؤخرها إِلى خروج وقت النهي ، بل يصليها في الحال .
مسألة : والقضاء يحكي الأداء ، فتقضى الصلاة كما تؤدى فتقضي جماعة ، أن كانت جهرية جهر والإ أسر .
وإذا كان عليه فوائت ، فإنه يقضيها مرتبه : الفجر ، فالظهر .. ، لأن النبي لما فاتته العصر يوم الخندق بدأ بها ثم المغرب ، متفق عليه .
ويسقط الترتيب : بالنسيان ، والجهل ، وخشية فوت وقت الحاضرة ، ولأجل إدراك الجمعة ، والجماعة .
وتُقضى السنن والرواتب والوتر مع الفرائض .
ولا يجوز تأخير الصلاة عن وقت الإختيار إلا لضرورة .
ثانياً : ستر العورة :
وهي ما تجب تغطيته ، ويقبح ظهوره ، ويستحيى منه ، قال الله تعالى : يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد ٍ [الأعراف: 31] أي : عند كل صلاة ، وقال النبي في حديث عائشة -رضي الله عنها- : (( لا يقبل الله صلاة حائض (أي : بالغ) ؛ إِلا بخمار )) رواه أبو داود ، والترمذي وحسنه .
وقد سمى الله كشف العورة فاحشة في قوله عن الكفار : وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ،[الأعراف :28] وكانوا يطوفون بالبيت عراة ، ويزعمون أن ذلك من الدين .
ما يشترط في الساتر :
ويشترط في الساتر في الصلاة : أن يكون مباحًا ، طاهرًا ، لا يصف لون البشرة .
عورة الرجل :
حد عورة الذكرسواء كان مميزاً أوبالغاً من السرة إلى الركبة ؛ لحديث علي : (( لا تُبْرِز فخذك ، ولا تنظر إلى فخذِ حيٍ أو ميتٍ )) رواه أبو داود وابن ماجة ، وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا : (( مابين السرة والركبة عورة )) رواه الدارقطني ، وإسناده حسن .
والمرأة البالغة كلها عورة ؛ لقوله : (( المرأة عورة )) صححه الترمذي ، ولحديث عائشة -رضي الله عنها- : (( لا يقبل الله صلاة حائض إِلا بخمار )) قال الترمذي : " والعمل عليه عند أهل العلم ؛ أن المرأة إذا أدركت فصلت وشيء من عورتها مكشوف ؛ لا تجوز صلاتها " .
هذه الأحاديث مع قوله تعالى : وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ .. الآية [النور : 31] وقوله : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ .. [الأحزاب : 59] ، وقوله تعالى : وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ... [الأحزاب : 53].
هذه النصوص وما جاء بمعناها من الكتاب والسنة ، وهي كثيرة شهيرة ، تدل على أن المرأة كلها عورة أمام الرجال الأجانب ، ولا يجوز أن يظهر من بدنها شيء بحضرتهم في الصلاة وغيرها ، أما إِذا صلت في مكان خال من الرجال الأجانب ؛ فإنها تكشف وجهها في الصلاة ؛ وكذا يديها ورجليها ؛ لترخيص النبي في حديث أسماء للمرأة أن تصلي في ثوبها .
وأما المميزة فكلها عورة إلا رأسها ووجها وكفيها وقدميها .
والله تعالى قد أمر بقدر زائد على ستر العورة في الصلاة وهو أخذ الزينة ؛ فقال الله – تعالى- : يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ .. ؛ [الأعراف : 31] فأمر بأخذ الزينة لا بستر العورة فقط ، مما يدل على أن المسلم ينبغي له أن يلبس أحسن ثيابه وأجملها في الصلاة للوقوف بين يدي الله - تبارك وتعالى - ؛ فيكون المصلي في هذا الموقف على أكمل هيئة ظاهراً وباطناً ، ويستر رأسه إن كان ستر الرأس يعد زينة عرفًا .
ثالثاً : اجتناب النجاسة :
اجتناب النجاسة ؛ بأن يبتعد عنها المصلي ، ويخلو منها في بدنه ، وثوبه ، وبقعته التي يقف عليها للصلاة .
والنجاسة قذر مخصوص يمنع جنسه الصلاة ؛ كالميتة ، والدم المسفوح ، والبول ، والغائط ؛ لقوله تعالى : وثيابك فطهِّر ؛ قال ابن سيرين : ( اغسلها بالماء ) ، وقال في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في أحد القبرين المعذبين : (( أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله )) متفق عليه . وأمر أسماء رضي الله عنها ( أن تغسل ثوبها إِذا أصابه دم الحيض وتصلي فيه ) متفق عليه ، وأمر بدلك النعلين ثم الصلاة فيهما ، وأمر بصب الماء على البول الذي حصل في المسجد ، وسائر أدلة الاستنجاء والإستجمار ، وغير ذلك من الأدلة .
ومن رأى عليه نجاسة بعد الصلاة ولا يدري متى حدثت ؛ فصلاته صحيحة ، وكذا لو كان عالماً بها قبل الصلاة ، لكن نسي أن يزيلها فصلاته صحيحة على القول الراجح ، وإن علم بالنجاسة في أثناء الصلاة وأمكنه إزالتها من غير عمل كثير ؛ كخلع النعل ، والعمامة ، ونحوهما ؛ أزالهما وبنى ، وإن لم يتمكن من إزالتها ؛ بطلت الصلاة .
مسألة : المواضع التي لا تصح الصلاة فيها :
أولاً : المقبرة : فلا تصح الصلاة في المقبرة ، وهي كل ما قبر فيها ، لقوله في حديث أبي سعيد : (( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام )) رواه الخمسة إِلا النسائي ، وصححه الترمذي ، وقال : (( لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها )) رواه مسلم .
وليست العلة في النهي عن الصلاة في المقابر أو عندها خشية النجاسة ، وإنما هي خشية تعظيمها واتخاذها أوثاناً ؛ فالعلة سد الذريعة عن عبادة المقبورين ، وتستثنى صلاة الجنازة ؛ فيجوز فعلها في المقبرة ؛ وكذا الصلاة على القبر ، لفعل النبي ، وذلك يخصص النهي ، وكل ما دخل في اسم المقبرة مما حول القبور لا يصلى فيه ؛ لأن النهي يشمل المقبرة وفناءها الذي حولها .
ولا تصح الصلاة إلى القبر ؛ لقوله في حديث أبي مرثد الغنوي : (( لا تصلوا إلى القبور )) رواه مسلم .
وكذا في المسجد الذي بني على قبر ، أما إن بني مسجد ، ثم دفن فيه ميت فيجب أن ينبش القبر ، ويخرج من المسجد .
ثانيًا : لا تصح الصلاة في الحشوش ، وهي المراحيض المعدة لقضاء الحاجة ، لأن الحشوش تحضرها الشياطين ، ولكونها معدة لقضاء الحاجة .
ثالثاً : لا تصح الصلاة في الحمام ، وهو المحل المعد للاغتسال ؛ لأنه محل كشف العورات ، ومأوى الشياطين ، والمنع يشمل كل ما يغلق عليه باب الحمام ؛ لحديث أبي سعيد مرفوعا : (( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام )) رواه الخمسة إِلا النسائي بإسناد صحيح .
رابعاً : لا تصح الصلاة في أعطان الإِبل ، وهي المواطن التي تقيم فيها وتأوي إليها ، وكذا الأماكن التي تقيم فيها بعد ورود الماء ، لنهي النبي عن الصلاة في أعطان الإبل من حديث جابر بن سمرة ، رواه مسلم .
خامساً : الموضع النجس ؛ لما تقدم من أدلة اشتراط اجتناب النجاسة .
مسألة : تكره الصلاة في مكان فيه تصاوير منصوبة أو معلقة ، لورود ذلك عن الصحابة .
رابعاً : استقبال القبلة :
من شروط صحة الصلاة استقبال القبلة ، وهي الكعبة المشرفة ، سميت قبلة : لإِقبال الناس عليها ، ولأن المصلي يقابلها ، قال تعالى : فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ .. [البقرة: 150].
ولما روى أبو هريرة في حديث المسيء صلاته ، أن النبي قال له : (( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ، ثم استقبل القبلة فكبر )) رواه مسلم .
فمن قرب من الكعبة بأن كان داخل المسجد الحرام وجب عليه استقبال نفس الكعبة بجميع بدنه ؛ لأنه قادر على التوجه إِلى عينها ، فلم يجز له العدول عنها ، ومن كان بعيداً عن الكعبة في أي جهة من جهات الأرض ؛ فإنه يستقبل في صلاته الجهة التي فيها الكعبة ، ولا يضر التيامن ولا التياسر اليسيران ؛ لحديث أبي هريرة : (( ما بين المشرق
والمغرب قبلة )) صححه الترمذي ، وروي عن غير واحد من الصحابة ، وهذا بالنسبة لأهل المدينة وما وافق قبلتها مما سامتها ، ولسائر البلدان مثل ذلك ؛ فالذي في المشرق مثلاً قبلته مابين الجنوب والشمال ، والذي في المغرب كذلك .
مسألة : يسقط الاستقبال في الأحوال الآتية :
1- عند العجز عن استقبال الكعبة : كالمربوط ، أو المصلوب لغير القبلة إِذا كان موثقاً لا يقدر عليه ؛ فإنه يصلي حسب استطاعته ، ولو لم يستقبل القبلة بإجماع أهل العلم ؛ لأن الواجبات تسقط بالعجز عنها .
2- عند الضرورة ، كحال اشتداد الحرب ، والهارب من سيل أو نار أو سبع أو عدو ونحو ذلك .
3- عند الحرج والمشقة ، كالمريض الذي لا يستطيع استقبال القبلة ؛ أو يشق عليه ويتحرج من ذلك ، فكل هؤلاء يصلون على حسب حالهم ، ولو إلى غير القبلة ، وتصح صلاتهم ؛ لأنه شرط عجز عنه ؛ فسقط ، قال الله -تعالى- : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] ، وقال النبي : (( وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )) متفق عليه ، وورد في حديث ابن عمر-رضي الله عنهما- أنهم عند اشتداد الخوف يصلون مستقبلي القبلة وغير مستقبليها . رواه البخاري .
4- في النفل في السفر إذا كان سائرًا ، سواء كان راكبًا ، أو راجلاً وكان لا يتمكن من الاستقبال لضيق المكان . لحديث أنس وابن عمر وغيرهما .
مسألة : يُستَدَلُّ على القبلة بأشياء كثيرة :
منها : الإخبار ، فإذا أخبره بالقبلة مكلف ثقة عمل بخبره .
ومنها : المحاريب الإسلامية ، فإذا وجدها عمل بها واستدل بها على القبلة ؛ لأن دوام التوجه إلى جهة تلك المحاريب يدل على صحة اتجاهها .
ومنها : العلامات الأفقية ، كالنجوم وأثبتها القطب ، قال الله تعالى : وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُون [النحل:16].
ومنها : الشمس والقمر .
ومنها : الآلات الحديثة ، وغير ذلك .
مسألة : والمجتهد في باب القبلة : من يعرف أدلة القبلة . فمن كان من أهل الإجتهاد ، فله أن يجتهد إليها حضرًا وسفرًا . ومن لم يكن من أهل الإجتهاد فله أن يقلد من كان من أهل الإجتهاد ، أو يسأل عن القبلة إن كان في الحضر ، أو قريبا من البلد ، أو المساجد ، فإن صلى بلا تقليد ولا سؤال أعاد إلا إن أصاب القبلة .
وإن كان بعيداً عرفاً عن المساجد والبلد فله أن يتحرى ويصلي وصلاته صحيحة .
خامساً : النية : ومن شروط الصلاة النية ، وهي لغة : القصد ، وشرعاً : العزم على فعل العبادة تقرباً إلى الله - تعالى- .
ومحلها القلب ؛ فلا يحتاج إلى التلفظ بها ، بل هو بدعة لم يفعله رسول الله ولا أصحابه ؛ فينوي بقلبه الصلاة التي يريدها كالظهر والعصر ؛ لحديث عمر : (( إنما الأعمال بالنيات )) متفق عليه ، فينوي صلاة معينة أو الصلاة التي حضر وقتها وينوي مع تكبيرة الإحرام ؛ لتكون النية مقارنة للعبادة ، وإن تقدمت بزمن يسير فلا بأس .
ويشترط أن تستمر في جميع الصلاة ، فإن قطعها في أثناء الصلاة بطلت الصلاة .
فإن تردد في القطع لم تبطل ؛ لبقاء أصل النيَّة ، وكذا إن عزم على فعل محظور في الصلاة لم تبطل .
مسألة : يجوز لمن أحرم في صلاة فريضة وهو منفرد أن يقلب صلاته نافلة مطلقة إذا كان لغرض صحيح ؛ مثل أن يحرم منفرداً فيريد الصلاة مع الجماعة .
فالانتقال بالنية ينقسم إلى أقسام :
الأول : أن ينتقل من معين كالفريضة ، أو النافلة المقيدة بزمان أو مكان أو حال إلى نافلة مطلقة فجائز مالم يترتب على ذلك ترك صلاة الجماعة ، أو تأجير الصلاة على وقتها .
الثاني : أن ينتقل من معين إلى معين فيبطل الأول لقطع نيته ، ولا ينعقد الثاني ، لعدم النية من الأول .
الثالث : أن ينتقل من مطلق إلى معين فلايصح .
مسألة : تجوز سائر الانتقالات في الصلاة ، فيجوز الانتقال من الإنفراد إلى الإئتمام وإلى الإمامة ، ومن الإمامة إلى الإئتمام والإنفراد لعذر ، وكذا من الإئتمام إلى الإمامة والإنفراد لعذر .
لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- : (( أن النبي قام يصلي فقام ابن عباس عن يساره )) . متفق عليه ، فانتقل النبي من الإنفراد إلى الإمامة ، وغير ذلك كحديث عائشة - رضي الله عنها- .
باب في آداب المشي إلى الصلاة
إذا خرج المسلم إلى المسجد ليؤدي الصلاة مع جماعة المسلمين ؛ فليكن ذلك بسكينة ووقار ، والسكينة : هي الطمأنينة والتأني في المشي ، والوقار : الرزانة ، والحلم ، وغض البصر ، وخفض الصوت ، وقلة الالتفات .
وقد ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي قال : (( إذا أتيتم الصلاة -وفي لفظ : (إِذا سمعتم الإقامة)- فامشوا وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا )) ، وروى مسلم أن النبي قال : (( إن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة )) .
وليكن خروج المسلم إلى المسجد مبكراً ؛ ليدرك تكبيرة الإحرام ويحضر الصلاة مع الجماعة من أولها ، ففي الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي أنه قال : (( إذا توضأ أحدكم ، فأحسن الوضوء ، ثم خرج إلى المسجد لم يخط خطوة إِلا رفعت له بها درجة ، وحطت عنه بها خطيئة )) .
فإذا وصل باب المسجد ؛ فليقدم اليمنى عند الدخول ، ويقول : (( أعوذ بالله العظيم ، وبوجهه الكريم ، وسلطانه القديم ، من الشيطان الرجيم )) رواه أبو داود وجوَّد إسناده النووي .
ويقول : ( اللهم صلِّ على محمد ، اللهم اغفرلي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك ) كما في حديث أبي حميد أو أبي هريرة .
وإذا أراد الخروج ؛ قدَّم رجله اليسرى ، ويقول الدعاء الذي قاله عند الدخول ، ويقول بدل : (( وافتح لي أبواب رحمتك )) ، (( وافتح لي أبواب فضلك )) ، وذلك لأن المسجد محل الرحمة ، وخارج المسجد محل الرزق ، وهو فضل من الله .
فإذا دخل المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين تحية المسجد ؛ لقوله في حديث أبي قتادة : (( إِذا دخل أحدكم المسجد ؛ فلا يجلس حتى يصلي ركعتين )) متفق عليه . ثم ينتظر الصلاة ، وليكن حال الجلوس في المسجد لانتظار الصلاة مشتغلاً بذكر الله ، وتلاوة القرآن ، ويتجنب العبث ، ولا يشبك بين الأصابع ؛ فقد ورد النهي عنه في حق منتظر الصلاة ، وقد ورد من حديث كعب بن عجرة أن النبي قال : (( إذا توضأ أحدكم ، ثم خرج عامدًا إلى المسجد، فلا يشبكن بين أصابعه فإنه في صلاة )) رواه أحمد وأبو داود والترمذي ، وله شاهد من حديث أبي هريرة صححه الحاكم ، أما من كان في المسجد لغير انتظار الصلاة ؛ فلا يمنع من تشبيك الأصابع ؛ فقد ثبت أن النبي شبك أصابعه في المسجد بعد ما سلم من الصلاة ، متفق عليه من حديث أبي هريرة .
وقد ورد في حديث أبي هريرة : (( أن العبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة ، والملائكة تصلي عليه )) متفق عليه .
وتسن المبادرة إلى الصف الأول ؛ فقد روى أبو هريرة أن النبي قال : (( لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا )) متفق عليه .
ويسن القرب من الإِمام ؛ فقد قال في حديث أبي مسعود : (( ليلني منكم أولو الأحلام والنهى )) رواه مسلم ، هذا بالنسبة للرجل ، وأما بالنسبة للمرأة ؛ فالصف الأخير من صفوف النساء أفضل لها ؛ لقوله في حديث أبي هريرة : (( وخير صفوف النساء آخرها )) رواه مسلم ؛ لأن ذلك أبعد لها عن رؤية الرجال ، إلا إذا كان هناك ساتر بين الرجال والنساء فالصف الأول للنساء أفضل .
ويتأكد في حق الإمام والمصلي الاهتمام بتسوية الصفوف ، حتى أوجب ذلك شيخ الإسلام -رحمه الله- ، قال في حديث أنس : (( سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة )) متفق عليه ، وفي حديث النعمان بن بشير قوله : (( لتسون صفوفكم أو ليخالفنَّ الله بين وجوهكم )) متفق عليه ، وتسوية الصفوف تعديلها بمحاذاة المناكب والأكعب .
ومن تسوية الصف سد الفرج والتراص في الصفوف ؛ لحديث جابر بن سمرة قال : خرج رسول الله فقال : (( ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ )) قالوا : كيف تصف الملائكة عند ربها ؟ فقال : (( يتمون الصف الأول ويتراصون في الصف )) رواه مسلم .
ويمين الصف الأول أفضل من يساره إذا كان أقرب إلى الإمام ، أو تساوى الطرفان .
والسنة قرب الصف الأول من الإمام ، وكل صف مما يليه ، بحيث لا يفصل إلا محل السجود ، وعدم الشروع في الصف الثاني حتى يكتمل الأول ، للأدلة السابقة .
باب في أركان الصلاة وواجباتها وسننها
الأركان : جمع ركن ، وهو جانب الشيء القوي .
وأركان الشيء : أجزاء ماهيته .
والفرق بين الشرط والركن : أن الشرط قبل الصلاة ، والركن داخلها ، وأيضاً : الشروط يجب استصحابها من أول الصلاة إلى آخرها بخلاف الركن فإنه ينقضي ويأتي غيره .
والفرق بين الركن والواجب : أن الركن لا يسقط لا سهواً ولا جهلاً ، بخلاف الواجب فإنه يسقط سهواً وجهلاً ، ويجبر بسجود السهو .
والفرق بين الأركان والواجبات والسنن :
أن الأركان : إِذا تُرك منها شيءٌ بطلت الصلاة سواء كان تركه عمداً أو سهواً ، أو لغت الركعة التي تركه منها ، وقامت التي تليها مقامها - كما يأتي بيانه - .
والواجبات : إذا تُرك منها شيء عمداً بطلت الصلاة ، وإن كان تركه سهواً ؛ لم تبطل ، ويجبره سجود السهو .
والسنن : لا تبطل الصلاة بترك شيء منها لا عمداً ولا سهواً ، لكن تنقص هيئة الصلاة بذلك ، ويستحب أن يجبره بسجود السهو إذا كان من عادته أن يأتي به وتركه سهواً .
فأركان الصلاة كما يلي :
الركن الأول : القيام في صلاة الفريضة :
قال الله -تعالى- : وقوموا لله قانتين [البقرة:238] ، وفي حديث عمران -مرفوعاً- : (( صل قائماً ، فإن لم تستطع ؛ فقاعداً ، فإن لم تستطع ؛ فعلى جنب )) رواه البخاري .
فإن لم يقدر على القيام لمرض صلى على حسب حاله قاعداً أو على جنب ، ومثل المريض الخائف والعريان ، ومن يحتاج للجلوس أو الاضطجاع لمداواة تتطلب عدم القيام ، وكذلك من كان لا يستطيع القيام لقصر سقف فوقه ، ولا يستطيع الخروج .
مسألة : يعذر بترك القيام من يصلي خلف إمام يعجز عن القيام ، فإذا افتتح الصلاة قاعداً فإن من خلفه يصلون قعوداً تبعاً لإمامهم وجوبًا على الصحيح من قولي العلماء ؛ لأنه لما مرض صلى قاعداً وأمر من خلفه بالقعود ، متفق عليه .
وإن افتتح الصلاة قائمًا ثم عجز عن القيام صلوا خلفه قيامًا وجوبًا ؛ لفعل الصحابة خلفه وقد افتتح أبو بكر الصلاة بهم قائمًا ، متفق عليه من حديث عائشة -رضي الله عنها - .
وصلاة النافلة يجوز أن تصلى قياماً وقعوداً ؛ فلا يجب القيام فيها لكن صلاته قاعداً على النصف من صلاته قائمًا .
الركن الثاني : تكبيرة الإحرام :
لقوله في حديث أبي هريرة : (( ثم استقبل القبلة فكبر )) متفق عليه ، ولم ينقل عنه أنه افتتح الصلاة بغير التكبير ، وصيغتها أن يقول : الله أكبر ، لا يجزيه غيرها ؛ لأن هذا هو الوارد عن الرسول .
الركن الثالث : قراءة الفاتحة : لحديث عبادة بن الصامت مرفوعًا : (( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )) متفق عليه .
وقراءتُها ركن في كل ركعة فرضاً أو نفلاً ، إماماً أو مأموماً أو منفرداً ؛ لأنه لما علَّم المسيء في صلاته كيف يصلي أمره بقراءة الفاتحة في كل ركعة . إلا فيما يجهر به الإمام فيتحملها الإمام عن المأموم .
الركن الرابع : الركوع في كل ركعة :
لقوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا .. [الحج : 7] وقد ثبت الركوع بأمر الرسول ، متفق عليه من حديث أبي هريرة وهو في اللغة : الانحناء .
والركوع المجزئ من القائم هو : أن ينحني حتى تبلغ كفاه ركبتيه إذا كان وسط الخلقة أي : غير طويل اليدين أو قصيرهما وقدر ذلك من غير وسط الخلقة ، وقال بعض العلماء : أن يكون إلى الركوع أقرب منه إلى القيام .
والمجزئ من الركوع في حق الجالس : مقابلة وجهه ما وراء ركبتيه من الأرض .
الركن الخامس : الإعتدال من الركوع واقفًا كحاله قبله ، لما روى أبو مسعود البدري مرفوعاً : (( لا تجزئ صلاة لايقيم فيها الرجل صلبه في الركوع والسجود )) رواه الخمسة ، وصححه الترمذي ، ولحديث أبي هريرة وفيه قوله : (( ثم ارفع حتى تعتدل قائماً )) متفق عليه .
الركن السادس : السجود ، وهو وضع الأعضاء السبعة ، على الأرض ، في كل ركعة مرتين ؛ لقوله تعالى : واسجدوا ، وللأحاديث الواردة من أمر النبي به في حديث أبي هريرة – وفيه قوله (( ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً )) متفق عليه ، وفعله له ، وقوله في حديث مالك بن الحويرث : (( صلوا كما رأيتموني أصلي
)) رواه البخاري . فالأعضاء السبعة هي : الجبهة ، والأنف ، واليدان ، والركبتان ، وأطراف القدمين ؛ فلابد أن يسجد على كل واحد من هذه الأعضاء السبعة .
الركن السابع : الجلسة بين السجدتين :
لحديث أبي هريرة أن النبي قال : (( ثم ارفع حتى تعتدل جالساً )) متفق عليه ، ولقول عائشة -رضي الله عنها- : (( كان النبي إِذا رفع رأسه من السجود ؛ لم يسجد حتى يستوي قاعداً )) رواه مسلم ، ولما تقدم من حديث أبي مسعود البدري .
الركن الثامن : الطمأنينة في كل الأفعال المذكورة :
وهي السكون وإن قل ، وقيل : بقدر الذكر الواجب .
لما رواه أبو هريرة ، وفيه قوله : (( ثم اركع حتى تطمئن راكعا ... ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ... )) متفق عليه .
الركنان التاسع و العاشر : التشهد الأخير وجلسته :
وهو أن يقول : (( التحيات … )) إلى آخر التشهد ؛ فقد ثبت أنه لازمه حتى مات صلى الله عليه وسلم ، وقال : (( صلوا كما رأيتموني أصلي )) ، وأمر به ، وقال ابن مسعود : (( كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد )) رواه الدارقطني وصححه ، ومال ابن عبد البر إلى شذوذها ، فقوله : (( قبل أن يفرض )) ، دليل على فرضه .
الركن الحادي عشر : الترتيب بين الأركان :
لأن النبي كان يصليها مرتبة ، وقال : (( صلوا كما رأيتموني أصلي )) ، وقد علمها للمسيء مرتبة بـ " ثم " ، متفق عليه من حديث أبي هريرة .
الركن الثاني عشر : التسليم :
لحديث جابر بن سمرة -رضي الله عنه – مرفوعا : (( إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه ، ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله )) رواه مسلم . ودون الكفاية لا يجزيء .
ولمداومة النبي عليهما ، ويجزيء في النفل تسليمة واحدة ، لثبوت ذلك في حديث ابن عمر وعائشة .
واجبات الصلاة ثمانية :
الأول : جميع التكبيرات التي في الصلاة - غير تكبيرة الإحرام – واجبة ؛ لأمر النبي بها ، كما في حديث أبي موسى وفيه (( فإذا كبر فكبروا ، وإذا قال سمع الله لمن حمده ؛ فقولوا ربنا ولك الحمد )) رواه مسلم .
ولمداومة النبي عليها ، ولئلا تخلو هذه الانتقالات من ذكر وشعار .
الثاني : التسميع ، أي قول : (( سمع الله لمن حمده )) وإنما يكون واجباً في حق الإمام والمنفرد ، فأما المأموم فلا يقوله .
الثالث : التحميد أي قول : (( ربنا ولك الحمد )) للإمام والمأموم والمنفرد ؛ لما تقدم من حديث أبي موسى رضي الله عنه .
الرابع : قول : (( سبحان ربي العظيم )) ، في الركوع مرة واحدة ، ويسن الزيادة إلى ثلاث وهي أدنى الكمال ، وإلى عشر وهي أعلاه للإمام .
الخامس : قوله : (( سبحان ربي الأعلى )) في السجود مرة واحدة ، وتسن الزيادة إلى ثلاث ؛ لحديث حذيفة : أن النبي كان يقول في ركوعه : (( سبحان ربي العظيم )) وفي سجوده : (( سبحان ربي الأعلى )) رواه الخمسة ، وصححه الترمذي .
ولأمر النبي بذلك ، كما في حديث عقبة بن عامر . ولئلا تخلو هذه الأركان من ذكر .
السادس : قول : (( رب اغفر لي )) بين السجدتين مرة واحدة ، وتسن الزيادة إلى ثلاث ، وإلى عشر وهي أعلاه للإمام ؛ لحديث حذيفة أن النبي كان يقول بين السجدتين :
(( رب اغفر لي ، رب اغفر لي )) رواه النسائي وابن ماجه .
ولئلا يخلو هذا الركن من ذكر .
السابع والثامن : التشهد الأول ، والجلوس له ، وهو أن يقول : (( التحيات لله والصلوات والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن ألا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله )) أو نحو ذلك مما ورد .
ولما تقدم من حديث ابن مسعود ، ولأن النبي جبره بسجود السهو كما في حديث عبد الله بن بحينة في الصحيحين ، لما تركه سهوا . ولم يكن ركنا ؛ لسقوطه بالسهو .
سنن الصلاة
القسم الثالث : من أفعال وأقوال الصلاة غير ما ذكر في القسمين الأولين : سنة ، لا تبطل الصلاة بتركه .
وسنن الصلاة نوعان :
النوع الأول : سنن الأقوال ، وهي كثيرة ؛ منها : الاستفتاح ، والتعوذ ، والبسملة، والجهر بها أحيانًا ، والتأمين ، والقراءة بعد الفاتحة بما تيسَّر من القرآن في صلاة الفجر وصلاة المغرب والعشاء والظهر والعصر كما سيأتي في صفة الصلاة .
ومن سنن الأقوال قول : (( ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد )) بعد قوله : (( ربنا ولك الحمد )) ، وغير ذلك مما ورد ، وما زاد على المرة الواحدة في تسبيح ركوع وسجود ، والزيادة على المرة في قول : (( رب اغفر لي )) بين السجدتين ، وغير ذلك مما ورد ، وقوله : (( اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن فتنة المسيح الدجال )) وما زاد على ذلك من الدعاء في التشهد الأخير ، كما سيأتي في صفة الصلاة .
والنوع الثاني : سنن الأفعال ؛ كرفع اليدين عند تكبيرة الإحرام ، وعند الهوي إلى الركوع ، وعند الرفع منه ، وعند الرفع من التشهد الأول ، ووضع اليد اليمنى على اليسرى ، ووضعها على صدره في حال القيام ، والنظر إلى موضع سجوده ، ووضع اليدين على الركبتين في الركوع ، ومجافاة بطنه عن فخذيه وفخذيه عن ساقيه في السجود، ومد ظهره في الركوع معتدلا ، وجعل رأسه حياله ؛ فلا يخفضه ولا يرفعه ،
ومجافاة عضديه عن جنبيه مالم يؤذِ ، وتمكين جبهته وأنفه وبقية الأعضاء من مواضع السجود ، وغير ذلك من سنن الأقوال والأفعال ، كما سيأتي في صفة الصلاة .
باب في صفة الصلاة
أي الكيفية والهيئة التي تكون عليها .
كان رسول الله إذا قام إلى الصلاة ؛ استقبل القبلة ، ورفع يديه ، تارة حذو منكبيه ، وتارة إلى فروع أذنيه فيستحب أن يأتي بهذا تارة وبهذا تارة ، واستقبل ببطون أصابعها القبلة ، وقال : (( الله أكبر )) .
ثم يمسك شماله بيمينه ، وأحياناً يضع يده اليمنى على شماله ، وأحياناً يضع يده اليمنى على ذراعه اليسرى ويضعهما على صدره ، ثم يستفتح ، ولم يكن يداوم على استفتاح واحد ؛ فكل الاستفتاحات الثابتة عنه يجوز الاستفتاح بها ، ومنها : (( سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك )) ، ومنها أيضاً : (( اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ، اللهم نقِّني من خطاياي كما ينقَّى الثوبُ الأبيضُ من الدنس ، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد )) ، أو غير ذلك مما ورد .
ثم يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، أو يقول : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه ، بسم الله الرحمن الرحيم ، وفي بعض الأحيان يجهر بها في الجهرية .
ثم يقرأ فاتحة الكتاب ، فإذا ختمها قال : آمين .
ثم يقرأ بعد ذلك سورة من طوال المفصل غالباً في صلاة الفجر ، وفي صلاة الظهر تارة من طواله ، وأحياناً من أواسطه ، وفي صلاة العصر والعشاء من أواسطه ، وفي المغرب من قصاره ، وأحياناً يطيل ، فقد قرأ النبي في المغرب بالمرسلات ، والطور ، والأعراف ، وبغيرها مما ثبتت به السنة .
وكان يجهر بالقراءة في الفجر ، والأوليين من المغرب ، والعشاء ، ويسر القراءة فيما سوى ذلك ، وكان يطيل الركعة الأولى من كل صلاة على الثانية .
ثم يرفع يديه كما رفعهما في الاستفتاح ، ثم يقول : (( الله أكبر )) ، ويخر راكعاً ، ويضع يديه على ركبتيه مفرجة الأصابع ، ويمكنهما ويجافي عضديه عن جنبيه ، ويمد ظهره ، ويجعل رأسه حياله ، لا يرفعه ولا يخفضه ، ويقول : (( سبحان ربي العظيم )) ، وغير ذلك من الأذكار الواردة .
والسنة أن يكون ركوعه إن كان إماماً بقدر عشر تسبيحات ، وأما المأموم فتبع للإمام ، وأما المنفرد فله أن يطيل وأن يقصر .
ثم يرفع رأسه قائلاً : (( سمع الله لمن حمده )) ويرفع يديه كما يرفعهما عند الركوع .
فإذا اعتدل قائمًا قال : (( ربنا لك الحمد )) ، وكان يطيل هذا الاعتدال بقدر الركوع ، فيأتي بما ورد من الأذكار في هذا الموضع .
ثم يكبر ، ويخر ساجداً ، ولا يرفع يديه ، فيسجد على جبهته وأنفه ويديه وركبتيه وأطراف قدميه ، ويستقبل بأصابع يديه ورجليه القبلة ، ويعتدل في سجوده ويمكن جبهته وأنفه من الأرض ويعتمد على كفيه ، ويرفع مرفقيه ، ويجافي عضديه عن جنبيه ، ويرفع بطنه عن فخذيه ، وفخذيه عن ساقيه ، ويقول في سجوده : (( سبحان ربي الأعلى )) ،
ويكون سجوده بقدر الركوع ، فيأتي بالأذكار الواردة في هذا الموضع ، ويدعو الله - عز وجل- .
ثم يرفع رأسه قائلاً : (( الله أكبر )) ثم يفرش رجله اليسرى ، ويجلس عليها ، وينصب اليمنى ، ويضع يديه على فخذيه ، ثم يقول : (( اللهم اغفرلي ، وارحمني ، واجبرني ، واهدني ، وارزقني )) ويكون جلوسه بقدر سجوده .
ثم يكبر ويسجد ، ويصنع في الثانية مثل ما صنع في الأولى .
ثم يرفع رأسه مكبراً ، وينهض على صدور قدميه ، معتمداً على ركبتيه وفخذيه ، ويجلس للاستراحة إن احتاج إلى ذلك .
فإذا استتم قائماً أخذ في القراءة ، فيستعيذ إن لم يكن استعاذ في الركعة الأولى ، ويسمي ، ولا يستفتح مطلقاً ، ويصلي الركعة الثانية كالأولى .
ثم يجلس للتشهد الأول مفترشًا كما يجلس بين السجدتين ، ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ، ويده اليسرى على فخذه اليسرى تارة ، وأحياناً يضع يده اليمنى على حرف ركبته اليمنى ، ويده اليسرى على ركبته اليسرى ، ويضع إبهام يده اليمنى على أصبعه الوسطى كهيئة الحلقة ، ويقبض الخنصر والبنصر ، ويشير بأصبعه السبابة تارة ، وأحياناً يقبض جميع أصابعه ويشير بأصبعه السبابة ، ويحركها عند الدعاء ، وينظر إليها ، ويقول : (( التحيات لله ، والصلوات ، والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله )) ، أو غير ذلك مما ورد في السنة من التشهدات ، وكان يخفف هذه الجلسة .
ثم ينهض مكبراً ، فإذا استتم قائماً رفع يديه ، فصلى الثالثة والرابعة ، وخففهما على الأوليين ، وقرأ فيهما بفاتحة الكتاب إلا في الظهر ، فأحياناً يزيد على فاتحة الكتاب .
ثم يجلس في تشهده الأخير متوركاً يفرش رجله اليسرى ، بأن يجعل ظهرها على الأرض ويخرجهما تحت ساقه اليمنى ، وينصب رجله اليمنى ، ويجعل إليته على الأرض ، أحياناً يفرش رجليه ويخرجهما عن يمينه .
ثم يتشهد التشهد الأخير ، وهو التشهد الأول ، ويزيد عليه : (( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على آل إبراهيم ؛ إنك حميدٌ مجيدٌ ، وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على آل إبراهيم ؛ إنك حميدٌ مجيدٌ )) أو غير ذلك من صيغ الصلاة على النبي الواردة .
ويستعيذ بالله من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنه المحيا والممات ، ومن فتنة المسيح الدجال ، ويدعو بما ورد من الأدعية في الكتاب والسنة .
ثم يسلم عن يمينه ؛ فيقول : (( السلام عليكم ورحمة الله )) ، وعن يساره كذلك .
فإذا سلم قال : أستغفر الله - ثلاث مرات- ، اللهم إنك أنت السلام ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام ، ثم يذكر الله بما ورد كما سيأتي إن شاء الله .
باب في بيان ما يكره في الصلاة
يكره في الصلاة الإلتفات بوجهه ، وصدره ، وقلبه ؛ لقول النبي في حديث عائشة -رضي الله عنها-: (( هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد )) رواه البخاري . إلا أن يكون ذلك لحاجة فلا بأس به ؛ كما في حال الخوف ، أو كان لغرض صحيح . فإن استدار بجميع بدنه ، بطلت صلاته ، لتركه الاستقبال بلا عذر .
ويكره في الصلاة رفع بصره إلى السماء ؛ وبعض العلماء حرم ذلك ، فقد أنكر النبي على من يفعل ذلك ؛ فقال : (( ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم ؟! )) ، واشتدَّ قوله في ذلك ، حتى قال : (( لينتهنَّ عن ذلك أو لتخطفنَّ أبصارهم )) ، رواه البخاري من حديث أنس . وقد سبق أنه ينبغي أن يكون نظر المصلي إلى موضع سجوده فلا ينبغي له أن يسرح بصره فيما أمامه من الجدران والنقوش والكتابات ونحو ذلك ؛ لأن ذلك يشغله عن صلاته .
ويكره في الصلاة تغميض عينيه لغير حاجة . وإن كان التغميض لحاجة ، كأن يكون أمامه ما يشوش عليه صلاته كالزخارف والتزويق ، فلا يكره إغماض عينيه .
ويكره في الصلاة أن يستند إلى جدار ونحوه حال القيام ؛ إلا من حاجة ؛ لأنه يزيل مشقة القيام ، لكن لو ترتب على ذلك سقوطه لو أزيل ، بطلت صلاته ، فإن فعله لحاجة كمرض ونحوه ؛ فلا بأس .
ويكره في الصلاة افتراش ذراعية حال السجود ؛ بأن يمدهما على الأرض مع إلصاقهما بها ، لحديث أنس أن النبي قال : (( اعتدلوا في السجود ، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب )) متفق عليه .
وتكره الحركة في الصلاة ومن ذلك العبث - وهو عمل مالا فائدة فيه بيد أو رجل أو لحية أو ثوب أو غير ذلك - ، ومنه مسح الأرض من غير حاجة .
ويكره في الصلاة التخصر ، وهو وضع اليد على الخاصرة وهي الشاكلة ما فوق رأس الورك من المستدق ، وذلك لأن التخصر فعل الكفار والمتكبرين ، وقد نهينا عن التشبه بهم ، وقد ثبت في حديث أبي هريرة المتفق عليه : (( النهي عن أن يصلي الرجل متخصراً )) .
ويكره في الصلاة فرقعة أصابعه وتشبيكها .
ويكره أن يصلي وبين يديه ما يشغله ويلهيه ؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- : (( أن النبي صلى في خميصة لها أعلام ، فنظر في أعلامها نظرة )) ، فلما انصرف قال: (( اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم ؛ وائتوني بأنبجانيته فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي )) متفق عليه .
وتكره الصلاة في مكان فيه تصاوير سواء كانت الصورة منصوبة أو غير منصوبة على الصحيح .
ويكره أن يدخل في الصلاة وهو مشوش الفكر بسبب وجود شيء يضايقه ؛ كاحتباس بول ، أو غائط ، أو ريح ، أو حالة برد أو حر شديد ، أو بعد حضور طعام يشتهيه ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام- في حديث عائشة - رضي الله عنها -: (( لا صلاة بحضرة طعام ، ولا هو يدافعه الأخبثان )) رواه مسلم .
وهذه النواهي حملها العلماء -رحمهم الله تعالى- على الكراهة ، إذ هي من باب الإرشاد والأدب ، والله أعلم .
باب في بيان ما يستحب أو يباح فعله في الصلاة
يسن للمصلي رد المار من أمامه قريباً منه ؛ لقول النبي : (( إذا كان أحدكم يصلي ؛ فلا يدعنَّ أحدًا يمر بين يديه ، فإن أبى فليقاتله ؛ فإن معه القرين )) رواه مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
ويجب رد المار بين يدي المصلي ، إذا كانت الصلاة يحرم قطعها كالفريضة ، والمار الذي يقطعها الحمار والكلب الأسود والمرأة .
لكن إذا كان أمام المصلي سترة - أي شيء مرتفع من جدار أو نحوه - فلا بأس أن يمر من ورائه ، فإن لم يكن له سترة ، فلا بأس أن يمر من وراء محل سجوده ، وقدَّره العلماءُ بثلاثة أذرع من قدم المصلي .
واتخاذ السترة سنة في حق المنفرد والإمام ؛ لقوله : (( إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة ، وليدن منها )) ، رواه أبو داود وابن ماجة من حديث أبي سعيد ، وأما المأموم ؛ فسترته سترة إمامه .
ويسن أن تكون السترة قائمة كمؤخرة الرحل ، أي: قدر ذراع ، سواء كانت دقيقة أو عريضة ، ويجزىءكل شيء مرتفع ، ويجزىء طرف السجاد ، ولا يجزىء مجرد اللون لما روى أبو هريرة أن النبي قال: (( إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئًا ، فإن لم يجد فلينصب عصا ، فإن لم يكن معه فليخط خطاً )) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ، وصححه الإمام أحمد وابن المديني .
مسألة : وتبطل الصلاة بمرور كلب أسود ، أو حمار ، أو امرأة ، بين المصلي وسترته لحديث أبي ذر رواه مسلم ، أو بين يديه دون ثلاثة أذرع .
وإذا عرض للمصلي أمر ، كاستئذان عليه ، أو سهى إمامه ، أو خاف على إنسان الوقوع في هلكة ، فله التنبيه على ذلك ، بأن يسبح الرجل وتصفق المرأة ؛ لقوله : (( إذا نابكم شيء في صلاتكم ؛ فلتسبح الرجال، ولتصفق النساء )) متفق عليه من حديث سهل بن سعد .
ولا يكره السلام على المصلي إذا كان يعرف كيف يرد ، وللمصلي حينئذ رد السلام على المصلي في حال الصلاة بالإشارة باليد بأن يبسط يده لا باللفظ ؛ لحديث ابن عمر - رضي الله عنهما -.
وللمصلي أن يقرأ عدة سور في ركعة واحدة أحياناً ؛ لما في الصحيحين عن حذيفة : (( أن النبي قرأ في ركعة من قيامه بالبقرة ، وآل عمران ، والنساء )) ، وله أن يكرر قراءة السورة في ركعتين ، وأن يقسم السورة الواحدة بين ركعتين ، ويجوز له قراءة أواخر السور وأواسطها أحياناً ؛ لما روى أحمد ومسلم عن ابن عباس – رضي الله عنهما- أن النبي كان يقرأ في الأولى من ركعتي الفجر قوله تعالى : قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا .. [البقرة: 136] وفي الثانية الآية في آل عمران : قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ .. الآية [آل عمران: 64] ، ولعموم قوله تعالى : فاقرؤوا ما تيسر منه ، لكن مثل هذه الأشياء لا يكثر منها في الفرض ، بل يفعل ذلك أحياناً ، إذ السنة أن يقرأ سورة كاملة ، فإن طالت قسمها نصفين .
وللمصلي أن يستعيذ عند قراءة آية فيها ذكر عذاب ، وأن يسأل الله عند قراءة آية فيها ذكر رحمة ، وله أن يصلي على النبي عند قراءة ذكره ؛ لتأكد الصلاة عليه عند ذكره ، وهذا مستحب في النفل - لحديث حذيفة السابق - مباح في الفرض .
باب في السجود للسهو
السهو والنسيان والغفلة ألفاظ مترادفة ، معناها : ذهول القلب عن معلوم ، وقيل: الناسي إذا ذكرته تذكر بخلاف الساهي .
واصطلاحاً : سجدتان يسجدهما المصلي ؛ لجبر الخلل الحاصل في صلاته سهواً ، وسجود السهو هو الجابر الثاني من جوابر الصلاة .
ويشرع سجود السهو لأحد ثلاثة أمور :
أولاً: إِذا زاد في الصلاة سهواً .
ثانياً: إِذا نقص منها سهواً .
ثالثاً: إِذا حصل عنده شك في زيادة أو نقص .
فيسجد لأحد هذه الثلاثة حسبما ورد به الدليل ، لا كل زيادة أو نقص أو شك .
ويشرع سجود السهو إِذا وجد سببه ، سواء كانت الصلاة فريضة أو نافلة ؛ لعموم الأدلة .
وضابط الصلاة التي يشرع فيها سجود السهو : كل صلاة ذات ركوع وسجود .
فخرج بذلك صلاة الجنازة ، فلا سجود للسهو فيها ، وكذا لا سجود إذا سها في سجود التلاوة ، أو السهو .
أحوال سجود السهو :
الحال الأولى : الزيادة في الصلاة ، وهي إما زيادة أفعال أو زيادة أقوال :
أولاً : زيادة الأفعال إذا كانت زيادة من جنس الصلاة ؛ كالقيام في محل القعود ، والقعود في محل القيام ، أو زاد ركوعاً أو سجوداً ، فإِذا فعل ذلك سهواً فإنه يسجد للسهو
وجوبًا ؛ لقوله في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-: (( فإذا زاد الرجل أو نقص في صلاته ؛ فليسجد سجدتين )) رواه مسلم .
مسألة : لو زاد ركعة سهواً ولم يعلم إلا بعد فراغه منها ؛ فإنه يسجد للسهو ، أما إن علم في أثناء الركعة الزائدة فإنه يجلس في الحال ، ويتشهد إن لم يكن تشهد ، ثم يسجد للسهو ويسلم .
وإن كان إماماً ؛ لزم من علم من المأمومين بالزيادة والنقص تنبيهه بأن يسبح الرجل وتصفق المرأة ، ويلزم الإِمام حينئذ الرجوع إلى تنبيههم إذا لم يجزم بصواب نفسه ؛ لأنه رجوع إلى الصواب .
وأما زيادة الأقوال ؛ كالقراءة في الركوع والسجود ، وقراءة سورة في الركعتين الأخيرتين من الرباعية والثلاثية من المغرب ، فإذا فعل ذلك سهواً ؛ استحب له السجود للسهو .
وأما إن كانت الأفعال والأقوال المزادة ليست من جنس الصلاة ، كالأكل والشرب والحركة الكثيرة والكلام ، فلا يشرع لها سجود السهو ، لكن إن كانت عمدًا أبطلت الصلاة ، وسهواً لا تبطلها .
الحال الثانية : النقص : إذا نقص من الصلاة ، بأن ترك منها شيئاً فلا يخلو :
1- نقص الأركان : فإن كان المتروكُ ركناً ، وكان هذا الركن تكبيرة الإحرام لم تنعقد صلاته ، ولا يغني عنه سجود السهو .
وإن كان ركناً غير تكبيرة الإحرام ؛ كركوع أو سجود ونحوهما ، وذكر هذا المتروك قبل أن يصل إلى موضعه في الركعة التي تليها عاد وجوباً فأتى به وبما بعده ، وإن ذكره
بعد أن وصل إلى موضعه من الركعة التي تليها لغت الركعة التي تركه منها ، وقامت التي تليها مقامها .
وإن لم يعلم بالركن المتروك إلا بعد السلام ؛ فإنه يعتبره كترك ركعة كاملة ، فإن لم يطل الفصل ، وهو باقٍ على طهارته ؛ أتى بركعة كاملة وسجد للسهو ، ويسجد بعد السلام ، وإن طال الفصل ، أو انتقض وضوؤه ، استأنف الصلاة من جديد ؛ إلا أن يكون المتروك في الركعة الأخيرة فإنه يأتي به وبما بعده ويسلم ويسجد للسهو ما لم يطل الفصل أو ينتقض وضؤوه كما سبق .
2- نقص الواجبات : وإن كان المتروك واجباً كتسبيح الركوع أو السجود ونحوهما :
أ - فإن ذكره قبل أن يتلبس بالركن الذي يليه رجع وأتى به ، ثم سجد للسهو بعد السلام ؛ لأنه زاد في الصلاة .
ب - وإن ذكره بعد أن تلبس بالركن الذي يليه سقط ، ويسجد للسهو قبل السلام وجوباً ؛ لأنه نقص .
3- نقص السنن : وإن كان المتروك سنة ، فإن كان من عادته الإتيان بها استحب له السجود قبل السلام ، وإلا فلا .
الحال الثالثة : الشك في الصلاة ، ولا يخلو :
1 - أن يغلب على ظنه شيء فإن غلب على ظنه شيء عمل به ، وسجد للسهو بعد السلام ؛ لحديث ابن مسعود وفيه قوله (( فليتحر الصواب فليتم عليه )) متفق عليه .
2 - أن لا يترجح عنده شيء ، فيبني على اليقين ، ويأتي بالناقص .
مثال ذلك : إذا شكَّ في عدد الركعات ؛ بأن شكَّ أصلَّى ثنتين أم ثلاثاً مثلاً فإن ترجَّح له شيءٌ عمل به وبنى عليه ، وإلا فإنه يبني على الأقل ؛ لأنه المتيقن ، ثم يسجد للسهو قبل السلام ؛ لحديث أبي سعيد : (( إذا شكَّ أحدكم في صلاته ، فلم يدرِ أصلى ثلاثًا أو أربعًا ، فليطرح الشك ، وليبن على ما استيقن ، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم )) رواه مسلم .
مسألة : وحكم سجود السهو الوجوب ، إذا كان عمده يبطل الصلاة ، وإلا لم يجب .
فمثلاً : زيادة ركعة سهواً ، عمد ذلك يبطل ، فسهوه يوجب السجود .
مسألة : محل السجود :
أ- قبل السلام : إن كان عن نقص كما لو نقص تسبيح الركوع أو السجود ، كما في حديث عبد الله بن بحينة لما ترك التشهد الأول سجد قبل السلام متفق عليه . أو شك ولم يترجح له شيء كما في حديث أبي سعيد السابق .
ب- بعد السلام : إن كان عن زيادة كما لو زاد ركوعاً ، أو سجوداً أو قياماً أو قعوداً ، كما في حديث أبي هريرة لما زاد سلاماً في الصلاة سجد بعد السلام ، متفق عليه . أو شك وترجح له شيء كما لو شك هل صلى ثلاثاً أو أربعاً وترجح له أنها ثلاث فيأتي بركعة ويسجد للسهو بعد السلام ، لحديث ابن مسعود السابق .
مسألة : سهو المأموم :
أ- إن كان المأموم غير مسبوق ، فسهوه يتحمله الإمام ، فلا يسجد للسهو .
ب- وإن كان مسبوقاً ، سجد بعد قضاء ما فاته .
وصفة سجود السهو كصفة سجود الصلاة .
ولا ينظر المصلي للشك في ثلاثة مواضع :
1- إذا كثر مع الإنسان .
2- وإذا كان مجرد وهم .
3- وإذا كان بعد الفراغ من العبادة .
مسألة : من سها مراراً كفاه سجدتان ، وإذا اجتمع سجود قبل السلام وآخر بعده ، سجد قبل السلام .
باب في الذكر بعد الصلاة
الصلاة المفروضة يعتريها كثير من النقص والخلل والسهو ، ومن رحمة الله- تعالى- أن شرع للمصلي جوابر تجبر هذا الخلل ، ومن جوابر الصلاة الذكر بعد الفراغ منها ، قال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء: 103]، وقال سبحانه : فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10].
فإذا سلم المصلي من الصلاة ، سن له أن يستغفر الله ثلاثاً .
ثم يقول : (( اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام )) كما ثبت ذلك من حديث ثوبان -رضي الله عنه - عند مسلم .
ثم يقول : (( لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه ، له النعمة ، وله الفضل ، وله الثناء الحسن ، لا إله إلا الله ، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون )) رواه مسلم . (( اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد )) متفق عليه ، أي لا ينفع الغني منك غناه ، وإنما ينفعه العمل الصالح .
ثم يسبح الله ، ويحمده ، ويكبره ثلاثاً وثلاثين ، ويقول تمام المائة : (( لا إله إلا الله وحده ، لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير )) .
وأحياناً : يسبح الله ويحمده ، ويهلله ، ويكبره خمساً وعشرين .
وأحياناً : يسبح الله عشراً ، ويحمده عشراً ، ويكبره عشراً .
وأحياناً : يسبح الله ثلاثًا وثلاثين ، ويحمده ثلاثًا وثلاثين ، ويكبره ثلاثًا وثلاثين ، ثم يكبر تمام المائة .
وبعد صلاة المغرب وصلاة الفجر يهلل عشر مرات ، فيقول : (( لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير )) .
ثم بعد الفراغ من هذه الأذكار على هذا الترتيب ؛ يقرأ آية الكرسي ، والمعوذتين ، ويستحب تكرار قراءة هذه السور بعد صلاة المغرب وصلاة الفجر ثلاث مرات .
ويستحب الجهر بالتهليل والتسبيح والتحميد والتكبير عقب الصلاة ، لكن لا يكون بصوت جماعي ، وإنما يرفع به كل واحد صوته منفرداً .
ويستعين على ضبط عدد التهليلات وعدد التسبيح والتحميد والتكبير بعقد الأصابع ؛ لأن الأصابع مسؤولات مستنطقات يوم القيامة .
باب في صلاة التطوع
التطوع بالصلاة من أفضل القربات بعد الجهاد في سبيل الله وطلب العلم ؛ لمداومة النبي على التقرب إلى ربه بنوافل الصلوات ، وغيرها وقال -عليه الصلاة والسلام-: (( إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة، وحط بها عنك خطيئة )) رواه مسلم.
وصلوات التطوع على نوعين :
النوع الأول : صلوات مؤقتة بأوقات معينة ، أو مقيدة بمكان أو حال ، وتسمى بالنوافل المقيدة ، كالسنن الرواتب، وصلاة الضحى ، وغير ذلك .
والنوع الثاني : صلوات غير مؤقتة بأوقات معينة ، ولا مقيدة بحال ولا مكان وتسمى بالنوافل المطلقة ، كما سيأتي بيانه .
صلاة الوتر وأحكامها
صلاة الوتر : سنة مؤكدة ، لما روى ابن عباس - رضي الله عنهما-: أن النبي قال لمعاذ : ((...فإن هم أجابوك لذلك ، فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة... )) متفق عليه ، ولو كان الوتر واجباً لكانت الصلوات الواجبة ستاً ، و لقول علي بن أبي طالب : (( الوتر ليس بحتم كهيئة المكتوبة ، ولكن سنة سنها رسول الله )) رواه أحمد والنسائي .
وذهب الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- إلى وجوبه ، وعند شيخ الإسلام-رحمه الله-: يجب على من قام الليل .
والوتر : اسم للركعة المنفصلة عما قبلها ، ولثلاث الركعات وللخمس والسبع والتسع والإحدى عشرة - إذا كانت هذه الركعات متصلة بسلام واحد -، فإذا كانت هذه الركعات بسلامين فأكثر ؛ فالوتر اسم للركعة المنفصلة وحدها .
وقت الوتر : ووقت الوتر يبدأ من بعد صلاة العشاء الآخرة سواء فعلت في أو الوقتها أو وقت المغرب مجموعة معها ، ويستمر إلى طلوع الفجر ؛ لما روت عائشة -رضي الله عنها-، قالت : (( كان رسول الله يصلي ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر إحدى عشرة ركعة )) رواه مسلم .
والوقت المستحب لصلاة الوتر آخر الليل لمن يثق من قيامه في آخر الليل ؛ ومن كان لا يثق من قيامه في آخر الليل ؛ فإنه يوتر قبل أن ينام ، بهذا أوصى النبي ؛ فقد روى مسلم من حديث جابر رضي الله عنه عن النبي : (( أيكم خاف ألا يقوم من آخر الليل فليوتر ثم ليرقد ، ومن وثق بقيامه من آخر الليل ؛ فليوتر من آخره ؛ فإن قراءة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل )) .
عدد ركعات الوتر ، وكيفية صلاتها :
وأقل الوتر ركعة واحدة ؛ لورود الأحاديث بذلك ، وثبوته عن عشرة من الصحابة ، لكن الأفضل والأحسن أن تكون مسبوقة بالشفع .
وأكثر الوتر إحدى عشرة ركعة ، أو ثلاث عشرة ركعة ، يصليها ركعتين ركعتين ، ثم يصلي ركعة واحدة يوتر بها ؛ لقول عائشة -رضي الله عنها -: (( كان رسول الله يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة، يوتر منها بواحدة )) رواه مسلم . وثبت عنه - عليه الصلاة والسلام- أنه صلى ثلاث عشرة ركعة ، من حديث عائشة -رضي الله عنها- في الصحيحين .
وفي لفظ : (( يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة )) .
وله أن يوتر بتسع ركعات ، يسرد ثمانياً ، ثم يجلس عقب الركعة الثامنة ، ويتشهد التشهد الأول ولا يسلم ، ثم يقوم ، فيأتي بالركعة التاسعة ، ويتشهد التشهد الأخير ويسلم .
وله أن يوتر بسبع ركعات أو خمس ركعات لا يجلس إلا في آخرها ، ويتشهد ويسلم ؛ لقول أم سلمة - رضي الله عنها -: (( كان رسول الله يوتر بسبع وبخمس لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام )) رواه مسلم ، وللسبع صفة أخرى ، وهي أن يصلي سبع ركعات بتشهدين بعد السادسة والسابعة ، وبسلام واحد .
وله أن يوتر بثلاث ركعات ، يصلي ركعتين ويسلم ، ثم يصلي الركعة الثالثة وحدها ، أو يسردها بتشهد واحد وسلام واحد .
ويستحب أن يقرأ في الأولى بـ سبِّح ، وفي الثانية : قل يا أيها الكافرون ، وفي الثالثة : قل هو الله أحد .
ويستحب أن يقنت بعد الركوع في الوتر أحياناً ؛ بأن يدعو الله - سبحانه وتعالى-، بعد رفع اليدين (( اللهم اهدني فيمن هديت … )) إلى آخر الدعاء الوارد .
ولا يداوم على القنوت ؛ لأن أكثر الذين وصفوا صلاة النبي بالليل لم يذكروا قنوته .
وقد ورد في سنن أبي داود من حديث أبي بن كعب : أن النبي قنت في الوتر . وأحياناً يقنت بعد الركوع ، وأحياناً قبله .
مسألة : ويستحب أن يقضي الوتر إذا تركه لعذر ضحى شفعاً ، فإذا أراد أن يوتر بخمس ثم نام عنها صلى ستاً ؛ لحديث عائشة – رضي الله عنها – : (( وكان إذا غلبه نوم أو وجع صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة )) رواه مسلم .
صلاة التراويح وأحكامها
التراويح : جمع ترويحة ، وهي في الأصل اسم للجلسة مطلقاً ، ثم سميت بها الجلسة التي بعد أربع ركعات في ليالي رمضان ؛ لأنهم كانوا يطيلون الصلاة .
وفي الاصطلاح : اسم للقيام جماعة في ليالي رمضان .
وهي سنة مؤكدة ؛ لما روى أبو هريرة أن النبي قال : (( من قام رمضان إيمانً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه )) متفق عليه .
وفعلها جماعة في المسجد أفضل ؛ فقد صلاها النبي بأصحابه في المسجد ليالي، ثم تأخر عن الصلاة بهم خوفاً من أن تفرض عليهم ؛ كما ثبت في الصحيحين عن عائشة- رضي الله عنها-؛ وقال في حديث أبي ذر : (( من قام مع الإمام حتى ينصرف؛ كتب له قيام ليلة )) رواه الخمسة وصححه الترمذي .
وأما عدد ركعاتها ؛ فقد ثبت من حديث عائشة -رضي الله عنها-: ( ما كان النبي يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ) متفق عليه ، والأمر في ذلك واسع لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال : (( صلاة الليل مثنى مثنى .. )) متفق عليه .
وثبت أنهم كانوا يقومون في زمن عمر بعشرين ركعة ، رواه عبد الرزاق . وثبت في "الموطأ" أمره أبيًّا وتميمًا الداري أن يقوما بالناس بإحدى عشرة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " له أن يصلي عشرين ركعة ، كما هو مشهور مذهب أحمد والشافعي ، وله أن يصليها ستًا وثلاثين كما هو مذهب مالك ، وله أن يصلي إحدى عشرة ركعة وثلاث عشرة ركعة ، وكلٌّ حسن ؛ فيكون تكثير الركعات وتقليلها بحسب طول القيام وقصره " .
ووقتها ما بين صلاة العشاء والوتر ، سواء فعلت العشاء في وقتها أو مجموعة مع المغرب .
باب في السنن الراتبة مع الفرائض
وجملة السنن الرواتب ثنتا عشرة ركعة ، وبيانها كالتالي :
- أربع قبل الظهر .
- وركعتان بعد الظهر .
- وركعتان بعد المغرب .
- وركعتان بعد العشاء .
- وركعتان قبل الفجر .
والدليل على هذه الرواتب بهذا التفصيل المذكور هو حديث ابن عمر - رضي الله عنهما قال : (( حفظت من رسول الله عشر ركعات : ركعتين قبل الظهر ، وركعتين بعدها ، وركعتين بعد المغرب في بيته ، وركعتين بعد العشاء في بيته ، وركعتين قبل الصبح ، وكانت ساعة لا يدخل على النبي فيها أحد ، حدثتني حفصة أنه كان إذا أذن المؤذن وطلع الفجر ، صلى ركعتين )) متفق عليه .
وفي "صحيح مسلم" عن عائشة -رضي الله عنها-: (( كان يصلي قبل الظهر أربعاً في بيتي ، يخرج فيصلي بالناس ، ثم يرجع إلى بيتي فيصلي ركعتين )) .
مسألة : وفعل الراتبة في البيت أفضل من فعلها في المسجد ، لفعل النبي وأمره ، وذلك لمصالح تترتب على ذلك :
منها : اتباع السنة .
ومنها : ما روى زيد بن ثابت أن النبي قال: (( أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة )) متفق عليه .
ومنها : البعد عن الرياء والإعجاب .
ومنها : أن ذلك سبب لتمام الخشوع والإخلاص .
ومنها : عمارة البيت بذكر الله والصلاة ، تنـزل الرحمة على أهل البيت ، ويبتعد عنه الشيطان .
وآكد هذه الرواتب ركعتا الفجر ؛ لقول عائشة -رضي الله عنها-: (( لم يكن النبي على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر )) متفق عليه .
وقال - عليه الصلاة والسلام- في حديث عائشة -رضي الله عنها-: (( ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها )) رواه مسلم ، ولهذا كان النبي يحافظ عليهما وعلى الوتر في الحضر والسفر .
وما عدا سنة الفجر من السنن الرواتب فالسنة تركه في السفر ، وأما بقية التطوعات كصلاة الضحى ، وقيام الليل ، وسنة الوضوء ، وغير ذلك فيشرع في السفر .
ولركعتي الفجر سنن :
تخفيفهما ؛ لما في الصحيحين وغيرهما عن عائشة -رضي الله عنها- (( أن النبي كان يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح )) .
وأن يقرأ في الركعة الأولى من سنة الفجر بعد الفاتحة : قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] ، وفي الثانية : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الاخلاص:1] أحياناً ، وأحياناً يقرأ في الأولى منهما : قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا... [البقرة: 136] الآية التي في سورة البقرة ، ويقرأ في الركعة الثانية : قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا.. [آل عمران: 64] ، كما ثبت ذلك بالسنة .
وأن يضطجع بعدهما على جنبه الأيمن إن احتاج إلى ذلك ، لما ثبت من فعله وأن يفعلهما في بيته .
مسألة : وإذا فات شيءٌ من هذه السنن الرواتب أو الوتر لعذر ؛ فإنه يسن قضاؤه في النهار شفعًا ، فإذا أراد أن يوتر بخمس مثلاً ، صلى من النهار ستاً ؛ لأنه قضى ركعتي الفجر حين نام عنهما ، وقضى الركعتين اللتين قبل الظهر بعد العصر ، ويقاس الباقي من الرواتب في مشروعية قضائه إذا فات على ما فيه النص ، وقال في حديث أبي سعيد : (( من نام عن الوتر أو نسيه ؛ فليصله إذا أصبح أو ذكر )) رواه الترمذي ، وأبو داود .
صلاة الضحى
صلاة الضحى سنة مؤكدة مطلقًا كل يوم ؛ لقوله - تعالى-: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ .. [النور:36- 37].
ولما ورد عن أبي ذر أن النبي قال : (( يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة ، فكل تسبيحة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، ويجزيء من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى )) رواه مسلم .
قد وردت في صلاة الضحى أحاديث كثيرة :
منها : ما في الصحيحين عن أبي هريرة قال : (( أوصاني خليلي رسول الله بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وركعتي الضحى ، وأن أوتر قبل أن أنام )) .
مسألة : وأقل صلاة الضحى ركعتان ؛ لقوله في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- الذي ذكرنا قريباً : (( وركعتي الضحى )) ، ولا حد لأكثرها .
مسألة : وقت صلاة الضحى يبتدئ من ارتفاع الشمس بعد طلوعها قدر رمح ، أي بعد طلوع الشمس بقدر ثنتي عشرة دقيقة تقريباً .
ويمتد إلى قبيل الزوال ؛ أي : وقت قيام الشمس في كبد السماء ، بقدر عشر دقائق تقريبًا ، والأفضل أن تصلى إذا اشتد الحر ؛ لحديث زيد ابن أرقم مرفوعًا : (( صلاة الأوابين حين ترمض الفصال )) رواه مسلم ؛ أي: حين تحمى الرمضاء ؛ فتبرك الفصال من شدة الحر .
سجود التلاوة
يسن سجود التلاوة للقارئ والمستمع ، ولا يجب ؛ لما روى زيد بن ثابت قال: (( قرأت على النبي والنجم ولم يسجد فيها )) متفق عليه .
وقال عمر : (( إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء )) رواه البخاري .
وقد أجمع العلماء على مشروعيته .
قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: (( كان النبي يقرأ علينا السورة فيها السجدة ، فيسجد ، ونسجد معه ، حتى ما يجد أحدنا موضعاً لجبهته )) متفق عليه .
والمستمع هو الذي يقصد الاستماع للقراءة ، وأما السامع ، فهو الذي لم يقصد الاستماع ؛ فلا يشرع في حقه سجود التلاوة ؛ لما روى البخاري أن عثمان مرَّ بقارئ يقرأ سجدة ليسجد معه عثمان فلم يسجد ، وقال: (( إنما السجدة على من استمع )) .
وسجدات التلاوة في : الأعراف ، والرعد ، والنحل ، والإسراء ، ومريم ، والحج ، والفرقان ، والنمل ، و ألم تنـزيل السجدة ، و حم غافر ، والنجم ، والانشقاق ، و اقرأ باسم ربك ، وسجدة ص .
وسجود التلاوة ليس صلاة ، فلا يشترط له ما يشترط للصلاة من الطهارة ، واستقبال القبلة ، وستر العورة ...الخ .
ويقول في سجوده : ((سبحان ربي الأعلى)) كما يقول في سجود الصلاة، وإن قال: ((سجد وجهي لله الذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، بحوله وقوته)) فلا بأس ، صححه الترمذي (( اللهم اكتب لي بها أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود )) استغربه الترمذي .
ولا تكبير لسجود التلاوة عند الخفض أو الرفع ، ولا تسليم ولا تشهد لعدم ثبوت ذلك .
وأما إذا كان في الصلاة فإنه يكبر في كل خفض ورفع ؛ لأنه عليه الصلاة و السلام كان يكبر في كل خفض ورفع .
التطوع المطلق :
التطوع : مأخوذ من الطوع ، وهو نقيض الكره .
وفي الإصطلاح : فعل طاعة غير واجبة .
المقيد هو : ما قيد بزمان أو مكان أو حال .
والمطلق : هو الذي لم يقيد بزمان ولا مكان ولاحال .
والتطوع المطلق ليلا أفضل منه نهارًا .
قال تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16-17]
وقال : (( إنَّ في الليل ساعة ، لا يوافقها عبد مسلم ، يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة ؛ إلا أعطاه إياه )) رواه مسلم من حديث جابر .
وروى أبو هريرة قال: سئل رسول الله أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة ؟ قال: (( صلاة الليل )) رواه مسلم .
والنصوص في ذلك كثيرة تدل على قيام الليل ؛ فالتطوع المطلق أفضله قيام الليل ؛ لأنه أبلغ في الإسرار ، وأقرب إلى الإخلاص ، ولأنه وقت غفلة الناس ، ولما فيه من إيثار الطاعة على النوم والراحة .
وأفضل الليل ثلثه بعد سدسه ، لما في "الصحيح" مرفوعاً من حديث عبد الله بن عمرو : (( أفضل الصلاة صلاة داود ، كان ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه ، وينام سدسه )) متفق عليه ، فكان يريح نفسه بنوم أول الليل، ثم يقوم في الوقت الذي ينادي الله فيه ، فيقول : (( هل من سائل فأعطيه سؤله ؟ )) ، ثم ينام بقية الليل في السدس الأخير ؛ ليأخذ راحته ، حتى يستقبل صلاة الفجر بنشاط ، هذا هو الأفضل ، وإلا فالليل كله محل للقيام من غروب الشمس إلى طلوع الفجر .
ولقيام الليل آداب وسنن :
منها: أن ينوي قيام الليل عند نومه .
ومنها: أن يستاك إذا استيقظ .
ومنها: أن يذكر الله ويقول : (( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله )) ثم يدعو ، رواه البخاري .
ومنها: أن يقول: (( الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور )) متفق عليه.
ومنها: أن يقول: (( الحمد لله الذي عافاني في جسدي ورد علي روحي ، وأذن لي بذكره )) رواه الترمذي .
ومنها: أن يمسح النوم عن وجهه بيده ، ويرفع بصره إلى السماء ، ويقرأ الآيات من آخر سورة آل عمرآن ، من قوله : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... [آل عمران: 190 وما بعدها] الآيات .
ومنها: أن يفتتح تهجده بركعتين خفيفتين ؛ لحديث أبي هريرة : (( إذا قام أحدكم من الليل؛ فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين )) رواه مسلم وغيره .
ومنها: أن يسلم في صلاة الليل من كل ركعتين ؛ لقوله في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: (( صلاة الليل مثنى مثنى )) متفق عليه ، ومعنى: (( مثنى مثنى )) ؛ أي: ركعتان ركعتان ؛ بتشهد وتسليمتين ؛ فهي ثنائية لا رباعية .
ومنها: أن يطيل القيام والركوع والسجود ، وإن فاضل بين القيام والركوع والسجود فعل الأخشع لقلبه .
ومنها: أن يكون تهجده في بيته قال - عليه الصلاة والسلام - في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما- : (( أفضل صلاة المرة في بيته ؛ إلا المكتوبة )) متفق عليه ، ولأنه أقرب إلى الإخلاص .
ومنها: أن يسأل عند آية وعد ويستعيذ عند آية وعيد ، لحديث حذيفة رواه مسلم .
ومنها: أن يعنى بأذكار الصلاة الواردة من الإستفتاحات ، وأذكار الركوع والسجود ، والجلوس .
مسألة : وصلاة النافلة قاعداً لعذر أجره كأجر القائم ؛ لقوله في حديث أبي موسى : (( إذا مرض العبد أو سافر ، كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم )) رواه البخاري ، وجواز التطوع جالساً مع القدرة على القيام مجمع عليه .
ويختم صلاته بالوتر ؛ فقد كان النبي يجعل آخر صلاته بالليل وتراً ، وأمر بذلك في أحاديث كثيرة .
ومن فاته تهجده من الليل ، استحب له قضاؤه قبل الظهر ؛ لحديث عمر : (( من نام عن حزبه من الليل، أو عن شيءٍ منه، فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر؛ كتب له، كأنما قرأه من الليل )) رواه مسلم .
باب في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها
هناك أوقات ورد النهي عن الصلاة فيها إلا ما استثني ، وهي أوقات خمسة :
أولاً : من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس؛ لقوله في حديث أبي هريرة : (( إذا طلع الفجر؛ فلا صلاة إلاَّ ركعتي الفجر )) رواه أحمد وأبو داود وغيرهما ، فإذا طلع الفجر فإنه لا يصلي تطوعاً إلا راتبة الفجر ، إذ هذا هو هدي النبي .
وذهب الشافعي إلى أن النهي يبدأ بعد صلاة الفجر ، لحديث أبي سعيد الآتي .
الثاني : من طلوع الشمس حتى ترتفع قدر رمح في رأي العين بقدر ثنتي عشرة دقيقة تقريبا .
والثالث : عند قيام الشمس حتى تزول ، وقيام الشمس يعرف بوقوف الظل ، لا يزيد ولا ينقص إلى أن تزول إلى جهة الغرب ؛ لقول عقبة بن عامر : (( ثلاث ساعات نهانا رسول الله أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع ، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول ، وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب )) رواه مسلم .
والرابع : من صلاة العصر إلى غروب الشمس ؛ لقوله في حديث أبي سعيد الخدري : (( لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس ، ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغيب )) متفق عليه .
والوقت الخامس : إذا شرعت الشمس في الغروب بمغيب حاجبها حتى تغيب لما تقدم من حديث عقبة .
مسألة : ويجوز في أوقات النهي :
1. قضاء الفرائض الفائتة في هذه الأوقات ؛ لعموم قوله في حديث أنس : (( من نام عن صلاة أو نسيها ؛ فليصلها إذا ذكرها ؛ لا كفارة لها إلا ذلك )) متفق عليه .
2. وأيضاً على الصحيح من قولي العلماء في هذه الأوقات فعل ذوات الأسباب من الصلوات ؛ كصلاة الجنازة ، وتحية المسجد ، وصلاة الكسوف ؛ وركعتي الطواف ، وركعتي الوضوء ، وإعادة الجماعة ، وصلاة الاستخارة لما يفوت ، وغير ذلك ؛ للأدلة الدالة على فعل هذه الصلوات دون التقييد بزمن ، وهذه تخص عموم النهي عن الصلاة في هذه الأوقات، فتحمل على ما لا سبب له ؛ فلا يجوز فعلها بأن تُبتدأ في هذه الأوقات صلاة تطوع لا سبب لها .
3. قضاء سنة الفجر بعد صلاة الفجر ؛ إن ثبت الحديث ، وكذا يجوز أن تقضى سنة الظهر بعد العصر ، ولا سيما إذا جمع الظهر مع العصر ؛ فقد ثبت عن النبي أنه قضى سنة الظهر بعد العصر ، كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - رواه مسلم .
باب في وجوب صلاة الجماعة وفضلها
شرعت صلاة الجماعة ؛ لما يترتب عليها من مصالح عظيمة .
فمن ذلك : التواصل بين المسلمين بالإحسان، والعطف، والرعاية، والتوادد، والتحابب بينهم في القلوب، ولأجل أن يعرف بعضهم أحوال بعض؛ فيقومون بعيادة المرضى، وتشييع المتوفى، وإغاثة الملهوفين، ولأجل إظهار قوة المسلمين وتعارفهم وتلاحمهم؛ فيغيظون بذلك أعداءهم من الكفار والمنافقين، ولأجل إزالة ما نسجه بينهم شياطين الجن والإنس من العداوة والتقاطع والأحقاد؛ فيحصل الائتلاف واجتماع القلوب على البر والتقوى، ولهذا قال النبي : (( لا تختلفوا ؛ فتختلف قلوبكم )) رواه مسلم من حديث أبي مسعود .
ومن فوائد صلاة الجماعة أيضاً : تعليم الجاهل ، ومضاعفة الأجر ، والنشاط على العمل الصالح عندما يشاهد المسلم إخوانه المسلمين يزاولون الأعمال الصالحة ، فيقتدي بهم .
وفي الحديث المتفق عليه عن ابن عمر عن النبي : (( صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة )) ، وفي رواية : (( بخمس وعشرين )) .
حكم صلاة الجماعة : صلاة الجماعة فرض على الرجال في الحضر والسفر ، وفي حال الأمان والخوف ، وجوباً عينيّاً ، والدليل على ذلك الكتاب والسنة ، وعمل المسلمين قرناً بعد قرن ، خلفاً عن سلف .
قال الله -تعالى- في حال الخوف : وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ … [النساء: 102].
لم يرخص للمسلمين في تركها حال الخوف .
وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة عن النبي أنه قال : (( أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما؛ لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لايشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار )) .
فوصف المتخلفين عنها بالنفاق ، والمتخلف عن السنة لا يعد منافقاً ؛ فدل على أنهم تخلفوا عن واجب .
ولأنه هم بعقوبتهم على التخلف عنها، والعقوبة إنما تكون على ترك واجب، وإنما منعه من تنفيذ هذه العقوبة لأنه لا يعذب بالنار إلا رب النار ولمن في البيوت من النساء والذراري الذين لا تجب عليهم الجماعة .
وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة أن رجلا أعمى قال: يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأله أن يرخص له أن يصلي في بيته، فرخص له، فلما ولَّى دعاه، فقال: (( هل تسمع النداء ؟ )) قال : نعم ، قال: (( فأجب )). فأمره النبي بالحضور إلى المسجد لصلاة الجماعة وإجابة النداء مع ما يلاقيه من المشقة ، فدل ذلك على وجوب صلاة الجماعة .
قال ابن مسعود : (( ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف )) رواه مسلم .
مسألة : المتخلف عن صلاة الجماعة إذا صلى وحده ؛ له حالتان :
الحال الأولى : أن يكون معذوراً بمرض أو خوف ونحو ذلك، وليس من عادته التخلف لولا العذر ؛ فهذا يكتب له أجر من يصلي في جماعة لما في الحديث الصحيح: ((
إذا مرض العبد أو سافر؛ كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً )) رواه البخاري من حديث أبي موسى .
والحال الثانية : أن يكون تخلفه عن الصلاة مع الجماعة لغير عذر ؛ فهذا إذا صلى وحده ؛ تصح صلاته عند الجمهور ؛ لكنه يخسر أجراً عظيماً وثواباً جزيلاً ؛ لأن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة ، وكذلك يفقد أجر الخطوات التي يخطوها إلى المسجد ، ومع خسرانه لهذا الثواب الجزيل يأثم ؛ لأنه ترك واجباً عليه من غير عذر .
مسألة : مكان صلاة الجماعة هو المساجد فيجب فعلها فيها ، قال الله تعالى : فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] .
وفي حديث ابن عباس مرفوعاً : (( من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر )) رواه ابن ماجه ، والدارقطني ، وصححه الحاكم ، وابن حجر وغيرهم وله شاهد من حديث أبي موسى -رضي الله عنه- .
وقد ورد عن علي أنه قال : ( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ) رواه البيهقي بإسناد صحيح .
أقل ما تنعقد به صلاة الجماعة :
أقل ما تنعقد به صلاة الجماعة اثنان ؛ لأن الجماعة مأخوذ من الاجتماع ، وهو الاثنان إذ هو أقل ما يتحقق به الجمع ، لقوله لمالك بن الحويرث : (( وليؤمكما أكبركما )) متفق عليه.
ولأن النبي صلى بابن مسعود ، وصلى بابن عباس ، متفق عليهما ، وصلى بحذيفة ، رواه مسلم .
مسألة : ويباح للنساء حضور صلاة الجماعة في المساجد بإذن أزواجهن غير متطيبات ، وغير متبرجات بزينة مع الستر التام والابتعاد عن مخالطة الرجال ، ويكن وراء صفوف الرجال ؛ لحضورهن على عهد النبي ، ويسن حضورهن مجالس الوعظ ومجالس العلم .
مسألة : وللنساء صلاة الجماعة منفردات عن الرجال ؛ سواء كانت إمامتهن منهن ، أو يؤمهن رجل ؛ لأن النبي : (( أمر أم ورقة أن تجعل لها مؤذناً ، وأمرها أن تؤم أهل دارها )) رواه أحمد وأهل السنن ، وصححه ابن خزيمة .
ولما ثبت من فعل عائشة ، وأم سلمة -رضي الله عنهما- ، رواه الدارقطني والبيهقي .
مسألة : والأفضل للمسلم أن يصلي في المسجد الذي لا تقام فيه صلاة الجماعة إلا بحضوره ؛ لأنه يحصل بذلك على ثواب عمارة المسجد ؛ فقد قال الله تعالى : إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر... [التوبة: 18]
وإن كانت تقام بغير وجوده فالأفضل الأخشع لقلبه ، لأن الفضل المتعلق بذات العبادة ، أولى من الفضل المتعلق بمكانها أو زمانها ، ثم ما حوله من المساجد ، لقول علي : (( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد )) رواه البيهقي بإسناد صحيح .
ثم بعد ذلك الصلاة في المسجد الأبعد مسافة ؛ لقوله في حديث أبي موسى : (( أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى ، وذلك بأن أحدكم إذا توضأ فأحسن الوضوء ، وأتى إلى المسجد لا يريد إلا الصلاة ؛ لم يخط خطوة ؛ إلا رفع له بها درجة ، وحط عنه بها خطيئة، حتى يدخل المسجد )) رواه مسلم ، ولقوله - عليه الصلاة والسلام-: (( يا بني سلمة ! دياركم تكتب آثاركم )) رواه مسلم .
ثم بعد ذلك الأكثر جماعة لقوله في حديث أبي بن كعب : (( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل ، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله )) رواه أحمد وأبو داود ، وصححه يحي بن معين وابن المديني وابن حبان .
مسألة : يحرم أن يؤم الجماعة في المسجد أحد غير إمامه الراتب إلا بإذنه أو عذره ، ففي "صحيح مسلم" وغيره عن أبي مسعود البدري أن النبي قال : (( ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه إلا بإذنه )) .
فإن تأخر الإمام عن الحضور ، وشق على الناس أو ضاق الوقت ؛ صلوا ؛ لفعل أبي بكر الصديق ( حين غاب النبي في ذهابه إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم ، فصلى أبو بكر ) متفق عليه ، وصلى عبد الرحمن بن عوف بالناس لما تخلف النبي في غزوة تبوك ، وصلى معه النبي الركعة الأخيرة ، ثم أتم صلاته وقال : (( أحسنتم )) متفق عليه .
مسألة : من صلى ثم حضر إقامة الصلاة في المسجد لحاجة ؛ سن له أن يصلي مع الجماعة تلك الصلاة التي أقيمت ؛ ولو كان وقت نهي ، لحديث أبي ذر أن قال : (( صل
الصلاة لوقتها ، فإن أقيمت وأنت في المسجد فصل ، ولا تقل : إني صليت فلا أصلي )) رواه مسلم .
وتكون هذه الصلاة في حقه نافلة ، ولا يشرع تتبع المساجد بغرض إعادة الجماعة ، لعدم وروده .
مسألة : إذا أقيمت الصلاة – أي : إذا شرع المؤذن في إقامة الصلاة- ؛ لم يجز الشروع في صلاة نافلة لا راتبة ولا تحية مسجد ولا غيرها ؛ لقوله في حديث أبي هريرة : (( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة )) رواه مسلم ، وفي رواية : (( فلا صلاة إلا التي أقيمت)) فلا تنعقد صلاة النافلة التي أحرم فيها بعد إقامة الفريضة التي يريد أن يفعلها مع ذلك الإمام الذي أقيمت له .
وإن أقيمت الصلاة وهو في صلاة النافلة قد أحرم بها من قبل ؛ أتمها خفيفة ، ولا يقطعها إن صلى ركعة قبل إقامة الصلاة ؛ لقوله في حديث أبي هريرة : (( من أدرك ركعة من الصلاة ، فقد أدرك الصلاة )) متفق عليه ، وإن لم يصل ركعة قطعها .
الأحكام التي تتعلق بالمسبوق :
المراد بالمسبوق : من فاتته ركعة فأكثر من صلاة الإمام .
الصحيح من قولي العلماء أن المسبوق لا يدرك صلاة الجماعة ، إلا بإدراك ركعة ، فإن أدرك أقل من ذلك ؛ لم يكن مدركاً للجماعة .
وتدرك الركعة بإدراك الركوع على الصحيح ؛ لما في الصحيحين من حديث أبي بكرة ، وقد جاء والنبي في الركوع ، فركع دون الصف ، ولم يأمره النبي بإعادة الركعة ، فدل على الاجتزاء بها .
فإذا أدرك الإمام راكعاً ؛ فإنه يكبر تكبيرة قائماً ، ثم يركع معه بتكبيرة ثانية ، هذا هو الأفضل ، وإن اقتصر على تكبيرة الإحرام ؛ أجزأته عن تكبيرة الركوع ؛ فتكبيرة الإحرام ؛ لابد من الإتيان بها وهو قائم ، وأما تكبيرة الركوع ؛ فالإتيان بها سنة هنا .
ويدرك المأموم الركوع : إذا اجتمع مع الإمام في الركوع المجزيء و تقدم بيانه في أركان الصلاة .
وإن شك في إدراك الركوع ، فإن غلب على ظنه إدراكه اعتد بهذه الركعة ، وسجد للسهو بعد السلام .
وإذا لم يغلب على ظنه شيء أتى بركعة وسجد للسهو قبل السلام .
وإذا وجد المسبوق الإمام على أي حال من الصلاة ؛ دخل معه ؛ لحديث أبي هريرة مرفوعاً : (( إذا جئتم إلى الصلاة ، ونحن سجود ؛ فاسجدوا ، ولا تعدوها شيئاً )) رواه أبو داود وغيره وصححه ابن خزيمة وغيره ، لكن ضعفه البخاري ، ولئلا يخالف الناس هم في صلاة ، وهو في خارج الصلاة ، والمخالفة منهي عنها .
فإذا سلم الإمام التسليمة الثانية ؛ قام المسبوق ليأتي بما فاته من الصلاة ، ولا يقوم قبل التسليمة الثانية .
مسألة : وما أدرك المسبوق مع الإمام ؛ فهو أول صلاته على القول الصحيح ، وما يأتي به بعد سلام الإمام هو آخرها ؛ لقوله في حديث أبي هريرة : (( وما فاتكم ؛ فأتموا )) متفق عليه .
مسألة : وإذا كانت الصلاة جهرية ؛ فلعل الأقرب من أقوال العلماء : أن المأموم لا يجب عليه أن يقرأ الفاتحة في الركعات التي يجهر بها الإمام ؛ لقوله تعالى : وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204] قال الإمام أحمد : " أجمع الناس على أن هذه الآية في الصلاة " . ولحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعاً : (( وإذا اقرأ فأنصتوا )) صححها مسلم . ولحديث جابر وأبي هريرة وغيرهما .
أما إذا كانت الصلاة سرية ، أو كان المأموم لا يسمع الإمام ؛ فإنه يجب عليه أن يقرأ الفاتحة في هذه الحال .
أحوال المأموم مع الإمام :
من أحكام صلاة الجماعة المهمة وجوب اقتداء المأموم بالإمام بالمتابعة التامة له .
والمأموم له مع الإمام أربع حالات :
الحالة الأولى : المسابقة ، بأن يركع قبله ، أو يسجد قبله ، أو يركع ويرفع قبله ونحو ذلك ، فهذا محرم ؛ لأن المأموم متبع لإمامه ، مقتد به ، والتابع المقتدي لا يتقدم على متبوعه وقدوته ، وقد قال في حديث أبي هريرة : (( أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار، أو يجعل صورته صورة حمار! )) متفق عليه ، فمن تقدم على إمامه كان كالحمار الذي لا يفقه ما يراد بعمله ، ومن فعل ذلك ؛ استحق العقوبة .
فمن فعل ذلك عالماً عامداً ، بطلت صلاته ، وإن كان جاهلاً أو ناسياً ، فصلاته صحيحة ، لكن يجب عليه أن يرجع لكي يأتي بذلك بعد الإمام ، فإن لم يفعل عالما عامدا بطلت صلاته .
وفي حديث أبي هريرة : (( إنما جعل الإمام ليؤتم به ؛ فلا تركعوا حتى يركع ، ولا يسجدوا حتى يسجد )) رواه أحمد وأبو داود .
وإن سبقه بتكبيرة الإحرام لم تنعقد صلاته مطلقاً .
الحالة الثانية : المتابعة ، وهذا هو السنة ، وذلك بأن يشرع المأموم بالركن بعد تلبس الإمام به ، ففي حديث عمرو بن حريث أن الصحابة خلف النبي لا يحني أحد منهم ظهره حتى يقع رسول الله ساجداً ، ثم يقعوا سجوداً بعده ، رواه مسلم .
الحالة الثالثة : الموافقة ، بأن يأتي بالفعل أو القول مع الإمام ، فإن كان في تكبيرة الإحرام ، لم تنعقد صلاته ولو جاهلا ، وفي غيرها يكره أن يوافقه في الركوع ، والسجود ، والقيام ، ... وإن وافقه في أذكار الركوع والسجود ، ونحوهما لم يكره ، وإن وافقه في التسليم ، كره .
الحالة الرابعة : التخلف ، بأن يتخلف عن إمامه في أفعال الصلاة ، وله حالتان :
الأولى : أن يكون لغير عذر ، فإن أدرك إمامه قبل أن ينفصل الإمام من الركن ، فلا شيء عليه ، لكنه خالف السنة ، وإن انفصل إمامه عن الركن قبل أن يشرع المأموم فيه فصلاته باطلة إن كان عالما عامداً .
الثانية : أن يكون لعذر كأن ينام المأموم ، أو لم يتمكن من سماع الإمام ، فإن زال عذره قبل أن يصل الإمام إلى موضعه أي موضع المأموم ، فإنه يأتي بما تخلف به عن الإمام ويتابع الإمام ، مثال ذلك : زال عذره وهو قائم والإمام ساجد فيركع ويسجد ويتابع الإمام ، وإن لم يزل عذره حتى أدركه الإمام في موضع تخلفه كأن تخلف عن الإمام وهو قائم ، ثم أدركه الإمام وهو قائم ، فإنه يتابع الإمام ، ويأتي بركعة .
أحكام الإمامة
الأولى بالإمامة : أي الأحق بها . وهذا إنما يكون في مسجد لا إمام له راتب ، أو في جماعة مستقلة عن المساجد .
الأولى بالإمامة :
الأولى بالإمامة الأقرأ لكتاب الله -تعالى- أي الأكثر حفظاً لكتاب الله - تعالى- ، وقيل هو : الذي يجيد قراءة القرآن ؛ بأن يعرف مخارج الحروف ، ولا يلحن فيها ، ويطبق قواعد القراءة من غير تكلف ولا تنطع ، ويكون مع ذلك يعرف فقه صلاته وما يلزم فيها كشروطها وأركانها وواجباتها ومبطلاتها ؛ لأن الأقرأ في زمن النبي يكون أفقه .
فإذا استووا في القراءة ؛ قدم الأفقه أي : الأكثر فقها في أحكام الصلاة ؛ لجمعه بين ميزتين : القراءة والفقه ؛ لقوله : (( فإذا كانوا في القراءة سواء؛ فأعلهم بالسنة )) رواه مسلم من حديث أبي مسعود البدري ؛ أي : أفقههم في دين الله ، ولأن ما يجب في الصلاة من القراءة محصور ، وما يقع فيها من الحوادث غير محصور .
فإذا استووا في الفقه والقراءة ؛ قدم الأقدم هجرة ، والهجرة : الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام .
فإذا استووا في القراءة والفقه والهجرة ؛ قدم الأسبق إسلاماً ، ثم الأكبر سناً ؛ لقوله : (( وليؤمكم أكبركم )) متفق عليه ، من حديث مالك بن الحويرث ؛ لأن كبر السن في الإسلام فضيلة ، ولأنه أقرب إلى الخشوع وإجابة الدعاء .
والدليل على هذا الترتيب الحديث الذي رواه مسلم عن أبي مسعود البدري عن النبي قال : (( يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء ؛ فأعلمهم بالسنة ، فإن كانوا في السنة سواء ، فأقدمهم هجرة ؛ فإن كانوا في الهجرة سواء ؛ فأقدمهم سناً )).
ويقدم في الإمامة على من حضر ولو كان أفضل منه ، ما يلي :
أولاً : إمام المسجد الراتب ، إذا كان أهلاً للإمامة لم يجز أن يتقدَّم عليه غيرُه ، ولو كان أفضلَ منه ؛ إلا بإذنه .
ثانياً : صاحبَ البيت ، إذا كان يصلُح للإمامة ؛ لم يَجُزْ أن يتقدم عليه أحدٌ في الإمامة ؛ إلاَّ بإذنه .
ثالثاً : السُّلطانُ ، وهو : الإمامُ الأعظمُ أو نائبُه ؛ فلا يَتقدَّم عليه أحدٌ في الإمامة ، إلاَّ بإذنه ، إذا كان يصلح للإمامة .
ودليل ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من قوله : (( ولا يؤمن الرجل الرجل في بيته ولا في سلطانه إلا بإذنه )) ، وسلطانه : محلُّ ولايته أو ما يملكه .
من لا يولى الإمامة في الصلاة
المسألة الأولى : إمامة الفاسق في الصلاة ، والفاسق : هو من خرج عن حد الاستقامة بارتكاب كبيرة من كبائر الذنوب التي هي دون الشرك ، أو أصر على صغيرة .
والفسق نوعان : فسق عملي ، وفسق اعتقادي .
فالفسق العملي : كارتكاب فاحشة الزنى ، أو السرقة ، أو شرب الخمر … ونحو ذلك .
والفسق الاعتقادي : كالرفض ، والاعتزال ، والتجهم .
فلا يرتب الفاسق إماما للصلاة ؛ لأن الفاسق لا يقبل خبره ، قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6] ؛ فلا يؤمن على شرائط الصلاة وأحكامها ، ولأنه يكون قدوة سيئة لغيره ؛ ففي توليته مفاسد .
لكن لو صلى بالناس فالصلاة صحيحة ، لأن من صحت صلاته ؛ صحت إمامته .
المسألة الثانية : إمامة العاجز ، عن ركن أو شرط .
تصح إمامة العاجز عن ركن ركوع أو سجود أو قعود ؛ أو قيام ، أو شرط لقول عائشة -رضي الله عنها- : (( صلى النبي في بيته وهو شاك ، فصلى جالساً ، وصلى وراءه قوم قياماً ، فأشار إليهم أن جلسوا ، فلما انصرف )) ؛ قال : (( إنما جعل الإمام ليؤتم به … الحديث ))، وفيه : (( وإذا صلى جالساً ؛ فصلوا جوساً أجمعون )) متفق عليه ، لكن إذا افتتح الصلاة جالساً صلوا خلفه جلوساً وجوباً .
وإن افتتحها قائماً ثم اعتل صلوا خلفه قياماً وجوباً .
المسألة الثالثة : إمامة المحدث ، إذا صلى المحدث بالناس ، فلا يخلو من أحوال :
الأولى : أن لا يعلم بالحدث إلا بعد انتهاء الصلاة ، فصلاة المأمومين صحيحة ، وصلاته باطلة . لما روى أبو هريرة مرفوعاً : (( يصلون لكم ، فإن أصابوا فلكم ولهم ، وإن أخطأوا، فلكم وعليهم )) رواه البخاري .
ولأن كلا من عمر وعثمان ، صلى بالناس وهو جنب ، فأعاد وحده .
والثاني : أن يعلم بالحدث في أثناء الصلاة ، أو يحدث ، فصلاة المأمومين صحيحة ، وتبطل صلاة الإمام ، ويستخلف من يصلي بالناس ، أو يخلفون من يصلي بهم ، أو يتمون لأنفسهم فرادى .
الثالث : أن يعلم بحدث الإمام بعض المأمومين ، فإنه ينوي الإنفراد عن الإمام ، ولا يتابعه وصلاة من لم يعلم من المأمومين صحيحة .
المسألة الرابعة : إمامة من عليه نجاسة :
إذا صلى من عليه نجاسة بالناس ، فلا يخلو من أمور :
الأول : أن لا يعلم الإمام والمأموم ، إلا بعد انتهاء الصلاة ، فصلاة الإمام والمأمومين صحيحة .
الثاني : أن يعلم الإمام بالنجاسة في أثناء الصلاة ، فإن تمكن من إزالتها ؛ أزالها وأتم صلاته ، وإن لم يتمكن من إزالتها ، خلف من يصلي بالناس ، كما تقدم .
الثالث : أن يعلم أحد المأمومين بالنجاسة ، فصلاة الجميع صحيحة ، لأن صلاة الإمام صحيحة ؛ لكونه معذورا .
المسألة الخامسة : إمامة الأمي ، والمراد به هنا : من لا يحفظ سورة الفاتحة ، أو يحفظها ولكن لا يحسن قراءتها ؛ كأن يلحن فيها لحناً يحيل المعنى ؛ ككسر كاف إياكَ
، وضم تاء أنعمت ، وفتح همزة إهدنا ، أو يبدل حرفاً بغيره ، وهو الألثع ، كمن يبدل الراء غيناً أو لاماً ، أو السين تاء … ونحو ذلك ؛ فلا تصح إمامة الأمي إلا بأمي مثله ؛ لتساويهما ، إذا كانوا عاجزين عن إصلاحه ، فإن قدر الأمي على إصلاح قراءته ؛ لم تصح صلاته ولا صلاة من صلى خلفه ؛ لأنه ترك ركناً مع القدرة عليه .
مسألة : يكره أن يؤم الرجل قوماً أكثرهم يكرهه بحق ؛ بأن تكون كراهتهم لها مبرر من نقص في دينه ؛ لقوله : (( ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم : العبد الآبق حتى يرجع ، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط ، وإمام قوم وهم له كارهون )) رواه الترمذي وحسنه . أهـ .
باب فيما يشرع للإمام في الصلاة
يشرع لمن تولى الإمامة أن يهتم بشأنها ، وأن يوفيها حقها ما استطاع ، وله في ذلك الأجر العظيم ، ويراعي حال المأمومين ، ويتفقدهم، ويناصحهم ؛ عملاً بقوله - عليه الصلاة والسلام - : (( إذا صلى أحدكم بالناس ؛ فليخفف ؛ فإن فيهم السقيم والضعيف وذا الحاجة ، وإذا صلى لنفسه ؛ فليطول ما شاء )) رواه الجماعة من حديث أبي هريرة وفي "الصحيحين" من حديث ابن مسعود : (( أيها الناس! إن منكم منفرين ؛ فأيكم أم الناس ؛ فليوجز ؛ فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة )) وقال أنس : ( ما صليت خلف إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من النبي ) متفق عليه ، وهو القدوة في ذلك وفي غيره .
والتخفيف ينقسم إلى قسمين :
1. تخفيف لازم ، وهو اتباع هدي النبي في الصلاة قدر القراءة والتسبيح كما تقدم في صفة الصلاة .
2. تخفيف عارض ، وهو التخفيف عما جاءت به السنة لسبب من الأسباب .
وإذا آثر المأمومون التطويل ، وعددهم ينحصر ، بحيث يكون رأيهم في التطويل واحداً ؛ فلا بأس أن يطوِّل الإمام ؛ لاندفاع المفسدة ، وهي التنفير .
ويُكره أن يخفف الإمام في الصلاة تخفيفاً لا يتمكن معه المأموم من الإتيان بالمسنون ؛ كقراءة السورة ، والإتيان بثلاث تسبيحات في الركوع والسجود .
ويُسن أن يرتل القراءة ، ويتمهل في التسبيح والتشهد بقدر ما يتمكن من خلفه من الإتيان بالمسنون من التسبيح ونحوه ، وأن يتمكن من ركوعه وسجوده .
ويسن للإمام أن يطيل الركعة الأولى ؛ لقول أبي قتادة : ( كان النبي يطول في الركعة الأولى ) متفق عليه .
ويستحب الإمام إذا أحسَّ بداخلٍ وهو في الركوع أن يطيل الركوع حتى يلحقة الداخل فيه ويدرك الركعة ؛ إعانة له على ذلك ، لما رواه أحمد وأبو داود من حديث ابن أبي أوفى في صفة صلاة النبي أنه كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر ، حتى لايسمع وقع قدم . مالم يشق هذا الانتظار على مأموم ، فإن شقَّ عليه تركه ؛ لأنَّ حرمةَ الذي معه أعظم من حرمة الذي لم يدخل معه .
باب في صلاة أهل الأعذار
جمع عذر ، والمراد به هنا : المرض ، والسفر ، والخوف .
فأهل الأعذار هم المرضى ، والمسافرون ، والخائفون .
أولاً : صلاة المريض :
1. يلزم المريض أن يؤدي الصلاة قائماً ، وإن احتاج إلى الاعتماد على عصا ونحوه في قيامه أو مستندا على جدار ونحوه ؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
2. فإن لم يستطع المريض القيام في الصلاة ، بأن عجز عنه أو شق عليه وتحرج من ذلك ، أو خيف من قيامه زيادة مرض أو تأخر برء ؛ يصلي قاعداً .
ولا يشترط لإباحة القعود في الصلاة تعذر القيام ، ولا يكفي لذلك أدنى مشقة ؛ بل المعتبر المشقة الظاهرة .
3. فإن لم يستطع المريض الصلاة قاعداً ؛ بأن شق عليه الجلوس مشقة ظاهرة أو عجز عنه؛ فإنه يصلي على جنبه ، ويكون وجهه إلى القبلة ، والأفضل أن يكون على جنبه الأيمن ، إلا إن كان الأيسر أسهل، فهو أفضل ، وإن لم يكن عنده من يوجهه إلى القبلة ، ولم يستطع التوجه إليها بنفسه ؛ أو كان في توجهه حرج ومشقة ، صلى على حسب حاله ، إلى أي جهة تسهل عليه .
4. فإذا لم يقدر المريض أن يصلي على جنبه ؛ تعين عليه أن يصلي على ظهره ، وتكون رجلاه إلى القبلة مع الإمكان .
5. وإذا صلى المريض قاعداً ، ولا يستطيع السجود على الأرض ، أو صلى على جنبه أو على ظهره كما سبق ؛ فإنه يومئ برأسه للركوع والسجود ، ويجعل الإيماء للسجود
أخفض من الإيماء للركوع ، وإذا صلى المريض جالساً وهو يستطيع السجود على الأرض ؛ وجب عليه ذلك ، ولا يكفيه الإيماء ، والدليل على جواز صلاة المريض على هذه الكيفية المفصلة ما أخرجه البخاري وأهل السننن من حديث عمران بن حصين قال : كانت بي بواسير ، فسألت النبي فقال : (( صل قائماً ؛ فإن لم تستطع ؛ فصل قاعداً ، فإن لم تستطع ؛ فعلى جنبك )) زاد النسائي : (( فإن لم تستطع ؛ فمستلقياً )) .
6. فإن لم يتمكن من الإيماء بالرأس ، فإنه يستحضر أفعال الصلاة بقلبه ، ويحرك لسانه بأقوالها ، فإن لم يتمكن ، استحضر الأقوال أيضا بقلبه .
وما سبق بيانه هو في حق من ابتدأ الصلاة معذوراً ، واستمر به العذر إلى الفراغ منها ، وأما من ابتدأها وهو يقدر على القيام ، ثم طرأ عليه العجز عنه ، أو ابتدأها وهو لا يستطيع القيام ، ثم قدر عليه في أثنائها ، أو ابتدأها قاعداً ، ثم عجز عن القعود في أثنائها ، أو ابتدأها على جنب ، ثم قدر على القعود ؛ فإنه في تلك الأحوال ينتقل إلى الحالة المناسبة له شرعاً ، وجوباً عليه ؛ لقوله تعالى : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] ؛ فينتقل إلى القيام من قدر عليه ، وينتقل إلى الجلوس من عجز عن القيام في أثناء الصلاة … وهكذا .
مسألة : وإن قدر على القيام والقعود ، ولم يقدر على الركوع والسجود ؛ فإنه يومئ برأسه بالركوع قائماً ، ويومئ بالسجود قاعداً ؛ ليحصل الفرق بين الإيماءين حسب الإمكان .
ثانياً : صلاة الراكب : يجب على من يصلي الفريضة على مركوبه لعذر مما سبق ، ولا يمكنه النزول في الوقت ؛ أن يستقبل القبلة إن استطاع ؛ لقوله تعالى : وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ… [البقرة: 144] ، ويجب عليه فعل ما يقدر عليه من ركوع وقيام ، وسجود وطمأنينة ؛ لقوله تعالى : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] وما
لا يقدر عليه لا يكلف به . وإن لم يقدر على استقبال القبلة ؛ لم يجب عليه استقبالها ، وصلى على حسب حاله ، فإن لم يتمكن من الركوع والسجود ، أومأ بسجود قاعدا ، وبركوع قائما ؛ إن تمكن من القيام .
فإن تمكن من النزول في الوقت ، أو كانت تجمع لما بعدها وتمكن من النزول في وقت المجموعة ؛ انتظر حتى ينزل فيصلي صلاة تامة .
ثالثاً : صلاة المسافر :
أ. القصر :
يشرع للمسافر قصر الصلاة الرباعية من أربع إلى ركعتين ؛ كما دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع ، قال الله تعالى : وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ… [النساء: 101] والنبي لم يصل في السفر إلا قصراً ، والقصر أفضل من الإتمام في قول جمهور العلماء ، ويكره الإتمام عند شيخ الإسلام -رحمه الله- ، وفي الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها-: (( فرضت الصلاة ركعتين ركعتين؛ فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر )).
مسألة : ويبدأ القصر بخروج المسافر من عامر بلده ؛ لأن الله أباح القصر لمن ضرب في الأرض ، وقبل خروجه من بلده لا يكون ضارباً في الأرض ولا مسافراً ، ولأن النبي إنما كان يقصر إذا ارتحل .
ويقصر المسافر الصلاة في كل سفر ، ولو كان محرماً ؛ عند أبي حنيفة ، واختاره شيخ الإسلام -رحمه الله- ولو كان يتكرر سفره ؛ كصاحب البريد وسيارة الأجرة ممن يتردد أكثر وقته في طريق بين البلدان ، لعموم الأدلة .
وليس للسفر مسافة محددة ، بل كل ما دل عليه العرف ، فالمسافة القصيرة في الزمن الطول سفر ، فالأقسام أربعة :
1. أن تكون المسافة طويلة ، والزمن طويل ، فهذا سفر .
2. أن تكون المسافة طويلة ، والزمن قصير ، فسفر إن دل العرف على ذلك .
3. أن تكون المسافة قصيرة ، والزمن قصر ، فليس سفراً ، إلا إن دل العرف عليه .
4. أن تكون المسافة قصيرة ، والزمن طويل ، كما لو لم يرجع إلى أهله في يومه فيقصر .
مسألة : فإن إئتم مسافر خلف مقيم ، فإن كان في رباعية ، أتم أربعا إن أدرك من صلاته ركعة فأكثر ، وإلا قصر ، وإن صلى خلفه في ثنائية قصر ، وفي ثلاثية خير .
مسألة : ولا تشترط نية القصر ، فيقصر من لم ينو القصر .
مسألة : وليس للمسفر الذي تقصر فيه الصلاة مدة محدودة إذا أقام المسافر ، وأطال الإقامة ، وتشبه بأحوال المقيمين ، من التهيؤ بالمنزل ، واستئجاره ونحوه أتم .
مسألة : وإذا دخل الوقت ، ثم سافر قصر اعتبارا بالفعل .
ب. الجمع :
يجوز للمسافر الجمع بين الظهر والعصر ، والجمع بين المغرب والعشاء ؛ في وقت أحدهما ، ويسن إذا كان جادا في السير .
وإذا نزل المسافر أثناء سفره ؛ فالأفضل له أن يصلي كل صلاة في وقتها قصراً بلا جمع ، وإن جمع فلا بأس .
مسألة : يباح الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في الحضر للحاجة التي يلحقه بترك الجمع مشقة وحرج ، لما روى ابن عباس ، رضي الله عنهما قال : (( جمع رسول الله ، بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء ، بالمدينة ، من غير خوف ولا مطر )) وفي رواية : (( من غير خوف ولا سفر )) رواهما مسلم .
مسألة : يشترط لمن جمع في وقت الأولى :
1. وجود العذر عند الإحرام بالثانية .
2. الموالاة بين الصلاتين ، بحيث لا يفصل بينهما بفاصل طويل عرفاً .
وعند شيخ الإسلام -رحمه الله- : عدم اشتراط المولاة .
ويشترط لمن جمع في وقت الثانية :
1. نية الجمع .
2. وجود العذر إلى دخول وقت الثانية .
فإذا زال العذر قبل دخول الثانية لم يجز الجمع .
ومن يباح له الجمع ؛ فالأفضل له أن يفعل الأرفق به من جمع تأخير أو جمع تقديم ، والأفضل بعرفة جمع التقديم بين الظهر والعصر ، وبمزدلفة الأفضل جمع التأخير بين المغرب والعشاء ؛ لفعله عليه الصلاة والسلام ، وجمع التقديم بعرفة لأجل اتصال الوقوف ، وجمع التأخير بمزدلفة من أجل مواصلة السير إليها .
رابعاً : صلاة الخوف :
تشرع صلاة الخوف في كل قتال مباح ؛ كقتال الكفار والبغاة والمحاربين ؛ لقوله تعالى : إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا .. [النساء: 101] وقيس عليه الباقي ممن يجوز قتاله ، ولا يجوز صلاة الخوف في قتال محرم .
والدليل على مشروعية صلاة الخوف الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، قال الله تعالى : وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء: 102] .
وتفعل صلاة الخوف عند الحاجة إليها سفراً وحضراً ، إذا خيف هجوم العدو على المسلمين ؛ لأن المبيح لها هو الخوف لا السفر .
وتشرع صلاة الخوف بشرطين :
الشرط الأول : أن يكون العدو يحل قتاله كما سبق .
الشرط الثاني: أن يخاف هجومه على المسلمين حال الصلاة ؛ لقوله تعالى : إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا .. [النساء: 101] ، وقوله : وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً .. [النساء: 102].
ومن صفات صلاة الخوف الصفة الواردة عن النبي :
1. حديث سهل بن أبي حثمة الأنصاري .
وصفتها كما رواها سهل :
(( أن طائفة صفت مع النبي وطائفة وجاه العدو ، فصلى بالتي معه ركعة ؛ ثم ثبت قائماً وأتموا لأنفسهم ، ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو ، وجاءت الطائفة الأخرى ، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ، ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم ، ثم سلم بهم )) متفق عليه .
2- ما روى جابر قال : (( شهدت مع رسول الله صلاة الخوف ، فصففنا صفين والعدو بيننا وبين القبلة ، فكبر رسول الله فكبرنا ، ثم ركع وركعنا جميعاً ، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً ، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه ، وقام الصف المؤخر في نحر العدو ، فلما قضى النبي السجود ، وقام الصف الذي يليه ؛ انحدر الصف المقدم ، ثم ركع وركعنا جميعا ، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً ، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه وكان مؤخراً في الركعة الأولى ، وقام الصف المؤخر في نحر العدو ، فلما قضى السجود ، وقام الصف الذي يليه ؛ انحدر الصف المؤخر بالسجود ، فسجدوا ، ثم سلم وسلمنا جميعاً )) رواه مسلم .
3- ما رواه ابن عمر قال : (( صلى رسول الله صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة وسجدتين والأخرى مواجهة العدو ، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو ، وجاء أولئك ، فصلى بهم ركعة ، ثم سلم ، ثم قضى هؤلاء وهؤلاء ركعة )) متفق عليه .
4- ما رواه جابر قال : (( أقبلنا مع رسول الله ، حتى إذا كنا بذات الرقاع )) ؛ قال : (( فنودي للصلاة ، فصلى بطائفتين ركعتين ثم تأخروا ، فصلى بالطائفة الأخرى ركعتين )) ، قال : (( فكانت لرسول الله أربع وللقوم ركعتان )) متفق عليه .
وهذه الصفات تفعل إذا لم يشتد الخوف ، فإذا اشتد الخوف ؛ بأن تواصل الطعن والضرب والكر والفر ، ولم يمكن تفريق القوم وصلاتهم على ما ذكر ، وحان وقت الصلاة ؛ صلوا على حسب حالهم ، رجالاً وركباناً ، للقبلة وغيرها يومئون بالركوع والسجود حسب طاقتهم ، ولا يؤخرون الصلاة ؛ لقوله تعالى : فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً [البقرة: 239] ، أي : فصلوا رجالاً أو ركباناً ، والرجال جمع راجل ، وهو الكائن على رجليه ماشياً أو واقفاً ، والركبان جمع راكب .
ويستحب أن يحمل معه في صلاة الخوف من السلاح ما يدفع به عن نفسه ولا يثقله ؛ لقوله تعالى: وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ [النساء: 102]
ومثل شدة الخوف حالة الهرب من عدو أو سيل أو سبع أو خوف فوات عدو يطلبه ؛ فيصلي في هذه الحالة راكباً أو ماشياً ، مستقبل القبلة وغير مستقبلها ، يومئ بالركوع والسجود .
ونستفيد من صلاة الخوف على هذه الكيفية العجيبة والتنظيم الدقيق : أهمية الصلاة في الإسلام ، وشرط الوقت فيها ، وأهمية صلاة الجماعة بالذات ؛ فإنهما لم يسقطا في هذه الأحوال الحرجة ؛ كما نستفيد كمال هذه الشريعة الإسلامية ، وأنها شرعت لكل حالة ما يناسبها ، كما نستفيد نفي الحرج عن هذه الأمة ، وسماحة هذه الشريعة ، وأنها مصلحة لكل زمان ومكان . انتهى .
أحكام صلاة الجمعة
سميت بذلك لجمعها الخلق الكثير ، وقيل : لأن آدم جمع خلقه فيه ، وهذا أصح ، وقد ورد ما يدل عليه ، ويومها أفضل أيام الأسبوع ؛ ففي صحيح مسلم ، أن النبي قال : (( خير يوم طلعت عليه الشمس ، يوم الجمعة ، فيه خلق آدم عليه السلام ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها ، ولا تقوم الساعة ؛ إلا يوم الجمعة )) ، وقال : (( نحن الآخرون الأولون السابقون يوم القيامة ؛ بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم ، فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له ، والناس لنا فيه تبع )) متفق عليه من حديث أبي هريرة وروى مسلم عنه من حديث أبي هريرة أنه قال : (( أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا ، فكان لليهود يوم السبت ، وللنصارى يوم الأحد ، فجاء الله بنا ، فهدانا ليوم الجمعة )) .
كان من هدي النبي تعظيم هذا اليوم .
مسألة : وصلاة الجمعة صلاة مستقلة ، ليست بدلاً من الظهر .
وذلك لأنها تخالف صلاة الظهر في أحكام كثيرة ، وهي أفضل من صلاة الظهر ، وآكد منها ؛ لأنه ورد على تركها زيادة تهديد ، ولأن لها شروطاً وخصائص ليست لصلاة الظهر ، ولا تجزئ عنها صلاة الظهر ممن وجبت عليه ما لم يخرج وقتها ؛ فإذا خرج وقتها فصلاة الظهر حينئذ تكون بدلاً عنها .
من خصائص صلاة الجمعة :
1. من خصائص يوم الجمعة استحباب كثرة الصلاة على النبي يوم الجمعة لقوله في حديث أوس بن أوس : (( أكثروا من الصلاة علي فيه يوم الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي )) .
2. وورد من حديث أوس بن أوس ، الأمر بالصلاة عليه يوم الجمعة ، رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه صححه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما ، لكن ذكر له البخاري علة .
3. ومن أعظم خصائص يوم الجمعة : صلاة الجمعة التي هي من آكد فروض الإسلام ومن أعظم مجامع المسلمين ، من تركها تهاوناً بها ؛ طبع الله على قلبه .
4. الأمر بالاغتسال فيه للصلاة ، فمن العلماء من يوجبه مطلقاً ، لحديث أبي سعيد مرفوعا : (( غسل الجمعة ، واجب على كل محتلم )) أي بالغ ، متفق عليه ، ومنهم من يوجبه في حق من به رائحة يحتاج إلى إزالتها ، لحديث عائشة -رضي الله عنها- .
5. ومن خصائص هذا اليوم ؛ استحباب التبكير للذهاب إلى المسجد لصلاة الجمعة ، بعد طلوع الشمس ، في أصح أقوال أهل العلم ، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي قال : (( من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ، ثم راح في الساعة الأولى ، فكأنما قرب بدنة ، ومن راح الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح من الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ، ومن راح من الساعة الرابعة فكأنما دجاجة ، ومن راح من الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة )) ، والاشتغال بالصلاة النافلة والذكر والقراءة حتى يخرج الإمام للخطبة .
6. قراءة سورة الكهف في يومها ؛ فقد ورد عن النبي في حديث أبي سعيد : (( من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة ؛ سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء ، يضيء به يوم القيامة ، وغفر له ما بين الجمعتين )) رواه الحاكم والبيهقي ، لكن صحح النسائي وقفه .
7. أن فيه ساعة الإجابة ؛ ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة : (( إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً ؛ إلا أعطاه إياه - وقال بيده ، يقللها )) .
وهذه الساعة من دخول الإمام ، إلى أن تقضى الصلاة ، ومن بعد صلاة العصر .
8. ويشرع غالبا القراءة في فجر الجمعة " آلم ، السجدة" ، وفي الركعة الثانية ، (( هل أتى على الإنسان حين من الدهر )) كاملتين .
9. أن فيه الخطبة التي يقصد بها الثناء على الله وتمجيده والشهادة له بالوحدانية ولرسول بالرسالة وتذكير العباد .
10. وليس لها راتبة قبلها ، وإنما راتبتها بعدها ؛ ففي ((صحيح مسلم)) من حديث أبي هريرة أن النبي قال : (( إذا صلى أحدكم الجمعة؛ فليصل بعدها أربع ركعات )) ، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر : (( أنه كان يصلي بعد الجمعة ركعتين )) ؛ وقال ابن عمر : (( كان النبي إذا صلى الجمعة ؛ تقدم فصلى ركعتين ، ثم تقدم فصلى أربعاً )) أخرجه أبو داود ، وصححه العراقي ، وعلى هذا ، فأحيانا يصلي ركعتين ، وأحيانا أربع ركعات ، وأحيانا ست ركعات .
مسألة : والأحقية في المكان في المسجد للسابق بالحضور بنفسه .
ومن دخل المسجد والإمام يخطب ؛ لم يجلس حتى يصلي ركعتين يوجز فيهما ؛ لقوله في حديث جابر : (( إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام ؛ فليصل ركعتين )) متفق عليه ، زاد مسلم : (( وليتجوز فيهما )) أي : يسرع . فإن جلس ؛ قام فأتى بهما ؛ إن لم يطل الفصل ، لأن النبي أمر الرجل الذي جلس قبل أن يصليها ، فقال له : (( قم فاركع ركعتين )) رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه و ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري .
مسألة : ومن أحكام صلاة الجمعة أنه لا يجوز الكلام والإمام يخطب : لقوله تعالى : وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204].
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة : (( إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت )) ، أي : قلت اللغو ، واللغو : الإثم ، فإذا كان الذي يقول للمتكلم : أنصت - وهو في الأصل يأمر بمعروف - قد لغا ، وهو منهي عن ذلك ، فغير ذلك من الكلام من باب أولى .
وفي مسند أحمد مرفوعاً : (( والذي يقول لصاحبه: أنصت ، فلا جمعة له )) أي يحرم ثواب الجمعة .
ويجوز للإمام أن يكلم بعض المأمومين حال الخطبة ، ويجوز لغيره أن يكلمه لمصلحة ؛ لأن النبي كلَّم سائلاً ، وكلَّمه هو ، وتكرَّر ذلك في عدة وقائع كلَّم فيها الرسول بعض الصحابة وكلَّموه حال الخطبة فيما فيه مصلحة وتعليم ، لأن ذلك لا يشغل عن سماع الخطبة .
ولا يجوز لمن يستمع الخطبة أن يتصدق على السائل وقت الخطبة ؛ لأن السائل فعل ما لا يجوز له فعله ، فلا يعينه على ما لا يجوز ، وهو الكلام حال الخطبة .
مسألة : وتسن الصلاة على النبي إذا سمعها من الخطيب ، ولا يرفع صوته بها ؛ لئلا يشغل غيره بها .
ويسن أن يؤمن على دعاء الخطيب بلا رفع صوت .
ولا يرفع الإمام يديه حال الدعاء ، إلا في الإستسقاء ، والاستصحاء ، فإنه يسن للإمام والمأمومين ، وفي غير الإستسقاء يشير بأصبعه ، لحديث أنس .
ولا يجوز له العبث حال الخطبة بيد أو رجل أو لحية أو ثوب أو غير ذلك ؛ لقوله : (( من مسَّ الحصا فقد لغا ، ومن لغا فلا جمعة له )) صححه الترمذي ، ولأن العبث يمنع الخشوع .
وكذلك لا ينبغي له أن يلتفت يميناً وشمالاً ، ويشتغل بالنظر إلى الناس ، أو غير ذلك ؛ لأن ذلك يشغله عن الاستماع للخطبة ، ولكن ليتجه إلى الخطيب كما كان الصحابة يتجهون إلى النبي حال الخطبة .
وإذا عطس فإنه يحمد الله سراً بينه وبين نفسه .
ويجوز الكلام قبل الخطبة وبعدها وإذا جلس الإمام بين الخطبتين لمصلحة ، لكن يكره التحدث بأمور الدنيا .
حكم صلاة الجمعة
صلاة الجمعة واجبة على كل مسلم ذكر ، بالغ ، عاقل ، لا عذر له ، لقوله تعالى:
} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ {[الجمعة: 9] ولقوله في حديث حفصة رضي الله عنها : (( رواح الجمعة واجب على كل محتلم )) رواه النسائي ، والإجماع منعقد على وجوبها .
فلا تجب على الكافر وجوب أداء ؛ لفقد التوحيد ، ولا على المرأة بالإجماع ، ولا على غير البالغ العاقل لعدم تكليفه .
ولا تجب الجمعة على مسافر سفر قصر ؛ لأن النبي وأصحابه كانوا يسافرون في الحج وغيره ، فلم يصل أحد منهم .
الجمعة في السفر :
المسافر لا يخلو من أمرين :
الأول : أن يكون سائراً ، فلا تجب عليه الجمعة ، ولا تشرع منه إلا تبعاً لغيره من المقيمين ، فإذا مرَّ بمن يجمِّع بعد النداء الثاني صلى معهم .
الثاني : أن يكون مقيماً في البلد ، فيجب عليه أن يجمّع تبعاً للمقيمين ؛ لعمومات أدلة وجوب الجمعة .
ومن خرج إلى البر في نزهة أو غيرها ، ولم يكن حوله مسجد تقام فيه الجمعة ؛ فلا جمعة عليه ، ويصلي ظهراً ، فإن كان حوله مسجد ، لا يبعد أكثر من ثلاثة أميال ، وجب عليه أن يقصده .
ولا تجب على امرأة ، لكن إن حضرت الجمعة مع الرجال أجزأت . وكذلك إذا حضرها المسافر أجزأته ، وكذلك المريض ؛ لأن إسقاطها عن هؤلاء للتخفيف عنهم ، ولا يجوز لمن تلزمه الجمعة السفر في يومها بعد زوال الشمس حتى يصليها ، وقبل الزوال يكره السفر إن لم يكن سيصليها في طريقه وأجازه مالك بلا كراهة .
شروط صحة الجمعة :
1. الوقت ، لأنها صلاة مفروضة ؛ فاشترط لها دخول الوقت كبقية الصلوات ؛ فلا تصح قبل وقتها ولا بعده ؛ لقوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً [النساء : 103] .
ويدخل وقتها بزوال الشمس ؛ لحديث سلمة بن الأكوع ، ويصح فعلها في الساعة السادسة قبل الزوال ؛ لحديث أبي هريرة السابق .
2. أن يكون المصلون ثلاثة مستوطنين بمساكن مبنيَّة بما جرت العادة بالبناء به ؛ فلا تصح من أهل الخيام وبيوت الشعر الذين ينتجعون في الغالب مواطن القطر وينقلون بيوتهم ونحو ذلك ؛ فقد كانت قبائل العرب حول المدينة ، ولم يأمرهم بصلاة الجمعة .
3. تقديم خطبتين ؛ لمواظبة النبي عليهما ، وكذا لمواظبة خلفائه الراشدين ، قال ابن عمر : (( كان النبي يخطب خطبتين وهو قائم ، يفصل بينهما بجلوس )) متفق عليه .
ويشترط لهما النية ، والموعظة التي تناسب الحال .
سنن الخطبة :
1. ويسن في خطبتي الجمعة أن يخطب على المنبر ؛ لفعله - عليه الصلاة والسلام - كما في حديث سهل بن سعد ، ولأن ذلك أبلغ في الإعلام وأبلغ في الوعظ حينما يشاهد الحضور الخطيب أمامهم .
2. ويسن أن يسلم الخطيب على المأمومين إذا أقبل عليهم ؛ لورود ذلك عن الصحابة ، جابر ، وابن عمر ، وابن عباس ، وابن الزبير ، رضي الله عنهم ؛ ولعموم قول النبي ، في حديث أبي هريرة : (( حق المسلم على المسلم خمس ، وذكر منها : وإذا لقيه فليسلم عليه )) رواه مسلم .
3. ومن سنن خطبتي الجمعة أن يجلس بينهما ؛ لحديث ابن عمر : (( كان النبي يخطب خطبتين وهو قائم ، يفصل بينهما بجلوس )) متفق عليه .
4. أن يخطب قائماً ؛ لفعل الرسول ، ولقوله تعالى : } وتركوك قائماً { ، وعمل المسلمين عليه .
5. أن يقصد تلقاء وجهه ؛ لفعله ، لأن التفاته إلى أحد جانبيه إعراض عن الآخر ومخالفة للسنة ؛ لأنه كان يقصد تلقاء وجهه في الخطبة ، ويستقبله الحاضرون بوجوههم ؛ لقوله ابن مسعود : (( كان إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا )) رواه الترمذي .
6. أن يقصر الخطبة تقصيراً معتدلاً ؛ بحيث لا يملوا وتنفر نفوسهم ، ولا يقصرها تقصيراً مخلاًُ ؛ فلا يستفيدون منها ؛ فقد روى مسلم عن عمار مرفوعاً : (( إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه ؛ فأطيلوا الصلاة ، واقصروا الخطبة )) ، ومعنى قوله ( مئنة من فقهه ) : أي علامة على فقهه .
ويطيل الخطبة أحياناً تبعاً للحاجة .
- ويسن أن يرفع صوته بها ؛ لأنه كان إذا خطب ، علا صوته ، واشتد غضبه ، ولأن ذلك أوقع في النفوس ، وأبلغ في الوعظ ، وأن يلقيها بعبارات واضحة قوية مؤثرة ، وبعبارات جزلة .
- ويسن أن يدعو للمسلمين بما فيه صلاح دينهم ودنياهم ؛ لساعة الإجابة .
- ويسن إذا فرغ من الخطبتين أن تقام الصلاة مباشرة ، وأن يشرع في الصلاة من غير فصلٍ طويلٍ .
كيفية صلاة الجمعة :
صلاة الجمعة ركعتان بالإجماع ، ويجهر فيهما بالقراءة ، ويسن أن يقرأ في الركعة الأولى منهما بسوة الجمعة بعد الفاتحة ، ويقرأ في الركعة الثانية بعد الفاتحة بسورة المنافقين ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ بهما ؛ كما رواه مسلم عن ابن عباس ، أو يقرأ في الأولى بـ ((سبح اسم ربك الأعلى)) ، وفي الثانية بـ ((هل أتاك حديث الغاشية)) ؛ فقد صح أنه صلى لله عليه وسلم كان يقرأ أحياناً بالجمعة والمنافقين ، وأحياناً بـ (سبح) و (الغاشية) ، ولا يقسّم سورة واحدة من هذه السور بين الركعتين ؛ لأنَّ ذلك خلاف السنة .
ومن أدرك مع الإمام من صلاة الجمعة ركعة أتمها جمعة ؛ لحديث أبي هريرة مرفوعاً : (( من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الصلاة )) رواه البيهقي ، وأصله في الصحيحين .
وإن أدرك أقل من الركعة ؛ بأن رفع الإمام رأسه من الركعة الثانية قبل دخوله معه ؛ فاتته صلاة الجمعة ، فإذا سلَّم الإمام أتمَّها ظهراً .
مسألة : لا يجوز تعدد الجمعة في أكثر من موضع ، إلا لحاجة ، فإن تعدَّدت لغير حاجة صحَّت صلاةُ المأمومين ، والإثم على من أذن بالتعدُّد .
أحكام صلاة العيد
العيد لغة : اسم لما يعود ويتكرر مرة بعد أخرى ، وسمي بذلك ؛ لأنه يعود ، أو تفاؤلاً أن يعود ثانية ، ولأنه يعود بالفرح والسرور .
و صلاة العيدين - عيد الفطر وعيد الإضحى - مشروعة بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين ، وقد كان المشركون يتخذون أعياداً زمانيَّة ومكانيَّة ، فأبطلها الإسلام ، وعوَّض عنها عيد الفطر وعيد الأضحى ؛ شكراً لله تعالى على أداء هاتين العبادتين العظيمتين : صوم رمضان ، وحج بيت الله الحرام .
وقد صح عن النبي أنه لما قدم المدينة وكان لأهلها يومان يلعبون فيهما قال : (( قد أبدلكم الله بهما خيرا منهما : يوم النحر ، ويوم الفطر )) رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم من حديث أنس بن مالك .
فلا تجوز الزيادة على هذين العيدين بإحداث أعياد أخرى كأعياد الموالد وغيرها ؛ لأن ذلك زيادة على ماشرعه الله ، وابتداع في الدين ، ومخالفة لسنة سيد المرسلين ، وتشبه بالكافرين ، سواء سميت أعياداً أوذكرياتٍ أوأياماً أو أسابيع أو أعواماً ، كل ذلك ليس من سنة الإسلام ، بل هو من فعل الجاهلية ، وتقليد للأمم الكافرة من الدول الغربية وغيرها ، وقد قال : (( من تشبه بقومٍ فهو منهم )) رواه الإمام أحمد و أبو داود وغيره . وقال : (( إن أحسن الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة )) رواه مسلم .
مسألة : الدليل على مشروعية صلاة العيد ، قوله -تعالى- : } فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ {[الكوثر:2] ، وقوله تعالى : } قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى {، [الأعلى:15] ، وكان النبي والخلفاء من بعده يداومون عليها .
حكم صلاة العيدين :
حكم صلاة العيدين فرض عين على كل مسلم ذكر مكلف لا عذر له ؛ لأمر النبي بها حتى النساء ، قالت أم عطية -رضي الله عنها- : (( كنَّا نؤمر أن نخرج يوم العيد ، حتى تخرج البكر من خدرها ، وحتى تخرج الحيض فيكنَّ خلف الناس ، فيُكبِّرن بتكبيرهم ، ويدعون بدعائهم ؛ يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته )) متفق عليه .
ويسن للنساء الخروج لصلاة العيد غير متطيبة ، ولا متبرجة .
مسألة : ويسن أن تؤدى صلاة العيد في صحراء قريبة من البلد ؛ لأن النبي كان يصلي العيدين في المصلى الذي على باب المدينة ؛ فعن أبي سعيد : (( كان النبي يخرج في الفطر والأضحى إلى المصلى )) متفق عليه ، ولم ينقل أنه صلاها في المسجد لغير عذر ، ولأن الخروج إلى الصحراء أوقع لهيبة المسلمين والإسلام ، وأظهر شعائر الدين ، ولا مشقة في ذلك ؛ لعدم تكرره ، بخلاف الجمعة ، إلا في مكة المشرفة ؛ فإنها تصلي في المسجد الحرام ، فإن كان هناك عذر من مطر أو زحام ، جاز أن تصلي في المساجد .
وقت صلاة العيدين :
وقت صلاة العيد إذا ارتفعت الشمس بعد طلوعها قدر رمح ؛ لأنه الوقت الذي كان النبي يصليها فيه ، ويمتد وقتها إلى زوال الشمس .
فإن لم يعلم بالعيد إلى بعد الزوال ، صلوا من الغد قضاءً ؛ لماروى أبو عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قالوا : (( غمَّ علينا هلالُ شوال ، فأصبحنا صياماً ، فجاء ركبٌ في آخر النهار ، فشهدوا أنهم رأو الهلال بالأمس ، فأمر النبي الناس أن يفطروا من يومهم ، وأن يخرجوا غداً لعيدهم )) رواه أحمد وأبو داود والدارقطني وحسَّنه .
ما يُسنُّ يوم العيد :
1. يسن أن يأكل قبل الخروج لصلاة الفطر تمرات ، وأن لا يطعم يوم النحر حتى يصلى ؛ لحديث بريدة : (( كان النبي لايخرج يوم الفطر حتى يفطر ، ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي )) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه ، وصححه ابن حبان والحاكم .
2. ويسن التبكير في الخروج لصلاة العيد بعد صلاة الفجر ؛ لوروده عن ابن عمر رضي الله عنهما ؛ ليتمكَّنَ من الدنو من الإمام ، وتحصُلُ له فضيلةُ انتظار الصلاة ، فيكثُرُ ثوابُهُ .
3. ويسن أن يتجمل المسلم لصلاة العيد بالإغتسال بعد الفجر ؛ لورود ذلك عن الصحابة ، كابن عمر ، ولبس أحسن الثياب ؛ لثبوت ذلك عن النبي .
كيفية صلاة العيدين :
صلاة العيد ركعتان قبل الخطبة ؛ لقول ابن عمر : (( كان رسول الله وأبوبكر وعمر وعثمان يصلون العيدين قبل الخطبة )) متفق عليه ، وقد استفاضت السنة بذلك وعليه عامه أهل العلم ، قال الترمذي : " والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي وغيرهم أن صلاة العيدين قبل الخطبة " .
وصلاة العيدين ركعتان بإجماع المسلمين ، وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس أن النبي (( خرج يوم الفطر ، فصلى ركعتين لم يصلِّ قبلهما ولابعدهما )) .
مسألة : ولا يشرع لصلاة العيد أذان ولا إقامة ؛ لما روى مسلم عن جابر قال : (( صليت مع النبي العيد غير مرة لا مرتين ، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة )) .
ويكبر في الركعة الأولى بعد تكبيرة الإحرام والاستفتاح وقبل التعوذ والقراءة ست تكبيرات ؛ وعند الشافعي سبع ، فتكبيرة الإحرام ركنٌ لابدَّ منها ، لا تنعقد الصلاة بدونها ، وغيرها من التكبيرات سنة ، ثم يستفتح بعدها ؛ لأن الاستفتاح في أول الصلاة سنة ، ثم يأتي بالتكبيرات الزوائد الست ، أو السبع ، ثم يتعوَّذ ، ويبسمل ، عقب التكبيرة السادسة أو السابعة ؛ لأنَّ التعوذ والبسملة للقراءة سنة ، فيكون عندها ، ثم يقرأ .
ويكبر في الركعة الثانية قبل القراءة خمس تكبيرات غير تكبيرة الإنتقال ؛ لما روى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : (( أن النبي كبَّر في العيد ثنتي عشرة تكبيرة ، سبعاً في الأولى ، وخمساً في الأخيرة )) وإسناده حسن ، وله شواهد عن عائشة -رضي الله عنها- ، وغيرها .
وروي غير ذلك في عدد التكبيرات : قال الإمام أحمد رحمه الله : " اختلف أصحاب النبي في التكبير ، وكله جائز " .
ويرفع يديه مع كل تكبيرة ؛ لأنه كان يرفع يديه مع التكبير ، ولوروده في حديث ابن عمر ، في تكبيرات الجنائز ، رواه الدارقطني ، وصحَّحه الشيخ عبد العزيز بن باز- رحمه الله تعالى- ، ولما يأتي من الأدلة في رفع الأيدي في تكبيرات الجنائز .
وإن نسي التكبير الزائد حتى شرع في القراءة سقط ؛ لأنه سنَّة فات محلها .
وكذا إذا أدرك المأموم الإمام بعد ماشرع في القراءة ، لم يأت بالتكبيرات الزوائد ، أو أدركه راكعاً ؛ فإنه يكبر تكبيرة الإحرام ، ثم يركع ، ولا يشتغل بقضاء التكبير .
وصلاة العيدين ركعتان ، يجهر الإمام فيهما بالقراءة ؛ لقول ابن عمر : (( كان النبي يجهر بالقراءة في العيدين والاستسقاء )) رواه الدارقطني ، وقد أجمع العلماء على ذلك ، ونقل الخلف عن السلف ، واستمر عمل المسلين عليه .
ويقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحه بـ (سبح اسم ربك الأعلى) ويقرأ في الركعة الثانية بـ الغاشية ؛ لحديث النعمان بن بشير : (( أن النبي e كان يقرأ في العيدين بـ ((سبح اسم ربك الأعلى)) و ((هل أتاك حديث الغاشية )) رواه مسلم ، أو يقرأ في الركعة الأولى بـ (( ق ))، وفي الثانية بـ (( اقتربت )) ، رواه مسلم من حديث أبي واقد الليثي .
فإذا سلَّم من الصلاة خطب بالناس ، وأوجب بعض العلماء هذه الخطبة على الإمام ، وينبغي للمأموم ألا ينصرف ، حتى تنتهي الخطبة .
وفي الصحيحين وغيرهما : (( بدأ بالصلاة ، ثم قام متوكئاً على بلال ، فأمر بتقوى الله ، وحثَّ على طاعته … )) الحديث .
وينبغي أن توجه للنساء موعظة خاصة ضمن خطبة العيد ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لما رأى أنه لم يسمع النساء أتاهنَّ ، فوعظهنَّ ، وحثهنَّ على الصدقة ، وهكذا ينبغي أن يكون للنساء نصيب من موضوع خطبة العيد ؛ لحاجتهنَّ إلى ذلك ، واقتداء بالنبي e .
مسألة : وإذا أتى المصلى سُنَّ أن يشتغل بالتكبير ؛ لمشروعيته حينئذٍ ، ويقتصر على تحية المسجد من النوافل إن صليت في المسجد ، وإلا فليس لمصلى العيد تحية ؛ لقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: (( خرج النبي يوم عيد ؛ فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما )) متفق عليه ، ولئلاَّ يتوهَّم أن لها راتبة قبلها أوبعدها .
فإذا رجع إلى منـزله سُنَّ أن يصلي فيه ؛ لما روى أحمد وغيره (( أن النبي كان إذا رجع الى منـزله ؛ صلى ركعتين )) ولعموم أدلة مشروعيَّة صلاة الضحى المتقدمة في صلاة الضحى .
قضاء صلاة العيد : يشرع لمن فاته شيءٌ من صلاة العيد قضاؤه على صفته بالتكبيرات الزوائد ؛ لأن القضاء يحكي الأداء ، ولعموم قوله في حديث أبي هريرة : (( فما أدركتم فصلّوا ، وما فاتكم فأتمّوا )) فإذا فاته ركعة مع الإمام أضاف إليها أخرى .
التكبير في العيدين :
يسن في العيدين التكبير المطلق ، وهو الذي لا يتقيد بوقت ، يرفع به صوته ؛ إلا الأنثى فلاتجهر به ، فيكبر في ليلتي العيدين ، وفي كل عشر ذي الحجة ؛ لقوله - تعالى- : } وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ] {البقرة: 185[.
ففي عيد الفطر : من غروب الشمس ، ليلة العيد إلى دخول الإمام للصلاة .
وفي عيد الأضحى : من طلوع الفجر من أول يوم من شهر ذي الحجة ، إلى غروب شمس اليوم الثالث عشر من آخر أيام التشريق ، لقوله تعالى : } وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ { [ البقرة : 203[ ، وروي عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما : ( أنهما كانا يخرجان إلى الأسواق ، فيكبران ، ويكبر الناس بتكبيرهما ) علَّقه البخاري بصيغة الجزم ، ولما ورد ( أن عمر كان يكبر في قبته بني ) علَّقه البخاري بصيغة الجزم ، ولما ورد أن ابن عمر رضي الله عنهما ( كان يكبر تلك الأيام - أيام منى - وخلف الصلوات، وعلى فراشه ، وفي فسطاطه ، ومجلسه ، وممشاه ، تلك الأيام جميعاً ) علَّقه البخاري بصيغة الجزم ، ولحديث نبيشة الهذلي مرفوعاً : (( أيام التشريق أيام أكل وشرب ، وذكر لله - عز وجل- )) رواه مسلم .
ويجهر به في البيوت والأسواق والمساجد وفي كل موضع يجوز فيه ذكر الله تعالى ، ويجهر به في الخروج إلى المصلى ؛ لما أخرجه الدارقطني وغيره عن ابن عمر : ( أنه كان إذا غدا يوم الفطر ويوم الأضحى يجهر بالتكبير ، حتى يأتي المصلى ، ثم يكبر حتى يأتي الإمام ) وفي الصحيح عن أم عطية – رضي الله عنها-: (( كنا نؤمر بإخراج الحيض ، فيكبرن بتكبيرهم )) ، ولمسلم: (( يكبرن مع الناس )) فهو مستحب لما فيه من إظهار شعائر الإسلام .
التكبير في عيد الفطر :
آكد ؛ لقوله تعالى : } وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ] {البقرة: 185[.
ويزيد عيد الأضحى بمشروعية التكبير المقيد وهوالتكبير الذي شرع عقب الصلوات.
ويبتدأ التكبير المقيد بأدبار الصلوات ، من صلاة الفجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق ، لثبوت ذلك عن الصحابة ، عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس بأسانيد صحيحة .
وصفة التكبير أن يقول : الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد .
ويكون ذلك بعد الإستغفار ، وقول : اللهم أنت السلام ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام .
التهنئة يوم العيد :
لا بأس بتهنئه الناس بعضهم بعضًا ؛ بأن يقول لغيره : تقبل الله منا ومنك .
قال شيخ الاسلام ابن تيمية-رحمه الله- : " قد روي عن طائفة من الصحابة أنهم كانوا يفعلونه ، ورخص فيه الأئمة كأحمد وغيره " ا.هـ
والمقصود من التهنئة التودد وإظهار السرور .
وقال الإمام أحمد-رحمه الله- : " لا ابتدئ به ، فإن ابتدأني أحد أجبته " ؛ وذلك لأن جواب التحية واجب ، وأما الإبتداء بالتهنئة ؛ فليس سنة مأمورًا بها ، ولا هو أيضاً مما نهي عنه ، ولا بأس بالمصافحة في التهنئة " أ.هـ
أحكام صلاة الكسوف
الكسوف لغة : التغير إلى السواد .
وفي الاصطلاح : انحجاب ضوء الشمس أو القمر أو بعض بسبب غير معتاد .
ويقال : كَسَفَتِ الشمسُ وخَسَفَت ، وخَسَفَ القَمَرُ وكَسَفَ .
وصلاة الكسوف سنة مؤكدة ، وذهب بعض العلماء إلى وجوبها؛ لأمر النبي بها.
كما سيأتي ، ولها سببان : سبب شرعي ، وهو تخويف العباد .
وسبب كوني ، وهو حيلولة الأرض بين الشمس والقمر ، بالنسبة للخسوف ، وحيلولة القمر بين الشمس والأرض بالنسبة للخسوف .
ولما كسفت الشمس في عهد الرسول خرج إلى المسجد مسرعاً فزعاً يجر رداءه ، فصلى بالناس ، وأخبرهم أن الكسوف آية من آيات الله ، يخوف الله به عباده ، وأنه قد يكون سبب نزول عذاب بالناس ، وأمر بما يزيله ، فأمر بالصلاة عند حصوله والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق وغير ذلك من الأعمال الصالحة ، حتى ينكشف ما بالناس ؛ ففي الكسوف تنبيه للناس وتخويف لهم ليرجعوا إلى الله ويراقبوه . وكانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يحصل عند ولادة عظيم أو موت عظيم ، فأبطل رسول الله ذلك الاعتقاد ، وبين الحكمة الإلهية ، فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي مسعود الأنصاري قال : ( انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن النبي وقال الناس: انكسفت الشمس لموت إبراهيم . فقال رسول الله : (( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله وإلى الصلاة )) .
وقت صلاة الكسوف :
من ابتداء الكسوف إلى التجلي ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عائشة -رضي الله عنها-: (( فإذارأيتم ذلك ، فصلوا )) متفق عليه .
وفي حديث المغيرة بن شعبة ، وفيه قوله : (( فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي )) متفق عليه .
ولاتقضى صلاة الكسوف بعد التجلي ؛ لفوات محلها ، فإن تجلي الكسوف قبل أن يعلموا به ؛ لم يصلوا له .
صفة صلاة الكسوف :
هي أن يصلى ركعتين يجهر فيهما بالقراءة على الصحيح من قولي العلماء ، ويقرأ في الركعة الأولى الفاتحة وسورة طويلة كسورة البقرة أو قدرها ، ثم يركع ركوعا طويلاً ، ثم يرفع رأسه ويقول : ((سمع الله لمن حمده ، ربنا لك الحمد)) بعد اعتداله ، كغيرها من الصلوات ، ثم يقرأ الفاتحة وسورة طويلة دون الأولى بقدر سورة آل عمران ، ثم يركع فيطيل الركوع ، وهو دون الركوع الأول ، ثم يرفع رأسه ويقول : ((سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه ، ملء السماء وملء الأرض وملء ماشئت من شيء بعد)) ويحمد الله بما ورد ، ويطيل ويكرر قول ((لربي الحمد)) ، ثم يسجد سجدتين طويلتين ، ويطيل الجلوس بين السجدتين ، ويدعو بما ورد ، ثم يصلي الركعة الثانية كالأولى بركوعين طويلين وسجودين طويلين كما فعل في الركعة الأولى ، ثم يتشهد ويسلم .
ويسن أن تصلى في جماعة ؛ لفعل النبي ، ويجوز أن تصلى فرادى كسائر النوافل ، لكن فعلها جماعة أفضل ، ويسن أن يعظ الإمام الناس بعد صلاة الكسوف ، ويحذرهم من الغفلة والإغترار ، ويأمرهم بالإكثار من الدعاء والاستغفار، والصدقة، والعتق، ففي الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها-: ( أن النبي انصرف، فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : (( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وصلوا ، وتصدقوا )) الحديث متفق عليه .
فإن انتهت الصلاة قبل أن ينجلي الكسوف ذكر الله ودعاه حتى ينجلي ، ولا يعيد الصلاة ، وإن انجلى الكسوف وهو في الصلاة أتمها خفيفة ، ولا يقطعها ؛ لقوله تعالى :
} وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ { [محمد: 33].
مسألة : تفعل صلاة الكسوف ، حتى في أوقات النهي ؛ لعموم الأمر بها .
صلاة الإستسقاء
الاستسقاء : هو طلب السقي من الله –تعالى- أو من المخلوق .
واصطلاحاً : التعبد لله تعالى بطلب السقيا بصلاة مخصوصة .
وكان ذلك معروفًا في الأمم الماضية ، وهو من سنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، قال الله تعالى : } وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ { ]البقرة: من الآية60 [واستسقى خاتم الأنبياء محمد لأمته مرات متعددة ، وعلى كيفيات متنوعة ، وأجمع المسلمون على مشروعيته .
مسألة : ويشرع الاستسقاء إذا أجدبت الأرض ، أي: أمحلت وانحبس المطر وأضر ذلك بهم ؛ فلا مناص لهم أن يتضرعوا إلى ربهم ، ويستسقوه ويستغيثوه ، وقد ورد الإستسقاء في السنة على أنواع :
الأول : بالصلاة جماعة .
والثاني : بالدعاء في خطبة الجمعة يدعو الخطيب والمسلمون يؤمنون على دعائه .
والثالث : بالدعاء بلا صلاة ولا خطبة ؛ فكل ذلك وارد عن النبي .
حكم صلاة الإستسقاء : سنة مؤكدة ، إذا وجد سببها ؛ لحديث عبد الله بن زيد : (( خرج النبي يستسقي ، فتوجه إلى القبلة يدعو وحول رداءه ، ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة )) متفق عليه ، ولغيره من الأحاديث .
صفة صلاة الاستسقاء :
صفة صلاة الاستسقاء في موضعها وأحكامها كصلاة العيد ؛ فيستحب فعلها في المصلى كصلاة العيد ، وأحكامها كأحكام صلاة العيد في عدد الركعات والجهر بالقراءة ، وفي كونها تصلى قبل الخطبة ، وفي التكبيرات الزوائد في الركعة الأولى والثانية قبل القراءة ؛ كما سبق بيانه في صلاة العيد .
قال ابن عباس -رضي الله عنهما- : ( صلى النبي ركعتين كما يصلي العيد ) . قال الترمذي : " حديث حسن صحيح " وصححه الحاكم وغيره .
ويقرأ في الركعة الأولى بسورة : ((سبح اسم ربك الأعلى)) . وفي الثانية بسورة الغاشية .
ويصليها أهل البلد في الصحراء ، إلا مع عذر ؛ لأنه لم يصلها إلا في الصحراء ، ولأن ذلك أبلغ في إظهار الإفتقار إلى الله تعالى .
وإذا أراد الإمام الخروج لصلاة الاستسقاء ؛ فإنه ينبغي أن يتقدم ذلك تذكير الناس بما يلين قلوبهم من ذكر ثواب الله وعقابه ، ويأمرهم بالتوبة من المعاصي ، والخروج من المظالم بردها إلى مستحقيها ؛ لأن المعاصي سبب لمنع القطر وانقطاع البركات ، والتوبة والإستغفار سبب لإجابة الدعاء ، قال الله – سبحانه و تعالى-: } وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ { [الأعراف:96[ ، ويأمرهم بالصدقة على الفقراء والمساكين ؛ لأن ذلك سبب للرحمة ، ثم يعين لهم يوما يخرجون فيه ليتهيؤوا ويستعدوا لهذه المناسبة بما يليق بها من الصفات المسنونة ، ثم يخرجوا في الموعد إلى المصلى بتواضع وتذلل وإظهار للإفتقار إلى الله تعالى ، ولقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: (( خرج النبي للإستسقاء متذلِّلاً متواضعًا متخشِّعًا متضرِّعاً )) ، قال الترمذي : " حديث حسن صحيح " ، وينبغي أن لا يتأخر أحد من المسلمين يستطيع الخروج ، حتى الصبيان والنساء اللآتي لاتخشى الفتنة بخروجهن ، فيصلي بهم الإمام ركعتين كماسبق ثم يخطب خطبة واحدة .
وإن شاء خطب قبل الصلاة ، كل ذلك ورد عن النبي .
وينبغي أن يكثر في خطبة الإستسقاء من الاستغفار وقراءة الآيات التي فيها الأمر به ؛ لأن ذلك سبب لنزول الغيث ، ويكثر من الدعاء بطلب الغيث من الله - تعالى- ، ويرفع يديه ؛ لأن ذلك من أسباب الإجابة ، ويدعو بالدعاء الوارد عن النبي في هذا الموطن ؛ اقتداءً به ، قال الله تعالى : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب: 21].
ويسن أن يستقبل القبلة في آخر الدعاء ، ويحول رداءه ؛ فيجعل اليمين على الشمال والشمال على اليمين ، وكذلك ماشابه الرداء من اللباس كالعباءة ونحوها ، أو يكون ذلك أثناء الخطبة ، والأمر في ذلك واسع ، ويتركوه حتى ينـزعوه مع ثيابهم ، أو يحتاجوا إلى تغييره ؛ لما في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد : (( أن النبي حول إلى الناس ظهره ، واستقبل القبلة يدعو ، ثم حول رداءه )) والحكمة في ذلك ـ والله أعلم ـ التفاؤل بتحول الحال عما هي عليه من الشدة إلى الرخاء ونزول الغيث ، ويحول الناس أرديتهم ؛ لماروى الإمام أحمد : (( وحوَّل الناس معه أرديتهم )) ، ولأن ماثبت في حق النبي ثبت في حق أمته ، مالم يدل على اختصاصه به ، ثم إن سقى الله المسلمين، وإلا أعادوا الإستسقاء ثانياً وثالثاً ؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك .
مسألة : وإذا نزل المطر يسن أن يقف في أوله ليصيبه منه ، ويقول ما ورد : (( اللهم صيباً نافعاً ، مطرنا بفضل الله ورحمته )) .
وإذا زادت المياه وخيف الضرر ؛ سُنَّ أن يقول ما ورد : (( اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الظراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر )) ؛ لأنه كان يقول ذلك ، متفق عليه .
وعن عائشة -رضي الله عنها – قالت : (( كان النبي إذا عصفت الريح ، قال : اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به )) متفق عليه . وكان عبد الله بن الزبير إذا سمع الرعد قال : ( سبحان الذي يسبح الرعد بحمده ، والملائكة من خيفته ) رواه مالك والبيهقي بإسنادٍ صحيحٍ .
وكان ابن عمر – رضي الله عنهما – يقول : ( اللهم لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك ) رواه أحمد والترمذي .
أحكام الجنائز
الجنائز : جمع جنازة ، بفتح الجيم وكسرها ، وقيل : بالفتح ، اسم للميت ، وبالكسر ، اسم لما يحمل عليه الميت .
يسن الإكثار من ذكر الموت ، والاستعداد له بالتوبة من المعاصي ورد المظالم إلى أصحابها ، والمبادرة بالأعمال الصالحة قبل هجوم الموت على غرَّة .
قال النبي في حديث أبي هريرة : (( أكثروا من ذكر هادم اللذات )) رواه الخمسة بأسانيد صحيحة ، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما .
وهادم اللذات : بالذال : هو الموت .
أحكام المريض والمحتضر :
1. إذا أصيب الإنسان بمرض ؛ فعليه أن يصبر ويحتسب ولا يجزع ويسخط لقضاء الله وقدره ، ولا بأس أن يخبر الناس بعلته ونوع مرضه ، مع الرضى بقضاء الله ، والشكوى إلى الله - تعالى- ، وطلب الشفاء منه لا ينافي الصبر ، بل ذلك مطلوب شرعًا ومستحب ؛ فأيوب - عليه السلام - نادى وقال : ] إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين [ .
2. لا يجوز التداوي بمحرم ؛ لما في الصحيح عن ابن مسعود أنه قال : (( إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم )) وكذلك يحرم التداوي بما هو شرك ؛ من تعلق التمائم المشتملة على ألفاظ شركية ، أو أسماء مجهولة ، أو طلاسم ، أو خرز ، أو خيط ، أو قلائد ، أو حلق تلبس على العضد أو الذراع أو غيره ، يعتقد فيها الشفاء ودفع العين والبلاء لما فيها من تعلق القلب على غير الله في جلب نفع أودفع ضر ، وكذلك أيضاً التداوي عند المشعوذين من الكهان والمنجمين والسحرة والمستخدمين للجن ؛ فعقيدة المسلم أهم عنده من صحته ، وقد جعل الله الشفاء في المباحات النافعة للبدن والعقل والدين ، وعلى رأس ذلك القرآن الكريم ، والرقية به وبالأدعية المشروعة .
ولابأس بالتداوي بالأدوية المباحة على أيدي الأطباء العارفين بتشخيص الأمراض وعلاجها في المستشفيات وغيرها .
والتداوي ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : ما علم ، أو غلب على الظن نفعه ، مع احتمال الهلاك بتركه فيجب .
الثاني : ما علم ، أو غلب على الظن نفعه ، وليس هناك هلاك محقق بتركه ، فهو أفضل .
الثالث : أن يتساوى الأمران ، احتمال النفع وعدمه ، فالأفضل ترك التداوي .
3. عيادة المريض فرض كفاية ؛ لما في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي قال : (( حق المسلم على المسلم خمس )) وذكر منها : (( عيادة المريض )) فإذا زاره سأل عن حاله ؛ فقد كان النبي يدنو من المريض ، ويسأله عن حاله ، وتكون الزيارة فترة بعد أخرى ، مالم يكن المريض يرغب الزيارة كل يوم ، ولا يطيل الجلوس عنده ؛ إلا إذا كان المريض يرغب ذلك ، ويقول للمريض : ( لابأس عليك ، طهور إن شاء الله ) ويدخل عليه السرور ، ويدعو له بالشفاء ، ويرقيه بالقرآن ، لاسيما سورة الفاتحة والإخلاص والمعوذتين ، وبالأدعية الواردة عن النبي .
4. يشرع للمريض أن يوصي بشيء من ماله في أعمال الخير ، ويجب أن يوصي بماله وما عليه من الديون وما عنده من الودائع والأمانات ، إذا لم تكن موثقة وهذا مطلوب حتى من الإنسان الصحيح ؛ لقوله في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: (( ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبه عنده )) متفق عليه ، وذكر الليلتين تأكيدًا لا تحديدًا ؛ فلا ينبغي أن يمضي عليه زمان وإن كان قليلاً ، إلا ووصيته مكتوبة عنده ؛ لأنه لا يدري متى يدركه الموت .
وإن ترك خيراً كثيراً ، وجب عليه أن يوصي بشيء من ماله ، لأقاربه غير الوارثين .
5. يحسن المريض ظنه بالله ؛ فإن الله عز وجل يقول : (( أنا عند ظن عبدي بي )) ويتأكد ذلك عند إحساسه بلقاء الله .
ويسن لمن يحضره تطميعه في رحمة الله ، ويغلب في هذه الحالة جانب الرجاء على جانب الخوف ، وأما في حال الصحة فيكون خوفه ورجاؤه متساويين ؛ لأن من غلب عليه الخوف أوقعه في نوع من اليأس ، ومن غلب عليه الرجاء أوقعه في نوع من الأمن من مكر الله .
ويكره الأنين ، مالم يغلبه .
ويكره تمني الموت ، إلا لخوف فتنة ، أو رجاء شهادة .
6. فإذا احتضر المريض ؛ فإنه يسن لمن حضره أن يلقنه : لا إله إلا الله ؛ لقوله : (( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله )) رواه مسلم عن أبي سعيد ؛ وذلك لأجل أن يموت على كلمة الاخلاص ، فتكون ختام كلامه ؛ فعن معاذ مرفوعا : (( من كان آخر كلامه لا إله إلا الله ؛ دخل الجنة )) رواه أبو داود ، بإسناد صحيح ، ويكون تلقينه إياها برفق ، ولا يكثر عليه ؛ لئلا يضجره وهو في هذه الحال .
7. ويسن أن يوجهه إلى القبلة ، لقوله في الكعبة : (( قبلتكم أحياءً وأمواتاً )) رواه أبو داود ، وله شاهد من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- رواه الطبري وابن عبد البر ، وورد عن البراء بن معرور ، وعمر -رضي الله عنهما- .
أحكام الوفاة :
8. ويستحب إذا مات الميت تغميض عينيه ؛ لأن النبي أغمض أبا سلمة لما مات ، وقال : (( إن الروح إذا قبض تبعه البصر ، فلا تقولو إلا خيراً ؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون )) رواه مسلم عن أم سلمة -رضي الله عنها- .
9. ويسن ستر الميت بعد وفاته بثوب ؛ لما روت عائشة -رضي الله عنها- : (( أن النبي حين توفي ؛ سجي ببرد حبرة )) متفق عليه .
10. يسرع في تجهيزه إذا تحقق موته ولا بأس أن ينتظر به من يحضره من وليها وغيره إن كان قريباً ، وإلا فالمشروع المبادرة .
11. ويباح الإعلام بموت المسلم ؛ للمبادرة لتهيئته ، وحضور جنازته ، والصلاة عليه ، والدعاء له ، وأما الإعلام بموت الميت على صفة الجزع وتعداد مفاخره ؛ فذلك من فعل الجاهلية ، ومنه حفلات التأبين وإقامة المآتم ، والتحدث عن الميت في أثناء المصيبة في الخطب والمحاضرات ، لكونها تثير الأحزان .
12. ويسرع بتنفيذ وصيته ؛ لما فيه من تعجيل الأجر ، وقد قدمها الله - تعالى- في الذكر على الدَّين ؛ اهتماماً بشأنها ، وحثًّا على إخراجها .
13. ويجب الإسراع بقضاء ديونه ، سواء كانت لله - تعالى- من زكاة وحج أو نذر طاعة أو كفارة ، أو كانت الديون لآدمي كرد الأمانات ، والغصوب ، والعارية ، سواء وصى بذلك أم لم يوص به .
تغسيل الميت :
يجب تغسيل الميت على من علم به وأمكنه تغسيله ، قال في الذي وقصته راحلته : (( اغسلوه بماء وسدر… )) الحديث متفق عليه ، من حديث ابن عباس .
الأولى بالتغسيل :
الرجل يغسله الرجل ، والأولى والأفضل أن يختار لتغسيل الميت ثقة عارف بأحكام التغسيل ، ويقدم في تولي تغسيل الميت وصيه ، إذا كان قد أوصى أن يغسله شخص معين ؛ لأن أبا بكر أوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس ، فالمرأة يجوز أن تغسل زوجها ، كما أن الرجل يجوز أن يغسل زوجته ، ثم يلي الوصي في تغسيل الميت أبو الميت ، فهو أولى بتغيسل ابنه ؛ لاختصاصه بالحنو والشفقة على ابنه ، ثم جده ؛ لمشاركته للأب في المعنى المذكور ؛ ثم بقية الأصول ، ثم الفروع من أبنائه ، ثم الأقرب فالأقرب من عصباته ، كالأخوة وأبنائهم ، والأعمام وأبنائهم ، ثم الأجنبي منه ، وهذا الترتيب في الأولوية إذا كانوا كلهم يحسنون التغسيل وطالبوا به ، وإلا ؛ فإنه يقدم العالم بأحكام التغسيل على من لا علم له .
والمرأة تغسلها النساء ، والأولى بتغسيل المرأة الميتة وصيتها ، فإذا كانت أوصت أن تغسلها امرأة معينة ؛ قدمت على غيرها إذا كان فيها صلاحية لذلك ، ثم بعدها تتولى تغسيلها القربى فالقربى من نسائها ، كما تقدم في الذَّكَرِ .
ولكل من الرجال والنساء غسل من له دون سبع سنين ذكراً كان أو انثى .
وليس لامرأة غسل ابن سبع سنين فأكثر ، ولا لرجل غسل ابنة سبع سنين فأكثر .
وإذا مات رجل بين نساء ، أو امرأة بين رجال ، أدرج عليه الماء ، من فوق الثياب .
ولا يجوز لمسلم أن يغسل كافرًا ، أو يحمل جنازته ، أو يكفنه ، أو يصلي عليه أو يتبع جنازته ؛ لقوله - تعالى-: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [[الممتحنة: 13] ؛ فالآيه الكريمة تدل بعمومها على تحريم تغسيله وحمله واتباع جنازته ، وقال - تعالى-: ] وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّه [[التوبة:84] ، وقال - تعالى- : ] مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى [ [التوبة: 113] ولا يدفنه ، لكن إذا لم يوجد من يدفنه من الكفار ؛ فإن المسلم يواريه ، بأن يلقيه في حفرة منعًا للتضرر بجثته ، ولإلقاء النبي قتلى بدر في القليب ، متفق عليه من حديث أبي طلحة ، وهكذا حكم المرتد كتارك الصلاة عمداً ، وصاحب البدعة المكفرة ، يجب أن يكون هذا موقف المسلم من الكافر حيًّا وميِّتاً ، موقف التبري والبغضاء .
مسألة : يشترط أن يكون الماء الذي يغسل به طهوراً ، والأفضل أن يكون بارداً ؛ إلا عند الحاجة لإزالة وسخ على الميت أو في شدة برد ، فلا بأس بتسخينه .
ويكون التغسيل في مكانٍ مستورٍ عن الأنظار .
ويستر مابين سرة الميت وركبته وجوبًا قبل التغسيل ، ثم يجرده من ثيابه ، ويستر جميع بدنه بثوب ، ويوضع على سرير الغسل منحدرًا نحو رجليه ؛ لينصب عنه الماء وما يخرج منه .
ويحضر التغسيل الغاسل ومن يعينه على الغسل ، ويكره لغيرهم حضوره .
وصفة التغسيل :
أن يلف الغاسل على يده خرقة ، أو يلبس على يديه قفَّازات ، ولا يحل أن يمس عورته بلا حائل إذا كان له أكثر من سبع سنوات ، فينجي الميت ، وينقي المخرج بالماء ، ثم ينوي التغسيل ، ويسمي ، ويوضئه كوضوء الصلاة ؛ إلا في المضمضة والإستنشاق ؛ فيكفي عنهما مسح الغاسل أسنان الميت ومنخريه بأصبعيه مبلولتين أو عليهما خرقة مبلولة بالماء ، ولا يدخل الماء فمه ولا أنفه ، ثم يغسل رأسه ولحيته برغوة سدر أو صابون ، ثم يغسل بالباقي ميامن جسده ، وهي صفحة عنقه اليمنى ، ثم يده اليمنى وكتفه ، ثم شق صدره الأيمن وجنبه الأيمن وفخذه الأيمن وساقه وقدمه الميامن ، ثم يقلبه على جنبه الأيسر ، فيغسل شق ظهره الأيمن ، ثم يغسل جانبه الأيسر كذلك ، ثم يقلبه على جنبه الأيمن ، فيغسل شق ظهره الأيسر ، ويستحب أن يلف على يده خرقة حال التغسيل .
والواجب غسله واحدة إن حصل الإنقاء بها ، والمستحب ثلاث غسلات ، وإن لم يحصل الإنقاء ؛ زاد في الغسلات حتى ينقى ، ويستحب أن يجعل في الغسلة الأخيرة كافورًا ؛ لأنه يصلب بدن الميت ، ويطيبه ، ويبرده ، فلأجل ذلك ؛ يجعل في الغسلة الأخيرة ؛ ليبقى أثره .
ثم ينشف الميت بثوب ونحوه ، ويقص شاربه ، وتقلم أظافره إن طالت ، ويؤخذ شعر إبطيه إن طال ، ويظفر شعر رأس المرأة ثلاث قرون ، ويسدل من ورائها .
ويستحب لمن غسل ميِّتًا أن يغتسل بعد تغسيله ، وليس ذلك بواجب .
أحكام التكفين :
وبعد تمام الغسل يشرع تكفين الميت . وحكمه : فرض كفاية .
ويشترط في الكفن أن يكون ساتراً ، ويستحب أن يكون أبيض نظيفاً ، سواء كان جديدًا وهو الأفضل أو غسيلاً .
ومقدار الكفن الواجب : ثوب يستر جميع الميت ، والمستحب تكفين الميت في ثلاث لفائف . ويستحب تجمير الأكفان بالبخور بعد رشها بماء الورد ونحوه ، لتعلق بها رائحة البخور ؛ لثبوت السنة بذلك .
ويتم تكفين الميت بأن تبسط اللفائف الثلاث بعضها فوق بعض ، ثم يؤتى بالميت مستوراً ، وجوباً ، بثوبٍ ونحوه ، ويوضع فوق اللفائف مستلقياً ، ثم يؤتى بالحنوط - وهو الطيب - ويجعل منه في قطن بين أليتي الميت ، ويشد فوقه خرقة ، ثم يجعل باقي القطن المطيب على عينه ومنخريه وفمه وأذنيه وعلى مواضع سجوده : جبهته ، وأنفه ، ويديه ، وركبتيه ، وأطراف قدميه ، ومغابن البدن : الإبطين ، وطي الركبتين وسرته ، يجعل من الطيب بين الأكفان ؛ لورود ذلك عن الصحابة ، ثم يرد طرف اللفافة العليا من الجانب الأيسر على شقة الأيمن ، ثم طرفها الأيمن على شقه الأيسر ، ثم الثانية كذلك ثم الثالثة كذلك ، ويكن الفاضل عند رأسه ويرد على وجهه ، ويجمع الفاضل عند رجليه فيرد على رجليه ، ثم يعقد على اللفائف أحزمة ؛ لئلا تنتشر وتحل العقد في القبر .
أحكام الصلاة على الميت :
الصلاة على الميت فرض كفاية ، إذا فعلها البعض سقط الإثم عن الباقين ، وتبقى في حق الباقين سنة ، وإن تركها الكل أثموا .
لقوله تعالى : ] وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً [ [التوبة: 84] فلما نهي عن الصلاة على المنافقين دل على أنه مأمور بالصلاة على المؤمنين ، وأجمع المسلمون على مشروعيتها .
شروط الصلاة على الميت :
يشترط في الصلاة على الميت : النية ، واستقبال القبلة ، وستر العورة ، وطهارة المصلي ، والمصلى عليه ، واجتناب النجاسة ، وإسلام المصلي والمصلى عليه ، وحضور الجنازة إن كانت بالبلد ، وكون المصلي مكلفاً .
وأركانها هي : القيام فيها ، والتكبيرات الأربع ، وقراءة الفاتحة ، والصلاة على النبي ، والدعاء للميت ، والترتيب ، والتسليم .
وأما سننها فهي : رفع اليدين مع كل تكبيرة ؛ لوروده ، كابن عمر – رضي الله عنهما – معلقاً في البخاري ، وابن عباس – رضي الله عنهما- كما في سنن سعيد بن منصور ، وزيد بن ثابت كما في ابن أبي شيبة .
والبسملة ، والاستعاذة قبل القراءة ، وأن يدعو لنفسه وللمسلمين ، والإسرار بالقراءة ، وأن يقف بعد التكبيرة الرابعة وقبل التسليم قليلاً وإن دعا بعدها فحسن ، وأن يضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره ، والإلتفات عن يمينه في التسليم .
وتكون الصلاة على الميت بأن يقوم الإمام والمنفرد عند صدر الرجل ، ووسط المرأة ، ويقف المأموم خلف الإمام ، ويسن جعلهم ثلاثة صفوف ، ثم يكبر للإحرام ، ويتعوذ بعد التكبير مباشرة فلا يستفتح ، ويسمي ، ويقرأ الفاتحة ، ثم يكبر ، ويصلي بعدها على النبي ، مثل الصلاة عليه في تشهد الصلاة ، ثم يكبر ، ويدعو للميت بما ورد ، ومنه الدعاء العام كما في حديث أبي هريرة : (( اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا ، وصغيرنا وكبيرنا ، وذكرنا وأنثانا ، اللهم من أحييته منَّا فأحيه على الإسلام ، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان ، اللهم لا تحرمنا أجره ، ولا تضلنا بعده )) ومن ذلك حديث عوف بن مالك : (( اللهم اغفر له ، وارحمه ، وعافه ، واعف عنه ، وأكرم نزله ، ووسع مدخله ، واغسله بالماء والثلج والبرد ، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله داراً خير من داره ، وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه ، وأدخله الجنة ، وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار )) ، وإن كان المصلى عليه أنثى قال : ( اللهم اغفر لها ) بتأنيث الضمير في الدعاء كله ، وإن كان المصلى عليه صغيراَ ؛ فيدعو بالدعاء العام المتقدم .
وورد عن أبي هريرة أنه كان يقول : ( اللهم اجعله لنا سلفاً وفرطاً وذخراً ) ، ( اللهم أعذه من عذاب القبر ) ثم يكبر ، ويقف بعدها قليلاً ، ثم يسلم تسليمة واحدة عن يمينه وأحياناً يكبر خمس تكبيرات ؛ لثبوت ذلك في السنة ، وأحياناً ستاً ، وأحياناً سبعاً ؛ لورود ذلك عن علي .
ومن فاتته بعض الصلاة علىالجنازة ، دخل مع الإمام فيما بقي ، ثم إذا سلم الإمام ؛ قضى مافاته على صفته .
مسألة : ومن فاتته الصلاة على الميت قبل دفنه ؛ صلى على قبره إن كان من أهل الصلاة عليه يوم موته ؛ لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما- في الصحيحين .
مسألة : يصلى على الغائب إن لم يكن صلي عليه ، لصلاته على النجاشي متفق عليه.
مسألة : حمل المرأة إذا سقط ميتاً وقد تم له أربعة أشهر فأكثر ، يُغسَّل ويُكفَّن ، ويُصلَّى عليه صلاة الجنازة ، ويُسمَّى ويُعقُّ عنه ، وإن كان دون أربع أشهر ؛ لم يُصلَّ عليه ولم يُفعل شيءٌ مما سبق .
أحكام حمل الميت ودفنه :
حمل الميت ودفنه من فروض الكفاية على من علم بحاله من المسلين ، ودفنه مشروع بالكتاب والسنة ، قال الله تعالى : ] الم نجعل الأرض كفاتاً أحياء وأمواتاً [ ، وقال تعالى: ] ثم أماته فأقبره [ أي : جعله مقبوراً .
وهو هدي النبي – صلى الله عليه وسلم- .
واتباع الجنازة وتشييعها إلى قبرها فرض كفاية ؛ لحديث أبي هريرة أن النبي قال : (( حق المسلم على المسلم خمس… ، وذكر منها : وإذا مات فاتبعه…)) متفق عليه .
وفيها فضل عظيم ، ففي الصحيحين : (( من شهد الجنازة حتى يصلى عليها ؛ فله قيراط ، ومن شهدها حتى تدفن ؛ فله قيراطان )) قيل : وما القيراطان ؟ قال : (( مثل الجبلين العظيمين )) . وللبخاري بلفظ : (( مَن شَيَّع )) ، ولمسلم بلفظ : (( مَن خرج معها ، ثم تبعها حتى تدفن )) ؛ ففي الحديث برواياته الحث على تشييع الجنازة إلى قبرها.
ويسن لمن تبعها المشاركة في حملها إن أمكن التربيع : بأن يحمل من جوانب السرير كلها ، ولابأس بحملها في سيارة أو على دابة ، إذا كانت المقبرة بعيدة .
ويستحب لمن حمله أن يتوضأ ؛ لوروده عن أبي هريرة .
ويسن الإسراع بالجنازة ؛ لقوله في حديث أبي هريرة : (( أسرعوا بالجنازة ، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه ، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم )) متفق عليه ، لكن لا يكون الإسراع شديداً يؤذي الأحياء والميت ، ويكون على حامليها ومشيعيها السكينة ، ولا يرفعون أصواتهم لابقراءة ولاغيرها ، من تهليل وذكر أوقولهم : استغفروا له ، وما أشبه ذلك ؛ لأن هذا بدعة .
مسألة : يحرم خروج النساء مع الجنائز ؛ لحديث أم عطية : (( نُهينا عن اتباع الجنائز )) رواه البخاري ، ولم تكن النساء يخرجن مع الجنائز على عهد رسول الله ؛ فتشييع الجنائز خاص بالرجال .
أحكام الدفن :
يسن أن يعمق القبر ويوسع ؛ لقوله : (( احفروا وأوسعوا وعمقوا )) رواه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث هشام بن عامر ، قال الترمذي : "حسن صحيح" . ويجزئ حفرة تمنع من الرائحة .
ويسن ستر قبر المرأة عند إنزالها فيه ؛ لأنها عورة . ويسن أن يقول من ينـزل الميت في القبر (( بسم الله ، وعلى ملة رسول الله )) ؛ لقوله في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما-: (( إذا وضعتم موتاكم في القبور فقولوا : بسم الله ، وعلى ملة رسول الله )) رواه الخمسة إلا النسائي ، وحسَّنه الترمذي وأعل بالوقف .
ويوضع الميت في لحده على شقه الأيمن مستقبل القبلة ؛ لجريان عمل المسلمين على هذا .
ثم تسد عليه فتحة اللحد باللبِن والطين حتى يلتحم ، كما في حديث عمرو بن العاص ثم يهال عليه التراب ، ولا يزاد عليه من غير ترابه .
ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر ويكون مسنَّماً كهيئة السنام كما فعل بالنبي لتنـزل عنه مياه السيول ، ويوضع عليه حصباء ، ويرش بالماء ليتماسك ترابه ولا يتطاير ولا بأس بوضع النصائب على طرفيه لبيان حدوده وليعرف بها .
ويستحب إذا فرغ من دفنه أن يقف المسلمون على قبره ويدعوا ، ويستغفروا له ؛ لأنه كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه ، وقال : (( استغفروا لأخيكم ، واسألوا له التثبيت ؛ فإنه الآن يسأل )) رواه أبو داود ، وأما قصد قراءة شيء من القرآن عند القبر ؛ فإن هذا بدعة ؛ لأنه لم يفعله رسول الله ولا صحابته الكرام ، وكل بدعة ضلالة .
ويحرم بناء القبور وتجصيصها والكتابة عليها ؛ لقول جابر : (( نهى رسول الله أن يُجصَّص القبر ، وأن يُقعد عليه ، وأن يُبنى عليه )) رواه مسلم ، وروى الترمذي وصحَّحه من حديث جابر مرفوعاً : (( نهى أن تُجصَّص القبور ، وأن يُكتب عليها ، وأن تُوطأ )) ، ولأن هذا من وسائل الشرك والتعلق بالأضرحة ؛ لأن الجهَّال إذا رأوا البناء والزخرفة على القبر تعلَّقوا به .
ويحرم إسراج القبور ، أي : إضاءتها بالأنوار الكهربائية وغيرها ، ويحرم اتخاذ المساجد عليها ، أي : ببناء المساجد عليها ، والصلاة عندها أو إليها ، وتحرم زيارة النساء للقبور ؛ لقوله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما : (( لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج )) رواه أهل السنن ، وفي الصحيحين من حديث عائشة وابن عباس مرفوعاً : (( لعن الله اليهود والنصارى ؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) ولأن تعظيم القبور بالبناء ونحوه هو أصل شرك العالم .
وتحرم إهانة القبور بالمشي عليها ووطئها بالنعال والجلوس عليها ؛ لما روى مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً : (( لأن يجلس أحدكم على جمرة ، فتحرق ثيابه ، فتخلص إلى جلده خير من أن يجلس على قبر )) .
أحكام التعزية وزيارة القبور :
التعزية : تسن تعزية المصاب بالميت ، وحثه على الصبر والدعاء للميت .
ويستحب أن يعد لأهل الميت طعاما يبعثه إليهم ؛ لقوله : (( اصنعوا لآل جعفر طعاماً ؛ فقد جاءهم ما يشغلهم )) رواه أحمد والترمذي وحسَّنه من حديث عبد الله بن جعفر ، وأما ما يفعله بعض الناس من المبالغة في صنع الطعام ، وإطالة الجلوس عند أهل الميت دون حاجة ملحَّة فإنَّه منهيٌّ عنه .
وكذا ما يفعله بعض الناس اليوم من أن أهل الميت يهيئون مكاناً ؛ لاجتماع الناس عندهم ، ويصنعون الطعام ، ويستأجرون المقرئين لتلاوة القرآن ، ويتحملون في ذلك تكاليف مالية ؛ فهذا من المآتم المحرمة المبتدعة .
زيارة القبور : وتستحب زيارة القبور للرجال خاصة ؛ لأجل الإعتبار والإتعاظ ، ولأجل الدعاء للأموات والاستغفار لهم ؛ لقوله : (( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ؛ فزوروها )) رواه مسلم والترمذي وزاد : (( فإنها تذكركم الآخرة )) ويكون ذلك بدون سفر ؛ فزيارة القبور تستحب بثلاثة شروط :
1- أن يكون الزائر من الرجال لا النساء ؛ لأن النبي قال : (( لعن الله زوارات القبور )) رواه أحمد والترمذي وصححه ، وابن ماجه .
2- أن تكون بدون سفر ؛ لقوله في حديث أبي هريرة : (( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد )) متفق عليه .
3- أن يكون القصد منها الإعتبار والإتعاظ والدعاء للأموات ، فإن كان القصد منها التبرك بالقبور والأضرحة ، وقضاء الحاجات ، وتفريج الكربات من الموتى ؛ فهذه زيارة بدعية شركية .
ويجعل الزائر وجهه لوجه الميت ، وإذا أراد الدعاء له استقبل القبلة ، ويأتي بالأذكار الواردة عند الزيارة .
أحكام الزّكاة
الزّكاة أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام ، كما تظاهرت بذلك دلالة الكتاب والسنة ، وقد قرنها الله تعالى بالصلاة في كتابه في اثنين وثمانين موضعاً ، مما يدل على عظم شأنـها .
قال الله -تعالى-: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ]البقرة: 43[.
وقال -عز وجل-: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُم ْ[التوبة:5].
وقال النبي : (( بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة .. )) الحديث متفق عليه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- .
وأجمع المسلمون على فرضيتها ، وأنها الركن الثالث من أركان الإسلام ، وعلى كفر من جحد وجوبها ، وقتال من منع إخراجها .
فرضت في السنة الثانية للهجرة النبوية ، وبعث رسول الله السعاة لقبضها وجبايتها لإيصالها إلى مستحقيها ومضت بذلك سنة الخلفاء الراشدين وعمل المسلمين .
وفي الزكاة إحسان إلى الخلق ، وهي طهرة للمال من الدنس ، وحصانة له من الآفات ، وعبودية للرب -سبحانه وتعالى- ، قال الله - عز وجل- : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [التوبة:103] وبالتالي فهي تطهير للنفوس من الشح والبخل ، وامتحان للغني ؛ حيث يتقرب إلى الله بإخراج شيء من ماله المحبوب إليه .
والزكاة لغة تطلق على معان منها : النهاء والمدح والتطهير .
وقد سماها الله بالزكاة ؛ لأنها تزكي النفس والمال ؛ فهي ليست غرامة ولا ضريبة تنقص المال وتضر صاحبه ، بل هي على العكس تزيد المال نمواً من حيث لا يشعر الناس ، قال : (( ما نقصت صدقة من مال )) رواه مسلم .
والزكاة في الشرع : حق واجب في مال خاص لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص . ويأتي بيانه .
وتجب الزكاة إذا توفرت شروط خمسة :
أحدها : الحرية فلا تجب على مملوك ؛ لأنه لا مال له وما بيده ملك لسيده ، فتكون زكاته على سيده .
الشرط الثاني : أن يكون صاحب المال مسلماً ؛ فلا تجب على كافر ، بحيث لا يطالب بأدائها لقوله تعالى : وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِه [التوبة: 54] ولأنها قربة وطاعة ، والكافر ليس من أهل القربة والطاعة ، ولأنها تحتاج إلى نية ، ولا تتأتى من الكافر ، أما وجوبها عليه وجوب تكليف بمعنى أنه مخاطب بها ويعاقب عليها في الآخرة عقاباً خاصاً ، فدلَّ له قوله تعالى : مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِين [المدثر:44] ، وفي حديث معاذ : (( فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإن هم أطاعوك ؛ فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة ، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم )) متفق عليه ، فجعل الإسلام شرطًا لوجوب الزكاة .
الشرط الثالث : امتلاك نصاب ؛ فلا تجب فيما دون النصاب ، وهو قدر معلوم من المال يأتي تفصيله .
الشرط الرابع : استقرار الملكية بأن لا يتعلق بها حق غيره فلا زكاة في مال لم تستقر ملكيته كدين الكتابة ؛ لأن المكاتب يملك تعجيز نفسه ، ويمتنع من الأداء .
الشرط الخامس : مضي الحول على المال ، لحديث علي : (( لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول )) رواه أبو داود ، والدارقطني ، والبيهقي ، وله شاهد من حديث عائشة -رضي الله عنهما- وورد ذلك عن الصحابة بأسانيد ثابتة كأبي بكر ، وعثمان ، وعلي ، وابن عمر .
فأما الخارج من الأرض فتجب فيه الزكاة عند وجوده فلا يعتبر فيه الحول ، وإنما يبقى تمام الحول مشترطاً في النقود والماشية وعروض التجارة رفقاً بالمالك ؛ ليتكامل النماء فيها .
ونتاج البهائم التي تجب فيها الزكاة وربح التجارة حولهما حول أصلهما ؛ فلا يشترط أن يأتي عليهما حول مستقل إذا كان أصلهما قد بلغ النصاب ، فإن لم يكن كذلك ؛ ابتدئ الحول من تمامهما النصاب .
زكاة الدين :
ومن له دينٌ على معسر أو مماطل ؛ فإنه يخرج زكاته إذا قبضه لعام واحد على الصحيح ، وإن كان له دين على ملئ باذل ؛ فإنه يزكِّيه كل عام .
وما أُعِدُّ من الأموال للاستعمال ، فلا زكاة فيه كدور السكنى ، وثياب البذلة ، وأثاث المنـزل ، والسيارات ، والدواب المعدة للركوب والاستعمال .
وما أُعِدُّ للكراء كالسيارات والدكاكين والبيوت ، فلا زكاة في أصله ، وإنما تجب الزكاة في أجرته إذا بلغت النصاب بنفسها أو بضمها إلى غيرها وحال عليها الحول من حين العقد .
ومن وجبت عليه الزكاة ثم مات قبل إخراجها ، وجب إخراجها من تركته ، فلا تسقط بالموت ؛ لقوله : (( فدين الله أحق بالوفاء )) رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- ، فيخرجها الوارث أو غيره من تركة الميت ؛ لأنها حق واجب ؛ فلا تسقط بالموت وهي دين في ذمة الميت يجب إبراؤه منها .
زكاة بهيمة الأنعام
من الأموال التي أوجب الله فيها الزكاة بهيمة الأنعام ، وهي : الإبل ، والبقر ، والغنم ، فقد دلت على وجوب الزكاة فيها الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي ، وبعث السعاة لجبايتها من قبائل العرب حول المدينة وغيرها .
فتجب الزكاة في الإبل والبقر والغنم بشرطين :
الشرط الأول : أن تتخذ لدر-أي للحليب- ونسل لا للعمل ؛ لأنها حينئذ تكثر منافعها ويطيب نماؤها بالكبر والنسل فاحتملت المواساة .
الشرط الثاني : أن تكون سائمة ، أي : راعية الحول أو أكثره ؛ لقوله في حديث بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده : (( في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون )) رواه أحمد وأبو داود والنسائي ، والسوم : الرعي ؛ فلا تجب الزكاة في دواب تُعلف بعلف اشتراه لها أو جمعه من الكلأ أو غيره .
أولاً : زكاة الإبل :
إذا توفرت الشروط وجب في كل خمس من الإبل شاة ، وفي العشر شاتان ، وفي خمس عشرة ثلاث شياه ، وفي عشرين أربع شياه ؛ كما دلَّ على ذلك السنة والإجماع .
فإذا بلغت خمس وعشرين ففيها بنت مخاض ، وهي ما تمَّ لها سنة ودخلت في السنة الثانية ، سميت بذلك ؛ لأن أمها تكون في الغالب قد مخضت أي : حملت ، وليس كونها ماخضاً شرطاً ، وإنما هذا تعريف لها بغالب أحوالها ، فإن عَدَمها أجزأ عنها ابن لبون ؛ لحديث أنس : (( فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون ذكر )) رواه البخاري .
وإذا بلغت الإبل ستاً وثلاثين وجب فيها بنت لبون ؛ لحديث أنس وفيه : (( فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ؛ ففيها بنت لبون )) رواه البخاري ، أنثى كما دل على ذلك الإجماع ، وبنت اللبون هي ما تم لها سنتان ، لهذا سميت بذلك ؛ لأن أمها تكون في الغالب قد وضعت حملها ، فكانت ذات لبن ، وليس هذا شرطاً ، ولكنه تعريف لها بالغالب .
فإذا بلغت الإبل ستاً وأربعين ؛ وجب فيها (حِقَّة) ، وهي ما تم لها ثلاث سنين ، سميت بذلك ؛ لأنها بهذا السن استحقت أن يطرقها الفحل وأن يُحمل عليها وتُركب ؛ لحديث أنس في "البخاري" : (( فإذا بلغت ستاً وأربعين ففيها حقة )) .
فإذا بلغت الإبل إحدى وستين ؛ وجب فيها (جذعة) ، وهي ما تم لها أربع سنين ، سميت بذلك ؛ لأنها إذا بلغت هذا السن تجذع ، أي: يسقط سنها ، والدليل على وجوب الجذعة في هذا المقدار من الإبل ما في "البخاري" من حديث أنس : (( فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين؛ ففيها جذعة )) وقد أجمع العلماء على ذلك .
فإذا بلغ مجموع الإبل ستاً وسبعين وجب فيها بنتا لبون اثنتان ؛ لما في البخاري من حديث أنس وفيه : (( فإذا بلغت ستًا وسبعين إلى تسعين ؛ ففيها بنتا لبون )) .
فإذا بلغت الإبل إحدى وتسعين وجب فيها حقتان ؛ لحديث أنس في البخاري : (( فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الفحل )) ، وللإجماع على ذلك .
فإذا زاد مجموع الإبل عن مائة وعشرين بواحدة ؛ وجب فيها ثلاث بنات لبون ، ثم يجب في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة . لحديث أنس في البخاري .
ثانياً : زكاة البقر :
وأما البقر ؛ فتجب فيها الزكاة بالنص والإجماع ؛ ففي الصحيحين عن جابر : سمعت رسول الله يقول : (( ما من صاحب إبلٍ ولا بقرٍ ولا غنمٍ لا يؤدي زكاتها ؛ إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه ، تنطحه بقرونها ، وتطؤه بأخفافها )) .
وقد ثبت عن معاذ (( أن النبي لما بعثه إلى اليمن أمره أن يأخذ صدقة البقر : من كل ثلاثين تبيعاً ، ومن كل أربعين مسنَّة )) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي .
فيجب فيها إذا بلغت ثلاثين تبيع أو تبيعة قد تم لكل منهما سنة ودخل في السنة الثانية ، سمي بذلك لأنه يتبع أمه في السرح .
ولا شيء فيما دون الثلاثين ؛ لحديث معاذ قال : (( أمرني رسول الله حين بعثني إلى اليمن أن لا آخذ من البقر شيئاً حتى تبلغ ثلاثين )) .
فإذا بلغ مجموع البقر أربعين ؛ وجب فيها بقرة مسنة ، وهي ما تم لها سنتان ؛ لحديث معاذ قال : (( وأمرني رسول الله أن آخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعاً أو تبيعة ، ومن كل أربعين مسنَّة )) رواه الخمسة ، وصحَّحه ابنُ حبان والحاكمُ وابنُ عبد البر .
فإذا زاد مجموع البقر على أربعين ؛ وجب في كل ثلاثين منها تبيع ، وفي كل أربعين مسنة .
والمسنة : هي التي صارت ثنية ، سميت مسنة لزيادة سنها ، ويقال لها : ثنية .
ثالثاً : زكاة الغنم :
الأصل في وجوب زكاة الغنم السنة والإجماع ؛ ففي البخاري عن أنس أن أبا بكر رضي الله عنهما كتب له : (( هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله على المسلمين والتي أمر الله بها رسوله … )) إلى أن قال : (( وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة .. )) الحديث .
فإذا بلغ مجموع الغنم أربعين ضأناً كانت أو معزاً ؛ ففيها شاة واحدة ، وهي جذع ضأن أو أنثى معز .
ولا زكاة في الغنم إذا نقص عددها عن أربعين ؛ لحديث أبي بكر في البخاري وفيه : (( فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة عن أربعين شاة شاةً واحدةً ؛ فلا شيء فيها ؛ إلا إن شاء ربها )) .
فإذا بلغ مجموع الغنم مائة وإحدى وعشرين وجب فيها شاتان ؛ لحديث أبي بكر الذي تقدم ، وفيه : (( فإذا زادت -أي على عشرين ومائة- ففيها شاتان )) رواه البخاري .
فإذا بلغت مائتين وواحدة وجب فيها ثلاث شياه ؛ لحديث أبي بكر وفيه : (( فإذا زادت واحدة – أي على المائتين –؛ ففيها ثلاث شياه )) رواه البخاري .
ثم تستقر الفريضة فيها بعد هذا المقدار ، فيتقدر في كل مائة شاة ؛ ففي أربعمائة أربع شياه ، وفي خمسمائة خمس شياه ، وفي ستمائة ست شياه … ، وهكذا ؛ لما في كتاب الصدقات الذي عمل به أبو بكر حتى مات وعمر حتى توفي ؛ فيه (( فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة ، فإذا زادت ففي كل مائة شاة )) رواه البخاري .
ولا تؤخذ هرمة ولا معيبة لا تجزئ في الأضحية إلا إذا كانت كل الغنم كذلك ، ولا تؤخذ الحامل ولا الربي التي تربي ولدها ولا طروقة الفحل أي التي طرقها الفحل ؛ لأنها تحمل غالباً ؛ لحديث أبي بكر في البخاري قال : (( لا يخرج في الصدقة هرمة ، ولا ذات عوار ، ولا تيس إلا أن يشاء المصدق )) وقال تعالى : وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ [البقرة: 267].
ولا تؤخذ كريمة ، وهي النفيسة التي تتعلق بها نفس صاحبها ، ولا تؤخذ أكولة ، وهي السمينة المعدة للأكل أو هي كثيرة الأكل ، فتكون سمينة بسبب ذلك ، قال لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن : (( إياك وكرائم أموالهم )) متفق عليه .
والمأخوذ في الصدقات العدل وتؤخذ المريضة من نصاب كله مراض ؛ لأن الزكاة وجبت للمواساة ، وتكليفه الصحيحة عن المراض إجحاف به ، وتؤخذ الصغيرة من نصاب كله صغار من الغنم خاصة .
وإذا شاء صاحب المال أن يخرج أفضل مما وجب عليه ؛ فهو أفضل وأكثر أجراً .
وإن كان المال مختلطاً من كبار وصغار ، أو صحاح ومعيبات ، أو ذكور وإناث ، أخذت أنثى صحيحة كبيرة على قدر قيمة المالين ، فيقوم المال كباراً ويعرف ما يجب فيه، ثم يقوم صغاراً كذلك ، ثم يؤخذ بالقسط ، وهكذا الأنواع الأخرى من صحاح ومعيبات أو ذكور وإناث ، فلو كانت قيمة المخرج من الزكاة إذا كان النصاب كباراً صحاحاً عشرين ، وقيمته إذا كان صغاراً مراضاً عشرة فيخرج النصف من هذا والنصف من هذا ، أي ما يساوي خمسة عشر .
مسألة : الخلطة نوعان :
النوع الأول : خلطة أعيان : بأن يكون المال مشتركاً مشاعاً بينهما ، لم يتميز نصيب أحدهما عن الآخر ، كأن يكون لأحدهما نصف هذه الماشية أو ربعها ونحوه .
النوع الثاني : خلطة أوصاف : بأن يكون نصيب كل منهما متميزاً معروفاً لكنهما مختلطان .
وكل واحدة من الخلطتين تؤثر في الزكاة إيجاباً وإسقاطاً وتغليظاً وتخفيفاً ، فالخلطة بنوعيها تصير المالين المختلطين كالمال الواحد بشروط :
الشرط الأول : أن يكون المجموع نصاباً ، فإن نقص عن النصاب لم يجب فيه شيء ، والمقصود أن يبلغ المجموع النصاب ، ولو كان مال كل واحد ناقصاً عن النصاب .
الشرط الثاني : أن يكون الخليطان من أهل وجوب الزكاة ، فلو كان أحدهما ليس من أهل الزكاة كالكافر لم تؤثر الخلطة ، وصار لكل قسم حكمه .
الشرط الثالث : أن يشترك المالان المختلطان في أشياء خاصة : في المراح ، وهو المبيت والمأوى ، ويشتركا في المسرح ، وهو المكان الذي تجتمع فيه لتذهب للمرعى ، ويشتركا في المحلب ، وهو موضع الحلب ، فلو حلب أحد الشريكين ماشيته في مكان وحلب الآخر ماشيته في مكان آخرلم تؤثر الخلطة ، وأن يشتركا في فحل بأن لا يكون لكل نصيب فحل مستقل ، بل لابد أن يطرقها فحل واحد ، وأن يشتركا في مرعى بأن يرعى مجموع الماشية في مكان واحد ، فإن اختلف المرعى فرعى نصيب أحدهما في مكان غير المكان الذي يرعى فيه خليطه لم تؤثر الخلطة ، وبعض العلماء أرجع هذا الاختلاف إلى العرف .
فإذا تمت هذه الشروط صار المالان المختلطان كالمال الواحد ؛ لقوله في حديث أنس : (( لا يجمع بين متفرق ، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية )) رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه ، وحسَّنه الترمذي .
فلوكان لإنسان شاة ولآخر تسع وثلاثون ، أوكان لأربعين رجلاً أربعون شاة ، لكل واحد شاة ، واشتركا حولاً تاماً ، مع توفر الشروط المتقدمة فعليهم شاةٌ واحدة على حسب ملكهم ، ففي المثال الأول يكون على صاحب الشاة ربع عشر شاة ، وعلى صاحب التسع والثلاثين باقيها ، وفي المثال الثاني على كل واحد من الأربعين ربع عشر شاة ، ولو كان لثلاثة رجال مائة وعشرون ، لكل واحد أربعون فعلى الجميع شاةٌ واحدةٌ أثلاثاً .
ولا تؤثر الفرقة في مال الشخص الواحد ، فيضم بعضه إلى بعض في الحكم ، ولو كان متفرقاً ، وهذا هو الراجح ، والله أعلم .
زكاة الحبوب والثمار
قال الله -تعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة: 267].
والزكاة تسمى نفقة ، كما قال -تعالى-: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: 34] أي : لا يخرجون زكاتها .
وقد استفاضت السنة المطهرة بالأمر بإخراج زكاة الحبوب والثمار ، وبيان مقدارها كما سيأتي ، وأجمع المسلمون على وجوبها في البر ، والشعير ، والتمر ، والزبيب .
مسألة : تجب الزكاة في الحبوب كلها ، كالحنطة ، والشعير ، والأرز ، والدخن ، وسائر الحبوب ؛ لقوله : (( ليس فيما دون خمسة أوسق من حب ولا تمر صدقة )) متفق عليه من حديث أبي سعيد . وقال -عليه الصلاة والسلام- : (( فيما سقت السماء والعيون العشر )) رواه البخاري من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- .
وتجب الزكاة في الثمار كالتمر والزبيب ونحوهما من كل ما يكال ويدخر ، ولا تجب الزكاة إلا فيما يبلغ النصاب ، لحديث أبي سعيد الخدري يرفعه : (( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة )) متفق عليه . والوسق : ستون صاعاً بالصاع النبوي الذي مقداره أربع حفنات بكفي الرجل المعتدل الخلقة ، ومقداره بالغرامات (2.40) أي كيلوان وأربعون غراماً .
ويشترط في زكاة الحبوب والثمار شرطان :
الأول : بلوغ النصاب على ماسبق بيانه .
الثاني : أن يكون مملوكًا له وقت وجوب الزكاة ، فلو ملك النصاب بعد ذلك لم تجب عليه زكاة كما لو اشتراه ، أو أخذه أجرة لحصاده ، أو حصله باللقاط ، ونحو ذلك .
مسألة : والقدر الواجب إخراجه في زكاة الحبوب والثمار يختلف باختلاف وسيلة السقي :
فإذا سقي بلا مؤونة كالذي سقي بالأمطار والعيون والأنهار يجب فيه العشر ؛ لما في البخاري من حديث ابن عمر –رضي الله عنهما- : (( فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريًا العشر )) . ولمسلم عن جابر : (( فيما سقت الأنهار والغيم العشر )) .
ويجب فيما سقي بمؤونة كالذي سقي من الآبار والآلات نصف العشر ؛ لقوله في حديث ابن عمر : (( وما سُقي بالنضح نصف العشر )) رواه البخاري . والنضح: السقي بالسواني . ولمسلم عن جابر : (( وفيما سقي بالسانية نصف العشر )) وإن سقي بمؤنة وبغير مؤنة نصفين ففية ثلاثة أرباع العشر ، فإن تفاوتا السقي بمؤنة وبغير مؤنة فيعتبر الأكثر نفعاً ، ومع الجهل العشر .
مسألة : وقت وجوب الزكاة في الحبوب حين تشتد ، أي تقوى وتصلب ، وفي الثمر حينما يبدو صلاحه بأن يحمر أو يصفر وإن كان تمر ، وإن كان غيره أن ينضج ويطيب أكله ، فلو باعه بعد ذلك وجبت زكاته عليه لا على المشتري .
مسألة : ويلزم إخراج الحب مصفى ، أي : منقى من التبن والقشر .
مسألة : وينبغي إخراج الزكاة في العسل إذا أخذه من ملكه أو من الموات كرؤوس الجبال إذا بلغ ما أخذه نصاباً ، ونصاب العسل : ثلاثون صاعاً بالصاع النبوي . وقدر الصاع : ألفان وأربعون غراماً ، ومقدار ما يخرج منه : العشر .
مسألة : وتجب الزكاة في المعدن ؛ لقوله -تعالى- : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة: 267].
والمعدن هو : المكان الذي عدن فيه شيء من جواهر الأرض فهو مستفاد من الأرض ، فوجبت فيه الزكاة كالحبوب والثمار ، فإن كان المعدن ذهبًا أو فضة ، ففيه ربع العشر إذا بلغ نصاباً فأكثر ، وإن كان غيرهما كالكحل والكبريت والملح والنفط ، فيجب فيه ربع عشر قيمته إن بلغت قيمته نصابًا فأكثر من الذهب والفضة .
مسألة : وتجب الزكاة في الركاز ، والركاز هو : ما وجد مدفونًا من أموال الكفار من أهل الجاهلية . سمي ركازاً ؛ لأنه غيب في الأرض ، كما تقول ركزت الرمح ، ويجب فيه الخمس في قليله وكثيره ؛ لقوله : (( وفي الركاز الخمس )) متفق عليه عن أبي هريرة .
ويعرف كونه من أموال الكفار بوجود علامة الكفار عليه أو على بعضه بأن يوجد عليه أسماء ملوكهم ، أو عليه رسم صلبانهم ، فإذا أخرج خُمُسَه فباقيه لواجده .
وإن وجد على المال المدفون أو على بعضه علامة المسلمين ، أو لم يجد عليه علامة أصلاً فحكمه حكم اللقطة .
وما أخذ من زكاة الركاز يصرف في مصالح المسلمين كمصرف الفيء .
مسألة : وما لا يكال ولا يدخر من الحبوب والثمار لا تجب فيه الزكاة كالجوز ، والتفاح ، والخوخ ، والسفرجل ، والرمان ، ولا في سائر الخضروات ، والبقول ، كالفجل ، والثوم ، والبصل ، والجزر ، والبطيخ ، والقثاء ، والخيار ، والباذنجان ، ونحوها ، لقول الرسول : (( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة )) متفق عليه عن أبي سعيد . فاعتبر الكيل لما تجب فيه الزكاة ، فدل على عدم وجوبها فيما لايكال ويدخر ، وتركه وخلفائه لها - وهي تزرع بجوارهم فلا تؤدى زكاتها لهم - دليل على عدم وجوب الزكاة فيها ، فترك أخذ الزكاة منها هو السنة المتبعة .
زكاة النقدين
المراد بزكاة النقدين زكاة الذهب والفضة ، وما اشتق منهما من نقود ، وسبائك وغير ذلك .
والدليل على وجوب الزكاة في الذهب والفضة : الكتاب ، والسنة ، والإجماع .
قال الله تعالى : وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّه فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة: 34] ففي هذه الآية الكريمة الوعيد الشديد بالعذاب الأليم لمن لم يخرج زكاة الذهب والفضة .
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة : (( ما من صاحب ذهبٍ ولا فضةٍ لا يؤدي حقها ، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار ... )) الحديث .
و المراد بالكنـز المذكور في القرآن والحديث : كل ما وجبت فيه الزكاة فلم تؤد زكاته ، وما أخرجت زكاته فليس بكنـز ، والكنـز : كل شيء مجموع بعضه على بعض سواء كنـزه في بطن الأرض أم على ظهرها .
مسألة : تجب الزكاة في الذهب إذا بلغ (عشرين مثقالا) وهو ما يساوي خمسة وثمانين غراماً ، وفي الفضة إذا بلغت (مائتي درهم إسلامي) وهو ما يساوي خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً .
ومقدار الزكاة فيهما : ربع العشر سواء كانا مضروبين أو غير مضروبين ؛ لحديث علي مرفوعاً : (( فإذا كان لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم ، وليس عليك شيء – يعني في الذهب – حتى يكون لك عشرون دينارًا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار )) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي ، وصححه البخاري كما نقله الترمذي . وفي حديث أنس مرفوعاً : (( وفي الرقة ربع العشر )) متفق عليه . والرقة -بكسر الراء وتخفيف القاف- هي : الفضة الخالصة ، مضروبة كانت أو غير مضروبة .
زكاة عروض التجارة
العروض جمع عرض - بإسكان الراء - وهو ما أعد لبيع وشراء لأجل الربح ، سمي بذلك ؛ لأنه يعرض ليباع ويشترى ، ولأنه يعرض ثم يزول .
والدليل على وجوب الزكاة في عروض التجارة قوله-تعالى-: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة: 103] ، وقوله -تعالى-: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم ]المعارج:24،25[ ، وعروض التجارة هي : أغلب الأموال ؛ فكانت أولى بدخولها في عموم الآيات ، ويروى ذلك عن الصحابة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : " الأئمة الأربعة وسائر الأمة- إلا من شذ- متفقون على وجوبها في عروض التجارة " .
ويشترط لوجوب الزكاة في عروض التجارة :
1. أن تبلغ قيمتها نصابًا من أحد النقدين الذهب ، أو الفضة .
2. تمام الحول عليها وتقدم دليل ذلك ، لكن لو اشترى عرضًا بنصاب من النقود أو بعروض تبلغ قيمتها نصاباً ؛ بنى على حول ما اشتراها به .
مسألة : كيفية إخراج زكاة العروض ، أنها تقوم عند تمام الحول بأحد النقدين : الذهب والفضة ويراعى في ذلك الأحظ للفقراء ، فإذا قُوِّمت وبلغت قيمتها نصابًا بأحد النقدين ، أخرج ربع العشر من قيمتها ولا يعتبر ما اشتريت به ، بل يعتبر ما تساوي عند تمام الحول ؛ لأنه هو عين العدل بالنسبة للتاجر وبالنسبة لأهل الزكاة .
ويجب على المسلم الاستقصاء والتدقيق ومحاسبة نفسه في إخراج زكاة العروض ، كمحاسبة الشريك الشحيح لشريكه ، بأن يحصي جميع ما عنده من عروض التجارة بأنواعها ، ويقومها تقويمًا عادلاً ، فصاحب البقالة مثلاً يحصي جميع مافي بقالته من أنواع المعروضات للبيع من المعلبات وأصناف البضائع ، وصاحب الآليات ، وقطع الغيار المكائن ، والسيارات المعروضة للبيع يحصيها ويقوِّمها إن كان يبيع بسعر الجملة قدرها بسعر الجملة ، وإن كان يبيع بسعر الإفراد قَدَّرَها بسعر الإفراد .
مسألة : العقارات والسيارات المعدة للإيجار لا زكاة في ذواتها ، إنما تجب الزكاة فيما تحصل عليه صاحبها من آجارها إذا حال عليه الحول من حين العقد .
مسألة : البيوت المعدة للسكنى ، والسيارات المعدة للركوب والحاجة لا زكاة فيها ، وكذلك أثاث المنـزل وأثاث الدكان وآلات التاجر ؛ كالأذرع ، والمكاييل ، والموازين ، وقوارير العطار ، كل هذه الأشياء لا زكاة فيها ؛ لأنها لا تباع للتجارة . لما روى أبو هريرة أن النبي قال : (( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة )) متفقٌ عليه .
زكاة الفطر
زكاة الفطر من رمضان : إضافتها إليه من إضافة الشيء إلى سببه لأن الفطر سببها .
والدليل على وجوبها قول الله –تعالى-: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ] الأعلى:14[ ، قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز : ( المراد بالتزكي هنا إخراج زكاة الفطر ) وتدخل في عموم قوله –تعالى- : } وآتوا الزكاة {.
وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال : ( فرض رسول الله زكاة الفطر صاعاً من بر ، أو صاعاً من شعير ، على العبد والحر ، والذكر والأنثى ، والصغير والكبير من المسلمين ) .
وقد حكى غير واحد من العلماء إجماع المسلمين على وجوبها .
والحكمة في مشروعيتها : أنها طهرة للصائم من اللغو والرفث ، وطعمة للمساكين ، وشكر لله تعالى على إتمام فريضة الصيام .
مسألة : تجب زكاة الفطر على كل مسلم ؛ ذكرًا كان أو أنثى ، صغيراً أو كبيراً ، حرّاً كان أو عبداً ، لحديث ابن عمر الذي ذكر قريباً ؛ ففيه أن الرسول فرض زكاة الفطر على العبد والحر ، والذكر والأنثى ، والصغير والكبير من المسلمين ، وفرض بمعنى : ألزم وأوجب .
مسألة : ومقدار ما يخرج عن كل شخص صاع ، وهو أربعة أمداد يساوي كيلوين وأربعين غراماً .
الجنس الواجب : ما يخرج هو من غالب قوت البلد ، برّاً كان ، أو شعيراً ، أو تمراً ، ... أو غير هذه الأصناف مما اعتاد الناس أكله في البلد ، وغلب استعمالهم له ؛ كالأرز والذرة ، واللحم ، وما يقتاته الناس في كل بلد بحسبه .
وقتها : يجوز تقديم إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين ؛ فقد روى البخاري -رحمه الله- : " أن الصحابة كانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين " ، وإخراجها يوم العيد قبل الصلاة أفضل ، فإن فاته هذا الوقت ، فأخر إخراجها عن صلاة العيد بغير عذر أثم ولم يقدر على قضائها ، وإن كان لعذر كأن نسي إخراجها أو وكل من يخرجها ولم يفعل وجب عليه إخراجها قضاء ؛ لحديث ابن عباس : ( من أدَّاها قبل الصلاة ؛ فهي زكاة مقبولة ، ومن أداها بعد الصلاة ؛ فهي صدقة من الصدقات ) رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه .
إخراج القيمة : وأما إخراج القيمة عن زكاة الفطر ، بأن يدفع بدلها دراهم ، فلا يجزئ ؛ لأنه لم ينقل عن النبي ولا عن أحد من أصحابه إخراج القيمة في زكاة الفطر، ولأن النبي فرضها صاعاً من طعام .
ولا بد أن تصل صدقة الفطر إلى مستحقها في الموعد المحدد لإخراجها ، أو تصل إلى وكيله الذي عمده في قبضها نيابة عنه ، فإن لم يجد الدافع من أراد دفعها إليه ، ولم يجد له وكيلاً في الموعد المحدد ؛ وجب دفعها إلى آخر .
إخراج الزكاة
تجب المبادرة بإخراج الزكاة فور وجوبها في المال ؛ لقوله تعالى : } وآتوا الزكاة { والأمر المطلق يقتضي الفورية ، ولأن حاجة الفقير تستدعي المبادرة بدفعها إليه , وفي تأخيرها إضرار به , ولأن من وجبت عليه عرضة لحلول العوائق الطارئة ، كالإفلاس والموت ، وذلك يؤدي إلى بقائها في ذمته , ولأن المبادرة بإخراجها أبعد عن الشح ، وأخلص للذمة إلا لضرورة أو مصلحة كما لو أخَّرها ليدفعها إلى من هو أشد حاجة , أو لغيبة المال , أو لخوف على نفسه ، أو ماله ونحو ذلك .
مسألة : وتجب الزكاة في مال صبي ومال مجنون ؛ لعموم الأدلة , ويتولى إخراجها عنهما وليهما في المال ؛ لأن ذلك حق وجب عليهما تدخله النيابة .
مسألة : ولا يجوز إخراج الزكاة إلا بنية ؛ لقوله : (( إنما الأعمال بالنيات )) متفق عليه .
والأفضل أن يتولى صاحب المال توزيع الزكاة ؛ ليكون على يقين من وصولها إلى مستحقيها , وله أن يوكل من يخرجها عنه , وإن طلبها إمام المسلمين ؛ دفعها إليه , أو يدفعها إلى الساعي , وهو العامل الذي يرسله الإمام لجباية الزكوات .
ويستحب عند دفع الزكاة أن يدعو الدافع والآخذ , قال الله –تعالى- : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة: 103] أي: ادع لهم .
قال عبد الله بن أبي أوفى t كان رسول الله إذا أتاه قوم بصدقتهم ، قال : (( اللهم صلِّ عليهم )) متفق عليه .
وإذا كان الشخص محتاجًا ومن عادته أخذ الزكاة دفعها إليه دون أن يقول : هذه زكاة ؛ لئلا يحرجه ، وإن كان محتاجًا ولم يكن من عادته أخذ الزكاة أعلمه بأنها زكاة .
نقل الزكاة : والأفضل إخراج زكاة كل مال في بلده ؛ بأن يوزعها على فقراء ذلك البلد الذي فيه المال ، ويجوز نقلها إلى بلد آخر لمصلحة شرعية كأن يكون له قرابة محتاجون في بلد آخر ، أو من هم أشد حاجة ممن هم في البلد الذي فيه المال ؛ لأن الصدقات كانت تنقل إلى النبي فيفرقها في فقراء المهاجرين والأنصار .
تعجيل الزكاة : يجوز تعجيل إخراج الزكاة قبل وجوبها لحولين فأقل ؛ لأن النبي تعجل من العباس صدقة سنتين ، كما رواه أحمد وأبو داود ، فيجوز تعجيل الزكاة قبل وجوبها إذا انعقد سبب الوجوب ، سواء كانت زكاة ماشية أو حبوب أو نقدين أو عروض تجارة إذا ملك النصاب .
أهل الزكاة، ومن لا يجوز دفع الزكاة إليهم
لا يجزئ دفع الزكاة إلا للأصناف التي عينها الله في كتابه الكريم ، قال تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60] فهؤلاء المذكورون في هذه الآية الكريمة هم أهل الزكاة الذين جعلهم الله محلاً لدفعها إليهم لا يجوز صرف شيء منها إلى غيرهم إجماعاً .
قال شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله- : " لا ينبغي أن يعطى منها إلا من يستعين بها على طاعة الله ؛ فإن الله فرضها معونة على طاعته لمن يحتاج إليها من المؤمنين ، أو من يعاونهم ، فمن لا يصلي من أهل الحاجات لا يُعطى منها حتى يتوب ، ويلتزم بأداء الصلاة " انتهى.
ولا يجوز صرف الزكاة في غير هذه المصارف التي عينها الله من المشاريع الخيرية الأخرى كبناء المساجد والمدارس ؛ لقوله تعالى : إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60]، و (إنما) تفيد الحصر وتثبت الحكم لما بعدها وتنفيه عما سواه ، والمعنى: ليست الصدقات لغير هؤلاء بل لهؤلاء خاصة ، وإنما سمى الله الأصناف الثمانية إعلاماً منه أن الصدقة لا تخرج عن هذه الأصناف إلى غيرها .
الأصناف الثمانية :
الصنف الأول : الفقراء ، وهم الذين لا يجدون شيئاً ، أو يجدون بعض كفاية العام ، فيعطون من الزكاة كفايتهم من النفقات الشرعية من الطعام والشراب واللباس وأجرة المسكن وغير ذلك ، والحوائج الأصلية من أثاث البيت وآلاته بحسب ما يليق به ، وكذا إن كانوا لا يجدون منها شيئاً ، أو يعطون تمام كفايتهم إن كانوا يجدون بعضها لعام كامل .
الثاني : المساكين ، وهم أحسن حالاً من الفقراء ، فالمسكين هو الذي يجد أكثر كفاية العام أو نصفها ، فيعطى من الزكاة تمام كفايته لعام كامل .
الثالث : العاملون عليها ، وهم العمال الذين يقومون بجمع الزكاة من أصحابها ويحفظونها ويوزعونها على مستحقيها بأمر إمام المسلمين ، فيعطون من الزكاة قدر أجرة عملهم ، إلا إن كان ولي الأمر رتَّب لهم رواتب من بيت المال على هذا العمل ، فلا يجوز أن يعطوا شيئاً من الزكاة .
الرابع : المؤلفة قلوبهم ، جمع مؤلف من التأليف ، وهو جمع القلوب ، ويشمل :
1- من يرجى إسلامه من الكفار ، بأن ظهرت منه قرائن الرغبة في الإسلام .
2- من يرجى بعطيته قوة إيمانه ، أوإسلام نظيره .
3- من يرجى بعطيته كف شره عن المسلمين ، أو شر غيره ، وهذا الأخير يشترط فيه أن يكون سيداً مطاعاً في قومه .
ونحو ذلك من الأغراض الصحيحة المفيدة للمسلمين ، والإعطاء للتأليف إنما يعمل به عند الحاجة إليه فقط ؛ لأن عمر وعثمان -رضي الله عنهما- تركوا الإعطاء للتأليف ؛ لعدم الحاجة إليه في وقتهم .
الخامس : الرقاب ، وهم :
1- الأرقاء المكاتبون الذين لا يجدون وفاءً ، فيُعطى المُكاتب ما يقدر به على وفاء دينه حتى يعتق ويخلص من الرق .
2- أن يشتري المسلم من زكاته عبداً فيعتقه .
3- أن يفتدى من الزكاة الأسير المسلم ؛ لأن في ذلك فك رقبة المسلم من الأسر .
السادس : الغارم ، والمراد بالغارم : المدين ، وهو نوعان :
أحدهما : غارم لغيره ، وهو الغارم لأجل إصلاح ذات البين ، بأن يقع بين قبيلتين نزاع في دماء وأموال ويحدث بسبب ذلك بينهم شحناء وعداوة ، فيتوسط الرجل بالصلح بينهما ، وهذا يشمل :
1. أن يلتزم في ذمته مالاً عوضاً عما بينهم ليطفئ الفتنة .
2. أن يقترض مالاً ليصلح بينهم فيكون قد عمل معروفاً عظيماً .
3. أن يسدد من ماله بنية الرجوع على أهل الزكاة .
ففي صحيح مسلم عن قبيصة t قال : تحملت حمالة فقال النبي : (( أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها )) .
الثاني : الغارم لنفسه ، كأن يكون عليه دين لا يقدر على تسديده ؛ إما بسبب جائحة اجتاحت ماله ، أو أمر يتعلق بحاجته أو ضرورته ، فيُعطى من الزكاة ما يُسدَّد به دينه ؛ لقوله تعالى : والغارمين .
السابع : في سبيل الله ، والمراد به الجهاد في سبيل الله ، ويشمل مايلي :
1. أن يعطى من الزكاة الغزاة المتطوعة الذين لا رواتب لهم من بيت المال .
2. أن يشترى من الزكاة آلات الجهاد ، وغير ذلك مما يستعان به على الجهاد ؛ لأن المراد بسبيل الله عند الإطلاق الغزو ، قال – تعالى - : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ [الصف: 4] وقال –تعالى-: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة: 190].
الثامن : ابن السبيل ، وهو المسافر المنقطع به سفره بسبب نفاد ما معه أو ضياعه والسبيل هو الطريق ، فسمي من لزمه : (ابن السبيل) ، فيُعطى ابنُ السبيل ما يوصله إلى بلده ، وإن كان في طريقه إلى بلدٍ قصده أعطي ما يوصله ذلك البلد ، وما يرجع به إلى بلده بحسب ما يليق به عرفاً .
مسألة : ويجوز صرف جميع الزكاة إلى صنف واحد من هذه الأصناف المذكورة ، قال -تعالى- : وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 271]، ولحديث معاذ حين بعثه النبي إلى اليمن ، فقال : (( وأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم )) متفق عليه ، فلم يذكر في الآية والحديث إلا صنفاً واحداً ، فدل على جواز صرفها إليه .
ويجزئ الاقتصار على إنسان واحد ، قال لقبيصة t : (( أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة ؛ فنأمر لك بها )) رواه مسلم ، فدلَّ الحديثُ على جواز الاقتصار على شخص واحد من الأصناف الثمانية .
ويستحب دفعها إلى أقاربه المحتاجين الذين لا تلزمه نفقتهم الأقرب فالأقرب ، لقوله في حديث سلمان الضبي : (( صدقتك على ذي القرابة صدقة وصلة )) رواه الخمسة ، وحسَّنه الترمذي .
1. ولا يجوز دفع الزكاة إلى بني هاشم ، ويدخل فيهم : آل العباس، وآل علي ، وآل جعفر ، وآل الحارث بن عبد المطلب ، وآل أبي لهب ؛ لقوله في حديث أبي هريرة : (( إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد ، وإنما هي أوساخ الناس )) أخرجه مسلم .
وأجاز شيخ الإسلام رحمه الله دفعها إليهم إذا منعوا من خمس خمس الغنيمة .
2. ولا يجوز دفع الزكاة إلى امرأة فقيرة إذا كانت تحت زوج غني ينفق عليها ، ولا إلى فقير إذا كان له قريب غني ينفق عليه ؛ لاستغنائهم بتلك النفقة عن الأخذ من الزكاة .
3. ولا يجوز للإنسان أن يدفع زكاة ماله إلى أقاربه الذين يلزمه الإنفاق عليهم ؛ لأنه يقي بها ماله حينئذ ، أما من كان ينفق عليه تبرعاً ؛ فإنه يجوز أن يعطيه من زكاته ؛ ففي الصحيحين : (( أن امرأة عبدالله سألت النبي عن بني أخ لها أيتام في حجرها ؛ أفتعطيهم من زكاتها ؟ قال : نعم )) .
4. ولا يجوز دفع زكاته إلى أصوله وهم آباؤه وأجداده ، ولا إلى فروعه وهم أولاده وأولاد أولاده إلا في قضاء دين ، ليس سببه النفقة ، أوكان عنده زكاة ولا يستطيع أن ينفق عليهم فيدفعها لهم .
ولا يجوز له دفع زكاته إلى زوجته ؛ لأنها مستغنية بإنفاقه عليها ، ولأنه يقي بها ماله إلا في قضاء الدين ليس سببه النفقة .
5. ولا يجوز للزوجة أن تدفع زكاتها لزوجها إذا كان سينفق عليها من هذه أوسينفق على أولادها منها ، ويجوز فيما عدا ذلك كقضاء دينه ، أو حوائجه الخاصة ونحو ذلك إذا كان فقيراً .
مسألة : ويجب على المسلم أن يتثبت من دفع الزكاة لكن لو دفعها لمن ظنه مستحقًا فتبين أنه غير مستحق أجزأت .
الصدقة المستحبة
صدقة مستحبة تشرع كل وقت ؛ لإطلاق الحث عليها في الكتاب والسنة والترغيب فيها .
قال-تعالى- : وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ [البقرة: 177].
قال تعالى : وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 280]
وقال النبي : (( إن الصدقة لتطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء )) رواه الترمذي وابن حبان وغيرهما ، وهو ضعيف ، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة : (( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله .. ، وذكر منهم : ورجلاً تصدق بصدقة فأخفاها حتى لاتعلم شماله ما تنفق يمينه )) .
وصدقة السر أفضل ؛ لقوله -تعالى- : وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 271] ، ولأنه أبعد عن الرياء إلا أن يترتب على إظهار الصدقة وإعلانها مصلحة راجحة من اقتداء الناس به .
ويجب أن تكون طيبة بها نفسه ، غير ممتن بها على المحتاج ، قال -تعالى- : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة: 264].
والصدقة في حال الصحة أفضل ، قال لما سُئل أي الصدقة أفضل ؟ قال : (( أن تصدق وأنت صحيح شحيح ، تأمل الغنى وتخشى الفقر )) متفق عليه من حديث أبي هريرة .
والصدقة في الحرمين الشريفين أفضل ؛ لأمر الله بها في قوله : فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج: 28].
والصدقة في رمضان أفضل ؛ لقول ابن عباس t : ( كان رسول الله أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، فكان أجود بالخير من الريح المرسلة ) .
والصدقة في أوقات الحاجة أفضل ، قال الله تعالى : أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:14-16] كما أن الصدقة على الأقارب والجيران أفضل منها على الأبعدين ، فقد أوصى الله بالأقارب وجعل لهم حقاً على قريبهم في كثير من الآيات ، كقوله -تعالى- : وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّه ]الاسراء: 26[، وقال النبي-عليه الصلاة والسلام- : (( الصدقة على المسكين صدقة ، وعلى ذي الرحم اثنتان : صدقة وصلة )) رواه الخمسة وغيرهم من حديث سلمان الضبي t ، وحسَّنه الترمذي , وفي الصحيحين : (( أجران : أجر القرابة ، وأجر الصدقة )) .
مسألة : اعلم أن في المال حقوقاً سوى الزكاة : نحو مواساة القرابة ، وصلة الإخوان ، وإعطاء سائل ، وإعارة محتاج ، وإنظار معسر ، وإقراض مقترض ، قال-تعالى-: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم [الذريات:19].
ويجب إطعام الجائع ، وقرى الضيف ، وكسوة العاري ، وسقي الظمآن ، بل ذهب الإمام مالك - رحمه الله - إلى أنه يجب على المسلمين فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم .
كما أنه يشرع لمن حصل على مال وبحضرته أناس من الفقراء والمساكين أن يتصدق عليهم منه ، قال-تعالى- : وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِه ِ [الأنعام: 141] ، وقال -تعالى- : وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً [النساء: 8].
وهذه من محاسن دين الإسلام ؛ لأنه دين المواساة والرحمة ، ودين التعاون والتآخي في الله ؛ فما أجمله من دين ! وما أحكمه من تشريع !
أحكام الصيام
صوم رمضان ركن من أركان الإسلام ، وفرض من فروض الله ، معلوم من الدين بالضرورة .
ويدل عليه الكتاب والسنة والإجماع ، قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون [البقرة:183] إلى قوله تعالى : شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه [البقرة: 185] والأمر للوجوب .
وقال النبي في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: (( بني الإسلام على خمس ..، وذكر منها : .. صوم رمضان )) متفق عليه .
وأجمع المسلمون على وجوب صومه ، وأن من أنكره كفر .
والحكمة في مشروعية الصيام : أن فيه تزكية للنفس ، وتطهيراً وتنقيةً لها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة ؛ لأنه يُضيِّق مجاري الشيطان في بدن الإنسان ؛ ولأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، فإذا أكل أو شرب انبسطت نفسه للشهوات وضعفت إرادتها ، وقلَّت رغبتُها في العبادات ، والصوم على العكس من ذلك .
وفي الصوم تزهيد في الدنيا وشهواتها ، وترغيب في الآخرة ، وفيه باعث على العطف على المساكين وإحساس بآلامهم ؛ لما يذوقه الصائم من ألم الجوع والعطش .
تعريف الصوم :
لغة : الإمساك .
وفي الشرع : التعبد لله بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس .
وقت الصوم : ويبتدئ وجوب الصوم اليومي بطلوع الفجر الثاني ، وهو البياض المعترض في الأفق ، وينتهي بغروب الشمس ، قال الله تعالى : فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: 187] ، ومعنى ( يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل ) أي: أن يتضح بياض النهار من سواد الليل .
ويبدأ وجوب صوم شهر رمضان إذا علم دخوله .
وللعلم بدخوله ثلاث طرق :
الطريقة الأولى : رؤية هلاله ، قال تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185] ، وقال النبي : (( صوموا لرؤيته )) فمن رأى الهلال بنفسه وجب عليه الصوم .
مسألة : إذا رؤي الهلال في بلد وجب الصوم على جميع البلدان التى توافق بلد الرؤية في جمع مطلع الهلال .
مسألة : رؤية الهلال نهار الثلاثين لليلة المقبلة فلا يثبت به الصوم ، ولايحل به فطر ، وكذا لا عبرة برؤيته نهار التاسع ، والراية المعتبرة بعد غروب الشمس من اليوم التاسع والعشرين لورود ذلك عن الصحابة .
الطريقة الثانية : الشهادة على الرؤية ، أو الإخبار عنها .
فيصام برؤية ثقة مكلف ، ويكفي إخباره بذلك ؛ لقول ابن عمر : ( تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه ) رواه أبو داود وغيره، وصححه ابن حبان والحاكم .
الطريقة الثالثة : إكمال عدة شهر شعبان ثلاثين يومًا ، وذلك حينما لا يرى الهلال ليلة الثلاثين من شعبان ؛ لقوله : (( إنما الشهر تسعة وعشرون يوماً فلا تصوموا حتى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غم عليكم فاقدروا له )) ومعنى اقدروا له أي : أتموا شهر شعبان ثلاثين يومًا ؛ لما ثبت في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعاً : (( فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين )) .
ولا عبرة بالحساب الفلكي ؛ لحديث عمر رضي الله عنهما أن النبي : (( إنَّا أمَّة أمّيَّة ، لا نكتب ولا نحسب .. )) متفق عليه .
من يجب عليه الصيام : يلزم صوم رمضان كل مسلم مكلف قادر ، فلا يجب على كافر ، ولا يصح منه ، فإن تاب في أثناء الشهر صام الباقي ، ولا يلزمه قضاء ما سبق حال الكفر ، وإن أسلم أثناء اليوم أمسك باقيه ، ولا يلزمه قضاء ذلك اليوم .
ولا يجب الصوم على صغير ، ويصح الصوم من صغير مميز ، ويكون في حقه نافلة ، وله أجر الصيام ، ولوليه أجر التعليم والتربية .
ولا يجب الصوم على مجنون ، ولو صام حال جنونه لم يصح منه ؛ لعدم النيَّة .
وإذا بلغ الصبي أو عقل المجنون أثناء اليوم أمسك بقية اليوم وأجزأه ، ولم يلزمه قضاء ما سبق .
مسألة : ولا يجب على حائض ولا نفساء ، لكن إن طهرت قبل طلوع الفجر صح صيامها وإن لم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر ، وإن طهرت بعد طلوع الفجر أو حاضت قبل غروب الشمس لم يصح صيامها ذلك ووجب عليها القضاء .
ولا يجب الصوم أداءً على مريض يعجز عنه ، ولا على مسافر ، ويقضيانه حال زوال عذر المرض والسفر ، قال تعالى : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 184].
من مسنونات الصيام :
السحور : وهو ما يؤكل آخر الليل للتقوي على الصيام .
في الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله : (( تسحروا فإن في السحور بركة )) .
وقد ورد في الترغيب بالسحور آثار كثيرة ، ولو بجرعة ماء ، ووقته آخر الليل ويستحب تأخيره إلى قرب انفجار الفجر .
ولو استيقظ الإنسان وعليه جنابة أو طهرت الحائض قبل طلوع الفجر فإنهم يبدؤون بالسحور ، ويصومون ، ويؤخرون الاغتسال إلى بعد طلوع الفجر .
ويستحب تعجيل الإفطار إذا تحقق غروب الشمس بمشاهدتها أو غلب على ظنه بأذان أو غيره ، فعن سهل بن سعد أن النبي قال : (( لايزال الناس بخير ما عجلوا الفطر )) متفق عليه .
والسنة أن يفطر على رطب ، فإن لم يجد فعلى تمر ، فإن لم يجد فعلى ماء ؛ لقول أنس : (( كان النبي يفطر قبل أن يصلي على رطبات ، فإن لم تكن رطبات فتمرات ، فإن لم تكن تمرات حسا حسواتٍ من ماء .. )) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسَّنه ، وصححه الدارقطني ، وروى سلمان بن عامر الضبي يبلغ به النبي قال : (( إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر ؛ فإنه بركة ، فإن لم يجد فعلى الماء فإنه طهور )) رواه الترمذي وصححه .
فإن لم يجد رطباً ولا تمراً ولا ماءً أفطر على ما تيسَّر من طعامٍ وشرابٍ .
ويستحب أن يدعو عند إفطاره بما أحب ، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال : (( ثلاثة لا ترد دعوتهم : .. وذكر منهم : والصائم حين يفطر .. )) رواه الترمذي وحسَّنه ، وابن ماجه .
مفسدات الصوم :
للصيام مفسدات يجب على المسلم أن يعرفها ؛ ليتجنبها ، ويحذر منها ؛ لأنها تفطر الصائم ، وتفسد عليه صيامه ، وهذه المفطرات منها :
1. الجماع : والمراد به تغييب الحشفة التي هي رأس الذكر في الفرج ، فمتى جامع الصائم بطل صيامه ، ولزمه قضاء ذلك اليوم الذي جامع فيه ، ويجب عليه مع قضائه الكفارة ، وهي عتق رقبة ، فإن لم يجد الرقبة أو لم يجد قيمتها فعليه أن يصوم شهرين متتابعين ، فإن لم يستطع صيام شهرين متتابعين ، بأن لم يقدر على ذلك لعدم استطاعته لكبر سنه ، أو مرضه الدائم ، أو لضرره في معيشته فعليه أن يطعم ستين مسكيناً ، من الطعام المأكول في البلد .
2. إنزال المني : بسبب تقبيل أو لمس أو استمناء أو تكرار نظر ، فإذا حصل شيءٌ من ذلك فَسَدَ صومُهُ ، وعليه القضاء فقط بدون كفارة ؛ لأن الكفارة تختص بالجماع في نهار رمضان .
والنائم إذا احتلم فأنزل فلا شيء عليه ، وصيامه صحيح ؛ لأن ذلك وقع بدون اختياره ، لكن يجب عليه الاغتسال من الجنابة .
3. الأكل أو الشرب متعمداً : وهو إيصال جامد أو مائع إلى الجوف ؛ لقوله -تعالى-: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: 187] .
أما من أكل وشرب ناسياً ؛ فإن ذلك لا يؤثر على صيامه ، وفي الحديث عن أبي هريرة : (( من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه ، فإنما أطعمه الله وسقاه )) متفق عليه.
ومما يفطر الصائم إيصال الماء ونحوه إلى الجوف عن طريق الأنف ، وأخذ المغذي عن طريق الوريد ، وحقن الدم في الصائم كل ذلك يفسد صومه ؛ لأنه تغذية له ، ومن ذلك أيضاً حقن الصائم بالإبر المغذية ؛ لأنها تقوم مقام الطعام ، أما الإبر غير المغذية فلا تفطر ، لكن للصائم أيضاً أن يتجنبها محافظةً على صيامه ، ولقوله : (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )) ، ويؤخرها إلى الليل .
4. إخراج الدم من البدن : بحجامة أو نحوها مما فيه إضعاف البدن ، أما إخراج دم قليل كالذي يستخرج للتحليل وكذا خروج الدم بغير اختياره برعاف أو جرح أو خلع سن فهذا لا يؤثر على الصيام .
5. التقيؤ : وهو استخراج ما في المعدة من طعام أو شراب عن طريق الفم متعمداً فهذا يفطر به الصائم ، أما إذا غلبه القيء ، وخرج بدون اختياره فلا يؤثر على صيامه ؛ لقوله : (( من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ، ومن استقاء عمداً فليقضِ )) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة ، والحديث صححه ابن حبان وابن خزيمة والحاكم والذهبي وحسَّنه الترمذي ، وأعلَّه بعضُ الأئمَّة ، ولم يقولوا بموجبه ، لكن يشهد له استقراء الشرع ، وأن ما فيه استفراغ كإخراج المني والحجامة أنه مفطر . وورد عن ابن عمر موقوفاً ، رواه مالك والشافعي . ومعنى ( ذرعه القيء ) أي: خرج بدون اختياره . ومعنى ( استقاء ) أي : تعمَّدَ القيء .
شروط المفطرات :
ولا يفطر بشيء من المفطرات إلا بثلاثة شروط :
1- الذِّكر ، فلو نسي فأتى شيئاً من هذه المفطرات فلا شيء عليه ، لحديث أبي هريرة .
2- الاختيار ، فلو أكره على شيء منها لم يفطر .
3- العلم ، فلو جهل الحكم الشرعي أو الحال بأن صائم ، أو في زمن الصوم فلا شيء عليه ؛ لحديث سهل بن سعد .
مسألة : وأما الاكتحال ومداواة العينين بقطرة أو بغيرها ، فلا تفطر .
ولا يبالغ في المضمضة والاستنشاق بل يكره ؛ لأنه ربما ذهب الماء إلى جوفه ، لقوله في حديث لقيط بن صبرة : (( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً )) رواه أبو داود والترمذي وصححه ، والنسائي وابن ماجه .
والسواك لا يؤثر على الصيام ، بل هو مستحب ومرغب فيه للصائم وغيره في أول النهار وآخره على الصحيح .
ولو طار إلى حلقه غبار أو غيره لم يؤثر على صيامه .
ويجب على الصائم اجتناب كذبٍ وغيبةٍ وشتمٍ ، وإن سابَّه أحدٌ أو شتمه فليقل : إني صائم ، فإن بعض الناس قد يسهل عليه ترك الطعام والشراب ولكن لا يسهل ما اعتاده من الأقوال والأفعال الرديئة ، ولهذا قال بعض السلف : " أهون الصيام ترك الطعام والشراب " .
وينبغي للصائم أن يشتغل بذكر الله وتلاوة القران والإكثار من النوافل ، فقد كان السلف إذا صاموا جلسوا في المساجد ، وقالوا : "نحفظ صومنا ولا نغتاب أحداً" ، وقال في حديث أبي هريرة : (( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه )) رواه البخاري .
أحكام القضاء
من أفطر في رمضان بسبب مباح ، كالأعذار الشرعية التي تبيح الفطر , أو بسببٍ محرم , كمن أبطل صومه بجماعٍ أو غيره , وجب عليه القضاء ؛ لقوله –تعالى- : فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 184].
ويستحب له المبادرة بالقضاء ؛ لإبراء ذمته ، ويستحب أن يكون القضاء متتابعاً ؛ لأن القضاء يحكي الأداء , وإن لم يقض على الفور وجب العزم عليه , ويجوز له التأخير ؛ لأن وقته موسع , وكل واجب موسع يجوز تأخيره مع العزم عليه كما يجوز تفرقته بأن يصومه متفرقاً ، لكن إذا لم يبق من شعبان إلا قدر ما عليه فإنه يجب عليه التتابع إجماعاً ؛ لضيق الوقت .
ولا يجوز تأخيره إلى ما بعد رمضان الآخر لغير عذر ؛ لقول عائشة -رضي الله عنها- : (( كان يكون علي الصوم من رمضان , فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله )) متفق عليه ، فدل هذا على أن وقت القضاء موسع إلى أن لا يبقى من شعبان إلا قدر الأيام التي عليه فيجب عليه صيامها قبل دخول رمضان الجديد فإن أخر القضاء حتى أتى عليه رمضان الجديد فإنه يصوم رمضان الحاضر ، وقضى ما عليه بعده ، ثم إن كان تأخيره لعذر لم يتمكن معه من القضاء في تلك الفتره فإنه ليس عليه إلا القضاء ، وإن كان لغير عذر يستحب له مع القضاء إطعام مسكين عن كل يوم من قوت البلد لوروده عن الصحابة .
وإذا مات من عليه القضاء قبل دخول رمضان الجديد فلا شيء عليه ؛ لأن له تأخيره في تلك الفترة التي مات فيها .
وإن مات بعد رمضان الجديد فإن كان تأخيره القضاء لعذر - كالمرض والسفر - حتى أدركه رمضان الجديد فلا شيء عليه أيضا .
وإن كان تأخيره لغير عذر وجبت الكفارة في تركته ، بأن يخرج عنه إطعام مسكين عن كل يوم .
مسألة : وإن مات من عليه صوم واجب كصوم رمضان أو كفارة كصوم كفارة الظهار والصوم الواجب عن دم المتعة في الحج وقد تمكن من القضاء فإنه يطعم عنه كل يوم مسكيناً ، أو يصام عنه ، ويكون الإطعام من تركته .
ما يلزم من أفطر لكبر أو مرض :
من لا يستطيع الصيام أداءً ولا قضاءًًً كالكبير الهرم والمريض الذي لا يرجى برؤه فهذا الصنف قد خفف الله عنه ، فأوجب عليه بدل الصيام إطعام مسكين عن كل يوم ، قال الله- تعالى - : لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا ]البقرة:286[ ، وقال- تعالى -: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ]البقرة:184[ ، قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : ( هي للكبير الذي لا يستطيع الصوم ) رواه البخاري .
والمريض الذي لا يرجى برؤه من مرضه في حكم الكبير ، فيطعم عن كل يوم مسكيناً .
وهذا الصنف إذا مات فإنه يطعم من تركته مطلقاً عن كل يوم مسكيناً أو يصام عنه وجوباً إن خلف تركة، واستحباباً إن لم يخلف .
وأما من أفطر بعذر يزول كالمسافر والمريض- مرضاً يرجى زواله - ، والحائض والنفساء ؛ فإن كلا من هولاء يتحتم عليه القضاء بأن يصوم من أيام أخر بعد الأيام التي أفطر فيها ، قال – تعالى - : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ]البقرة:184[ .
مسألة : إذا صام المسافر في سفره فله ثلاث حالات :
الأولى : أن يشق عليه الصوم مشقة شديدة فيحرم عليه الصوم مع صحته لحديث جابر مرفوعاً ، وفيه قوله : (( أولئك العصاة أولئك العصاة )) لمن صام مع المشقة ، رواه مسلم .
الثانية : أن يشق عليه الصوم مشقة يسيرة فيستحب له الفطر ، ويكره الصوم ؛ لحديث جابر وفيه قوله (( ليس من البر الصيام في السفر )) رواه مسلم .
الثالثة : ألا يشق عليه الصوم فالأفضل الصوم كما تقدم ؛ لصيامه ، ولأنه أسرع في إبراء الذمة .
مسألة : إذا صام المريض فله ثلاث حالات :
الأولى : أن يضره الصوم فيحرم عليه مع صحته منه ، لقوله-تعالى- : وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ]البقرة: 195[ .
الثانية : أن يشق عليه فيكره الصوم ، للإعراض عن رخصة الله تعالى .
الثالثة : أن لا يضره ولا يشق عليه فيجب عليه الصوم ، لعدم العذر .
مسألة : ويجب الفطر على من احتاج إليه لإنقاذ من وقع في هلكة كالغريق ونحوه .
النية في الصيام :
ويجب على المسلم تعيين نية الصوم الواجب من الليل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر كصوم رمضان، وصوم الكفارة ، وصوم النذر بأن يعتقد أنه يصوم من رمضان أو قضائه أو يصوم نذراً , أو كفارة ؛ لقوله في حديث عمر : (( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )) متفق عليه ، ولما روت حفصة – رضي الله عنها- مرفوعاً : (( من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له )) رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وصححه ابن خزيمة ، والحاكم ، وغيرهم وصحح بعض الأئمة وقفه على ابن عمر - رضي الله عنهما - .
وإن كان الصيام متتابعاً كصيام رمضان وصيام الكفارة فتكفي نية واحدة في أول الصيام إلا إن قطعه بمرض أو سفر أو نحو ذلك فإنه يجدد النية .
أما صوم النفل فيجوز بنية من النهار ؛ لحديث عائشة - رضي الله عنها - : دخل عليَّ النبي ذات يوم فقال : (( هل عندكم من شيء؟ )) فقلنا : لا ، قال : (( فإني صائم )) رواه مسلم ، ففي الحديث أنه كان مفطراً ؛ لأنه طلب طعاماً .
وفيه دليل على جواز تأخير نية الصوم إذا كان تطوعاً ، فتخصص به الأدلة المانعة وهذا في النفل المطلق ، أما المعين كصوم يوم عرفة ، وستة أيام من شوال ، ويوم عاشوراء ، ونحو ذلك ، فلا بد من تعيين النية من الليل ، وإلا كان نفلاً مطلقاً .
ويشترط لصحة صوم النفل بنية من النهار أن لا يوجد قبل النية مناف للصيام من أكل وشرب ونحوهما ، فإن فعل قبل النية ما يفطره لم يصح الصيام بغير خلاف .
أحكام الحج
الحج هو أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام ، قال الله - تعالى- : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97] فسمى الله تعالى تاركه كافراً ، وهذا مما يدل على وجوبه وآكديته ، فمن لم يعتقد وجوبه فهو كافر بالإجماع . وقال في حديث ابن عمر- رضي الله عنهما- : (( بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا )) متفق عليه ، والمراد بـ ( السبيل ) ما يتمكن به من الوصول إلى المشاعر .
والحكمة من مشروعية الحج : هي كما بينها الله - تعالى- بقوله : لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ... [الحج: 28] إلى قوله - تعالى- ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29] .
مسألة : فرض الحج في الإسلام سنة تسع من الهجرة كما هو قول الجمهور ، ولم يحج النبي إلا حجة واحدة هي حجة الوداع ، وكانت سنة عشر من الهجرة ، واعتمر أربع عمر .
مسألة : وأما العمرة فواجبة على قول كثير من العلماء ؛ بدليل قوله في حديث عائشة لما سئل : هل على النساء من جهاد ؟! قال : (( نعم عليهنَّ جهادٌ لا قتال فيه : الحج والعمرة )) رواه أحمد وابن ماجه بإسناد صحيح ، وإذا ثبت وجوب العمرة على النساء فالرجال أولى ، وقال للذي سأله ، فقال : إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن ؟! فقال : (( حج عن أبيك واعتمر )) رواه الخمسة ، وصححه الترمذي ، والعمرة حج أصغر .
فيجب الحج والعمرة على المسلم مرة واحدة في العمر ؛ لقوله في حديث أبي هريرة : (( الحج مرة ، فمن زاد ؛ فهو تطوع )) رواه أحمد وغيره ، وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة مرفوعاً : (( أيها الناس إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا )) فقال رجل : أكل عام ؟ فقال : (( لو قلت نعم لوجبت ، ولما استطعتم )) .
مسألة : يجب على المسلم أن يبادر بأداء الحج الواجب مع الإمكان ، ويأثم إن أخَّرَه بلا عذر ؛ لقوله : (( تعجلوا إلى الحج – يعني : الفريضة- ، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له )) رواه أحمد . ولأن الواجبات تجب على الفور .
شروط وجوب الحج : يجب الحج بشروط خمسة : الإسلام ، والعقل ، والبلوغ ، والحرية ، والاستطاعة ، فمن توفرت فيه هذه الشروط وجب عليه المبادرة بأداء الحج .
حج الصبي : ويصح فعل الحج والعمرة من الصبي نفلاً ؛ لحديث ابن عباس : أن أمرأة رفعت إلى النبي صبِيًّا ، فقالت : ألهذا حج ؟ قال : (( نعم ، ولك أجر )) رواه مسلم .
وأجر الحج للصبي ، ولوليه أجر التربية والتعليم .
وقد أجمع العلماء على أن الصبي إذا حج قبل أن يبلغ ، فعليه الحج إذا بلغ واستطاع ، ولا تجزئه تلك الحجة عن حجة الإسلام وكذا عمرته .
وإن كان الصبي دون التمييز عقد عنه الإحرام وليه بأن ينوي عنه ، ويجنبه المحظورات ، ويطوف ويسعى به محمولاً ، ويستصحبه في عرفة ومزدلفة ومنى ، ويرمي عنه الجمرات وقال بعض العلماء : إن كان الصبي غير مميز فلا بد من طوافين وسعيين له ولوليه ؛ لعدم إجراء نية وحدة عن شخصين ، وإن كان مميزاً يجزئ طواف واحد وسعي لصحة النية من المميز ووليه .
وإن كان الصبيُّ مميزاً نوى الإحرام بنفسه بإذن وليه ، ويؤدي ما قدر عليه من مناسك الحج ، وما عجز عنه يفعله عنه وليه كرمي الجمرات ، ويطوف ويسعى به راكباً أو محمولاً إن عجز عن المشي .
وكل ما أمكن الصغير- مميزًا كان أو دونه - فعله بنفسه كالوقوف والمبيت لزمه فعله بمعنى أنه لا يصح أن يفعل عنه ؛ لعدم الحاجة لذلك ، ويجتنب في حَجِّه ما يجتنب الكبير من المحظورات ، وعند الحنفية وابن حزم : لايلزم الصبي شئ من الفدية اذا فعل شيئاً من محظورات الإحرام .
مسألة : والقادر على الحج هو الذي يتمكن من أدائه بدنيًا ومادِّيًّا بأن يمكنه الركوب ، ويتحمل السفر ، ويجد من المال بلغته التي تكفيه ذهاباً وإياباً ، ويجد أيضًا ما يكفي أولاده ومن تلزمه نفقتهم إلى أن يعود إليهم ، ولا بد أن يكون ذلك بعد قضاء الديون والحقوق التي عليه ، وبشرط أن يكون طريقه إلى الحج آمنا على نفسه وماله .
فإن قدر بماله دون جسمه ، بأن يكون كبيرًا هرماً ، أو مريضًا مرضًا مزمنًا لا يرجى برؤه لزمه أن يقيم من يحج عنه ويعتمر- حجة وعمرة الإسلام - من أيِّ مكان ؛ لما رواه ابن عباس - رضي الله عنهما - : أن امرأة من خثعم قالت : يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخاً كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه ؟ قال : (( حجي عنه )) متفق عليه .
ويشترط في النائب عن غيره في الحج أن يكون قد حجَّ عن نفسه حجة الإسلام ؛ لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - ، أنه سمع رجلاً يقول : لبيك عن شبرمة ، قال: (( حججت عن نفسك ؟ )) قال : لا ، قال : (( حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة )) روي مرفوعاً وموقوفاً ، وصححه البيهقي ، ويعطى النائب من المال ما يكفيه تكاليف السفر ذهاباً وإياباً .
وينبغي أن يكون مقصود النائب نفع أخيه المسلم ، وأن يحج بيت الله الحرام ويزور تلك المشاعر العظام ، فيكون حجه لله لا لأجل الدنيا .
مسألة : يشترط لوجوبه على المرأة زيادةً عما سبق من الشروط وجود المحرم الذي يسافر معها لأدائه ؛ لأنه لا يجوز لها السفر لحج ولا لغيره بدون محرم ؛ لقوله في حديث ابن عباس – رضي الله عنهما - : (( ولا تسافر المرأة إلا مع محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم )) رواه البخاري . وروى ابن عباس في الصحيحين : أن رجلاً قال للنبي إن امرأتي خرجت حاجة ، وإنني اكتتبت في غزوة كذا ؟ قال : (( انطلق فحج معها )) . ومحرم المرأة هو : زوجها ، أو من يحرم عليه نكاحها تحريمًا مؤبداً بنسب ؛ كأبيها وابنها وأخيها وابنه وعمها وابن أختها وخالها وعمها وابن أخيها ، أو حرم عليه بسبب مباح كأخ من رضاع أو عم من رضاع ونحوه ، أو بمصاهرة كزوج أمها وابن زوجها ، وأبي زوجها ، وزوج بنتها ؛ لما في صحيح مسلم : (( لا يحل لامرأة تؤمن بالله أن تسافر إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو ذو محرم منها )) .
ونفقة محرمها في السفر عليها ، فيشترط لوجوب الحج عليها أن تملك ما ينفق عليها وعلى محرمها ذهاباً وإياباً . ومن وجدت محرماً وفرطت بالتأخير حتى فقدته مع قدرتها المالية انتظرت حصوله ، فإن أيست من حصوله استنابت من يحج عنها .
مسألة : من وجب عليه الحج ثم مات قبل الحج أخرج من تركته من رأس المال المقدار الذي يكفي للحج ، واستنيب عنه من يؤديه عنه ؛ لما روى البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن امرأة قالت : يا رسول الله : إن أمي نذرت أن تحج ، فلم تحج حتى ماتت ، أفأحج عنها قال : (( نعم حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك دين أكنتِ قاضيته ؟ أقضوا الله فالله أحق بالوفاء )) .
والحج عن الغير يقع عن المحجوج عنه كأنه فعله بنفسه ، ويكون الفاعل بمنزلة الوكيل ينوي عنه ويلبي عنه ، ويكفيه أن ينوي النسك عنه ، ولو لم يسمه في اللفظ ، وإن جهل اسمه أو نسيه لبى عمن سلم إليه المال ليحج عنه به .
مواقيت الحج
المواقيت : جمع ميقات ، وهو لغة : الحد .
وشرعاً : هو موضع العبادة ، أوزمنها .
وللحج مواقيت زمانية ومكانية :
فالزمانية ذكرها الله بقوله : } فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ { [البقرة: 197] وهذه الأشهر هي : شوال ، وذوالقعدة ، وذوالحجة في أصح أقوال أهل العلم .
وأما المواقيت المكانية فهي الحدود التي لا يجوز للحاج أو المعتمر أن يتعداها إلى مكه بدون إحرام ، وقد بينها رسول الله كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، قال: (( وقت رسول الله لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن المنازل ، ولأهل اليمن يلملم ، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة ، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ ، حتى أهل مكة من مكة )) متفق عليه.
ولمسلم من حديث جابر : (( ومهل أهل العراق ذات عرق )) .
والحكمة من ذلك : أنه لما كان بيت الله الحرام معظماً مشرفاً جعل الله له حصنًا وهو مكة ، وحمى وهو الحرم ، وللحرم حرم وهو المواقيت التي لا يجوز تجاوزها إليه إلا بإحرام تعظيماً لبيت الله الحرام .
فهذه المواقيت يُحْرِم منها أهلها المذكورون ، ويحرم منها من مر بها من غيرهم وهو يريد حجَّا أو عمرة .
ومن كان منزله دون المواقيت ، فإنه يحرم من منزله للحج والعمرة ، ومن حج من أهل مكة فإنه يحرم من مكة ، فلا يحتاجون إلى الخروج للميقات للإحرام منه بالحج ، وأما العمرة فيخرجون للإحرام بها من أدنى الحل إما عرفات أو التنعيم أو الجعرانة أو غير ذلك ينظر الأيسر له .
مسألة : ومن لم يمر بميقات في طريقه من تلك المواقيت أحرم إذا علم أنه حاذى أقربها منه، قال عمر : (( انظروا إلى حذوها من طريقكم )) رواه البخاري .
وكذا من ركب الطائرة فإنه يحرم إذا حاذى أحد هذا المواقيت من الجو فينبغي له أن يتهيَّأ بالاغتسال والتنظف قبل ركوب الطائرة ، فإذا حاذى الميقات نوى الإحرام ولبى وهو في الجو ، ولا يجوز له تأخير الإحرام إلى أن يهبط في المطار .
مسألة : ويجب على من تعدى الميقات بدون إحرام أن يرجع إليه ويحرم منه ؛ لأنه واجب يمكنه تداركه فلا يجوز تركه ، فإن لم يرجع فأحرم من دونه فعليه فدية عند جمهور أهل العلم ، بأن يذبح شاة ، أو سبع بدنة ، أو سبع بقرة ، ويوزع ذلك على مساكين الحرم ، ولا يأكل منه شيئا .
كيفيه الإحرام
أول مناسك الحج هو الإحرام ، وهو نية الدخول في النسك ، سمي بذلك ؛ لأن المسلم يحرم علىنفسه بنيته ما كان مباحًا له قبل الإحرام من النكاح , والطيب , وتقليم الأظافر , وحلق الرأس وأشياء من اللباس .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله - : لا يكون الرجل محرماً بمجرد مافي قلبه من قصد الحج ونيته ؛ فإن القصد مازال في القلب منذ خرج من بلده ، بل لابد من قول أو عمل يصير به محرماً . انتهى .
وقبل الإحرام يستحب التهيؤ له بفعل أشياء يستقبل بها تلك العبادة العظيمة ، وهي :
أولاً : الاغتسال بجميع بدنه ؛ فإنه اغتسل لإحرامه ، وهو سنة حتى من الحائض والنفساء ؛ (( لأن النبي أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل )) رواه مسلم من حديث جابر (( وأمر عائشة أن تغتسل للإحرام بالحج وهي حائض )) رواه مسلم ، والحكمة من هذا الإغتسال التنظيف وقطع الرائحة الكريهة وتخفيف الحدث من الحائض والنفساء .
ثانيا : وأما التنظيف بأخذ ما يشرع أخذه من الشعر ؛ كشعر الشارب والإبط ، والأظافر فليس من سنن الإحرام ، لكن إن احتاج إلى أخذه ؛ لطوله أخذه لئلا يحتاج إلى أخذه في إحرامه فلا يتمكن منه ، فإن لم يحتج إلى أخذ شيء من ذلك لم يأخذه ؛ لأنه إنما يسن عند الحاجة .
ثالثاً : يستحب أن يتطيب في رأسه ووجهه بما تيسر من أنواع الطيب ؛ كالمسك ، والبخور ، وغير ذلك ؛ لقول عائشة - رضي الله عنها -: (( كنت أطيب رسول الله لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت )) متفق عليه.
رابعاً : يستحب للذَّكر قبل الإحرام أن يتجرد من المخيط ، وهو كل ما يخاط على قدر البدن أو بعضه كالقميص والسراويل ؛ لأنه تجرد لإهلاله ، ويستبدل الملابس المخيطة بإزار ورداء أبيضين نظيفين ، ويجوز بغير الأبيضين مما جرت عادة الرجال بلبسه .
والتجرد عن المخيط قبل نية الإحرام سنة ، أما بعد نية الإحرام فهو واجب .
ولو أحرم وعليه ثيابه المخيطة صح إحرامه ، ووجب عليه نزع المخيط .
فإذا أتم هذه الأعمال ، فقد تهيأ للإحرام ، وليس فعل هذه الأمور إحراماً كما يظن كثيرٌ من العوام ؛ لأن الإحرام هو نية الدخول والشروع في النسك ؛ لقوله في حديث عمر : (( إنما الأعمال بالنيات )) متفق عليه .
أما الصلاة قبل الإحرام فالأصح أنه ليس للإحرام صلاة تخصه ، لكن إن صادف وقت فريضة ؛ أحرم بعدها ؛ لأنه أهل دبر الصلاة ، وعن أنس (( أنه صلى الظهر ثم ركب راحلته )) رواه أبو داود .
قال العلامة ابن القيم- رحمه الله -: " ولم ينقل عنه أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر " .
أنواع النسك
يخير أن يحرم بما شاء من الأنساك الثلاثة ، وهي : التمتع ، والقران ، والإفراد .
فـ(التمتع) : أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ، ويفرغ منها ، ثم يحرم بالحج في عامه .
و( الإفراد ) : أن يحرم بالحج فقط من الميقات ، ويبقى على إحرامه حتى يؤدي أعمال الحج .
و( القران ) : أن يحرم بالعمرة والحج معاً ، أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل شروعه في طوافها ، أو يحرم بالحج، ثم يدخل عليه العمرة في أصح أقوال أهل العلم .
وعلى المتمتع والقارن فدية إن لم يكن من حاضري المسجد الحرام ، وحاضروا المسجد الحرام هم أهل مكة والحرم .
وأفضل هذه الأنساك الثلاثة : التمتع إن لم يسق الهدي ، فإن ساق الهدي فالأفضل القران ، وإن أتى بعمرة قبل أشهر ومكث بمكة حتى حج ، فالأفضل الإفراد .
فإذا أحرم بأحد هذه الأنساك لبَّى عقب إحرامه، بتلبية النبي : (( لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك ، ويكثر من التلبية ، ويرفع بها صوته )) ، وإن زاد غير ذلك مما ورد عن النبي والصحابة رضوان الله عليهم فلا بأس .
محظورات الإحرام
محظورات الإحرام هي المحرمات التي يجب على المحرم تجنبها بسبب الإحرام، وهذه المحظورات تسعة أشياء :
المحظور الأول : حلق شعر الرأس ، فيحرم على المحرم إزالته بلا عذر بحلق أو نتف أو قلع كله أو بعضه ؛ لقوله – تعالى - :} وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ { ]البقرة:196[.
وألحق جمهور أهل العلم بالرأس سائر البدن .
المحظور الثاني : تقليم الأظافر أو قصها من يد أو رجل بلا عذر عند جمهور أهل العلم ، فإن انكسر ظفره فأزاله أو زال مع جلد فلا فدية عليه ؛ لأنه زال بالتبعية لغيره ، والتابع لا يفرد بحكم ، بخلاف ما إذا حلق شعره لعذر كمرض ونحوه ؛ لقول الله – تعالى - : }فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ {[البقرة: 196] ، ولحديث كعب بن عجرة - رضي الله عنه – قال : كان بي أذى من رأسي ، فحملت إلى رسول الله والقمل يتناثر على وجهي ، فقال : (( ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى ، تجد شاة ؟ )) ، قلت : لا ، فنزلت : }ِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ {، قال : (( هو صوم ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة )) متفق عليه ، وذلك لأن الأذى حصل من غير الشعر ، وهو القمل .
ويباح للمحرم غسل شعره بصابون ونحوه ، ففي الصحيحين عنه (( أنه غسل رأسه وهو محرم ، ثم حرَّك رأسه بيده ، فأقبل بهما وأدبر )) .
المحظور الثالث : تغطية رأس الذكر ؛ لنهيه عن لبس العمائم والبرانس .
قال العلامة ابن القيم- رحمه الله - : " كل متصل ملامس يراد لستر الرأس كالعمامة والقبع والطاقية وغيرها ممنوع بالاتفاق " انتهى .
وسواء كان الغطاء معتادًا كعمامة ، أم لا ، كقرطاس وطين وحناء أو عصابة . وله أن يستظل بخيمة أو شجرة أو بيت ؛ لأن النبي ضربت له خيمة فنزل بها وهو محرم ، وكذا يجوز للمحرم الاستضلال بالشمسية عند الحاجة ، ويجوز له أن يحمل على رأسه متاعاً لا يقصد به التغطية .
المحظور الرابع : لبس الذكر المخيط على بدنه أو بعضه من قميص أو عمامة أو سراويل ، وهو ما عمل على قدر العضو أو البدن كالخفين والقفازين والجوارب والقميص ؛ لما في الصحيحين من حديث ابن عمر- رضي الله عنهما - أنه سئل : ما يلبس المحرم ؟ قال : (( لا يلبس القميص ، ولا العمامة ، ولا البرانس ، ولا السراويل ، و لا ثوبًا مسه ورس ولا زعفران ، ولا الخفين )).
وإذا لم يجد المحرم نعلين لبس خفين ، أولم يجد إزارًا لبس السراويل إلى أن يجده ، فإذا وجد إزارًا نزع السراويل ، ولبس الإزار ؛ لأن النبي رخص في عرفات بلبس السراويل لمن لم يجد إزارًا .
أما المرأة فتلبس من الثياب ما شاءت حال الإحرام ؛ لحاجتها إلى الستر ، إلا أنها لا تلبس برقعاً ، وهو لباس تغطي به المرأة وجهها فيه نقبان على العينين وتغطي وجهها بغيره من الخمار والجلباب ، ولا تلبس القفازين على كفيها ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - في حديث ابن عمر- رضي الله عنهما -: (( لا تتنقب المرأة المحرمة ، ولا تلبس القفازين )) رواه البخاري وغيره . والقفازان شيء يعمل لليدين يدخلان فيه يسترهما من البرد ، وتستر يديها بغيرهما .
المحظور الخامس : الطيب : فيحرم على المحرم استعمال الطيب في بدنه أو ثوبه ، أو استعماله في أكل أو شرب ؛ لأنه أمر يعلى بن أمية بغسل الطيب ، وقال في المحرم الذي وقصته راحلته : (( ولا تحنطوه )) متفق عليه ، ولمسلم : (( ولا تمسوه بطيب )) .
ولا يجوز للمحرم قصد شم الطيب ولا الإدِّهان بالمواد المطيبة ، وإن شمه بلا قصد ، أو بقصد الحاجة فلا بأس به .
المحظور السادس : قتل صيد البر واصطياده؛ لقوله - تعالى- : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ {[المائدة:95] أي : محرمون بالحج أو العمرة ، وقوله –تعالى- : } وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً {[المائدة: 96] أي : يحرم عليكم الاصطياد من صيد البر ما دمتم محرمين ، فالمحرم لا يصطاد صيدًا برِّيًَّا ، ولا يعين على صيده ، ولا يذبحه .
ويحرم على المحرم الأكل مما صاده أو صيد لأجله أو أعان على صيده ؛ لأنه كالميتة .
مسألة : لا يحرم على المحرم صيد البحر ؛ لقوله – تعالى -: } أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ { ]المائدة:96[.
ولا يحرم عليه ذبح الحيوان الإنسي كالدجاج وبهيمة الأنعام ؛ لأنه ليس بصيد .
ولا يحرم عليه قتل محرم الأكل ؛ كالأسد والنمر ونحوه مما فيه أذى للناس ، ولا يحرم عليه قتل الصيد الصائل دفعًا عن نفسه أو ماله أو أهله .
وإذا احتاج المحرم إلى فعل محظور من محظورات الإحرام فعله وفدى ؛ لقوله- تعالى -: } فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ { [البقرة: 196].
المحظور السابع : عقد النكاح : فلا يعقد النكاح لنفسه ولا لغيره بالولاية أو الوكالة ؛ فإذا كان أحد الزوجين أو الولي محرماً لم يصح النكاح ؛ لما روى مسلم عن عثمان مرفوعاً : (( لا ينكح المحرم ولا ينكح )) .
المحظور الثامن : الوطء ؛ لقوله تعالى : }فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ { [البقرة: 197] قال ابن عباس : هو الجماع .
فمن جامع قبل التحلل الأول فسد نسكه وعليه التوبة ، ويلزمه المضي فيه وإكمال نسكه ؛ لقوله – تعالى -: }وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ{ ]البقرة:196 [، وعليه التوبة ، ويلزمه أيضًا أن يقضيه ثاني عام ، وعليه ذبح بدنة لوروده عن الصحابة .
وإن كان الوطء بعد التحلل الأول لم يفسد نسكه ، فيمضي فيه، وعليه فدية أذى .
المحظور التاسع : المباشرة دون الفرج : فلا يجوز للمحرم مباشرة المرأة ؛ لأنه وسيلة إلى الوطء المحرم ، والمراد بالمباشرة ملامسة المرأة بشهوة ، قال الله - تعالى-: } فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ {[البقرة: 197] .
والمراد بالرفث : الجماع ، ويطلق أيضاً على دواعي الجماع من المباشرة والتقبيل والكلام الذي فيه ذكر الجماع ونحو ذلك ، والفسوق هو : المعاصي . أما الجدال لبيان الحق و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو مأمور به ، قال تعالى : } وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ { [النحل: 125] .
ويسنُّ للمحرم قلة الكلام إلا فيما ينفع ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي قال : (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت )) .
مسألة : ويستحب للمحرم أن ينشغل بالتلبية ، وذكر الله ، وقراءة القرآن ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وحفظ وقته عما يفسده ، وأن يخلص النية لله ، ويرغب فيما عند الله ؛ لأنه في حالة إحرام ، واستقبال عبادة عظيمة ، وقادم على مشاعر مقدسة ومواقف مباركة .
فإذا وصل إلى مكة ، فإن كان محرمًا بالتمتع فإنه يؤدي مناسك العمرة :
- فيطوف بالبيت سبعة أشواط ، وتأتي صفته وشروطه ( ) .
- ويصلي بعدها ركعتين خفيفتين يقرأ فيهما بسورتي الكافرون والإخلاص ، والأفضل أداؤها خلف مقام إبراهيم إن أمكن بأن يجعل المقام بينه وبين البيت ، وإلاَّ أدَّاهما في أي مكان من المسجد .
- ثم يخرج إلى الصفا لأداء السعي بينه وبين المروة فإذا أقبل على الصفا قرأ قوله -تعالى- : } إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّه ِ{ ]البقرة:158[ فيسعى بينهما سبعة أشواط ، يبدؤها بالصفا ويختمها بالمروة ، ذهابه سعية ورجوعه سعية ( ) .
ويشتغل أثناء الأشواط في الطواف والسعي بالدعاء والتضرع إلى الله – سبحانه وتعالى - .
- فإذا فرغ من الشوط السابع قصر الرَّجُل من جميع شعر رأسه والأفضل للرجل في هذا الموضع التقصير إذا كان إحرامه بالحج قريباً ، وإلا فالأفضل الحلق ، وتقص الأنثى من رؤوس شعر رأسها قدر أنملة أي طول أنملة .
وبذلك تتم مناسك العمرة فيحل من إحرامه ، ويباح له ما كان محرَّمًا عليه بالإحرام ، من النساء والطيب ولبس المخيط وتقليم الأظافر و قص الشارب ونتف الإبط إذا احتاج إلى ذلك ، ويبقى حلالاً إلى يوم التروية ثم يحرم بالحج على ما يأتي تفصيله إن شاء الله .
وأما الذي يقدم مكة قارناً أو مفرداً فإنه يطوف طواف القدوم ، وإن شاء قدَّم بعده سعي الحج ، ويبقى على إحرامه إلى يوم النحر كما يأتي تفصيله إن شاء الله .
أعمال يوم التروية و يوم عرفة
يستحب لمن أحرم مفردًا أو قارنًا ولم يسق الهدي أن يحول نسكه إلى التمتع ، ويعمل عمل المتمتع .
ويستحب لمتمتع أو مفرد أو قارن تحول إلى متمتع وحل من عمرته ، ولغيرهم من المحلين بمكة أو قربها : الإحرام بالحج يوم التروية ، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة ؛ لقول جابر في صفة حج النبي : (( فحل الناس كلهم وقصروا ؛ إلا النبي ومن كان معه هدي ، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى ، فأهلوا بالحج )) رواه مسلم .
ويحرم بالحج من مكانه الذي هو نازل فيه ، سواء كان في مكة ، أو خارجها ، أو في منى ، ولا يذهب بعد إحرامه فيطوف بالبيت ؛ لعدم وروده .
وبعد الإحرام يشتغل بالتلبية ، ويرفع صوته بالتلبية ، إلى أن يرمي جمرة العقبة يوم العيد .
ثم يخرج إلى منى من كان بمكة محرماً يوم التروية ، والأفضل أن يكون خروجه قبل الزوال ، وإن خرج قبل يوم التروية فلا بأس مالم يقصد العبادة بتقدمه ، فيصلي بها الظهر والعصر وبقية الأوقات إلى الفجر ، ويبيت ليلة التاسع ، لقول جابر : (( وركب النبي إلى منى ، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس )) رواه مسلم ، وليس ذلك واجباً ، بل سنة ، وكذلك الإحرام يوم التروية ليس واجباً ، فلو أحرم بالحج قبله أو بعده جاز ذلك .
ثم يسيرون صباح اليوم التاسع بعد طلوع الشمس من منى إلى عرفة ، وعرفة كلها موقف ؛ إلا بطن عرنة ، ففي أي مكان وقف الحاج من ساحات عرفة ؛ أجزأه الوقوف فيه ، ما عدا ما استثناه النبي وهو بطن عرنة . فإذا زالت الشمس صلوا الظهر والعصر قصراً وجمعاً بأذان وإقامتين ، وكذلك في مزدلفة يجمع ويقصر ، وفي منى السنة أن يقصر ولا يجمع ، بل يصلي كل صلاة في وقتها ؛ لعدم الحاجة إلى الجمع .
ثم بعد ما يصلي الحجاج الظهر والعصر قصراً وجمع تقديم في أول وقت الظهر ، يتفرغون للدعاء وهم في منازلهم من عرفة ، ولا يلزمهم أن يذهبوا إلى الجبل ، ولا أن يروه أو يشاهدوه ، ولا أن يستقبلوه حال الدعاء ، و إنما يستقبلون الكعبة المشرفة .
وينبغي أن يجتهد في الدعاء والتضرع والتوبة في هذا الموقف العظيم ، ويستمر في ذلك ، ويعمل الأخشع لقلبه من الركوب أو عدمه . ويختار الأدعية الواردة والجوامع ، ويكثر من قول : (( لا إله إلا الله وحده ، لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير )) .
ويستمر في البقاء بعرفة والدعاء إلى غروب الشمس ولا يجوز له أن ينصرف منها قبل غروب الشمس ، فإن انصرف منها قبل الغروب ؛ وجب عليه الرجوع ؛ ليبقى فيها إلى الغروب ، فإن لم يرجع ؛ وجب عليه دم ؛ لتركه الواجب ، والدم ذبح شاة ، يوزعها على المساكين في الحرم أو سبع بقرة أو سبع بدنة .
وقت الوقوف : ووقت الوقوف يبدأ بزوال الشمس يوم عرفة على الصحيح ، ويستمر إلى طلوع الفجر ليلة العاشر ، فمن وقف نهارًا وجب عليه البقاء إلى الغروب ، ومن وقف ليلاً أجزأه ولو لحظة ؛ لقول النبي : (( من أدرك عرفات بليل ؛ فقد أدرك الحج )) من حديث عبدالرحمن بن يعمر رواه الخمسة وغيرهم .
حكم الوقوف : وحكم الوقوف بعرفة أنه ركن من أركان الحج ، بل هو أعظم أركان الحج ؛ لقوله في حديث عبد الرحمن بن يعمر : (( الحج عرفة )) رواه الخمسة وإسناده صحيح .
ومكان الوقوف هو عرفة بكامل مساحتها المحددة ، فمن وقف خارجها لم يصح وقوفه .
الدفع إلى مزدلفة وأعمال يوم العيد
بعد غروب الشمس يدفع الحجاج من عرفة إلى مزدلفة بسكينة ووقار ؛ لقول جابر عن النبي : فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص ، وأردف أسامة خلفه ، ودفع رسول الله ، وقد شنق للقصواء – يعني : ناقته - الزمام ، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ، ويقول بيده اليمنى : (( أيها الناس! السكينة السكينة )) رواه مسلم .
ويكون الحاج حال دفعه من عرفة إلى مزدلفة مستغفراً مكبراً ملبِّياً ؛ لقوله تعالى :
} ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ { [البقرة:199] ولمزدلفة ثلاثة أسماء : مزدلفة ، وجمع ، والمشعر الحرام .
مسألة : فإذا وصل إلى مزدلفة ؛ صلى المغرب والعشاء جمعاً مع قصر العشاء ركعتين بأذان واحد وإقامتين ، لكل صلاة إقامة ، وذلك قبل حط رحله ؛ لقول جابر يصف فعل النبي : (( حتى أتى المزدلفة ، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان وإقامتين )) رواه مسلم .
ثم يبيت بمزدلفة حتى يصبح ويصلي ؛ لقول جابر : (( ثم اضطجع رسول الله حتى طلع الفجر ، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة )) رواه مسلم .
ومزدلفة كلُّها يقال لها: المشعر الحرام ، وهي ما بين مأزمي عرفة إلى بطن محسر ، قال : (( ومزدلفة كلها موقف )) رواه مسلم .
والسنة أن يبيت بمزدلفة إلى أن يطلع الفجر ، فيصلي بها الفجر في أول الوقت ، ثم يقف بها ويدعو إلى أن يسفر ، ثم يدفع إلى منى قبل طلوع الشمس .
مسألة : فإن كان من الضعفة كالنساء والصبيان ونحوهم ومن يقوم بشؤونهم فإنه يجوز له أن يتعجل في الدفع من مزدلفة إلى منى إذا غاب القمر ، وكذلك يجوز لمن يلي أمر الضعفة من الأقوياء أن ينصرفوا معهم ، أما الأقوياء الذين ليس معهم ضعيف ؛ فإنه ينبغي لهم أن لا يخرجوا من مزدلفة حتى يطلع الفجر ، فيصلوا بها الفجر ، ويقفوا بها إلى الإسفار .
والمبيت بمزدلفة واجب من واجبات الحج ، لا يجوز تركه لمن أتى إليها قبل آخر الليل ، أما من وصل إليها بعد آخر الليل ؛ فإنه يجزئه البقاء فيها ولو قليلاً ، وإن كان الأفضل له أن يبقى فيها إلى طلوع الفجر ، ويصلي فيها الفجر ، ويدعو بعد ذلك .
مسألة : يجوز لأهل الأعذار ترك المبيت بمزدلفة ، كالمريض الذي يحتاج إلى تمريضه في المستشفى ، ومن يحتاج إليه المريض لخدمته .
ثم يدفع قبل طلوع الشمس إلى منى ، لقول عمر : ( كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس ، ويقولون : أشرق ثبير كيما نغير – ثبير : اسم جبل يطل على مزدلفة يخاطبونه ؛ أي: لتطلع عليك الشمس حتى ننصرف - فخالفهم النبي ، فأفاض قبل طلوع الشمس )) رواه البخاري .
ويدفع وعليه السكينة ، فإذا بلغ وادي محسر- وهو وادٍ بين مزدلفة ومنى يفصل بينهما ، وهو ليس منهما - ، أسرع قدر رمية حجر .
ويأخذ حصى الجمار من طريقه قبل أن يصل إلى منى ، هذا هو الأفضل ، أو يأخذه من مزدلفة ، أو من منى ، ومن حيث أخذ الحصى جاز ؛ لقول ابن عباس -رضي الله عنهما- : قال رسول الله غداة العقبة وهو على راحلته : (( إلقط لي الحصى )) فلقطت له سبع حصيات ، هي حصى الخذف ، فجعل ينفضهنَّ في كفه ، ويقول : (( بأمثالِ هؤلاء فارموا )) ، ثم قال : (( يا أيها الناس ! إيَّاكم والغلو في الدين ؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين )) رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- ، فتكون الحصاة من حصى الجمار بحجم حبة الباقلاء ، أكبر من الحمص قليلاً .
مسألة : ولا يجزئ الرمي بغير الحصى ، ولا بالحصى الكبار ؛ لأن النبي رمى بالحصى الصغار ، وقال : (( خذوا عني مناسككم )) .
فإذا وصل إلى منى – وهي ما بين وادي محسر إلى جمرة العقبة – ؛ أتى جمرة العقبة ، وهي آخر الجمرات مما يلي مكة ، وتسمى الجمرة الكبرى ، فيرميها بسبع حصيات ، واحدة بعد واحدة ، بعد وصوله إلى منى ، ويبدأ برميها ؛ إذ هو تحية منى ، ويمتد زمن الرمي إلى طلوع فجر ليلة الحادي عشر .
ولابد أن تقع كل حصاة في حوض الجمرة ، سواء استقرت فيه أو سقطت بعد ذلك فيجب على الحاج أن يصوب الحصى إلى حوض الجمرة ، لأن ومحل الرمي هو الحوض ، فلو ضربت الحصاة في العمود وطارت ولم تمر الحوض لم تجزئه ( ) .
مسألة : الضعفة ومن في حكمهم يرمونها آخر الليل إذا وصلوا منى ، وإن رمى غير الضعفة آخر الليل ؛ أجزأهم ذلك ، وهو خلاف الأفضل في حقهم .
ويسن أن لا يبدأ بشيء حين وصوله إلى منى قبل رمي جمرة العقبة ؛ لأنه تحية منى ، ويستحب أن يكبر مع كل حصاة .
ثم بعد رمي جمرة العقبة الأفضل أن ينحر هديه إن كان يجب عليه هدي تمتع أو قران ، فيشتريه ، ويذبحه ، ويوزع لحمه ، ويأخذ منه قسماً ليأكل منه .
ثم يحلق رأسه أو يقصر ، والحلق أفضل ؛ لقوله-تعالى-: } مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ { [الفتح: 27] ، ولحديث أبي هريرة : (( أن رسول الله دعا للمحلقين ثلاث مرات ، وللمقصرين مرة واحدة )) متفق عليه ، فإن قَصَّرَ وجب أن يعمم جميع رأسه ، ولا يجزئ الاقتصار على بعضه أو جانب منه فقط ، لقوله-تعالى-: } مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِين { [الفتح: 27] فأضاف الحلق والتقصير إلى جميع الرأس .
والمرأة يتعيَّن في حقِّها التقصير ، بأن تقص من كل ضفيرة قدر أنملة ؛ لحديث ابن عباس مرفوعاً : (( ليس على النساء الحلق إنما على النساء التقصير )) رواه أبو داود والطبراني والدارقطني ، وقواه البخاري . ولأن الحلق في حق النساء مثلة ، وإن كان رأس المرأة غير مضفور جمعته وقَصَّت من أطرافه قدر أنملة .
ثم بعد رمي جمرة العقبة وحلق رأسه أو تقصيره يكون قد حل له كل شيء حرم عليه بالإحرام من الطيب واللباس وغير ذلك إلا النساء ؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- : ( كنت أطيب رسول الله قبل أن يحرم ، ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك ) متفق عليه .
وهذا هو التحلل الأول .
ويحصل التحلل الثاني – وهو التحلل الكامل – بالطواف مع السعي فإذا فعلهما حل له كل شيء حرم عليه بالإحرام ، حتى النساء .
ثم بعد رمي جمرة العقبة ونحر هديه وحلقه أو تقصيره يفيض إلى مكة ، فيطوف طواف الإفاضة ، ويسعى بعده بين الصفا والمروة إن كان متمتعاً أو قارناً أو مفرداً ولم يكن سعى بعد طواف القدوم ، أما إن كان القارن أو المفرد سعى بعد طواف القدوم ؛ فإنه يكفيه ذلك السعي المقدم ، فيقتصر على طواف الإفاضة .
وترتيب هذه الأمور الأربعة : رمي جمرة العقبة ، ثم نحر الهدي ، ثم الحلق أو التقصير ، ثم الطواف والسعي سنة ، ولو خالفه فقدم بعض هذه الأمور على بعض ، فلا حرج عليه ؛ لأنه ما سُئِل عن شيءٍ قُدِّم ولا أُخِّر إلا قال : (( افعل ولا حرج )) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-، ولكن ترتيبها أفضل ؛ لأن النبي رتَّبها كذلك .
وصفة الطواف بالبيت : أن يبتدئ من الحجر الأسود ، فيحاذيه ، ببدنه كله أو بعضه ، ويقول في أول شوط : "بسم الله" كما ثبت عن ابن عمر رواه البيهقي ، والله أكبر ، كما ثبت ذلك عن النبي في الصحيحين ، ويقول : ( اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ، ووفاءً بعهدك ، واتباعاً لسنة نبيك محمد ) كما ورد عن ابن عمر و ابن عباس رضي الله عنهما ، أما بقية الأشواط فيقتصر على التكبير ، ويستلمه بيده : أي يمسحه بيده اليمنى و يقبله إن أمكن ، بأن يضع شفتيه عليه ، أو يستلمه بيده ويقبل يده ، أو يستلمه بشيء ويقبله ، فإن لم يمكنه الوصول إلى الحجر لشدة الزحام ، فإنه يكتفي بالإشارة إليه بيده ولا يقبل يده بعد الإشارة ، فيشير إليه بيده اليمنى مرة واحدة ولا يزاحم لاستلام الحجر أو تقبيله ، ويجعل البيت عن يساره ، ثم يبدأ الشوط الأول ، ويشتغل بالذكر والدعاء وتلاوة القرآن ، فإذا وصل إلى الركن اليماني استلمه أي مسحه بيده اليمنى إن أمكن ، ولا يقبله ولا يشير إليه ويقول بين الركن اليماني والحجر الأسود : (( ربنا آتنا في الدنيا وفي الآخرة حسنه وقنا عذاب النار )) لثبوت ذلك في السنة ، فإذا وصل إلى الحجر الأسود فقد تم الشوط الأول ، فيستلم الحجر ، أو يشير إليه ، ويبدأ الشوط الثاني ... وهكذا حتى يكمل سبعة أشواط .
شروط صحة الطواف : ويشترط لصحة الطواف : الإسلام ، والعقل ، والنية ، وأن لا يطوف عرياناً ، وتكميل السبعة ، وجعل البيت عن يساره ، والطواف بجميع البيت بأن لا يدخل مع الحجر ، أو يطوف على جداره ، وأن يطوف ماشياً مع القدرة ، والموالاة بين الأشواط إلا لفاصلٍ يسيرٍ كما إذا أقيمت الصلاة أو حضرت جنازة ؛ فإنه يصلي ، ثم يبني على ما مضى من طوافه من مكانه ، وأن يطوف داخل المسجد ، وأن يبتدئ من الحجر الأسود ويختم به .
ثم بعد تمام الطواف يصلي ركعتين خفيفتين ، والأفضل كونهما خلف مقام إبراهيم ، ويجوز أن يصليهما في أي مكان في المسجد أو في غيره من الحرم ، وهما سنة مؤكدة ، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة : قل يا أيها الكافرون ، وفي الثانية : قل هو الله أحد .
ثم يخرج إلى الصفا يسعى بينه وبين المروة فإذا أقبل على الصفا ، قرأ قوله -تعالى- : } إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ { ]البقرة:158[ فيرقى على الصفا ، ويكبر ثلاثاً ، ويقول : (( لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، يحيي ويميت ، وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده )) ثلاث مرات ، ويدعو بين ذلك مرتين ، ثم ينـزل من الصفا متجهاً إلى المروة ، ويكون بذلك قد بدأ الشوط الأول ، ويسعى بين الميلين الأخضرين سعياً شديداً ، وفي خارج الميلين يمشي مشياً معتاداً ، حتى يصل المروة ، فيرقى عليها ، ويقول ما قاله على الصفا ، ويكون بذلك قد أنهى الشوط الأول ، فينـزل من المروة متجهاً إلى الصفا ، ويكون بذلك قد بدأ الشوط الثاني ؛ يمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه ... وهكذا حتى يكمل سبعة أشواط ؛ يبدؤها من الصفا ، ويختمها بالمروة ، ذهابه من الصفا إلى المروة سعية ورجوعه من المروة إلى الصفا سعية .
ويستحب أن يشتغل أثناء السعي بالدعاء والذكر أو تلاوة القرآن .
وليس للطواف والسعي دعاء مخصوص ، بل يدعو بما تيسر له من الأدعية .
وشروط صحة السعي : النية ، واستكمال ما بين الصفا والمروة ، وتقدم طواف نسك عليه ، والموالاة بين الأشواط إلا لفاصل يسير ، والمشي إلا لحاجة .
أحكام أيام التشريق ، وطواف الوداع
بعد طواف الإفاضة يوم العيد يرجع إلى منى ، ويبيت بها وجوباً ؛ لحديث عاصم بن عدي أن النبي (( رخَّص لرعاء الإبل في البيتوتة خارج منى )) رواه الخمسة وصححه الترمذي ، ولأن العباس استأذن النبي أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته ، متفق عليه . ولقول عمر : ( لا يبيتنَّ أحد من الحاج ليالي منى من وراء العقبة ) رواه مالكٌ بسندٍ صحيح . فيبيت بمنى ثلاث ليال إن لم يتعجَّل ، وإن تعجَّل بات ليلتين : ليلة الحادي عشر وليلة الثاني عشر ، وقدر الواجب معظم الليل . ويصلي الصلوات فيها قصراً بلا جمع ، بل كل صلاة في وقتها .
ويرمي الجمرات الثلاث كل يوم من أيام التشريق بعد الزوال ؛ لحديث جابر : (( رمى رسول الله الجمرة يوم النحر ضحى ، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس )) متفق عليه . وقال ابن عمر-رضي الله عنهما-: ( كنا نتحين ، فإذا زالت الشمس رمينا ) رواه البخاري وأبو داود ، وقوله : ( نتحين ) أي: نراقب الوقت المطلوب ، ولقوله : (( لتأخذوا عني مناسككم )) .
فالرمي في اليوم الحادي عشر وما بعده يبدأ وقته بعد الزوال ، وقبله لا يجزئ ؛ لهذه الأحاديث .
فيبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف ، فيرميها بسبع حصيات واحدة بعد واحدة ، ويقول مع كل حصاة : (( الله أكبر )) ثم يتقدم على الجمرة أمامها ، حتى يسهل فيقوم مستقبل القبلة ، ثم يرفع يديه ويدعو طويلاً بقدر سورة البقرة ، ثم يأتي إلى الجمرة الوسطى ، فيرميها كذلك ، ثم ينحدر ذات اليسار فيقف مستقبل القبلة رافعاً يديه ، فيستبطن الوادي ويستعرض الجمرة ، فيجعل البيت عن يساره ، ومنى عن يمينه فيرميها بسبع حصيات ... فإذا أكمل الرمي رجع من فوره ، ولم يقف عند جمرة العقبة ، فقيل : لضيق المكان بالجبل ، وقيل- وهو أصح -: إن دعاءه في نفس العبادة قبل الفراغ منها ، فلما رمى جمرة العقبة فرغ الرمي ، والدعاء في صلب العبادة قبل الفراغ منها أفضل منه بعد الفراغ منها ، وهذا كما كانت سنته في دعائه في الصلاة ؛ إذ كان يدعو في صلبها .
ولابد من ترتيب الجمرات على النحو التالي : يبدأ بالجمرة الأولى وهي التي تلي منى قرب مسجد الخيف ، ثم الجمرة الوسطى ، وهي التي تلي الأولى ، ثم الجمرة الكبرى ، وتسمَّى جمرة العقبة وهي الأخيرة مما يلي مكة ، يرمي كل جمرة بسبع حصيات متوالية ، ولابد أن تقع كل حصاة في الحوض سواء تيقَّن ذلك أو غلب على ظنه ، سواءً استقرت فيه أو سقطت منه بعد ذلك فإن لم تقع في الحوض لم تجزئِ .
مسألة : ويجوز للمريض وكبير السن والمرأة الحامل أو التي يخاف عليها من شدة الزحمة في الطريق أو عند الرمي ، ونحوهم من أهل الأعذار أن يوكلوا من يرمي عنهم .
ويرمي النائب كل جمرة عن مستنيبه في مكان واحد ، ولا يلزمه أن يستكمل رمي الجمرات عن نفسه ، ثم يبدأ برميها عن مستنيبه ؛ لما في ذلك من المشقة والحرج في أيام الزحام .
مسألة : ثم بعد رمي الجمرات الثلاث في اليوم الثاني عشر ؛ إن شاء تعجل وخرج من منى قبل غروب الشمس ، وإن شاء تأخَّر وبات ورمى الجمرات الثلاث بعد الزوال في اليوم الثالث عشر ، وهو أفضل ؛ لقوله تعالى : فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة: 203].
وإن غربت عليه الشمس قبل أن يرتحل من منى لزمه التأخر والمبيت والرمي في اليوم الثالث عشر ؛ لأن الله -تعالى- يقول : فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ .. واليوم اسم للنهار ، فمن أدركه الليل فما تعجل في يومين لكن إن شرع في الخروج أو الرمي ثم غربت الشمس فله أن يتعجل .
المرأة الحائض : والمرأة إذا حاضت أو نفست قبل الإحرام ثم أحرمت ، أو أحرمت وهي طاهرة ثم أصابها الحيض أو النفاس وهي محرمة ، فإنها تبقى في إحرامها ، وتعمل ما يعمله الحاج من الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة ورمي الجمار والمبيت بمنى ؛ إلا أنها لا تطوف بالبيت ولا تسعى بين الصفا والمروة حتى تطهر من حيضها أو نفاسها .
لكن لو قدر أنها طافت وهي طاهرة ثم نزل عليها الحيض بعد الطواف ، فإنها تسعى بين الصفا والمروة ، ولا يمنعها الحيض من ذلك ؛ لأن السعي لا يشترط له الطهارة .
طواف الوداع : فإذا أراد الحاج السفر من مكة والرجوع إلى بلده أو غيره لم يخرج حتى يطوف للوداع بالبيت سبعة أشواط إذا فرغ من كل أموره ولم يبق إلا الركوب للسفر ؛ ليكون آخر عهده بالبيت ، إلا المرأة الحائض فإنها لا وداع عليها ، فتسافر بدون وداع ؛ كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : (( أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ، إلا أنه خُفِّف عن المرأة الحائض )) متفق عليه ، وفي رواية عنه قال : كان الناس ينصرفون من كل وجه ، فقال النبي : (( لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت )) رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه . وعن ابن عباس : (( أن النبي رخص للحائض أن تصدر قبل أن تطوف بالبيت إذا كانت قد طافت للإفاضة )) رواه أحمد . وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت : حاضت صفية بنت حيي-رضي الله عنها- بعدما أفاضت ، قالت : فذكرت ذلك لرسول الله فقال : (( أحابستنا هي؟ )) قلت : يا رسول الله ! إنها قد أفاضـت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة ، قال : (( فلتنفر إذاً )) متفق عليه .
فإن طال بقاؤه بعد طواف الوداع أعاد إلا إذا كان لانتظار رفقة ، أو لإصلاح مركوبه وشد رحله ، أو لأمور يسيرة كغداء ، أو شراء حاجة ، ونحو ذلك .
أحكام الأضحية والهدي، والعقيقة
أولاً : الأضحية :
تعريفها : هي ما يذبح من بهيمة الأنعام أيام الأضحى بسبب العيد تقرباً إلى الله -تعالى-.
حكمها : سنة مؤكدة ، قال الله -تعالى-: } فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ {[الكوثر:2]، وقال -تعالى-: } وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ { [الحج: 34]، ولحديث أنس أن النبي (( كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين )) رواه البخاري ، وأجمع المسلمون على مشروعيتها ولا تجب ؛ لأن الصحابة تركوا التضحية مع القدرة خشية أن يعتقد وجوبها كأبي بكر ، وعمر ، وابن مسعود وغيرهم ، وذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها ، والأصل أنها عن الحي ، فيضحي الحي ويشرك الميت تبعاً إلا إن كان الميت قد أوصى .
شروطها : يشترط لصحة الأضحية ما يلي :
1. أن تكون من بهيمة الأنعام ، وهي الإبل والبقر والغنم .
2. أن تبلغ السن المعتبر شرعاً ، وهو خمس في الإبل ، وسنتان في البقر ، وسنة في المعز ، وستة أشهر في الضأن .
3. خلوها من العيوب المانعة من الإجزاء ، وتأتي .
مسألة : تجزئ الشاة الواحدة وكذا سبع البدنة ، وسبع البقرة عن أهل البيت ؛ لما روى أبو أيوب : ((كان الرجل في عهد رسول الله يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته ، فيأكلون ويطعمون )) رواه الترمذي وصححه ، وابن ماجه .
مسألة : الأفضل الإبل ، ثم البقر ، ثم الغنم إذا كاملاً ، والأفضل من كل جنس الأكثر قيمة .
مسألة : الاشتراك في الأضحية على قسمين :
الأول : الاشتراك في الثواب ، بأن يكون مالك الأضحية واحداً ، ويشترك معه غيره من المسلمين في ثوابها فجائز .
الثاني : الاشتراك في الملك ، بأن يشترك بيتان فأكثر في ملك أضحية ويضحيا بها ، فلا يجوز .
العيوب المانعة من الإجزاء :
1. العوراء البيِّن عورها ، وهي : التي انخسفت عينها أو برزت ، وكذلك العمياء ، أما إذا كانت قائمة العين ولا تبصر بها ، أو عليها بياض فتجزئ .
2. العجفاء ، وهي : التي ذهب مخُّ عظمها .
3. العرجاء البيِّن عرجها ، وهي : التي لا تطيق مشيًا مع الصحيحة ، وكذا مقطوعة أو مكسورة اليد أو الرجل ، فإن كان عرجها يسيراً لا يمنعها من معانقة السليمة أجزأت .
4. المريضة البيِّن مرضها ، وهي : التي ظهر عليها آثار المرض كالحمى الذي يقعدها عن الرعي ، وكالجرب الظاهر المفسد للحمها ، وما أصابها سبب الموت ، كالمنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع ، وما أخذتها الولادة .
لما روى البراء بن عازب قال: قام فينا رسول الله فقال : (( أربع لا تجوز في الأضاحي : العوراء البيِّن عورها ، والمريضة البيِّن مرضها ، والعرجاء البيِّن ضلعها ، والعجفاء التي لا تنقي )) رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وصححه الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان .
5. البتراء من الضأن ، وهي : التي قطعت أليتها أو أكثرها فلا تجزئ .
العيوب المكروهة :
1. ما قطع قرنها أو أذنها ، أو شيء منهما ، أو في أذنها شق أو خرق .
2. ما قطع ذنبه من الإبل أو البقر .
3. ما سقط شيء من أسنانه .
4. ما نشف ضرعه .
وقت ذبح الأضحية : من بعد أسبق صلاة عيد الأضحى ؛ لما روى البراء بن عازب أن النبي قال : (( إن أول ما نبدأ به يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر من فعل فقد أصاب سنتنا ، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله )) متفق عليه .
وإن لم يكن في البلد صلاة فبعد قدر زمن صلاة العيد .
ويمتد وقت الذبح إلى ثلاثة أيام بعد يوم العيد ؛ لما روى نبيشة الهذلي أن النبي قال : (( أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله - عز وجل- )) رواه مسلم .
فإن فات وقت الذبح فإن كان التأخير لعذر كنسيان ونحوه ذبح الأضحية الواجبة كالمنذورة ، والمعينة ، والموصى بها ، وسقط التطوع .
مسألة : تتعين الأضحية بالقول ، كقوله : هذه أضحية ، أو لله ونحو ذلك . وكذا بذبحها بنية الأضحية .
ويترتب على تعيين الأضحية مسائل :
1. أنه لا يجوز بيعها ولا هبتها إلا أن يبدلها بخير منها ، ولا يبيع جلدها لكن ينتفع به .
2. أنه لا يحز صوفها إلا إن كان أنفع لها ، ولا يشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها .
3. إذا تعيبت عيباً يمنع الإجزاء ، أو سرقت ، أو ضاعت فإن كان بفعل منه أو تفريط فيلزمه إبدالها بمثلها ، وإن كان بغير تعدٍ ولا تفريطٍ فيذبحها إذا تعيبت مطلقًا إلا أن تكون منذورة قبل أن يعينها فيجب إبدالها بسليمة .
مسألة : يسن أن يأكل ثلث الأضحية ، ويهدي ثلثها ، ويتصدق بثلثها ، فإن أكلها كلها قال العلماء يجوز ، ويجب عليه أن يتصدق بما يقع عليه اسم اللحم ؛ لقوله -تعالى-: وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ]الحج:36[.
مسألة : يحرم على المضحي خاصة أن يأخذ شيئًا من شعره أو ظفره أو جلده من دخول عشر ذي الحجة بغروب شمس آخر يوم من ذي القعدة إلى أن يذبح أول أضحية له ؛ لما روت أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي قال : (( إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئًا حتى يضحي )) رواه مسلم ، وفي لفظ لمسلم : (( فلا يمس من شعره وبشره شيئاً )) .
ثانياً : الهدي :
تعريفه : هو ما يهدى إلى الحرم من بهيمة الأنعام .
ومنه ما هو واجب كهدي المتعة والقران كما تقدم في أحكام الحج ، ومنه ما هو تطوع في الحج والعمرة وغير ذلك ، والنبي أهدى مائة بدنة ، متفق عليه .
مسألة : والهدي يتفق مع الأضحية في كثير من الأحكام كشروط الإجراء ، وأحكام العيوب ونحو ذلك .
مسألة : ويتعين الهدي بما تتعين به الأضحية ، وكذلك يتعين بالإشعار والتقليد .
إشعار الهدي وتقليده :
يسن إشعار الهدي وتقليده ، والإشعار : أن يشق صفحة السنام اليمنى ، أو يشق محله مما لا سنام له من إبل وبقر حتى يسيل الدم .
والتقليد : هو أن تقلد بهيمة الأنعام نعلاً أو خيوطاً ونحو ذلك .
والإشعار خاص بالإبل والبقر . وأما التقليد فشامل لكل بهيمة الأنعام .
مسألة : يستحب سوق الهدي من الحل إلى الحرم ، فالنبي ساق هديه من ذي الحليفة ، وابن عمر -رضي الله عنهما- ساق هديه من قديد بين مكة والمدينة .
ثالثاً : العقيقة :
وهي ما يذبح من الغنم شكراً لله -تعالى- على نعمة الولد .
روى سمرة أن النبي قال : (( كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى فيه )) رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن ماجه .
والحكمة منها كما قال ابن القيم-رحمه الله-: " وقد جعل الله -سبحانه- النسيكة عن الولد سببًا لفك رهانه من الشيطان الذي يعلق به من حين خروجه إلى الدنيا فكانت العقيقة فداءً وتخليصًا له من حبس الشيطان له وسجنه في أسره، ومنعه له من سعيه في مصالح آخرته " .
مسألة : ويشترط في العقيقة ما يشترط في الأضحية .
وقتها : السنة أن تذبح في اليوم السابع من ولادة الطفل بحيث يحسب يوم الولادة ؛ لما تقدم من حديث سمرة ، فإن فات اليوم السابع ذبحت في أي يوم لوجود سببها وهو شكر الله على نعمة الولد .
قدرها : السنة أن يذبح عن الغلام شاتان ، وعن الجارية شاة ؛ لحديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنه- مرفوعاً : (( عن الغلام شاتان ، وعن الجارية شاة )) رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي .
ولا يجزئ التشريك في العقيقة .
مسألة : يستحب تحسين الاسم بأن يكون عربيًا حسن المعنى ، ويستحب التسمي باسم عبد الله وعبد الرحمن ، ثم ما كان معبدًا لأي اسم من أسماء الله الحسنى ، ثم التسمي بأسماء الأنبياء والرسل والصالحين ؛ لأثر الاسم على المسمى .
ويستحب أن تكون التسمية يوم السابع إلا إن هيَّأَ له اسم سماه يوم ولادته .
مسألة : يستحب حلق شعر رأس الذكر في اليوم السابع ويتصدق بوزنه فضة .
انتهى وصلى الله وسلم على نبينا محمد.